الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب10%

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب مؤلف:
الناشر: انتشارات دارالتفسير
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 564

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب
  • البداية
  • السابق
  • 564 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 91089 / تحميل: 7609
الحجم الحجم الحجم
الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب

مؤلف:
الناشر: انتشارات دارالتفسير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

  

المطلب التاسع :

في بعض ما كان منهم مع علي والزهراءعليهما‌السلام

أي في ذكر بعض الضغائن التي بدت ، والقضايا التي وقعت ،  ومن الطبيعي أنْ لا يصلنا كلّ ما وقع ، وأنْ لا تصلنا تفاصيل  الحوادث ، مع الحصار الشديد المضروب علىٰ الروايات  والأحاديث ، ومع ملاحقة المحدثين والرواة ، ومع منعهم من نقل  الأحاديث المهمة ، وحتى مع حرق تلك الكتب التي اشتملت على مثل هذه القضايا أو تمزيقها وإعدامها بأيّ شكل من الأشكال.

فإذن ، من بعد هذه القرون المتطاولة ، ومن بعد هذه الحواجز  والموانع ، لا نتوقّع أنْ يصل إلينا كلّ ما وقع ، وإنّما يمكننا العثور علىقليل من ذلك القليل الذي رواه بعض المحدّثين وبعض  المؤرخين.

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخبر أهل بيته بأنّ الأُمّة ستغدر بهم ، وأنّهم

٤١

سيظهرون ضغائنهم من بعده ، وسينتقمون منه أي : سينتقمون من  النبي بانتقامهم من بضعته ، لأنّها بضعته ، والإنتقام من الزهراء انتقام  من النبي ، وإنّما أبقاها هذه البضعة في هذه الأُمّة ليختبر الأُمّة ،  وليظهروا ما في ضمائرهم.

ولم تطل المدة ، فقد وقع الإختبار ، وكانت المدة على الأشهر  أشهُر ، ثمّ عادت البضعة إلىٰ رسول الله واتّصلت اللحمة ببدنه  المبارك وجسده الشريف ، وكلّ ذلك وقع.

ولكنّنا لا نتوقّع أنْ نعثر على كلّ تفاصيل تلك القضايا ، وحتّى  لو عثرنا علىٰ الخمسين بالمائة من القضايا يمكننا فهم الخمسين  البقيّة.

لقد رأيتم كيف يحرّفون الروايات ، حتّى تلك الكلمة القاسية  التي يقولها أبو سفيان في حقّ النبي رأيتم كيف يرفعون اسم أبي  سفيان ويضعون مكان الإسم كلمة قال رجل ، فكيف تتوقّعون أنْ  يروي لنا الرواة كلّ ما حدث بعد رسول الله ، أو يتمكّن الرواة من  نقل كلّ ما حدث ؟

وبالرغم من ذلك الحصار الشديد ، ومن ذلك المنع الأكيد ،  ومن ذلك الإرعاب والتهديد ، مع ذلك ، تبلغنا أطرافٌ من أخبار ما  وقع.

٤٢

ونحن لا ننقل في بحثنا هذا إلاّ من أهم مصادر أهل السنّة ، ولا  نتعرّض لِما ورد في كتبنا أبداً ، وحتّى أنّا ننقلـقدر الإمكانـعن  أسبق المصادر وأقدمها ، فلا ننقل في الأكثر والأغلب عن الكتب المؤلَّفة في القرون المتأخّرة.

فهنا مسائل :

٤٣
٤٤

   

المسألة الاُولىٰ

مصادرة ملك الزهراءعليها‌السلام وتكذيبها

وإنّنا نعتقد بأنّ تكذيب الزهراءعليها‌السلام من أعظم المصائب ، ينقل  عن بعض كبار فقهائنا أنّ أحد الخطباء في أيام مصيبة الحسينعليه‌السلام قرأ جملة : « دخلت زينب على ابن زياد » وأراد أن يشرح ذلك  الموقف ، فأشار إليه الفقيه الكبير الحاضر في المجلس بالصبر  وبالتوقف عن قراءة بقية الرواية ، قال : لأنّا نريد أن نؤدّي حقّ هذه  الجملة : « دخلت زينب على ابن زياد » وهذه مصيبة ، وما  أعظمها !! دخلت زينب علىٰ ابن زياد !!

مجرّد تكذيب الزهراء سلام الله عليها وعدم قبول قولها مصيبة  ما أعظمها ، ليست القضية قضية فدك ، ليست المسألة مسألة أرض  وملك ، إنّما القضية ظلم الزهراء سلام الله عليها وتضييع حقّها ،  وعدم إكرامها ، وإيذائها وإغضابها وتكذيبها ، ولاحظوا خلاصة

٤٥

القضية أنقلها كما في المصادر المهمة المعتبرة :

أوّلاً : لقد كانت فدك ملكاً للزهراء في حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،  وأنّ رسول الله أعطىٰ فاطمة فدكاً ، فكانت فدك عطية من رسول الله  لفاطمة.

وهذا الأمر موجود في كتب الفريقين.

أمّا من أهل السنة : فقد أخرج البزّار وأبو يعلىٰ وابن أبي حاتم  وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال : لمّا نزلت الآية( وَآتِ ذَا  الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ ) دعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فاطمة فأعطاها فدكاً.

وهذا الحديث أيضاً مروي عن ابن عباس.

تجدون هذا الحديث عن هؤلاء الكبار وأعاظم المحدّثين في  الدر المنثور(1) .

ومن رواته أيضاً : الحاكم ، والطبراني ، وابن النجار ، والهيثمي ،  والذهبي ، والسيوطي ، والمتقي وغيرهم.

ومن رواته : ابن أبي حاتم ، حيث يروي هذا الخبر في تفسيره ،  ذلك التفسير الذي نصّ ابن تيميّة في منهاج السنة علىٰ أنّه خال من  الموضوعات(2) ، تفسير ابن أبي حاتم في نظر ابن تيميّة خال من

__________________

(1) الدر المنثور في التفسير بالمأثور 4 / 177.

(2) منهاج السنّة 7 / 13.

٤٦

الموضوعات ، فهؤلاء عدّة من رواة هذا الخبر.

وقد أقرّ بكون فدك ملكاً للزهراء في حياة رسول الله ، وأنّ  فدكاً كانت عطيةً منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للزهراء البتول ، غير واحد من أعلام  العلماء ، ونصّوا علىهذا المطلب ، منهم : سعد الدين التفتازاني ،  ومنهم ابن حجر المكي في الصواعق ، يقول صاحب الصواعق : إنّ  أبا بكر انتزع من فاطمة فدكاً(1) .

فكانت فدك بيد الزهراء وانتزعها أبو بكر.

فلماذا انتزعها ؟ وبأيّ وجه ؟ لنفرض أنّ أبا بكر كان جاهلاً  بأنّ الرسول أعطاها وملّكها ووهبها فدكاً ، فهلاّ كان عليه أن يسألها  قبل الانتزاع منها ؟

وثانياً : لو كان أبو بكر جاهلاً بكون فدك ملكاً لها ، فهل كان  يجوز له أنْ يطالبها بالبيّنة علىٰ كونها مالكة لفدك ؟ إنّ هذا خلاف  القاعدة ، وعلى فرض أنّه كان له الحق في أنْ يطالبها البيّنة على  كونها مالكة لفدك ، فقد شهد أمير المؤمنين سلام الله عليه ، ولماذا لم  تقبل شهادة أمير المؤمنين ؟ قالوا : كان من اجتهاده عدم كفاية  الشاهد الواحد وإنْ علم صدقه !

لاحظوا كتبهم ، فهم عندما يريدون أن يدافعوا عن أبي بكر

__________________

(1) الصواعق المحرقة : 31.

٤٧

يقولون : لعلّه كان من اجتهاده عدم قبول الشاهد الواحد وإن كان  يعلم بصدق هذا الشاهد(1) .

نقول : لكنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل شهادة الواحدـوهو خزيمة  ذو الشهادتينـوخبره موجود في كتب الفريقين ، بل إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قضىٰ بشاهد واحد فقط في قضية وكان الشاهد الواحد عبدالله بن عمر ،  وهذا الخبر موجود في صحيح البخاري وإنّه في جامع الاصول  لابن الأثير : قضىٰ بشهادة واحد وهو عبدالله بن عمر(2) .

أكان علي في نظر أبي بكر أقل من عبدالله بن عمر في نظر  النبي ؟

وثالثاً : لو سلّمنا حصول الشك لأبي بكر ، وفرضنا أنّ أبا بكر  كان في شك من شهادة علي ، فهلاّ طلب من فاطمة أن تحلف ؟ فهلاّ  طلب منها اليمين فتكون شهادة مع يمين ؟ وقد قضىٰ رسول  اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشاهدٍ ويمين.

راجعوا صحيح مسلم في كتاب الأقضية(3) ، وراجعوا صحيح  أبي داود(4) بل القضاء بشاهد ويمينٍ هو الذي نزل به جبريل على

__________________

(1) شرح المواقف 8 / 356.

(2) جامع الأصول 10/557.

(3) صحيح مسلم 5 / 128.

(4) صحيح أبي داود 3/419.

٤٨

النبي ، كما في كتاب الخلافة من كنز العمّال.

وهنا يقول صاحب المواقف وشارحها : لعلّه لم ير الحكم  بشاهد ويمين(1) .

نقول : فكان عليه حينئذ أنْ يحلف هو ، ولماذا لم يحلف  والزهراء ما زالت مطالبة بملكها ؟

وهذا كلّه بغضّ النظر عن عصمة الزهراء ، بغضّ النظر عن  عصمة عليعليه‌السلام ، لو أردنا أن ننظر إلى القضيّة كقضيّة حقوقيّة يجب  أن تطبق عليها القواعد المقررة في كتاب الأقضية.

وأيضاً ، فقد شهد للزهراء ولداها الحسن والحسين ، وشهد  للزهراء أيضاً أُم أيمن ، ورسول الله يشهد بأنّها من أهل الجنّة ، كما  في ترجمتها من كتاب الطبقات لابن سعد وفي الإصابة لابن  حجر(2) .

ثمّ نقول : سلّمنا ، إنّ فاطمة وأهل البيت غير معصومين ،  وسلّمنا أنّ فدكاً لم تكن بيد الزهراء سلام الله عليها في حياة النبي ،  فلا ريب أنّ الزهراء من جملة الصحابة الكرام ، أليس كذلك ؟!  تنزّلنا عن كونها بضعة رسول الله ، تنزّلنا عن كونها معصومة ، لا

__________________

(1) شرح المواقف 8 / 356.

(2) الإصابة في معرفة الصحابة 4 / 432.

٤٩

إشكال في أنّها من الصحابة ، وقد كان لأحد الصحابة قضية مشابهة  تماماً لقضيّة الزهراء ، وقد رتّب أبو بكر الأثر على قول ذلك  الصحابي وصدّقه في دعواه.

هذا كلّه بعد التنزّل عن عصمتها ، عن شهادة علي والحسنين  وأُم أيمن ، وبعد التنزّل عن كون فدك ملكاً لها في حياة النبي.

استمعوا إلى القضية أنقلها لكم ، ثمّ لاحظوا تبريرات كبار  العلماء لتلك القضية :

أخرج الشيخان عن جابر بن عبدالله الأنصاري : إنّه لمّا جاء أبا  بكر مال البحرين ، وعنده جابر ، قال جابر لأبي بكر : إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لي : إذا أتى مال البحرين حثوت لك ثمّ حثوت لك ثمّ حثوت  لك ، فقال أبو بكر لجابر : تقدّم فخذ بعددها.

فنقول : رسول الله ليس في هذا العالم ، يدّعي جابر أنّ رسول  الله قد وعده لو أتى مال البحرين لأعطيتك من ذلك المال كذا وكذا ،  وتوفي رسول الله وجاء مال البحرين بعد رسول الله ، وأبو بكر  خليفة رسول الله ، عندما وصل هذا المال أتاه جابر فقال له : إنّ  رسول الله قال لي كذا ، ورتّب أبو بكر الأثر على قوله وصدّقه  وأعطاه من ذلك المال كما أراد.

هذه هي القضية ، وتأمّلوا فيها ، وهي موجودة في الصحيحين.

٥٠

فلاحظوا ما يقوله شرّاح البخاري ، كيف يجوز لأبي بكر أنْ  يصدّق كلام صحابي ودعواه على رسول الله ، وقد رحل رسول الله  عن هذا العالم ، ثمّ أعطاه من مال المسلمين ، من بيت المال ، بقدر ما  ادّعاه ، ولم يطلب منه بيّنة ، ولا يميناً !! لاحظوا ماذا يقولون !!

يقول الكرماني في كتابه الكواكب الدراري في شرح صحيح  البخاري وهو من أشهر شروح البخاري يقول : وأمّا تصديق أبي  بكر جابراً في دعواه ، فلقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : « من كذب عَلَيّ متعمداً فليتبوّأ  مقعده من النار » ، فهو وعيد ، ولا يُظنّ بأنّ مثلهـمثل جابرـيقدم على هذا(1) .

فإذا كنتم لا تظنّون بجابر أنْ يقدم على هذا الشيء ، ويكذب علىٰ رسول الله ، بل بالعكس ، تظنّون كونه صادقاً في دعواه ، فهلاّ  ظننتم هذا الظن بحقّ الزهراءـبعد التنزّل عن كلّ ما هنالك كما  كرّرناـ وقد فرضناها مجرّد صحابيّة كسائر الصحابة !

ثمّ لاحظوا قول ابن حجر العسقلاني في فتح الباري يقول :  وفي هذا الحديث دليل علىٰ قبول خبر الواحد العدل من الصحابة  ولو [ لو هذه وصلية ] جرّ ذلك نفعاً لنفسه(2) .

__________________

(1) الكواكب الدراري في شرح البخاري 10 / 125.

(2) فتح الباري في شرح البخاري 4 / 375.

٥١

فالحديث يدلّ على قبول خبره ، لأن أبا بكر لم يلتمس من  جابر شاهداً على صحة دعواه ، وهلاّ فعل هكذا مع الزهراء التي  أخبرت بأنّ رسول الله نحلني فدكاً ، أعطاني فدكاً ، ملّكني فدكاً !!

ويقول العيني في كتاب عمدة القاري في شرح صحيح  البخاري قلت : إنّما لم يلتمس شاهداً منهـأي من جابرـلأنّه عدل  بالكتاب والسنّة ، أمّا الكتاب فقوله تعالى :( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ  لِلنَّاسِ ) وقوله تعالى :( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ) ، فمثل جابر  إنْ لم يكن من خير أُمّة فمن يكون ؟ وأمّا السنّة فلقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : « من  كذب عَلَيّ متعمداً ...

لاحظوا بقية كلامه يقول : ولا يظن بمسلم فضلاً عن صحابي  أنْ يكذب علىٰ رسول الله متعمّداً(1) .

فكيف نظن بجابر هكذا ؟ فكان يجوز لأبي بكر أنْ يصدّق  جابراً في دعواه ، فلِمَ لم يصدق الزهراء في دعواها ؟ وهل كانت  أقل من جابر ؟ ألم تكن من خير أُمّة أُخرجت للناس ؟ أيظن بها أن  تتعمّد الكذب على رسول الله ؟ وأنت تقول : لا يظن بمسلم فضلاً  عن صحابي أنْ يكذب متعمّداً علىٰ رسول الله ؟

أقول : ما الفرق بين قضية جابر وقضية الصدّيقة الطاهرة سلام

__________________

(1) عمدة القاري في شرح البخاري 12 / 121.

٥٢

الله عليها ، بعد التنزّل عن كلّ ما هنالك ، وفرضها واحداً أو واحدة  من الصحابة فقط ؟ ما الفرق ؟ لماذا يعطىٰ جابر ؟ ولماذا يكون الخبر  الواحد هناك حجة ؟ ولماذا لا يكذَّب جابر بل يصدّق ويترتّب الأثر على قوله بلا بيّنة ولا يمين ولا ولا ؟ ولماذا ؟ ولماذا ؟ ولماذا ؟

إذن ، هناك شيء آخر ...

إذن ، من وراء القضيّة ـ قضيّة الزهراء ـ شيء آخر ...

فرجعت فاطمة خائبة إلىبيتها ...

ثمّ جاءت مرّةً أُخرىٰ لتطالب بفدك وغير فدك من باب الإرث  من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّفدكاً أرض لم يوجف عليها بخيل ولا  ركاب بالإجماع ، وكلّ ما يكون كذا فهو ملك لرسول الله بالإجماع ،  وكلّ ما يتركه المسلم من ملك أو من حق فإنّه لوارثه من بعده  بالاجماع ، والزهراء أقرب الناس إلىرسول الله في الإرث  بالإجماع.

هذه مقدمات أربع ، وكلّها مترتبة متسلسلة.

أخرج البخاري ومسلم عن عائشةـواللفظ للأوّلـإنّ  فاطمةعليها‌السلام بنت النبي أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول  اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ممّا أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي عن خمس خيبر ،  فقال أبو بكر : إنّ رسول الله قال : « لا نورّث ما تركنا صدقة » ، إنّما

٥٣

يأكل آل محمّد في هذا المال ، وإنّي والله لا أُغيّر شيئاً من صدقة  رسول الله عن حالها التي كان عليها في عهد رسول الله ، ولأعملنّ  فيها بما عمل به رسول الله. فأبىٰ أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها  شيئاً ، فوجدت فاطمة على أبي بكر فهجرته ، فلم تكلّمه حتّىٰ توفّيت ، وعاشت بعد النبي ستّة أشهر ، فلمّا توفّيت دفنها زوجها  علي ليلاً ولم يؤذن بها أبا بكر ، وصلّىٰ عليها ، وكان لعلي من الناس  وجه حياة فاطمة(1) .

وقضية مطالبة الزهراء بفدك وغير فدك من باب الإرث قضية  كتبت فيها الكتب الكثيرة منذ قديم الأيّام ، وخطبتها سلام الله عليها  في هذه القضية خطبة خالدة تذكر على مدىٰ الأيّام ، وهنا أيضاً  نسأل ونتسائل فنقول :

كيف يكون إخبار أبي سعيد وابن عباس وشهادة علي  والحسنين وغيرهم في أن رسول الله أعطىٰ فدكاً للزهراء ، هذه  الإخبارات والشهادات كلها غير مقبولة ، ويكون خبر أبي بكر  وحده في أنّ الأنبياء لا يورّثون مقبولاً ؟ لاحظوا آراء العلماء في  هذه القضيّة ، فلقد اختلفت آراؤهم واضطربت كلماتهم اضطراباً  فاحشاً ، وكان أوجه حلّ للقضيّة أنْ يقال بأنّ الخبر متواتر ، ولم

__________________

(1) صحيح البخاري باب غزوة خيبر ، صحيح مسلم كتاب الجهاد والسير.

٥٤

يكن أبو بكر لوحده الراوي لهذا الخبر ، وإنّما أبو بكر أحد الرواة من  الصحابة ، وهنا نقاط :

النقطة الاُولى ٰ: كيف لم يسمع هذا الحديث أحد من رسول الله ؟  ولم ينقله أحد ؟ وحتّى أبو بكر لم يُسمع منه هذا الخبر والإخبار به  عن رسول الله إلىٰ تلك الساعة ؟

النقطة الثانية : كيف لم يسمع أهل بيته هذا الحديث ؟ وحتّى  ورثته لم يسمعوا هذا الحديث ؟ ولذا أرسلت زوجاته عثمان إلى  أبي بكر يطالبن بسهمهنّ من الإرث ! هلاّ قال لهنّ عثمانـفي الأقل  ـإنّ رسول الله قال كذا ؟ ولماذا مشىٰ إلى أبي بكر وبلّغه طلب  الزوجات ؟

وهنا كلمة لطيفة للفخر الرازي سجّلتها ، هذه الكلمة في  تفسيره يقول : إنّ المحتاج إلى معرفة هذه المسألة ما كان إلاّ فاطمة  وعلي والعباس ، وهؤلاء كانوا من أكابر الزهاد والعلماء وأهل  الدين ، وأمّا أبو بكر فإنّه ما كان محتاجاً إلى معرفة هذه المسألة ، لأنّه ما كان ممّن يخطر بباله أنّه يورّث من الرسول ، فكيف يليق  بالرسول أن يبلّغ هذه المسألة إلى من لا حاجة له إليها ، ولا يبلّغها إلى من له إلى معرفتها أشدّ الحاجة ؟(1) .

__________________

(1) التفسير الكبير 9 / 210.

٥٥

النقطة الثالثة : إنّه لو تنزّلنا عن كلّ ذلك ، فإنّ دعوى تواتر  الخبر كاذبة ، لأنّهم ينصّون على انفراد أبي بكر بهذا الخبر ، وقد  ذكروا ذلك في مباحث حجّية خبر الواحد ، ومثّلوا بهذا الخبر من  جملة ما مثّلوا ، وإن كنتم في شكٍ من ذلك فارجعوا إلى : مختصر  ابن الحاجب(1) ، والمحصول في علم الأصول(2) للفخر الرازي ،  والمستصفىٰ في علم الأصول(3) للغزّالي ، والإحكام في أصول  الأحكام(4) للآمدي ، وكشف الأسرار في شرح اصول البزدوي(5) للبخاري ، وغير هذه الكتب.

مضافاً إلىهذا ، هناك في الأحاديث أيضاً شواهد على انفراد  أبي بكر بهذا الحديث ، فراجعوا مثلاً : كتاب كنز العمال(6) .

وحتّى المتكلّمون أيضاً يقرّون بانفراد أبي بكر بهذا الحديث ،  فراجعوا : شرح المواقف ،(7) وشرح المقاصد(8) ، بل أقول في :

__________________

(1) المختصر في علم الأصول 2 / 59 بشرح العضد.

(2) المحصول في علم الأصول 2 / 85.

(3) المستصفى في علم الأصول 2 / 121.

(4)الإحكام في أصول الأحكام 2 / 75 و 348.

(5) كشف الأسرار 2 / 688.

(6) كنز العمال 12 / 605 ح 14071.

(7) شرح المواقف 8 / 355.

(8) شرح المقاصد 5 / 278.

٥٦

النقطة الرابعة : إنّ أبا بكر أيضاً ليس من رواة هذا الحديث ، لا  أنّه منفرد به ، بل إنّ هذا الحديث موضوع ، وضعه بعض الناس دفاعاً  عن أبي بكر ، وأبو بكر في تلك القضيّة لم يكن عنده جواب ، حتّى  بهذا الحديث لم يستدل ، وهذا ما يقوله الحافظ عبدالرحمن بن  يوسف ابن خراش ، إنّه يقول : هذا الحديث باطل ، وضعه مالك بن  أوس بن الحدثان ».

وهو الراوي للقصّة ، فلقد ذكر الحافظ ابن عدي بترجمة  الحافظ ابن خراش المتوفىٰ سنة 283 ه‍ الذي ألّف جزئين في  مثالب الشيخين قال : سمعت عبدان يقول : قلت لابن خراش :  حديث ما تركنا صدقة ؟ قال : باطل ، أتّهم مالك بن أوس بالكذب(3) .

فكيف يريدون رفع اليد عن محكمات القرآن الحكيم بخبر  موضوع يحكم ببطلانه هذا الحافظ الكبير ، الذي لأجل هذا الحكم  بالنسبة إلى هذا الحديث ، ولأجل تأليفه جزئين في مثالب  الشيخين ، رموه بالرفض ، ومع ذلك كلّ كتبهم مملوءة بأقواله  وآرائه في الحديث والرجال.

لاحظوا كيف يتهجّم عليه الذهبي يقول : هذا والله الشيخ المعثّر  الذي ضلّ سعيه ، فإنّه كان حافظ زمانه ، وله الرحلة الواسعة

__________________

(1) الكامل في الضعفاء 5 / 518.

٥٧

والإطلاع الكثير والإحاطة ، وبعد هذا فما انتفع بعلمه [ وكأنّ  الإنتفاع بالعلم يكون فيما إذا كان ما يقوله في صالح القوم !! ] فلا  عتب على حمير الرافضة وحوافر جزّين ومشغرىٰ »(1) .

هذه بلاد في جبل عامل في جنوب لبنان من المناطق الشيعية  البحتة ، فلا عتب على حمير الرفضة أو الرافضة وحوافر جزّين  ومشغرىٰ !!

فظهر أن هذه القضيةـقضية غصب فدك وتكذيب الزهراء  وأهل البيتـمن جملة القضايا التي أخبر عنها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،  وإنّ الفؤاد ليقطر دماً عندما يكتب الإنسان الحرّ الأبي مثل هذه  القضايا أو يقرؤها أو يرويها ، ولكن أُريد أنْ اُسيطر على أعصابي ،  وأقرأ لكم القضايا بقدر ما توصّلت إليه ، لتكونوا على بصيرةٍ أو  لتزدادوا بصيرة.

    

__________________

(1) تذكرة الحفّاظ 2 / 684 ، وانظر : سير أعلام النبلاء 13 / 509 ، ميزان الاعتدال  2/600.

٥٨

  

المسألة الثانية

إحراق بيتهاعليها‌السلام

وقد ذكرنا أنّ القوم قد منعوا من نقل القضايا والحوادث ،  وجزئيّات الأمور ، وتفاصيل الوقائع ، أتتوقّعون أن ينقل لكم  البخاري أنّ فلاناً وفلاناً وفلاناً أحرقوا دار الزهراء بأيديهما ؟! بهذا  اللفظ تريدون ؟! لقد وجدتم البخاري ومسلماً وغيرهما يحرّفون  الأحاديث التي ليس لها من الحسّاسيّة والأهميّة ولا عشر معشار ما  لهذه المسألة.

إنّ إحراق بيت الزهراء من الأُمور المسلّمة القطعيّة في  أحاديثنا وكتبنا ، وعليه إجماع علمائنا ورواتنا ومؤلّفينا ، ومن أنكر  هذا أو شكّ فيه أو شكّك فيه فسيخرج عن دائرة علمائنا ، وسيخرج  عن دائرة أبناء طائفتنا كائناً من كان.

أمّا في كتب أهل السنّة ، فقد جاءت القضيّة على أشكال ، وأنا

٥٩

قد رتّبت القضايا والروايات والاخبار في المسألة ترتيباً ، حتّىٰ لا  يضيع عليكم الأمر ولا يختلط ، وحتّىٰ تكونوا على يقظة ممّا  يفعلون في نقل مثل هذه القضايا والحوادث فإنّ القدر الذي ينقلونه  أيضاً يتلاعبون به ، أمّا الذي لم ينقلوه ، أمّا الذي منعوا عنه ، أمّا  الذي تركوه عمداً ، فذاك أمر آخر ، فالذي نقلوه كيف نقلوه ؟  وسأذكر لكم ما يتعلّق بهذه المسألة تحت عناوين :

1 ـ التهديد بالإحراق :

بعض الأخبار والروايات تقول بأنّ عمر بن الخطّاب قد هدّد  بالإحراق ، فكان العنوان الأول التهديد ، وهذا ما تجدونه في كتاب  المصنّف لابن أبي شيبة ، من مشايخ البخاري المتوفىٰ سنة  235 ه‍ ، يروي هذه القضيّة بسنده عن زيد بن أسلم ، وزيد عن  أبيه أسلم وهو مولىٰ عمر ، يقول :

حين بويع لأبي بكر بعد رسول الله ، كان علي والزبير يدخلان علىٰ فاطمة بنت رسول الله ، فيشاورونها ويرتجعون في أمرهم ،  فلمّا بلغ ذلك عمر بن الخطّاب ، خرج حتّى دخل علىٰ فاطمة فقال :  يا بنت رسول الله ، والله ما أحد أحبّ إلينا من أبيك ، وما من أحد  أحبّ إلينا بعد أبيك منك ، وأيم الله ما ذاك بمانعي إنْ اجتمع هؤلاء

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

أقول: إذا فقوله إنّ النّبيّ غلب عليه الوجع حقّ لا شكّ فيه، وساعتها يغدو قوله تعالى( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى‏ * إِنْ هُوَ إِلّا وَحْيٌ يُوحَى ) عرضة لطعن أعداء الإسلام في القرآن الكريم، لأنّ الذي يهجر ينطق عن الهوى، وأيّ هوى!

وأمّا زعمهم أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لعمر: ما لقيك الشّيطان سالكا فجّا إلاّ سلك فجّا غير فجّك فيردّه ما وقع يوم خيبر ويوم أحد ويوم حنين ويوم الأحزاب.

( وَإِذْ زَيّنَ لَهُمُ الشّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَغَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النّاسِ وَإِنّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى‏ عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنّي بَرِي‏ءٌ مِنكُمْ إِنّي أَرَى‏ مَالاَتَرَوْنَ إِنّي أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ )(١) . وكذلك فعل عمر بن الخطاب كما شهد به على نفسه، ونكص على عقبيه، ولابد والحال هذه أن يكونا في فجّ واحد.

قالوا: ومناقبه كثيرة، وأوصى إليه أبوبكر بالخلافة فأقام فيها عشر سنين ونصفا واستشهد يوم الأربعاء لأربع أو ثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين وهو ابن ثلاث وستّين سنة على الصحيح الذي جزم ابن إسحاق والجمهور، وصحّ ذلك عن معاوية وأنس. وقيل خمس وستّون، وقيل ستّ وستّون، وقيل واحد وستّون، وقيل ستّون وقيل تسع وخمسون، وقيل سبع وخمسون، وقيل ستّ وخمسون، وقيل خمس وخمسون. والذي طعنه أبو لؤلؤة فيروز غلام المغيرة بن شعبة فاستجاب الله دعاءه لأنّه كان يدعو (اللهم ارزقني شهادة في سبيلك وموتا في بلد نبيّك) كما رواه البخاريّ في صحيحه.

أقول:

بغضّ النظر عن اختلافهم في سنّه يوم وفاته، فقد عرض الله عليه الشّهادة في مواطنها في بدر وأحد وحنين وخيبر ففضّل الفرار بجلده! ولو كان صادقا في طلبها لفعل فعل حمزة وجعفر! وقد كان بينه وبين أبي بكر كلام فقال له أبوبكر بالحرف الواحد:

____________________

(١) الأنفال: ٤٨.

١٢١

أجبّار في الجاهليّة خوّار في الإسلام).

وعن أبي إسحاق قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن يقول كان ابن عمر في زمانه أفضل من عمر في زمانه(١) .

وعن هشام عن محمّد قال: كان الرّجل يقول للرّجل غضب الله عليك كما غضب أمير المؤمنين على المغيرة عزله عن البصرة واستعمله على الكوفة(٢) !

أقول:

هكذا كان يتفكّه النّاس بسيرة عمر مع المغيرة بن شعبة.

عمر في عالم الرؤيا

أخرج ابن عساكر عن ابن عباس أنّ العبّاس قال: سألت الله حولا بعد ما مات عمر أن يرينيه في المنام، فرأيته بعد حول وهو يسلت العرق عن جبينه، فقلت: بأبي أنت وأمي يا أمير المؤمنين ما شأنك؟ فقال: هذا أوان فرغت وإن كاد عرش عمر ليهدّ لو لا أنّي لقيت رؤوفا رحيما(٣) .

أقول:

من يعرف طبيعة العلاقة بين العباس بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب لا تخفى عليه معالم الوضع في هذا الخبر.

وقال عمرو بن العاص لمعاوية: رأيت في منامي أبابكر حزينا فسألته عن شأنه فقال: وكلّ بي هذان لمحاسبتي، وإذا صحف يسيرة. ورأيت عمر كذلك وإذا صحف مثل الحزورة(٤) . ورأيت عثمان كذلك وإذا صحف مثل الخندمة، ورأيتك يا معاوية وصحفك مثل أحد وثبير. فقال له معاوية: أرأيت ثمّ دنانير مصر؟(٥) .

____________________

(١) المستدرك على الصحيحين، ج ٣ ص ٦٤٤.

(٢) تاريخ دمشق، ابن عساكر، ج ٦٠ ص ٤١.

(٣) تاريخ الخلفاء، السيوطي، ج ١ ص ١٤٦.

(٤) الحزورة والخندمة وثبير مواضع بمكة المكرمة، كما في تاج العروس.

(٥) معجم ما استعجم، ج ١ ص ٤٤٥.

١٢٢

قال السّيوطي: وأخرج (ابن عساكر) أيضا عن زيد بن أسلم أن عبد الله بن عمرو بن العاص رأى عمر في المنام فقال كيف صنعت؟ قال: متى فارقتكم؟ قال: منذ اثنتي عشرة سنة. قال: إنّما أنفلت الآن من الحساب(١) .

وعن زيد بن أسلم عن عبد الله بن عمر أنّه قال: (ما كان شيء أحبّ إليّ أن أعلمه من أمر عمر، فرأيت في المنام قصرا فقلت لمن هذا؟ قالوا: لعمر بن الخطّاب، فخرج من القصر عليه ملحفة كأنّه قد اغتسل فقلت كيف صنعت؟ قال: خيرا؛ كاد عرشي يهوي بي لو لا أنّي لقيت ربّا غفورا! فقال: منذ كم فارقتكم؟ فقلت: منذ اثنتي عشرة سنة، فقال: إنّما انفلت الآن من الحساب.

أقول:

مرّ بك هذا الكلام رواية عن العباس، وهو ههنا عن ابن عمر، بلا زيادة ولا نقص، والمقصود به الشّهادة لعمر بن الخطّاب بالنّجاة؛ وقد كان عمر بن الخطّاب نفسه يقول أنّه لا يشهد لأحد بالنّجاة باستثناء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر! ثمّ ما هو هذا الحساب الذي يتحدّث عنه؟ هل هو حساب يعفيه من خصومة فاطمة وعليّ عليه السلام؟ وهل يعفيه من خصومة صبيغ بن عسل ونصر بن حجاج وغيرهما؟ ولا أدري ما الذي أقوله بخصوص بارة (فخرج من القصر عليه ملحفة كأنّه قد اغتسل..)!

إنّه لمن السّهل توزيع القصور والجنان في عالم المنامات، لكنّ الواقع لا يخضع لذلك، ولا يقبل به، وإنما يخضع لقوانين وسنن حدّدها القرآن الكريم لئلاّ يكون للنّاس على الله حجّة بعد الرسل( لِيَجْزِيَ اللّهُ كُلّ نَفْسٍ مّا كَسَبَتْ إِنّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) (٢) ، والذي يغفل عنه كثير من المدافعين عن جيل الصّحابة هو أنّ الصّحابة لن يكونوا يوم القيامة صحابة ولا خلفاء، وإنّما يكونون ناسا كبقية النّاس تجري عليهم أحكام الإسلام

____________________

(١) تاريخ الخلفاء ج ١ ص ١٤٦.

(٢) إبراهيم: ٥١.

١٢٣

بتفاصيلها؛ وقد مرّ بك الحديث الذي يقول: (لا أراه ينجو منهم إلا مثل همل النّعم)، فما هو هذا العمل الذي يقلّل نسبة النّاجين منهم إلى ذاك المستوى؟

١٢٤

الفصل الثالث

إسلام عمر بن الخطّاب

١٢٥

١٢٦

إسلام عمر

هذه قصّة جديرة بالتأمّل تتعلّق بعمر بن الخطاب قبل الإسلام. قال الماوردي الشافعي: ومن بشائر هتوفهم: ما رواه إبراهيم [..] عن ابن عبّاس أنّ عمر بن الخطّاب حدّث يوما في مجلس بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: خرجنا قبل مظهر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشهرين إلى الأبطح بمكة معنا عجل نريد ذبحه ونحن نفر، فلمّا ذبحناه وتصابّ دمه ومات، إذ صاح من جوفه صائح يا زريح، صائح يصيح، بصوت فصيح، نبيّ يظهر الحقّ يفيح، يقول لا إله إلا الله؛ فصاح كذلك ثلاث مرّات ثمّ هدأ صوته وتفرّقنا ورعبنا منه فلم يلبث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ظهر(١) .

أقول:

هذه القصّة تفيد أنّ عمر بن الخطّاب كان يعلم ببعثة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل أن يبعث، فكان المفروض أن يكون من المنتظرين لبعثته والمسارعين إليها حين تحقّقها. لكن التّاريخ يحدّثنا بعكس ذلك، فقد تأخّر إسلام عمر وأسلم قبله ابنه(٢) وأخته وختنه وناس كثير، فما الذي أبطأ به؟!

وقال ابن عاشور في تفسيره: كان الوليد بن المغيرة وعمر بن الخطّاب كافرين، وكان كلاهما يدفع النّاس من اتّباع الإسلام، ولكنّ الوليد كان يختلق المعاذير والمطاعن في القرآن، وذلك من الكيد؛ وعمر كان يصرف النّاس بالغلظة علنا دون اختلاق(٣) .

أقول: وهذا صريح في أنّه كان يصرف النّاس عن الإسلام بالغلظة وهو يعلم ببعثة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما سبق بيانه. وفرق كبير بين من يعلم ومن لا يعلم. فكيف يصبح أفضل من الذين لم يصدوا عن سبيل الله لحظة واحدة لمجرّد أنه أسلم. فإنّ الإسلام الذي

____________________

(١) أعلام النبوة، الماوردي الشافعي، ج ١ ص ١٨٦.

(٢) مستدرك، الحاكم، ج ٣ ص ٦٤٧ رقم ٦٣٧٧: وعند عبد الجبّار بن عمر عن ابن شهاب قال: أسلم عبد الله بن عمر قبل أبيه.

(٣) التحرير والتنوير، ابن عاشور، ج ١ ص ٢٤٠٠.

١٢٧

يجبّ ما قبله لا يبخس الناس أشياءهم. فيكون عمر ساوى من عذّبهم في الإسلام لكنهم فضلوه بأنهم لم يتلبسوا بفعل المضلين عن سبيل الله الذين يفتنون الناس في دينهم.

وقال أيضا: كان المشركون يحاولون ارتداد بعض قرابتهم أو من لهم به صلة، كما ورد في خبر سعيد بن زيد وما لقي من عمر بن الخطّاب(١) .

قال محمد بن سعد في خبر إسلام عمر:... قال [عمر] فلعلّكما قد صبوتما؟ قال: فقال له ختنه: أرأيت يا عمر إن كان الحقّ في غير دينك؟ قال: فوثب عمر على ختنه فوطئه وطئا شديدا، فجاءت أخته فدفعته عن زوجها فنفحها بيده نفحة فدمي وجهها، فقالت وهي غضبى: يا عمر! إن كان الحقّ في غير دينك؛ أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنّ محمّدا رسول الله! فلمّا يئس عمر قال: أعطوني هذا الكتاب الذي عندكم فأقرأه. قال: وكان عمر يقرأ الكتب! فقالت أخته إنّك رجس ولا يمسّه إلا المطهّرون فقم فاغتسل(٢) .

أقول:

إن صحّ قولهم كان عمر يقرأ الكتب فهذه حجّة أخرى في ذمّته، لأنّه ليس من علم كمن لم يعلم، فإن يكن قد قرأ بعض الكتب فقد قرأ في ما قرأ أخبارا وإخبارا بخصوص بعثة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فهو يختلف عن غيره من المشركين الذين لم يكن لديهم خبر عن ذلك.

قال البغوي: قوله تعالى( يَا أَيّهَا النّبِيّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) قال سعيد بن جبير: أسلم مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاثة وثلاثون رجلا وستّ نسوة، ثمّ أسلم عمر بن الخطّاب فتمّ به الأربعون فنزلت هذه الآية(٣) .

قال ابن عاشور: وهذه الجملة تفيد بيان مزيّة المؤمنين الذين تحمّلوا الأذى من

____________________

(١) التحرير والتنوير، ابن عاشور، ج ١ ص ١٣٢٧.

(٢) الطبقات الكبرى، محمد بن سعد، ج ٣ ص ٢٦٨.

(٣) تفسير البغوي، ج ١، ص ٣٧٤.

١٢٨

المشركين وصبروا عليه ولم يؤاخذوا به من آمن ممّن آذوهم مثل أخت عمر بن الخطّاب قبل إسلامه، ومثل صهره سعيد بن زيد، فقد قال (لقد رايتني وإنّ عمر لموثقي على الإسلام قبل أن يسلم عمر) فكان في صبر سعيد خير دخل به عمر في الإسلام(١) .

أقول:

فأين الأذى الذي تحمّله عمر في سبيل الإسلام؟ وهل كان من الممتحنين في شعب أبي طالب؟!

قال [ابن عاشور]: والمؤمنات المفتونات منهنّ: حمامة أمّ بلال أمة أميّة بن خلف، وزنيرة، وأمّ عنيس كانت أمة للأسود بن عبد يغوث، والنّهديّة وابنتها كانتا للوليد بن المغيرة، ولطيفة , ولبينة بنت فهيرة كانت لعمر بن الخطّاب قبل أن يسلم، كان عمر يضربها، وسميّة أمّ عمار بن ياسر كانت لعمّ أبي جهل(٢) .

أقول:

ومع ذلك تقضي ثقافة الكرسيّ أن يكون من عذّب المسلمين لأجل الإسلام أفضل عند الله من المسلمين الذين تعذبوا على يديه! بأيّ دليل؟ وبأيّ معيار؟ بدليل واحد هو أنّه تربّع على كرسي الحكم ولم يتربّعوا!

قال ابن الأثير: ومنهم: لبينة جارية بني مؤمل بن حبيب بن عدي بن كعب أسلمت قبل إسلام عمر بن الخطّاب، وكان عمر يعذّبها حتى تفتن ثمّ يدعها ويقول: إني لم أدعك إلا سآمة! فتقول: كذلك يفعل الله بك إن لم تسلم؛ فاشتراها أبوبكر فأعتقها. ومنهم: زنيرة وكانت لبني عديّ، وكان عمر يعذّبها؛ وقيل كانت لبني مخزوم وكان أبو جهل يعذّبها حتى عميت فقال لها: إنّ اللات والعزّى فعلا بك، فقالت: وما يدري اللاّت والعزّى من يعبدهما، ولكن هذا أمر من السّماء وربّي قادر على ردّ بصري، فأصبحت من الغد وقد ردّ الله بصرها فقالت قريش: هذا من سحر محمّد! فاشتراها أبو

____________________

(١) التحرير والتنوير، ج ١ ص ٣٨٨٣.

(٢) التحرير والتنوير، ج ١ ص ٤٧٨٤.

١٢٩

بكر فأعتقها(١) .

وفي لباب النّقول عن الضّحّاك عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية( أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ ) حيث قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اللّهمّ أعزّ دينك بعمر بن الخطّاب أو بأبي جهل بن هشام، فهدى الله عمر وأضلّ أبا جهل ففيهما أنزلت(٢) .

أقول:

أما أبو جهل فقد كانوا يقولون عنه: (مصفّر استه)(٣) ، ولا يمكن أن يكون مثل هذا مصدرا للعزّ، وعلى وجه الخصوص عزّ الإسلام! وأما عمر بن الخطّاب فيبقى الحكم للقارئ بعد إنهاء قراءة هذا الكتاب.

وعن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أمّه أم عبد الله بنت أبي حثمة قالت: والله إنّا لنرحل إلى أرض الحبشة فقد ذهب عامر في بعض حاجتنا إذ أقبل عمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه حتّى وقف عليّ وهو على شركه، وكنّا نلقى منه البلاء والشّدّة علينا (!) فقال: إنّه الانطلاق يا أمّ عبد الله؟ فقلت: نعم والله، لخرجنّ في أرض الله آذيتمونا وقهرتمونا حتّى يجعل الله لنا مخرجا. فقال: صحبكم الله؛ ورأيت له رقّة لم أكن أراها، ثمّ انصرف وقد أحزنه فيما أرى خروجنا، قالت: فجاء عامر بن ربيعة من حاجته تلك فقلت: يا أبا عبد الله، لو رأيت عمر آنفا ورقّته وحزنه علينا! قال: فتطمعين في إسلامه؟ قلت: نعم. قال: لا يسلم الذي رأيت حتّى يسلم جمل الخطّاب! قال يائسا منه، ممّا كان يرى من غلظته وقسوته على الإسلام(٤) .

وعن حصين عن هلال بن يساف قال: أسلم عمر بن الخطّاب بعد أربعين رجلا

____________________

(١) الكامل في التاريخ، ابن الأثير، ج ٢ ص ٦٩.

(٢) لباب النقول، السيوطي، ج ١ ص ١٨١.

(٣) الطبقات الكبرى، محمد بن سعد، ج ٨ ص ٤٤، ومجمع الزوائد، ج ٦ ص ٧١ ومجمع الزوائد، ج ٦ ص ٧، وتفسير الصنعاني، ج ٢ ص ٢٥٣، ومصنف عبد الرزاق، ج ٥ ص ٣٥١ ومسند البزار ج ٢ ص ٢٧٩ وتاريخ مدينة دمشق ج ٣٨ ص ٢٤١ ج ٣٨ ص ٢٤٩ وج ٣٨ ص ٢٥٤.

(٤) المستدرك، الحاكم النيسابوري، ج ٤ ص ٥٨ و ٥٩.

١٣٠

وإحدى عشرة امرأة(١) .

وقالوا في ترجمة زيد بن الخطّاب: أخو عمر، كان قديم الإسلام، وشهد بدرا، واستشهد باليمامة سنة اثنتي عشرة(٢) .

أقول:

وهذا يعني أنّ زيدا أسلم قبل أخيه عمر. وبناء على ما سبق من كون أخته وابنه أسلما قبله يكون عمر بن الخطّاب هو آخر آل الخطّاب إسلاما! وشهد زيد بن الخطّاب بدرا في قلب الهجوم وشهدها عمر على كرسيّ الاحتياط.

وعن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أمّه ليلى قالت: كان عمر بن الخطّاب من أشدّ النّاس علينا في إسلامنا(٣) .

وعن أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت أبا سليمان يقول قد أسكنهم الغرف قبل أن يطيعوه وأدخلهم النّار قبل أن يعصوه، وقد كان عمر بن الخطّاب يحمل الطّعام إلى الأصنام والله تعالى يحبّه [!] ما ضرّه ذلك عند الله طرفة عين(٤) .

أقول:

( وَمَا قَدَرُوا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ ) ، انظر إلى أي مستوى بلغ بهم سوء الأدب مع الله تعالى، وإلاّ فكيف يقبل عاقل موحّد أن يكون الله تعالى محبّا للمشرك حال شركه؟! أوليس هو الذي قال في الكتاب الكريم( إِنّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ) ؟! فكيف يصف الله تعالى المشرك أنّه (نجس) ويحبّه حال شركه؟ وهل هناك عاقل يحبّ النّجس؟ وعلى كل حال لم يدّع عمر بن الخطّاب يوما أنّ الل تعالى يحبّه. وقد رووا عن علي عليه السلام أنّ رسول الله قال: (يا فاطمة، إنّ الله عز وجلّ يغضب لغضبك ويرضى لرضاك) أخرجه أبو سعد في (شرف النّبوة) والإمام عليّ بن موسى الرضا في مسنده وابن المثنّى

____________________

(١) مصنف ابن أبي شيبة، ج ٧ ص ١٢ تحت رقم ٣٣٨٦٦ وتهذيب التهذيب، ج ٧ ص ٣٨٦.

(٢) تقريب التهذيب ج ١: ص ٢٢٣ تحت رقم ٢١٣٤.

(٣) مجمع الزوائد، الهيثمي، ج ٦ ص ٢٣ والمعجم الكبير، الطبراني، ج ٢٥ ص ٢٩.

(٤) حلية الأولياء، ج ٩ ص ٢٥٧.

١٣١

في معجمه(١) . وعليه تغدو محبّة الله تعالى لعمر حال شركه أو إسلامه صعبة الإثبات، لأنّ فاطمة عليها السلام خرجت من الدّنيا غاضبة عليه. وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا: (من أغضبها فقد أغضبني)(٢) . وقد أغضبها عمر بن الخطاب فتحقّق منه الأذى لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قالوا: استدلّ به السّهيلى على أنّ من سبّها(٣) كفر وأنّها أفضل من الشّيخين. قال ابن حجر فيه نظر(٤) .

أقول:

كلّ ما من شأنه أن يشكّك في منزلة الشّيخين ففيه نظر عند ابن حجر وأتباع مدرسته، حتّى لو كان قرآنا فإنّه يجب تأويله بما ينسجم مع نظريّة أفضليّة الأربعة على التّرتيب والعشرة المبشّرين بالجنّة. وإلاّ فلماذا لم يخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالشّيخين إلى المباهلة يوم وفد نجران؟!

سوء الأدب بمحضر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

لعلّ بعض القرّاء يصدمون إذا اكتشفوا أنّ بعض الصّحابة كانوا يقولون الكلام الفاحش البذيء أمام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا يعتذرون من ذلك إلاّ إذا رأوا منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إعراضا يخشون أن يسقطهم نهائيّا من أعين النّاس.

قال ابن إسحاق: حتى إذا كان [رسول الله] بعرق الظبية - قال ابن هشام الظبية عن غير ابن إسحاق - لقوا رجلا من الأعراب، فسألوه عن الناس فلم يجدوا عنده خبرا، فقال له النّاس سلّم على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: أوفيكم رسول الله؟ قالوا: نعم. فسلّم عليه ثم قال:

____________________

(١) ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى، ج ١ ص ٣٩.

(٢) صحيح البخاري ج ٣ ص ١٣٦١ وصحيح البخاري ج ٣ ص ١٣٧٤ والجمع بين الصحيحين ج ٣ ص ٣٧٢ وسنن النسائي الكبرى ج ٥ ص ٩٧ وسنن النسائي الكبرى ج ٥ ص ١٤٨ ومصنف ابن أبي شيبة ج ٦ ص ٣٨٨ والآحاد والمثاني ج ٥ ص ٣٦١ والمعجم الكبير ج ٢٢ ص ٤٠٤ وخصائص علي ج ١ ص ١٤٧ وفضائل الصحابة للنسائي ج ١ ص ٧٨ وفيض القدير ج ٤ ص ٤٢١.

(٣) أي فاطمة عليها السلام.

(٤) فيض القدير ج ٤ ص ٤٢١.

١٣٢

إن كنت رسول الله فأخبرني عمّا في بطن ناقتي هذه، فقال له سلمة بن سلامة بن وقش: لا تسأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأقبل عليّ فأنا أجيبك عن ذلك، نزوت عيها ففي بطنها منك سخلة! فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مه، أفحشت على الرّجل، ثمّ أعرض عن سلمة(١) ..

أقول: وقد تصرّفوا في نقل القصّة وفق ما تقتضيه عدالة جميع الصّحابة، فحذف كلّ ناقل ما استبشعه، لكن لم يمكنهم حذف الكلام البذيء الذي تفوّه به سلامة بن وقش، لاستلزامه حذف كلام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولعلّ ذلك مما دعاهم إلى عدّ سلمة بن سلامة بن وقش ضمن المنافقين في ما بعد(٢) .

وروى البخاري وغيره (بخصوص صلح الحديبية) قال: قال عروة عند ذلك: (أي محمّد أرأيت إن استأصلت أمر قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى فإنّي والله لا أرى وجوها، وإنّي لأرى أشوابا من النّاس خليقا أن يفرّوا ويدعوك. فقال له أبو بكررضي‌الله‌عنه : امصص ببظر اللاّت أنحن نفرّ عنه وندعه؟! فقال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر. قال: أما والذي نفسي بيده لو لا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك)(٣) .

أقول:

وإن تعجب فعجب قول الشّوكاني (وفيه جواز النّطق بما يستبشع من الألفاظ لإرادة زجر من بدا منه ما يستحقّ به ذلك)! لكنّ ابن الجوزي استبشع العبارة فأبهم ولم يصرّح بأبي بكر بل قال: قال رجل من الصّحابة لبعض الكفّار (امصص ببظر اللاّت)، والبظر ما

____________________

(١) السيرة النبوية، ابن هشام، ج ٣ ص ١٦٠.

(٢) وقال السيوطي في الدر المنثور ج ٦ ص ٥٣١ - ٥٣٢: (وأخرج ابن مردويه عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه أن أعرابيا وقف على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم بدر على ناقة له عشراء فقال يا محمد ما في بطن ناقتي هذه؟ فقال له رجل من الأنصار: دع عنك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهلم إليّ حتى أخبرك وقعت أنت عليها وفي بطنها ولد منك فأعرض عنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم قال إن الله يحب كل حي كريم متكرم ويبغض كل لئيم متفحّش). والقصة أيضا في المستدرك على الصحيحين ج ٣ ص ٤٧٢ ودلائل النبوة ج ٣ ص ١٠٦ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٨٥ وسمط النجوم العوالي ج ٢ ص ٤٧ و تاريخ الإسلام ج ٢ ص ١٠٦.

(٣) صحيح البخاري، ج ٣ ص ٩٧٥، وصحيح ابن حبان، ج ١١ ص ٢٢٠ والنهاية في غريب الأثر ج ١ ص ١٣٨، ونيل الأوطار، ج ٨ ص ١٩٧.

١٣٣

عند القطع(١) . وفي النّهاية في حديث الحديبية (امصص ببظر اللاّت البظر بفتح الباء الهنة التي تقطعها الخافضة من فرج المرأة عند الختان)(٢) .

فهل يستطيع عاقل تفسير هذه العبارة لأحد أولاده أو أقاربه؟ وهل يستطيع شرح ذلك للتّلاميذ إن كان مدرّسا؟!

لا شكّ بعد هذا أنّ المعاصرين لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكونوا يعرفون له حرمته؛ والكلام السّابق ومحلّ التّلفّظ به - بحضرة النبيّ الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - خير دليل على ذلك.فمن زعم أنّ الأمر كان على خلاف ذلك فليبيّن!

في تفسير البغوي: عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عبّاس عن عمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه أنّه قال: لما مات عبد الله بن أبي بن سلول دعي له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليصلّي عليه فلما قام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وثبت إليه فقلت: يا رسول الله أتصلّي على ابن أبيّ بن سلول وقد قال يوم كذا وكذا وكذا؟ أعدّد عليه قوله فتبسّم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال: أخّر عنّي يا عمر؛ فلمّا أكثرت عليه قال: إنّي خيّرت فاخترت، لو أعلم أنّي إن زدت على السّبعين يغفر له لزددت عليها. قال: فصلّى عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ انصرف فلم يمكث إلاّ يسيرا حتّى نزلت الآيتان من براءة:( وَلاَ تُصَلّ عَلَى‏ أَحَدٍ مِنْهُم مَاتَ أَبَداً وَلاَتَقُمْ عَلَى‏ قَبْرِهِ ) إلى قوله:( وَهُمْ فَاسِقُونَ ) قال فعجبت بعد من جرأتي على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يومئذ والله ورسوله أعلم(٣) .

أقول:

الحديث وارد في صحيح البخاريّ(٤) ومضمونه أنّه لما أراد النّبيّ الصّلاة على جنازة عبد الله بن أبيّ قال له عمر: أتصلّي عليه وقد قال كذا وكذا؟ أليس قد نهاك الله أن تصلّي على المنافقين؟ ويدلّ مضمون الحديث على أنّ النّهي عن الصّلاة على

____________________

(١) غريب الحديث لابن الجوزي ج ١ ص ٧٧. وصحيح ابن حبان ج ١١ ص ٢٢٠.

(٢) النهاية في غريب الأثر ج ١ ص ١٣٨.

(٣) تفسير البغوي، ج ١ ص ٨١.

(٤) صحيح البخاريّ، ج ٧ ص ٣٦، دار الفكر بيروت ١٤٠١ هـ.

١٣٤

المنافقين الذي ورد في( وَلاَ تُصَلّ عَلَى‏ أَحَدٍ مِنْهُم مَاتَ ) نزل بعد هذه القصّة التي دارت بين النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين عمر. وقد أثبتوا - من باب الموافقات - في الحديث أنّ الآية( وَلاَ تُصَلّ عَلَى‏ أَحَدٍ مِنْهُم مَاتَ أَبَداً ) نزلت بعد هذه الواقعة... فإذا كان ذلك كذلك، فمن أين اطّلع عمر على النهي قبل أن يطّلع عليه من يتنزّل عليه الوحي؟ كيف علم عمر أنّ الله تعالى نهى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والآية المشتملة على النّهي لم تكن قد نزلت بعد؟! ومن أين أتى عمر بهذا النّهي؟ ومثل هذا النّهي حكم شرعيّ وإنّما تتنزّل الأحكام على صاحب الشّريعة؛ والذين ذهبوا إلى الاستدلال بقوله تعالى( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَتَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ... ) (١) يعلمون أنّه لا يليق بمن هو رحمة للعالمين إلاّ أن يكون بالمستوى اللاّئق لذلك، وهو إنّما يتألّف الآخرين بسلوكه تلك الطّريقة مع عبد الله بن أبيّ بن السّلول، عسى أن تلين قلوبهم لما يرون من رحمة من خلال تلك الصّلاة.

وعن أبي عطيّة أنّ رجلا توفّي على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال بعضهم يا رسول الله لا تصلّ عليه فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هل منكم من أحد رآه على شيء من أعمال الخير؟ فقال رجل: حرس معنا يا رسول الله ليلة كذا وكذا. فصلّى عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومشى إلى قبره فجعل يحثو عليه التّراب ويقول: إنّ أصحابك يظنّون أنّك من أهل النّار، وأنا أشهد أنّك من أهل الجنّة ثمّ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لعمررضي‌الله‌عنه : إنّك لا تسأل عن أعمال النّاس، وإنما تسأل عن الغيبة(٢) .

أقول:

هذه واقعة ينبغي التوقف عندها والتّأمل بعين البصيرة واستحضار عظمة الله تعالى حين الحكم، فإنّ من أبغض الأمور إلى الله تعالى الحكم بالهوى، وهو الأمر الذي جلب لبني إسرائيل اللعن على لسان داوود وعيسى بن مريم. لدينا في هذه القصة شهادة

____________________

(١) التوبة: ٨٠.

(٢) الاستيعاب، ابن عبد البر، ج ٤ ص ١٧١٦.

١٣٥

من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للصّحابي المتوفّى يشهد له فيها بالجنة والنّجاة، ولدينا في نفس الواقعة شهادة عمر عليه بخلاف ذلك؛ وشهادة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستندة إلى ما يريه الله تعالى وإلى ارتباطه الدائم بعالم الغيب. فإلام تستند شهادة عمر؟ وقد أمر النّاس في الإسلام بحسن الظّن، كما أمروا أن يذكروا موتاهم بخير. والاختلاف بين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين عمر بن الخطاب في هذه القضية واضح لا يحتاج إلى بيان، ولا يمكن بحال من الأحوال الجمع بين السلوكين، فمن شاء فليقتد برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن شاء فليقتد بعمر؛ وأقول مرة أخرى: الجمع بينهما لا يستقيم في العقول. ثمّ ما أعظمها وأنفعها كلمة من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ يقول لعمر: (إنّك لا تسأل عن أعمال النّاس). وانظر إلى ابن عبد البرّ يقول: (فقال بعضهم يا رسول الله لا تصلّ عليه) ثمّ يقولفي ذيل الحديث: (ثمّ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمررضي‌الله‌عنه : إنّك لا تسأل عن أعمال النّاس)، ومن حقّ العاقل أن يتساءل لماذا يوجّه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلامه إلى عمر ويترك (بعضهم) القائل؟! اللّهمّ إلاّ أن يكون (بعضهم) القائل هو عمر نفسه وذلك به أشبه، لأنّ له مثل هذا السّلوك يوم وفاة عبد الله بن أبيّ بن السّلول؛ لكنّه يعزّ على ابن عبد البرّ أن يقرّ بذلك ويعترف بالحقيقة خشية أن يتزعزع في الرّاشدين والعشرة المبشرين، وتتسرب تلك الزعزعة إلى تلامذته وأتباعه.

قال الزّهري في حديثه عن عروة عن (مروان) والمسور، ورواه أبو وائل عن سهل بن حنيف قال عمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه : فأتيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلت: ألست نبيّ الله حقّا؟ قال: بلى. قلت: ألسنا على الحقّ وعدوّنا على الباطل؟ قال: بلى. قلت: أليس قتلانا في الجنّة وقتلاهم في النّار؟ قال: بلى؛ قلت: فلم نعطي الدّنيّة في ديننا إذن؟ قال: إنّي رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري. قلت: أوليس كنت تحدّثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرتك أنّا نأتيه العام؟ قلت: لا. قال: فإنّك آتيه ومطوّف به. قال: فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر ن أليس هذا نبيّ الله حقّا؟ قال: بلى؛ قلت: ألسنا على الحقّ وعدوّنا على الباطل؟ قال: بلى؛ قلت: أليس قتلانا في الجنّة وقتلاهم في النّار؟ قال: بلى. قلت:

١٣٦

فلم نعطي الدنيّة في ديننا إذا؟ قال: أيّها الرّجل! إنّه رسول الله ليس يعصي ربّه ن وهو ناصره، فاستمسك بغرزه فو الله إنّه على الحقّ. قلت: أليس كان يحدّثنا أنّا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرك أنّك تأتيه العام؟ قلت لا. قال: فإنّك آتيه ومطوّف به. قال الزّهري: قال عمر: فعملت لذلك أعمالا(١) .

يخيّل للسّامع أنّ الكلام في محلّه، والحال أنه خلاف الواقع. وفي المغرب العربي مثل يقول: يمدد المرء رجليه على قدر فراشه. نعم، إنّما يدّعي الإباء الأبيّ فعلا، أمّا من لا يتحلّى بذلك ثمّ يدّعيه فإنّه كلابس ثوبي زور. كيف سمح عمر بن الخطّاب لنفسه بترديد تلك العبارة أمام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكأنّه لم يعط الدّنيّة في دينه؟! أوليس هو الذي فرّ مرّة بعد مرّة تاركا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين يدي الأعداء عرضة للقتل؟ أليس هذا من الدّنيّة؟ وهل هناك دنيّة على المسلم أعظم من فراره من المشرك؟ ألم يشهد على نفسه بالفرار يوم أحد؟ ألم يشبه نفسه بالأروى في قوله: (أنزو كأنني أروى)؟ فكيف صار لا يعطي الدنية في دينه؟ إنّ الذي لا يعطي الدّنيّة في دينه لا يسلم نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للقتل، ولا يفكّر في نجاة نفسه قبل نجاة نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي هو أولى به من نفسه! وما أقبح بالمسلم أن يفرّ من المشرك بعد أن وعده الله تعالى إحدى الحسنين. وما أقبح به ذلك بعد أن عاهد الله تعالى ألا يفرّ من الزّحف( وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللّهِ مَسْؤُولاً ) (٢) .

ورووا أنّ رسول الله (لما كان دوين بدر(٣) أتاه الخبر بمسير قريش فأخبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمسيرهم واستشار الناس، فقام أبوبكر فقال فأحسن! ثمّ قام عمر فقال فاحسن ثمّ قال: يا رسول الله، إنّها قريش وعزّها! والله ما ذلّت منذ عزّت، ولا آمنت منذ كفرت، والله لا تسلم عزّها أبدا، ولتقاتلنّك، فاتّهب لذلك أهبته وأعد عدته)(٤) ..

____________________

(١) تفسير البغوي، ج ١ ص ٣١٣.

(٢) الأحزاب: ١٥.

(٣) أي دون بدر بقليل.

(٤) شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد ج ١٤ ص ١١٢.

١٣٧

أقول:

ما هو القول الحسن الذي قاله أبوبكر ولم يحفظه الرّواة؟ وما هو القول الحسن الذي قاله عمر قبل أن يبدأ بتخويف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتثبيط العزائم وتعظيم شأن قريش؟! حقيقة ذلك نجدها في صحيح مسلم ومسند أحمد بن حنبل: عن ثابت عن أنس أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث بلغه إقبال أبي سفيان قال فتكلّم أبوبكر فأعرض عنه! ثم تكلّم عمر فأعرض عنه! فقام سعد بن عبادة فقال: إيّانا تريد يا رسول الله؟ والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحار لأخضناها)(١) . وليس في الرواية (فقام أبوبكر فقال فأحسن! ثمّ قام عمر فقال فأحسن)، وإنّما فيها أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعرض عنهما جميعا، عن أبي بكر أوّلا ثم عن عمر بعد ذلك. وانطلاقا من هذه الرواية أقول:

إذا كان كلام أبي بكر حسنا فلماذا أعرض عنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟! ومتى أعرض بسطاء المتخلّقين عن الحديث الحسن فضلا عن صاحب الخلق العظيم؟! وقد نقلوا كلام عمر لكون الكلمات النّابية كثيرة في حديثه، لكنهم حذفوا كلام أبي بكر خشية أن يختلّ الترتيب المعلوم فتسقط ورقة التّوت!

ويوم بدر كان لعمر موقف مشابه، وكان يريد قتل العبّاس بن عبد المطلب، والعباس لم يحارب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكّة لا بيد ولا بلسان. فقد استشار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النّاس في الأسرى يوم بدر فقال: إن الله قد أمكنكم منهم وإنما هم إخوانكم بالأمس. فقام عمر فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم فأعرض عنه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ عاد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال للنّاس مثل ذلك فقام أبو بكر الصديقرضي‌الله‌عنه فقال: يا رسول الله نرى أن تعفو عنهم وأن تقبل منهم الفداء. قال:

____________________

(١) صحيح مسلم، ج ٥ ص ١٧٠، ومسند أحمد، ج ٣ ص ٢١٩ و ٢٢٠ وص ٢٤٣ و ٢٥٧ ومستدرك الحاكم، ج ٣ ص ٢٥٣ والبداية والنهاية ج ٣ ص ٢٦٣ والدر المنثور ج ٤ ص ٢٠ ودلائل النبوة ج ٣ ص ١٠٧ وتاريخ الإسلام ج ٢ ص ١٠٦.

١٣٨

فذهب عن وجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما كان فيه من الغم..(١) .

فالحديث يصرّح أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعرض عنه مرّتين ويصرّح أيضا أنّ فعل عمر بن الخطاب تسبّب في ظهور الغمّ على وجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا يعني أنه آذاه!

قال ابن تيمية: وكلّ من كان عالما بالصّحابة يعلم أنّ عمررضي‌الله‌عنه كان متأدّبا معظّما بقلبه لأبي بكررضي‌الله‌عنه شاهدا أنّه أعلى منه إيمانا ويقينا، فكيف يكون حال عمر وغيره مع النبيّرضي‌الله‌عنه ، وإذا كان هذا حال أفضل المحدّثين المخاطبين فكيف حال سائرهم(٢) .

أقول:

لابن تيمية الحقّ في أن يقول ما شاء، لكن ليس ل الحقّ أن يفرض على النّاس ما لا دليل على صحّته، ويكفي لبيان سوء أدب من ذكرهم بحضرة الرّسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما جرى يوم الحديبية بين أبي بكر وعروة بن مسعود الثّقفي، وتلك الكلمة القبيحة المستهجنة التي قالها أبوبكر بمحضر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يرع له حرمته، إضافة إلى كلمة سلمة بن وقش قبله يوم بدر.

قال ابن القيّم: وذكر ابن الهادي عن محمّد بن إبراهيم التّيمي قال: قال عمر بن الخطّاب: (إياكم والرّأي فإنّ أصحاب الرّأي أعداء السّنن، أعيتهم الأحاديث أن يعوها وتفلّتت منهم أن يحفظوها فقالوا في الدّين برأيهم). وقال الشّعبي عن عمرو بن حريث قال: قال عمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه : (إيّاكم وأصحاب الرّأي فإنّهم أعداء السّنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرّأي، فضلّوا وأضلّوا)(٣) . وأسانيد هذه الآثار عن عمر في غاية الصّحّة. وروى محمّد بن عبد السّلام الخشني عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن عمر بن الخطّاب أنّه قال: (أيّها النّاس اتّهموا الرّأي في الدّين فلقد

____________________

(١) مسند أحمد بن حنبل ج ٣ ص ٢٤٣ ومجمع الزوائد الهيثمي ج ٦ ص ٨٧ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٤٤٨ والبداية والنهاية ج ٣ ص ٢٩٦ وتفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٢٦. وتفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٢٦ وتفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٢٦.

(٢) العقيدة الاصفهانية، ابن تيمية، ج ١ ص ١٥٧.

(٣) سنن الدارقطني ج ٤ ص ١٤٦، وفتح الباري ج ١٣ ص ٢٨٩، وجامع بيان العلم وفضله ج ٢ ص ١٣٥ والاحكام لابن حزم ج ٦ ص ٢١٣ والمدخل إلى السنن الكبرى ج ١ ص ١٩٠.

١٣٩

رأيتني وإنّي لأردّ أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برأيي فأجتهد ولا آلو وذلك يوم أبي جندل والكتاب يكتب وقال: أكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم فقالوا: يكتب باسمك اللهمّ فرضي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبيت فقال: يا عمر تراني قد رضيت وتأبى(١) ..؟!

يقول عمر بن الخطّاب رضي رسول اللهرضي‌الله‌عنه وأبيت، وكأنّه شريك لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رسالته! ويقول القرآن الكريم.( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً مّبِيناً ) . فكأنّ عمر بن الخطاب لا يعلم أنّ من يخالف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ضلال مبين. وانظر إلى قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تراني رضيت وتأبى وتدبّر!! فإن يكن هذا وقع بعد نزول سورة الحجرات فهو تمرّد من جهة عمر، لقوله تعالى( لاَ تُقَدّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَرسُولِهِ ) (٣) وإلاّ فهو سوء أدب.. ولا يفوت المتتبع أنّ عمر أوّل من فتح باب الرّأي بشهادة الصحابة. روى البخاري في صحيحه.

عن عمران رضي الله عنه قال تمتعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل القرآن قال رجل برأيه ما شاء(٤) . والحديث موجود أيضا في صحيح مسلم وسنن النسائي وغيرهما.

وعن عبد الله بن سلام قال: لما أراد الله تعالى هدي زيد بن سعنة قال زيد بن سعنة: ما من علامات النبوة شيء إلاّ وقد عرفتها في وجه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه يسبق حلمه جهله ولا يزيده شدّة الجهل عليه إلاّ حلما؛ فكنت ألطف له لأن أخالطه فأعرف حلمه من جهله. قال زيد بن سعنة: فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوما من الحجرات ومعه علي بن أبي طالبرضي‌الله‌عنه عنه فأتاه رجل على راحلته

____________________

(١) إعلام الموقعين، ابن القيم، ج ١ ص ٥٥.

(٢) الأحزاب: ٣٦.

(٣) الحجرات: ١.

(٤) صحيح البخاري، ج ٢ ص ٥٦٩ رقم ١٤٩٦. وصحيح البخاري ج ٤ ص ١٦٤٢ وصحيح مسلم ج ٢ ص ٩٠٠ وسنن النسائي الكبرى ج ٦ ص ٣٠٠ وسنن الدارمي ج ٢ ص ٥٥ ومسند أحمد بن حنبل ج ٤ ص ٤٢٩ والمعجم الكبير ج ١٨ ص ١٢٣ وتهذيب الكمال ج ٢٦ ص ٥٨١.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564