الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب10%

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب مؤلف:
الناشر: انتشارات دارالتفسير
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 564

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب
  • البداية
  • السابق
  • 564 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 91117 / تحميل: 7615
الحجم الحجم الحجم
الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب

مؤلف:
الناشر: انتشارات دارالتفسير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

وعليه نزل الكتاب المهيمن على الكتب كلّها، وله شرعت أفضل وأوسع شريعة، ونصبت أشرف قبلة؛ إلاّ أنّنا مع ذلك نراوح في أتعس وضعيّة، حيث يحلم كثير من أبنائنا باسترجاع ماض بعيد، إثمه أكبر من نفعه، ويتّهمون كلّ صوت يشخّص الدّاء ويرشد إلى أنجع الدّواء. يرسمون حول ذلك الماضي أسوارا من الجمود والتطرّف تجعل الحديث عنه مساسا بالمقدّسات، ويطفّفون الكيل فيكتالون بمكيالين، ويحكمون في شريعة واحدة للأمثال بحكمين مختلفين. فهذا قاتل عمر بن الخطّاب مجوسيّ مع أنّ عمر نفسه شهد للعجم المقيمين بالمدينة أنّهم صلّوا صلاتهم وتكلّموا لسانهم! وذاك ابن ملجم قاتل عليّ بن أبي طالب عليه السلام مجتهد متأوّل مأجور.

والخارج عن أبي بكر مرتدّ حلال الدّم، بينما الخارج عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام مجتهد مأجور مبشّر بالجنّة! ومن انتقد سلوك صحابيّ ما بموضوعيّة وإنصاف فهو زنديق، وأما من سبّ وشتم ولعن عليّ بن أبي طالب عليه السلام فهو ثقة صدوق لا نزاع فيه! تلك ثمار ثقافة الكرسيّ؛ وبالمناسبة إنّه لمن المؤسف حقّا أن يتجاهل المسلمون جيلا بعد جيل أقوال وأفعال ومواقف فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكونها لا تسير في ظلّ ثقافة الكرسيّ، وهم في نفس الوقت يصلّون عليها يوميّا في كلّ صلواتهم فرضا ونفلا!

أضع بين يدي القارئ أخبارا وأحاديث تتعلّق بسيرة عمر بن الخطّاب، وأحاول تحليلها والتّعليق عليها بما يبدو لي منسجما مع المقاييس والمعايير التي دعا إليها القرآن الكريم، وعلى رأسها قول الله تعالى( إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ ) ، وقوله تعالى( وَأَن لّيْسَ لِلْاِنسَانِ إِلّا مَا سَعَى ) . وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكّلت وإليه أنيب.

تنبيه:

ابن أبي الحديد يشترط على نفسه أن ينقل من كتب السنة لا من كتب الشيعة.

قال ابن أبي الحديد: (الفصل الأوّل: فيما ورد من الأخبار والسّير المنقولة من

٢١

أفواه أهل الحديث وكتبهم، لا من كتب الشّيعة ورجالهم. لأنّا مشترطون على أنفسنا ألاّ نحفل بذلك، وجميع ما نورده في هذا الفصل من كتاب أبي بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ في السقيفة وفدك وما وقع من الاختلاف والاضطراب عقب وفاةالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأبو بكر الجوهري هذا عالم محدّث كثير الأدب، ثقة ورع، أثنى عليه المحدثون ورووا عنه مصنفاته)(١) .

وإنّما نبّهت إلى هذا لأنّ في المحدّثين والمؤرّخين من ينسب ابن أبي الحديد إلى التّشيّع، وذلك يؤدّي إلى نقض ما يورده مما يشكل به على مخالفي أهل البيت عليهم السّلام. قال إدوارد فنيك في معرض ذكر ابن أبي الحديد: أما ابن أبي الحديد فهو عبد الحميد بن هبة الله المدائني الشيعي المعتزليّ الكاتب المحسن الشّاعر المجيد؛ له كتاب الفلك الدائر على المثل السائر، قيل إنّه صنّفه في ثلاثة عشر يوما، وله أيضا ديوان شعر وغيرهما كثير(٢) .

أقول: ولا يلام إدورد فنيك على هذا الخطا إذ كان شائعا بين المحدّثين والرّجاليّين والمؤرّخين؛ وفي اعتقادي أنّه خطأ متعمّد يرمي إلى سلب الحجّيّة عن كلّ ما يستدلّ به ابن أبي الحديد عند مناقشة الأحاديث والوقائع، وإلاّ فإنّه هو نفسه يردّ على علماء الشّيعة في أكثر من موطن في شرح نهج البلاغة، ويتتبّع عبارات الشّريف المرتضى واحدة واحدة قصد تفنيد مضمونها. وهذا الخلط المتعمّد منهم إنّما يقدح في نزاهتهم وأمانتهم، ويلب عنهم صفة الموضوعيّة. فالاختلاف بين الشّيعة والمعتزلة واضح في كلّ شيء، في العقائد والفقه والأصول وغيرها. وترى المعتزلة في الفقه يقلّدون أصحاب المذاهب، وليس شأن الشّيعة الإمامية كذلك. وللمعتزلة رأيهم في قضيّة الإمامة وهو مخالف لما عليه الشّيعة الإماميّة.

____________________

(١) شرح نهج البلاغة: ج ١٦ ص ٢١٠ باب ذكر ما ورد من السير والأخبار في أمر فدك. دار أحياء الكتب العربية ط، ١٩٦٢ م.

(٢) اكتفاء القنوع، ج ١ ص ٣٤٤، اكتفاء القنوع بما هو مطبوع، إدوارد فنديك، صححه السيد محمد علي البيلاوي، دار صادر، بيروت، ١٨٩٦ م.

٢٢

وقد تردّدت عبارة (شيعي معتزلي) في كتاب المغني في الضّعفاء (ج ١ ص ٥٤ وج ٢ ص ٤٦٢) و كتاب ميزان الاعتدال في نقد الرّجال (ج ١ ص ٢٨٠ وج ١ ص ٣٦٩ وج ٥ ص ٢١٧ وج ٦ ص ٥٠٢) وكتاب لسان الميزان (ج ٥ ص ٧٢ وج ٤ ص ٢٨٠ وج ١ ص ٢٦٢ وج ٦ ص ٨٢) وكتاب تاريخ الإسلام للذهبيّ (ج ٢٧ ص ٣٩٨) وكتاب إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون (ج ٣ ص ١٨١).

٢٣

٢٤

الفصل الأول

نسب عمر بن الخطّاب

٢٥

٢٦

نسب عمر

عمر بن الخطّاب عدويّ من قبيلة عديّ، وهي قبيلة شهد عليها أبو سفيان صخر بن حرب أنّها وقبيلة تيم أذلّ حيّ قريش(١) !، وقد اختلفوا في سنّه حين وفاته، وهو ما ينتج الاختلاف في سنة مولده، وسيأتي ذلك مفصّلا في فصل (وفاة عمر).

قال ابن قتيبة: كان الخطّاب بن نفيل من رجال قريش، وأمّه امرأة من فهم، وكانت تحتنفيل فتزوّجها عمرو بن نفيل بعد أبيه (!) فولدت له زيدا، فأمّه أمّ الخطاب، وزيد هذا هوأبو سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أحد العشرة الذين بشّرهم رسول الله بالجنّة. فولد الخطّاب زيد بن الخطّاب وعمر بن الخطّاب(٢) .

إذاً فقد تزوج عمّ عمر بن الخطّاب زوجة أبيه بعد هلاكه، وهو أمر تشمئزّ منه النّفوس بمقتضى الفطرة؛ ويشهد لذلك الوجدان في كلّ الثّقافات والملل دون الرّجوع إلى دين ما. فلا معنى لقول من يقول (كان ذلك في الجاهلية).

قال ابن قتيبة: (وأمّا عمر بن الخطّاب فيكنى أبا حفص وأمّه حنتمة بنت هشام بن المغيرة المخزومي)(٣) . وبنو مخزوم هم الذين نزل فيهم قرآن بشهادة عمر نفسه. قال السّيوطي: (وأخرج ابن مردويه عن ابن عباسرضي‌الله‌عنه أنه قال لعمررضي‌الله‌عنه : يا أمير المؤمنين، هذه الآية( الّذِينَ بَدّلُوا نِعْمَتَ اللّهِ كُفْراً ) قال: هم الأفجران من قريش، أخوالي وأعمامك؛ فأمّا أخوالي فاستأصلهم الله يوم بدر، وأمّا أعمامك فأملى الله لهم إلى حين(٤) .

والمقصود بالأخوال أبو جهل والوليد بن المغيرة وغيرهما من صناديد بني مخزوم.

وقد شهد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على بني مخزوم أنّهم يبغضونه ويبغضون أهل بيته. روى

____________________

(١) قال ابن عبد ربه في العقد الفريد ج ٣ ص ٢٧١: فلما قدم [أبو سفيان] المدينة جعل يطوف في أزقتها ويقول:

بني هاشم لا تطمع الناس فيكم

ولا سيما تيم بن مرة أو عدي

فما الأمر إلا فيكم وإليكم

وليس لها إلا أبو حسن علي

فقال عمر لأبي بكر: إنّ هذا قد قدم، وهو فاعل شرّا، وقد كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستألفه على الإسلام، فدع له ما بيده من الصدقة. ففعل، فرضي أبو سفيان.

(٢) المعارف، ابن قتيبة، ج ١ ص ١٧٩.

(٣) المعارف، ابن قتيبة، ج ١ ص ١٨٠.

(٤) تفسير الطبري، ج ١٣ ص ٢١٩، وتفسير ابن كثير، ج ٢ ص ٥٤٠ وتفسير البحر المحيط، ج ٥ ص ٤١٣. والدر المنثور، السيوطي، ج ٥ ص ٤١.

٢٧

الحاكم حديثا يكشف حقيقة بني أميّة وبني مخزوم فقال: أخبرني محمّد بن المؤمل [..] عن أبي نضرة قال: قال أبو سعيد الخدريّرضي‌الله‌عنه قال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ أهلبيتي سيلقون من بعدي من أمّتي قتلا وتشريدا، وإنّ أشدّ قومنا لنا بغضنا بنو أميّة وبنو المغيرة وبنو مخزوم. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه(١) . ونفس الحديث في فتن نعيم(٢) . وفي هذا تصريح من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ بني أميّة وبني مخزوم يبغضونه، فإنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال (وإنّ أشدّ قومنا لنا بغضا) ولم يقل (وإنّ أشدّ قومنا بغضا لأهل بيتي) كيما يتأوّل متأوّل. ومعلوم أنّ بغض النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخرج صاحبه من دائرة الإيمان.

وأم عمر حنتمة بنت هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم أخت أبي جهل(٣) . فتحصّل ممّا سبق أنّه ليس في نسب عمر ما يفتخر به لا من جهة الأب ولا من جهة الأمّ!

قال ابن أبي الحديد: قدم عمرو بن العاص على عمر وكان واليا لمصر، فقال له: في كم سرت؟ قال: في عشرين، قال عمر: لقد سرت سير عاشق. فقال عمرو: إنّي والله ما تأبّطتني الإماء ولا حملتني في غبرات المآلي، فقال عمر: والله ما هذا بجواب الكلام الذي سألتك عنه! وإنّ الدّجاجة لتفحص في الرّماد فتضع لغير الفحل، وإنّما تنسب البيضة إلى طرقها. فقام عمرو مربد الوجه. قلت: المآلي: خرق سود يحملها النوائح ويسرن بها بأيديهنّ عند اللّطم، وأراد خرق الحيض هاهنا وشبّهها بتلك، وأنكر عمر فخره بالأمّهات وقال: إنّ الفخر للأب الذي إليه النّسب. وسألت النّقيب أبا جعفر عن هذا الحديث في عمر فقال: إنّ عمرا فخر على عمر لأنّ أمّ الخطّاب زنجيّة، وترعف بباطحلى، تسمّى سهاك، فقلت له: وأمّ عمرو النّابغة أمة من سبايا العرب، فقال: أمة عربيّة من عنزة سبيت في بعض الغارات فليس يلحقها من النّقص عندهم ما يلحق الإماء

____________________

(١) المستدرك على الصحيحين ج ٤، ص ٥٣٤ والفتن لنعيم بن حماد ج ١، ص ١٣١.

(٢) ولعلّ الصواب بنو المغيرة من بني مخزوم، فإنّ الحديث وارد بهذا اللفظ في رواية أخرى لنعيم بن حماد في كتاب الفتن، ص ١٣١ تحت رقم ٣١٩.

(٣) مشاهير علماء الأمصار ن ج ١ ص ٥.

٢٨

الزنجيات. فقلت له: أكان عمرو يقدم على عمر بمثل ما قلت؟ قال: قد يكون بلغه عنه قول قدح في نفسه فلم يحتمله له ونفث بما في صدره منه، وإن لم يكن جوابا مطابقا للسؤال(١) .

إذاً، فأمّ الخطّاب جدّة عمر بن الخطّاب زنجية، وقد عرض عمرو بن العاص به في قوله (ما تأبّطتني الإماء).

وقد كانت تبدر من عمر عبارات تشير إلى طفولته وعلاقته بأبيه، وهي علاقة تركت في نفس عمر مرارة بقي يتجرّع غصّتها حتّى في شيخوخته! وفي القصّة التّالية عبرة للمتدبّرين.

قال ابن كثير في المختصر: وعن أبي هريرة قال: خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو غضبان محمرّ وجهه حتّى جلس على المنبر فقام إليه رجل فقال: أين أبي؟ قال: في النّار. فقام آخر فقال: من أبي؟ فقال: أبوك حذافة. فقام عمر بن الخطّاب فقال: رضينا بالله ربّا وبالإسلام دينا وبمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبيّا وبالقرآن إماما؛ إنّا يا رسول الله حديثو عهد بجاهليّة وشرك، والله أعلم من آباؤنا. قال: فسكن غضبه ونزلت هذه الآية:( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) الآية؛ إسناده جيد. وقد ذكر هذه القصّة مرسلة غير واحد من السّلف منهم السديّ(٢) . فعمر بن الخطّاب في القصّة يعترف صريحا أنّه لا يدري من هو أبوه! وهو لم يقل (إنّ النّاس حديثو عهد بالجاهليّة ولا يعرفون من هم آباؤهم) وإنّما قال: (إنّا حديثو عهد بالجاهلية ولا ندري من هم آباؤنا)، فاستعمل ضمير المتكلّم وبذلك أدخل نفسه في المعنيّين.

____________________

(١) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج ١٢ ص ٣٩.

(٢) مختصر ابن كثير، ج ١ ص ٣٨٥ وانظر القصة في تفسير السمعاني ج ٢ ص ٧١ وتفسير الثعلبي، ج ٤ ص ١١٣، والدر المنثور ج ٣ ص ٢٠٦ وتفسير أبي السعود ج ٣ ص ٨٥ وتفير ابن كثير، ج ٢ ص ١٠٦ وتفسير البغوي ج ٢ ص ٦٩ وتفسير الطبري ج ٧ ص ٨٢ وزاد المسير ج ٢ ص ٤٣٣ وأحكام القرآن للجصاص، ج ٤ ص ١٥٠ وتفسير الثعلبي، ج ٤ ص ١١٣ وفتح الباري، ج ٨ ص ٢٨١ ومعتصر المختصر ج ٢ ص ١٥٥ وجامع العلوم والحكم ج ١ ص ٩٠ وتذكرة الأريب في تفسير الغريب، ج ١ ص ١٥٠.

٢٩

صفة عمر

قالوا في وصف عمر بن الخطّاب: كان طويلا آدم، أصلع، أعسر أيسر، يعني يعمل بيديه، وكان لطوله كأنه راكب، وقيل: كان أبيض أبهق يعني شديد البياض تعلوه حمزة طوالا أصلع أشيب، وكان يصفر لحيته ويرجّل رأسه، وكان مولده قبل الفجار بأربع سنين؛ وكان عمره خمسا وخمسين سنة، وقيل: ابن ستّين سنة، وقيل: ابن ثلاث وستّين سنة وأشهر. وهو الصّحيح، وقيل: ابن إحدى وستين(١) .

وفي تاريخ دمشق: كان رجلا طوالا أصلع آدم أعسر أيسر، ومات حين شارف الستّين، وقد اختلفوا في سنّه(٢) .

قال الواقديّ: لا يعرف عندنا أنّ عمر كان آدم إلاّ أن يكون رآه عام الرّمادة فإنّه كان تغيّر لونه حين أكل الزيت(٣) .

أقول: ولم لا يكون آدم ما دامت جدّته زنجيّة؟!

وأخرج ابن عساكر عن أبي رجاء العطاردي قال: كان عمر رجلا طويلا جسيما، أصلع شديد الصّلع، أبيض شديد الحمرة، في عارضيه خفّة، سبلته كبيرة وفي أطرافها صهبة(٤) .

وفي الآحاد والمثاني: حدّثنا ابن مصفى حدّثنا سويد بن عبد العزيز عن حميد عن أنس قال: كان عمررضي‌الله‌عنه يخضب بالحنّاء(٥) .

وقال الزمخشري: كان عمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه أضبط يعمل بكلتا يديه، وكان يخرج الضّاد من جانبي لسانه وهي أحد الأحرف الشّجريّة أخت الجيم والشين(٦) .

____________________

(١) الكامل في التاريخ، ابن الأثير،ج ٣ ص ٥٣.

(٢) تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر، ج ٤٤ ص ٤٧٨.

(٣) تاريخ الخلفاء ج ١ ص ١٣٠.

(٤) تاريخ الخلفاء ج ١ ص ١٣١.

(٥) الآحاد والمثاني ج ١ ص ٩٩ تحت رقم ٧٥.

(٦) الكشاف، الزمخشري ن ج ١ ص ١٣٤٥.

٣٠

أقول:

ماذا كان عمر يعمل بكلتا يديه؟ هل كان يصنع الدّروع أو يصقل السّيوف؟ هل كان حدّادا أو نجّارا أو ملاّحا؟! إنّما كان دلاّلا يجمع بين من يريد أن يبيع جملا ومن يريد أن يشتري جملا، وهذا عمل لا حاجة فيه لليدين! بل في تسميته عملا تجوّز.

وقال ابن حبيب البغدادي في تسمية الحول(١) من قريش: عمر بن الخطّاب، الفاروقرضي‌الله‌عنه ، وأبو لهب بن عبد المطّلب، وأبو جهل بن هشام، وزياد بن أبيه، وهشام بن عبد الملك بن مروان، وأبان بن عثمان بن عفان..(٢) . وقال نفس الشيء في المحبّر(٣) .

وإلى ذلك أشار المأمون فيما ذكره المزي في تهذيب الكمال قال:

قال أبو بكر محمد بن يحيى الصولي حدثنا أبو العيناء [..] واللّفظ لأبي العيناء قال: كنّا مع المأمون في طريق الشّام فأمر فنودي بتحليل المتعة، فقال لنا يحيى بن أكثم: بكّرا غدا إليه، فإن رأيتما للقول وجها فقولا، وإلاّ فأمسكا إلى أن أدخل. قال: فدخلنا إليه وهو يستاك ويقول وهو مغتاظ: (متعتان كانتا على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى عهد أبي بكر وأنا أنهى عنهما) ومن أنت يا أحول حتى تنهى عما فعله النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبوبكر؟! فأومأت إلى محمد بن منصور أن أمسك! رجل يقول في عمر بن الخطّاب ما يقول نكلمه نحن؟ فأمسكنا(٤) !

أقول: ولم يكن المأمون ليستعمل عبارة الأحول في غير ملحّها وهو خليفة فيعاب عليه ذلك.

وعن عاصم عن زرّ قال: خرجتمع أهل المدينة في يوم عيد فرأيت عمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه يمشي حافيا، شيخا أصلع، آدم أعسر أيسر طوالا، مشرفا على النّاس كأنّه على دابّة، ببرد قطريّ، يقول: عباد الله هاجروا، ولا تهجروا وليتّق أحدكم الأرنب

____________________

(١) الحول جمع أحول وهو من مالت إحدى عينيه، وهذا يعني أن عمر بن الخطّاب كان أحول.

(٢) المنمق، محمد بن حبيب البغدادي، ص ٤٠٥.

(٣) كتاب المحبر، محمد بن حبيب البغدادي ٢٤٥.

(٤) تهذيب الكمال، المزي، ج ٣١ ص ٢١٣ و ٢١٤.

٣١

يخذفها بالحصى أو يرميها بالحجر فياكلها، ولكن ليذكّ لكم الأسل، الرّماح والنّبل(١) .

وقال ابن أبي الحديد: كان [عمر] إذا غضب على واحد منهم لا يسكن غضبه حتى يعضّ على يديه عضّا شديدا فيدميها.

أقول: هذا فعل من لا يملك نفسه عند الغضب.

عن شعبة عن سماك أحسب عن رجل من قومه يقال له هلال بن عبد الله قال كان عمر يسرع يعني في مشيته، وكان رجلا آدم كأنه من رجال بني سدوس وكان في رجليه روح. و [..] عن نافع بن جبير بن مطعم قال صلع عمر فاشتد صلعه. وعن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أسلم قال: رايت عمر إذا غضب أخذ بهذا واشار إلى سبلته فقال بها إلى فمه ونفخ فيه. و [..] عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه أن عمر بن الخطّاب أتاه رجل من أهل البادية فقال يا أمير المؤمنين بلادنا قاتلنا عليها في الجاهلية وأسلمنا عليها في الإسلام ثم تحمى علينا؟ فجعل عمر ينفخ ويفتل شاربه(٢) .

وفي مصنّف عبد الرّزاق عن زياد بن حدير الأسدي قال: ما رأيت رجلا أدأب للسّواك من عمر بن الخطّاب وهو صائم، ولكن بعود قد ذوي يعني يابس(٣) .

وعن مالك عن زيد بن أسلم عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: كان عمررضي‌الله‌عنه إذا غضب فتل شاربه(٤) .

أقول:

ليس من السنّة إطالة الشّارب؛ ففي صحيح البخاري عن ابن عمررضي‌الله‌عنه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: من الفطرة قصّ الشارب(٥) . وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: قال أنس وقتلنا في قصّ الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة أن لا نترك

____________________

(١) المستدرك، الحاكم النيسابوري، ج ٣ ص ٨١.

(٢) الطبقات الكبرى، ج ٣ ص ٣٢٦.

(٣) مصنف عبد الرزاق ج ٤ ص ٢٠١ تحت رقم ٧٤٨٥.

(٤) الآحاد والمثاني ج ١ ص ١٠٠ تحت رقم ٧٨.

(٥) صحيح البخاري ج ٥ ص ٢٢٠٨ رقم ٥٥٤٩.

٣٢

أكثر من أربعين ليلة. وعن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه أمر بإحفاء الشوارب وإعفاء اللحية.

وعن ابن عمر قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خالفوا المشركين، أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى. وعن أبي هريرة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جزّوا الشّوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس(١) . وفي سنن النسائي الكبرى عن زيد بن أرقم قال سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول من لم يأخذ من شاربه فليس منا(٢) . وعن عبد الله بن عمر قال: ذكر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المجوس فقال: إنّهم يوفّرون سبالهم ويحلقون لحاهم فخالفوهم. [قال] وكان ابن عمر يستعرض سبلته فجزها كما تجز الشاة أو يجز البعير(٣) . عن أبي هريرة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال الفطرة خمس الاختتان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط(٤) .

أقول: ثمّ أنت ترى معظم الروايات تجنّبت ذكر الحول؛ حتى الجاحظ الذي ألّف كتابا في الحولان والعميان والعرجان والبرصان من الأشراف والأعيان لم يذكر ذلك علما أنّه كان معاصرا لمحمد بن حبيب البغدادي(٥) . ولو لا ما ذكره ابن حبيب البغدادي وما جرى على لسان المأمون لما وصل إلينا شيء من ذلك.

____________________

(١) صحيح مسلم، ج ١ ص ٢٢٢.

(٢) سنن النسائي الكبرى، ج ٥ ص ٤٠٦ تحت رقم ٩٢٩٣.

(٣) سنن البيهقي الكبرى ج ١ ص ١٥١.

(٤) سنن النسائي الكبرى ج ١ ص ٦٥. وحديث قص الشارب في المستدرك على الصحيحين ج ٢ ص ٢٩٣ والمسند المستخرج على صحيح مسلم ج ١ ص ٣١٥ ج ١ ص ٣١٦ ج ١ ص ٣١٨ وصحيح ابن حبان ج ١٢ ص ٢٩١ وصحيح ابن خزيمة ج ١ ص ٤٧ والجمع بين الصحيحين ج ٢ ص ٢٠٠ ج ٢ ص ٦٥٣ والجمع بين الصحيحين ج ٤ ص ٢٠٤ وسنن أبي داود ج ١ ص ١٤ وسنن ابن ماجه ج ١ ص ٩٤ ومسند أبي عوانة ج ١ ص ١٦٣ ومصنف ابن أبي شيبة ج ١ ص ١٧٨ ومصنف عبد الرزاق ج ١ ص ١٢٦ ومسند أبي يعلى ج ٧ ص ١٩٨ ومسند إسحاق بن راهويه ج ٢ ص ٧٩ ومسند أحمد بن حنبل ج ٢ ص ٢٢٩ ومجمع الزوائد ج ٥ ص ١٦٨.

(٥) قال ابن خلكان: وكانت وفاة الجاحظ في المحرم سنة خمس وخمسين ومائتين بالبصرة. وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان ج ٣ ص ٤٧٤. وأما ابن حبيب البغدادي فتوفي سنة ٢٤٥ هـ.

٣٣

تلكم كانت صفةعمر، ولا يصعب على رسّام ماهر أن يتتبّع العبارات ويترجمها على لوحته ليقدّم للنّاس صورة عمر بن الخطّاب؛ والذي لا شكّ فيه أن الصّلع والحول والرّوح والشارب الطّويل إذا اجتمعت لم تشر إلى الوسامة لا من قريب ولا من بعيد.

تربية عمر

لم يحظ عمر بن الخطّاب بطفولة هادئة، بل كانت طفولته كابوسا ظلّ يطارده حتّى الشيخوخة، فقد كان الخطاب يعامله بغلظة ويذهب معه إلى أبعد حدود العنف؛ وقد اعترف هو بنفسه بذلك أمام جمع كبير من النّاس. قال ابن المسيب: وحجّ عمر، فلمّا كان بضجنان قال: لا إله إلا الله العظيم العليّ المعطي ما شاء من شاء(١) ؛ كنت أرعى إبل الخطّاب في هذا الوادي في مدرعة صوف، وكان فظّا يتعبني إذا عملت ويضربني إذا قصّرت، وقد أمسيت وليس بيني وبين الله أحد(٢) .

ومع أنّ عمر يصف أباه بالفظاظة إلاّ أنّه لا يتورّع أن يقسم به وهو يعلم أنّه مات على الشّرك. فعن نافع عن ابن عمر أنّه أدرك عمر بن الخطّاب في ركب وهو يحلف بأبيه فناداهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ألا إنّ الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفا فليحلف بالله وإلا فليصمت(٣) .

وقد أثبت التجارب والنظريات العلمية الحديثة أنّ للطّفولة دورا مهمّا في تكوين شخصيّة الإنسان، وأنّ الطفولة التّعيسة تترك آثارا عميقة في نفوس أصحابها، وقد تدفعهم إلى العنف حتى مع أقرب المقرّبين؛ وذلك ما يدفع الباحث إلى محاولة الإطلال على طفولة عمر بن الخطّاب رغم قلّة النّصوص وحدّة مقصّ الرّقابة الذي

____________________

(١) هذه مغالطة من عمر، فإن الذي أعطاه الخلافة هو أبو بكر بن أبي قحافة، وهو ينسب ذلك إلى الله تعالى.

(٢) الكامل في التاريخ، ج ٢ ص ٤٥٦ وتاريخ الطبري، ج ٢ ص ٥٧٥ وحجّة الله البالغة ج ١ ص ٦١٥ والاكتفاء ج ٤ ص ٣٩٩.

(٣) صحيح البخاريّ ج ٥ ص ٢٢٦٥ وصحيح البخاريّ وصحيح البخاريّ ج ٥ ص ٢٢٦٥ وج ٦ ص ٢٤٤٩ وج ٦ ص ٢٤٥٠ وج ٦ ص ٢٦٩٣، وصحيح مسلم ج ٣ ص ١٢٦٦ وصحيح مسلم ج ٣ ص ١٢٦٧.

٣٤

فرضته ثقافة الكرسيّ.

قال عمرو بن العاص لمحمّد بن مسلمة حين بعثه إليه عمر ليأخذ شطر ماله: لعن الله زمانا صرت فيه عاملا لعمر، والله لقد رأيت عمر وأباه على كلّ واحد منهما عباءة قطوانيّة لا تجاوز مأبض ركبتيه، وعلى عنقه حزمة حطب، والعاص بن وائل في مزرّرات الديباج(١) . وهذا يشير إلى مستوى الفقر الذي كان يكابده. فبالإضافة إلى العنف الذي يلاقيه من أبيه، كان هناك فقر مدقع بقي في ذاكرة عمرو بن العاص لشدّة ما كان عليه. وليس الفقر في ذاته عيبا، لكن إذا انضمّ إليه العنف والجهل كانت آثاره وخيمة. أضف إلى ذلك ظاهرة عامّة لم يستثن منها عمر، تتمثّل في عبادة الأصنام؛ وعليه تكون طفولة عمر بن الخطّاب عنفا وفقرا وعبادة أصنام، وهو مزيج لا يثبت له كهل في الأربعين، فكيف بصبيّ يعيش تحت سقف الخطّاب!

ومن حقّ الباحث أن يتساءل عن سبب العنف الذي كان الخطّاب يعامل به ابنه عمر، فقد كان للخطّاب ولد آخر اسمه زيد لم يؤثر عنه من التّشكّي ما أثر عن عمر، وقد بقي عمر يتجرّع الذكريات المريرة وهو في شيخوخته. ولعلّ الخطّاب تفرّس في ابنه عمر ما لم يبلغنا، ولعلّه كان يكره من عمر أمورا لم تصلنا، المهمّ أنّه ليس طبيعيّا أن يعامل رجل ولده بتلك الطّريقة ويخصّه بذلك دون سائر إخوته. ولعلّ ذلك أيضا ممّا يفسّر لنا تعامل عمر مع أبنائه، فقد كان خشنا معهم خشونة تأباها الفطرة ويأباها الذّوق السليم. روى عبد الرزاق في مصنفه عن عكرمة بن خالد قال: دخل ابن لعمر بن الخطّاب عليه، وقد ترجّل ولبس ثيابا حسانا، فضربه عمر بالدّرّة حتى أبكاه فقالت له حفصة: لم يكن فاحشا لم ضربته؟ فقال: رايته قد أعجبته نفسه فأحببت أن أصغّرها إليه(٢) . فهل يعقل أن يضرب ولد صغير من طرف أبيه لأنّه أعجبته نفسه؟ لم لا يكون أمر آخر يستشفّ من وراء سلوك عمر وله علاقة بطفولة عمر؟ فهذا الولد على خلاف

____________________

(١) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج ١ ص ١٧٥.

(٢) مصنف عبد الرزاق، ج ١٠ ص ٤١٦ تحت رقم ١٩٥٤٨.

٣٥

عمر تماما، فهو ابن الخليفة وعمر كان أبوه رجلا مغمورا لا في العير ولا في النّفير؛ وهو يلبس الثّياب الحسان، ويرجّل شعره، ويسمع الأذان وليس هناك أصنام تعبد، وأمامه مستقبل في ظلّ الإسلام، وعمر كان عليه عباءة قطوانية لا تجاوز مأبض ركبتيه، وعلى عنقه حزمة حطب. ألا يكون عمر بن الخطّاب قد حسد الولد على هذه النّعمة التي لم يحظ بها هو يوما واحداً؟! لقد كان حريّا بعمر أن يفرح لرؤية ولده في نعمة العافية، وكان حريّا به أن يحمد الله الذي وقى ولده شؤم الشّرك والجاهليّة والفقر، لكنّه تصرّف عكس ذلك تماماً، وحاسبه كما لو كان بالغا مكلّفا قد أتى جرما! ومثل هذا التّصرّف صدر من عمر مع ابن الزّبير؛ قال ابن تيمية: ولذلك لمّا رأى عمر بن الخطّاب على ابن الزّبير ثوبا من حرير مزّقه عليه فقال الزّبير: أفزعت الصّبيّ! فقال: لا تكسوهم الحرير(١) . وكان الزبير يدلّل ولده عبد الله.

ولعمر قصّة مماثلة مع كهل شريف في قومه؛ فعن الحسن قال: كان عمر قاعدا ومعه الدّرّة والنّاس حوله إذ أقبل الجارود فقال رجل: هذا سيّد ربيعة! فسمعه عمر ومن حوله وسمعه الجارود، فلما دنا منه خفقه بالدّرة، فقال: مالي ولك يا أمير المؤمنين؟ فقال: ما لي ولك! أما لقد سمعتها! قال: سمعتها فمه؟ قال: خشيت أن يخالط قلبك منها شيء فأحببت أن أطأطئ منك(٢) .

أقول: حينما قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوموا إلى سيّدكم لم يستطع عمر أن يفعل شيئا بما أنّ الأمر يتعلّق بالزّعيم في قومه سعد بن معاذ، الذي استشهد فيما بعد، وحتى لو لم يكن سعد بن معاذ زعيما في قومه فإنّه ليس في وسع عمر أن يمعن في العنف بحضرة النّبي الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فاكتفى بقوله (سيدنا الله) وغفل عن أنّ في قوله هذا ردّا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي ما ينطق عن الهوى؛ وقد أضفى القرآن صفة السّيادة على المؤمن وغير

____________________

(١) مجموع الفتاوى، ابن تيمية، ج ٢٨ ص ١١٤.

(٢) كنز العمال، ج ٣ ص ٣٢٥ تحت رقم ٨٨٣٠.

٣٦

المؤمن، فقال عن يحي بن زكريا عليهما السلام (سيّدا وحصوا) وقال عن عزيز مصر (وألفيا سيّدها لدى الباب)، فكلام عمر بن الخطاب في هذا المقام مردود عليه. لكنّه لا يتحمّل أن يرى رجلا من الأنصار يشهد له النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنفسه أنّه سيّد، فقال ما قال من باب الحسد لا أكثر. أما ههنا فإن عمر بن الخطاب هو الحاكم، وسمع قول أحدهم للجارود (هذا سيّد ربيعة)، ولا ذنب للجارود في ذلك القول، ولا تزر وازرة وزر أخرى، ومع ذلك خفقه بالدرّة ولم يتعرّض للقائل!

وكما كان عمر قاسيا مع ولده الصغير كان قاسيا مع أولاده الكبار أيضا، فهذا ابنه عبد الرحمن الذي يقال له أبو شحمة شرب الخمر في مصر، وأقام عليه عمرو بن العاص الحدّ، لكنّ عمر أبى إلاّ أن يضيف إليه حدّا ثانيا لأنّه شوّه صورة آل الخطاب. ومع أنّ عبد الرحمن كان مريضا، ومع أنّه لا ينبغي إقامة حدّ الخمر على المريض حتى يبرأ خشية التّلف، إلاّ أنّ عمر أقام عليه الحدّ وكانت وفاته بعد ذلك بقليل، فكانوا يرون أنه مات بسبب ذلك.

قال ابن عبد البرّ: والحديث بذلك عند الزهريّ عن سالم عن أبيه رواه معمر وابن جريج عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: شرب عبد الرحمن بن عمر بمصر خمرا قال كذا قال معمر - وقال ابن جريج شرابا مسكرا - في فتية منهم أبو سروعة عقبة بن الحارث فحدّهم عمرو بن العاص؛ وبلغ ذلك عمر فكتب إلى عمرو أن أبعث إلي بابني عبد الرحمن على قتب. فلمّا قدم عليه جلده عمر بيده الحدّ. قال ابن عمر: فزعم النّاس أنّه مات من ضرب عمر ولم يمت من ضربه. قال أبو عمر: جاء عن الشعبي عن يحيى بن أبي كثير وهو شيء منقطع أنّ عمر ضرب ابنه حدّا فأتاه وهو يموت فقال: يا أبت قتلتني! فقال له: إذا لاقيت ربك فأخبره أنّ عمر يقيم الحدود! وليس في هذا الخبر ما يقطع به على موته لو صحّ وحديث ابن عمر أصح(١) .

____________________

(١) الاستذكار، ابن عبد البر، ج ٨ ص ٦.

٣٧

أقول:

يقول ابن عمر (فزعم النّاس أنّه مات من ضرب عمر)، والنّاس في عهد ابن عمر إمّا صحابة وإمّا تابعون، ويبدو أنّ هذا القول منهم كان شائعاً، وأنّ القائلين به كانوا كثيرين، والدّليل على صحّة ما يذهبون إليه قول عبد الرحمن بن عمر (يا أبت قتلتني)، وهو ما يعني: (يا ابت إنّي مريض، وإقامة الحدّ على المريض قد تقتله؛ فلو تركتني حتى أتعافى). وجواب عمر له (إذا لاقيت ربّك فأخبره أنّ عمر يقيم الحدود!) ومعناه: (إذا متّ من أثر هذا الحدّ ولاقيت ربّك فأخبره أنّ عمر بن الخطاب يقيم الحدود، فلا لوم عليه إذا مات رجل من أثر الحدّ). فعبد الله بن عمر لا يقبل هذا، لأنّه يعزّ عليه أن يكون عمر قتل ابنه بتلك الطريقة المحرجة لآل الخطاب جميعا.

وقال ابن كثير: وفي هذه السّنة (سنة ١٤) ضرب عمر بن الخطّاب ابنه عبيد الله في الشّراب هو وجماعة معه(١) . وقال ابن الأثير: وفيها أعني سنة أربع عشرة ضرب عمر ابنه عبيد الله وأصحابه في شراب شربوه(٢) .

أقول: وعبيدالله غير عبد الرحمن، وقد عاش عبيد الله وأدرك صفين وبها قتل، ومات عبد الرحمن بن عمر في حياة أبيه كما مرّ بك. وهذا يفيد أنّه كان لآل الخطاب ولع بالخمر بعد تحريمها، كما يفيد أنّه لم يبارك لعمر في أولاده.

آل عمر

فاقد الشّيء لا يعطيه، وعمر بن الخطّاب فاقد للمقوّمات الأساسيّة للتّربية الصّحيحة، وعلى رأسها الرّحمة. وإذا لم يكن المربّي رحيما فإنّه يحرم من يتربّى على يديه من أفضل شيء يتحلّى به آدميّ. ولأنّ الرّحمة ليس لها بديل، ولأنّها أهمّ ما يعدّ الإنسان للتّمسك بالقيم ورفض الأنانيّة والأثرة، ولأنّها العمدة في تقريب النّاس إلى الخير

____________________

(١) البداية والنهاية، ابن كثير، ج ٧ ص ٤٨.

(٢) الكامل في التاريخ، ابن الأثير، ج ٢ ص ٣٣٦.

٣٨

وإبعادهم عن الشرّ، فإنّ الإسلام لم يفتأ يدعو إليها ويحثّ عليها ويرغّب فيها؛ ويكفي لذلك أن الله تعالى يفتتح سور كتابه الكريم ببسملة تتضمّن الرحمة مكرّرة، فهو الرحمن الرحيم. ومع أنّه العزيز الجبّار، المنتقم، المقتدر المتكبّر، شديد العقاب، ذو الطّول، إلاّ أنّه يخاطب عباده بـ (الرّحمن الرّحيم). ويصعب علينا أن نصف أمثال عمر بن الخطّاب بالرّحمة وهو الذي يذكر عنه أنه وأد ابنته، أي دفنها حية تتنفّس!! حتّى البهائم ترحم صغارها، حتّى الوحوش ترحم صغرها وتدافع عنها حتى الموت، لكنّ الآدميّ الذي خلا قلبه من الرّحمة لا يستنكف أن يدفن صغيرته حيّة ويهيل عليها التراب من دون جرم أتته. ويصعب علينا أن ندّعي أن عمر بن الخطّاب اكتسب الرّحمة بعد إسلامه، ولو حاولنا أن ندّعي له ذلك لهجمت علينا صور كثيرة ومشاهد عديدة من مشاهد العنف أحدها مشهده وهو يجمع الحطب ويهدّد بتحريق بيت فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي البيت حسن وحسين وزينب وأم كلثوم! لم يغيّر الإسلام من عمر بن الخطّاب إلاّ المظهر، أمّا باطنه فبقي هو هو؛ هو الذي دفن ابنته حيّة، وهو الذي أراد أن يحرّق بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبناءها وهم أحياء.هذا الرّجل بهذه القسوة هو والد كلّ من عبد الله بن عمر وعبيد الله بن عمر وعبد الرحمن بن عمر وعاصم بن عمر وحفصة بنت عمر.. ويجمع هؤلاء جميعا بغض آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قال زيني دحلان في السيرة الحلبية: وأما فضل التّسمية بهذا الاسم أعني محمدا فقد جاء في أحاديث كثيرة وأخبار شهيرة أي منها أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: قال الله تعالى وعزتي وجلالي لا أعذب أحدا تسمّى باسمك في النّار أي باسمك المشهور وهي محمد أو أحمد. ومنها: ما من مائدة وضعت فحضر عليها من اسمه أحمد ومحمّد، وفي رواية فيها اسمي إلاّ قدّس الله ذلك المنزل كلّ يوم مرّتين. ومنها: يوقف عبدان اسم أحدهما أحمد والآخر محمد بين يدي الله تعالى فيؤمر بهما إلى الجنة فيقولان ربّنا بم استأهلنا الجنة لوم نعمل عملا تجازينا به الجنّة؟ فيقول الله تعالى: ادخلا الجنّة فإنّي آليت على نفسي أن لا يدخل النّار من اسمه أحمد أو محمّد. لكن قال بعضهم: ولم يصحّ في

٣٩

فضل التّسمية بمحمّد حديث، وكلّ ما ورد فيه فهو موضوع! قال بعض الحفّاظ: وأصحّها أي أقربها للصحّة من ولد له مولود فسمّاه محمّدا حبّا لي وتبرّكا باسمي كان هو ومولوده في الجنة(١) .

أقول: ولم يثبت أنّ عمر بن الخطاب سمّى أحد أبنائه أحمد أو محمّدا.

عبد الله بن عمر:

كان هذا الرّجل ممن يصطاد الدّنيا بالدّين، فكان يتعبّد حتى تنهكه العبادة، لكنّه في نفس الوقت لا يأنف أن يركن إلى الذين ظلموا ويعتبر حكمهم شرعيّا مسئولا عنه أمام الله تعالى، وموقفه من أهل المدينة في واقعة الحرّة معلوم، وهو موقف لا ينمّ إلاّ عن خنوع واستكانة ورضا بالباطل. وله مع ذلك أخبار تكشف عن حقيقته ومدى فهمه للإسلام. وقد كان يحدث نفسه بالخلافة أيام الفتنة وهو الذي لم يحسن طلاق امرأته، وبقي يحلم بذلك إلى أن قطع أمله معاوية ببيعة يزيد وواجهه بما لا يصبر عنه أبيّ شريف. وهو أيضا صاحب الرّوايات العجيبة في تفضيل أبيه على المطهّرين بنصّ كتاب الله الكريم، وحاشا لذي العرش أن يفضّل من عبد الصّنم عشرات السنين على من تربّى في حجر النّبي الأمين ولم يشرك بالله طرفة عين. ولا يرتاب كاتب هذه السّطور في أنّ عبد الله بن عمر من النّواصب الذين يبغضون علي بن أبي طالب عليه السلام، فإنّه لم يكن يعدّه من الخلفاء، مع أنّه كان لا يتردّد في شرعيّة حكم يزيد بن معاوية، وهذا ما لا يقول به إلاّ من انتكست فطرته وعميت بصيرته وأضلّه الله على علم.

عن نافع قال: دخل ابن عمررضي‌الله‌عنه الكعبة فسمعته وهو ساجد يقول: (قد تعلم ما يمنعني من مزاحمة قريش على هذه الدّنيا إلاّ خوفك(٢) .

أقول: يرد عليه قول أبيه عمر في حقّه، وهو أعلم به من غيره، (إنّه لا يصلح للخلافة) وقد عاب عليه أنّه لم يحسن طلاق امرأته. ولقد كانت له مواقف خزي مع بني أميّة

____________________

(١) السيرة الحلبية، ج ١ ص ١٣٥.

(٢) حلية الأولياء، ج ١ ص ٢٩٢.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

وَيَعْقُوبَ ) واحتجاج ابن عباس في توريث الجد دون الأخوة وإنزاله منزلة الأب في الميراث عند فقده يقتضى جواز الاحتجاج بظاهر قوله تعالى( وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ) في استحقاقه الثلثين دون الأخوة كما يستحق الأب دونهم إذا كان باقيا ودل ذلك على أن إطلاق اسم الأب يتناول الجد فاقتضى ذلك أن لا يختلف حكمه وحكم الأب في الميراث إذا لم يكن أب وهو مذهب أبى بكر الصديق في آخرين من الصحابة قال عثمان قضى أبو بكر أن الجد أب وأطلق اسم الأبوة عليه وهو قول أبى حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد ومالك والشافعى بقول زيد بن ثابت في الجد أنه بمنزلة الأخوة ما لم تنقصه المقاسمة من الثلث فيعطى الثلث ولم ينقص منه شيئا وقال ابن أبى ليلى بقول على بن أبى طالب عليه السلام في الجد أنه بمنزلة أحد الأخوة ما لم تنقصه المقاسمة من السدس فيعطى السدس ولم ينقص منه شيئا وقد ذكرنا اختلاف الصحابة فيه في شرح مختصر الطحاوي والحجاج للفرق المختلفين فيه إلا أن الحجاج بالآية فيه من وجهين أحدهما ظاهر تسمية الله تعالى إياه أبا والثاني احتجاج ابن عباس بذلك وإطلاقه أن الجد أب وكذلك أبو بكر الصديق لأنهما من أهل اللسان لا يخفى عليهما حكم الأسماء من طريق اللغة وإن كانا أطلقاه من جهة الشرع فحجته ثابتة إذ كانت أسماء الشرع طريقها التوقيف ومن يدفع الاحتجاج بهذا الظاهر يقول إن الله تعالى قد سمى العم أبا في الآية لذكره إسماعيل فيها وهو عمه ولا يقوم مقام الأب وقد قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ردوا على أبى يعنى العباس وهو عمه * قال أبو بكر ويعترض عليه من جهة أن الجد إنما سمى أبا على وجه المجاز لجواز انتفاء اسم الأب عنه لأنك لو قلت للجد إنه ليس بأب لكان ذلك نفيا صحيحا وأسماء الحقائق لا تنتفى عن مسمياتها بحال ومن جهة أخرى أن الجد إنما سمى أبا بتقييد والإطلاق لا يتناوله فلا يصح الاحتجاج فيه بعموم لفظ الأبوين في الآية ومن جهة أخرى أن الأب الأدنى في قوله تعالى( وَوَرِثَهُ أَبَواهُ ) مراد بالآية فلا جائز أن يراد به الجد لأنه مجاز ولا يتناول الإطلاق للحقيقة والمجاز في لفظ واحد* قال أبو بكر فأما دفع الاحتجاج بعموم لفظ الأب في إثبات الجد أبا من حيث سمى العم أبا في الآية مع اتفاق الجميع على أنه لا يقوم مقام الأب بحال فإنه مما لا يعتمد لأن إطلاق اسم الأب إن كان يتناول الجد والعم في اللغة والشرع فجائز اعتبار عمومه في سائر ما أطلق فيه فإن خص العم بحكم

١٠١

دون الجد لا يمنع ذلك بقاء حكم العموم في الجد ويختلفان أيضا في المعنى من قبل أن الأب إنما سمى بهذا الإسم لأن الإبن منسوب إليه بالولاد وهذا المعنى موجود في الجد وإن كانا يختلفان من جهة أخرى أن بينه وبين الجد واسطة وهو الأب ولا واسطة بينه وبين الأب والعم ليست له هذه المنزلة إذ لا نسبة بينه وبينه من طريق الولاد ألا ترى أن الجد وإن بعد في المعنى بمعنى من قرب في إطلاق الإسم وفي الحكم جميعا إذا لم يكن من هو أقرب منه فكان للجد هذا الضرب من الإختصاص فجائز أن يتناوله إطلاق اسم الأب ولما لم يكن للعم هذه المزية لم يسم به مطلقا ولا يعقل منه أيضا إلا بتقيد والجد مساو للأب في معنى الولاد فجائز أن يتناوله اسم الأب وأن يكون حكمه عند فقده حكمه وأما من دفع ذلك من جهة أن تسمية الجد باسم الأب مجاز وأن الأب الأدنى مراد بالآية فغير جائز إرادة الجد به لانتفاء أن يكون اسم واحد مجازا حقيقة فغير واجب من قبل أنه جائز أن يقال إن المعنى الذي من أجله سمى الأب بهذا الإسم وهو النسبة إليه من طريق الولاد موجود في الجد ولم يختلف المعنى الذي من أجله قد سمى كل واحد منهما فجاز إطلاق الإسم عليهما وإن كان أحدهما أخص به من الآخر كالأخوة يتناول جميعهم هذا الاسم لأب كانوا أو لأب وأم ويكون الذي للأب والأم أولى بالميراث وسائر أحكام الأخوة من الذين للأب والاسم فيهما جميعا حقيقة وليس يمتنع أن يكون الاسم حقيقة في معنيين وإن كان الإطلاق إنما يتناول أحدهما دون الآخر ألا ترى أن اسم النجم يقع على كل واحد من نجوم السماء حقيقة والإطلاق عند العرب يتناول النجم الذي هو الثريا يقول القائل منهم فعلت كذا وكذا والنجم على قمة الرأس يعنى الثريا ولا تعقل العرب بقولها طلع النجم عند الإطلاق غير الثريا وقد سموا هذا الإسم لسائر نجوم السماء على الحقيقة فكذلك اسم الأب لا يمتنع عند المحتج بما وصفنا أن يتناول الأب والجد على الحقيقة وإن اختص الأب به في بعض الأحوال ولا يكون في استعمال اسم الأب في الأب الأدنى والجد إيجاب كون لفظة واحدة حقيقة مجازا فإن قيل لو كان اسم الأب مختصا بالنسبة من طريق الولاد للحق الأم هذا الإسم لوجود الولاد فيها فكان الواجب أن تسمى الأم أبا وكانت الأم أولى بذلك من الأب والجد لوجود الولادة حقيقة منها قيل له لا يجب ذلك لأنهم قد خصوا الأم باسم دونه ليفرقوا بينها وبينه وإن كان

١٠٢

الولد منسوبا إلى كل واحد منهما بالولاد وقد سمى الله تعالى الأم أبا حين جمعها مع الأب فقال تعالى( وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ ) ومما يحتج لأبى بكر الصديق وللقائلين بقوله إن الجد يجتمع له الاستحقاق بالنسبة والتعصيب معا ألا ترى أنه لو تركا بنتا وجدا كان للبنت النصف وللجد السدس وما بقي بالنسبة والتعصيب كما لو ترك بنتا وأبا يستحق بالنسبة والتعصيب معا في حال واحدة فوجب أن يكون بمنزلته في استحقاق الميراث دون الأخوة والأخوات ووجه آخر وهو أن الجد يستحق بالتعصيب من طريق الولاد فوجب أن يكون بمنزلة الأب في نفى مشاركة الأخوة إذ كانت الأخوة إنما تستحقه بالتعصيب منفردا عن الولاد ووجه آخر في نفى الشركة بينه وبين الأخوة على وجه المقاسمة وهو أن الجد يستحق السدس مع الابن كما يستحقه الأب معه فلما لم يستحق الأخوة مع الأب بهذه العلة وجب أن لا يجب لهم ذلك مع الجد* فإن قيل الأم تستحق السدس* مع الإبن ولم ينتف بذلك توريث الأخوة معها* قيل له إنما نصف بهذه العلة لنفى الشركة بينه وبين الأخوة على وجه المقاسمة وإذا انتفت الشركة بينهم وبينه في المقاسمة إذا انفردوا معه سقط الميراث لأن كل من ورثهم معه يوجب القسمة بينه وبينهم إذا لم يكن غيرهم على اعتبار منهم في الثلث أو السدس وأما الأم فلا تقع بينها وبين الأخوة مقاسمة بحال ونفى القسمة لا ينفى ميراثهم ونفى مقاسمة الأخوة للجد إذا انفردوا يوجب إسقاط ميراثهم معه إذ كان من يورثهم معه إنما يورثهم بالمقاسمة وإيجاب الشركة بينهم وبينه فلما سقطت المقاسمة ما وصفنا سقط ميراثهم معه إذ ليس فيه إلا قولان قول من يسقط معه ميراثهم رأسا وقول من يوجب المقاسمة فلما بطلت المقاسمة بما وصفنا ثبت سقوط ميراثهم معه فإن قال قائل إن الجد يدلى بابنه وهو أبو الميت والأخ يدلى بأبيه فوجبت الشركة بينهما كمن ترك أباه وابنه قيل له هذا غلط من وجهين أحدهما أنه لو صح هذا الإعتبار لما وجبت المقاسمة بين الجد والأخ بل كان الواجب أن يكون للجد السدس وللأخ ما بقي كمن ترك أبا وابنا للأب السدس والباقي للابن والوجه الآخر أنه يوجب أن يكون الميت إذا ترك جد أب وعما أن يقاسمه العم لأن جد لأب يدلى بالجد الأدنى والعم أيضا يدلى به لأنه ابنه فلما اتفق الجميع على سقوط ميراث العم مع جد الأب مع وجود العلة التي وصفت دل ذلك على انتفاضها وفسادها ويلزمه أيضا على هذا الاعتلال أن ابن

١٠٣

الأخ يشارك الجد في الميراث لأنه يقول أن ابن ابن الأب والجد أب الأب ولو ترك أبا وابن ابن كان للأب السدس وما بقي لابن الإبن* قوله تعالى( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ ) يدل على ثلاثة معان أحدها أن الأبناء لا يثابون على طاعة الآباء ولا يعذبون على ذنوبهم وفيه إبطال مذهب من يجيز تعذيب أولاد المشركين بذنوب الآباء ويبطل مذهب من يزعم من اليهود أن الله تعالى يغفر لهم ذنوبهم بصلاح آبائهم وقد ذكر الله تعالى هذا المعنى في نظائر ذلك من الآيات نحو قوله تعالى( وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) وقال( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ ) وقد بين ذلك النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قال لأبى رمثة ورآه مع ابنه أهو ابنك فقال نعم قال أما أنه لا يجنى عليك ولا تجنى عليه وقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم يا بنى هاشم لا تأتينى الناس بأعمالهم وتأتونى بأنسابكم فأقول لا أغنى عنكم من الله شيا وقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم (من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه) قوله تعالى( فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) إخبار بكفاية الله تعالى لنبيهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر أعدائه فكفاه مع كثرة عددهم وحرصهم فوجد مخبره على ما أخبر به وهو نحو قوله تعالى( وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) فعصمه منهم وحرسه من غوائلهم وكيدهم وهو دلالة على صحة نبوته إذ غير جائز اتفاق وجود مخبره على ما أخبر به في جميع أحواله إلا وهو من عند الله تعالى عالم الغيب والشهادة إذ غير جائز وجود مخبر أخبار المتخرصين والكاذبين على حسب ما يخبرون بل أكثر أخبارهم كذب وزور يظهر بطلانه لسامعيه وإنما يتفق لهم ذلك في الشاذ النادر إن اتفق قوله تعالى( سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها ) قال أبو بكر لم يختلف المسلمون أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلى بمكة إلى بيت المقدس وبعد الهجرة مدة من الزمان فقال ابن عباس والبراء بن عازب كان التحويل إلى الكعبة بعد مقدم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لسبعة عشر شهرا وقال قتادة لستة عشر وروى عن أنس بن مالك أنه تسعة أشهر وعشرة أشهر ثم أمره الله تعالى بالتوجه إلى الكعبة وقد نص الله في هذه الآيات على أن الصلاة كانت إلى غير الكعبة ثم حولها إليها بقوله تعالى( سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها ) الآية وقوله تعالى( وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ ) وقوله تعالى*( قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها ) فهذه الآيات كلها

١٠٤

دالة على أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد كان يصلى إلى غير الكعبة وبعد ذلك حوله إليها وهذا يبطل قول من يقول ليس في شريعة النبي ناسخ ولا منسوخ ثم اختلف في توجه النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بيت المقدس هل كان فرضا لا يجوز غيره أو كان مخيرا في توجهه إليها وإلى غيرها فقال الربيع ابن أنس كان مخيرا في ذلك وقال ابن عباس كان الفرض التوجه إليه بلا تخيير وأى الوجهين كان فقد كان التوجه فرضا لمن يفعله لأن التخيير لا يخرجه من أن يكون فرضا ككفارة اليمين أيها كفر به فهو الفرض وكفعل الصلاة في أول الوقت وأوسطه وآخره وحدثنا جعفر بن محمد اليمان قال حدثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن على بن أبى طلحة عن ابن عباس قال أول ما نسخ من القرآن شأن القبلة وذلك أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لما هاجر إلى المدينة أمره الله تعالى أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود بذلك فاستقبله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بضعة عشر شهرا وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام ويدعو الله تعالى وينظر إلى السماء فأنزل الله( قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ ) الآية وذكر القصة فأخبر ابن عباس أن الفرض كان التوجه إلى بيت المقدس وأنه نسخ بهذه الآية وهذا لا دلالة فيه على قول من يقول إن الفرض كان التوجه إليه بلا تخيير ولأنه جائز أن يكون كان الفرض على وجه التخيير وورد النسخ على التخيير وقصروا على التوجه إلى الكعبة بلا تخيير وقد روى أن النفر الذين قصدوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من المدينة إلى مكة للبيعة قبل الهجرة كان فيهم البراء بن معرور فتوجه بصلاته إلى الكعبة في طريقه وأبى الآخرون وقالوا إن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يتوجه إلى بيت المقدس فلما قدموا مكة سألوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك فقالوا له فقال قد كنت على قبلة يعنى بيت المقدس لو ثبت عليها أجزك ولم يأمره باستئناف الصلاة فدل على أنهم كانوا مخيرين وإن كان اختار التوجه إلى بيت المقدس فإن قيل له جائز أن يكون المراد من القرآن المنسوخ التلاوة وجائز أن يكون قوله( سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها ) وكان نزول ذلك قبل النسخ وفيه أخبار بأنهم على قبلة غيرها وجائز أن يريد أول ما نسخ من القرآن فيكون مراده الناسخ من القرآن دون المنسوخ وروى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال أول ما نسخ من القرآن شأن القبلة قال الله تعالى( وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ

١٠٥

اللهِ ) ثم أنزل الله تعالى( سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها ) إلى قوله( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) وهذا الخبر يدل على معنيين أحدهما أنهم كانوا مخيرين في التوجه إلى حيث شاءوا والثاني أن المنسوخ من القرآن هذا التخيير المذكور في هذه الآية بقوله( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) وقوله تعالى( سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ) قيل فيه أنه أراد بذكر السفهاء هاهنا اليهود وأنهم الذين عابوا تحويل القبلة وروى ذلك عن ابن عباس والبراء بن عازب وأرادوا به إنكار النسخ لأن قوما منهم لا يرون النسخ وقيل أنهم قالوا يا محمد ما ولاك عن قبلتك التي كنت عليها ارجع إليها نتبعك ونؤمن بك وإنما أرادوا فتنته فكان إنكار اليهود لتحويله عن القبلة الأولى إلى الثانية على أحد هذين الوجهين وقال الحسن لما حول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الكعبة من بيت المقدس قال مشركوا العرب يا محمد رغبت من ملة آبائك ثم رجعت إليها آنفا والله لترجعن إلى دينهم وقد بين الله تعالى المعنى الذي من أجله نقلهم الله تعالى عن القبلة الأولى إلى الثانية بقوله تعالى( وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ ) وقيل أنهم كانوا أمروا بمكة أن يتوجهوا إلى بيت المقدس ليتميزوا من المشركين الذين كانوا بحضرتهم يتوجهون إلى الكعبة فلما هاجر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة كانت اليهود المجاورون للمدينة يتوجهون إلى بيت المقدس فنقلوا إلى الكعبة ليتميزوا من هؤلاء كما تميزوا من المشركين بمكة باختلاف القبلتين فاحتج الله تعالى على اليهود في إنكارها النسخ بقوله تعالى( قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) وجه الاحتجاج به أنه إذا كان المشرق والمغرب لله فالتوجه إليهما سواء لا فرق بينهما في العقول والله تعالى يخص بذلك أى الجهات شاء على وجه المصلحة في الدين والهداية إلى الطريق المستقيم ومن جهة أخرى أن اليهود زعمت أن الأرض المقدسة أولى بالتوجه إليها لأنها من مواطن الأنبياء عليهم السلام وقد شرفها تعالى وعظمها فلا وجه للتولى عنها فأبطل الله قولهم ذلك بأن المواطن من المشرق والمغرب لله تعالى يخص منها ما يشاء في كل زمان على حسب ما يعلم من المصلحة فيه للعباد إذ كانت المواطن بأنفسها لا تستحق التفضيل وإنما توصف بذلك على حسب ما يوجب الله تعالى تعظيمها لتفضيل الأعمال فيها قال أبو بكر هذه الآية يحتج بها من يجوز نسخ السنة بالقرآن لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلى إلى بيت المقدس

١٠٦

وليس في القرآن ذكر ذلك ثم نسخ بهذه الآية ومن يأبى ذلك يقول ذكر ابن عباس أنه نسخ قوله تعالى( فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) فكان التوجه إلى حيث كان من الجهات في مضمون الآية ثم نسخ بالتوجه إلى الكعبة* قال أبو بكر وقوله( فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) ليس بمنسوخ عندنا بل هو مستعمل الحكم في المجتهد إذا صلّى إلى غير جهة الكعبة وفي الخائف وفي الصلاة على الراحلة وقد روى ابن عمر وعامر بن ربيعة أنها نزلت في المجتهد إذا تبين أنه صلّى إلى غير جهة الكعبة وعن ابن عمر أيضا أنه فيمن صلّى على راحلته ومتى أمكننا استعمال الآية من غير إيجاب نسخ لها لم يجز لنا الحكم بنسخها وقد تكلمنا في هذه المسألة في الأصول بما يغنى ويكفى* وفي هذه الآية حكم آخر وهو ما روى حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس بن مالك أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلى نحو البيت المقدس فنزلت( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) فنادى منادى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أمرتم أن توجهوا وجوهكم شطر المسجد الحرام فحولت بنو سلمة وجوهها نحو البيت وهم ركوع وقد روى عبد العزيز بن مسلم عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال بينما الناس في صلاة الصبح بقباء إذ جاءهم رجل فقال إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أنزل عليه قرآن وأمر أن يستقبل الكعبة ألا فاستقبلوها فاستداروا كهيئتهم إلى الكعبة وكان وجه الناس إلى الشام وروى إسرائيل عن أبى إسحاق عن البراء قال لما صرف النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الكعبة بعد نزول قوله تعالى( قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ ) مر رجل صلّى مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم على نفر من الأنصار وهم يصلون نحو بيت المقدس فقال إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد صلى إلى الكعبة فانحرفوا قبل أن يركعوا وهم في صلاتهم* قال أبو بكر وهذا خبر صحيح مستفيض في أيدى أهل العلم قد تلقوه بالقبول فصار في حيز التواتر الموجب للعلم وهو أصل في المجتهد إذا تبين له جهة القبلة في الصلاة أنه يتوجه إليها ولا يستقبلها وكذلك الأمة إذا أعتقت في الصلاة أنها تأخذ قناعها وتبنى وهو أصل في قبول خبر الواحد في أمر الدين لأن الأنصار قبلت خبر الواحد المخبر لهم بذلك فاستداروا إلى الكعبة بالنداء في تحويل القبلة ومن جهة أخرى أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم المنادى بالنداء وجه ولا فائدة* فإن قال قائل من أصلكم أن ما يثبت من طريق يوجب العلم لا يجوز قبول خبر الواحد في رفعه وقد كان القوم متوجهين إلى بيت المقدس بتوقيف من النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إياهم عليه ثم تركوه إلى غيره بخبر الواحد* قيل له لأنهم لم يكونوا على يقين

١٠٧

من بقاء الحكم الأول بعد غيبتهم عن حضرته لتجويزهم ورود النسخ فكانوا في بقاء الحكم الأول على غالب الظن دون اليقين فلذلك قبلوا خبر الواحد في رفعه* فإن قال قائل هلا* أجزتم للمتيمم البناء على صلاته إذا وجد الماء كما بنى هؤلاء عليها بعد تحويل القبلة* قيل له هو مفارق لما ذكرت من قبل أن تجويز البناء للمتيمم لا يوجب عليه الوضوء ويجيز له البناء بالتيمم مع وجود الماء والقوم حين بلغهم تحويل القبلة استداروا إليها ولم يبقوا على الجهة التي كانوا متوجهين إليها فنظير القبلة أن يؤمر المتيمم بالوضوء والبناء ولا خلاف أن المتيمم إذا لزمه الوضوء لم يجز البناء عليه ومن جهة أخرى أن أصل الفرض للمتيمم إنما هو الطهارة بالماء والتراب بدل منه فإذا وجد الماء عاد إلى أصل فرضه كالماسح على الخفين إذا خرج وقت مسحه فلا يبنى فكذلك المتيمم ولم يكن أصل فرض المصلين إلى بيت المقدس حين دخلوا فيها الصلاة إلى الكعبة وإنما ذلك فرض لزمهم في الحال وكذلك الأمة إذا أعتقت في الصلاة لم يكن عليها قبل ذلك فرض الستر وإنما هو فرض لزمها في الحال فأشبهت الأنصار حين علمت بتحويل القبلة وكذلك المجتهد فرضه التوجه إلى الجهة التي أداه إليها اجتهاده لا فرض عليه غير ذلك بقوله( فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) فإنما انتقل من فرض إلى فرض ولم ينتقل من بدل إلى أصل الفرض وفي الآية حكم آخر وهو أن فعل الأنصار في ذلك على ما وصفنا أصل في أن الأوامر والزواجر إنما يتعلق أحكامها بالعلم ومن أجل ذلك قال أصحابنا فيمن أسلم في دار الحرب ولم يعلم أن عليه صلاة ثم خرج إلى دار الإسلام أنه لا قضاء عليه فيما ترك لأن ذلك يلزم من طريق السمع وما لم يعلمه لا يتعلق عليه حكمه كما لم يتعلق حكم التحويل على الأنصار قبل بلوغهم الخبر وهو أصل في أن الوكالات والمضاربات ونحوهما من أوامر العباد لا ينسخ شيء منها إذا فسخها من له الفسخ إلا من بعد علم الآخر بها وكذلك لا يتعلق حكم الأمر بها على من لم يبلغه ولذلك قالوا لا يجوز تصرف الوكيل قبل العلم بالقبلة بالوكالة والله أعلم بالصواب.

باب القول في صحة الإجماع

قوله تعالى( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ) قال أهل اللغة الوسط العدل وهو الذي بين المقصر والغالي وقيل هو الخيار والمعنى واحد لأن العدل هو الخيار* قال زهير :

١٠٨

هم وسط يرضى الأنام بحكمهم

إذا طرقت إحدى الليالى بمعظم

وقوله تعالى( لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ) معناه كي تكونوا ولأن تكونوا كذلك وقيل في الشهداء أنهم يشهدون على الناس بأعمالهم التي خالفوا الحق فيها في الدنيا والآخرة كقوله تعالى( وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ ) وقيل فيه أنهم يشهدون للأنبياء عليهم السلام على أممهم المكذبين بأنهم قد بلغوهم لإعلام النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إياهم* وقيل لتكونوا حجة فيما* تشهدون كما أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم شهيد بمعنى حجة دون كل واحد منها* قال أبو بكر وكل هذه المعاني يحتملها اللفظ وجائز أن يكون بأجمعها مراد الله تعالى فيشهدون على الناس بأعمالهم في الدنيا والآخرة ويشهدون للأنبياء عليهم السلام على أممهم بالتكذيب لإخبار الله تعالى إياهم بذلك وهم مع ذلك حجة على من جاء بعدهم في نقل الشريعة وفيما حكموا به واعتقدوه من أحكام الله تعالى وفي هذه الآية دلالة على صحة إجماع الأمة من وجهين أحدهما وصفه إياها بالعدالة وأنها خيار وذلك يقتضى تصديقها والحكم بصحة قولها وناف لإجماعها على الضلال والوجه الآخر قوله( لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ) بمعنى الحجة عليهم كما أن الرسول لما كان حجة عليهم وصفه بأنه شهيد عليهم ولما جعلهم الله تعالى شهداء على غيرهم فقد حكم لهم بالعدالة وقبول القول لأن شهداء الله تعالى لا يكونون كفارا ولا ضلالا فاقتضت الآية أن يكونوا شهداء في الآخرة على من شاهدوا في كل عصر بأعمالهم دون من مات قبل زمنهم كما جعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم شهيدا على من كان في عصره هذا إذا أريد بالشهادة عليهم بأعمالهم في الآخرة فأما إذا أريد بالشهادة الحجة فذلك حجة على من شاهد وهم من أهل العصر الثاني وعلى من جاء بعدهم إلى يوم القيامة كما كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حجة على جميع الأمة أولها وآخرها ولأن حجة الله إذا ثبتت في وقت فهي ثابتة أبدا ويدلك على فرق ما بين الشهادة على الأعمال في الآخرة والشهادة التي هي الحجة قوله تعالى( فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً ) لما أراد الشهادة على أعمالهم خص أهل عصره ومن شاهده بها وكما قال تعالى حاكيا عن عيسى صلوات الله عليه( وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ) فتبين أن الشهادة بالأعمال إنما هي مخصوصة بحال الشهادة وأما الشهادة التي هي الحجة فلا تختص بها أول الأمة وآخرها في كون النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حجة عليهم كذلك أهل كل عصر لما كانوا شهداء الله من

١٠٩

طريق الحجة وجب أن يكونوا حجة على أهل عصرهم الداخلين معهم في إجماعهم وعلى من بعدهم من سائر أهل الأعصار فهو يدل على أن أهل عصر إذا أجمعوا على شيء ثم خرج بعضهم عن إجماعهم أنه محجوج بالإجماع المتقدم لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد شهد لهذه الجماعة بصحة قولها وجعلها حجة ودليلا فالخارج عنها بعد ذلك تارك لحكم دليله وحجته إذ غير جائز وجود دليل الله تعالى عاريا عن مدلوله ويستحيل وجود النسخ بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيترك حكمه من طريق النسخ فدل ذلك على أن الإجماع في أى حال حصل من الأمة فهو حجة الله عز وجل غير سائغ لأحد تركه ولا الخروج عنه ومن حيث دلت الآية على صحة إجماع الصدر الأول فهي دالة على صحة إجماع أهل الأعصار إذ لم يخصص بذلك أهل عصر دون عصر ولو جاز الاقتصار بحكم الآية على إجماع الصدر الأول دون أهل سائر الأعصار لجاز الاقتصار به على إجماع أهل سائر الأعصار دون الصدر الأول* فإن قال قائل لما قال( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ) فوجه الخطاب إلى الموجودين في حال نزوله دل ذلك على أنهم هم المخصوصون به دون غيرهم فلا يدخلون في حكمهم إلا بدلالة* قيل له هذا غلط لأن قوله تعالى( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ) هو خطاب لجميع الأمة أولها وآخرها من كان منهم موجودا في وقت نزول الآية ومن جاء بعدهم إلى قيام الساعة كما أن قوله تعالى( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) وقوله( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ ) ونحو ذلك من الآي خطاب لجميع الأمة كما كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مبعوثا إلى جميعها من كان منهم موجودا في عصره ومن جاء بعده قال الله تعالى( إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً ) وقال تعالى( وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ ) وما أحسب مسلما يستجيز إطلاق القول بأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن مبعوثا إلى جميع الأمة أولها وآخرها وأنه لم يكن حجة عليها وشاهدا وأنه لم يكن رحمة لكافتها فإن قال قائل لما قال الله تعالى( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ) واسم الأمة يتناول الموجودين في عصر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن جاء بعدهم إلى قيام الساعة فإنما حكم لجماعتها بالعدالة وقبول الشهادة وليس فيه حكم لأهل عصر واحد بالعدالة وقبول الشهادة فمن أين حكمت لأهل كل عصر بالعدالة حتى جعلتهم حجة على من بعدهم قيل له لما جعل من حكم له بالعدالة حجة على غيره فيما يخبر به أو يعتقده من أحكام الله تعالى وكان معلوما أن ذلك صفة قد حصلت له في الدنيا وأخبر

١١٠

تعالى بأنهم شهداء على الناس فلو اعتبر أول الأمة وآخرها في كونها حجة له عليهم لعلمنا أن المراد أهل كل عصر لأن أهل كل عصر يجوز أن يسموا أمة إذ كانت الأمة اسما للجماعة التي تؤم جهة واحدة وأهل كل عصر على حيالهم يتناولهم هذا الإسم وليس يمنع إطلاق لفظ الأمة والمراد أهل عصر ألا ترى أنك تقول أجمعت الأمة على تحريم الله تعالى الأمهات والأخوات ونقلت الأمة والقرآن ويكون ذلك إطلاقا صحيحا قيل إن يوجد آخر القوم فثبت بذلك أن مراد الله تعالى بذلك أهل كل عصر وأيضا فإنما قال الله تعالى( جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ) فعبر عنهم بلفظ منكر حين وصفهم بهذه الصفة وجعلهم حجة وهذا يقتضى أهل كل عصر إذ كان قوله جعلناكم خطابا للجميع والصفة لاحقة بكل أمة من المخاطبين ألا ترى إلى قوله( وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِ ) وجميع قوم موسى أمة له وسمى بعضهم على الإنفراد أمة لما وصفهم بما وصفهم به فثبت بذلك أن أهل كل عصر جائز أن يسمو أمة وإن كان الإسم قد يلحق أول الأمة وآخرها وفي الآية دلالة على أن من ظهر كفره نحو المشبهة ومن صرح بالجبر وعرف ذلك منه لا يعتد به في الإجماع وكذلك من ظهر فسقه لا يعتد به في الإجماع من نحو الخوارج والروافض وسواء من فسق من طريق الفعل أو من طريق الإعتقاد لأن الله تعالى إنما جعل الشهداء من وصفهم بالعدالة والخير وهذه الصفة لا تلحق الكفار ولا الفساق ولا يختلف في ذلك حكم من فسق أو كفر بالتأويل أو برد النص إذ الجميع شملهم صفة الذم ولا يلحقهم صفة العدالة بحال والله أعلم.

باب استقبال القبلة

قال الله تعالى( قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها ) قيل أن التقلب هو التحول وأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما كان يقلب وجهه في السماء لأنه كان وعد بالتحويل إلى الكعبة فكان منتظرا لنزول الوحى به وكان يسأل الله ذلك فأذن الله تعالى له فيه لأن الأنبياء صلوات الله عليهم لا يسئلون الله بعد الإذن لأنهم لا يأمنون أن لا يكون فيه صلاح ولا يجيبهم الله فيكون فتنة على قومه فهذا هو معنى تقلب وجهه في السماء* وقد قيل فيه أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يحب أن يحوله الله تعالى إلى الكعبة مخالفة لليهود وتميزا منهم ويروى ذلك عن مجاهد وقال ابن عباس أحب ذلك لأنها قبلة إبراهيم عليه السلام

١١١

وقيل أنه أحب ذلك استدعاء للعرب إلى الإيمان وهو معنى قوله( فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها ) وقوله( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) فإن أهل اللغة قد قالوا إن الشطر اسم مشترك يقع على معنيين أحدهما النصف يقال شطرت الشيء أى جعلته نصفين ويقولون في مثل لهم أحلب حلبا لك شطره أى نصفه والثاني نحوه وتلقاؤه ولا خلاف أن مراد الآية هو المعنى الثاني قاله ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والربيع بن أنس ولا يجوز أن يكون المراد المعنى الأول إذ ليس من قول أحد أن عليه استقبال نصف المسجد الحرام* واتفق المسلمون لو أنه صلى إلى جانب منه أجزأه وفيه دلالة على أنه لو أتى ناحية من البيت فتوجه إليها في صلاته أجزأه لأنه متوجه شطره ونحوه وإنما ذكر الله تعالى التوجه إلى ناحية المسجد الحرام ومراده البيت نفسه لأنه لا خلاف أنه من كان بمكة فتوجه في صلاته نحو المسجد أنه لا يجزيه إذا لم يكن محاذيا للبيت* وقوله تعالى( وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) خطاب لمن كان معاينا للكعبة ولمن كان غائبا عنها والمراد لمن كان حاضرها إصابة عينها ولمن كان غائبا عنها النحو الذي هو عنده أنه نحو الكعبة وجهتها في غالب ظنه لأنه معلوم أنه لم يكلف إصابة العين إذ لا سبيل له إليها وقال تعالى( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ) فمن لم يجد سبيلا إلى إصابة عين الكعبة لم يكلفها فعلمنا أنه إنما هو مكلف ما هو في غالب ظنه أنه جهتها ونحوها دون المغيب عند الله تعالى وهذا أحد الأصول الدالة على تجويز الاجتهاد في أحكام الحوادث وأن كل واحد من المجتهدين فإنما كلف ما يؤديه إليه اجتهاده ويستولى على ظنه ويدل أيضا على أن للمشتبه من الحوادث حقيقة مطلوبة كما أن القبلة حقيقة مطلوبة بالاجتهاد والتحري ولذلك صح تكليف الاجتهاد في طلبها كما صح تكليف طلب القبلة بالاجتهاد لأن لها حقيقة لو لم يكن هناك قبلة رأسا لما صح تكليفنا طلبها* قوله تعالى( وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها ) الوجهة قيل فيها قبلة روى ذلك عن مجاهد وقال الحسن طريقة وهو ما شرع الله تعالى من الإسلام وروى عن ابن عباس ومجاهد والسدى لأهل كل ملة من اليهود والنصارى وجهة وقال الحسن لكل نبي فالوجهة واحدة وهي الإسلام وإن اختلفت الأحكام كقوله تعالى( لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً ) قال قتادة هو صلاتهم إلى البيت المقدس وصلاتهم إلى الكعبة وقيل فيه لكل قوم من المسلمين من أهل سائر الآفاق التي جهات الكعبة وراءها أو قدامها أو عن

١١٢

يمينها أو عن شمالها كأنه أفاد أنه ليس جهة من جهاتها بأولى أن تكون قبلة من غيرها وقد روى أن عبد الله بن عمر كان جالسا بإزاء الميزاب فتلا قوله تعالى( فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها ) قال هذه القبلة فمن الناس من يظن عنى الميزاب وليس كذلك لأنه إنما أشار إلى الكعبة ولم يرد به تخصيص جهة الميزاب دون غيرها وكيف يكون ذلك مع قوله تعالى( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى ) وقوله تعالى( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) مع اتفاق المسلمين على أن سائر جهات الكعبة قبلة لموليها وقوله تعالى( وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها ) يدل على أن الذي كلف به من غاب عن حضرة الكعبة إنما هو التوجه إلى جهتها في غالب ظنه لا إصابة محاذاتها غير زائل عنها إذ لا سبيل له إلى ذلك وإذ غير جائز أن يكون جميع من غاب عن حضرتها محاذيا لها* وقوله تعالى( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ) يعنى والله أعلم المبادرة والمسارعة إلى الطاعات وهذا يحتج به في أن تعجيل الطاعات أفضل من تأخيرها ما لم تقم الدلالة على فضيلة التأخير نحو تعجيل الصلوات في أول أوقاتها وتعجيل الزكاة والحج وسائر الفروض بعد حضور وقتها ووجود سببها ويحتج به بأن الأمر على الفور وأن جواز التأخير يحتاج إلى دلالة وذلك أن الأمر إذا كان غير موقت فلا محالة عند الجميع أن فعله على الفور من الخيرات فوجب بمضمون قوله تعالى( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ) إيجاب تعجيله لأنه أمر يقتضى الوجوب* قوله تعالى( لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ) من الناس من يحتج به في الاستثناء من غير جنسه وقد اختلف أهل اللغة في معناه فقال بعضهم هو استثناء منقطع ومعناه لكن الذين ظلموا منهم يتعلقون بالشبهة ويضعون موضع الحجة وهو كقوله تعالى( ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ ) معناه لكن اتباع الظن* قال النابغة :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب

معناه لكن بسيوفهم فلول وليس بعيب وقيل فيه أنه أراد بالحجة المحاجة والمجادلة فقال لئلا يكون للناس عليكم حجاج إلا الذين ظلموا فإنهم يحاجونكم بالباطل وقال أبو عبيدة إلا هاهنا بمعنى الواو وكأنه قال لئلا يكون للناس عليكم حجة ولا الذين ظلموا وأنكر ذلك الفراء وأكثر أهل اللغة قال الفراء لا تجيء إلا بمعنى الواو إلا إذا تقدم استثناء كقول الشاعر :

١١٣

ما بالمدينة دار غير واحدة

دار الخليفة إلا دار مروان

كأنه قال بالمدينة دار إلا دار الخليفة ودار مروان وقال قطرب معناه لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا على الذين ظلموا وأنكر هذا بعض النجاة.

باب وجوب ذكر الله تعالى

قوله تعالى( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ) قد تضمن الأمر بذكر الله تعالى وذكرنا إياه على وجوه وقد روى فيه أقاويل عن السلف قيل فيه اذكروني بطاعتي أذكركم برحمتي وقيل فيه اذكروني بالثناء بالنعمة أذكركم بالثناء بالطاعة وقيل اذكروني بالشكر أذكركم بالثواب وقيل فيه اذكروني بالدعاء أذكركم بالإجابة واللفظ محتمل لهذه المعاني وجميعها مراد الله تعالى لشمول اللفظ واحتماله إياه* فإن قيل لا يجوز أن يكون الجميع مراد الله* تعالى بلفظ واحد لأنه لفظ مشترك لمعان مختلفة* قيل له ليس كذلك لأن جميع وجوه الذكر على اختلافها راجعة إلى معنى واحد فهو كاسم الإنسان يتناول الأنثى والذكر والأخوة تتناول الأخوة المتفرقين وكذلك الشركة ونحوها وإن وقع على معان مختلفة فإن الوجه الذي سمى به الجميع معنى واحد وكذلك ذكر الله تعالى لما كان المعنى فيه طاعته والطاعة تارة بالذكر باللسان وتارة بالعمل بالجوارح وتارة باعتقاد القلب وتارة بالفكر في دلائله وحججه وتارة في عظمته وتارة بدعائه ومسألته جاز إرادة الجميع بلفظ واحد كلفظ الطاعة نفسها جاز أن يراد بها جميع الطاعات على اختلافها إذا ورد الأمر بها مطلقا نحو قوله تعالى( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) وكالمعصية يجوز أن يتناول جميعها لفظ النهى فقوله فاذكروني قد تضمن الأمر بسائر وجوه الذكر منها سائر وجوه طاعته وهو أعم الذكر ومنها ذكره باللسان على وجه التعظيم والثناء عليه والذكر على وجه الشكر والاعتراف بنعمه ومنها ذكره بدعاء الناس إليه والتنبيه على دلائله وحججه ووحدانيته وحكمته وذكره بالفكر في دلائله وآياته وقدرته وعظمته وهذا أفضل الذكر وسائر وجوه الذكر مبنية عليه وتابعة له وبه يصح معناها لأن اليقين والطمأنينة به تكون قال الله تعالى( أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) يعنى والله أعلم ذكر القلب الذي هو الفكر في دلائل الله تعالى وحججه وآياته وبيناته وكلما ازددت فيها فكرا ازددت طمأنينة وسكونا وهذا هو أفضل الذكر لأن سائر الأذكار إنما يصح ويثبت حكمها بثبوته وقد

١١٤

روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال (خير الذكر الخفى) حدثنا ابن قانع قال حدثنا عبد الملك بن محمد قال حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن أسامة بن زيد عن محمد عن عبد الرحمن عن سعد بن مالك عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال (خير الذكر الخفى وخير الرزق ما يكفى) قوله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ) عقيب قوله( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ) يدل على أن الصبر وفعل الصلاة لطف في التمسك بما في العقول من لزوم ذكر الله تعالى الذي هو الفكر في دلائله وحججه وقدرته وعظمته وهو مثل قوله تعالى( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ) ثم عقبه بقوله( وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ ) والله أعلم أن ذكر الله تعالى بقلوبكم وهو التفكر في دلائله أكبر من فعل الصلاة وإنما هو معونة ولطف في التمسك بهذا الذكر وإدامته* قوله تعالى( وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ ) فيه اخبار بإحياء الله تعالى الشهداء بعد موتهم ولا يجوز أن يكون المراد أنهم سيحيون يوم القيامة لأنه لو كان هذا مراده لما قال ولكن لا تشعرون لأن قوله( وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ ) أخبار بفقد علمنا بحياتهم بعد الموت ولو كان المراد الحياة يوم القيامة لكان المؤمنون قد شعروا به وعرفوه قبل ذلك فثبت أن المراد الحياة الحادثة بعد موتهم قبل يوم القيامة وإذا جاز أن يكون المؤمنون قد أحيوا في قبورهم قبل يوم القيامة وهم منعمون فيها جاز أن يحيا الكفار في قبورهم فليعذبوا وهذا يبطل قول من ينكر عذاب القبر* فإن قيل لما كان المؤمنون كلهم منعمين بعد الموت فكيف خص المقتولين في* سبيل الله* قيل له جائز أن يكون اختصهم بالذكر تشريفا لهم على جهة تقديم البشارة بذكر حالهم ثم بين بعد ذلك ما يختصون به في آية أخرى وهو قوله تعالى( أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) فإن قيل كيف يجوز أن يكونوا أحياء ونحن نراهم رميما في القبور بعد مرور الأزمان عليهم قيل له الناس في هذا على قولين* منهم من يجعل الإنسان هو* الروح وهو جسم لطيف والنعيم والبؤس إنما هما له دون الجثة* ومنهم من يقول إن الإنسان هذا الجسم الكثيف المشاهد فهو يقول إن الله تعالى يلطف أجزاء منه بمقدار ما تقوم به البنية الحيوانية ويوصل النعيم إليه وتكون تلك الأجزاء اللطيفة بحيث يشاء الله تعالى أن تكون تعذب أو تنعم على حسب ما يستحقه ثم يفنيه الله تعالى كما يفنى سائر الخلق قبل يوم القيامة ثم يحيه يوم القيامة للحشر وقد حدثنا أبو القاسم عبد الله بن محمد

١١٥

ابن إسحاق المروزى قال حدثنا الحسن بن يحيى بن أبى الربيع الجرجانى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن الزهري عن كعب بن مالك أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (نسمة المسلم طير تعلق في شجر الجنة حتى يرجعها إلى جسده) قوله تعالى( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ـ إلى قوله تعالى ـوَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) روى عن عطاء والربيع وأنس بن مالك أن المراد بهذه المخاطبة أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد الهجرة* قال أبو بكر جائز والله أعلم أن يكون قدم إليهم ذكر ما علم أنه يصيبهم في الله من هذه البلايا والشدائد المعنيين أحدهما ليوطنوا أنفسهم على الصبر عليها إذا وردت فيكون ذلك أبعد من الجزع وأسهل عليهم بعد الورود والثاني ما يتعجلون به من ثواب توطن النفس قوله تعالى( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ) يعنى والله أعلم على ما قدم ذكره من الشدائد وقوله تعالى( الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ) يعنى إقرارهم في تلك الحال بالعبودية والملك له وأن له أن يبتليهم بما يشاء تعريضا منه لثواب الصبر واستصلاحا لهم لما هو أعلم به إذ هو تعالى غير متهم في فعل الخير والصلاح إذ كانت أفعاله كلها حكمة ففي إقرارهم بالعبودية تفويض الأمر إليه ورضى بقضائه فيما يبتليهم به إذ لا يقضى إلا بالحق كما قال تعالى( وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ ) وقال عبد الله بن مسعود لأن أخر من السماء أحب إلى من أن أقول لشيء قضاه الله تعالى ليته لم يكن* وقوله تعالى( إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ) إقرار بالبعث والنشور واعتراف بأن الله تعالى سيجازى الصابرين على قدر استحقاقهم فلا يضيع عنده أجر المحسنين* ثم أخبر بما لهم عند الله تعالى عند الصبر على هذه الشدائد في طاعة الله تعالى فقال( أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ) يعنى الثناء الجميل والبركات والرحمة وهي النعمة التي لا يعلم مقاديرها إلا الله تعالى كقوله في آية أخرى( إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ ) ومن المصائب والشدائد المذكورة في الآية ما هو من فعل المشركين بهم ومنها ما هو من فعل الله تعالى فأما ما كان من فعل المشركين فهو أن العرب كلها كانت قد اجتمعت على عداوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم غير ما كان بالمدينة من المهاجرين والأنصار وكان خوفهم من قبل هؤلاء لقلة المسلمين وكثرتهم* وأما الجوع فلقلة ذات اليد والفقر الذي نالهم* وجائز أن يكون الفقر تارة من الله تعالى

١١٦

بأن يفقرهم بتلف أموالهم* وجائز أن يكون من قبل العدو بأن يغلبوا عليه فيتلف ونقص من الأموال والأنفس والثمرات يحتمل الوجهين جميعا لأن النقص من الأموال جائز أن يكون سببه العدو* وكذلك الثمرات لشغلهم إياهم بقتالهم عن عمارة أراضيهم* وجائز أن يكون من فعل الله تعالى بالجوانح التي تصيب الأموال والثمار* ونقص الأنفس جائز أن يكون المراد به من يقتل منهم في الحرب وأن يريد به من يميته الله منهم من غير قتل* فأما الصبرا على ما كان من فعل الله فهو التسليم والرضا بما فعله والعلم بأنه لا يفعل إلا الصلاح والحسن وما هو خير لهم وأنه ما منعهم إلا ليعطيهم وأن منعه إياهم إعطاء منه لهم* وأما ما كان من فعل العدو فإن المراد به الصبر على جهادهم وعلى الثبات على دين الله تعالى ولا ينكلون عن الحرب ولا يزولون عن طاعة الله بما يصيبهم من ذلك ولا يجوز أن يريد بالابتلاء ما كان منهم من فعل المشركين لأن الله تعالى لا يبتلى أحدا بالظلم والكفر ولا يريده ولا يوجب الرضا به ولو كان الله تعالى يبتلى بالظلم والكفر لوجب الرضا به كما رضيه بزعمهم حين فعله والله يتعالى عن ذلك* وقد تضمنت الآية مدح الصابرين على شدائد الدنيا وعلى مصائبها على الوجوه التي ذكر والوعد بالثواب والثناء الجميل والنفع العظيم لهم في الدنيا والدين فأما في الدنيا فما يحصل له به من الثناء الجميل والمحل الجليل في نفوس المؤمنين لائتماره لأمر الله تعالى ولأن في الفكر في ذلك تسلية عن الهم ونفى الجزع الذي ربما أدى إلى ضرر في النفس وإلى إتلافها في حال ما يعقبه ذلك في الدنيا من محمود العاقبة وأما في الآخرة فهو الثواب الجزيل الذي لا يعلم مقداره إلا الله قال أبو بكر وقد اشتملت هذه الآية على حكمين فرض ونفل فأما الفرض فهو التسليم لأمر الله والرضا بقضاء الله والصبر على أداء فرائضه لا يثنيه عنها مصائب الدنيا ولا شدائدها وأما النفل فإظهار القول بإنا الله وإنا إليه راجعون فإن في إظهاره فوائد جزيلة منها فعل ما ندب الله إليه ووعده الثواب عليه ومنها أن غيره يقتدى به إذا سمعه ومنها غيظ الكفار وعلمهم بجده واجتهاده في دين الله تعالى والثبات على طاعته ومجاهدة أعدائه ويحكى عن دواد الطائي قال الزاهد في الدنيا لا يحب البقاء فيها وأفضل الأعمال الرضا عن الله ولا ينبغي للمسلم أن يحزن للمصيبة لأنه يعلم أن لكل مصيبة ثوابا والله تعالى أعلم بالصواب.

١١٧

باب السعى بين الصفا والمروة

قال الله تعالى( إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما ) روى عن ابن عيينة عن الزهري عن عروة قال قرأت عند عائشة رضى الله تعالى عنها( إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ ) فقلت لا أبالى أن لا أفعل قالت بئسما قلت يا ابن أختى قد طاف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وطاف المسلمون فكانت سنة إنما كان من أهل لمناة الطاغية لا يطوف بهما فلما جاء الإسلام كرهوا أن يطوفوا بهما حتى نزلت هذه الآية فطاف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فكانت سنة قال فذكرت ذلك لأبى بكر بن عبد الرحمن فقال إن هذا العلم ولقد كان رجال من أهل العلم يقولون إنما سأل عن هذا الرجال الذين كانوا يطوفون بين الصفا والمروة فأحسبها نزلت في الفريقين وروى عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى( إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ ) قال كان على الصفا تماثيل وأصنام وكان المسلمون لا يطوفون عليها لأجل الأصنام والتماثيل فأنزل الله تعالى( فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما ) قال أبو بكر كان السبب في نزول هذه الآية عند عائشة سؤال من كان لا يطوف بهما في الجاهلية لأجل إهلاله لمناة وعلى ما ذكر ابن عباس وأبو بكر بن عبد الرحمن أن ذلك كان لسؤال من كان يطوف بين الصفا والمروة وقد كان عليهما الأصنام فتجنب الناس الطواف بهما بعد الإسلام وجائز أن يكون سبب نزول هذه الآية سؤال الفريقين وقد اختلف في السعى بينهما فروى هشام بن عروة عن أبيه وأيوب عن ابن أبى مليكة جميعا عن عائشة قالت ما أتم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لامرئ حجة ولا عمرة ما لم يطف بين الصفا والمروة وذكر أبو الطفيل عن ابن عباس أن السعى بينهما سنة وأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فعله وروى عاصم الأحول عن أنس قال كنا نكره الطواف بين الصفا والمروة حتى نزلت هذه الآية والطواف بينهما تطوع وروى عن عطاء عن ابن الزبير قال من شاء لم يطف بين الصفا والمروة وروى عن عطاء ومجاهد أن من تركه فلا شيء عليه وقد اختلف فقهاء الأمصار في ذلك فقال أصحابنا والثوري ومالك أنه واجب في الحج والعمرة وتركه يجزى عنه الدم وقال الشافعى لا يجزى عنه الدم إذا تركه وعليه أن يرجع فيطوف قال أبو بكر هو عند أصحابنا من توابع الحج يجزى عنه الدم لمن رجع إلى أهله مثل الوقوف بالمزدلفة ورمى الجمار وطواف الصدر والدليل على أنه ليس من فروضه قوله عليه السلام

١١٨

في حديث الشعبي عن عروة بن مضرس الطائي قال أتيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمزدلفة فقلت يا رسول الله جئت من جبل طي ما تركت جبلا إلا وقفت عليه فهل لي من حج فقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم من صلّى معنا هذه الصلاة ووقف معنا هذا الموقف وقد أدرك عرفة قبل ليلا أو نهارا فقدتم حجه وقضى تفثه فهذا القول منهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ينفى كون السعى بين الصفا والمروة فرضا في الحج من وجهين أحدهما أخباره بتمام حجته وليس فيه السعى بينهما والثاني أن ذلك لو كان من فروضه لبينه للسائل لعلمه بجهله بالحكم* فإن قيل لم يذكر طواف الزيارة مع* كونه من فروضه قيل له ظاهر اللفظ يقتضى ذلك وإنما أثبتناه فرضا بدلالة* فإن قيل فهذا يوجب أن لا يكون مسنونا ويكون تطوعا كما روى عن أنس وابن الزبير قيل له كذلك يقتضى ظاهر اللفظ وإنما أثبتناه مسنونا في توابع الحج بدلالة ومما يحتج به لوجوبه أن فرض الحج مجمل في كتاب الله لأن الحج في اللغة القصد قال الشاعر يحج مأمومة في قعرها لجف يعنى أنه يقصد ثم نقل في الشرع إلى معان أخر لم يكن اسما موضوعا لها في اللغة وهو مجمل مفتقر إلى البيان فمهما ورد من فعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو بيان للمراد بالجملة وفعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا ورد مورد البيان فهو على الوجوب فلما سعى بينهما النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان ذلك دلالة الوجوب حتى تقوم دلالة الندب ومن جهة أخرى أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (خذوا عنى مناسككم) وذلك أمر يقتضى إيجاب الاقتداء به في سائر أفعال المناسك فوجب الاقتداء به في السعى بينهما وقد روى طارق بن شهاب عن أبى موسى قال قدمت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بالبطحاء فقال بم أهللت فقلت أهللت بإهلال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أحسنت طف بالبيت والصفا والمروة ثم أحل فأمره بالسعي بينها وهذا أمر يقتضى الإيجاب وقد روى فيه حديث مضطرب السند والمتن جميعا مجهول الراوي وهو ما رواه معمر عن واصل مولى أبى عيينة عن موسى ابن أبى عبيد عن صفية بنت شيبة عن امرأة سمعت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بين الصفا والمروة(يقول كتب عليكم السعى فاسعوا) فذكرت في هذا الحديث أنها سمعته يقول ذلك بين الصفا والمروة ولم تذكر اسم الرواية وقد روى محمد بن عبد الرحمن بن محيصن عن عطاء بن أبى رباح قال حدثتني صفية بنت شيبة عن امرأة يقال لها حبيبة بنت أبى تجزءة قالت دخلت دار أبى حسين ومعى نسوة من قريش والنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يطوف بالبيت حتى أن ثوبه ليدور به وهو يقول لأصحابه (اسعوا فإن الله تعالى قد كتب عليكم السعى)

١١٩

فذكر في هذا الحديث أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ذلك وهو في الطواف فظاهر ذلك يقتضى أن يكون مراده السعى في الطواف وهو الرمل والطواف نفسه لأن المشي يسمى سعيا قال الله تعالى( فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ ) وليس المراد إسراع المشي وإنما هو المصير إليه والخبر الأول الذي ذكر فيه أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ذلك وهو يسعى بين الصفا والمروة لا دلالة فيه على أنه أراد السعى بينهما إذ جائز أن يكون مراد الطواف بالبيت والرمل فيه وهو سعى لأنه إسراع المشي وأيضا فإن ظاهره يقتضى جواز أى سعى كان وهو إذا رمل فقد سعى ووجوب التكرار لا دلالة عليه فالأخبار الأول التي ذكرناها دالة على وجوب السعى لأنه سنة لا ينبغي تركها ولا دلالة فيها على أن من تركها لا ينوب عنه دم والدليل على أن الدم ينوب عنه لمن تركه حتى يرجع إلى أهله اتفاق السلف على جواز السعى بعد الإحلال من جميع الإحرام كما يصح الرمي وطواف الصدر فوجب أن ينوب عنه الدم كما ناب عن الرمي وطواف الصدر فإن قيل طواف الزيارة يفعل بعد الإحلال ولا ينوب عنه الدم قيل له ليس كذلك لأن بقاء طواف الزيارة يوجب كونه محرما عن النساء وإذا طاف فقد حل له كل شيء بلا خلاف بين الفقهاء وليس لبقاء السعى تأثير في بقاء شيء من الإحرام كالرمى وطواف الصدر فإن قال قائل فإن الشافعى يقول إذا طاف للزيارة لم يحل من النساء وكان حراما حتى يسعى بالصفا والمروة قيل له قد اتفق الصدر الأول من التابعين والسلف بعدهم أنه يحل بالطواف بالبيت لأنهم على ثلاثة أقاويل بعد الحلق فقال قائلون هو محرم من اللباس والصيد والطيب حتى يطوف بالبيت وقال عمر بن الخطاب هو محرم من النساء والطيب وقال ابن عمر وغيره هو محرم من النساء حتى يطوف فقد اتفق السلف على أنه يحل من النساء بالطواف بالبيت دون السعى بين الصفا والمروة وأيضا فإن السعى بينهما لا يفعل إلا تبعا للطواف ألا ترى أن من لا طواف عليه لا سعى عليه وأنه لا يتطوع بالسعي بينهما كما لا يتطوع بالرمي فدل على أنه من توابع الحج والعمرة فإن قيل الوقوف بعرفة لا يفعل إلا بعد الإحرام وطواف الزيارة لا يفعل إلا بعد الوقوف وهما من فروض الحج* قيل له لم نقل أن من لا يفعل إلا بعد غيره فهو تبع فيلزمنا ما ذكرت وإنما قلنا ما لا يفعل إلا على وجه التبع لأفعال الحج أو العمرة فهو تابع ليس بفرض فأما الوقوف بعرفة فإنه غير مفعول على وجه التبع لغيره بل يفعل منفردا

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564