الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب3%

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب مؤلف:
الناشر: انتشارات دارالتفسير
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 564

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب
  • البداية
  • السابق
  • 564 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 91214 / تحميل: 7635
الحجم الحجم الحجم
الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب

مؤلف:
الناشر: انتشارات دارالتفسير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

عمر هل تجدني في الكتاب قال نعم(١) .

أقول:

إنّ المعلوم من الدين في كتاب الله الكريم هو أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم موجود في التوراة ( الّذِينَ يَتّبِعُونَ الرّسُولَ النّبِيّ الْأُمّيّ الّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التّورَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلّ لَهُمُ الطّيّبَاتِ وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلاَلَ الّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتّبَعُوا النّورَ الّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُوْلئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )(٢) ، لكن يبدو أنّ عمر بن الخطّاب يهمّه اسمه أكثر ممّا يهمّه اسم رسول الله! فإن زعم الأسقف وأتباع الأسقف أنّ اسم عمر موجود في الكتاب وأنّ اسم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير موجود ومع ذلك صدّقه عمر وتابعه عليه، فإنّا لله وإنا إليه راجعون؛ وإن قال إنّ اسم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم موجود في التّوراة والإنجيل كما شهد به القرآن فما باله باق على ديانة منسوخة؟! ثمّ إنّ مجرّد وجود اسم شخص في كتاب سماويّ غير محرّف فضلا عن المحرّف لا يعني شيئا كبيرا، فهذا شرّ المخلوقات إبليس مذكور في القرآن الكريم والقرآن أفضل الكتب ومهيمن عليها جميعا، وهذا فرعون وهامان وقارون وأبو لهب أيضا، وقوم لوط وقوم نوح وقوم تبّع وأصحاب الأيكة كلّ كذب الرّسل، فهل يعني وجودهم في القرآن الكريم فضلا يذكر؟! لكنّ عمر يهدف إلى أمر يعرفه الأسقف كما يعرفه كعب الأحبار أيضا؛ نعم، يريد عمر بن الخطّاب أن يوهم الناس أنّ خلافته شرعيّة موجودة في الكتب السماويّة، لكنّ الله تعالى أجرى على لسانه عبارة الفلتة فنقض كلامه بعضه بعضا، و ( مَحَوْنَا آيَةَ اللّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النّهَارِ مُبْصِرَةً ). وعلى كل حال يبدو أنّ عمر بن الخطّاب بقي متأثّرا بالتوراة حتى آخر أيّامه.

وروي عن كعب الأحبار أنّه قال: تزفر جهنّم يوم القيامة زفرة فلا يبقى ملك مقرب

____________________

(١) تهذيب الكمال، ج ٣، ص ٣٢٧ تحت رقم ٥٥١.

(٢) الأعراف: ١٥٧.

٤٦١

ولا نبيّ مرسل إلا خرّ وجثا على ركبتيه ويقول نفسي، نفسي، حتّى إبراهيم خليل الرحمن فيقول: ربي، لا أريد إلاّ نجاة نفسي. قال كعب: وهو في كتاب الله تعالى( يَوْمَ تَأْتِي كُلّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نّفْسِهَا ) (١) .

أقول:

فأين قوله تعالى: ( إِنّ الّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِنّا الْحُسْنَى‏ أُولئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ) !

وقد ذكروا أنّ عمر بن الخطّاب كان يذهب إلى العوالي كلّ سبت، فإذا وجد عبدا في عمل لا يطيقه وضع عنه منه(٢) .

أقول:

كلّ سبت، والسبت لا غير، لأنه يوم المدراس!

قال ابن تيمية: وكان على الصّخرة زبالة عظيمة لأنّ النّصارى كانوا يقصدون إهانتها مقابلة لليهود الذين يصلّون إليها، فأمر عمررضي‌الله‌عنه بإزالة النّجاسة عنها، وقال لكعب الأحبار: أين ترى أن نبني مصلّى المسلمين؟ فقال: خلف الصخرة! فقال: يا ابن اليهوديّة، خالطتك يهوديّة، بل أبنيه أمامها فإن لنا صدور المساجد. ولهذا كان أئمة الأمّة إذا دخلوا المسجد قصدوا الصّلاة في المصلّى الذي بناه عمر. وقد روى عمررضي‌الله‌عنه أنّه صلّى في محراب داود(٣) .

أقول:

أبو ذررضي‌الله‌عنه يقول لكعب الأحبار (ما فارقت اليهوديّة قلبك)، وعمر بن الخطّاب يقول له: (خالطتك يهودية)، وفي النهاية سواء (خالطت) أم (لم تفارق) فإن اصحابيّين متّفقان على أنّ إسلام كعب الأحبار لم يكن محضا، بل كان مزيجا من اليهودية العميقة الرّاسخة والإسلام الشّكلي. ومن حق كلّ مسلم أن يتساءل ما دام عمر يقول لكعب: خالطتك يهودية إن كانت خالطته يهودية في هذه القضيّة فقط أم في كثير

____________________

(١) تفسير السمعاني ج ٣ ص ٢٠٥.

(٢) فيض القدير، ج ٥ ص ٤٤٣ والتيسير بشرح الجامع الصغير ج ٢ ص ٣٤٩.

(٣) مجموع الفتاوى ج ٢٧ ص ١٢.

٤٦٢

من القضايا التي غابت عن عمر؟

قال ابن تيمية: وعمر بن الخطّاب لما رأى بيد كعب الأحبار نسخة من التّوراة قال (يا كعب إن كنت تعلم أنّ هذه هي التّوراة التي أنزلها الله على موسى بن عمران فاقرأها)، فعلّق الأمر على ما يمتنع العلم به ولم يجزم عمررضي‌الله‌عنه بأنّ ألفاظ تلك مبدّلة لما لم يتأمّل كل ما فيه(١) .

أقول:

ماذا يفعل كعب الأحبار بنسخة من التّوراة بعد ان أسلم؟!

قال ابن كثير: وهذا كعب الأحبار من أجود من ينقل عنهم وقد أسلم في زمن عمر وكان ينقل شيئا عن أهل الكتاب فكان عمررضي‌الله‌عنه يستحسن بعض ما ينقله لما يصدّقه من الحقّ وتأليفا لقلبه، فتوسّع كثير من النّاس في أخذ ما عنده، وبالغ أيضا هو في نقل تلك الأشياء التي كثير منها ما يساوي مداده، ومنها ما هو باطل لا محالة، ومنها ما هو صحيح لما يشهد له الحقّ الذي بأيدينا. وقد قال البخاريّ وقال أبو اليمان حدثنا شعيب عن الزهري أخبرني حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية يحدث رهطا من قريش بالمدينة وذكر كعب الأحبار فقال: إن كان من أصدق هؤلاء المحدّثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب، وان كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب. يعني من غير قصد منه(٢) .

أقول:

من غير قصد منه يقلها معاوية، وإنما أضافها ابن كثير تزكية منه لليهوديّ.

مع بني هاشم

عن أبي جعفر محمد بن عليّ أن العباس جاء إلى عمر فقال له: إن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقطعني البحرين. قال: من يعلم ذلك؟ قال: المغيرة بن شعبة. فجاء به فشهد له. قال: فلم

____________________

(١) الجواب الصحيح، ج ٢،ص ٤٤٨.

(٢) البداية والنهاية، ج ٢ ص ١٣٤.

٤٦٣

يمض له عمر ذلك كأنّه لم يقبل شهادته، فأغلظ العباس لعمر، فقال عمر: يا عبد الله خذ بيد أبيك. وقال سفيان عن غير عمرو قال عمر: والله يا أبا الفضل لأنا بإسلامك كنت أسرّ مني بإسلام الخطّاب لو اسلم لمرضاة رسول الله(١) .

أقول:

هذا الذي لا يكاد يصدق! يوماً يستسقي به، ويوماً يكذّبه في وعد وعده إياه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قالوا: فدخلا المسجد فإذا ميزاب للعباس شارعة في مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال عمر بيده فقلع الميزاب، فقال: هذا الميزاب لا يسيل في مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فقال له العباس: قلعته؟ والذي بعث محمّدا بالحقّ هو الذي وضعه في هذا المكان ونزعته أنت يا عمر! قال: فبكى عمر ثم قال: لتضعنّ رجليك على عنقي ولتردّنه إلى ما كانه. ففعل ذلك العباس ثم قال له: قد أعطيتك الدار تزيدها في مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فزادها عمر في المسجد ثمّ قطع للعبّاس دارا أوسع منها بالزوراء(٢) .

أقول:

كان على عمر أن يسأل العباس أوّلا من وضع الميزاب ومتى، لكنّه عجول يصدر الأمر أوّلا ثمّ يتبيّن له الحقّ في خلاف ما ذهب إليه، فيتصرّف حسب المزاج، تارة يلجّ وتارة ينصاع.

وعن سالم أبي النّضر قال: لمّا كثر المسلمون في عهد عمر ضاق بهم المسجد فاشترى عمر ما حول المسجد من الدّور إلاّ دار العباس بن عبد المطّلب وحجر أمّهات المؤمنين، فقال عمر للعبّاس: يا أبا الفضل، إنّ مسجد المسلمين قد ضاق بهم، وقد ابتعت ما حوله من المنازل أوسّع به على المسلمين في مسجدهم إلاّ دارك وحجر أمهات المؤمنين؛ فأمّا حجر أمّهات المؤمنين فلا سبيل إليها، وأمّا دارك فبعنيها بما شئت

____________________

(١) الطبقات الكبرى، ج ٤ ص ٢٢.

(٢) تاريخ دمشق، ج ٢٦ ص ٣٧٠.

٤٦٤

من بيت مال المسلمين أوسّع بها في مسجدهم. فقال العباس: ما كنت لأفعل. قال فقال له عمر: اختر منّي إحدى ثلاث: إما أن تبيعنيها بما شئت من بيت مال المسلمين، وإمّا أن أخطّك حيث شئت من المدينة وأبنيها لك من بيت مال المسلمين، وإمّا أن تصدّق بها على المسلمين فتوسّع بها في مسجدهم. فقال: لا، ولا واحد منها. فقال عمر: اجعل بيني وبينك من شئت. فقال: أبيّ بن كعب. فانطلقا إلى أبيّ فقصّا عليه القصّة، فقال أبيّ: إن شئتما حدّثتكما بحديث سمعته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فقالا: حدّثنا. فقال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: أوحى الله إلى داود أن ابن لي بيتا أذكر فيه، فخطّ له هذه الخطّة خطّة بيت المقدس، فإذا تربيعها يزويه بيت رجل من بني إسرائيل، فسأله داود أن يبيعه إيّاه فأبى. فحدّث داود نفسه أن يأخذه منه، فأوحى الله إليه أن يا داود: أمرتك ان تبني لي بيتا أذكر فيه، فأردت أن تدخل بيتي الغصب وليس من شأني الغصب، وإنّ عقوبتك أن لا تبنيه. قال: يا رب فمن ولدي. قال: فأخذ عمر بمجامع ثياب أبيّ بن كعب وقال: جئتك بشيء فجئت بما هو أشدّ منه، لتخرجنّ ممّا قلت! فجاء يقوده حتى أدخله المسجد فأوقفه على حلقة من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهم أبوذرّ فقال: إني نشدت الله رجلا سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يذكر حديث بيت المقدس حين أمر الله داود أن يبنيه إلاّ ذكره؛ فقال أبو ذر: أنا سمعته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وقال آخر: أنا سمعته يعني من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . قال فأرسل أبيّا قال: فأقبل أبيّ على عمر فقال: يا عمر، أتتّهمني على حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ فقال عمر: يا أبا المنذر، لا والله ما اتّهمتك عليه، ولكنّي كرهت أن يكون الحديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ظاهرا. قال وقال عمر للعباس: اذهب فلا أعرض لك في دارك. فقال العباس: أمّا إذا فعلت هذا فإنّي قد تصدّقت بها على المسلمين أوسّع بها عليهم في مسجدهم وأما وأنت تخاصمني فلا. قال: فخطّ عمر له داره التي هي اليوم وبناها من بيت مال المسلمين(١) .

____________________

(١) تاريخ دمشق، ج ٢٦ ص ٣٧٠.

٤٦٥

أقول:

وانظر إلى قول أبي: أتتهمني؟! - والفرق بين القصتين واضح، فإن عمر أراد أن يأخذ دار العباس كيفما كان، ولم يرض العباس بذلك، وتطوّع بها بعد أن يئس منها عمر. ولعل العباس أراد أن يفهم عمر أنّه ليس وليّ أمره، وأنّه لا حقّ له عليه شرعا، فإنّ العباس لم يعتقد لحظة واحدة بشرعية حكم السقيفة. ولو كان العباس يرى طاعة عمر واجبة لما تردّد لحظة في إجابته لما طلب. وانظر إلى قول عمر لأبي بن كعب: أبا المنذر، لا والله ما اتّهمتك عليه، ولكنّي كرهت أن يكون الحديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ظاهرا. فكلّما كره عمر شيئا ألزم الناس به كما لو كان وحيا نازلا من السماء.

قال السيوطي: وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر من وجه آخر عن ابن عباسرضي‌الله‌عنه أن نجدة الحروري أرسل إليه يسأله عن سهم ذي القربى الذي ذكر الله فكتب إليه إنا كنا نرى أنّا هم فأبى ذلك علينا قومنا وقالوا ويقول لمن تراه قال ابن عباسرضي‌الله‌عنه هو لقربى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قسمه لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد كان عمررضي‌الله‌عنه عرض علينا من ذلك عرضا رأينا دون حقنا فرددناه عليه وأبينا أن نقبله، وكان عرض عليهم أن يعين ناكحهم وأن يقضي عن غارمهم، وأن يعطي فقيرهم وأبى أن يزيدهم على ذلك(١) .

وعن عاصم بن كليب قال أخبرني أبي أنه سمع ابن عباس يقول: كان عمر بن الخطّاب إذا صلّى صلاة جلس للنّاس فمن كانت له حاجة كلّمه، وإن لم يكن لأحد حاجة قام فدخل. قال فصلّى صلوات لا يجلس للناس فيهنّ، قال ابن عباس: فحضرت الباب فقلت: يا يرفأ أبأمير المؤمنين شكاة؟ فقال: ما بأمير المؤمنين من شكوى. فجلست، فجاء عثمان بن عفان فجلس، فخرج يرفأ فقال: قم يا ابن عفان، قم يا ابن عباس، فدخلنا لى عمر فإذا بين يديه صبر من مال على كل صبرة منها كنف، فقال

____________________

(١) والدر المنثور، ج ٤ ص ٦٨. والحديث أيضا في المعجم الكبير، ج ١٠ ص ٣٣٤.

٤٦٦

عمر: إنّي نظرت في أهل المدينة وجدتكما من أكثر أهلها عشيرة فخذا هذا المال فاقتسماه، فما كان من فضل فردّا. فأمّا عثمان فحثا، وأمّا أنا فجثوت لركبتي وقلت: وإنكان نقصان رددت علينا؟ فقال عمر: نشنشة من أخشن - يعني حجرا من جبل - أما كان هذا عند الله إذ محمد وأصحابه يأكلون القدّ؟ فقلت: بلى والله، لقد كان هذا عند الله ومحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيّ، ولو عليه فتح لصنع فيه غير الذي تصنع! قال فغضب عمر وقال: أو صنع ماذا؟ قلت: إذا لأكل وأطعمنا. قال: فنشج عمر حتى اختلفت أضلاعه ثم قال: وددت أنّي خرجت منها كفافا لا لي ولا عليّ(١) .

أقول:

هذه شهادة من الصّحابي ابن عباس أنّه لو كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لصنع خلاف ما يصنع عمر بن الخطّاب! وهذا معناه أن سلوك عمر بن الخطّاب مخالف لسيرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . ومع ذلك فقد رووا روايات عزوها إلى علي بن أبي طالب عليه السلام ترسم لعمر سلوكا آخر. رووا عن علي عليه السلام قال: ولاني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خمس الخمس فوضعته مواضعه حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحياة أبي بكر وحياة عمر، فأتي بمال فدعاني فقال: خذه. فقلت: لا أريده. قال: خذه فأنتم أحقّ به! قلت: قد استغنيت؛ فجعله في بيت المال(٢) .

قال يزيد: فأنا كتبت لابن عباس كتابه [إلى نجدة الحروري] فكتب إليه: كتبت تسألني عن سهم ذي القربى لمن هو؟ هو لنا أهل البيت، وقد كان عمر بن الخطّاب دعانا إلى أن ينكح منه أيّمنا ويخدم منه عائلنا ويقضي منه عن غارمنا فأبينا إلا أن يسلمه إلينا وأبى ذلك فتركناه(٣) .

وأخرج البغوي في معجم الصحابة من طريق زيد بن أسلم عن ابن عمر كان عمر يدعو ابن عباس ويقربه ويقول: إنّي رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعاك يوما فمسح رأسك

____________________

(١) مسند الحميدي، ج ١ ص ١٨.

(٢) كنز العمال، ج ٤ ص ٢٢٢.

(٣) مسند أبي يعلى، ج ٤ ص ٤٢٤ ومسند أبي يعلى، ج ٥ ص ١٢٣ وصحيح أبي داود ج ٢ ص ٥٧٧ (قال الألباني: صحيح). فتح الباري، ابن حجر، ج ٦ ص ٢٤٥.

٤٦٧

وقال اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل(١) .

أقول:

ما فعل في حقّ عليّ وقد رأى من رسول الله فيه أضعاف ما رأى في ابن عبّاس؟!

قال ابن كثير: كان عمر إذا استشار أحدا لا يبرم أمرا حتّى يشاور العباس.

مع غير العرب

يذكر أنّ عمر بن الخطّاب كان شديد الحساسيّة بالنّسبة للعجم وكل ما يتصل بهم. قال ابن تيمية: وقد روى السّلفي من حديث سعيد بن العلاء البرذعي [..] عن نافع عن ابن عمررضي‌الله‌عنه قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (من يحسن أن يتكلّم بالعربية فلا يتكلم بالعجمية فإنّه يورث النفاق). ورواه أيضا بإسناد آخر معروف إلى أبي سهيل محمود بن عمر العكبري [..] عن نافع عن ابن عمر عن عمر قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (من كان يحسن أن يتكلّم بالعربية فلا يتكلّم بالفارسية فإنّه يورث النفاق)(٢) .

أقول:

إلى هذا الحدّ بلغ بهم الافتراء على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لم يكتفوا أن ينسبوا إليه السفاسف حتى اتّهموه بالعنصريّة! فاللّغة الفارسية إذاً - وفق الحديث السابق - تورث النّفاق! وهل يختصّ هذا باللّغة الفارسيّة أم يتعدّاها إلى كلّ لغات العجم، تبقى المسألة مطروحة. لكن الذي لا شكّ فيه أن اختلاف اللّغات من آيات الله تعالى( وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السّماوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ الْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ .. ) ؛ وفي القرآن الكريم كلمات عربية من أصل فارسي(٣) ، ولم يكن داوود وسليمان وموسى وعيسى وهارون و..

____________________

(١) فتح الباري ج ١ ص ١٧٠.

(٢) اقتضاء الصراط ج ١ ص ٢٠٥.

(٣) كقوله تعالى( أَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ ) فإن الأريق جمع إبريق وهو معرب من الفارسي آبريز. قد أفرد السيوطي في هذا النوع كتاباً سمّاه المهذب فيما وقع في القرآن من المعرب، كما عقد في كتابه الإتقان بابا للكلمات غير العربية في القرآن الكريم.

٤٦٨

و.. يتكلّمون العربية، لا دليل على ذلك، فأين العلاقة بين اللّغة الفارسيّة والنّفاق؟ وهل كان عبد الله بن أبيّ بن السّلول وثلث الجيش الذي رجع معه يوم أحد يتكلّمون الفارسية؟!

٤٦٩

٤٧٠

الفصل الثامن

عمر والخمر

٤٧١

٤٧٢

عمر والخمر

قال ابن خلدون: وقد كانت حالة الأشراف العرب في الجاهليّة في اجتناب الخمر معلومة، ولم يكن الكرم شجرتهم، وكان شربها مذمّة عند الكثير منهم(١) .

وكتب ابن أبي الدنيا في ذمّ المسكر كتابا أورد فيه بإسناده أحاديث منها:

حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن زرارة قال حدثنا عاصم بن عمارة قال حدثنا الأوزاعي عن محمد بن أبي موسى عن القاسم بن مخيمرة عن أبي موسى الأشعري أنه جاء إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنبيذ ينش فقال: اضرب بهذا الحائط فإنّه لا يشربه من كان يؤمن بالله واليوم الآخر(٢) .

وقال ابن كثير: ثبت في الصحيحين عن عمر بن الخطّاب أنه قال في خطبته على منبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أيها النّاس، إنّه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة: العنب والتّمر والعسل والحنطة والشّعير. والخمر ما خامر العقل(٣) . وقال أيضا: أمّا الخمر فكما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه : إنّه كل ما خامر العقل. والميسر: وهو القمار(٤) .

لكن عمر بن الخطاب وآخرين من الصّحابة كانوا يشربون النّبيذ، وقد اختلفوا واختلف من بعدهم في حكمه؛ لازال ذلك الاختلاف ساريا إلى اليوم. وكان عمر بن الخطاب يبرّر شربه النّبيذ أنّه كان يعاني من عسر في الهضم، فقد كان معسارا. وفي هذا المعنى روى البيهقي عن عمرو بن ميمون قال: قال عمررضي‌الله‌عنه : إنا لنشرب من النّبيذ نبيذا يقطع لحوم الإبل في بطوننا من أن تؤذينا(٥) .

أقول:

ولعلّهم لأجل ذلك رووا أحاديث نسبوا فيها إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شرب النبيذ. وقد تفطّن لعاقبة ذلك جماعة منهم وأوردوا أقوالا جديرة بالتّأمّل. قال الشّنقيطي: قال أبو المظفر

____________________

(١) مقدمة ابن خلدون ج ١ ص ١٨.

(٢) ذم المسكر ابن أبي الدنيا ج ١ ص ٥٥.

(٣) مختصر ابن كثير، ج ١ ص ٣٨٢.

(٤) مختصر ابن كثير، ج ١ ص ١٥٣.

(٥) سنن البيهقي الكبرى، ج ٨ ص ٢٩٩ تحت رقم ١٧١٩٣.

٤٧٣

بن السمعاني - وكان حنفيّا فتحوّل شافعيّا -: ثبتت الأخبار عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تحريم المسكر؛ ثمّ ساق كثيرا منها ثمّ قال: والأخبار في ذلك كثيرة ولا مساغ لأحد في العدول عنها والقول بخلافه، فإنّها حجج قواطع. قال: وقد زلّ الكوفيّون في هذا الباب ورووا فيه أخبارا معلولة لا تعارض هذه الأخبار بحال؛ ومن ظنّ أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شرب مسكرا فقد دخل في أمر عظيم وباء بإثم كبير، وإنّما الذي شربه كان حلوا ولم يكن مسكرا. وقد روى ثمامة بن حزن القشيري أنّه سأل عائشة عن النّبيذ فدعت جارية حبشيّة فقالت: سل هذه فإنّها كانت تنبذ لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت الحبشيّة: كنت أنبذ له في سقاء من الليل وأوكئه وأعلّقه فإذا أصبح شرب منه؛ أخرجه مسلم(١) .

وهناك أحاديث متعلّقة بهذا الباب يحسن الاطلاع عليها(٢) . ثم هذه أخبار تتعلق بشرب الخمر على عهد عمر بن الخطاب.

قالوا: شرب أعرابيّ من شراب عمر فسكر، فأمر به فجلد، فقال: إنّي شربت نبيذا من أداوتك! فقال عمررضي‌الله‌عنه : إنّما نجلدك على السّكر(٣) . والقصّة عند ابن أبي شيبة كالتالي [..] عن حسان بن مخارق قال: بلغني أنّ عمر بن الخطّاب ساير رجلا في سفر وكان صائما، فلما أفطر أهوى إلى قربة لعمر معلّقة فيها نبيذ قد خضخضها البعير فشرب منها فسكر، فضربه عمر الحدّ، فقال له: إنما شربت من قربتك. فقال له عمر: إنّما جلدناك لسكرك(٤) . والإنصاف يقضي أن يقال إنّ عمر شرب شرابا سكر منه غيره، بدليل سكر الأعرابيّ الذي شرب من إداوته حتى فقد وعيه؛ فالشّراب شراب واحد،

____________________

(١) أضواء البيان، الشنقيطي، ج ٢ ص ٤٠٨.

(٢) وفي صحيح مسلم ج ٣ ص ١٥٩٠ دار إحياء التراث العربي بيروت. وفي المبدع ابن مفلح الحنبلي، ج ٩ ص ١٠٧ المكتب الإسلامي بيروت ١٤٠٠ هو في الكافي في فقه ابن حنبل، المقدسي، ج ٤ ص ٢٣٢ المكتب الإسلامي بيروت ١٤٠٨ هـ، والمغني ابن قدامة ج ٩ ص ١٤٥ دار الفكر بيروت ١٤٠٥ هـ. ومصنف عبد الرزاق، ج ٩ ص ٢٢٤، المكتب الإسلامي بيروت ١٤٠٢، وفي مسند أبي عوانة، ج ٥ ص ١١٢ دار المعرفة بيروت ١٩٩٨ وشرح الزرقاني، ج ٤ ص ٢٠٩ دار الكتب العلمية بيروت ١٤١١.

(٣) أحكام القرآن للجصاص، ج ٤ ص ١٢٦ والناسخ والمنسوخ، النحاس، ج ١ ص ١٧٨ وضعفاء العقيلي ج ٢ ص ١٠٤ وتنقيح تحقيق أحاديث التعليق، ج ٣ ص ٤٧٧ والتحقيق في أحاديث الخلاف ج ٢ ص ٣٧٥ وتنقيح التحقيق في أحاديث التعليق ج ٢ ص ٣٠٦.

(٤) مصنف ابن أبي شيبة ج ٥ ص ٥٠٢ تحت رقم ٢٨٤٠١.

٤٧٤

يشرب منه الأعرابيّ فيفقد وعيه ويجلد بسبب ذلك، ويشرب منه عمر فلا يسكر، لأنّه متعوّد على الشراب القوي، فليس عليه أيّ حرج. والدّين دين واحد، والشّريعة شريعة واحدة! على أنّ سكر الأعرابي لم يكن متعمّدا، وإنّما هو ناشئ عن قوّة شراب عمر. والرجل كان صائما وطالما ردّد عمر ومعاصروه ادرءوا الحدود بالشّبهات، وما أكثر الشّبهات في هذه القصّة، فلماذا حرص عمر بن الخطّاب على إقامة الحدّ على رجل كان طول يومه صائما؟!

وفي سنن النسائي: عن ابن شهاب عن السّائب بن يزيد أنّه أخبره أنّ عمر بن الخطّاب خرج عليهم فقال: إنّي وجدت من فلان ريح شراب فزعم أنّه شراب الطّلاء، وأنا سائل عمّا شرب، فإن كان مسكرا جلدته. فجلده عمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه الحدّ تامّا(١) .

أقول:

فقد كان شراب عمر الذي شرب منه الأعرابيّ مسكرا قطعا، فلماذا يتعرّض الأعرابيّ للجلد ويتعامل عمر مع القضيّة كما لو كان أجنبيّا عنها، والشّراب شرابه؟!.

وقد دافع الجصّاص عن عمر بن الخطّاب كما تقتضيه عدالة جميع الصّحابة وأفضليّة العشرة المبشّرين الذين ليس بينهم أنصاريّ واحد! ولا يتوقّع المرء ممّن دافعوا عنه في مخالفته لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ألاّ يدافعوا عنه فيما هو دون ذلك. بل إنّهم تهجّموا على من حدّث أنّه شاهد عمر يشرب، ونسبوه إلى الدّجل. قال ابن حبّان: سعيد بن ذي على من حدّث أنّه شاهد عمر يشرب، ونسبوه إلى الدّجل. قال ابن حبّان: سعيد بن ذي لعوة شيخ دجّال يزعم أنّه راى عمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه يشرب المسكر. روى عنه الشّعبي ولم يرو في الدّنيا إلاّ هذا الحديث وحديثا آخر لا يحلّ ذكره في الكتب! ومن زعم أنّه سعيد بن ذي حدان فقد وهم؛ وكيف يشرب عمر بن الخطّاب رحمه الله المسكر وهو الذي خطب النّاس بالمدينة وقال في خطبته سمعت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: (الخمر من خمسة أشياء، والخمر ما خامر العقل). ولم يكن عمر ممّن

____________________

(١) سنن النسائي، ج ٨ ص ٣٢٦.

٤٧٥

كان يشربها في أوّل الإسلام حيث كان شربها حلالا، بل حرّمها على نفسه وقال لا أشرب شيئا يذهب عقلي(١) .

أقول:

هكذا أصبح الرّجل دجّالا لأنّه رأى عمر بن الخطاب يشرب المسكر، فأصبحت معاينته زعما، وشهادته دجلا، وكأنّ عمر بن الخطّاب في مقام شيث بن آدم، مع أنّه هو الذي طلب النّبيذ وهو على فراش الموت! وشرب أعرابيّ من إداوته فسكر! كيف سكر الإعرابي إذا لم يكن ما في إداوة عمر مسكرا؟!

وعن همّام قال: أتي عمر بنبيذ زبيب من نبيذ زبيب الطّائف قال فلمّا ذاقه قطب فقال: إنّ لنبيذ زبيب الطائف لعراما. ثم دعا بماء فصبّه عليه فشرب وقال: إذا اشتدّ عليكم فصبّوا عليه الماء واشربوا(٢) .

وقد أورد ابن حزم القصّة في المحلّى وقال: وهذا خبر صحيح، إلاّ أنّه لا حجّة لهم فيه، لأنّه ليس فيه أنّ ذلك النّبيذ كان مسكرا، ولا أنّه كان قد اشتدّ، وإنّما فيه إخبار عمر بأنّ نبيذ الطّائف له عرام وشدّة وأنّه كسر هذا بالماء ثمّ شربه! فالأظهر فيه أنّ عمر خشي أن يعرم ويشتدّ فتعجّل كسره بالماء، وهذا موافق لقولنا لا لقولهم أصلا، ولا يصحّ لهم ممّا ذكرنا إلاّ هذان الخبران فقط(٣) .

أقول:

يقول ابن حزم في وصف الشراب: (ليس فيه أنّ ذلك النّيذ كان مسكرا، ولا أنّه كان قد اشتد)، وقوله هذا من أعجب العجب، وإلاّ فلماذا قطب عمر حين ذاقه إذا لم يكن شديدا؟! ولماذا كسره بالماء؟! وما حاجة الشراب العادي إلى الكسر؟! والدليل على فساد ما يذهب إليه ابن حزم قول علقمة بن الأسود: (كنا ندخل على عبد الله بن

____________________

(١) كتاب المجروحين، ابن حبّان، ج ١، ص ٣١٦ تحت رقم ٣٨٤.

(٢) مصنف ابن أبي شيبة ج ٥ ص ٧٩ تحت رقم ٢٣٨٧٧. والمبسوط للسرخسي ج ٢٤ ص ٨.

(٣) المحلى، ابن حزم، ج ٧ ص ٤٨٧.

٤٧٦

مسعودرضي‌الله‌عنه فيسقينا النبيذ الشّديد)(١) .

وعن عمارة بن أبي حفصة عن عكرمة قال: أتي عمر بشراب وهو بالموقف عشيّة عرفة فشرب، ثمّ ناول سيّد أهل اليمن وهو عن يمينه فقال: إنّي صائم. قال: عزمت عليك إلاّ أفطرت وأمرت أصحابك أن يفطروا(٢) .

أقول:

الخبر يقول: (أتي عمر بشراب) والشّراب في عرفهم غير الماء واللّبن.وهذا يعني أنّ عمر بن الخطّاب لم يكتف بحملهم على الإفطار عشيّة - أي بعد العصر - بل جعلهم يفطرون على الشّراب!

وعن ابن شهاب عن السّائب بن يزيد أنّه أخبره أنّ عمر بن الخطّاب خرج عليهم فقال: إنّي وجدت من فلان ريح شراب وزعم أنّه شرب الطّلاء، وأنا سائل عمّا شرب، فإن كان يسكر جلدته، فجلده عمر الحدّ تاما(٣) .

وأنت ترى أنّه يجلد غيره لمجرّد وجود الرّائحة، ويتغاضى عن شرب نبيذ شديد أسكر الأعرابي الذي كان معه. وفي هذا المقام بالذات أنكر على أبي هريرة في قضية قدامة حين قال: (لم أره يشرب ولكنّي رأيته سكران يقيء) وقال له: (لقد تنطعت في الشهادة)(٤) ! وهذا الاستنباط من طرف أبي هريرة معقول إذ لا يصحّ أن يقيء المرء شيئا لم يشربه؛ بينما عمر بن الخطاب يقطع بالظّنّ، فإنّ الرّائحة تنبعث من كل مختمر وليست بالضرورة رائحة الخمر عينها. وبين القيء والرائحة فرق كبير وأي فرق. وإذا كان فلان الذي يتحدّث عنه عمر غير سكران فعلى أي شيء يجلده؟ ألم يقل للأعرابي

____________________

(١) أحكام القرآن، الجصاص، ج ٤ ص ١٢٦.

(٢) مصنف ابن أبي شيبة، ج ٥ ص ١٠٨ رقم ٢٤١٩٤.

(٣) تفسير البغوي، ج ١ ص ٢٤٩.

(٤) الإصابة في تمييز الصحابة ج ٥ ص ٤٢٥ وسنن البيهقي الكبرى ج ٨ ص ٣١٥ ومصنف عبد الرزاق ج ٩ ص ٢٤١ وأخبار المدينة ج ٢ ص ٣٦ والوافي بالوفيات ج ٢٤ ص ١٥٢ والكافي في فقه ابن حنبل ج ٤ ص ٢٣٤ والمغني ج ٩ ص ١٣٩، والمحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، ج ٢ ص ٢٣٥ وتفسير القرطبي ن ج ٦ ص ٣٩٨ وأحكام القرآن لابن العربي، ج ٢ ص ١٦٨.

٤٧٧

إنّما جلدتك لسكرك؟! وإنّما تفيد الحصر. وفلان هذا زعم أنّه شرب الطلاء، والحدود تدرأ بالشّبهات، فكان على عمر أن يصدّقه ويكل أمره إلى الله تعالى؛ لكنّ عمر مولع بالضرب، ويبحث عن أدنى سبب ليضرب، ولا يهمّ أن يكون المضروب رجلا أو امرأة، كما لا يهمّ أن يضربه أمام أقاربه ومحارمه، غير مراع لشيء؛ المهمّ هو الضّرب لمعالجة آثار وذكريات المعاناة التي سبّبها الخطّاب أيام الطفولة.

وعن عمرو بن ميمون قال: شهدت عمررضي‌الله‌عنه حين طعن فجاءه الطّبيب فقال: أيّ الشّراب أحب إليك؟ قال: النبيذ! قال: فأتي بنبيذ فشربه فخرج من إحدى طعناته؛ وكان يقول: (إنّا نشرب من هذا النّبيذ شرابا يقطع لحوم الإبل). قال: وشربت من نبيذه فكان كأشد النبيذ(١) . وفي مصنّف ابن أبي شيبة عن نافع بن عبد الحارث قال: قال عمر اشربوا هذا النّبيذ في هذه الأسقية فإنّه يقيم الصّلب ويهضم ما في البطن وإنّه لن يغلبكم ما وجدتم الماء(٢) .

أقول:

هذا عمر بن الخطّاب يدعو النّاس إلى شرب النبيذ، ويتبرّع بوصايا ونصائح طبّيّة تفيد أنّ شرب النبيذ يسهّل عملية هضم الطعام. وفي هذا المعنى قال ابن أبي الدنيا: حدثني أبي رحمه الله قال: قال بعض الحكماء لابنه: يا بني، ما يدعوك إلى النبيذ؟ قال: يهضم طعامي. قال: هو والله يا بني لدينك أهضم(٣) .

وقد كان عمر يبرّر شربه النّبيذ الشّديد بأنّه معسار البطن يابس الطبيعة، يشرب النّبيذ ليسهل هضم الطعام. لكن يرد عليه أنّ تسهيل البطن وتليينه لا ينحصر في النّبيذ، وقد بقي يشربه حتى خرج من الدّنيا، فقد ذكر المؤرّخون وأصحاب التّراجم والسّير أنّه أتي بنبيذ بعد ما طعن وشربه فخرج من الجرح. وعن عمرو بن ميمون قال: شهدت

____________________

(١) الناسخ والمنسوخ، النحاس، ج ١ ص ١٧٥.

(٢) مصنف ابن أبي شيبة ج ٥ ص ١١٠ تحت رقم ٢٤٢١٣.

(٣) ذم المسكر، ابن أبي الدنيا ج ١ ص ٧٤.

٤٧٨

عمررضي‌الله‌عنه حين طعن فجاءه الطبيب فقال: أيّ الشّراب أحبّ إليك؟ قال: النبيذ! قال فأتي بنبيذ فشربه فخرج من إحدى طعناته. وكان يقول: إنّا نشرب من هذا النّبيذ شرابا يقطع لحوم الإبل. قال: وشربت من نبيذه فكان كأشدّ النبيذ(١) .

أقول: في قولهم أشدّ النّبيذ إشارة إلى قوّة النبيذ التي جعلت الأعرابيّ يسكر إلى أن يفقد وعيه، وهذا خلاف زعموا في قولهم عن الأداوة (خضخضها البعير).

وعن عمرو بن ميمون الأودي قال: شهدت عمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه حين طعن - قال - أتاه أبو لؤلؤة وهو لعلّه يسوّي الصّفوف فطعنه وطعن اثني عشر رجلا، قال: فأنا رأيت عمررضي‌الله‌عنه باسطا يده وهو يقول أدركوا الكلب فقد قتلني. فأتاه رجل من ورائه فأخذه. قال: فحمل عمر إلى منزله فأتاه الطّبيب فقال: أيّ الشّراب أحبّ إليك؟ فقال: النّبيذ [!] قال فدعي بالنبيذ فشرب منه فخرج من إحدى طعناته فقال: إنّما هذا الصّديد صديد الدّم. قال: فدعي بلبن فشرب فقال: أوص يا أميرالمؤمنين بما كنت موصيا به، فو الله ما أراك تمسي(٢) .

أقول:

النبيذ أحبّ الشّراب إليه، وهذا غير ما ذكره من الضّرورة لعسر الهضم، فإنّه يكون بمنزلة الدّواء للعلاج، ولا يقال فيه عادة: أي الدّواء أحبّ إليك؟

وقد أقام عمر بن الخطّاب حدّ الخمر على ابنه عبد الرحمن بن عمر بن الخطّاب الذي كان يقال له أبو شحمة، كما أقام حدّ الخمر على قدامة بن مظعون أخي زوجته زينب بنت مظعون بن حبيب.

أخرج عبد بن حميد عن يزيد بن الأصمّ أنّ رجلا كان ذا بأس وكان من أهل الشّام، وأنّ عمررضي‌الله‌عنه فقده فسأل عنه فقيل له: تتابع في الشّراب! فدعا عمر كاتبه فقال له: اكتب من عمر بن الخطّاب إلى فلان بن فلان، سلام عليكم، فإنّي أحمد إليكم الله

____________________

(١) الناسخ والمنسوخ، النحاس ج ١ ص ١٧٥.

(٢) سنن البيهقي الكبرى، ج ٣ ص ١١٣ والطبقات الكبرى، ج ٣ ص ٣٦٢ وشرح معاني الآثار، ج ٤ ص ٢١٨.

٤٧٩

الذي لا إله إلاّ هو (بسم الله الرحمن الرحيم حم..) إلى قوله تعالى (إليه المصير)، وختم الكتاب وقال لرسوله: لا تدفعه إليه حتّى تجده صاحيا، ثمّ أمر من عنده بالدّعاء له بالتّوبة؛ فلمّا أتته الصّحيفة جعل يقرأها ويقول: (قد وعدني ربّي أن يغفر لي وحذّرني عقابه)، فلم يبرح يردّدها على نفسه حتى بكى، ثمّ نزع فأحسن النّزوع. فلمّا بلغ عمر توبته قال: هكذا فافعلوا، إذا رأيتم أخاكم قد زلّ زلّة فسدّدوه ووقفوه وادعوا الله أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعوانا للشّياطين عليه(١) .

أقول:

لماذا لم يتعامل عمر معه ابنه عبد الرحمن بما تعامل به مع هذا الرّجل! وكيف يدعو الآخرين إلى مثل هذه الطّريقة ويقوم بإضافة حدّ لا دليل عليه من كتاب أو سنّة أدّى إلى قتل ولده. سلو كان مختلفان تماما في واقعة واحدة. لكن يبدو أنّ في شرب عبد الرحمن بن عمر الخمر هتكا لآل الخطاب، وهذا ما لا يتحمّله عمر! ثمّ هو يقول: (إذا رأيتم أخاكم قد زلّ زلّة فسدّدوه وادعوا الله أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعوانا للشّياطين عليه)، لكنّه نكّل بصبيغ بن عسل فيما هو دون هذا، وجعل منه رجلا يتحاشى النّاس مجالسته بعد أن كان شريفا في قومه. وقد جعل الإسلام حرمة المؤمن أعظم من حرمة الكعبة.

وقال عبد الله بن عبّاس: بلغ عمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه أنّ سمرة باع خمرا فقال: قاتل الله سمرة، ألم يعلم أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: (لعن الله اليهود، حرّمت عليهم الشّحوم فجملوها فباعوها)(٢) ؟

____________________

(١) روح المعاني، ج ٢٤ ص ٤٣ وتفسير مجاهد، ج ٢ ص ٥٦٣ باختلاف يسير.

(٢) صحيح مسلم، ج ٣ ص ١٢٠٧ وسنن النسائي الكبرى، ج ٣ ص ٨٧ وسنن النسائي الكبرى، ج ٦ ص ٣٤٢ والسنن المأثورة، ج ١ ص ٢٨٣ وسنن ابن ماجه، ج ٢ ص ١١٢٢ وسنن الدارمي، ج ٢ ص ١٥٦ وسنن النسائي (المجتبى)، ج ٧ ص ١٧٧ ومسند أبي عوانة، ج ٣ ص ٣٧١، ومصنف عبد الرزاق، ج ٦ ص ٧٥، ومصنّف عبد الرزاق، ج ٨ ص ١٩٥، ومعرفة السنن والآثار، ج ٤ ص ٣٩٩، ومسند الحميدي، ج ١ ص ٩، ومسند أحمد بن حنبل، ج ١ ص ٢٥، ومسند البزار، ج ١ ص ٢١٩، ومسند عمر بن الخطاب، ج ١ ص ٤٦ وج ١ ص ٤٧ وفتح الباري ج ٤ ص ٤١٤، وفتح الباري، ج ٤ ص ٤١٤، وعمدة القاري، ج ١٢ ص ٣٦ التمهيد لابن عبد البر

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564