الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب10%

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب مؤلف:
الناشر: انتشارات دارالتفسير
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 564

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب
  • البداية
  • السابق
  • 564 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 91235 / تحميل: 7638
الحجم الحجم الحجم
الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب

مؤلف:
الناشر: انتشارات دارالتفسير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

أصلحك الله إنّ الشّاهد يرى مالا يرى الغائب، إنّ صاحب الرّوم قد جمع لنا جموعا لم يجمعها هو ولا أحد كان قبله لأحد كان قبلنا، ولقد جاء بعض عيوننا إلى عسكر واحد من عساكرهم أمر بالعسكر في أصل الجبل فهبطوا من الثّنية نصف النّهار إلى عسكرهم فما تكاملوا فيها حتى أمسوا، ثمّ تكاملوا حين ذهب أوّل الليل، هذا عسكر واحد من عساكرهم، فما ظنك بمن قد بقي؟ فقال عمر: لو لا أنّي ربّما كرهت الشّيء من أمرهم يصنعونه فإذا الله يخير لهم في عواقبه لكان هذا رأيا أنا له كاره. أخبرني أجمع رأي جماعتهم على التّحوّل؟ قال قلت: نعم؛ قال: فإنّ الله إن شاء الله لم يكن يجمع رأيهم إلاّ على ما هو خير لهم(١) .

وعن زيد بن أسلم قال: كتب أبو عبيدة إلى عمر بن الخطّاب يذكر له جموعا من الروموما يتخوف منهم فكتب إليه عمر: أما بعد فإنّه مهما ينزل بعبد مؤمن من شدّة يجعل الله بعدها فرجا وإنه لن يغلب عسر يسرين، وإنّ الله يقول في كتابه:( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتّقُوا اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (٢) .

أقول:

ههنا يأمر غيره بالصّبر في الجهاد، لكنّه لا يلتزم بذلك حين يكون هو على رأس الجيش، وقصّة يجبّنهم ويجبّنونه أشهر من نار على علم. هذا مع أنّ الإسلام قد أجاز للجيش أن يناور وينسحب إذا كان عدد العدوّ يفوق بأضعاف كثيرة عدد المسلمين.

على أنّهم قد رووا في قضية مشابهة ما يخالف ما سبق ذكره. قال الجصّاص: قال عمر بن الخطّاب لمّا بلغه أنّ أبا عبيد بن مسعود استقتل يوم الجيش حتى قتل ولم

____________________

(١) تاريخ مدينة دمشق - ابن عساكر ج ٢١ ص ٣٤٧.

(٢) موطأ مالك، ج ٢ ص ٤٤٦، ومصنف ابن أبي شيبة، ج ٤ ص ٢٢٢ وتفسير القرطبي، ج ٤ ص ٣٢٣ وتفسير الطبري، ج ٤ ص ٢٢١ والجهاد لابن المبارك، ج ١ ص ١٦٤ والدرّ المنثور، ج ٢ ص ٤١٨ وتاريخ مدينة دمشق، ج ٢ ص ١٤٣ وج ٢٥ ص ٤٧٧ وتخريج الأحاديث والآثار، ج ٤ ص ٢٣٦ والمقاصد الحسنة، ج ١ ص ٥٣٩ وكشف الخفاء، ج ٢ ص ١٩٦ والاستذكار، ج ٥ ص ١٨ وشعب الإيمان، ج ٧ ص ٢٠٥ وشرح الزرقاني، ج ٣ ص ١٣ والفائق، ج ٤ ص ١٢٧ والنّهاية في غريب الأثر، ج ٣ ص ٢٣٥.

١٦١

ينهزم: رحم الله أبا عبيد، لو انحاز إليّ لكنت له فئة؛ فلمّا رجع إليه أصحاب أبي عبيد قال: أنا فئة لكم ولم يعنّفهم(١) .

قال الشّوكانيّ: وأخرج ابن المنذر عن كليب قال: خطبنا عمر بن الخطّاب فكان يقرأ على المنبر آل عمران ويقول: إنها أحديّة ثمّ قال: تفرّقنا عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم أحد فصعدت الجبل(٢) فسمعت يهوديّا يقول: قتل محمّد فقلت: لا أسمع أحدا يقول قتل محمّد إلاّ ضربت عنقه، فنظرت فإذا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والنّاس يتراجعون إليه فنزلت هذه الآية( وَمَا مُحمّدٌ إِلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرّسُلُ ) (٣) .

أقول:

هذا عمر يعترف بفراره وصعوده الجبل وتركه رسول الله بين سيوف الأعداء.!

وأجرج ابن أبي حاتم من طريق أبي بكر بن أبي شيبة [..] عن ابن عبّاس عن عمر بن الخطّاب قال: لما كان يوم أحد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء، فقتل منهم سبعون وفرّ أصحاب محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنه، وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه، وسال الدّم على وجهه، فأنزل الله عزوجل:( أَوَلَمّا أَصَابَتْكُم مُصِيبَةٌ ) الآية(٤) ..

أقول:

يتحدّث عمر عن الصّحابة يوم أحد ولا يدخل نفسه في الفارّين مع أنه كان أوّلهم فرارا، وقد شهد عليه بذلك قتادة وشهد هو على نفسه كما في صحيح البخاريّ. ومع ذلك فقد أدخل نفسه في الفارين يوما من الأيام وهو يخطب. أخرج ابن جرير عن كليب قال خطب عمر يوم الجمعة فقرأ آل عمران وكان يعجبه إذا خطب أن يقرأها فلما انتهى إلى قوله( إِنّ الّذِينَ تَوَلّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ) قال: لما كان يوم أحد

____________________

(١) أحكام القرآن، للجصاص، ج ٤ ص ٢٢٧.

(٢) فيه شهادة عمر على نفسه بالفرار وترك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين الأعداء.

(٣) فتح القدير، ج ١ ص ٥٨٣. والدر المنثور، ج ٢ ص ٣٣٤ وكنز العمال، ج ٢ ص ١٦٢.

(٤) فتح القدير، ج ١ ص ٥٩٨.

١٦٢

هزمنا ففررت حتى صعدت الجبل، فلقد رأيتني أنزو كأنني أروى(١) والناس يقولون قتل محمد فقلت: لا أجد أحدا يقول قتل محمد إلا قتلته، حتى اجتمعنا على الجبل.(٢) ..

أقول:

كالأروى، أي كتيس الجبل، هكذا يصف عمر بن الخطاب نفسه وهو في حالة الفرار؛ ومن حق كل من يقرأ هذا الكلام أن يتخيل شيخا في حدود الخمسين يطارده مشرك وهو ينزو كما ين زو تيس الجبل! إلى أين كان ذاهبا في فراره ذاك؟ أليس في القرآن الكريم (ففروا إلى الله..)؟

ولقد تفرّس عروة بن مسعود الثقفي في وجوه جماعة كانوا مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الحديبية وصدقت فراسته: قال عروة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) : أي محمّد أرأيت لو استأصلت قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى فو الله إنّي لأرى وجوها وأرى وأرى أوباشا من النّاس خليقا أن يفرّوا ويدعوك! فقال له أبوبكر: امصص بظر اللاّت! أنحن نفرّ عنه وندعه؟ قال: من ذا؟ قال: أبو بكر؛ قال: أما والذي نفسي بيده لو لا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك وجعل يكلّم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . والحقّ أنّ فراسة عروة بن مسعود الثّقفي كانت إذ فرّ أبوبكر وفريقه يوم حنين وتركوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين أيدي الأعداء. فلم.

قال ابن قتيبة: وكانت قريش يومئذ ثلاثة آلاف ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سبعمائة وظاهر يومئذ بين در عين وأخذ سيفا فهزه وقال: من يأخذه بحقّه؟ فقال عمر بن الخطّاب: أنا! فأعرض عنه. وقال الزبير: أنا. فأعرض عنه؛ فوجدا في أنفسهما، فقام أبو

____________________

(١) الأروى بفتح الهموة تيس الجبل البري (المصباح المنير، ج ١ ص ٢٤٧).

(٢) الدر المنثور، ج ٢، ص ٣٥٥. وقصة تشبيه عمر نفسه بالأروى أثناء فراره موجودة أيضا في المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، ج ١ ص ٥٢٩ وتفسير الطبري، ج ٤ ص ١٤٤ وتفسير البحر المحيط، ج ٣ ص ٩٧ وكنز العمال، ج ٢ ص ١٦٢.

(٣) تفسير السعدي، ج ١ ص ٧٩٧.

١٦٣

دجانة سماك بن خرشة فقال: وما حقّه يا رسول الله؟ قال: تضرب به حتّى ينثني، فقال: أنا آخذه بحقه فأعطاه إياه(١) .

أقول:

وأنت ترى كيف أعرض النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن عمر حين قال: أنا، والإعراض ضدّ الإقبال؛ وفي وسع النبي الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير ذلك وهو صاحب الخلق العظيم؟ لم يعرض عنه؟ نعم، لابدّ من التّذكير انّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حكيم في أفعاله ولا يحبّ المجاملات على حساب الحقّ. والمقام مقام جدّ وشجاعة، وليس في سجلّ عمر بطولات يستحقّ بموجبها هذا السيف في مثل هذا اليوم. لذلك كان موقف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حاسما.

قال الشّوكانيّ: وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم عن عمر بن الخطّاب قال: لا تغرنكم هذه الآية فإنما كانت يوم بدر وأنا فئة لكل مسلم(٢) .

الفرار من الزحف

قال محمد بن الحسن الشيباني في باب الفرار من الزّحف: لا أحبّ لرجل من المسلمين به قوّة أن يفرّ من رجلين من المشركين. وهذا لقوله تعالى( وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلّا مُتَحَرّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيّزاً إِلى‏ فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) . وفيها تقديم وتأخير معناه: ومن يولّم يومئذ دبره فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنّم وبئس المصير إلاّ متحرّفا لقتال أو متحيّزا إلى فئة، أي سريّة، للقتال بالكرّة على العدوّ من جانب آخر(٣) .

قال السيوطي: وأخرج مالك وابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا وابن جرير والحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان عن زيد بن أسلم قال كتب أبو عبيدة إلى عمر بن الخطّاب يذكر له جموعا من الروم وما يتخوف منهم فكتب إليه عمر: أما بعد فإنه مهما

____________________

(١) المعارف، ابن قتيبة، ص ١٥٩.

(٢) فتح القدير، ج ٢ ص ٤٢٩.

(٣) السير الكبير، محمد بن الحسن الشيباني، ج ١ ص ١٢٣.

١٦٤

ينزل بعبد مؤمن من شدّة يجعل الله بعدها فرجا، وإنّه لن يغلب عسر يسرين، وإنّ الله يقول في كتابه يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلّكم تفلحون(١) .

أقول:

هذا رأي عمر في الصّبر على لقاء العدو حين يكون هو بعيدا عن ساحة القتال، ولم يعمل به حين كان في المواجهة، والدّليل على ذلك تكرّر الفرار منه حتّى أعرض عنه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قال الآلوسيّ: وفي كلام الأمير كرم الله تعالى وجهه ما يقتضي بسوقه خلاف ما عليه الشيعة ففي نهج البلاغة أنّ عمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه لمّا استشار الأمير كرّم الله تعالى وجهه لانطلاقه لقتال أهل فارس حين تجمّعوا للحرب قال له: إنّ هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا بقلّة، وهو دين الله تعالى الذي أظهره، وجنده الذي أعزّه وأيّده حتّى بلغ ما بلغ وطلع حيث طلع، ونحن على موعود من الله تعالى حيث قال عزّ اسمه( وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنّ لَهُمْ دِينَهُمُ الّذِي ارْتَضَى‏ لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنّهُم مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً ) والله تعالى منجز وعده وناصر جنده؛ ومكان القيّم في الإسلام مكان النّظام من الخرز فإن انقطع النّظام تفرّق وربّ متفرّق لم يجتمع والعرب اليوم وإن كانوا قليلا فهم كثيرون بالإسلام عزيزون بالاجتماع، فكن قطبا واستدر الرحى بالعرب وأصلهم دونك نار الحرب، فإنّك إن شخصت من هذه الأرض تنقّضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهمّ إليك ممّا بين يديك، وكأن قد آن للأعاجم أن ينظروا إليك غدا يقولون هذا أصل العرب فإذا قطعتموه استرحتم، في كون ذلك أشدّ لكلبهم عليك وطعمهم في ك؛ فأمّا ما ذكرت من عددهم فإنّا لم نقاتل في ما مضى بالكثرة وإنّما نقاتل بالنّصر والمعونة(٢) .

____________________

(١) الدر المنثور، السيوطي، ج ٢ ص ٤١٨ والحديث في موطأ مالك ج ٢ ص ٤٤٦ وكنز العمال ج ٣ ص ٣٠١ وشرح الزرقاني ج ٣ ص ١٣ والاستذكار ج ٥ ص ١٨.

(٢) روح المعاني، الآلوسيّ، ج ١٨ ص ٢٠٧.

١٦٥

أقول:

كلام الإمام عليّ عليه السلام مبنيّ على علمه بجبن الرّجل وتكرّر فراره من المعارك، وإلاّ فإنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان دائما على رأس الجيش، وكذلك الإمام عليّ عليه السلام في ما بعد في النهروان والجمل وصفين، ولا شكّ أن الكفّار أشدّ رغبة في قتل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم في قتل عمر. ولا يعقل أن ينهى علي بن أبي طالب عليه السلام عن شيء ثم يكون أول المقدمين عليه.

وعن عون بن أبي شداد قال: كانت لعمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه عنه أمة أسلمت قبله يقال لها زنيرة فكانرضي‌الله‌عنه يضربها على إسلامها، وكان كفّار قريش يقولون: لو كان خيرا ما سبقتنا إليه زنيرة، فأنزل الله تعالى في شأنها (وقال الذين كفروا... الآية) ولعلهم لم يريدوا زنيرة بخصوصها بل من شابهها أيضا، وفي الآية تغليب المذكر على المؤنث(١) .

وجاء في تفسير الثعالبي أنّ أبا الفضل الله الجوهري سمع على المنبر يقول وقد سئل أن يتكلّم في شيء من فضائل الصّحابة فأطرق ثمّ رفع رأسه وأنشد:

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه

فكل قرين بالمقارن مقتد

ماذا تريد من قوم قرنهم الله بنبيّه وخصّهم بمشاهدة وحيه، وقد أثنى الله تعالى على رجل مؤمن ومن آل فرعون كتم إيمانه وأسرّه فجعله تعالى في كتابه وأثبت ذكره في المصاحف لكلام قاله في مجلس الكفر، وأين هو من عمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه إذ جرّد سيفه بمكّة وقال والله لا أعبد الله سرّا بعد اليوم(٢) .

أقول:

أين كان هذا السيف في بدر وأحد وخيبر وحنين...، فلعلّه أصابه الصّدأ فلم يعد يصلح للقتال! مثل هذه الروايات إن دلت على شيء فإنّما تدّل على تفاهة عقول

____________________

(١) روح المعاني، الآلوسيّ، ج ٢٦ ص ١٤.

(٢) تفسير الثعالبي ج ٤ ص ٧٣.

١٦٦

أصحابها! وإلاّ فإنّ الثعالبيّ نفسه روى أنّ النّبيّ أراد بعث عمر بن الخطّاب إلى مكّة فقال له عمر: يا رسول الله إنّي أخاف قريشا على نفسي وليس بمكّة من بني عديّ أحد يحميني(١) ! فكيف انتقل من الشّجاع الذي يتحدّى قريشا في بطن مكّة إلى الشّخص الذي يخاف قريشا على نفسه وهو خارج مكّة، وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون.

قال السيوطي: وأخرج وكيع والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن المغيرة بن شعبة قال: كنا في غزاة فتقدّم رجل فقاتل حتّى قتل فقالوا: ألقى بيده إلى التّهلكة فكتب فيه غلى عمر فكتب عمر ليس كما قالوا هو من الذين قال الله في هم( وَمِنَ النّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ ) (٢) .

أقول: هذه الآية لم يعمل بها عمر مرة واحدة في حياته.

ولأنّ سجلّ عمر الحربي خال من البطولات فإنّه تعيّن على محبيه أن يبحثوا له عن بطولات مع الملائكة والجنّ. أخرج ابن أبي الدنيا في مكايد الشّيطان عن ابن مسعود قال: خرج رجل من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقيه الشّيطان فاتّخذا فاصطرعا فصرعه الذي من أصحاب محمّد، فقال الشيطان أرسلني أحدّثك حديثا فأرسله، قال: لا. فاتّخذ الثّانية فاصطرعا فصرعه الذي من أصحاب محمّد فقال: أرسلني فلأحدّثنّك حديثا يعجبك فأرسله فقال: حدّثني، قال: لا. فاتّخذ الثّالثة فصرعه الذي من أصحاب محمّد ثمّ جلس على صدره وأخذ بإبهامه يلوكها فقال أرسلني فقال: لا أرسلك حتّى تحدّثني، قال سورة البقرة فإنّه ليس من آية منها تقرأ في وسط الشّياطين إلاّ تفرّقوا، أو لا تقرأ في بيت في دخل ذلك البيت شيطان. قالوا: يا أبا عبد الرحمن فمن ذلك الرّجل؟ قال: فمن ترونه إلاّ عمر بن الخطّاب(٣) .

____________________

(١) تفسير الثعالبيّ، ج ٤، ص ١٧٦ وتفسير البغوي ج ١، ص ٣٠٤.

(٢) الدر المنثور، السيوطي، ج ١ ص ٥٧٦.

(٣) الدر المنثور، السيوطي، ج ١ ص ٥٢.

١٦٧

أقول:

هذا عمر يصارع الجنّي ويتغلب عليه، ويتعلّم منه حديث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بخصوص سور القرآن، وعليه فقد بدأت رواية الحديث في حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وروادها من الجنّ!

وعن أبي غطفان عن ابن عباس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيف أنت يا عمر إذا انتهى بك إلى الأرض فحفر لك ثلاثة أذرع وشبر ثم أتاك منكر ونكير أسودان يجران أشعارهما كأن أصواتهما الرعد القاصف، وكأن أعينهما البرق الخاطف، يحفران الأرض بانيابهما، فأجلساك فزعا فتلتلاك وتوهّلاك؟ قال: يا رسول الله وأنا يومئذ على ما أنا عليه؟ قال: نعم؛ قال أكفيكهما بإذن الله يا رسول الله(١) .!

أقول:

لقد كان على ما هو عليه آنذاك ومع ذلك فرّ من مرحب ورجع مع أصحابه يجبّنهم ويجبّنونه، وكان على ما هو عليه وفرّ يوم أحد ويوم حنين! يخشى اليهود الذين هم أحرص الناس على حياة، ويخشى المشركين الذين لا يؤمنون بالبعث والنّشور ولا يخشى ملائكة غلاظا شدادا لا يعصون الله ما أمرهم! لعل منكرا ونكيرا أهون شأنا من مرحب والمشركين في نظر عمر بن الخطاب؟!. والعجيب أنّ عمر بن الخطّاب نفسه يروي أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يتعوذ من عذاب القبر؛ فقد روى البيهقي عن عمرو بن ميمون الأودي عن عمر بن الخطّاب أنه قال: سمعت رسول الله فوق المنبر يتعوذ من خمس اللهم إنّي أعوذ بك من الجبن والبخل وأعوذ بك من سوء العمر وأعوذ بك فتنة الصدر وأعوذ بك من عذاب القبر(٢) .

وعن محمد بن إسحاق عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال قلت لأبي: من الرّجل الذي خلّصك من المشركين يوم ضربوك؟ قال: ذاك العاص بن وائل السهمي(٣) .

____________________

(١) إثبات عذاب القبر، البيقهي ج ١ ص ٨١ حديث رقم ١٠٤.

(٢) إثبات عذاب القبر، البيقهي، ج ١ ص ١١٤.

(٣) المعجم الكبير، الطبراني، ج ١ ص ٧٢ رقم ٨٣.

١٦٨

أقول:

كيف يصحّ أن يكون أعزّ الله به الإسلام وهو لا يخلص نفسه من ضرب المشركين إيّاه إلاّ بواسطة العاص بن وائل السّهميّ الذي سمّاه القرآن الكريم الأبتر؟

وعن عدي بن سهيل قال: لما استمدّ أهل الشّام عمر على أهل فلسطين استخلف عليّا وخرج ممدّا لهم فقال له علي: أين تخرج بنفسك؟ إنّك تريد عدوّا كلبا. فقال: إنّي أبادر بجهاد العدوّ موت العبّاس. إنّكم لو قد فقدتم العباس لا نتقض بكم الشرّ كما يتنقض الحبل. فمات العبّاس لستّ سنين خلت من إمارة عثمان فانتقض والله بالنّاس الشّرّ(١) .

أقول:

لا يخفى على من تتبّع سيرة عمر بن الخطّاب أن الإمام عليا عليه السلام إنّما نصحه بعدم الخروج لأنه يعرف سوابقه في أحد وحنين وخيبر، وجبنه يوم الأحزاب، وقد قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم خيبر في حقّ علي عليه السلام كرّار غير فرّار بعد فرار الرّجلين وبعد أن قيل في عمر يجبّهم ويجبّنونه. وأمّا قولهم انتقض بالنّاس الشرّ بعد وفاة العباس فتعتيم على الحقيقة، لأن الشّرّ انتقض بالنّاس يوم السّقيفة بشهادة فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وروى الحاكم عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطّاب لما فرض للناس فرض لعبد الله بن حنظلة ألفي درهم فأتاه حنظلة بابن أخ له ففرض له دون ذلك فقال له: يا أمير المؤمنين فضلت هذا الأنصاري على ابن أخي؟ فقال: نعم، لأني رأيت أباه يوم أحد يستن بسيفه كما يستن الجمل(٢) .

أقول:

رآه عمر، ولكن على أية حال كان عمر حين رأى الرّجل يستنّ بسيفه كما يستنّ

____________________

(١) تاريخ دمشق، ابن عساكر، ج ٢٦ ص ٣٧٢.

(٢) المستدرك على الصحيحين، الحاكم النيسابوري، ج ٣ ص ٢٠٥.

١٦٩

الجمل؟ محاربا أم متفرّجا؟! أمّا الشّواهد فتثبت أن عمر فر يوم أحد.

وعن أسامة بن زيد الليثي عن نافع أنه كان في سيف عمر بن الخطّاب الذي شهد به بدرا سبيكة أو سبيكتان من ذهب(١) .

أقول: لا عجب، لأنه سيف تحفة لا سيف جلاد.

وعن الشعبي عن مسروق قال: إنّ الشهداء ذكروا عند عمر بن الخطّاب قال فقال عمر للقوم: ما ترون الشهداء؟ قال القوم: يا أمير المؤمنين هم ممّن يقتل في هذه المغازي. قال فقال عمر عند ذلك: إن شهداء كم إذن لكثير إني أخبركم عن ذلك، إنّ الشّجاعة والجبن غرائز في النّاس يضعها الله حيث يشاء، فالشّجاع يقاتل من وراء لا يبالي أن لا يؤوب إلى أهله والجبان فارّ عن خليلته، ولكنّ الشّهيد من احتسب بنفسه والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده(٢) .

أقول:

في قوله يضعها الله حيث يشاء مغالطة لا تخفى، ويستشعر منها سلب الإرادة عن المكلّف، وقد أمر الله تعالى عباده بالقتال والغلظة على الكفّار، ومدح الذين يقاتلون في سبيله صفّا كأنّهم بنيان مرصوص، وذمّ الجبناء الذين يولّون الأدبار وتوعّدهم بالنّار، ولو لا أن الشّجاعة والجبن أمور قابلة للتّحوّل والتّغيّر شدّة وضعفا لما كان ذلك المدح وجيها ولا ذلك الذّم مقبولا. وكيف يضع الله غريزة الجبن في شخص ثم يذمّه عليها؟! أهكذا يكون فعل الحكيم؟

قال الطبري: ثمّ دعا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمر بن الخطّاب ليبعثه إلى مكة في بلغ عنه أشراف قريش ما جاء له، فقال: يا رسول الله، إنّي أخاف قريشا على نفسي، وليس بمكة من بني عدى بن كعب أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها (!) ولكنّي أدلّك على رجل هو أعزّ بها منّي عثمان بن عفان فدعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عثمان فبعثه إلى

____________________

(١) الجامع في الحديث، عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي، ج ٢ ص ٦٩٨ رقم ٦٠٢..

(٢) مصنف ابن أبي شيبة ج ٤ ص ٢٢٦ رقم ١٩٥١٩.

١٧٠

أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنّه لم يأت لحرب وإنّما جاء زائرا لهذا البيت معظّما لحرمته(١) .

أقول:

هذا عمر بن الخطاب نفسه يقول: (أدلّك على رجل هو أعزّ بها منّي عثمان بن عفان)، وهو اعتراف منه أن عثمان كان أعز منه، وعثمان فرّ من المعركة مسير ثلاثة أيام حتى قال له النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولمن معه: (لقد ذهبتم بها عريضة)، فكيف يقال بعد هذا إنّ عمر أعزّ الله به الإسلام، ولماذا لم يظهر عزّه حين دعاه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليرسله إلى مكة؟

وعن أبي محمد مولى أبي قتادة أو أبا قتادة قال: لما كان يوم حنين... وانهزم المسلمون وانهزمت معهم فإذا بعمر بن الخطّاب في الناس فقلت له: ما شأن الناس؟ قال: أمر الله. ثم تراجع الناس إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) .

أقول: ينهزم عمر يوم حنين ويدّعي أنه أمر الله وهو يعلم أنّ الله تعالى أمر بالثّبات ولم يأمر بالانهزام!

قال السيوطي: أخرج ابن عساكر عن عليّ قال: ما علمت أحدا هاجر إلا مختفيا إلا عمر بن الخطّاب فإنّه لما هم بالهجرة تقلّد سيفه وتنكّب قوسه وانتضى في يده أسهما وأتى الكعبة وأشراف قريش بفنائها فطاف سبعا، ثمّ صلّى ركعتين عند المقام، ثمّ أتى حلقهم واحدة واحدة فقال: شاهت الوجوه من أراد أن تثكله أمّه وييتم ولده وترمّل زوجته فليلقني وراء هذا الوادي، فما تبعه منهم أحد(٣) !

أقول:

قد مرّ بك سابقا قوله يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي، وهو ما لا ينسجم مع ما أخرجه ابن عساكر؛ وحتى يقوّوا القصّة ويمرّروها بسلام نسبوا الرّواية إلى علي عليه السلام وهو أعلم الناس بجبن عمر.

____________________

(١) تاريخ الطبري، ج ٢ ص ٢٧٨.

(٢) صحيح البخاريّ، ج ٤ ص ١٥٧٠. والبداية والنهاية، ج ٤ ص ٣٢٩.

(٣) تاريخ الخلفاء، السيوطي، ج ١ ص ١١٥.

١٧١

قال محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة: كان عمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه يقدّم درجة الكسب على درجة الجهاد في قول: لأن أموت بين شعبتي رحلي أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله أحبّ إليّ من أن أقتل مجاهدا في سبيل الله، لأنّ الله تعالى قدّم الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضله على المجاهدين بقوله تعالى( وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ ) (١) .

أقول:

هذا استنباط سقيم، لأنّ الله تعالى حثّ على الجهاد وفضّل المجاهدين على القاعدين، وأخبر أنّه يحبّ الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص، وحسم المسألة في سورة التّوبة بقوله جلّ ذكره( قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبّ إِلَيْكُم مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبّصُوا حَتّى‏ يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَيَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) (٢) . فمن كانت التّجارة أحبّ إليه من الجهاد فليتربّص.

قال ابن تيمية: كما أنّ عمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه كتب إليه أبو عبيدة بن الجراح عام اليرموك يستنصره على الكفّار ويخبره أنّه قد نزل بهم جموع لا طاقة لهم بها، فلمّا وصل كتابه بكى النّاس وكان من أشدّهم عبد الرّحمن بن عوف وأشار علي عمر أن يخرج بالنّاس، فرأى عمر أنّ ذلك لا يمكن، وكتب إلى أبي عبيدة: مهما ينزل بامرئ مسلم من شدّة في نزلها بالله يجعل الله له فرجا ومخرجا؛ فإذا جاءك كتابي هذا فاستعن بالله وقاتلهم بأخبره أنه لا يمكنه أن يعاونه في هذه(٣) .

قال تعالى:( الآنَ خَفّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِنكُم مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَينِ وَإِن يَكُن مِنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ ) (٤) . وليت

____________________

(١) الكسب، محمد بن الحسن الشيباني، ج ١ ص ٣٣.

(٢) التوبة: ٢٤.

(٣) الرد على البكري، ابن تيمية، ج ١ ص ٣٩٣.

(٤) الأنفال: ٦٦.

١٧٢

عمر بن الخطّاب أنزل شدّته بالله يوم خيبر ليجعل له فرجا ومخرجا!

قال ابن تيمية: ذكر أحمد أنّه كان لعمر بن الخطّاب سيف فيه سبائك من ذهب(١) .

أقول:

وما هي إنجازات السيف المذهّب؟!

قال ابن هشام: وكان ضرار بن الخطّاب لحق عمر بن الخطّاب يوم أحد فجعل يضربه بعرض الرّمح ويقول: انج يا ابن الخطّاب لا أقتلك! فكان عمر يعرفها له بعد الإسلام(٢) !

أقول:

ومعنى هذا أنّ ضرار بن الخطّاب كان يلاحق عمر بن الخطّاب وعمر بن الخطّاب في حالة فرار، وبدل أن يقتله كما هو شأن غيره من المقاتلين سمح له بالنجاة! فكيف يقال بعد هذا إن الله تعالى أعزّ الإسلام بعمر؟ وأي عز يأتي على يد الفرّار؟! وللقارئ أن يتخيّل كهلا في سنّ عمر وطوله وهو يفرّ من عدوّ مشرك ولا يلوي على شيء! وانظر إلى هذا المؤرخ العظيم كيف هوّن من شأن الحادثة واكتفى بقوله فكان عمر يعرفها له بعد الإسلامرضي‌الله‌عنه ما! ومن يدري ما الذي كان يحدث بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو أن ضرار بن الخطاب قتل عمر بن الخطاب يومها.

عقائد عمر

أوّل ما ينبغي أن يلتفت إليه في مسألة العقائد هو ماضي الشّخص قبل إسلامه، فإنّ الماضي يلعب دورا مهمّا في تقبّل العقائد وترسيخها وهضمها على الوجه الصّحيح. ويكفينا لفهم ذلك تذكّر ما جرى للصّحابة مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قصّة ذات أنواط؛ فقد جاء في سيرة ابن هشام أنّ الصّحابة خرجوا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى حنين وكانت

____________________

(١) شرح العمدة، ج ٤ ص ٣١١.

(٢) سيرة ابن هشام، ج ٢ ص ٢٥٨.

١٧٣

لكفّار قريش ومن سواهم من العرب شجرة عظيمة خضراء يقال لها ذات أنواط يأتونها كلّ سنة يعلّقون عليها أسلحتهم ويذبحون عندها يعكفون عندها يوما. يقول الصحابي الراوي: فرأينا يوما ونحن نسير مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شجرة عظيمة خضراء فسترتنا من جانب الطريق فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الله أكبر.. الله أكبر قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنّكم قوم تجهلون(١) .

أقول:

هذه الواقعة كانت في الطّريق إلى حنين، وغزوة حنين كانت بعد فتح مكة في السنّة الثامنة للهجرة، وقد كان مرّ على بعثة النّبيّ وابتداء نزول الوحي يومها عشرون سنة! وهذا يعني أن الذين كانوا حول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن كانوا قد قاتلوا كثيرا وغيروا أسلوب حياتهم الشكلي إلا أنهم من ناحية المعتقد لم يحققوا تقدما يستحق الذّكر، بل أسوأ من ذلك أنهم راحوا يطلبون من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يشاركهم في التّشبّه بالمشركين. ومن هؤلاء الذين كانوا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمر بن الخطّاب العدوي. ولا أحد يستطيع أن ينكر أنّ عمر بن الخطاب عبد الأصنام مدة طويلة من حياته، حتى إنّه هو نفسه يحدّث بذلك؛ ومع الأسف فإن المحدّثين والمفسرين كأنّما أخذوا على أنفسهم أن يئدوا الأخبار الواردة في ذلك كما وأد عمر ابنته. ومع ذلك فقد أفلتت منهم قصص ووقائع تسمح باستشفاف ما كان يجري هناك. أورد العقّاد في كتابه عبقرية عمر أنّ عمر قال: (كنّا في الجاهلية، نصنع صنما من العجوة فنعبده، ثمّ نأكله). ولأنّ الشّرك أمر عظيم فقد وصف الله تعالى المتلبسين به بأبشع الأوصاف فقال( إِنّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ) ، فالمشرك حال شركه نجس، وهذا هو المعروف لدى الفقهاء، وعليه يكون عمر بن الخطّاب أيام شركه نجسا، ثمّ طهره الإسلام في ما بعد؛ فالذين

____________________

(١) السيرة النبوية، ابن هشام، ج ٤ ص ٨٦.

١٧٤

ينسبون إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال (لو لم أبعث في كم لبعث عمر) إنّما يفترون على الله الكذب، ويسيئون معه الأدب، لأنهم يعنون بذلك أنّ الله تعالى قد يبعث نبيّا من قضى عشرات السّنين في نجاسة الجاهليّة وكان هو نفسه نجسا كما يقتضي سياق الآية( إِنّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ) !

قال السيوطي: أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عمر بن الخطّاب: أنّه خطب بالجابية فحمد الله وأثنى عليه ثم قال من يهده الله فلا مضلّ له ومن يضلل فلا هادي له فقال له فتى بين يديه كلمة بالفارسية فقال عمر لمترجم يترجم له: ما يقول؟ قال: يزعم أن الله لا يضلّ أحدا. فقال عمر: كذبت يا عدوّ الله! بل الله خلقك وهو أضلّك وهو يدخلك النّار إن شاء الله، ولو لا ولث عقد لضربت عنقك! فتفرّق الناس وما يختلفون في القدر والله أعلم(١) .

أقول:

إن صحّ الخبر فإنّ الفتى ذهب إلى غير ما يذهب إليه عمر، فإنّ الإضلال ابتداء لا يجوز على الله سبحانه وتعالى، وفي سورة الفاتحة قوله تعالى غير المغضوب عليهم ولا الضّالين ولم يقل المضلّلين. وأما الإضلال بمعنى الجزاء فلا إشكال فيه، ومجرّد خذلانه إيّاهم إضلال لهم هو عدل لا ظلم فيه. وقد قال تعالى( وَمَا كُنتُ مُتّخِذَ الْمُضِلّينَ عَضُداً ) فكيف يكون مضلاّ. ومن أسمائه تعالى الهادي، وفي كلام عمر سوء أدب عند قوله يدخلك النّار إن شاء الله، وموقف عمر ممّن يتكلم بالفارسيّة معلوم، فقد قال في ما قال: وددت أن بيني وبين هذه الحمراء جبلا من نار. وقد أكمل الراوي وضع اللمسات الأخير على روايته بقوله: فتفرّق الناس وما يختلفون في القدر!

قال الشّوكانيّ: وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشّعب عنه نحوه بأطول منه وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن عمر بن الخطّاب أنه قال وهو يطوف بالبيت: اللهمّ إن كنت كتبت علي شقوة أو ذنبا فامحه فإنّك تمحو ما تشاء

____________________

(١) الدر المنثور، السيوطي، ج ٣ ص ٦١٩.

١٧٥

وتثبت وعندك أم الكتاب فاجعله سعادة ومغفرة(١) .

أقول:

وهذا حين يقول بمثله أتباع أهل البيت عليهم السلام ينسبون بسببه إلى الكفر، ويقال عنهم إنّهم ينسبون الجهل إلى الله سبحانه وتعالى، لكن عندما يقوله عمر يصبح دينا غير قابل للنّقاش، مع أنّ المقول واحد وحكم الأمثال واحد!

وأخرج ابن أبي حاتم عن عمر بن الخطّاب أنه قال: اللّهم اغفر لي ظلمي وكفري فقال قائل: يا أمير المؤمنين هذا الظّلم فما بال الكفر؟ قال: إنّ الإنسان لظلوم كفار(٢) .

أقول:

لا شك أنّ عمر بن الخطّاب يعلم أنّ الله لا يغفر الكفر حال التلبّس به، وأما بعد تركه فالإسلام يجبّ ما قبله ولا معنى حينئذ لطلب المغفرة بخصوصه!.

وأخرج ابن المنذر والبيهقي من طريق ابن عبّاس أن عمر بن الخطّاب قال: كنت أتأوّل هذه الآية( وَكَذلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) (٣) فو الله إن كنت لأظنّ أنّه سيبقى في أمته حتى يشهد عليها بآخر أعمالها وأنّه هو الّذي حملني على أن قلت ما قلت(٤) .

هذا مبلغ فهم عمر بن الخطّاب للقرآن الكريم، وهذا معتقده في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والقرآن الكريم يهتف:( كُلّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ) .

ألم يقل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم عرفة يوشك أن أدعى فأجيب؟ ألم يقل يومها لعلّي لا ألقاكم بعد يومي هذا؟ ألم يقل إنه لم يكن نبي إلاّ عمّر...؟).

ورووا أن عمر بن الخطّاب لما سمع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يناديهم فقال: يا رسول الله تناديهم بعد ثلاث وهل يسمعون؟ يقول الله إنك لا تسمع الموتى فقال: والذي نفسي بيده ما

____________________

(١) فتح القدير، الشّوكانيّ، ج ٣ ص ١٢٦.

(٢) فتح القدير، الشّوكانيّ، ج ٣ ص ١٥٧.

(٣) البقرة: ١٤٣.

(٤) قاله السيوطي في الدر المنثور، ج ٢ ص ٣٣٧.

١٧٦

أنتم بأسمع منهم ولكنهم لا يطيقون أن يجيبوا(١) . وأمّا البخاري فقد روى القصة عن ابن عمر بالبناء للمجهول، مع أن البقية صرّحوا باسم عمر وأنه هو القائل لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وفي هذا تفنيد لمزاعم الوهابية الذين يدّعون أن كل من خرج من هذه الدنيا حجب عن السمع والمشاهدة.

وفي هذا الباب أيضا أورد الصنعاني في تفسيره أن عمر بن الخطّاب قال للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كيف يسمع يا نبي الله قوم أموات؟ قال النبي: ما أنتم بأعلم بما أقول منهم. أي أنّهم قد رأوا أمالهم(٢) .

وعن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أدرك عمر بن الخطّاب وهو يسير في ركب وهو يحلف بأبيه فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت(٣) .

أقول:

يحلف بالخطّاب وهو يعلم أنّه مات على الكفر.

وقال عمر - في قصة صلح الحديبية -: والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ(٤) .

أقول:

هذا عمر يشهد على نفسه بالشك. فإمّا أن يكون شكّ في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإما أن يكون شكّ في وعد الله تعالى. وهو في كلا الأمرين على خطر عظيم.

____________________

(١) مسند أحم بن حنبل ج ٣ ص ٢٨٧. ومسند الطيالسي ج ١ ص ٩ ودلائل النبوة ج ٣ ص ٤٨ والدر المنثور ج ٦ ص ٥٠٠ وفتح القدير، ج ٤ ص ٣٣١.

(٢) تفسير الصنعاني، ج ٢ ص ٢٥٤.

(٣) صحيح البخاري ج ٥ ص ٢٢٦٥ وصحيح البخاري ج ٦ ص ٢٤٤٩ وصحيح مسلم ج ٣ ص ١٢٦٦ وصحيح مسلم ج ٣ ص ١٢٦٧ وصحيح ابن حبان ج ١٠ ص ٢٠١.

(٤) صحيح ابن حبان ج ١١ ص ٢٢٤ ومصنف عبد الرزاق ج ٥ ص ٣٣٩ والمعجم الكبير ج ٢٠ ص ١٤ وتاريخ مدينة دمشق ج ٥٧ ص ٢٢٩ وتاريخ الإسلام ج ٢ ص ٣٧١.

١٧٧

مع أهل الكتاب

هل أعرض عمر عن التّوراة وعن أهل الكتاب بعد أن نهاه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما هو مذكور في صحيح البخاري وغيره؟

الواقع يوقفنا على خلاف ذلك. فإنّه بعد وصول عمر إلى الخلافة، وجد أهل الكتاب منفذا إلى شؤون المسلمين عن طريق كعب الأحبار خاصّة، وآخرين من أمثال وهب بن منبه وتميم الدّاريّ وزيد بن ثابت..

جاء في تاريخ المدينة: عن ابن شهاب قال: أوّل من قصّ في مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تميم الدّاريّ: استأذن عمررضي‌الله‌عنه أن يذكر الله مرّة فأبى عليه، ثمّ استأذن أخرى، فأبى عليه، حتّى كان آخر ولايته، فأذن له أن يذكر يوم الجمعة قبل أن يخرج عمر. فاستأذن تميم في ذلك عثمان بن عفان فأذن له أن يذكر يومين من جمعة(١) .

هذا في ما يخصّ الدّاريّ. أمّا كعب الأحبار فقد كان حرّا مطلق اليد يتحدّث بما شاء متى شاء ولا أحد يعترض عليه، لأنّه كان محميّا من طرف الدّولة - حصانة دبلوماسيّة باللّسان المعاصر - وإن كان عمر قد تنبّه إلى خطورة ذلك في وقت معيّن حينما بالغ كعب وتجاوز الحدّ المسموح به، فنهاه عن الإكثار من الحديث عن الأوّل الكتاب الأوّل والواقع أنّه حدث ذلك بعد أن بثّ كعب ما أراد من الخرافات والأساطير، وأعانه في ذلك آخرون اصبحوا تلامذة له، من أمثال أبي هريرة، وعبد اللهبن عمرو بن العاص، في وقت كانت الدّولة قد منعت كتابة ورواية الحديث النبويّ الشّريف!! ولقد كان كعب ذكيّا في تمرير افتراءاته حتّى قال بعض أهل العلم ممن أخذ عن أبي هريرة كما ينقل ابن كثير: اتّقوا الله وتحفّظوا في الحديث فو الله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة في حدّث عن رسول الله ويحدّث عن كعب الأحبار، ثمّ يقوم فأسمع بعض من كان معنا يجعل حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن كعب وحديث كعب عن

____________________

(١) تاريخ المدينة ابن شبّة النّميريّ، ج ١ ص ١١.

١٧٨

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وفي لفظ يجعل ما قاله كعب عن رسول الله وما قاله رسول الله عن كعب. فاتّقوا الله وتحفّظوا في الحديث(١) .

لم يكن كعب الأحبار قد رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو سمع منه، لكنّه مع ذلك أصبح من أكثر النّاس رواية، ومن طبقة عالية بحيث يروي عنه صحابة من أمثال أبي هريرة وعبدالله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن عمر. وقد صار في ما بعد المستشار أن يشير إليه بتهمة على الدّين، لأنّ إشاراته وتوجيهاته كانت دائما متناغمة مع هوى الموجودين في السّلطة، المدعومين من طرف حاربوا الإسلام بكلّ ما استطاعوا ولم يدخلوا فيه إلاّ مكرهين؛ والذين تبرّموا بأبي ذرّ حينما صدع بفضح كعب على مرأى ومسمع من الملإ قائلا له في مجلس عثمان: يا بن اليهوديّين...، فو الله ما خرجت اليهودية من قلبك! ووقفت السّلطة إلى جنب كعب الأحبار، ودفع أبوذرّ ثمن ذلك. إنّ كعب الأحبار لم يكن ليصل غلى هذا المقام لو لا ما كان له من الوجاهة في حياة عمر، مع أنّه لم يكن أحد من المسلمين يجهل يهوديّته، ولو كان قد اعتنق الإسلام فعلا كما كان يزعم لتخلّى عن التّوراة المحرّفة، لكنّه لم يكتف بالبقاء عليها، بل فتح على النّاس منها سيلا لا تزال آثاره إلى اليوم. وهل نال كعب ذلك المقام إلاّ بدعواه العلم بما في الكتاب الأوّل؟ هذا مع العلم أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صدع فيهم قائلا: أنا مدينة العلم وعليّ بابها. عليّ الذي أشير غليه في القرءان الكريم بقوله تعالى( مَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) ، ألم يكن لديه ما يغني عن إسرائيليات كعب؟ إنّهم لم يكونوا يتوجّهون إلى باب مدينة العلم إلاّ عند الضّرورة الملحّة حيث لا يغني عنهم كعبهم شيئا!!

لم يتخلّ عمر عن اعتقاده بالتّوراة الموجودة عند اليهود، وقد أخبره كعب يوما أنّه يجده فيها، فسأله عمر: تجدني فيها باسمي؟ فقال لا ولكن بصفتك. ولعلّه بهذا القول يريد أن يوهم بشرعيّة خلافة عمر. وبما أنّ القرءان الكريم يصرّح بوجود اسم

____________________

(١) البداية والنهاية ابن كثير، ج ٨ ص ١٠٩.

١٧٩

النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصفاته:( النّبِيّ الْأُمّيّ الّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التّورَاةِ... ) فلم تأخّر كعب ولم يسلم على عهد رسول الله؟ ألا يكون كلام كعب منطويا على شيء من الكيد اليهودي؟

ومن حقّ المسلم أن يتساءل عن سرّ موافقة اعتقادات المسلمين لاعتقادات أهل الكتاب في ما يخصّ التّوحيد بأقسامه، وعصمة الأنبياء والقيامة، وأشياء من هذا القبيل ممّا يتعارض قطعا مع ما جاء به القرءان الكريم. ومن المهمّ أيضا أن يدرك كيف تسرّب التيّار المشكّك الذي يستند إلى الآيات المتشابهات، ونقل أخبار الكتاب الأوّل على لسان أبي هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن عمر، ويتساءل عن مدى شرعيّة وجود تميم الدّاريّ وكعب الأحبار في حاضرة الخلافة الإسلاميّة وهما يرويان من الإسرائيليّات ما يروق لهما في المسجد النّبوي نفسه، بينما كان الحصار الفكريّ مضروبا على أهل بدر وأحد يمنعهم من رواية الحديث. وعلى كلّ حال هذا أمر لا يتمّ إلاّ في ظل تحرّر فكريّ من التعصّب المقيت، وصمود في وجه المتلبّسين بالدّين الذين يدافعون عن اليهوديّة المحرّفة المتستّرة بلباس الإسلام.

وقد فضح العلم كثيرا من مرويّات كعب الأحبار، وهذا وحده كاف للتّنبّه لخطر هذا اليهوديّ على تراث المسلمين، وكفيل بتوجيه الباحثين والمحققين إلى إعادة النّظر فيه بصورة موضوعيّة نزيهة.

لقد كان كعب يحضر مجالس يكون فيها تلميذه أبو هريرة، فربّما حدّث أبو هريرة بشيء ينفرد به، فيسارع كعب الأحبار غلى تصديقه ولا ينكر عليه أحد، وليس بأيدينا اليوم استنكارات صارمة متوجّهة إليه سوى ما كان من أبي ذرّ الذي لا تأخذه في الله لومة لائم بشهادة الفريقين. ولو كان كعب مؤتمنا على الدّين لما واجهه أبو ذرّ رضي الله تعالى عنه بتلك الطّريقة. والمتمعّن في الموقف يفهم من سلوك أبي ذرّرضي‌الله‌عنه خطابا تحذيريّا موجّها إلى المسلمين ينبّههم فيه إلى مسألتين اثنتين، أولاهما انحراف الدّولة حيث أصبح اليهوديّ لديها مكينا أمينا، والثّانية تتمثّل في وجود تيّار تخريبيّ

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

في بحار الأنوار: ٩٨/١٦٨:

عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: إذا أتيت القبر بدأت فأثنيت على الله عز وجل، وصليت على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، واجتهدت في ذلك إن شاء الله، ثم تقول: سلامُ الله وسلام ملائكته فيما تروح وتغدو...

**

المسألة السادسة: من هم المتوسل بهم عند المسلمين

يكاد يكون التوسل والاستشفاع في مذهب أهل البيتعليهم‌السلام ، محصوراً روايةً وعملاً بمحمد وآله المعصومين، صلى الله عليه وعليهم.

ولم أجد في سيرة أئمتناعليهم‌السلام ، ولا في سلوك المتشرعين من أصحابهم وشيعتهم ذكراً للتوسل بأحد غير المعصومينعليهم‌السلام ! وإن وجد فهو توسلٌ بهم تبعاً للمعصومين أو في موارد خاصة.

نعم ورد في عدد من الأدعية عن أهل البيتعليهم‌السلام تعليم التوسل بالملائكة المقربين والأنبياء السابقين، وكتب الله المنزلة، وعباده الصالحين، والأعمال الصالحة..

ففي مصباح المتهجد/٣٥٨:

اللهم إني أتقرب اليك بجودك وكرمك، وأتشفع اليك بمحمد عبدك ورسولك، وأتوسل اليك بملائكتك المقربين، وأنبيائك المرسلين، أن تقيلني عثرتي، وتستر علي ذنوبي، وتغفرها لي، وتقبلني بقضاء حاجتي، ولا تعذبني بقبيح كان مني.

يا أهل التقوى وأهل المغفرة، يا بر ياكريم، أنت أبر بي من أبي وأمي، ومن نفسي، ومن الناس أجمعين، بي اليك فاقة وفقر، وأنت غني عني...

وفي مصباح المتهجد/٣٠٢:

روى ابراهيم بن عمر الصنعاني، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: للأمر المخوف العظيم

٢٨١

تصلي ركعتين، وهي التي كانت الزهراءعليها‌السلام تصليها، تقرأ في الأولى الحمد، وقل هو الله أحد خمسين مرة، وفي الثانية مثل ذلك، فإذا سلمت صليت على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثم ترفع يديك وتقول:

اللهم إني أتوجه بهم اليك وأتوسل اليك بحقهم العظيم الذي لا يعلم كنهه سواك وبحق من حقه عندك عظيم، وبأسمائك الحسنى وكلماتك التامات، التي أمرتني أن أدعوك بها.

وأسألك باسمك العظيم الذي أمرت ابراهيمعليه‌السلام أن يدعو به الطير فأجابته.

وباسمك العظيم الذي قلت للنار كوني برداً وسلاماً على ابراهيم فكانت.

وبأحب أسمائك اليك، وأشرفها عندك، وأعظمها لديك، وأسرعها إجابة، وأنجحها طلبة، وبما أنت أهله ومستحقه ومستوجبه...

وأسألك بكتبك التي أنزلتها على أنبيائك ورسلك صلواتك عليهم أجمعين من التوراة والانجيل والقرآن العظيم، من أولها الى آخرها، فإن فيها اسمك الأعظم. وبما فيها من أسمائك العظمى أتقرب اليك.

التوسل بغير المعصومين عند السنيين

سيرة أئمة المذاهب السنية وسلوك أتباعهم حافلةٌ بالتوسل بمن يعتقدون صلاحه من شيوخ العلم والتصوف.

وحتى الحنابلة الذين يدعي ابن تيمية الانتساب اليهم ويشن باسمهم حملة ضد التوسل والاستشفاع ويكفر بهم المسلمين.. يعتقدون بالتوسل!!

فقد ثبت عن إمامهم أحمد وكبار متقدميهم ومتأخريهم، أنهم كانوا يزورون القبور ويتوسلون الى الله تعالى بأصحابها!!

وقد بنوا على قبر أحمد بن حنبل مسجداً وقبة! وجعلوه مزاراً يصلون عنده ويتمسحون به ويتوسلون به!!

٢٨٢

ففي وفيات الأعيان لابن خلكان: ١/٦٤:

أحمد بن حنبل... توفي ضحوة الجمعه لثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول.. ودفن بمقبرة باب حرب، وباب حرب منسوب الى حرب بن عبد الله أحد أصحاب أبي جعفر المنصور، والى حرب هذا تنسب المحلة المعروفة بالحربية، وقبر أحمد بن حنبل مشهور بها يزار.

وفي مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي/٤٥٤:

حدثني أبو بكر بن مكارم بن أبي يعلى الحربي وكان شيخاً صالحاً قال: كان قد جاء في بعض السنين مطرٌ كثير جداً قبل دخول رمضان بأيام، فنمت ليلة في رمضان فأريت في منامي كأني قد جئت على عادتي الى قبر الإمام أحمد بن حنبل أزور، فرأيت قبره قد التصق بالأرض حتى بقي بينه وبين الأرض مقدار ساف أو سافين، فقلت: إنما تم هذا علي قبر الإمام أحمد من كثرة الغيث!

فسمعته من القبر وهو يقول: لا، بل هذا من هيبة الحق عز وجل، لأنه عز وجل قد زارني!! فسألته عن سر زيارته إياي في كل عام فقال عز وجل: يا أحمد، لأنك نصر ت كلامي فهو ينشر ويتلى في المحاريب.فأقبلت على لحده أقبله ثم قلت: يا سيدي ما السر في أنه لا يقبل قبر إلا قبرك؟ فقال لي: يا بني، ليس هذا كرامة لي، ولكن هذا كرامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم! لأن معي شعرات من شعره!!

ألا ومن يحبني يزورني في شهر رمضان! قال ذلك مرتين!!

وفي طبقات الحنابلة لأبي يعلى: ٢/١٨٦:

سمعت رزق الله يقول: زرت قبر الإمام أحمد صحبة القاضي الشريف أبو علي فرأيته يقبل رجل القبر! فقلت له: في هذا أثر؟

قال لي: أحمد في نفسي شيء عظيم، وما أظن أن الله تعالى يؤاخذني بهذا!!

وفي تاريخ بغداد للخطيب: ٤/٤٢٣:

عن أبي الفرج الهندباني يقول: كنت أزور قبر أحمد بن حنبل فتركته مدة، فرأيت

٢٨٣

في المنام قائلاً يقول لي: لم تركت زيارة إمام السنة!!

ورواه ابن الجوزي في مناقب الإمام أحمد/٤٨١

وفي رحلة ابن بطوطة: ١/٢٢٠:

قبور الخلفاء ببغداد وقبور بعض العلماء والصالحين بها... وبقرب الرصافة قبر الإمام أبي حنيفة، وعليه قبة عظيمة وزاوية فيها الطعام للوارد والصادر، وليس بمدينة بغداد اليوم زاوية يطعم الطعام فيها ماعدا هذه الزاوية.

وبالقرب منها قبر الإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل، ولا قبة عليه.. ويذكر أنها بنيت على قبره مراراً فتهدمت بقدرة الله تعالى.

وقبره عند أهل بغداد معظم، وأكثرهم على مذهبه، وبالقرب منه قبر أبي بكر الشبلي من أئمة المتصوفة.

وفي تاريخ الإسلام للذهبي: ٣٨/٢٣:

في عام ٥٥٤ غرقت مقبرة الإمام أحمد وخرجت الموتى على وجه الماء وكانت آية عجيبة.

وفي عمدة القاري للعيني: ٥ جزء ٩/٢٤١:

سعيد العلائي قال: رأيت في كلام أحمد بن حنبل.. أن الإمام أحمد سئل عن تقبيل قبر النبي ( ص ) وتقبيل منبره، فقال: لا بأس بذلك.

قال فأريناه للشيخ تقي الدين بن تيمية، فصار يتعجب من ذلك ويقول: عجبت! أحمد عندي جليل، يقول هذا الكلام!

وأي عجب.. وقد روينا عن الإمام أحمد أنه غسل قميصاً للشافعي وشرب الماء الذي غسله به!!

وفي تاريخ الإسلام للذهبي: ١٤/٣٣٥:

وقال ابن خزيمة: هل كان ابن حنبل إلا غلاماً من غلمان الشافعي؟

٢٨٤

وفي الاعتصام للشاطبي: ١/٢٢٦:

والجواب عن هذا ( قول أحمد بن حنبل ) أنه كلام مجتهد يحتمل اجتهاده الخطأ والصواب.. وقد كان ( ابن حنبل ) يميل الى نفي القياس، ولذلك قال: مازلنا نلعن أهل الرأي ويلعنوننا، حتى جاء الشافعي فخرج بيننا..

وفي الغدير للأميني: ٥/١٩٤:

قال ابن حجر في ( الخيرات الحسان ) في مناقب الإمام أبي حنيفة في الفصل الخامس والعشرين: إن الإمام الشافعي أيام كان هو ببغداد كان يتوسل بالامام أبي حنيفة ويجيء الى ضريحه يزوره فيسلم عليه، ثم يتوسل الى الله تعالى به في قضاء حاجاته، وقال: قد ثبت أن الإمام أحمد توسل بالامام الشافعي حتى تعجب ابنه عبد الله بن الإمام أحمد، فقال له أبوه: إن الشافعي كالشمس للناس وكالعافية للبدن. ولما بلغ الإمام الشافعي: أن أهل المغرب يتوسلون بالامام مالك لم ينكر عليهم.

وفي الغدير: ٥/١٩٨:

قال ابن الجوزي في المنتظم: ١٠/٢٨٣:

وفي أوائل جمادي الآخرة سنة ٥٧٤ تقدم أمير المؤمنين بعمل لوح ينصب علي قبر الإمام أحمد بن حنبل، فعمل ونقضت السترة جميعها وبنيت بآجر مقطوع جديدة، وبني له جانبان، ووقع اللوح الجديد وفي رأسه مكتوب: هذا ما أمر بعمله سيدنا ومولانا المستضيء بأمر الله أمير المؤمنين.

وفي وسطه: هذا قبر تاج السنة وحيد الأمة العالي الهمة العالم العابد الفقيه الزاهد الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيبانيرحمه‌الله . وقد كتب تاريخ وفاته وآية الكرسي حول ذلك.

ووعدت بالجلوس في جامع المنصور، فتكلمت يوم الاثنين سادس عشر جمادي الأولى، فبات في الجامع خلق كثير وختمت ختمات، واجتمع للمجلس

٢٨٥

بكرة ما حزر بمائة ألف، وتاب خلق كثير وقطعت شعور، ثم نزلت فمضيت الى زيارة قبر أحمد، فتبعني من حزر بخمسة آلاف.

وفي الغدير للأميني: ٥/١٩٩:

الحافظ ابن عساكر في تاريخه: ٢/٤٦:

عن أبي بكر بن أنزويه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام ومعه أحمد بن حنبل، فقلت: يا رسول الله من هذا؟

فقال: هذا أحمد ولي الله وولي رسول الله على الحقيقة، وأنفق على الحديث ألف دينار.

ثم قال: من يزوره غفر الله له، ومن يبغض أحمد فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله.

وفي النهاية لابن كثير: ١٢/٣٢٣:

وفي صفر سنة ٥٤٢ رأى رجل في المنام قائلاً يقول له: من زار أحمد بن حنبل غفر له. قال: فلم يبق خاصٌ ولا عامٌ إلا زاره وعقدت يومئذٍ ثم مجلساً، فاجتمع فيه ألوفٌ من الناس!!

التوسل الواسع في صلاة الاستسقاء

ورد عندنا وعندهم الحث على التوسل في صلاة الاستسقاء بالأخيار والضعفاء والمرضى، ومن ذلك:ما قاله النووي في المجموع: ٥/٦٦:

قال في الأم: ولا آمر باخراج البهائم. وقال أبو اسحق: استحب اخراج البهائم، لعل الله تعالى يرحمها، لما روي أن سليمان صلى الله عليه وسلم خرج ليستسقي فرأى نملة تستسقي، فقال ارجعوا فإن الله تعالى سقاكم بغيركم.

ويكره إخراج الكفار للاستسقاء لأنهم أعداء الله فلا يجوز أن يتوسل بهم اليه، فإن حضروا وتميزوا لم يمنعوا، لأنهم جاؤوا في طلب الرزق.

٢٨٦

وقال في: ٥/٧٠:

يستحب أن يستسقى بالخيار من أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأهل الصلاح من غيرهم، وبالشيوخ والضعفاء والصبيان والعجائز وغير ذوات الهيئات من النساء، ودليله ما ذكره المصنف.

وأيضاً ففي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟ .

قال القاضي حسين والروياني والرافعي وآخرون من أصحابنا: ويستحب أن يذكر كل واحد من القوم في نفسه ما فعله من الطاعة الجليلة، ويتشفع به ويتوسل.

واستدلوا بحديث ابن عمر في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة أصحاب الغار الثلاثة الذين أووا الى غار فأطبقت عليهم صخرة، فتوسل كل واحد بصالح عمله، فأزال الله عنهم بسؤال كل واحد ثلثاً من الصخرة وخرجوا يمشون. انتهى.

فهذه فتاوى من فقهاء المذاهب الأربعة، تنص على التوسل بالصالحين والضعفاء والمرضى والأعمال والحيوانات، وتنص على أنه توسل واستشفاع، وهو أوسع من التوسل المتبادر الى أذهاننا بالنبي وأهل بيته صلى الله عليه وعليهم.

المسألة السابعة: التوسل العملي بالأعمال الصالحة

في بحار الأنوار: ٧٤/٣٩٨:

عن أمالي المفيد، عن أحمد بن الوليد، عن أبيه، عن الصفار، عن ابن عيسى، عن ابن محبوب، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسينعليهم‌السلام قال: قال أمير المؤمنينعليه‌السلام :

أفضل ما توسل به المتوسلون الايمان بالله، ورسوله، والجهاد في سبيل الله، وكلمة الاخلاص فإنها الفطرة، وإقام الصلاة فانها الملة، وإيتاء الزكاة فإنها من فرائض

٢٨٧

الله، وصيام شهر رمضان فإنه جنة من عذاب الله، وحج البيت فإنه ميقات للدين ومدحضة للذنب، وصلة الرحم فإنها مثراة للمال ومنسأة للاجل، والصدقة في السر فإنها تذهب الخطيئة وتطفيء غضب الرب، وصنايع المعروف فإنها تدفع ميتة السوء، وتقي مصارع الهوان.ومثله في: ٩٣/١٧٧

ونحوه في: ٧٤/٢٨٩، عن تحف العقول، قال: خطبتهعليه‌السلام المعروفة بالديباج:

الحمد لله فاطر الخلق، وخالق الاصباح، ومنشر الموتى، وباعث من في القبور، وأشهد أن لا الَه إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله عباد الله، إن أفضل ماتوسل به المتوسلون الى الله جل ذكره: الايمان بالله وبرسله وما جاءت به من عند الله... الحديث، كما تقدم بتفاوت.

ورواه في: ٧١/٤١٠، عن علل الشرائع عن أبي، عن سعد، عن ابراهيم بن مهزيار، عن أخيه علي، عن حماد عن ابراهيم بن عمر، رفعه الى أمير المؤمنينعليه‌السلام قال: إن أفضل ما توسل به المتوسلون...

ورواه في: ٦٢/٣٨٦، عن أمالي المفيد، عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، بتفاوت وزيادة في آخره، قال ( ألا فاصدقوا فإن الله مع من صدق، وجانبوا الكذب فإن الكذب مجانب الايمان، ألا وإن الصادق على شفا منجاة وكرامة، ألا وإن الكاذب على شفا مخزاة وهلكة، ألا وقولوا خيراً تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله، وأدوا الأمانة الى من ائتمنكم، وصلوا من قطعكم، وعودوا بالفضل عليهم. انتهى.

ولكن التوسل بالأعمال الصالحة لا ينفي التوسل بالنبي وآلهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد ثبت أنه لا يقبل عملٌ لمسلم إلا بولايتهم، وأنه لا يرفع دعاء إلا بالصلاة عليهم، وهو التوسل بهم! وقد روي ذلك عندنا في مصادر الجميع!

٢٨٨

الفصل الثاني

التوسل الى الله في مصادر السنيين

١ - تعليم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله التوسل به الى الله تعالى

روى الترمذي: ٥/٢٢٩ برقم ٣٦٤٩:

حدثنا محمود بن غيلان، أخبرنا عثمان بن عمر، أخبرنا شعبة، عن أبي جعفر، عن عمارة بن خزيمة بن ثابت، عن عثمان بن حنيف: أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أدع الله أن يعافيني.

قال: إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك.

قال: فادعه.

قال فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعوه بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه اليك بنبيك محمد نبي الرحمة. يا محمد إني توجهت بك الى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي، اللهم فشفعه في.

هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي جعفر، وهو غير الخطمي. انتهى.

٢٨٩

ورواه ابن ماجة في: ١/٤٤١، وقال: قال أبو اسحاق هذا حديث صحيح. انتهى.

ورواه أحمد: ٤/١٣٨، بروايتين.

ورواه الحاكم في المستدرك: ١/٣١٣، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. انتهى.

ورواه في: ١/٥١٩، بسندين آخرين، وقال بعدهما: هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه.

ورواه في: ١/٥٢٦، وقال: تابعه شبيب بن سعيد الحبطي عن روح بن القاسم زيادات في المتن والاسناد والقول...

وقال أيضاً: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، وإنما قدمت حديث عون بن عمارة لأن من رسمنا أن نقدم العالي من الأسانيد.

ورواه الطبراني في كتاب الدعاء/٣٢٠، وما بعدها بعدة طرق، وكذا في المعجم الكبير: ٩/ ٣١، والصغير: ١/١٨٣، وصححه.

ورواه في مجمع الزوائد: ٢/٢٧٩، وقال:

قلت: روى الترمذي وابن ماجة طرفاً من آخره خالياً عن القصة، وقد قال الطبراني عقبه: والحديث صحيح، بعد ذكر طرقه التي روى بها.

ورواه في كنز العمال: ٢/١٨١، و٦/٥٢١ ( ت، هـ، ك، عن عثمان بن حنيف ). ( حم ت: حسن صحيح غريب هك وابن السني عن عثمان بن حنيف ) ورواه ابن خزيمة في صحيحه: ٢/٢٢٥ وروى الطبراني تطبيق عثمان بن حنيف للحديث بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كما سيأتي.

وفي السنن الكبرى للنسائي: ٦/١٦٨:

أخبرنا محمد بن معمر قال، حدثنا حبان قال، حدثنا حماد قال، أخبرنا جعفر عن عمارة بن خزيمة، عن عثمان بن حنيف أن رجلاً أعمي أتى النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني رجل أعمى، فادع الله أن يشفيني، قال بل أدعك، قال: أدع الله لي مرتين أو ثلاثاً.

٢٩٠

قال: توضأ ثم صل ركعتين ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه اليك بنبيي محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك الى الله أن يقضي حاجتي، أو حاجتي الى فلان، أو حاجتي في كذا وكذا. اللهم شفع في نبيي وشفعني في نفسي. انتهى.

ثم رواه النسائي بروايتين أخريتين.

٢ - توسل عمر بن الخطاب بالعباس عم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله

روى الحاكم في المستدرك: ٣/٣٣٤:

أخبرنا أبو زكريا يحيى بن محمد العنبري، ثنا الحسن بن علي بن نصر، ثنا الزبير بن بكار، حدثني ساعدة بن عبيد الله المزني، عن داود بن عطاء المدني، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر أنه قال: استسقى عمر بن الخطاب عام الرمادة بالعباس بن عبد المطلب فقال: اللهم هذا عم نبيك العباس نتوجه اليك به فاسقنا، فما برحوا حتى سقاهم الله. قال فخطب عمر الناس فقال:

أيها الناس إن رسول الله كان يرى للعباس مايرى الولد لوالده، يعظمه ويفخمه ويبر قسمه، فاقتدوا أيها الناس برسول الله في عمه العباس، واتخذوه وسيلة الى الله عز وجل فيما نزل بكم! انتهى. وروته عامة مصادرهم.

٣ - توسل الناس في المحشر واستشفاعهم بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله

روى ذلك البخاري في عدة مواضع، في صحيحه: ٥/١٤٧:

عن أنسرضي‌الله‌عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون لو استشفعنا الى ربنا فيأتون آدم فيقولون أنت أبو الناس خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء، فاشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا. فيقول: لست هناكم، ويذكر ذنبه فيستحي ائتوا نوحاً فإنه أول رسول بعثه الله الى أهل الأرض، فيأتونه فيقول لست هناكم...

٢٩١

ائتوا ابراهيم... ائتوا موسى... ائتوا عيسى... ائتوا محمداً عبداً غفر الله له ماتقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتوني فأنطلق حتى أستأذن... الخ.

ونحوه بتفاوت في: ٧ /٢٠٣، و: ٨/١٧٢ و١٨٣، وروته عامة مصادرهم.

٤ - ما ورد عندهم من الدعاء للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بالوسيلة

قال البخاري في صحيحه: ١/١٥٢:

عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته.. حلَّت له شفاعتي يوم القيامة.

ورواه البخاري في: ٥/٢٢٨، وابن ماجة: ١/٢٣٩، وأبو داود: ١/ ١٢٩، والنسائي: ٢/٢٧، والترمذي: ١/ ١٣٦، والبيهقي في السنن: ١/٤١٠، والهيثمي في الزوائد: ١/٣٣٣ و: ١٠/١١٢، وفي كنز العمال: ٢/٨٠ و: ٧/٦٩٨ و٧٠٣... وغيرها.

هذه هي صيغة البخاري، التي لم يرو في صحيحه غيرها، وهي تريد الايحاء بأن الدعاء بالوسيلة دعاءٌ مستقل يستحب أن يدعو به المسلمون عند سماع الأذان، ولا علاقة لها بصيغة الصلاة على النبي، ولا علاقة لها بآله!!

وقد تبع البخاري محدثون آخرون كما رأيت، ثم تبعهم الفقهاء فأفتوا بهذا الدعاء فصار سنةً للسنيين في عملهم ومساجدهم!

ولكن وردت لهذا الدعاء صيغةٌ أخرى صحيحةٌ عندهم أيضاً، تقول إن هذا الدعاء جزءٌ من صيغة الصلاة على النبي التي علمها للمسلمين، وأمرهم أن يصلوا على آله معه، وأن يختموها بالدعاء له بالوسيلة!!

وفي بعضها أن الدعاء بالوسيلة مقدمةٌ للصلاة عليه وآله!

فلماذا صار دعاء الوسيلة عندهم دعاءً مستقلاً للرسول وحده، بدون آله!!

السبب عندهم: أن الصلاة على آل النبي معه والدعاء لهم معه، أمرٌ ثقيلٌ على

٢٩٢

الخلافة القرشية، التي فرضت عليهم العزل السياسي والاجتماعي والاقتصادي، لذلك اختار الرواة بدله الدعاء للنبي بالوسيلة، وجعلوه أمراً مستقلاً خاصاً بالنبي دون آله، مماشاةً للخلافة القرشية!!

والطريف أنهم رووه عن جابر بن عبد الله الأنصاريرحمه‌الله ، المعروف بأحاديثه القوية في وجوب ولاية أهل البيتعليهم‌السلام ، حتى أنهم رووا عنه أنه كان في زمن معاوية يتوكأ على عصاه ويدور في سكك المدينة ويبلغ المسلمين ما قاله النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في من أبغض عليا وأهل البيت النبوي الطاهرين!

ويلاحظ أن الذي رواه عن جابر عند البخاري هو محمد بن المنكدر، المبغض لأهل البيتعليهم‌السلام !!

ولك أن تقارن بين رواية البخاري، وبين رواية مسلم وغيره لهذا الدعاء!!

قال مسلم في صحيحه: ٢/٤:

عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاةً صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلةٌ في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة!

ورواه النسائي: ٢/٢٥، وأبو داود: ١/١٢٨، والترمذي: ٥/٢٤٧، والبيهقي سننه: ١/٤٠٩، والهيثمي في مجمع الزوائد: ١/٣٣٢.

ورواه أحمد: ٢/١٦٧، ونحوه في: ٢/٢٦٥، وقال ( من صلى عليَّ ليس في البخاري )!!

وأفتى به النووي في المجموع: ٣/١١٦:

وقدمه في تلخيص الحبير: ٣ /٢٠٣، على رواية البخاري فقال:

( قوله ) من المحبوبات أن يصلي المؤذن وسامعه على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان ويقول: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً

٢٩٣

الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته. أخرجه مسلم وغيره من حديث عبد الله بن عمرو أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليَّ، الحديث.

وأخرج البخاري وأصحاب السنن من حديث جابر مرفوعاً من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة.. الحديث، لكن ليس فيه والدرجة الرفيعة. انتهى.

وقال السيوطي في الدر المنثور: ٥/٢١٩:

وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعودرضي‌الله‌عنه قال: قلنا يا رسول الله قد عرفنا كيف السلام عليك، فكيف نصلي عليك؟

قال قولوا: اللهم صل على محمد، وأبلغه درجة الوسيلة من الجنة. اللهم اجعل في المصطفين محبته، وفي المقربين مودته، وفي عليين ذكره وداره، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على ابراهيم وعلى آل ابراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد. انتهى.

فقد نصت هذه الأحاديث الصحيحة عندهم على أن الدعاء لهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالوسيلة إنما هو جزءٌ من صيغة الصلاة الشرعية عليه، صلى الله عليه وعليهم، فهل يعقل أن يكون أمر باضافة آله معه في الصلاة عليه، ثم أفرد نفسه عنهم في الدعاء!!

وبذلك يترحج أن يكون أصل النص النبوي لهذا الدعاء ما روته مصادرنا، وفيه ذكر أهل بيته معه، كما سيأتي.

ماهي الوسيلة التي ورد الدعاء بها للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

ذكرت بعض المصادر السنية أنها درجةٌ ومنزلةٌ في الجنة، تكون لشخص واحد من الخلق، ولذا طلب من المسلمين أن يدعوا له ليكون هو ذلك الشخص.

٢٩٤

ولكن ذلك يشبه كلام التوراة، فكأن درجة الوسيلة موضوع قرعة أو مسابقة بين الأنبياء ولم يعلم صاحبها بعد! فالرسول للهصلى‌الله‌عليه‌وآله يرجو أمته أن يدعوا له أن تكون له!

قال مسلم في صحيحه: ٢/٤:

عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليَّ فانه من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشرآ، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لاتنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة! انتهى.

ورواه أبو داود: ١/ ١٢٨، والترمذي: ٥ /٢٤٧، والبيهقي في السنن: ١/٤٠٩ وأحمد: ٢/١٦٧ و١٦٨، وفي: ٢/٢٦٥ و٣٦٥، عن أبي هريرة، والترمذي: ٥/٤٦ ٢، عن كعب عن أبي هريرة. وفي مجمع الزوائد: ١/٣٣٢، عن أبي سعيد الخدري، وأبى هريرة، وفي كنز العمال: ٢/ ٧٩ و١٣٤ و: ٧/٦٩٨ و٧٠٠ و: ١٤/ ٤٠٠ و: ١/٤٨٩ و٤٩٤ و٤٩٧، وفردوس الأخبار: ٥/١٤٧

بينما روت أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام أن أمر الوسيلة مفروغٌ عنه، وهي أعلى مساكن الفردوس، وأنها للنبي وآله، الى جانب مساكن ابراهيم وآله صلى الله عليهم.

ووافقتها بعض مصادر السنيين:

فقد روى ابن مردويه كما في كنز العمال: ١٢/ ١٠٣ و: ١٣/٦٣٩:

عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: في الجنة درجة تدعى الوسيلة، فإذا سألتم الله فسلوا لي الوسيلة.

قالوا: يا رسول الله، من يسكن معك فيها؟

قال: علي وفاطمة والحسن والحسين. انتهى.

وهذه هي الصيغة المعقولة لحديث الوسيلة والدعاء بها للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .. ولكن ذلك ليس في مصلحة الخلافة القرشية!! ولذا تركوا هذه الصيغة ورووا غيرها!!

٢٩٥

أحاديث تفسر الوسيلة في مصادرنا

قال الصدوق في معاني الأخبار/١١٦:

١١٦ - حدثنا أبيرضي‌الله‌عنه قال: حدثنا سعد بن عبدالله قال: حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى قال: حدثنا العباس بن معروف، عن عبدالله بن المغيرة قال: حدثنا أبوحفص العبدي قال: حدثنا أبو هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا سألتم الله لي فسلوه الوسيلة.

فسألنا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن الوسيلة؟

فقال: هي درجتي في الجنة، وهي ألف مرقاة، ما بين المرقاة الى المرقاة حضر الفرس الجواد شهراً، وهي ما بين مرقاة جوهر الى مرقاة زبرجد، الى مرقاة ياقوت، الى مرقاة ذهب، الى مرقاة فضة.

فيؤتى بها يوم القيامة حتى تنصب مع درجة النبيين، فهي في درجة النبيين كالقمر بين الكواكب، فلا يبقى يومئذ نبي ولا صديق ولا شهيد إلا قال طوبى لمن كانت هذه الدرجة درجته. فيأتي النداء من عند الله عز وجل يسمع النبيين وجميع الخلق: هذه درجة محمد.

فأقبل أنا يومئذ متزراً بريطة من نور، عليّ تاج الملك، واكليل الكرامة، وعلي بن أبي طالب أمامي، وبيده لوائي وهو لواء الحمد، مكتوب عليه ( لا الَه إلا الله، المفلحون هم الفائزون بالله ). فإذا مررنا بالنبيين قالوا: هذان ملكان مقربان لم نعرفهما ولم نرهما. وإذا مررنا بالملائكة قالوا: نبيين مرسلين، حتى أعلو الدرجة وعلي يتبعني، حتى إذا صرت في أعلى درجة منها وعلي أسفل مني بدرجة، فلا يبقى يومئذ نبي ولا صديق ولا شهيد إلا قال: طوبى لهذين العبدين ما أكرمهما على الله تعالى!

فيأتي النداء من قبل الله عز وجل يسمع النبيين والصديقين والشهداء والمؤمنين: هذا حبيبي محمد وهذا وليي علي، طوبى لمن أحبه، وويل لمن أبغضه وكذب عليه. فلا يبقى يومئذ أحدٌ أحبك يا علي إلا استروح الى هذا الكلام، وابياضَّ وجهه

٢٩٦

وفرح قلبه، ولا يبقى أحدٌ ممن عاداك أو نصب لك حرباً أوجحد لك حقاً، إلا اسود وجهه واضطربت قدماه.

فبينا أنا كذلك إذا ملكان قد أقبلا إليّ، أما أحدهما فرضوان خازن الجنة، وأما الآخر فمالك خازن النار، فيدنو رضوان فيقول: السلام عليك يا أحمد.

فأقول: السلام عليك أيها الملك، من أنت؟ فما أحسن وجهك الطيب وأطيب ريحك!

فيقول: أنا رضوان خازن الجنة، وهذه مفاتيح الجنة بعث بها اليك رب العزة فخذها يا أحمد.

فأقول: قد قبلت ذلك من ربي، فله الحمد على ما فضلني به، ادفعها الى أخي علي بن أبي طالب، فيدفع الى علي.

ثم يرجع رضوان فيدنو مالك فيقول: السلام عليك يا أحمد.

فأقول: عليك السلام أيها الملك، فما أقبح وجهك وأنكر رؤيتك، من أنت؟!

فيقول: أنا مالك خازن النار، وهذه مقاليد النار بعث بها اليك رب العزة فخذها يا أحمد.

فأقول: قد قبلت ذلك من ربي، فله الحمد على ما فضلني به، ادفعها الى أخي علي بن أبي طالب، فيدفعها اليه ثم يرجع مالك.

فيقبل علي ومعه مفاتيح الجنة ومقاليد النار، حتى يقف بحجزة جهنم وقد تطاير شررها وعلا زفيرها واشتد حرها، وعلي آخذٌ بزمامها فيقول له جهنم: جزني يا علي فقد أطفأ نورك لهبي، فيقول لها علي: قري يا جهنم: خذي هذا واتركي هذا! خذي عدوي واتركي وليي.

فَلَجهنم يومئذٍ أشد مطاوعة لعلي من غلام أحدكم لصاحبه، فإن شاء يذهبها يمنة، وإن شاء يذهبها يسرة، ولجهنم يومئذٍ أشد مطاوعة لعلي فيما يأمرها به من جميع الخلائق. انتهى.

٢٩٧

ورواه في روضة الواعظين/١١٣، وبشارة المصطفى/٢١، وتفسير القمي: ٢/٣٢٤، وفي آخره ( وذلك أن علياً يومئذٍ قسيم الجنة والنار ) وفي بصائر الدرجات/٤١٦:

خطبة الوسيلة من كتاب الكافي

روى الكلينيرحمه‌الله خطبة عظيمة خطبها أمير المؤمنينعليه‌السلام ، تسمى خطبة الوسيلة، تتضمن تفصيلات عن درجة الوسيلة في الجنة لمحمد وآله صلى الله عليه وعليهم.

ونظراً لأهميتها وفوائدها أوردنا منها أكثر من محل الشاهد.

قالرحمه‌الله في الكافي: ٨/١٨:

خطبة لأمير المؤمنينعليه‌السلام ، وهي خطبة الوسيلة:

محمد بن علي بن معمر، عن محمد بن علي بن عكاية التميمي، عن الحسين بن النضر الفهري، عن أبي عمرو الأوزاعي، عن عمرو بن شمر، عن جابر بن يزيد قال: دخلت على أبي جعفر فقلت: يا بن رسول الله قد أرمضني اختلاف الشيعة في مذاهبها!

فقال: يا جابر ألم أقفك على معنى اختلافهم من أين اختلفوا، ومن أي جهة تفرقوا؟ قلت: بلى يا ابن رسول الله.

قال: فلا تختلف إذا اختلفوا يا جابر، إن الجاحد لصاحب الزمان كالجاحد لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في أيامه، يا جابر إسمع وع.

قلت: إذا شئت.

قال: اسمع وع وبلغ حيث انتهت بك راحلتك: إن أمير المؤمنين خطب الناس بالمدينة بعد سبعة أيام من وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذلك حين فرغ من جمع القرآن، وتأليفه فقال:

الحمد لله الذي منع الأوهام أن تنال إلا وجوده، وحجب العقول أن تتخيل ذاته، لامتناعها من الشبه والتشاكل، بل هو الذي لا يتفاوت في ذاته، ولا يتبعض بتجزئة

٢٩٨

العدد في كماله، فارق الأشياء لا على اختلاف الأماكن، ويكون فيها لا على وجه الممازجة، وعلمها لا بأداة، لا يكون العلم إلا بها، وليس بينه وبين معلومه علمٌ غيره به كان عالماً بمعلومه.

إن قيل كانَ، فعلى تأويل أزلية الوجود، وإن قيل لم يزل، فعلى تأويل نفي العدم.

فسبحانه وتعالى عن قول من عبد سواه، واتخذ إلَها غيره علواً كبيرا.

نحمده بالحمد الذي ارتضاه من خلقه، وأوجب قبوله على نفسه، وأشهد أن لا الَه إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، شهادتان ترفعان القول وتضاعفان العمل، خف ميزان ترفعان منه، وثقل ميزان توضعان فيه، وبهما الفوز بالجنة والنجاة من النار، والجواز على الصراط، وبالشهادة تدخلون الجنة وبالصلاة تنالون الرحمة.

أكثروا من الصلاة على نبيكم: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما.

أيها الناس: إنه لا شرف أعلى من الإسلام، ولا كرم أعز من التقوى، ولا معقل أحرز من الورع، ولا شفيع أنجع من التوبة، ولا لباس أجمل من العافية، ولا وقاية أمنع من السلامة، ولا مال أذهب بالفاقة من الرضى بالقناعة، ولا كنز أغنى من القنوع ومن أقتصر على بلغة الكفاف فقد انتظم الراحة، وتبوء خفض الدعة.

والرغبة مفتاح التعب، والاحتكار مطية النصب، والحسد آفة الدين، والحرص داع الى التقحم في الذنوب، وهو داع للحرمان، والبغي سائق الى الحين، والشره جامع لمساوي العيوب.

رب طمع خائب وأمل كاذب، ورجاء يؤدي الى الحرمان، وتجارة تؤول الى الخسران.

ألا ومن تورط في الأمور غير ناظر في العواقب، فقد تعرض لمفضحات النوائب، وبئست القلادة قلادة الذنب للمؤمن.

٢٩٩

أيها الناس: إنه لا كنز أنفع من العلم، ولا عز أرفع من الحلم، ولا حسب أبلغ من الأدب، ولا نصب أوضع من الغضب، ولا جمال أزين من العقل، ولا سوءة أسوأ من الكذ ب، ولا حافظ أحفظ من الصمت، ولا غائب أقرب من الموت.

أيها الناس: إنه من نظر في عيب نفسه اشتغل عن عيب غيره، ومن رضي برزق الله لم يأسف على ما في يد غيره، ومن سل سيف البغي قتل به، ومن حفر لأخيه بئراً وقع فيها، ومن هتك حجاب غيره انكشفت عورات بيته، ومن نسي زلته استعظم زلل غيره، ومن أعجب برأيه ضل، ومن استغنى بعقله زل، ومن تكبر على الناس ذل، ومن سفه على الناس شتم، ومن خالط الأنذال حقر، ومن حمل ما لا يطيق عجز.

أيها الناس: إنه لا مال أعود من العقل، ولا فقر أشد من الجهل، ولا واعظ أبلغ من النصح، ولا عقل كالتدبير، ولا عبادة كالتفكر، ولا مظاهرة أوثق من المشاورة، ولا وحشة أشد من العجب، ولا ورع كالكف عن المحارم، ولا حلم كالصبر والصمت.

أيها الناس: في الانسان عشر خصال يظهرها لسانه: شاهدٌ يخبر عن الضمير، حاكمٌ يفصل بين الخطاب، وناطقٌ يرد به الجواب، وشافعٌ يدرك به الحاجة، وواصفٌ يعرف به الأشياء، وأميرٌ يأمر بالحسن، وواعظٌ ينهى عن القبيح، ومعزٌ تسكن به الأحزان، وحاضرٌ تجلى به الضغائن، ومونقٌ تلتذ به الأسماع.

أيها الناس: إنه لا خير في الصمت عن الحكم، كما أنه لا خير في القول بالجهل. واعلموا أيها الناس إنه من لم يملك لسانه يندم، ومن لا يعلم يجهل، ومن لا يتحلم لا يحلم، ومن لا يرتدع لا يعقل، ومن لا يعقل يهن، ومن يهن لا يوقر، ومن لا يوقر يتوبخ، ومن يكتسب مالاً من غير حقه يصرفه في غير أجره، ومن لا يدع وهو محمود يدع وهو مذموم، ومن لم يعط قاعداً منع قائماً، ومن يطلب العز بغير حق يذل، ومن يغلب بالجور يغلب، ومن عاند الحق لزمه الوهن، ومن تفقه وقر، ومن تكبر حقر، ومن لا يحسن لا يحمد.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564