الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب10%

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب مؤلف:
الناشر: انتشارات دارالتفسير
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 564

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب
  • البداية
  • السابق
  • 564 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 91253 / تحميل: 7644
الحجم الحجم الحجم
الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب

مؤلف:
الناشر: انتشارات دارالتفسير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

جملة عارضة:

لقد بدأ ابن تيميه كلامه بنفي الثابت، وإثبات المنفي، ومحاولة النيل من شخص أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ، وتفضيل الخوارج وبني أميّة على شيعة عليّ وأهل بيت النبوّة الطاهر؛ إلاّ أنّه، ولدفع دَخَلٍ، قد ذكر في تفريعه الثاني «أنّ إخبارهصلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ عليّاً يحبّ الله ورسوله، ويحبُّه اللهُ ورسوله حقّ»، وعقّب بعدها بشتم الشيعة والتشكيك بإيمان أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام !

نقول: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا بعث من بعث، لم يقل بشأن أحدٍ منهم، ما قاله بحقّ عليّعليه‌السلام ، فماذا يعني ذلك؟ ولقد قرنصلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك الحبّ الخاصّ بتحقيق النّصر والفتح على يَدي عليّعليه‌السلام ؛ ولذا لسنا - بعد هذا - بحاجة إلى شهادة ابن تيميه وأضرابه!

الخوارج

أفصح ابن تيميه عمّا في نفسه فألقاه على لسان الخوارج ليقول بردّة أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام ، وموته على الكفر!

وقبل الحديث حول الخوارج وما جاء فيهم من أحاديث توجب قتلهم، وأنّ لقاتلهم من الأجر الجزيل، نذكر طرفاً من أخبارهم تُظهر جهالتهم وأنّهم رجال سوء؛ ومع ذلك لم نجدهم قد كفّروا أميرالمؤمنينعليه‌السلام . فمِن خبرِهم: بعد أن فرغ أميرالمؤمنينعليه‌السلام من قتال (الناكثين) أهل الجَمَل، بدأت فتنة (القاسطين) في الشام، فقد أعلن معاوية تمرّده وخروجه على أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام ؛ فكانت

١٠١

وقعة صفّين، وكانت أشدّ أيذامها هي الواقعة الخميسيّة، نسبةً إلى اليوم الذي حصلت فيه وهو: يوم الخميس؛ وتسمّى أيضاً «ليلة الهرير»؛ سمّيت بذلك لشدّتها، حيث جعل بعضهم يهرّ على بعض، ويعتنق بعضهم بعضاً، وجعل عليّعليه‌السلام يقف ساعةً بعد ساعةٍ ويرفع رأسه إلى السماء وهو يقول: «اللّهمّ إليك نُقِلَت الأقدام، وأفضت القلوب، ورُفعت الأيدي، وامتدّت الأعناق، وشخصت الأبصار، وطُلبت الحوائج...»« رَبّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ) (1) .

ثمّ إنّه حمل في سواد اللّيل وحملت مع الناس، فكلّما قتل بيده رجلاً من أهل الشام كبّر تكبيرة، حتّى أحصي له ما يزيد على خمسمائة تكبيرة، في كلّ تكبيرة له قتيل(2) .

رفعُ المصاحف

صبيحة تلك اللّيلة، كاد أمير المؤمنينعليه‌السلام أن يحسم المعركة بالنصر المؤزّر ويُنهيَ الفتنة، وقد أشرف مالك الأشتر على دخول عسكر معاوية. وهنا وقعت الفتنة، إذ قال معاوية لعمرو بن العاص: ويحك أبا عبدالله! أين حيَلُك التي كنتُ أعرفها منك؟ فقال عمرو: تريد ماذا؟ قال: أُريد أن تسكّن هذه الحروب؛ فقد أُبيد أهل الشام. فقال عمرو: إن أحببتَ فأمر بالمصاحف أن تُرفع على رؤوس الرماح، ثمّ ادعهم إليها. فأمر معاوية بالمصاحف فرفعت على رؤوس

____________________

(1) الأعراف: 89.

(2) وقعة صفين لنصر بن مزاحم (ت 212 هـ) 477، وفي الفتوح لابن أعثم (ت 314 هـ) قال: خمسمائة تكبيرة وثلاثٌ وعشرون تكبيرة (الفتوح 2: 178).

١٠٢

الرماح، وصاح أهل الشام: يا عليّ اتّق الله أنت وأصحابك في هذه البقيّة، هذا كتاب الله بيننا وبينكم(1) .

الفتنة

في هذه المرحلة الحاسمة، وقع اللّجاج في صفوف جيش أميرالمؤمنينعليه‌السلام في شأن المصاحف المرفوعة؛ فالذين ملّوا الحرب وفي نفوسهم مرض تداعوا مطالبين أميرالمؤمنينعليه‌السلام بوقف الحرب والإجابة إلى حُكم القرآن! فقال لهم: «ويحكم! أنا أوّلُ من دعا إلى كتاب الله وأوّل من أجاب إليه، وليس يحلّ لي ولا يسعُني في ديني أن أُدعى إلى كتاب الله فلا أقبله، إني إنّما قاتلتهم ليدينوا بحُكم القرآن، فإنّهم قد عصَوُا الله فيما أمرهم فيه، ونقضوا عهده ونبذوا كتابه، ولكنّي قد أعلمتكم أنّهم قد كادوكم، وأنّهم ليس العمل بالقرآن يريدون»(2) .

إلاّ أنّ الفرقة المارقة أصرّت على موقفها وحملته على أن يبعث إلى الأشتر وبذلك انقلب الموقف ونجا معاوية الذي كان يمنّي نفسه الفرار، فلقد كان بعد ذلك يقول: «واللهِ رجع عنّي الأشتر يوم رفع المصاحف، وأنا أُريد أن أسأله أن يأخذ لي الأمان من عليّ، وقد هممتُ بالهرب»(3) .

____________________

(1) الفتوح 2: 179، وفي وقعة صفّين بتوسّع واختلاف في بعض الألفاظ.

(2) وقعة صفّين 489 - 490، الفتوح 2: 183، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2: 217.

(3) الفتوح 2: 185.

١٠٣

الهُدنة

بعد الذي كان من المارقين، توقّف الناس عن القتال وجرت مكاتبات طويلة انتهت بالاتّفاق على عقد هدنة مدّتها سنة، وكتبوا بذلك كتاباً وموثقاً وتقرّر أن يعيّن كلُّ فريق حكماً يرضون حكمه. فاختار أهل الشام: عمرو بن العاص، واختار الأشعث والذين صاروا خوارج بعد ذلك أبا موسى الأشعريّ، رغم رفض أمير المؤمنينعليه‌السلام له!

رفض التحكيم

بعد كتابة الكتاب وشهادة الشهود؛ خرج الأشعث بنسخةٍ منه يقرؤها على الناس، فتعالت أصوات المخالفين لأمير المؤمنينعليه‌السلام : لا حُكم إلا لله، الحُكم لله يا عليّ لا لك! لا نرضى أن يُحكِّم الرّجال في دين الله، وقد كنّا زللنا وأخطأنا حين رضينا بالحكمين، وقد بان لنا خطأنا وزللُنا فرجعنا إلى الله وتبنا! فارجع أنت يا عليّ كما رجعنا، وتُبت إلى الله كما تُبنا، وإلاّ برئنا منك!

فقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ويحكم! أبعدَ الرّضى والميثاق والعهد نرجع؟!

أليس الله تعالى قد قال:« أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (1) ، وقال:« وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتّمْ وَلاَ تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً » (2) . فأبى عليّعليه‌السلام أن يرجع، وأبت الخوارج إلاّ تضليل التحكيم والطعن فيه، فبرِئتْ من

____________________

(1) وقعة صفّين 408 - 552، الفتوح 3: 318 - 325 و 4: 89 - 90، وشرح نهج البلاغة 2: 29.

١٠٤

عليّعليه‌السلام ، برئ عليّ منهم.

فلمّا رجع أهل العراق لعراقهم، وأهل الشام لشامهم، انحاز مخالفوا أمير المؤمنينعليه‌السلام وساروا حتّى نزلوا بحروراء، وأمّروا عليهم عبد الله بن الكوّاء(1) .

وقفة تأمّل

إن الخوارج الذين أقامهم ابن تيميه بيّنةً على تضليل الشيعة وتكفير أميرالمؤمنينعليه‌السلام ؛ قد وجدناهم غارقين في وحل جهل مظلم وأعرابيّة غليظة أوردتهم المهالك! فهم الذين حملوا أميرالمؤمنينعليه‌السلام على قبول التحكيم عملاً منهم بخديعة ابن العاص، ورفضوا عبد الله بن عبّاس الذي اختاره عليٌّ حكماً له، وأصرّوا على أبي موسى الأشعريّ ولم يكن موضع رضى أميرالمؤمنين لأسبابٍ بيّنها لهم، فإذا صار التحكيم والاتّفاق على عقد هدنة أمدها سنة؛ رفضوا التحكيم! وحجّتهم أنّه لا يجوز تحكيم الرجال في دين الله! إلاّ أنّهم كانوا أصدق من ابن تيميه إذ ردّوا الخطأ إلى أنفسهم، ولكنّهم انتقلوا إلى مفارقة أُخرى.

فقد طلبوا من أمير المؤمنينعليه‌السلام أن يتوب من ذنب ارتكبوه هُم! فينقض العهد والميثاق بعد توكيده، فأبىعليه‌السلام مستدلاًّ عليهم بكتاب الله؛ فلمّا انتهوا إلى الحدّ هذا؛ فارقوا أميرالمؤمنينعليه‌السلام وعاثوا فساداً؛ والمرء مع من أحبّ!

١٠٥

مناظرة ابن عبّاس للخوارج

بعد انحياز الخوارج إلى حروراء، قرية قرب الكوفة، بعث أمير المؤمنين إليهم ابن عبّاس ليناظرهم، فأقبل عليهم ابن عبّاس وطلب أن يخرج إليه رجل منهم ليكلّمه، فخرج إليه: عتاب بن الأعور الثعلبيّ، فحاججه ابنُ عبّاس حتّى ألزمه الحجّة، وحمله على أن يقول: إنّا للهِ وإنّا إليه راجعون، ويحك يا ابن عباس! احتلتَ واللهِ حتّى أوقعتني في أمر، وألزمتني الحجّة حتّى جعلتني ممّن أُخرّب دار الله. لكن ويحك يا ابن عبّاس! فكيف التخليص ممّا أنا فيه؟ قال ابن عبّاس: الحيلة في ذلك أن تسعى في عمارة ما أخْربته الأمّة من دار الإسلام. قال: فدُلّنيعلى السّعي في ذلك. قال ابن عبّاس: إنّ اوّل ما يجب عليك في ذلك أن تعلم من سعى في خراب هذه الدار فتعاديَه، وتعلم من يريد عمارتها فتُواليَه. قال: صدقت يا ابن عبّاس، واللهِ ما أعرفُ أحداً في هذا الوقت يحبّ عمارة دار الإسلام غير ابن عمّك عليّ بن أبي طالب، لو لا أنّه حكّم عبد الله بن قيس(1) في حقٍّ هو لَهُ!...؛ فصاحت الخوارج: هيهات يا ابن عبّاس! نحن لا نتولّى عليّاً بعد هذا اليوم أبداً، فارجع إليه وقل له فليخرج إلينا بنفسه حتّى نحتجّ عليه ويسمع من كلامنا.

فخرج عبد الله بن عبّاس إلى عليّعليه‌السلام ، فخبّره بذلك، فركب إلى القوم في مائة رجل من أصحابه حتّى وافاهم بحروراء، فلمّا بلغ ذلك الخوارج ركب عبد

____________________

(1) هو أبو موسى الأشعريّ.

١٠٦

الله بن الكوّاء في مائة رجل من أصحابه حتّى واقفه، فقال له أمير المؤمنين: يا ابن الكوّاء، إنّ الكلام كثير، ابرزْ إليّ من أصحابك حتّى أُكلّمك؛ قال ابن الكوّاء: وأنا آمنٌ من سيفك؟ قالعليه‌السلام نعم، وأنت آمنٌ من سيفي. فخرج ابن الكوّاء في عشرةٍ من أصحابه، ودنوا من عليّعليه‌السلام فذكر عليّعليه‌السلام الحرب الذي كان بينه وبين معاوية، وذكر اليوم الذي رُفعت فيه المصاحف وكيف اتّفقوا على الحكمين...، ومخالفة الخوارج له، فانحاز ابن الكوّاء مع العشرة الذين معه إلى صفّ أمير المؤمنين، وقد رجعوا عن رأي الخوارج، ومضى الباقون وهم يقولون: لا حُكمَ إلاّ لله ولا طاعة لمن عصى الله(1) .

وقفة تأمّل أخرى

لقد وجدنا فيما ذكرنا أنّ عتاب بن الأعور الثعلبيّ الخارجيّ قد أقرّ لابن عبّاس أنّه قد ألزمه الحجّة، وأنّ سعي الخوارج فسادٌ في الأرض، وأنّ الحقّ مع أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ، فأين هذا ممّا ادّعاه ابن تيميه؟!

وقد وجدنا ابن الكوّاء، وهو رأس الخوارج، بعد مناظرة أمير المؤمنينعليه‌السلام له، قد رجع هو والعشرةُ الذين كانوا معه عن رأي الخوارج وصاروا إلى صفّ أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وأمّا بقيّة الخوارج فإنّهم قد استزلّهم الشيطان وركبتهم الحميّة الجاهليّة، ومضوا ينادون:لا حُكمَ إلاّ لله ولا طاعة لمن عصى الله؛ أي أنّهم لم يكفّروا عليّاًعليه‌السلام كما زعم ابن تيميه.

____________________

(1) الفتوح 4: 90 -97.

١٠٧

مقتل عبد الله بن خَبّاب بن الأَرَتّ

إنّ الخوارج الذين تشدّق ابن تيميه بهم وجعلهم حجّةً على الإمام عليّعليه‌السلام وشيعته، عاثوا في الأرض فساداً؛ فبعد انحياز رئيسهم ابن الكوّاء وعشرةٍ منهم إلى صفّ أميرالمؤمنينعليه‌السلام ؛ تدارسوا أمرهم فأمّروا عليهم عبد الله بن وهب التّميميّ الراسبيّ، وحرقوص بن زهير البَجَليّ. وعقدوا العزم على أن يعسكروا بالنَّهروان والتحق بهم أصحابٌ لهم من البصرة مع مِسعَر بن فدكيّ التميميّ، فاستعرض هؤلاء الناس في طريقهم، فإذا هم برجلٍ يسوق بامرأتِه على حمارٍ له، فدعوه وانتهروه ورعّبوه، وقالوا له: من أنت؟ فقال: رجلٌ مؤمن. قالوا: فما اسمُك؟ قال: أنا عبد الله بن خبّات بن الأرتّ، صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فكفّوا عنه، قالوا له: ما تقول في عليّ؟ قال: أقول: إنّه أمير المؤمنين وإمام المسلمين وحدّثني أبي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: «ستكون فتنة يموت فيها قلب الرجل، فيُصبح مؤمناً ويُمسي كافراً؛ ويُمسي مؤمناً ويُصبح كافراً». فقالوا: والله لنقتلنّك قتلةً ما قُتِلَها أحد! وأخذوه فكتّفوه، ثم أقبلوا به وبامرأته وهي حُبلى مُتمّ حتّى نزلوا تحت نخل فسقطت رطبة منها، فقذفها بعضهم في فيه، فقال له رجل منهم: أبغير حِلّها ولا ثمن لها؟! فألقاها من فيه واخترط سيفه فمرّ به خنزير لذمّيّ فقتله، فقال له بعض أصحابه: إنّ هذا لمن الفاسد في الأرض! فطلب صاحب الخنزير حتّى أرضاه، فقال ابن خبّاب: لئن كنتم صادقين فيما أرى وأسمع؛ إنّي لآمنٌ من شرّكم. فجاءوا به وألقوا به على الخنزير فذبحوه، وبقروا بطن امرأته وهي تقول: أما تتّقون الله؟! وقتلوا ثلاث نسوةٍ كُنّ معها.

١٠٨

وقد قال الخوارج لعبد الله بن خبّاب ساعة ذبحه: إنّ هذا الذي في عنقك يأمرنا بقتلك! وكان في عنقه مصحف. وساوموا رجلاً نصرانيّاً بنخلةٍ له، فقال: هي لكم، فقالوا: ما كنّا لنأخذها إلاّ بثمن، فقال: واعجباه! أتقتلون مثل عبد الله بن خبّاب ولا تقبلون جَنا خلة إلاّ بثمن؟!

وبلغ أميرَ المؤمنينعليه‌السلام ما اجترأه الخوارج من ترويع الناس بالاستعراض، وقتلهم عبد الله بن خبّاب وتلكُم النّسوة، فبعث إليهم الحارث بن مرّة العبديّ ليأتيهم فينظر فيما بلغه عنهم، فخرجوا إليه فقتلوه(1) .

سؤال

قومٌ يقتلون صحابيّاً ولم يكن رافضيّاً! لأنّه صدقهم القول في معتقده في عليّعليه‌السلام ، ويبقرون بطن امرأته الحامل فيقتلونها مع ثلاث نسوة! والإسلام يأبى قتل النساء والذّريّة، وهذا هو مبدأ الإمام عليّعليه‌السلام في حروبه كلّها، وهم إذ يقتلون المؤمنين من غير ذنب، فإنّهم يرون للخنزير حرمةً لا يجوز هتكها، وحمل سلوكهم رجلاً نصرانيّاً أن قال لهم: «واعجباه! أتقتلون مثل عبد الله بن خبّاب ولا تقبلون جنا نخلةٍ إلاّ بثمن؟!»؛ وإنّ من مبادئ الإسلام حرمة قتل الرّسل، فما بالُهم عَدَوا على رسول الإمام عليّعليه‌السلام فقتلوه؟!

كلّ هذه المفاسد العظيمة، وما سبقها من إقرارٍ على أنفسهم وانحياز أميرهم

____________________

(1) الإمامة والسياسة لابن قتيبة 1: 122، وأنساب الأشراف للبلاذريّ 3: 141، وتاريخ الطبري 4: 61، والفتوح 4: 198.

١٠٩

وعشرة آخرين منهم إلى صفّ أمير المؤمنينعليه‌السلام ؛ وما سنذكره من رجوع ألوف منهم، ومع كلّ ذاك يبقى الخوارج حجّة عند ابن تيميه فيما ذكر!!

مناظرة أمير المؤمنينعليه‌السلام للخوارج

بعد الذي كان من الخوارج، سار إليهم أمير المؤمنينعليه‌السلام بأصحابه، حتّى إذا صار قريباً من النهروان جاء رجلٌ يعدو، فسأله أمير المؤمنين: ما وراءك؟ فقال: إنّ القوم لمّا علموا أنّك تقاربت منهم عبروا النهروان هاربين، فقالعليه‌السلام : أنت رأيتهم حين عبروا؟ قال نعم؛ فقال له: كلاّ والذي بعث محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله بالحقّ نبيّاً، لا يعبرون حتّى يَقتُلَ اللهُ مقاتلتهم على يدي، فلا يبقى منهم إلاّ أقل من عشرة، ولا يقتل من أصحابي إلاّ أقلّ من عشرة، ذلك عهدٌ معهود وقضاءٌ مقضيّ(1) .

ولمّا صار قبالة القوم مدّوا الرماح في وجهه وهم يقولون: لا حكم إلاّ للهِ، فقال أميرالمؤمنين: لا أنتظر فيكم إلا حُكم الله(2) .

ثمّ إنّهعليه‌السلام دخل معهم في مناظرة طويلة، فكانوا كلّما أشكلوا عليه أمراً أجابهم بدليلٍ من القرآن أو السنّة، حتّى قطع جميع حججهم، وجعل بعضُهم يقول لبعض: صدق فيما قال، ولقد دحَضَ جميع ما احتججنا عليه؛ ثمّ صاح القوم من كلّ ناحية وقالوا: التوبةَ التوبة يا أمير المؤمنين!

فاستأمن إليه منهم ثمانية آلاف، وبقي على حربه أربعة آلاف، وأقبلعليه‌السلام

____________________

(1) الفتوح 4: 120، والكامل للمبرد 543.

(2) الفتوح 4: 268.

١١٠

إلى هؤلاء المستأمنين إليه فقال: اعتزلوا عنّي في وقتكم هذا وذروني والقوم.

ثمّ اشتبك العسكران في معركة عدم نظيرها؛ فلم يُقتَل من أصحاب أميرالمؤمنينعليه‌السلام إلاّ ثمانية، وقيل: تسعة رجال، ولم يفلت من الأربعة آلاف خارجيّ إلاّ تسعة رجال، انتهى أحدُهم إلى قرب حرّان؛ ونسله فيها(1) ، وهي المدينة التي ولد فيها ابن تيميه وترعرع بها.

تعقيب

إنّ الخوارج، لمّا فنّد أميرالمؤمنينعليه‌السلام آراءهم وأبطل حججهم فأعلنوا توبتهم، نادوا عليّاًعليه‌السلام بأمرة المؤمنين، ممّا يعني أنّهم كانوا يعتقدون ذلك ولكن استحوذ عليهم الشيطان ثمّ ثابوا إلى رُشْدهم، ولم يبق إلاّ مَن حقّ عليه العذاب فما الدنيا أصابوا وهم في الآخرة من الخاسرين.

وقبل ذكر ما ورد فيهم من الأحاديث نقول لابن تيميه: هلاّ كنت مع الثمانية آلاف، وأحد عشر ممّن سبقهم إلى التوبة - ابن الكوّاء وجماعته - فكنت معهم في صفّ عليّ وشيعته، لا مع أهل اللّجاجة ممّن أخبر الإمام عليّعليه‌السلام أنّه لن ينجو منهم إلاّ دون العشرة؛ فكان كما قال؟!

الأخبار والآثار الواردة في الخوارج

ذو الخُوَيصرة التّميميّ: وهو الخارجيّ الأوّل، ومن قصّته: حينما كان رسول

____________________

(1) الفتوح 4: 269 - 275.

١١١

اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، يعطي الناس من أموال حنين، جاء ذو الخويصرة التّميميّ فقال: يا محمّد، قد رأيتُ ما صنعتَ في هذا اليوم، فقال رسول الله أجل، فكيف رأيت؟ قال: لم أرك عدلتَ؛ فغضب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ قال: ويحك! إذا لم يكن العدلُ عندي فعند من يكون؟! فقال عمر بن الخطّاب: يا رسول الله، ألا أقتله؟ فقال: «لا، دَعهُ، فإنّه سيكون له شيعة يتعمّقون في الدّين حتّى يخرجوا منه كما يخرج السّهم من الرّميّة، يُنظَر في النَّصل فلا يوجد شيء، ثمّ في القِدْح فلا يوجد شيء، ثمّ في الفوق فلا يوجد شيء، سبق الفرث والدمّ»(1) .

رواية جابر: مسلم صاحب الصحيح: حدّثنا محمّد بن رمح بن المهاجر، أخبرنا اللّيث عن يحيى بن سعيد، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: أتى رجلٌ رسولَ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالجعرانة منصرفه من حنين، وفي ثوب بلال فضّة، ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقبض منها يعطي الناس، فقال: يا محمّد! أعدل! قال: ويلك ومن يعدل إذا لم أكن أعدل؟! لقد خِبتَ وخسرت إن لم أكن أعدل فقال عمر: دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق، فقال: معاذ الله أن يتحدّث الناس أنّي أقتل أصحابي إنّ هذا وأصحابه يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون منه كما يمرق السهم

____________________

(1) السيرة النبويّة، لابن هشام 4: 139.

«يتعمّقون في الدّين» أي يتتبّعون أقصاه، «والنّصل»: حديد السهم. و «القدح»: السّهم.

والفوق: طرف السهم الذي يباشر الوتر. و«الفرث»: ما يوجد في الكرش. والمعنى: أنّهم ليس لهم من الدّين شيء، كالسهم يخترق البدن ويخرج من غير أن يعلق به أثر من دم وغيره.

١١٢

من الرَّمِيّة.(1)

كلمة مع ابن تيميه: ذو الخويصرة هو الخارجيّ الأوّل، له أصحاب؛ فخرج هو على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وخرج أصحابه على عليّعليه‌السلام الذي هو نفس رسول الله كما في آية المباهلة، وأخوه يوم المؤاخاة، وقد أنكرته يا ابن تيميه وأثبتناه، وبحديث المنزلة إذ هارون أخو موسىعليهما‌السلام ...؛ وأنت تتولّى الخوارج من غير

____________________

(1) صحيح مسلم، بشرح النوويّ 7: 159.

ذكر النوويّ هامش المصدر: قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: إنّ من سبّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كُفِّر وقتل، وهذا الرجل قال: اعدل يا محمّد واتّق الله يا محمّد، وخاطبه خطاب المواجهة بحضرة الملأ حتّى استأذن وخالد في قتله؛ فقال: معاذ الله أن يتحدّث الناس أن محمّداً يقتل أصحابه! فهذه هي العلّة. وسلك معه مسلكه مع المنافقين الذين آذوه وسمع منهم في غير موطن ما كرهه، لكنّه صبر استبقاءً لانقيادهم وتأليفاً لغيرهم، لئلاّ يتحدّث الناس أنّه يقتل أصحابه فينفروا. وقد رأى الناس هذا الصنف في جماعتهم، وعدوّه من جملتهم. قوله 9: «ومن يعدل إذا لم أكن أعدل؟ لقد خبت وخسرتَ»، روي بفتح التاء في خبتَ وخسرت، وبضمّهما فيهما، ومعنى الضّم ظاهرٌ؛ وتقدير الفتح: خبت أنت أيّها التابع إذا كنتُ لا أعدل لكونك تابعاً ومقتدياً بمن لا يعدل، والفتح أشهر والله أعلم. قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم» قال القاضي - عياض -: فيه تأويلان، أحدهما معناه: لا تفقهه قلوبهم ولا ينتفعون بما تلوا منه، ولا لهم حظّ فيه سوى تلاوة الفم: الحنجرة والحلق، إذ بهما تقطيع الحروف. والثاني: معناه لا يصعد لهم عمل ولا تلاوة. قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله «يمرقون منه كما يمرق السهم من الرميّة»، وفي الرواية الأُخرى يمرقون من الإسلام، معناه: يخرجون منه خروج السهم إذا نفذ الصيد من جهة أخرى ولم يتعلّق به شيء منه.

وقال الخطابيّ: هو هنا الطاعة، أي من طاعة الإمام، وفي هذه الأحاديث دليل لمن يُكفّر الخوارج.

١١٣

تمييز، فبالضرورة أنّك تتولّى الخارجيّ الأوّل، فهل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عادل عندك؟!

رواية أبي ذرّ: مسلم: حدّثنا شيبان بن فرّوخ، حدّثنا سليمان بن المُغيرة، حدّثنا حُميد بن هلال عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذرّ قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ بعدي من أمّتي قومٌ يقرأون القرآن لا يجاوز حلاقِيَهم، يخرجون من الدّين كما يخرج السهم من الرّميّة ثم لا يعودون فيه، هم شرُّ الخلق والخليقة».

فقال ابن الصامت: لقيت رافع بن عمرو الغفاريّ أخا الحكم الغفاريّ فقلت له: ما حديث سمعته من أبي ذرّ كذا وكذا؛ فقال وأنا سمعته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (1) .

فالخوارج شرّ خلق الله، وفسّر ذلك بخروجهم من الدين، ومن طاعة الإمام، وكلُّ ذلك متحقّق في الخوارج منفيّ عن شيعة أهل بيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد ذكرنا شيئاً من أخبارهم وفساد معتقدهم وفساد سلوكهم، ونعت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إيّاهم بسنده عن أبي سعيد الخُدريّ؛ من حديث توزيع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مغنماً بعثه إليه الإمام عليّعليه‌السلام ، وفيه: فجاء رجلٌ كثُّ اللّحية مشرف الوجنتين غائر العينين ناتئ الجبين محلوق الرأس(2) ؛ فقال: اتّق الله يا محمّد، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «فمن يطع الله إن عصيتُه، أيأمَنُني على أهل الأرض ولا تأمنونني؟! قال: ثمّ أدبر الرجل، فاستأذن رجل من القوم في قتله؛ فقال رسول الله: «إنّ من ضِئْضِىء هذا قوماً يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان! يمرقون

____________________

(1) صحيح مسلم 7: 174.

(2) كثّ اللّحية: كثير اللّحية. والوجنة: لحم الخدّ. غائر العينين: صغيرهما كأنّهما مطموستان. ناتئ الجبين: بارز الجبين وهو جانب الجبهة. محلوق الرأس: واضح، وكانت حلاقة الرأس علامة لهم.

١١٤

من الإسلام كما يمرق السّهم من الرّميّة، لئن أدركتهم لأقتلنّهم قتل عاد»(1) .

وأورده بسندٍ آخر عن أبي سعيد الخدريّ، وفيه «لئن أدركتهم لأقتلنّهم قتل ثمُود»(2) .

فهنيئاً لمن يوالى قوماً يقتلون أهل الإسلام ويَدَعون أهل الأوثان! ولذلك توعّدهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه لو أدركهم لاستأصلهم وصدق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو الصادق المصدّق؛ فلقد وجدناهم يقتلون الصحابيّ عبد الله بن خبّاب بن الأرتّ، ويبقرون بطن امرأته الحامل، ويقتلون النّسوة الثلاث؛ إلاّ أنّهم أشكلوا على صاحبهم إذ قتل خنزيراً لذمّيّ معاهد! وأخبارهم في استعراض الناس بالقتل مشهور.

وإذا فات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يدركهم فيقتلهم قتلاً عامّاً؛ فقد أدركهم أمير المؤمنينعليه‌السلام فكانت له فضيلة قتالهم كما ذكر النوويّ، ولم يسلم من مجموع أربعة آلاف خارجيّ إلاّ تسعة انتهى أحدهم إلى قرب حرّان، وتناسل هناك؛ ولا ندري جزماً لِمَ احتجّ ابن تيميه الحرّانيّ بالخوارج على عليّ أميرالمؤمنين وشيعته؟!

____________________

(1) صحيح مسلم 7: 162. وفي شرح النوويّ: قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ من ضِئضِي هذا» هو الأصل، والسنخ، والعنصر، والأرومة. قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «لئن أدركتهم لأقتلنّهم قتل عاد» أي قتلاً عامّاً مستأصلاً كما قال تعالى:( فَهَلْ تَرَى‏ لَهُم مِن بَاقِيَةٍ ) (الحاقّة: 8) وفيه الحثّ على قتالهم، وفضيلة لعليّرضي‌الله‌عنه في قتالهم.

(2) نفسه / 163.

١١٥

الحثّ على قتل الخوارج؛ واختصاص أميرالمؤمنين بذلك

أخرج النّسائيّ، قال: أخبرنا عليّ بن المنذر قال: أخبرنا عاصم بن كليب عن أبيه، قال: كنت عند عليّرضي‌الله‌عنه جالساً إذ دخل رجلٌ عليه ثياب السفر، وعليّ يكلّم الناس ويكلّمونه، فقال: يا أمير المؤمنين أتأذن لي أن أتكلّم؟ فلم يلتفت إليه وشغله ما فيه، فجلس إلى رجل قال له: ما عندك؟ قال: كنت معتمراً فلقيت إليه وشغله ما فيه، فجلس إلى رجل قال له: ما عندك؟ قال: كنت معتمراً فلقيت عائشة فقالت: هؤلاء القوم الذين خرجوا في أرضكم يسمّون حروريّة؟ قلت: خرجوا في موضع يسمّى حروراء؛ فقالت: طوبى لمن شهد منكم، لو شاء ابن أبي طالب لأخبركم خبرهم! فجئت أسأله عن خبرهم، فلمّا فرغ عليّعليه‌السلام قال: أين المستأذن؟ فقصّ عليه كما قصّت عليه؛ قال: إنّي دخلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وليس عنده غير عائشة، فقال لي كيف أنت يا عليّ وقومٌ كذا وكذا؟

قلتُ: الله ورسوله أعلم. قال: ثم أشار بيده فقال: قوم يخرجون من المشرق، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقِيَهم، يمرقون من الدّين كما يمرق السّهم من الرّميّة، فيهم رجلٌ مُخَدَّج(1) ، كأنّ يده ثدْيُ حبشيّة، أنشدكم باللهِ أخبرتكم أنّه فيهم؟ قالوا: نعم؛ فجئتموني وأخبرتموني أنّه ليس فيهم، فحلفت لكم باللهِ أنّه فيهم، ثمّ أتيتموني به كما نعتّ لكم؟ قالوا: نعم؛ صدق اللهُ ورسوله(2) .

وعبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي اسحاق، عن سويد بن غفلة، عن عليّعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «يخرج قوم في آخر الزمان، يقرأون

____________________

(1) مُخَدَّج: أي ناقص اليد.

(2) خصائص أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام للنّسائيّ 145 - 146 / ح 178.

١١٦

القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرّميّة، قتالهم حقّ على كلّ مسلم»(1) .

والروايات كثيرة في أنّ الخوارج هم شرّ الخلق، يقتلهم أولى الناس بالحقّ، وقد قتلهم أمير المؤمنينعليه‌السلام ومعه أهل العراق.

عن الأعمش، عن خيثمة، عن سويد بن غفلة، عن عليّعليه‌السلام قال: والحديث نظير الذي قبله، إلاّ أنّ آخره: «فأينما أدركتموهم فاقتلوهم، فإنّ في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة»(2) .

وبسندٍ عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه ذكر أناساً يخرجون في فرقةٍ من الناس سيماهم التحليق، يمرقون من الدين كما يمرق السّهم من الرّميّة، هم شرّ الخلق، تقتلهم أولى الطائفتين بالحقّ، وأنتم قتلتموهم يا أهل العراق(3) .

التفريع الثالث

افترض ابن تيميه أمراً بلا دليل! وذلك: إن كان أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام أفضل من غيره في عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ فلا يدلُّ ذلك على أفضليّته بعد!

____________________

(1) مسند أحمد 1: 156، وخصائص أمير المؤمنين 144 / ح 174، ومسند أبي يعلى 1: 273.

(2) صحيح البخاريّ 3611، 5057، 6930 باب علامات النبوّة، وصحيح مسلم 7: 167 - 168، ومسند أحمد 1 / 81، 113، 131، والفضائل لأحمد / 1198، وسنن أبي داود / 4767، ومسند أبي يعلى 1 / 226، والخصائص للنّسائيّ 143 / 173.

(3) صحيح مسلم 7: 169، والخصائص للنّسائيّ 140 / 168.

١١٧

ولو كان عنده ثمّة ما يعضّد ما ذهب إليه لذكره؛ فعليه: إنّ عليّاً أمير المؤمنينعليه‌السلام أفضل الجميع بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، في حياته وبعد مماته.

التفريع الرابع

وفرّع رابعاً، ذلك قوله: لو قدّرنا أفضليّته، لم يدلّ ذلك على أنّه إمام معصوم منصوصٌ عليه.

وجوابنا: لقد جارينا ابن تيميه، بغية إمامة الحجّة على من وقع في حبائل فتنته من غير تدبّر؛ وإلاّ فأمير المؤمنين قد نطق القرآن الكريم بأفضليّته إذ اختاره الله تعالى وليّاً للمسلمين؛ وذلك قوله تعالى:( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) (1) ، وقد تكلّمنا حول الآية فيما مضى، وأنّها نزلت في أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام لمّا تصدّق بخاتمه في الصلاة، فقرن الله سبحانه ولاية عليّعليه‌السلام بولايته وولاية رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا يجوز على الله عزّ وجلّ أن يختار إلاّ من هو أفضل.

ولم ينزل سبحانه بياناً ينسخ ذلك، فالآية محكمة، وعليّعليه‌السلام ولايته دائمة، خالدة مع خلود القرآن؛ فهو الأفضل بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى آخر الدهر.

____________________

(1) المائدة: 55.

ولا بأس بذكر بعض مصادر نزول الآية في أمير المؤمنينعليه‌السلام : تفسير مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) 1: 485 - 487، والذرّيّة الطّاهرة للدولابيّ (ت 310 هـ) 109 / 114، وتفسير الطبريّ 6: 156، وتفسير الحبريّ (ت 289 هـ) 261، وأنساب الأشراف (ت 279 هـ) 2: 381، وشواهد التنزيل 1: 181، والتفسير الكبير للفخر الرازيّ 3: 431، وتفسير ابن كثير 2: 71.

١١٨

وهذا دليل على عصمة أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ؛ فإنّ الله تعالى اختار محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله نبيّاً، والنبيّ معصومٌ بالضرورة، فكذلك وليُّ الله.

ومن أدلّة عصمتهعليه‌السلام : آية التطهير؛ وذلك قوله تعالى« إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً » (1) .

والآية في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعليّ وفاطمة والحسن والحسين:.

روى ذلك: أم سلمة، وعائشة، وأبو سعيد الخدريّ، وأنس بن مالك، وسعد بن أبي وقّاص، وابن عبّاس عن عبد الرحمان بن عبد الله بن دينار، عن شريك بن أبي نمر، عن عطاء بن أبي يسار، عن أمّ سلمة أنّها قالت: في بيتي نزلت هذه الآية:« إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً » . قالت: فأرسل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى عليّ وفاطمة والحسن والحسين، فقال: «اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي»، قالت أمّ سلمة، يا رسول الله، ما أنا من أهل البيت؟ قال: «إنّك أهلي، وهؤلاء أهل بيتي»(2) .

وعن فضيل بن مرزوق، عن عطيّة العوفيّ، عن أبي سعيد الخدريّ عن أمّ سلمة أنّها قالت: نزلت هذه الآية في عليّ:« إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً » . وقالت: قلت: يا رسول الله، ألست من أهل

____________________

(1) الأحزاب: 33.

(2) المستدرك على الصحيحين 2: 416 و 3: 146 وبذيله التلخيص للذهبيّ. وفي سنن الترمذيّ 5: 328 عن عمر بن أبي سلمة، ربيب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّ النبيّ قال: «أنت على مكانك وأنت إلى خير». وفي الباب عن أمّ سلمة، ومعقل بن يسار، وأبي الحمراء، وأنس بن مالك.

١١٩

البيت؟ قال: «إنّك على خير، إنّك من أزواج النّبيّ». وكان في البيت: رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعليٌّ وفاطمة والحسن والحسين:(1) .

ومثله عن عائشة: قال جُمَيع بن عُمَير: دخلت مع أمّي على عائشة فقالت: أخبريني كيف كان حبّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّ؟ فقالت عائشة: كان أحبّ الناس إلى رسول الله، لقد رأيته يوماً أدخله تحت ثوبه وفاطمة وحسناً وحسيناً؛ فقال: «اللّهمّ اذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً». قال: فذهبت لأدخل رأسي فمنعني، فقلت: يا رسول الله، أولستُ من أهلك؟ قال «إنّك على خير»(2) .

منزلة دعوان

قال أبو الفرج: كتب إليّ عبد الله الجبائيّ قال: رأيت دعوان بن عليّ بعد موته وكأنّ عليه ثياباً بيضاً وعمامةً بيضاء وهو يمضي إلى الجامع لصلاة الجمعة، فأخذت يده اليسرى ومضينا، فلمّا بلغنا إلى حائط الجامع قلت له: يا سيّدي، إيش لقيت؟ فقال: عُرِضتُ على الله خمسين مرّة وقال لي: إيش عملت؟ فقلت: قرأتُ القرآن وأقرأته، فقال لي: أنا أتولاّك، أنا أتولاك. قال عبد الله: فأصابني الوجد وصحت: آه، وضربتُ بيدي حائط الجامع ثلاث مرّات أتأوّه وأضرب الحائط بكتفي، ثمّ استيقظت.(3)

____________________

(1) مشكل الآثار للطحاويّ 1: 334، وتفسير الحبريّ 298، والمعجم الكبير للطبرانيّ 1: 127، وشواهد التنزيل الرقم 712 - 713، وتفسير ابن كثير 3: 485.

(2) مختصر تاريخ دمشق 17: 365.

(3) المنتظم لأبي الفرج ابن الجوزيّ 18: 58 / 4137.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

هذه القصّة تكشف عن العنف عند العرب في تعاملهم مع النّساء حتى بعد الإسلام، والمؤسف بالغ الأسف أنّ هذه الظاهرة لا تزال سارية المفعول في أيّامنا(١) ، تنشر الرّعب في البيوت وتفرّق بين المرء وزوجه، وتشوّه صورة الأب لدى ولده، وتسمّم الأجواء بين العوائل المتصاهرة، حتى في بيوت تتمتّع فيها الزوجة بمستوى ثقافي رفيع , وتشغل منصبا لا يقلّ رتبة عن مناصب الشخصيّات المرموقة من الرجال. ذكرت جريدة الأطلسي النّاطقة بالفرنسيّة في عدد السّبت ١١/١١/٢٠٠٦ قصّة الوزيرة الموريتانيّة أميانة صو محمد دينا التي أشبعها زوجها ضربا إثر خلاف عائلي. وقالت المصادر التي سربّت الخبر للصّحيفة: (إن السيّدة تعرّضت لضرب شديد، وإنّ جيرانها أنقذوها من هلاك محقق)، بينما أوضحت وكالة أنباء الأخبار الموريتانيّة المستقلّة أنّ مصدرا مقرّبا من مدير تحرير الصحيفة أكّد لها (أنّ المدير تعرّض لضغوط كبيرة لتقديم اعتذار عن نشر القصّة التي تمثّل حرجا للحكومة الانتقالية)(٢) .

ولعلّ كثيرا من الذين يضربون نساءهم إنّما ينفّسون على أنفسهم من شدّة ما يلقون في حياتهم المهنيّة أو علاقاتهم الاجتماعيّة خارج البيت؛ وإلاّ فإنّ أولى النّاس باستدرار رحمة الرّجل وشفقته وحنانه زوجته وأولاده، فإنّهم لا يتوقّعون منه مجرّد الإعالة

____________________

(١) الترخيص بالضرب الخفيف أساء فهمه أقوام فانتقلوا من الترخيص إلى التحريض، ومارسوا ذلك في دول الغرب باسم الإسلام فقدموا دليلا ملموسا لمن يتهم المسلمين بالعنف. جاء في جريدة الشرق الأوسط ليوم الثلاثاء ٢٤ ذو الحجة ١٤٢٦ هـ ٢٤ يناير ٢٠٠٦ العدد ٩٩١٩ ما يلي: طالب أحد القياديين الحزبيين في هولندا بضرورة الملاحقة القضائية لكل شخص يحرض الرجال على ضرب النساء، وطالب بتعديل القوانين حتى تسمح بتحقيق ذلك. جاء ذلك على لسان ما كسيم فيرهاخن، رئيس المجموعة البرلمانية للحزب الديمقطراطي المسيحي، اكبر الأحزاب الهولندية والذي يقود الائتلاف الحكومي الحالي برئاسة بيتر بالكينيند. وأضاف المسئول الحزبي في تصريحات لصحيفة (تراو) الهولندية على موقعها بالإنترنت، أنه يرد بذلك على الدعوات، التي تضمنتها تصريحات وخطب عدد من الأئمة المسلمين في المساجد والتي تضمنت إعطاء الحق للرجل بضرب زوجته إذا أخطأت. وقال (إن القوانين الحالية تقف عائقا إمام النيابة العامة لملاحقة هؤلاء الأشخاص، ومن أجل إزالة تلك العوائق لابد من إجراء تعديل في القانون الحالي، الذي ينصّ على حرية العقيدة وحرية التعبير، وهي أمور يستغلها البعض في التحريض على أشياء ويقف القانون عاجزا على محاكمة هؤلاء الأشخاص.

(٢) باعتبار أن المجتمع الموريتاني أيضا مجتمع قبليّ، فإنّه لا يبعد أن تكون قبيلة الزّوج الضّارب أكثر ما لا وأعزّ نفرا من قبيلة الزوجة المضروبة، ولهذا تمّ دفن القضيّة بهدوء. والعرف يقضي أنّ الوزراء يتمتّعون بحصانة دبلوماسية، وأنّ التعدّي على أحدهم بالضّرب مما يعاقب عليه القانون.

٣٨١

الماديّة من تغذية وكسوة وعلاج،وإنّما يهفون إلى مزيد من العناية العاطفيّة والرّعاية المعنويّة، وذلك هو ما يقوّي العلاقات بين أفراد الأسرة، ويعطي الطّفولة الطّعم الذي ينشده كلّ طفل.

والذي لا يقبل كثرة الجدال، باعتباره أمرا وجدانيا، هو أنّ صورة الأمّ في نفوس وقلوب أطفالها تتكسّر إذا ضربها شخص ما أمامهم، فكيف إذا كان الضّارب هو الأب نفسه، الذي يفترض فيه حمايتها ورعاية حرمتها وطلب راحتها. هذه النّقطة التي لا يلتفت إليها كثير من الآباء هي وراء عنف الشّوارع والملاعب، كما أنّ أثرها واضح في تقهقر وانحطاط مستويات التّلاميذ في المدراس!

قصّة ضرب النساء بطلها عمر بن الخطاب، فهو الذي ذهب إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخبره بالسّلوك الجديد للنّساء، وحصل بذلك على رخصة لضرب النّساء بما يضمن عودة حقوق الرّجال، وهو إنجاز حضاري كبير يسجّل لعمر، لأنّه استطاع أن يعيد النّساء إلى وضعهنّ الذي كنّ عليه في الجاهليّة، ولهذا نراه فيما بعد حين أصبح على سدة الحكم يقول: (لا يسأل الرجل فيم يضرب زوجته) أو بعبارة قرآنية (لا يسأل عما يفعل)؛ وقد جاء ردّ فعل الرجال سريعا وبشكل جماعيّ، وهو ما يطرح علامة استفهام بخصوص العلاقات في بيوت الصّحابة، والموقف من الضرب، لأنّ سلوكا جماعيا بهذا الانسجام لا يحدث غالبا بهذه السّرعة، إذ بمجرّد أن صدر التّرخيص بالضرب كثرت ضحايا العنف من النّساء، ولا يعقل كون النّساء قد أسأن المعاملة مباشرة بعد التّرخيص، لأنّ ذلك ليس في مصلحتهنّ، لكن يبدو أنّ هناك من كان ينتظر هذا التّرخيص لإعادة الجاهلية في معاملة النساء.

تصرّح بعض الرّوايات أنّ النساء اللاتي طفن بآل محمد يومها كنّ سبعين امرأة، وهذا عدد كاف للفت انتباه كل من يراهنّ مجتمعات أمام بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو بيت فاطمة وعلي عليهما السلام، لأنّ الرواية تقول: (لقد طاف بآل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نساء كثير يشتكين أزواجهن)، وهو مشهد محزن تنفلق له الأكباد، ولا شكّ أنّ الضّرب كان قد

٣٨٢

بلغ الحدّ الذي يدفع إلى التّشكّي، وإلاّ فإنّ المرأة تحرص عادة على إخفاء الضّرب الخفيف، ولا تعتبره شيئا يستحقّ أن يطلّع عليه الأجانب عن العائلة، لأنّ في إظهار ذلك حطّا من شأنها قبل كل شيء، وإظهارا لسوء العلاقة بينها وبين زوجها، فإنّ الرّجل الذي يحبّ امرأته لا يضربها؛ فالمرأة تحرص على أن تبدو الأمور طبيعية لا عنف فيها، لكن إذا بلغت الأمور الحدّ الذي لا يطاق، فإنّها تشكو ما تلقى ولو بحثا عن المواساة لتخفيف الألم، وقد يكون ذلك نقطة التّحول للتفكير الجدّي في طلب الطلاق.

نقطة أخرى ينبغي الإشارة إليها، وهي أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال بخصوص الذين ضربوا النساء (ليس أولئك بخياركم)، فنفى عنهم أن يكونوا خيار الأمّة؛ ولأنّ عمر بن الخطاب منهم فإنّه بمقتضى قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يكون من خيار الصّحابة فضلا عن أن يكون خيرهم بعد أبي بكر كما يروّج له منذ قرون طويلة. قال الطيبي في شرح العبارة: (ليس أولئك أي الرجال الذي يضربون نساءهم ضربا مبرحا أي مطلقا بخياركم، بل خياركم من لا يضربهنّ ويتحمّل عنهنّ أو يؤدّبهن ولا يضربهن ضربا شديدا يؤدي إلى شكايتهن)(١) . ومع ذلك، ومع نفي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكون من يضرب النساء من خيار المؤمنين إلاّ أنّ ثقافة الكرسي تأبى أن تدخل عمر بن الخطاب في إطار من يشملهم خطاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد بقي عمر بعد هذه الواقعة يضرب النساء وكأنّ الكلام لا يعنيه. ووجد أقوام في فعله ما ينهض لفعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فاستدلّوا بعنفه على جواز الضرب!

ولأن الضرب يشوّه قطعا العلاقة بين الزوجين على كل مستوياتها فقد أشار النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ذلك بتعبير دقيق لا يرتاب فيه أهل المروءة أيّا كان الدين الذي ينتمون إليه؛ قال السيوطي: وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاريّ ومسلم والترمذي والنسائي عن عبد الله بن زمعة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضرب أحدكم امرأته كما يضرب العبد ثمّ يجامعها في آخر اليوم؟ وأخرج عبد الرزاق عن عائشة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال أما

____________________

(١) عون المعبود، ج ٦ ص ١٣٠.

٣٨٣

يستحي أحدكم أن يضرب امرأته كما يضرب العبد، يضربها أول النهار ثم يضاجعها آخره(١) ؟!

وعن هشام بن عروة عن أبيه قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أما يستحيي أحدكم أن يضرب امرأته كما يضرب العبد يضربها أوّل النّهار ثمّ يضاجعها آخره، أما يستحيي(٢) ؟!

وعن هشام بن عروة عن أبيه عن الزّبير قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ألا عسى أحدكم أن يضرب امرأته ضرب الأمة، ألا خيركم خيركم لأهله(٣) .

أقول:

وليس خير النّاس لأهله من يضربهم. والضّرب يورث التّباغض والكراهية بين الضارب والمضروب، ويكفي أنّ عمر بن الخطّاب نفسه يتألّم في شيخوخته لمجرّد تذكّر الضّرب الذي كان يتلقّاه من أبيه في الصغر، ويقول عنه (كان فظا غليظا)!

وعن الأشعث بن قيس قال: تضيّفت عمر، فلمّا كان في بعض الليل قام إلى امرأته يضربها فحجزت بينهما فلمّا رجع إلى فراشه وأخذ مضجعه قال: يا أشعث احفظ عنّي شيئا سمعته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول (لا يسأل الرّجل فيما يضرب امرأته).

وفي الطبقات الكبرى عن أبي سفيان عن أيوب قال جاءت امرأة إلى رسول الله قد ضربها زوجها ضربا شديدا فقام رسول الله فأنكر ذلك وقال: (يظل أحدكم يضرب امرأته ضرب العبد ثم يظل يعانقها ولا يستحيي)(٤) .

أقول:

قد أنكر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضرب المرأة في هذه القصة، ولو كان الحديث المنسوب إليه من طريق عمر صحيحا لقال لها (هذا شأن بينك وبين زوجك، ولا يسأل الرّجل فيما يضرب امرأته) لكنه لم يفعل، بل أنكرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأفعال النبي وتقريراته ونواهيه

____________________

(١) الدر المنثور، ج ٢ ص ٥٢٣.

(٢) مصنف عبد الرزاق، ج ٩ ص ٤٤٢ تحت رقم ١٧٩٤٣.

(٣) مسند البزار ج ٣ ص ١٩٧.

(٤) الطبقات الكبرى، محمد بن سعد ج ٨ ص ٢٠٥.

٣٨٤

واستنكاراته تكشف عن الموقف الشرعي، وعليه ينبغي على المسلم أن يستنكر ضرب النساء. وكيف ينهى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ضرب النّساء ويقول (استوصوا بالنساء خيرا) ثمّ يعطي الرّجال رخصة موسّعة لضربهنّ ويمنع من مجرّد محاولة معرفة السبب الذي أدّى إلى الضرب؟

قال ابن تيمية: (.. فإن الله قد أباح للرجل في كتابه أن يضرب امرأته إذا نشزت فامتنعت من الحقّ الواجب عليها حتى تؤدّيه(١) .

وعن أبي هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال خيركم خيركم لنسائهم. رواه البزار وفيه محمد بن عمرو بن علقمة وقد وثق وفيه ضعف وبقية رجاله ثقات(٢) .

عن عبدالرحمن بن عبد الله المكي عن الأشعث بن قيس قال: تضيّفت عمر بن الخطّاب فقام في بعض الليل فتناول امرأته فضربها ثم ناداني يا أشعث قلت لبيك قال أحفظ عني ثلاثا حفظتهن عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا تسأل الرجل فيم يضرب امرأته ولا تسأله عمن يعتمد من إخوانه ولا يعتمدهم ولا تنم إلا على وتر هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه(٣) .

أقول:

وأنت ترى أنه هتك سترها أمام أجنبي..

والقصة في سنن ابن ماجه كما يلي: عن عبد الرحمن المسلمي عن الأشعث بن قيس قال ضفت عمر ليلة فلما كان في جوف الليل قام إلى امرأته يضربها فحجزت بينهما فلما أوى إلى فراشه قال لي يا أشعث احفظ عني شيئا سمعته عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يسأل الرجل فيم يضرب امرأته ولا تنم إلا على وتر ونسيت الثالثة(٤) .

____________________

(١) دقائق التفسير، ج ٢ ص ٤٠.

(٢) مجمع الزوائد ج ٤ ص ٣٠٣.

(٣) المستدرك على الصحيحين، ج ٤ ص ١٩٤.

(٤) سنن ابن ماجه ج ١ ص ٦٣٩ تحت رقم ١٩٨٦. ومسند عبد بن حميد ج ١ ص ٤٣ تحت رقم ٣٧.

٣٨٥

أقول:

قام إلى امرأته يضربها في جوف الليل مع حضور شخص أجنبي في البيت. وقد اضطرّ الضيف إلى التّدخّل ليحجز بينهما. ولعلّ السّبب الذي ضربها لأجله لم يكن وجيها، لهذا فقد حسم المسألة بقوله ما قال.

وعن الأوزاعي عن الزهري قال مضت السّنة في الرّجل يضرب امرأته فيجرحها أن لا تقصّ منه ويعقل لها(١) .

أقول:

أية سنة هذه التي يتّحدثون عنها؟!

قال أحمد في الرجل يضرب امرأته لا ينبغي لأحد أن يسأله ولا أبوها لم ضربتها والأصل في هذا ما روى الأشعث عن عمر أنه قال يا أشعث احفظ عني شيئا سمعته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا تسألن رجلا فيما ضرب امرأته رواه أبو داود ولأنه قد يضربها لأجل الفراش فإن أخبر بذلك استحيي وإن أخبر بغيره كذب(٢) .

قال الشافعي: وفي قوله لن يضرب خياركم دلالة على أن ضربهنّ مباح لا فرض أن يضربن ونختار له من ذلك ما اختار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنحب للرّجل أن لا يضرب امرأته في انبساط لسانها عليه وما أشبه ذلك(٣) .

قال ابن كثير: واشترى (أبوبكر) جارية بني مؤمل حي من بني عدي كان عمر يضربها على الإسلام(٤) .

قال (عمر): بلى والله لقد أخبرت أنكما تابعتما محمدا على دينه وبطش بختنه سعيد بن زيد فقامت إليه أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجها فضربها فشجّها! فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه نعم قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله فاصنع ما بدا لك فلما

____________________

(١) مصنف ابن أبي شيبة، ج ٥ ص ٤١١ رقم ٢٧٤٨٩.

(٢) المغني، ج ٧ ص ٢٤٣.

(٣) كتاب الأمّ، الشّافعي، ج ٥ ص ١٩٤.

(٤) البداية والنهاية، ابن كثير، ج ٣ ص ٥٨.

٣٨٦

رأى عمر ما بأخته من الدّم ندم على ما صنع(١) .

أقول:

وأنت ترى أنه يضرب أخته أمام زوجها، ويضرب الرّجل أمام زوجته، وفي هذا من انتهاك حرمتهما ما فيه.

وعن ابن شهاب قال: حدّثني سعيد بن المسيّب قال: لمّا توفّي أبوبكر رحمه الله أقامت عليه عائشة النّوح فأقبل عمر بن الخطّاب حتى قام ببابها فنهاهنّ عن البكاء على أبي بكر فأبين أن ينتهين؛ فقال عمر لهشام بن الوليد: ادخل فأخرج إلى ابنة أبى قحافة أخت أبي بكر! فقالت عائشة لهشام حين سمعت ذلك من عمر: إني أحرّج عليك بيتي! فقام عمر لهشام: ادخل فقد أذنت لك! فدخل هشام فأخرج أمّ فروة أخت أبي بكر إلى عمر فعلاها بالدّرّة فضربها ضربات فتفرّق النّوح حين سمعوا ذلك(٢) .

أقول:

يبدو أنّ الخليفة مولع بالهجوم على أهل الحداد وعلى النّساء منهم خصوصا هذا مع أنّهم فقدوا أعزّاءهم وتيقّنوا أنّهم لن يروهم قبل يوم القيامة إلاّ في عالم الرّؤيا؛ فكما هجم على بيت فاطمة عليها السلام هجم على بيت عائشة زوج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي هي في نفس الوقت بمنزلة أمّه باعتبارها أمّ المؤمنين وزوجة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وابنة صديقه وحليفه الأوّل فلم يرع لا هذه ولا تلك ولا الأخرى وهجم على بيت عائشة الذي هو أحد بيوت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا إشكال. وقد قالت لهشام بن الوليد بعبارة صريحة إني أحرّج عليك بيتي. فإذا كان القرءان الكريم قد نهى عن دخول بيوت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من دون إذن منه فكيف بالهجوم عليه؟ ثمّ هو يقول للرّجل: ادخل فقد أذنت لك! فمتى أعطاه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكالة كي يأذن بذلك. وهل ينسخ كلام عمر كلام الله تعالى الذي لا معقب لحكمه؟ وتبقى المسألة محلّ تأمّل.

____________________

(١) البداية والنهاية، ابن كثير، ج ٣ ص ٨٠.

(٢) تاريخ الطبري، ج ٢ ص ٦١٤. والقصّة أيضا في شرح نهج البلاغة، ج ١ ص ١٨١.

٣٨٧

قال [ابن الجوزي]: أحدها أنّ عمر بن الخطّاب رأى جارية متبرّجة فضربها وكفّ ما رأى من زينتها فذهبت إلى أهلها تشكو، فخرجوا إليه فآذوه فنزلت هذه الآية رواه عطاء عن ابن عبّاس(١) .

قصّة أم كلثوم

في البداية لابدّ من التّذكير بالأساليب التي اتّبعها أعداء أهل البيت عليهم السلام للحطّ من شأنهم، وتقديمهم بصورة من لا تهمّهم المعالي ولا تحرّكهم الهمم، وهذا واضح في تكفير أبي طالب ونسبة والدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الشّرك بالله تعالى، وقصة الغرانيق، وأمور كثيرة لا تخفى على الباحث النّزيه. والإسلام يدعونا إلى التّدبّر والتّأمّل والتّفكّر كي نكون على بصيرة من أمرنا ونتجنّب التقليد الأعمى الذي كان يتمسّك به المشركون(٢) . فهل يقرّ لنا التّدبّر قبول كلّ ما وجدناه في كتب تمجّد الحاكم وإن كان فاسقا وتستهجن المعارض وإن كان ابن نبيّ؟!

من القصص التي روتها الصّحاح دون حياء من الله تعالى ولا رعاية لحرمة نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قصّة خطبة علي بن أبي طالب عليه السلام ابنة أبي جهل! ولم يأتوا باسمها ولا بصفاتها لأنّ الذين اختلقوا القصّة كان يهمّهم الطّعن في علي بن أبي طالب عليه السلام فكان كل اهتمامهم منصبّا على الخطبة وصاحب الخطبة، وأمّا التّفاصيل الخاصّة بالمخطوبة فلم يكن لها محلّ من الإعراب.

لماذ يخطب علي بن أبي طالب عليه السلام ابنة أبي جهل المزعومة بالذات؟ ومع ذلك رواها البخاري وغيره من طريق أعداء علي عليه السلام الذين حاربوه وسبّوه وشتموه ولعنوه! هذا مبلغ الإنصاف عند المحدّثين الذين يتلون قوله تعالى( وَلا يَجْرِمَنّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرّ وَالتّقْوَى ) . ولقد أشار القرآن الكريم إلى علي عليه السلام

____________________

(١) زاد المسير، ابن الجوزي ج ٦ ص ٤٢١.

(٢) إشارة إلى قول المشركين ( حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا) المائدة ١٠٤، وقولهم ( بَلْ نَتّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا) لقمان ٢١، وقولهم ( إِنّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى‏ أُمّةٍ وَإِنّا عَلَى‏ آثَارِهِم مُهْتَدُونَ) الزخرف ٢٣.

٣٨٨

بـ نفس رسول الله في آية المباهلة من سورة المائدة، فهو إذاً نفس رسول الله، فيه كل ما في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باستثناء النبوة لكونها مختومة لا أنّ عليا عليه السلام لا يكون أهلا لها، كما أنّه يأتي بعده مباشرة في الترتيب باعتباره لم يشرك بالله طرفة عين، وقد سمّى القرآن الكريم المشركين نجسا في قوله تعالى( إِنّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ) ، فمن أشرك ساعة فقد كان نجسا ساعة، ومن أشرك أربعين سنة فقد كان نجسا أربعين سنة، والله تعالى أجلّ شأنا من أن يساوي بين من طهّرهم بنفسه ومن تنجس بأنجاس الجاهلية، فكيف بالتفضيل؟!

نعم، يروون أنّ علي بن أبي طالب عليه السلام المطهّر بنص الكتاب العزيز، والذي هو من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمنزلة هارون من موسى، والذي يحبّ الله ورسوله ويحبه الله ورسوله لم يكتف بسيدة نساء العالمين جمالا وشرفا وعلما وفهما وعبادة... وذهب يخطب بنت أبي جهل! من هو الرجل الذي تكون في بيته امرأة مثل فاطمة عليها السلام ثمّ يذهب يخطب مثل بنت أبي جهل عدوّ الله؟! ولأيّ شيء يخطبها؟ ولماذا هي دون غيرها؟ ولماذا لم تذكر بنت أبي جهل في شريفات نساء قريش؟

هؤلاء الذين رووا هذا الإفك همالذين يروون أيضا أنّ أم كلثوم بنت علي عليه السلام تزوجت عمر بن الخطاب! وهي تعلم أنّ أمهاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ماتت ساخط عليه غاضبة عليه، وقد قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (يا فاطمة إنّ الله ليغضب لغضبك ويرضى لرضاك)(١) . أضف إلى

____________________

(١) كنز العمال، ج ١٢ ص ٥١ رقم ٣٤٢٣٧. الديلمي عن علي بلفظ (إن الله عزوجل ليغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها) وباللفظ المذكور أعلاه رقم ٣٤٢٣٨ ع طب ك وتعقب. أخرجه الحاكم في المستدرك، ج ٣ ص ١٥٤، وقال الذهبي: فيه حسين بن زيد منكر الحديث لا يحلّ أن يحتجّ به، وأبو نعيم في فضائل الصحابة وابن عساكر عن علي. اهـ. وأقول: مذهب الذهبي في الجرح معلوم، وكل ما فيه فضيلة لأهل البيت عليهم السلام لا ينالها غيرهم فهو باطل. وكيف لا يكون الذّهبيّ كذلك وهو القائل في حديث (أتاني جبريل بسفرجلة من الجنّة فأكلتها ليلة أسريبي فعلقت خديجة بفاطمة فكنت إذا اشتقت إلى رائحة الجنة شممت رقبة فاطمة): هو كذب جليّ من وضع مسلم بن عيسى الصّفّار لأنّ فاطمة ولدت قبل النبوة فضلا عن الإسراء. وهو [الذهبي] بهذا الكلام يرمي غلى غاية خبيثة لا يمكن أن ينطوي عليها قلب يحبّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهو يريد أن يقول: إنّ فاطمة وإن كان أبوها سيّد الأنبياء فإنّ أمّها لم تكن مسلمة حيث لم يكن في مكة من قريش مسلم قبل البعثة كما هو مذهب الذهبي وأشباهه، فتكون فاطمة حال انعقاد نطفتها من رسول الله وامرأة غير مسلمة!! بينما يصرّ الذهبي على أنّ عائشة بنت أبي بكر ولدت بعد البعثة أي من أبوين مسلمين! هذا مبلغ حبّ

٣٨٩

ذلك أنّ عمر بن الخطّاب خطب أمّها فاطمة وردّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو الذي قال للمسلمين (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)! وفي تقاليد العرب يستهجنون أن يخطب الرجل المرأة ثم يخطب ابنتها بعد ذلك، ويعتبرونه ساقط الهمة ح بل في تقاليدهم أن الرجل إذا خطب إلى أهل بيت وردّوه لم يعد إلى ذلك البيت أبداً. كلّ ما في المسألة أنّ الحاقدين على علي عليه السلام قرّروا أن يستبيحوا منه كلّ شيء، دماء أولاده وأعراض بناته، وكرامته الشخصية! وإلى يومنا هذا لا يزال بغض علي ساري المفعول تحت إشراف حاخامات وأموال نفطية، وإلاّ فإن أم كلثوم بنت علي عليه السلام أجلّ في نفسها من أن تعقّ أمّها فتتزوّج أبغض الناس إليها.

ولأنّ هذا الكتاب لم يوضع لمناقشة هذه القضية، ولأن الفضلاء قد كتبوا في الموضوع وأشبعوه بحثا دفاعا منهم عن كرائم بيت النبوة، فإنني لا أملك إلا أن أتوقف عند هذا الحدّ.

الهجوم على بيت فاطمة

كثر الحديث في أيّامنا حول التّشكيك في الهجوم على بيت فاطمة عليها السلام، مع أنّ أبابكر بن أبي قحافة اعترف شخصيّا أنّه كشف بيت فاطمة، وقال ذلك في آخر حياته كالنّادم على فعلته، وإقرار العقلاء على أنفسهم جائز. قال أبوبكر بن أبي قحافة: (فأما الثلاث اللاتي وددت أنّي لم أفعلهنّ فوددت أني لم أكن كشفت بيت فاطمة وتركته وأن أغلق علي الحرب ووددت أنّي يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين أبي عبيدة أو عمر.. الخ الحديث)(١) . لكن المشكّكين أشدّ بكريّة من أبي

____________________

الذهبي لرسول الله وآله. وكأنّ في ولادة فاطمة عليها السلام بعد البعثة خطرا على الإسلام! كنزل العمال، ج ١٢ ص ٥١.

(١) مجمع الزوائد، ج ٥ ص ٢٠٣ والمعجم الكبير، الطبراني، ج ١ ص ٦٢ وكنز العمال، ج ٥ ص ٢٥٢ ولسان الميزان، ج ٤ ص ١٨٩، وميزان الاعتدال في نقد الرجال، ج ٥ ص ١٣٥، وتاريخ مدينة دمشق، ج ٣٠ ص ٤١٨ وج ٣٠ ص ٤١٨، وج ٣٠ ص ٤٢٠، وج ٣٠ ص ٤٢١، وج ٣٠ ص ٤٢٢ ومنهاج السنة النبوية، ج ٨ ص ٢٩٠ وتاريخ الطبري، ج ٢ ص ٣٥٣، وتاريخ اليعقوبي، ج ٢ ص ١٣٧، وسمط النجوم العوالي، ج ٢ ص ٤٦٥ وتاريخ الإسلام، ج ٣ ص ١١٨.

٣٩٠

بكر نفسه، لذلك تراهم يوردون الإشكال بعد الإشكال، ويزعمون أنّ في ذلك قدحا في علي بن أبي طالب عليه السلام وحطّا من شأنه! لأنّه شجاع، ولا ينبغي أن يحدث مثل ذلك أمامه ولا يستعمل شجاعته! يفسّرون الشّجاعة بالتّهوّر، بعيدا عن الحكمة، وهم يعلمون أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي هو أشجع وأشرف من علي عليه السلام كان يمرّ على المؤمنين يعذّبون في مكّة فلا يملك إلا أن يقول (صبرا آل ياسر فإنّ موعدكم الجنّة).

قال المفكر الإسلامي حسن بن فرحان المالكي في كتابه قراءة في كتب العقائد: (.. ولكن حزب عليّ كان أقل عند بيعة عمر منه عند بيعة أبي بكر الصديق نظرا لتفرقهم الأوّل عن عليّ بسبب مداهمة بيت فاطمة في أوّل عهد أبي بكر وإكراه بعض الصّحابة الذين كانوا مع عليّ على بيعة أبي بكر، فكانت لهذه الخصومة والمداهمة (وهي ثابتة بأسانيد صحيحة) ذكرى مؤلمة لا يحبون تكرارها)(١) . وقال بهامش الصفحة نفسها: (كنت أظن المداهمة مكذوبة لا تصح حتى وجدتلها أسانيد قوية منها ما أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، لكن ليس كما يبالغ غلاة الشيعة وليس كما ينفي غلاة الحنابلة). وقال ابن تيمية: ونحن نعلم يقينا أن أبابكر لم يقدم على عليّ والزبير بشيء من الأذى بل ولا على سعد بن عبادة المتخلف عن بيعته أوّلا وآخرا. وغاية ما يقال إنه كبس البيت لينظر هل فيه شيء من مال الله الذي يقسمه وأن يعطيه لمستحقه ثم رأى أنه لو تركه لهم لجاز فإنه يجوز أن يعطيهم من مال الفيء. وأما إقدامه عليهم أنفسهم بأذى فهذا ما وقع فيه قط باتفاق أهل العلم والدين وإنما ينقل مثل هذا جهال الكذابين ويصدقه حمقى العالمين الذين يقولون إنّ الصحابة هدموا بيت فاطمة وضربوا بطنها حتى أسقطت(٢) . أقول: وهذا يعني أنّ المداهمة وقعت فعلا، ولا مجال إلى إنكارها، لكن ابن تيمية تعلّل بمسألة المال! وكأنّ فاطمة عليها السلام تخفي في بيتها مال المسلمين! فابن تيمية وإن كان لا يصرّح بما يعتلج في صدره إلاّ أنه يتّهم فاطمة عليها

____________________

(١) قراءة في كتب العقائد، حسن بن فرحان المالكي، ص ٥٢.

(٢) منهاج السنة النبوية، ج ٨ ص ٢٩١.

٣٩١

السلام بالسّرقة أو الغلول أو شيئا من ذاك القبيل. ومتى دخل بيت فاطمة شيء من مال المسلمين. وعلى فرض أن يكون فيه شيء من مال المسلمين فإنّه لا يكون بدون إذن من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وهنا ينبغي على ابن تيمية أن يوجّه الإشكال إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويتّهمه بما اتّهم به فاطمة عليها السلام، لأنّ فاطمة لم تخرج من بيتها ولم تجلب شيئا. وقد كان في وسع أبي بكر وحزبه أن ينظروا - إن كان هناك مال أو لم يكن - بالطّرق المعهودة عرفا وعقلا بأن يرسلوا امرأة أو شيخا من شيوخ قريش، لا أن يداهموا. بل المداهمة كانت بقصد الإرهاب. وكاتب هذه السطور يعتقد فيما بينه وبين الله تعالى أنّ الإرهاب في حياة المسلمين سنّ في ذلك اليوم، وأنّه لا يزال يمارس إلى هذا اليوم.

المهم هو أنّ الذي تزعّم المداهمة - أو الهجوم أو الكبس أو سمّه ما شئت - هو عمر بن الخطاب، الذي كان هائجا يومها وزعم أنه أولى برسول الله من فاطمةوعلي عليهما السلام.

٣٩٢

الفصل السادس

عمر الحاكم

٣٩٣

٣٩٤

كيف استخلف عمر؟

قبل الدخول في بيان كيفية استخلاف عمر، يجدر التذكير بكيفية وصول أبي بكر إلى الخلافة، لأنّ خلافة عمر فرع خلافة أبي بكر، مع سابقة ليس عليها دليل، لا من القرآن ولا من السنة الشريفة، وإذا بطل الأصل بطل الفرع؛ وقد كفانا عمر بن الخطاب نفسه مؤونة البحث في صحّة خلافة أبي بكر حين حكم عليها هو نفسه أنّها كانت (فلتة وقى الله المؤمنين شرّها)، والمقطع الأوّل من عبارته صحيح، أمّا المقطع الثّاني فغير مسلّم، لأن شرّ بيعة السقيفة لا يزال إلى اليوم يفعل فعله.

قالوا:... فلما سمع القوم صوتها(١) وبكاءها انصرفوا باكين، وكادت قلوبهم تنصدع، وأكبادهم تنفطر، وبقى عمر ومعه قوم(٢) ، فأخرجوا عليّا، فمضوا به إلى أبي بكر، فقالوا له: بايع، فقال: إن أنا لم أفعل فمه؟ قالوا: إذاً والله الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك [!]، فقال: إذا تقتلون عبد الله وأخا رسوله، قال عمر: أمّا عبد الله فنعم، وأما أخو رسوله فلا، وأبو بكر ساكت)(٣) . وهنا ينبغي للمتأمّل أن يتوقّف. هذان صحابيّان من أصحاب رسول الله يكذب أحدهما الآخر، وهما من الخلفاء الرّاشدين، ومن المبشرين بالحنة؛ وقد لقّنونا منذ الصغر أنّ الراشدين فوق كلّ اعتبار، فلماذا يكذّب الراشدون بعضهم بعضا، ولماذا يهدّد بعضهم بعضا بالقتل؟!

هكذا مهّد عمر بن الخطاب لدولته. تماما كما قال علي بن أبي طالب عليه السلام: (احلب يا عمر حلبا لك شطره، اشدد له اليوم أمره ليردّ عليك غدا). يقول حزب السّقيفة لعلي بن أبي طالب عليه السلام إمّا أن تبايع وإمّا (والله الذي لا إله إلاّ هو نضرب عنقك)! أليس هذا إرهابا؟ وإذا لم يكن هذا إرهابا فما هو الإرهاب؟ أين هم من قول الله تعالى( لاَ إِكْرَاهَ فِي الدّينِ ) ؟ وهل هناك إكراه اكبر من أن يخيّر

____________________

(١) أي صوت فاطمة عليها السلام.

(٢) عمر والقوم الذين معه ليس لهم قلوب تنصدع أو أكباد تنفطر. وهذا التصرف يكشف أنهم كانوا مستعدين لذلك اليوم.

(٣) الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري، ج ١ ص ٢٠.

٣٩٥

بيعة لا يؤمن بها وبين القتل؟ هذا عبد الله بن عمر بن الخطاب يمتنع من مبايعة علي بن أبي طالب عليه السلام الذي بايعه المسلمون في بيته المهاجرون منهم والأنصار، ولا يرى في ذلك أدنى حرج! بل يزعم أنّه أحسن التعامل مع الفتنة!! لكن بمقتضى سيرة عمر بن الخطّاب، فإنّ عبد الله بن عمر يستحقّ القتل، لأنّه رفض أن يدخل في ما دخلت فيه الأمّة! وأيّة أمّة؟! أمّة عبدت الصّنم أكثر من أربعين سنة وهي مع ذلك تدّعي أنها أعلم بدين الله تعالى من نبيّه وأهل بيت نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ! وخرج أبو بكر بن أبي قحافة من الدنيا، وبتعه عمر، وبقيت بيعة السّقيفة مختلفا فيها، يؤمن بها أصحاب ثقافة الكرسيّ ويرفضها أهل الضمائر الحيّة. أي أنّها بقيت غير شرعيّة،ولو كانت شرعيّة لما جاز لفاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن تتبرّأ منها ومن أهلها، حتى أنّها لم ترهم أهلا ليحضروا الصّلاة عليها! ومن خطّأ فاطمة عليها السلام فقد خطّأ الله تعالى ورسوله وجبريل والملائكة وصالح المؤمنين.

إذاً فالقضية قضية (اشدد لي اليوم اردد إليك غدا)، ولا أثر فيها لما يذكره المؤرّخون من أمثال ابن خلدون والمتكلّمون من أمثال الإيجي والتفتازاني الماوردي وغيرهم من المنظّرين المصوّبين. ولا يستطيع أحد من هؤلاء أن يوجد انسجاما بين سيرة رسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين سيرة قريش يوم السّقيفة.

عن عائشة قالت: كتب أبي في وصيته سطرين: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما وصّى به أبوبكر بن أبي قحافة عند خروجه من الدنيا، حين يؤمن الكافر وينتهي الفاجر ويصدق الكاذب. إنّي استخلفت عليكم عمر بن الخطّاب، فإن يعدل فذاك ظنّي به ورجائي فيه، وإن يجر ويبدّل فلا أعلم الغيب( وَسَيَعْلَمُ الّذِينَ ظَلَمُوا أَيّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) (١) .

وعنها أيضا قالت: كان عثمان يكتب وصية أبي بكر قالت فأغمي عليه، فعجل وكتب عمر بن الخطّاب، فلمّا أفاق قال له أبوبكر: من كتبت؟ قال: عمر بن الخطّاب.

____________________

(١) مختصر ابن كثير، ج ٢ ص ٨٧٩.

٣٩٦

قال كتبت الذي أردت أن آمرك به، ولو كتبت نفسك كنت لها أهلا(١) .

أقول: الرّوايتان عن عائشة، والموضوع واحد، لكنّ طريقة كتابة الوصيّة تختلف، فمرّة كتب أبوبكر، ومرّة كتب عثمان.

ولا يبعد أن يكون قلب عثمان قد التهب حسرة عند قول أبي بكر: (ولو كتبت نفسك كنت لها أهلا)، لكن هل يوافق على ذلك عمر؟!

عمال عمر

كان لعمر بن الخطاب طريقته في تعيين الولاة، وهي طريقة لم تكن تختلف كثيرا عن طريقة أبي بكر بن أبي قحافة التي ترى أولويّة تثبيت سلطان قريش. ولا يحمي سلطان قريش إلاّ أبناء قريش نفسها، لكن أيّ قريش؟ لأنّ هناك تكتّلا يحمل هذا الاسم ومن أولوياته تهميش بني هاشم والتّضييق عليهم، ومنع تدوين الحديث النّبوي وتفسير القرآن الكريم. أما بنو هاشم فهم على عكس ذلك تماما، همّهم إحياء سنة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والعدل في توزيع المال والحقوق، وإنزال الناس منازلهم. وإذا كان لأبي بكر حاشيته التي يأتي في مقدمتها خالد بن الوليد ومن معه، فإنّ لعمر أيضا حاشيته، وله أيضا جهاز أمن سرّي لا يكاد يفوته شيء، ينقل إليه أخبار الليل وأخبار النّهار من المشرق والمغرب حتى ليكاد يقع في خلد المتتبع أنّ عمر بن الخطاب لم يكن يثق في أحد، لا من البدريّين ولا من غيرهم! وقد كانت له في ذلك أيضا تناقضات صارخة بعضها يدعو إلى التعجّب. من ذلك أنهم رووا أنّ عمر بن الخطاب قال من استعمل فاجرا وهو يعلم أنّه فاجر فهو مثله)(٢) . وقال أيضا: (لا يستعمل الفاجر إلا الفاجر)(٣) . وعن ابن عمر: ٠ لا يولّي الخائن إلا الخائن)(٤) . وفي نفس الوقت شهد

____________________

(١) مصنف ابن أبي شيبة، ج ٦ ص ٣٦١.

(٢) كنز العمال ج ٥ ص ٣٠٣ وأخبار القضاة ج ٣ ص ٢٠٩.

(٣) أخبار القضاة، ج ١ ص ٦٩.

(٤) أخبار القضاة، ج ١ ص ٦٩.

٣٩٧

على المغيرة بن شعبة أنّه فاسق ثمّ ولاّه في نفس المجلس! قال اليعقوبي: ثمّ إن أهل الكوفة شكوا سعدا وقالوا لا يحسن يصلي، فعزله عمر عنهم، فدعا عليهم سعد ألا يرضيهم الله عزوجل عن أمير ولا يرضي أميرا منهم. وولّى عمر مكان سعد بن أبي وقاص عمار بن ياسر ثمّ قدم عليه أهل الكوفة فقال: كيف خلفتم عمار بن ياسر أميركم؟ قالوا: مسلم ضعيف. فعزله ووجّه جبير بن مطعم فمكر به المغيرة وحمل عنه خبرا إلى عمر وقال له: ولّني يا أمير المؤمنين. قال: أنت رجل فاسق! قال: وما عليك مني، كفايتي ورجولتي لك، وفسقي على نفسي! فولاّه الكوفة. فسألهم عن المغيرة فقالوا: (أنت أعلم به وبفسقه). فقال: ما لقيت منكم يا أهل الكوفة، إن وليتكم مسلما تقيّا قلتم هو ضعيف، وإن ولّيتكم مجرما قلتم هو فاسق. فيقال: إنّه ردّ سعد بن أبي وقّاص(١) .

وقد قيل له: إنك استعملت يزيد بن أبي سفيان وسعيد بن العاص، وفلانا، وفلانا من المؤلفة قلوبهم من الطلقاء وأبناء الطلقاء، وتركت أن تستعمل عليّاً والعباس والزبير وطلحة؟!! فقال: (أما عليّ فأنبه من ذلك، وأمّا هؤلاء النّفر من قريش، فإني أخاف أن ينتشروا في البلاد فيكثروا فيها الفساد). وعلّق ابن أبي الحديد على كلامه هذا بقوله: فمن يخاف من تأميرهم لئلاّ يطمعوا في الملك، ويدّعيه كل واحد منهم لنفسه، كيف لم يخف من جعلهم ستّة متساويين في الشّورى، مرشّحين للخلافة! وهل شيء أقرب إلى الفساد من هذا..؟ وفي هذا المعنى ما نقله ابن عبد ربه الأندلسي في العقد الفريد قال: قال معاوية لابن أبي الحصين: ما الذي شتت أمر المسلمين وجماعتهم وفرق ملأهم وخالف بينهم؟ فقال: قتل عثمان. قال: ما صنعت شيئا. قال: فسير عليّ إليك. قال: ما صنعت شيئا. قال: ما عندي غير هذا يا أمير المؤمنين. فقال: فانا أخبرك أنّه لم يشتّت بين المسلمين ولا فرّق أهواءهم إلاّ الشّورى التي جعلها عمر في ستة، فلم يكن من الستّة رجل إلاّ رجاها لنفسه ورجاها لقومه، وتطلّعت إلى ذلك أنفسهم. ولو أنّ عمر

____________________

(١) تاريخ اليعقوبي، ج ٢ ص ١٥٥.

٣٩٨

استخلف كما استخلف أبوبكر ما كان في ذلك الاختلاف(١) .

ورووا عن عمر أنه قال: من استعمل فاجرا وهو يعلم أنّه فاجر فهو مثله(٢) .

كان عامل عمر بن الخطّاب في السّنة التي قتل فيها وهي سنة ثلاث وعشرين على مكّة نافع بن عبد الحارث الخزاعيّ، وعلى الطائف سفيان بن عبد الله الثّقفي، وعلى صنعاء يعلى بن منية حليف بني نوفل بن عبد مناف وعلى الجند عبد الله بن أبي ربيعة، وعلى الكوفة المغيرة بن شعبة، وعلى البصرة أبو موسى الأشعريّ، وعلى مصر عمرو بن العاص، وعلى حمص عمير بن سعد، وعلى دمشق معاوية بن أبي سفيان، وعلى البحرين وما والاهما عثمان بن أبي العاص الثّقفي، وفي هذه السّنة أعني سة ثلاث وعشرين توفّي فيما زعم الواقديّ قتادة بن النّعمان الظّفري وصلّى عليه عمر بن الخطّاب، وفيها غزا معاوية الصّائفة حتى بلغ عمورية ومعه من أصحاب رسول الله عبادة عسقلان على صلح. وقيل كان على قضاء الكوفة في السّنة التي توفّي فيها عمر بن الخطّاب شريح وعلى البصرة كعب بن سور، وأما مصعب بن عبد الله فإنّه ذكر أن مالك بن أنس روى عن ابن شهاب أنّ أبابكر وعمر ما لم يكن لهما قاض.

أقول:

وأنت ترى أنّه ليس فيهم هاشميّ واحد مع أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بني هاشم، كما أنّه ليس فيهم بدري واحد! لكن فيهم ابن آكلة الأكباد، وابن رأس الأحزاب، وفيه ابن من نزل في حقّه قوله تعالى( إِنّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ) ، ومن هجا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسبعين بيتا من الشّعر فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اللهم إني لا أقول الشعر فالعنه بكل بيت لعنة(٣) ! وفيهم من كان عليّ عليه السلام يقنت بلعنه في الصّلوات. وبالجملة، فيهم أعداء علي بن أبي طالب عليه السلام

____________________

(١) العقد الفريد، ابن عبد ربه، ج ٣ ص ٧٥.

(٢) كنز العمال، ج ٥ ص ٣٠٣ رقم ١٤٣٠٦.

(٣) وهو عمرو بن العاص.

٣٩٩

الذين حاربوه فيما بعد، وسبّوه وشتموه ولعنوه، ولا زالوا إلى هذه اللحظة يتمتّعون بحصانة لا تقبل النقاش.

عن مجالد عن الشعبي قال: بعث عمر بن الخطّاب أول ما بعث إلى الكوفة أبا عبيد الثقفي أبا المختار فقتل فبعث سعد بن أبي وقاص فمكث خمس سنين ثم نزعه ثم بعث عمار بن ياسر فمكث سنة ثم نزعه وبعث المغيرة بن شعبة فمكث سنة ثم قتل عمر فلما ولي عثمان بعث سعدا إلى الكوفة فمكث سنة(١) .

قال ابن قتيبة: وقال ابن الكلبي كان أميّة بن عبد شمس خرج إلى الشّام فأقام بها عشر سنين فوقع على أمة للخم يهوديّة من أهل صفوريّة يقال لها ترنا وكان لها زوج من أهل صفورية يهوديّ فولدت له ذكوان فادعاه أميّة واستلحقه وكناه أبا عمرو، ثمّ قدم به مكة، فلذلك قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعقبة يوم أمر بقتله: إنّما أنت يهوديّ من أهل صفورية. و (الوليد بن عقبة) ولاّه عمر على صدقات بني تغلب وولاّه عثمان الكوفة بعد سعد بن أبي وقّاص فصلّى بأهلها وهو سكران وقال أزيدكم؟ فشهدوا عليه بشرب الخمر عند عثمان فعزله وحدّه(٢) .

أقول: ولاّه عمر بن الخطّاب بعد أن شهد عليه القرآن الكريم أنه فاسق(٣) ، فانظر مدى احترام عمر بن الخطاب للقرآن الكريم.

قال السيوطي: وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن سعد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن جرير والنحاس في ناسخه وابن المنذر والبيهقي في سننه من طرق عن عمر بن الخطّاب قال إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة ولي اليتيم إن استغنيت استعففت وإن احتجت أخذت منه بالمعروف فإذا أيسرت قضيت(٤) .

____________________

(١) المعجم الكبير، الطبراني، ج ٢٠ ص ٣٦٧: رقم ٨٥٧.

(٢) المعارف، ابن قتيبة، ج ١ ص ٣١٩.

(٣) أجمع المفسرون على أن قول الله تعالى( إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيّنُوا ) نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط.

(٤) الدر المنثور، السيوطي، ج ٢ ص ٤٣٦.

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564