الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب10%

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب مؤلف:
الناشر: انتشارات دارالتفسير
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 564

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب
  • البداية
  • السابق
  • 564 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 91315 / تحميل: 7655
الحجم الحجم الحجم
الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب

الوهمي والحقيقي في سيرة عمر بن الخطاب

مؤلف:
الناشر: انتشارات دارالتفسير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

ما طبكم »(1) .

وقد احتوى « نهج البلاغة » على طائفة كبيرة من خطب الامام تدل على استيائه البالغ ، وحزنه العميق من تخاذل جيشه وعدم استجابتهم لنصرته حتى ملأوا قلبه غيظا وجرعوه نغب التهمام انفاسا ـ على حد تعبيره ـ وبقي سأمهم من الحرب وكراهيتهم للجهاد مستمرا طيلة أيام أمير المؤمنين. ولما آل الأمر إلى الحسن (ع) ظهر ذلك بأبشع الصور فانه لما عرض عليهم دعوة معاوية للصلح ارتفعت أصواتهم وهم يهتفون :

« البقية البقية ».

ودل ذلك على مدى جزعهم من الحرب ، وكراهيتهم للجهاد ، وانهم لم يكونوا بأي حال مع الإمام لو فتح باب الحرب مع معاوية.

ج ـ فقد القوى الواعية :

ومما سبب تفلل الجيش العراقي فقده للقوى الواعية من أعلام الإسلام الذين آمنوا بحق أهل البيت (ع) وعرفوا فضلهم ، وكان الجيش بجميع كتائبه يكن لهم أعمق الولاء والتقدير لأنهم من خيار المسلمين ومن الذين أبلوا في الإسلام بلاء حسنا ، وكان لهم شأن كبير فى تنظيم الحركة العسكرية ، وفي توجيه الجيش في خدمة الأهداف الإسلامية ، وهم أمثال الصحابي العظيم عمار بن ياسر ، والقائد الملهم هاشم المرقال ، وثابت بن قيس ، وذو الشهادتين ونظائرهم من الذين سبقوا إلى الإسلام والإيمان ، وقد طحنتهم حرب صفين وقد أحصى رواة الأثر عدد البدرين منهم فكانوا ثلاثا وستين بدريا ، وهناك كوكبة أخرى من أبرار الصحابة وخيارهم قد استشهدوا فى تلك الحروب التي أثارها الطامعون والمنحرفون عن الإسلام ضد وصي رسول الله (ص)

__________________

(1) نهج البلاغة محمد عبده 1 / 70.

١٢١

وباب مدينة علمه ، وقد ترك فقدهم فراغا هائلا في الجيش العراقي فقد خسر الضروس والرءوس ، وبلي من بعدهم بالمنافقين والخوارج الذين كانوا سوسة تنخر فى كيانه ، ولو ضم جيش الإمام أمثال أولئك الأبرار لما التجأ إلى الصلح والموادعة مع خصمه.

د ـ الدعوة إلى الصلح :

ومما سبب ضعف العزائم ، وإخماد نار الثورة في نفوس الجيش دعوة معاوية إلى الصلح وحقن الدماء ، فقد كانت هذه الدعوى لذيذة مقبولة إلى حد بعيد ، فقد استطابها البسطاء والسذج ورحب بها عملاء معاوية وأذنابه من الذين ضمهم جيش الإمام ، ولم تكن الاكثرية الساحقة في الجيش تعلم بنوايا معاوية وما يبيته لهم من الشر فانخدعوا بدعوته إلى الصلح كما انخدعوا من قبل في رفع المصاحف ، مضافا لذلك خيانة زعمائهم ، والتحاقهم بمعسكر معاوية.

وعلى أي حال فقد رحبت أكثرية الجيش بالدعوة إلى الصلح وآثرت السلم على الحرب ، ولم يكن في استطاعة الامام أن يرغمهم على مناجزة معاوية ومقاومته.

ه ـ خيانة عبيد الله :

ويعتبر خذلان عبيد الله بن العباس من العوامل المهمة التي سببت تفكك الجيش وتخاذله ، فقد طعن بخيانته الجيش العراقي طعنة نجلاء ، وفتح باب الخيانة والغدر ، ومهد السبيل للالتحاق بمعاوية ، وقد وجد ذوو النفوس الضعيفة مجالا واسعا للغدر بخيانتهم للإمام ، فاتخذوا من غدر عبيد الله وسيلة لذلك فهو ابن عم الامام وأقرب الناس إليه ، وقديما قد قيل :

إذا فاتك الادنى الذي أنت حزبه

فلا عجب إن أسلمتك الاباعد

١٢٢

وقد أولد غدر عبيد الله في نفس الامام حزنا بالغا وأسى مريرا ، فانه لم يرع « الدين ، ولا الوتر ، ولا العنعنات القبلية ، ولا الرحم الماسة من رسول الله (ص) ، ولا من قائده الاعلى ، ولا الميثاق الذي واثق الله عليه في البيعة منذ كان أول من دعا الناس إلى بيعة الحسن في مسجد الكوفة ، ولا الخوف من حديث الناس ، ونقمة التاريخ ».

و ـ رشوات معاوية :

وبالأموال تشترى ذمم الرجال ، وتباع الأوطان ، وتخمد الافكار ، وتسيل لها لعاب الابطال ، وقد عمد معاوية إلى بذلها بسخاء إلى الوجوه والاشراف والزعماء فانه لم ير وسيلة للتغلب على الاحداث إلا بذلك ، فغدروا بالامام ، وتسللوا إليه في غلس الليل وفى وضح النهار غير حافلين بالعار والخزي وعذاب الله ، وقد أدت خيانتهم إلى اضطراب الجيش وتفلله ، وإعلانه للعصيان والتمرد.

إن الاكثرية الساحقة من الجيش لم يكن لها أي هدف نبيل. وإنما كانت تسعى نحو المنافع والاطماع ، وقد أدلى بعضهم بذلك في بعض المعارك فقال :

« من أعطانا الدراهم قاتلنا معه ».

وهجا بعض الشعراء شخصا قتل في تلك المعارك يقول لابنائه :

ولا فى سبيل الله لاقى حمامه

أبوكم ولكن في سبيل الدراهم(1)

إن الجيش إذا كان مدفوعا بالدوافع المادية فانه لا يخلص في دفاعه ، ولا يؤمن من انقلابه ، وخطره على حكومته أعظم من الخطر الخارجي.

لقد بلغ من فساد العراقيين وجشعهم فى الحصول على أموال معاوية

__________________

(1) الطبري 2 / 19.

١٢٣

ان الإمام الحسن لما نزل بالمدائن للاستشفاء من جرحه في دار سعد بن مسعود الثقفي(1) وكان واليا على المدائن من قبل أمير المؤمنين (ع) وأقره الإمام الحسن عليها أقبل إليه ابن اخيه المختار ـ على ما قيل ـ وكان آنذاك غلاما فقال له :

« يا عم هل لك في الغنى والشرف؟ ».

« وما ذاك؟ ».

« توثق الحسن وتستأمن به إلى معاوية! ».

فانبرى إليه عمه وقد لسعه قوله قائلا :

« عليك لعنة الله أثب على ابن بنت رسول الله فاوثقه بئس الرجل أنت »(2) .

ولم يكن المختار وحده ـ على تقدير صحة هذه الرواية ـ قد غمره هذا الشعور بالخيانة ، فقد غمر ذلك أكثرية الجيش الذي كان مع الإمام ، فقد تسابقوا إلى مطامع الدنيا ، وليس ذلك في زمان الحسن (ع) وانما كان في زمان أمير المؤمنين (ع) فقد قال الإمام زين العابدين (ع) « إن عليا كان يقاتله معاوية بذهبه »(3) ان معاوية عرف نقطة الضعف في جيش

__________________

(1) سعد بن مسعود الثقفي ذكره البخاري في الصحابة ، وقال الطبراني : له صحبة ، ولاه أمير المؤمنين (ع) على بعض أعماله. واستصحبه معه إلى صفين ، وروى عنه أنه قال : كان نوح إذا لبس ثوبا حمد الله ، وإذا أكل وشرب حمد الله ، فلذا سمي عبدا شكورا ، الاصابة 2 / 34.

(2) الطبري ، والاصابة ، ونفى بعض المحققين صحة الخبر وجعله من الموضوعات ، ولا يبعد ذلك لأن المختار من خيرة الرجال في هديه وورعه وسائر نزعاته

(3) خطط المقريزي 2 / 439.

١٢٤

الإمام فأغدف عليهم بالرشوات حتى استجابوا له وتركوا عترة نبيهم ووديعته في أمته.

ز ـ الاشاعات الكاذبة

ومما سبب انحلال الجيش الاشاعات الكاذبة التي أذاعها عملاء معاوية فى ( المدائن ) بأن قيس بن سعد قد قتل ، واشاعوا أخرى بأنه قد صالح معاوية ، وقد اعتقد الجيش بصحة هذه الأنباء فارتطم بالفتن والاختلاف وأعظم هذه الدعايات بلاء وأشدها فتكا هي ما بثّه الوفد الذي أرسله معاوية للإمام ، فانه لما خرج منه أخذ يفتري عليه بأنه قد أجابهم إلى الصلح ، وحينما سمعوا بذلك اندفعوا كالموج فنهبوا أمتعته ، واعتدوا عليه ، ولو كانت عند الزعماء والوجوه صبابة من الانسانية والكرامة لقاموا بحماية الامام ، ورد الغوغاء عنه حتى يتبين لهم الأمر ، ولكنهم أقاموا في ثكناتهم العسكرية ولم يقوموا بحمايته ونجدته.

إلى هنا ينتهي بنا الحديث عن العوامل التي أدت إلى تفكك الجيش والقضاء على اصالته ، ومن البديهي ان القوى العسكرية قلب الدولة ومصدر حمايتها فاذا أصيبت بمثل هذه الزعازع والأخطار فهل يتمكن القائد الاعلى أن يحقق أهدافه أو يفتح باب الحرب مع القوى المعادية له؟!.

2 ـ قوة العدو :

العامل الثاني الذي دعى الامام إلى المصالحة والمسالمة هو ما يتمتع به خصمه من القوى العسكرية وغيرها التي لا طاقة للإمام على مناجزتها ، ولا قابلية له للوقوف أمامها ، حتى استطاع معاوية أن يناجز أمير المؤمنين من قبل ويرغم الامام الحسن على الصلح ، ونقدم عرضا لبعضها وهي :

١٢٥

أ ـ طاعة الجيش :

وغرس معاوية حبه في قلوب جيشه ، وهيمن على مشاعرهم وعواطفهم فقد عرف ميولهم واتجاههم فسايرها حتى أحبهم وأحبوه وصاروا طوع إرادته وقد اختمر في أذهانهم بسبب دعايته وتمويهه أنه الحجة من بعد الخلفاء ، وان النبي (ص) ليس له وارث شرعي غير بني أمية فقد نقل المؤرخون أن أبا العباس السفاح(1) لما فتح الشام أقبلت إليه طائفة من الزعماء والوجوه فحلفوا له أنهم ما علموا للرسول قرابة ، ولا أهل بيت يرثونه غير بني أمية حنى تولى بنو العباس الخلافة ، وفى ذلك يقول ابراهيم بن المهاجر البجلي(2) :

أيها الناس اسمعوا أخبركم

عجبا زاد على كل العجب

عجبا من عبد شمس إنهم

فتحوا للناس أبواب الكذب

ورثوا أحمد فيما زعموا

دون عباس بن عبد المطلب

كذبوا والله ما نعلمه

يحرز الميراث إلا من قرب(3)

ويعود السبب في ذلك إلى الروايات التي تعمد وضعها الرواة المستأجرون وأشاعوها في أوساط دمشق من أن معاوية هو وارث النبيّ وأقرب الناس

__________________

(1) أبو العباس أول خلفاء بني العباس ولد سنة (108) بالحمية من ناحية البلقاء ، ونشأ بها ، وبويع له بالكوفة في 3 ربيع الاول سنة (132) وكان سريعا إلى سفك الدماء ، وسار على منواله عماله بالمشرق والمغرب ، توفى بالجدري سنة (136) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 100.

(2) ابراهيم بن المهاجر البجلي : هو أبو اسحاق الكوفي روى عن جماعة من الثقات وروى عنه آخرون اختلف فى روايته فقيل إنه ثقة وقيل إنه ضعيف ، تهذيب التهذيب 1 / 167.

(3) مروج الذهب 2 / 335.

١٢٦

إليه وقد أفاضوا عليه وعلى الشجرة الملعونة من اسرته النعوت الحسنة والاوصاف الشريفة حتى جعلوهم فى الرعيل الأول من المصلحين الاخيار وأصبحت طاعتهم فرضا من فروض الدين ، واعتقدوا فيه وفي بني أمية أكثر من ذلك يقول الاستاذ ( فان فلوتن ) : « وكان السواد الاعظم يرى في حزب بني أمية حزب الدين والنظام » وقال : « وكان معاوية فى نظر الحزب الاموي خليفة الله كما كان ابنه يزيد إمام المسلمين ، وعبد الملك إمام الاسلام وأمين الله »(1) وبلغ من ودهم وطاعتهم له أنه كان يسلك بهم جميع المسالك البعيدة التي تتنافى مع الدين حتى استطاع أن يحقق بهم جميع ما يصبو إليه ، ونظرا لمزيد طاعتهم له تمنى أمير المؤمنين أن يصارفه معاوية بأصحابه فيعطيه واحدا منهم ويأخذ عشرة من العراقيين الذين عرفوا بالشغب والتمرد.

ب ـ بساطة وسذاجة :

وأتاح الزمن الهزيل إلى معاوية أن يسيطر على جيش كان مثالا للسذاجة والبساطة فلم يعرف الاكثر منهم أي طرفيه أطول وقد احتفظ التأريخ بصور كثيرة من بلاهتهم تدل على مدى خمولهم وعدم نباهتهم ، فقد ذكر المؤرخون أن رجلا من أهل الكوفة قدم على بعير له إلى دمشق حال منصرفهم من صفين فتعلق به رجل من أهل دمشق قائلا له :

« هذه ناقتي أخذت مني بصفين ».

وحدث بينهما نزاع حاد فرفعا أمرهما إلى معاوية وأقام الدمشقي بينة على دعواه تتألف من خمسين رجلا يشهدون انها ناقته فقضى معاوية على الكوفى وأمره بتسليم البعير إليه فورا ، فالتفت إليه العراقي متعجبا من هذا

__________________

(1) السيادة العربية ص 70.

١٢٧

الحكم قائلا :

« أصلحك الله إنه جمل وليس بناقة! ».

« حكم قد مضى ».

ولما انفض الجمع أمر معاوية باحضار العراقي فلما مثل عنده سأله عن ثمن البعير فاخبره به فدفع إليه ضعفه وبرّ به وأحسن إليه ثم قال له :

« أبلغ عليا أني أقابله بمائة الف ما فيهم من يفرق بين الناقة والجمل »(1) .

ان خمسين رجلا منهم لا يفرقون بين الناقة والجمل ، وليس من شك أن الاكثرية الساحقة منهم لا يميزون بين الحق والباطل ولا يتدبرون الفرق بين المحسوسات همج رعاع لا تفكير لهم ولا تدبر ، وأدل دليل على غفلتهم قصة الصحابي العظيم عمار بن ياسر حينما نال الشهادة فوقع الاختلاف فيما بينهم لقول النبي (ص) « ان ابن سمية تقتله الفئة الباغية » ولما رأى ابن العاص الخلاف قد دب فيهم قال لهم إن الذي قتله من أخرجه فصدقوا قوله ورجعوا إلى طاعة معاوية ومن الطبيعي ان الدولة إذا ظفرت بمثل هذا الجند المطيع الغافل توصلت الى غاياتها وتحقيق أهدافها.

وأبقى معاوية أهل الشام على غفلتهم يتخبطون في دياجير الجهالة ويسرحون في ميادين الشقاء رازحين تحت نير الاستعباد الاموي قد وضع بينهم وبين الناس حجابا حديديا فلم يسمح للغير أن يتصل بهم ولم يسمح لهم بالاتصال بالغير لئلا تتبلور أفكارهم ويقفون على الحقيقة فيتبين لهم باطل معاوية وابتزازه للخلافة من أهلها.

__________________

(1) مروج الذهب 2 / 332.

١٢٨

ج ـ اتفاق الكلمة :

ذكرنا فى بحوثنا السابقة ما منى به العراق من الاختلاف والتفكك بسبب الأحزاب التي كانت تعمل على زعزة كيان الدولة الهاشمية وتحطيم عروشها وعلى العكس من ذلك كانت الشام فانها بجميع طبقاتها لم تبتل بتلك الأحزاب ولم تصب بالافكار المعادية للحكم القائم فقد كان السلام والوئام والهدوء مخيما على دمشق وجميع ملحقاتها ولم يكن في الجيش ولا في المملكة وكر للخوارج ولا دعاة لهم ولا لغيرهم ممن يعملون على قلب الحكم ، وهذا الاتفاق الداخلي هو السبب في قوة معاوية واتساع نطاقه ونفوذه.

د ـ ضخامة القوى العسكرية :

وانفق معاوية جميع جهوده المعنوية والمادية فى إصلاح جيشه وتقويته فانه لما منيت الشام بخطر الروم بادر فعقد هدنة مؤقتة مع ملكها ودفع إليه أموالا خطيرة ولم يفتح معه باب الحرب لئلا تضعف أعصاب جيشه ومضافا إلى ذلك فانه لم يستعمله في الفتوح والحروب ، فلم يكن قد ولج به حربا غير صفين فكان محتفظا بنشاطه وقوته.

وبالإضافة لجيشه الذي كان مقيما معه في دمشق فانه لما عزم على حرب الإمام الحسن كتب إلى عماله وولاته في جميع الأقطار يطلب منهم النجدة والاستعداد الكامل لحرب ريحانة رسول الله (ص) ، وفى فترات قصيرة التحقت به قوى هائلة ضخمة فضمها إلى جيوش أهل الشام ، وزحف إلى العراق بجيش جرار كامل العدد حسن الهيئة موفور القوة ، مطيع لأمره فرأى الإمام الحسن (ع) أنه لا يتمكن على مقابلته ولا يستطيع أن يحاربه بجيشه المتخاذل الذي تسوده الخيانة والغدر.

١٢٩

ه ـ حاشيته :

ومضافا إلى ما كان يتمتع به معاوية من القوى العسكرية فقد ظفر بقوة أخرى لها أثرها الفعال فى تقوية جبهته وتوجيهه وتدبير شؤنه وهي انضمام المحنكين والسياسيين إليه طمعا بماله ودنياه ، وهم كالمغيرة بن شعبة الذي قيل في حيلته ودهائه « لو كان المغيرة في مدينة لها ثمانية أبواب لا يخرج منها إلا بالمكر والخداع لخرج المغيرة من أبوابها كلها. » وقيل فى عظيم مكره « كان المغيرة لا يقع في أمر إلا وجد له مخرجا ، ولا يلتبس عليه أمران إلا أظهر الرأي في أحدهما » ومن حاشيته عمرو بن العاص الذي كان قلعة من المكر والباطل ، وقد قيل في وصفه « ما رأيت أغلب للرجال ولا أبذلهم حين يجتمعون من عمرو بن العاص » وهو في طليعة من رفع علم الثورة على عثمان لأنه عزله عن منصبه ، وكان يثير عليه حفائظ النفوس ويحفز القريب والبعيد لمناجزته وقال فى ذلك : « والله لألقى الراعي فاحرضه على عثمان فضلا عن الرؤساء والوجوه » ولما بلغه مقتله قال : « أنا أبو عبد الله ما نكأت قرحة إلا أدميتها » وهو الذي خدع الجيش العراقي برفع المصاحف ، فتركه ممزق الأوصال ، مختلف الأهواء.

لقد جذب معاوية هؤلاء الدهاة الماكرين الذين يخلطون السم بالعسل ، ويلبسون الباطل لباس الحق ، ولم يتحرجوا من الاثم والمنكر في سبيل نزعاتهم الشريرة ، ولم يكن لهم هدف إلا القضاء على ذرية النبيّ (ص) ومن يمت إليهم من صالحاء المسلمين ليتسنى لهم القضاء على الإسلام حتى يمعنوا في التحلل حيثما شاءوا ، وقد وقف الإمام الحسن (ع) معهم في صلحه أحزم موقف يتخذه المفكرون فقد حفظ ذرية رسول الله (ص) وحقن دماء المؤمنين من شيعته لأن التضحية في ذلك الوقت لا يمكن بأي حال من الأحوال

١٣٠

أن تعود بالصالح العام للمسلمين لأنهم يضفون عليها أصباغا من التمويه والتظليل ما تفقد به معنويتها وأصالتها.

و ـ ضخامة الأموال :

ويسر لمعاوية من الثراء العريض الذي مهدته له بلاد الشام طيلة ملكه لها فانه لم ينفقها فى صالح المسلمين وانما شرى بها الضمائر والاديان ، ليمهد بذلك الطريق الموصل لفوزه بالإمرة والسلطان والتحكم في رقاب المسلمين. لقد وجه معاوية الجباة السود إلى أخذ الضرائب من الشعوب الإسلامية التي احتلها ، وقد عمدوا إلى أخذ أموال المسلمين بغير حق ، حتى بالغوا في إرهاقهم وإرغامهم على أدائها ، كما فرض عليهم من الضرائب ما لا يقره الإسلام كهدايا النيروز وغيرها ، وقد امتلأت خزائنه بها فأنفقها بسخاء على حرب ريحانة رسول الله (ص) والتغلب عليه ، وقد رأى السبط بعد هذه القوى التي ظفر بها ابن هند أنه لا يمكن مناجزته ، ولا الانتصار عليه ، وان الموقف يقضي بالصلح والمسالمة لا بالحرب والمناجزة فانها تجر للأمة من المضاعفات السيئة ما لا يعلم خطورتها إلا الله.

3 ـ اغتيال أمير المؤمنين :

ومن العوامل التي دعت الإمام الى الصلح ما روع به من اغتيال أبيه ، فقد ترك ذلك حزنا مقيما وأسى شديدا في نفسه لأنه قد قتل على غير مال احتجبه ولا سنة في الإسلام غيرها ، ولا حق اختص به دونهم ، وكان يحيى بينهم حياة الفقراء والضعفاء ، ويتطلب لهم حياة حافلة بالنعم والخيرات ، ويسعى جادا فى اقامة العدل ، واماتة الجور ، ونصرة المظلومين واعالة الضعفاء والمحرومين ، فعمدوا على اغتياله وتركوه صريعا في محرابه

١٣١

لم يحافظوا حرمته ، ولا حرمة رسول الله (ص) فيه وقد رأى الإمام الحسن (ع) بعد ارتكابهم لهذه الجريمة النكراء أنه لا يمكن إصلاحهم ، وإرجاعهم الى طريق الحق والصواب ، فتنكر منهم ، وزهد في ولايتهم ، وقد أدلى (ع) بذلك بقوله :

« وقد زهدني فيكم اغتيالكم أبي ».

حقا أن يكون اغتيال الامام أمير المؤمنين (ع) رائد العدالة الاجتماعية الكبرى من الأسباب الوثيقة التي زهدت الامام الحسن في ذلك الشعب الجاهل الذي غمرته الفتن والأطماع ، وانحرف عن الطريق القويم.

4 ـ حقن الدماء :

ومن دواع الصلح رغبة الإمام الملحة في حقن دماء المسلمين ، وعدم اراقتها ، ولو فتح باب الحرب مع معاوية لضحى بشيعته وأهل بيته ، ويجتث بذلك الإسلام من أصله ، وقد صرح (ع) بذلك في جوابه عن دوافع صلحه فقال :

« إني خشيت أن يجتث المسلمون عن وجه الأرض فأردت أن يكون للدين ناعي »

وأجاب (ع) بعض الناقمين عليه من شيعته فى الصلح فقال : « ما أردت بمصالحتي معاوية إلا أن أدفع عنكم القتل »(1) . وأعرب في خطابه الذي ألقاه في المدائن عن مدى اهتمامه في دماء المسلمين فقد جاء فيه.

« أيها الناس. إن الأمر الذي اختلفت فيه أنا ومعاوية إنما هو حق أتركه لإصلاح أمر الأمة ، وحقن دمائها. »(2)

__________________

(1) الدينوري ص 303.

(2) أعيان الشيعة 4 / 42.

١٣٢

ومن حيطته ورعايته لذلك أنه أوصى أخاه الحسين حينما وافاه الأجل المحتوم أن لا يهرق في أمره ملء محجمة دما. »

إن أحب شيء للإمام (ع) الحفاظ على دماء المسلمين ، ونشر الأمن والوئام فيما بينهم ، وقد بذل في سبيل ذلك جميع جهوده ومساعيه.

5 ـ منة معاوية :

لقد علم الإمام (ع) أنه إن حارب معاوية فان اجلاف العراقيين وأوباشهم سوف يسلمونه أسيرا الى معاوية وأغلب الظن انه لا يقتله بل يخلي عنه ويسجل له بذلك مكرمة وفضيلة ويسدي يدا بيضاء على عموم الهاشميين ويغسل عنه العار الذي لحقه من أنه طليق وابن طليق ، وقد صرح الحسن (ع) بهذه الخاطرة قائلا :

« والله لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سلما ، والله لئن أسالمه وأنا عزيز ، أحب إليّ من أن يقتلنى وأنا أسير أو يمن عليّ فتكون سبة على بني هاشم الى آخر الدهر ولمعاوية لا يزال يمن بها هو وعقبه على الحي منّا والميت. »

وهذا السبب له مكانته من التقدير فان الإمام أراد أن لا يسجل لخصمه أي فضيلة ومكرمة.

6 ـ حوادث المدائن :

ومن جملة الأسباب التي دعت الامام الى الصلح هي الحوادث القاسية التي لاقاها في المدائن ، وقد ذكرناها مشفوعة بالتفصيل وخلاصتها.

أ ـ خيانة الزعماء والوجوه واتصالهم بمعاوية.

١٣٣

ب ـ الحكم عليه بالتكفير من قبل الخوارج.

ج ـ اغتياله.

د ـ نهب أمتعته.

هذه بعض العوامل التي أدت الامام الى السلم ، وفيما نعلم انها تلزم بالصلح وعدم فتح أبواب الحرب.

7 ـ الحديث النبوي :

نظر النبي (ص) الى الحوادث الآتية من بعده فرآها بعينها وحقيقتها لا بصورها وأشكالها ، رأى أمّته ستخيم عليها الكوارث ، وتنصب عليها الفتن والخطوب ، حتى تشرف على الهلاك والدمار ، وإن إنقاذها مما هي فيه من الواقع المرير سيكون على يد سبطه الأكبر ، وريحانته من الدنيا الامام الحسن (ع) فأرسل كلمته الخالدة قائلا :

« إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين عظيمتين »(1) .

وانطبع هذا الحديث في أعماق الامام الحسن وفي دخائل ذاته منذ نعومة أظفاره ، وتمثل أمامه في ذلك الموقف الرهيب ، « وإنه ليطمئن الى قول جده كما يطمئن الى محكم التنزيل وها هو ذا جده العظيم يقول له : وكأن صوته الشريف يرن بعذوبته المحببة في أذنه ، ويقول لأمّه الطاهرة البتول ، ويقول على منبره ، ويقول بين أصحابه ، ويقول ما لا يحصى كثرة : إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين من المسلمين ».

وزادت هذه الذكرى تفاعلا شديدا في نفسه فقد رأى ما عناه

__________________

(1) تقدمت مصادر الحديث في الجزء الأول من هذا الكتاب ص 81.

١٣٤

جده (ص) في ( المدائن ) رأى طائفتين :

( إحداهما ) شيعته وهم من خيار المسلمين ، وصالحائهم من الذين وقفوا على أهداف الاسلام ، وعرفوا حقيقته وواقعه.

( الثانية ) اتباع معاوية من السذج والبسطاء والمنحرفين عن الاسلام ، وهؤلاء وإن كانوا بغاة قد خرجوا على إمام زمانهم ولكنهم يدعون الاسلام وهاتان الطائفتان إن دارت رحى الحرب فانها ستطحن الكثير منهم وبذلك يتضعضع كيان الاسلام وتنهار قواه ، ومن يصد عن المسلمين العدو الرابض الذي يراقب الأحداث ليثب عليهم ، ومن هو يا ترى حريص على رعاية الاسلام والحفاظ على المسلمين غير سبط النبي ووارثه ، فاثر الصلح على ما فيه من قذى في العين ، وشجى في الحلق ، ويذهب شمس الدين الصقلي ( المتوفى سنة 565 ه‍ ) الى أن الباعث لخلع الحسن نفسه عن الخلافة حديث النبي (ص) في ذلك(1) .

وزعم الرواة ان النبي (ص) كان يحدث أصحابه عن عمر الخلافة الاسلامية فقال لهم : « إن الخلافة بعدي ثلاثون سنة ، ثم تكون ملكا. » ولاحظوا أن في مصالحة الحسن لمعاوية قد كملت الثلاثون سنة حسب ما يقولون(2) .

__________________

(1) أنباء نجباء الأبناء ص 56.

(2) البداية والنهاية 8 / 41 ، وعندي أن هذا الحديث من الموضوعات لأن الخلافة قد صارت ملكا عضوضا في أيام عثمان فهو الذي حولها عن مفاهيمها الخلاقة وآثر الأمويين في الحكم والأموال وأتاح لهم من القوى ما هيأهم لمنازعة أمير المؤمنين ، وقد تحدث النبي (ص) عما يئول إليه الأمر من بعده فقال : « إن أول دينكم بدء نبوة ورحمة ، ثم يكون ملكا وجبرية » رواه السيوطي ـ

١٣٥

نظر الحسن (ع) الى قول جده (ص) فعلم أن الأمر لا بد أن ينتقل الى معاوية ، ومضافا لذلك فقد أخبره أبوه بذلك كما حدث عنه فقال :

« قال لي أبي ذات يوم : كيف بك يا حسن إذا ولي هذا الأمر بنو أميّة؟ وأميرها الرحب البلعوم ، الواسع الاعفجاج ، يأكل ولا يشبع ، فيستولي على غربها وشرقها ، تدين له العباد ، ويطول ملكه ، ويسن البدع والضلال ، ويميت الحق وسنة رسول الله (ص) ، يقسم المال في أهل ولايته ، ويمنعه عمن هو أحق به ، ويذل في ملكه المؤمن ، ويقوى في سلطانه الفاسق ، ويجعل المال بين أنصاره دولا ، ويتخذ عباد الله خولا ، ويدرس في سلطانه الحق ، ويظهر الباطل ، ويقتل من ناوأه على الحق »(1)

إن النبي والوصي قد استشفا من حجاب الغيب ما تمنى به الأمّة الاسلامية من المحن والبلاء بسبب تخاذلها عن مناصرة الحق ومناجزة الباطل وانها من جراء ذلك سيتولى أمرها الأدعياء من الطلقاء وأبنائهم فيسومونها سوء العذاب ، ويستأثرون بمال الله ، ويتخذون المسلمين عبيدا لهم وخولا.

وكان معاوية يعلم بمصير الأمر إليه في زمان أمير المؤمنين (ع) فقد صنع فذلكة استعلم بها منه عما يؤول إليه أمره ، فبعث جماعة من أصحابه الى الكوفة ليشيعون أن معاوية قد مات ، فبلغ ذلك أمير المؤمنين ، وتكرر حديث الناس حول هذه الاشاعة فقال (ع).

« قد أكثرتم من نعي معاوية ، والله ما مات ، ولا يموتن حتى يملك

__________________

ـ في تأريخ الخلفاء ص 6 ، وقد تحقق قوله (ص) فان الدين أول بدئه كان نبوة ورحمة ، ثم تحول في زمان الأمويين الى ملك وطغيان وجبرية.

(1) البحار

١٣٦

ما تحت قدمي. »(1)

ولما بلغه ذلك اعتقد به لعلمه أن الامام هو باب مدينة علم النبي (ص) ومستودع سره ، وان قوله لا يتخلف عن الواقع ولا يخطئ الحق.

ومهما يكن الأمر فان الامام الحسن (ع) بصلحه مع معاوية قد لقبه المسلمون بالمصلح العظيم ، وقد أفاض عليه هذا اللقب جده الرسول من قبل.

8 ـ العصمة :

وذكرت طائفة من العلماء الأعلام صلح الامامعليه‌السلام فعللته بالعصمة وان الامام المعصوم لا يرتكب الخطأ ولا يفعل إلا ما فيه الخير والصلاح لجميع الأمّة ولعل الوجوه التي ذكرناها قد كشفت عن مناط هذا القول وأوضحت حسنه وذلك للأسباب والعوامل التي أحاطت بالامام حتى دعته الى الصلح ، ونشير الى بعض الذاهبين الى هذا القول وهم :

1 ـ الشريف المرتضى :

قال الشريف المرتضى علم الهدى(2) رحمه‌الله : « إنه ( يعني الحسن )

__________________

(1) مروج الذهب 2 / 295.

(2) الشريف المرتضى : هو علي بن الحسين ينتهي نسبه الوضاح الى امام المسلمين موسى بن جعفرعليه‌السلام ، كانت له نقابة الطالبيين لقب بالمرتضى وعلم الهدى كانت ولادته في سنة ( 355 هج ) ووفاته في سنة (436) ، وكان أكبر من أخيه الشريف الرضي. قال أبو جعفر الطوسي : قد توحّد المرتضى في علوم كثيرة وكان مجمعا على فضله ومقدما في العلوم كعلم الكلام والفقه وأصول الفقه والأدب وغير ذلك وله ديوان شعر يزيد على عشرة آلاف بيت وله مؤلفات كثيرة في مختلف الفنون جاء ذلك في معجم الأدباء 13 / 146.

١٣٧

قد ثبت انه المعصوم المؤيد بالحجج الظاهرة ، والأدلة القاهرة ، فلا بد من التسليم لجميع أفعاله وإن كان فيها ما لا يعرف وجهه على التفصيل أو كان له ظاهر نفرت منه النفوس »(1) .

2 ـ السيد ابن طاوس :

وعلل نابغة الإسلام السيد الجليل ابن طاوس طيب الله مثواه(2) في وصيته لولده صلح الإمام بالعصمة وببعض الأسباب التي ذكرناها قالرحمه‌الله يخاطب ولده :

« وليس بغريب من قوم عابوا جدك الحسن على صلح معاوية وهو كان بأمر جده وقد صالح جده الكفار وكان عذره في ذلك أوضح

__________________

(1) تنزيه الأنبياء ص 69.

(2) السيد ابن طاوس : هو السيد الجليل الكامل العابد المجاهد رضي الدين أبو القاسم على بن موسى بن جعفر بن طاوس الحسني الحسيني ، لقب بالطاوس من جهة حسن وجهه وخشونة رجليه ، وكان من سكنة الحلة ، وهو من السادة المعظمين ، ومن النقباء وله مؤلفات كثيرة ، وقد ذكر جميع مناقبه وعلومه الحجة الثبت السيد محمد باقر الخونساري في مؤلفه روضات الجنات 3 / 43 ـ 47 وجاء في الكنى والألقاب 1 / 328 ان السيد تولى نقابة الطالبيين وكان يجلس فى قبة خضراء والناس تقصده وقد لبسوا لباس الخضرة بدل السواد وذلك عقيب وقعة بغداد ، وفي ذلك يقول علي بن حمزة :

فهذا علي نجل موسى بن جعفر

شبيه علي نجل موسى بن جعفر

فذاك بدست للامامة أخضر

وهذا بدست للنقابة أخضر

يشير بذلك الى الامام الرضا (ع) لما ولى العهد فقد لبس لباس الخضرة توفى السيد ابن طاوس يوم الاثنين خامس ذي العقدة سنة ( 664 هج ).

١٣٨

الأعذار فلما قام أخوه الحسين بنصرهم وإجابة سؤالهم وترك المصالحة ليزيد المارق كانوا بين قاتل وخاذل حتى ما عرفنا أنهم غضبوا في أيام يزيد لذلك القتل الشنيع ولا خرجوا عليه ولا عزلوه عن ولايته وغضبوا لعبد الله ابن الزبير وساعدوه على ضلالته وافتضحوا بهذه المناقصة الهائلة وظهر سوء اختيارهم النازلة فهل يستبعد من هؤلاء ضلال عن الصراط المستقيم؟ وقد بلغوا الى هذا الحال السقيم العظيم الذميم »(1) .

وعلل السيدرحمه‌الله صلح الامام ( أولا ) بالعصمة من الخطأ وقاس صلحه بصلح جده الرسول (ص) مع المشركين في قصة الحديبية فكما ان صلح الرسول لا يتطرقه الشك ولا يأتيه النقد نظرا لوجود المصلحة فيه فكذلك صلح الإمام مع خصمه فانه محفوف بالمصلحة العامة لعموم المسلمين و ( ثانيا ) ببلاء الإمام ومحنته بذلك المجتمع الضال الذي لم يقم وزنا للفضيلة ولم يفقه من القيم الروحية شيئا فانه هو الذي اضطر الإمام الى الصلح والمسالمة. وأقام السيد الدليل على تفسخ أخلاق ذلك المجتمع وتماديه في الشر وذلك بمتابعته ليزيد شارب الخمور ، ومعلن الفسق والفجور ، ومناصرته والاشتراك معه في أفظع فظع جريمة سجلها التأريخ وهي قتل سيد شباب أهل الجنة الحسينعليه‌السلام ولم يظهر أحد منهم الأسف والحزن على هذه الجريمة ، وما ثاروا عليه ، ولا عزلوه عن منصبه. وقد ذكرنا في الابحاث السالفة الأسباب التي أوجبت هذا الانحطاط الهائل في جموع أهل العراق.

9 ـ ابراز الواقع الاموي :

كان معاوية قبل أن يستولي على زمام الحكم ملتزما بتعاليم الإسلام

__________________

(1) كشف المحجة لثمرة المهجة يحتوي على وصايا رفيعة لولده ص 46.

١٣٩

ظاهرا ، ويظهر الاهتمام بشئون المسلمين ، ولكن كان ذلك ـ من دون شك ـ رياء منه ومكيدة من باب المشي رويدا لأخذ الصيد ، كان يبطن الكفر والنفاق ويضمر السوء والعداء للمسلمين فأراد الإمام الحسن (ع) بصلحه أن يبرز حقيقته ، ويظهر للناس عاره وعياره ، ويعرفه للذين خدعهم بمظاهره من أنه أعدى عدو للإسلام ، فأخلى له الميدان ، وسلم له الأمر ، فاذا بكسرى العرب ـ كما يقولون ـ تتفجر سياسته الجهنمية بكل ما خالف كتاب الله ، وسنة رسول الله (ص) ، وإذا به يعمد الى فصم عرى الإسلام وإلى نسف طاقاته ، وإلى الإجهاز على القوى الواعية فيه ، فيصب عليها وابلا من العذاب الأليم ، فيعدم وينكّل بمن شاء منها ، ويرغم المسلمين على البراءة من عترة نبيهم ، واعلان سبهم وانتقاصهم على الأعواد والمنابر وبذلك ظهرت خفايا نفسه ، وفهم المسلمون جميعا حقيقة هذا الطاغية وما يبغيه من الغوائل لهم ، ولو لم تكن للصلح من فائدة إلا إظهار ذلك لكفى بها كما نصّ على ذلك الامام كاشف الغطاءرحمه‌الله في مقدمته لهذا الكتاب(1) .

إن معاوية بعد أن آل إليه الأمر حمل معول الهدم على جميع الأسس الاسلامية محاولا بذلك اطفاء نور الاسلام ، ولف لوائه ، ومحو أثره ، وقلع جذوره ، واعادة الحياة الجاهلية الأولى ، وقبل أن نعرض بعض موبقاته ومردياته التي سود بها وجه التأريخ نذكر ما أثر عن أبويه من الحقد والعداء للإسلام. وما ورد من النبي (ص) من الأخبار فى انتقاصه وذمه لنرى هل كان خليقا بأن تسند إليه الامارة ويفرض حاكما على المسلمين ويخلى بينه وبين الحكم يتصرف فيه كيفما يشاء من دون أن يحاسب أو يراقب وإلى القراء ذلك.

__________________

(1) ص 18 ـ 19.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

قصّة قدامة بن مظعون

استعمل عمر بن الخطّاب قدامة بن مظعون على البحرين فقدم الجارود العبدي من البحرين على عمر بن الخطّاب فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ قدامة شرب فسكر، وإنّي رأيت حدّا من حدود الله حقّا عليّ أن أرفعه إليك. قال عمر: من شهد معك؟ قال: أبو هريرة. فدعا أبا هريرة فقال: بم تشهد؟ فقال: لم أره يشرب ولكنّي رأيته سكران يقيء. فقال عمر: لقد تنطّعت في الشّهادة. ثم كتب إلى قدامة أن يقدم عليه من البحرين. فقدم فقال الجارود لعمر: أقم على هذا كتاب الله. فقال عمر: أخصم أنت أم شهيد؟ فقال: شهيد. قال: قد أدّيت شهادتك! فسكت الجارود. ثمّ غدا على عمر فقال: أقم على هذا حدّ الله عزّ وجلّ. فقال عرم: لتمسكنّ لسانك أو لأسوءنّك! فقال: يا عمر، والله ما ذلك بالحقّ ن يشرب ابن عمّك الخمر وتسوءني! فقال أبو هريرة: إن كنت تشكّ في شهادتنا فارسل إلى ابنة الوليد - امرأة قدامة - فسلها. فأرسل عمر إلى هند بنت الوليد ينشدها فأقامت الشّهادة على زوجها، فقال عمر لقدامة: إنّي حادّك. قال: لو شربت كما يقولون ما كان لكم أن تحدّوني فقال عمر: لم؟ قال قدامة: قال الله عزوجل:( لَيْسَ عَلَى الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيَما طَعِمُوا إِذَا مَا اتّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ ) ، فقال عمر: أخطأت التّأويل، لو اتّقيت لله اجتنبت ما حرّم الله. ثمّ أقبل عمر على النّاس فقال: ما ترون في جلد قدامة؟ فقال القوم: لا نرى أن تجلده ما كان مريضا. فسكت على ذلك أيّاما، ثمّ أصبح يوما وقد عزم على جلده فقال لأصحابه: ما ترون في جلد قدامة؟ فقالوا لا نرى أن تجلده ما كان مريضا. فقال عمر: لأن يلقى الله تحت السّياط أحبّ إليّ من أن ألقاه وهو في عنقي. ائتوني بسوط تامّ. فأمر عمر بقدامة فجلد فغاضب عمر وهجره، فحجّ عمر وقدامة معه مغاضب له، فلما قفلا من حجّهما نزل عمر بالسّقيا فنام، فلمّا استيقظ من نومه قال: عجّلوا عليّ بقدامة، فو الله لقد أتاني آت في منامي فقال: سالم قدامة فإنّه أخوك، فعجلوا عليّ به! فلمّا أتوه أبى أن يأتي، فأمر به

____________________

ج ٤ ص ١٤٣ ومقدمة فتح الباري ج ١ ص ٣٦٠.

٤٨١

عمر إن أبى أن يجرّوه إليه [!] فكلّمه عمر واستغفر له، فكان ذلك أوّل صلحهما. روى ابن جريج عن أيوب السختياني قال: لم يحدّ أحد من أهل بدر في الخمر إلاّ قدامة بن مظعون. توفي قدامة سنة ستّ وثلاثين وهو ابن ثمان وستّين سنة(١) .

قال ابن عاشور بخصوص هذه القصّة: وقد يكون المرويّ في سبب النّزول مبيّنا ومؤوّلا لظاهر غير مقصود، فقد توهّم قدامة بن مظعون من قوله تعالى( لَيْسَ عَلَى الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيَما طَعِمُوا ) فاعتذر بها لعمر بن الخطّاب في شرب قدامة خمرا. روي أنّ عمر استعمل قدامة بن مظعون على البحرين فقدم الجارود على عمر فقال: إنّ قدامة شرب فسكر؛ فقال عمر: من يشهد على ما تقول؟ قال الجارود: أبو هريرة يشهد على ما أقول، وذكر الحديث، فقال عمر: يا قدامة، إنّي جالدك. قال: والله لو شربت كما يقولون ما كان لك أن تجلدني! قال عمر: ولم؟ قال لأن الله يقول( لَيْسَ عَلَى الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ جُنَاحٌ ) الخ.. فقال عمر: إنّك أخطأت التّأويل يا قدامة، إذا اتّقيت الله اجتنبت ما حرّم الله. وفي رواية فقال: لم تجلدني! بيني وبينك كتاب الله؛ فقال عمر: وأيّ كتاب الله تجد أن لا أجلدك؟ قال: إن الله يقول في كتابه( لَيْسَ عَلَى الّذِينَ آمَنُوا ) إلى آخر الآية، فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصّالحات ثمّ اتّقوا وأحسنوا، شهدت مع رسول الله بدرا، وأحدا والخندق والمشاهد. فقال عمر: ألا تردّون عليه قوله! فقال ابن عبّاس: إنّ هؤلاء الآيات أنزلن عذرا للماضين وحجّة على الباقين، فعذر الماضين بأنّهم لقوا الله قبل أن تحرّم عليهم الخمر وحجّة على الباقين لأنّ الله يقول:( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِنّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ .. ) ثمّ قرأ إلى آخر الآية الأخرى، فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصّالحات ثمّ اتّقوا وآمنوا وأحسنوا فإنّ الله قد نهى أن يشرب الخمر. قال عمر: صدقت... الحديث(٢) .

____________________

(١) أسد الغابة، ج ١ ص ٩٠٨، والمحرّر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، ج ٢ ص ٢٣٥ والوافي بالوفيات، ج ٢٤ ص ١٥٣.

(٢) التحرير والتنوير، ابن عاشور، ج ١ ص ١٠.

٤٨٢

وعن الزهري عن السائب بن يزيد قال: قال عمر بن الخطّاب: (ذكر لي أنّ عبيد الله وأصحابه شربوا شرابا بالشّام، وأنا سائل عنه، فإن كان مسكرا جلدتهم)(١) .

أقول:

لكنّ شراب عمر الذي شرب منه الأعرابي مسكر بدليل سكر الأعرابي، ولا أحد يؤاخذ عمر، وهو مع ذلك يقول هذا الكلام.

وهذه صورة الحوار الذي جرى بين عمر بن الخطاب والجارود في قصّة قدامة يذكرها ابن عطيّة الأندلسيّ في تفسيره، قال: وقد تأوّل هذه الآية قدامة بن مظعون الجمحي من الصّحابةرضي‌الله‌عنه وهو ممن هاجر إلى أرض الحبشة مع أخويه عثمان وعبد الله ثم هاجر إلى المدينة وشهد بدرا، وكان ختن عمر بن الخطّاب، خال عبد الله وحفصة، ولاّه عمر بن الخطّاب على البحرين ثمّ عزله لأنّ الجارود سيّد عبد القيس قدم على عمر بن الخطّاب فشهد عليه بشرب الخمر، فقال له عمر: ومن يشهد معك؟ فقال: أبو هريرة. فجاء أبو هريرة فقال له عمر: بم تشهد؟ قال: لم أره يشرب ولكن رأيته سكران يقيء! فقال له عمر: لقد تنطّعت في الشّهادة. ثمّ كتب عمر إلى قدامة أن يقدم عليه فقدم؛ فقال الجارود لعمر: أقم علي هذا كتاب الله! فقال له عمر: أخصم أنت أم شهيد؟ قال: بل شهيد. قال: قد أدّيت شهادتك! فصمت الجارود. ثمّ غدا على عمر فقال: أقم على قدامة كتاب الله. فقال له عمر: ما أراك إلاّ خصما، وما شهد معك إلاّ رجل واحد. قال الجارود: إنّي أنشدك الله! قال عمر: لتمسكنّ لسانك أو لأسوأنّك! فقال الجارود: ما هذا والله يا عمر بالحقّ، أن يشرب ابن عمّك الخمر وتسوءني! فقال أبو هريرة: إن كنت تشكّ في شهادتنا فأرسل إلى ابنة الوليد فسلها، وهي امرأة قدامة، فبعث عمر إلى هند بنت الوليد ينشدها الله فأقامت الشّهادة على زوجها، فقال عمر لقدامة: إنّي حادّك فقال: لو شربت كما يقولون لم يكن لك أن تحدّني. قال عمر: لم؟ قال لأنّ الله

____________________

(١) مصنف ابن أبي شيبة ج ٥ ص ٦٨ تحت رقم ٢٣٧٥٦.

٤٨٣

تعالى يقول( لَيْسَ عَلَى الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ جُنَاحٌ ) الآية. فقال له عمر: أخطأت التّأويل، إنّك إذا اتّقيت الله اجتنبت ما حرّم عليك. ثمّ حدّه عمر، وكان مريضا فقال له قوم من الصحابة (لا نرى أن تجلده ما دام مريضا). فأصبح يوما وقد عزم على جلده فقال لأصحابه: ما ترون في جلد قدامة؟ قالوا: (لا نرى ذلك ما دام وجعا)، فقال عمر: لأن يلقى الله وهو تحت السّياط أحبّ إليّ من أن ألقاه وهو في عنقي، وأمر بقدامة فجلد؛ فغاضب قدامة عمر وهجره إلى أن حجّ عمر وحج معه قدامة مغاضبا له، فلما كان عمر بالسّقيا نام ثمّ استيقظ فقال: عجّلوا عليّ بقدامة، فقد أتاني آت في النّوم فقال (سالم قدامة فإنه أخوك) فبعث في قدامة فأبى أن يأتي، فقال عمر: جروه إن أبى! فلمّا جاء كلّمه عمر واستغفر له، فاصطلحا. قال أيّوب بن أبي تميمة: لم يحدّ أحد من أهل بدر في الخمر غيره(١) .

تلكم كانت القصّة التي اختارها المحدّثون والمؤرخون، وكتموا منها ما يكشف عن أمور تسيء إلى سمعة عمر أو يشنع الحديث به على حدّ تعبير ابن هشام. فقد ذكر ابن شبّة في أخبار المدينة تفاصيل تكشف جوانب خفيّة من شخصيّة عمر وإليك تفصيل ذلك. قال ابن شبّة: حدثنا محمد بن يحيى عن محمد بن جعفر قال: لما توفّي العلاء بن الحضرمي وهو عامل البحرين لعمررضي‌الله‌عنه ، استعمل عمررضي‌الله‌عنه قدامة بن مظعون عليها، فخرج يغزو بعض بلاد الأعاجم فأصابهم في مسيرهم نصب وعذر، فمرّوا ببيت مفتوح فدخله قدامة والأرقم بن أبي الأرقم وعياش بن أبي ربيعة المخزومي وابن حنظلة الرزقي الأنصاري، فوجدوا فيه طعاما كثيرا وخمرا في جرار، فأكل قدامة وبعض من معه وشربوا من تلك الخمر، ثمّ لحقهم أبو هريرةرضي‌الله‌عنه فمرّ بالبيت فدخله فوجدهم فأنكر عليهم ما صنعوا، فقال: ما لك ولهذا يا ابن أبيه؟ وقال عياش: إنّي والله ما كنت من أمرهم بسبيل، ولا شربت ما شربوا! قال: فما لك معهم؟ قال: استظللت بظلّهم؛ واستقاء فقاء كسرا أكلها وشرب عليها ماء. فركب الجارود

____________________

(١) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، ابن عطية الأندلسي، ج ٢ ص ٢٣٥.

٤٨٤

العبدي ورجل من بني رياح بن يربوع بن حنظلة كان خصيّا في الجاهليّة، فكان يقال له خصيّ بني رياح في نفر من أهل البحرين حتّى قدموا على عمررضي‌الله‌عنه فذكروا له أمر قدامة، وشهدوا عليه بشرب الخمر، فسبّهم وغضب عليهم غضبا شديدا، وأبى أن ينزلهم ومنع الناس أن ينزلوهم [!] ومرّ الجارود بمنزل عمررضي‌الله‌عنه وابنة له تطلع وهي ابنة أخت قدامة فقالت: والله لأرجو أن يخزيك الله! فقال: إنما يخزي الله العينين اللتين تشبهان عينيك أو يأثم أبوك! ورجا عمررضي‌الله‌عنه أن ينزعوا عن شهادتهم، وأعظم ما قالوا، وأرسل إلى الجارود: لقد هممت أن أقتلك أو أحبسك بالمدينة فلا تخرج منها أبدا أو أمحوك من العطاء فلا تأخذ مع المسلمين عطاء أبدا! فأرسل إليه الجارود: إن قتلتني فأنت أشقى بذاك ن وإن حبستني بالمدينة فما بلد أحبّ إليّ من بلد فيه قبر رسول الله ومنبره ومهاجره، وإن محوتني من العطاء ففي مالي سعة ويكون عليك مأثم ذاك وتباعته. فلما رأى عمررضي‌الله‌عنه أنّهم لا ينزعون ولا يزدادون إلا شدّة أرسل إليهم وسمع منهم، وقال: والله ما استعملت عاملا قطّ لهوى لي فيه إلاّ قدامة، ثمّ والله ما بارك الله لي فيه. ثمّ كتب إلى أبي هريرةرضي‌الله‌عنه إن كان ما شهدوا حقّا فاجلد قدامة الحدّ واعدل. فلمّا جاء كتاب عمر أبا هريرةرضي‌الله‌عنه جلد قدامة الحدّ؛ فقدم قدامة على عمررضي‌الله‌عنه فتظلّم من أبي هريرة فقدم أبو هريرةرضي‌الله‌عنه فأرسل إليه عمررضي‌الله‌عنه خاصم قدامة فإنّه قد تظلّم منك. فقال: لا، حتّى يرجع إليّ عقلي ويذهب عنّي نصب السّفر وأنام، فإنّي قد سهدت في سفري. فلبث ثلاثا ثمّ خاصم قدامة في بيت عمر، وعند عمررضي‌الله‌عنه زينب بنت مظعون وهي أمّ حفصة وعبد الله ابني عمر، فتراجعا، فكان أبو هريرةرضي‌الله‌عنه أطولهما لسانا، ففزعت بنت مظعون فقالت: لعنك الله من شيخ طويل اللّسان ظالم! فقال أبو هريرة: بل لعنك الله من عجوز حمراء رمضاء بذيء لسانها فاحشة في بيتها(١) ! فقال قدامة: يا أمير المؤمنين سله لم جلدني؟ قال: جلدتك بالذي رأيت منك! قال: هل رأيتني أشرب الخمر؟ قال: لا. قال عمررضي‌الله‌عنه : الله أكبر! قال أبو هريرةرضي‌الله‌عنه :

____________________

(١) كل هذا السّبّ والشّتم بحضور الخليفة عمر ذي الهيبة! وما يلفت انتباه المتتبّع هو سلوك عمر مع بنت مظعون على خلاف عادته، فإنّه يضرب النّساء لأمور أقلّ بكثير مما أتت به هي!

٤٨٥

يرحم الله أبا بكر، تشتمني زوجتك وتقضي بيني وبين ختنك في بيتك وتعين عليّ بالتّكبير! فقال عمررضي‌الله‌عنه : فقوموا؛ فقاموا جميعا حتّى جلسنا في المسجد، واجتمع عليهم النّاس فقال قدامة: أنشدك الله هل رأيتني أشرب الخمر؟ قال: لا. قال: فهل رأيتني أشتريها؟ قال: لا. قال فهل رايتني أحملها؟ قال: لا. قال: فهل رأيتها تحمل إليّ؟ قال لا. قال: الله أكبر، ففيم جلدتني؟ قال: جلدتك أنّي رأيتك تقيئها تخرجها من بطنك، فمن أين أدخلتها؟ قال قدامة: وإنّك بالخمر لعالم؟ قال: نعم والله، ولقد كنت أشربها ثمّ ما شربتها بعدما بايعت رسول الله. قال عمررضي‌الله‌عنه : تب إلى الله يا قدامة! اللّهمّ صدق وكذبت، وبرّ وفجرت، تب إلى الله(١) .

هذه هي القصّة كما رواها ابن شبّة، وأنت ترى أنّ فيها كثيرا من التفاصيل التي تعمّد الآخرون كتمانها حفاظا منهم على صورة الخليفة في الأذهان، لأنّ المسلم حين يطلع على تصرّف عمر بن الخطّاب مع من شهدوا على أخي زوجته بشرب الخمر يتعجّب من ذلك التّصرّف الجاهلي الذي لا علاقة له بالإسلام (فسبّهم، وغضب عليهم غضبا شديدا، وأبى أن ينزلهم، ومنع الناس أن ينزلوهم [!]!! وأبعد من ذلك أنه قال للجارود: لقد هممت أن أقتلك أو أحبسك بالمدينة فلا تخرج منها أبدا أو أمحوك من العطاء فلا تأخذ مع المسلمين عطاء أبدا.

لماذا فعل بهم كل هذا؟! ألأنّهم شهدوا على أحد أقارب زوجته، وهو الذي لم يتزعزع حين شهدوا على ولده وأقام عليه حدّا ثانيا؟ أم لأنّ لعمر ضعفا وأي ضعف أمام زوجته؟ هذه الزّوجة التي لا ترعى حرمة زوجها وتحضر مجلس رجال وتقول لأبي هريرة أمام زوجها المهيب الذي يهابه الولاة وقادة الجيوش: (لعنك الله من شيخ طويل اللّسان ظالم) فتلعن أمام زوجها صحابيّا يتفانى سلفيّة زماننا في الدّفاع عنه! وانظر إلى أبي هريرة يجيبها: (بل لعنك الله من عجوز حمراء رمضاء بذيء لسانها فاحشة في بيتها) فيشهد عليها بالبذاءة والفحش في بيتها، وهو في بيتها! هذا الحوار الساخن المفعم

____________________

(١) أخبار المدينة، ابن شبة النميري، ج ٢ ص ٣٨.

٤٨٦

بـ اللعن والفاحشة والبذيئة اللسان يجري بمحضر عمر بن الخطّاب ولا أثر لهيبته ولا لدرّته!! وفي القصّة تأمّلات وعبر غير ما ذكرنا لمن أراد أن يدّبّر.

٤٨٧

٤٨٨

الفصل التاسع

من أخبار عمر

٤٨٩

٤٩٠

من أخبار عمر

أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عبّاس في قوله:( وَمِمّنْ حَوْلَكُم مِنَ الْأَعْرَابِ ) الآية قال: قام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم جمعة خطيبا فقال: قم يا فلان فاخرج فإنّك منافق، اخرج يا فلان فإنّك منافق، فأخرجهم بأسمائهم ففضحهم، ولم يكن عمر بن الخطّاب يشهد تلك الجمعة لحاجة كانت له، فلقيهم عمر وهم يخرجون من المسجد فاختبأ منهم استحياء أنّه لم يشهد الجمعة، وظنّ النّاس قد انصرفوا واختبأوا هم من عمر وظنّوا أنه قد علم بأمرهم، فدخل عمر المسجد فإذا النّاس لم ينصرفوا فقال له رجل: أبشر يا عمر، فقد فضح الله المنافقين اليوم، فهو العذاب الأوّل والعذاب الثّاني عذاب القبر(١) .

أقول:

في روايات أنّهم كانوا ستّة وثلاثين منافقا، لكنّ كتب الرّجال خالية من أسمائهم، كلّ ما في الأمر فلان وفلان. وقد أورد الطبراني اثني عشر اسما أصحابها لا هم في العير ولا هم في النفير. ولم يذكر المصدر الذي نقل الأسماء منه فزاد القضية غموضا.

وعن السائب بن يزيد الكندي قال: كنت قائما في المسجد فحصبني رجل فنظرت فإذا هو عمر بن الخطّاب فقال: اذهب فائتني بهذين فجئته بهما فقال: من أنتما؟ ومن أين أنتما؟ قالا: من أهل الطّائف قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) .

وسمع عمر صوت رجل في المسجد فقال: أتدري أين أنت(٣) ؟

____________________

(١) صحيح ابن خزيمة ج ٣ ص ٢٠٨، وصحيح ابن حبان ج ٨ ص ٢٣٠، والدر المنثور ج ٤ ص ٢٧٣، وتفسير ابن كثير ج ٤ ص ١٨١، وزاد المسير ج ٦ ص ٤٢٣، وفتح القدير ج ٢ ص ٤٠١، والمعجم الأوسط ج ١ ص ٢٤٢، ومسند أحمد بن حنبل ج ٥ ص ٢٧٣، ومجمع الزوائد ج ١ ص ١١٢، مجمع الزوائد ج ٧ ص ٣٤، وتخريج الأحاديث والآثار ج ٢ ص ٩٧، والمحلى ج ١١ ص ٢٢١، ودلائل النبوة ج ٥ ص ٢٨٣، والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٧.

(٢) صحيح البخاري ج ١ ص ١٧٩ والجمع بين الصحيحين ج ١ ص ١٣٣ وسنن البيهقي الكبرى ج ٢ ص ٤٤٧ ومرقاة المفاتيح ج ٢ ص ٤١٨ وتفسير ابن كثير ج ٣ ص ٢٩٤.

(٣) تفسير ابن كثير ج ٣ ص ٢٩٤ وتفسير القرطبي ج ٢ ص ١١٥.

٤٩١

أقول:

يقول هذا وهو الذي ودّع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برفع الصّوت في وجهه وتهمته أنّه يهجر حتى غضب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطرده ومن كان معه.

وعن يحيى بن سعيد عن عبيد بن حنين أنّه سمع ابن عبّاسرضي‌الله‌عنه قال: قال عمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه : جئت فإذا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مشربة، وإنّه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء، وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف، وإنّ عند رجليه قرظا مصبورا، وعند رأسه أهب معلقة، فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيت فقال: ما يبكيك؟ فقلت: يا رسول الله إنّ كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت رسول الله؟ فقال: أما ترضى أن تكون لهم الدّنيا ولنا الآخرة؟

أقول:

عمر يبكي شفقة على رسول الله! ويهجم في نفس الأسبوع الذي توفي فيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على بيت بضعته عليه السلام باسم الإسلام!

قال المدائني: كتب عمر إلى عدي في كتابه: (إن الله جعل لأهل الخير أعوانا عليه، ولأهل الشرّ أصحابا مزيّنين له، وقد نهيتك عن كاتبك فلم أرك متحاشيا لذلك، ولا زاجرا له عن ظلم الرّعيّة وانتقاص حقوقهم، وإنّك حين تفعل ذلك يا عدي لمغترّ بي، تارك حظّك من الله، فاطرد عنك هذا الشّائن، ولا تشركه في أمانتك، وأخرجه عن المصر، فإنّي لو أشركت أحدا من حزب الشّيطان في أمانتي لاستعنت بابن أبي مسلم، فاكفني نفسك يا عدي، ولا تحملني على مكروهك، إن شاء الله، والسّلام)(١) .

أقول:

من يسمع قول عمر (لو أشركت أحدا من حزب الشّيطان في أمانتي لاستعنت بابن أبي مسلم) يتصوّر أنّ عمر بن الخطّاب لم يشرك في أمانته إلاّ حزب الرّحمن، والحال

____________________

(١) أنساب الأشراف، البلاذري، ج ٨، ص ١٩٣.

٤٩٢

خلاف ذلك تماما، فإنّه قد همّش البدريّين والسابقين إلى الإسلام، وقدّم الطّلقاء الذين حاربوا الإسلام إلى آخر لحظة ممكنة، ولم يدخلوا فيه إلا مكرهين حقنا لدمائهم. ومن الطلقاء يزيد بن أبي سفيان وقد عيّنه أبوبكر وأقرّه عمر. ومنهم معاوية بن أبي سفيان الذي جرى لعنه على لسان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي ما ينطق عن الهوى، ولم يكتف عمر باستعماله بل كان يقول عنه: (هذا كسرى العرب). ومن المستخفّين بالدّين الوليد بن عقبة بن أبي معيط الذي سمّاه القرآن الكريم فاسقا، ومع ذلك استعمله عمر بن الخطاب! ومنهم قنفذ التيمي الذي لطم وجه فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم هجموا على بيتها، وقد استعمله عمر واليا على مكّة، ومات في حياته فصلّى عليه ونزل في قبره.

وروي أن بني عمرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء أتوا عمر بن الخطّاب في خلافته ليأذن لمجمع بن حارثة فيؤمّهم في مسجدهم فقال: لا ولا نعمة عين، أليس بإمام مسجد الضّرار؟ فقال له مجمع: يا أمير المؤمنين: لا تعجل عليّ، فو الله لقد صلّيت فيه وإنّي لا أعلم ما أضمروا عليه، ولو علمت ما صلّيت معهم فيه. كنت غلاما قارئا للقرآن وكانوا شيوخا لا يقرؤون القرآن فصلّيت ولا أحسب إلاّ أنّهم يتقرّبون إلى الله تعالى ولم أعلم ما في أنفسهم؛ فعذره عمر وصدّقه وأمره بالصّلاة في مسجد قباء(١) .

وقال جابر بن عبد الله: رأى عمر بن الخطّاب لحما معلقا في يدي فقال: ما هذا يا جابر؟ قلت: اشتهيت لحما فاشتريته فقال عمر: أو كلما اشتهيت شيئا يا جابر اشتريت؟ أما تخاف هذه الآية:( أَذْهَبْتُمْ طَيّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدّنْيَا ) ؟(٢) .

قال البيهقي: وروينا عن أبي حريز أن رجلا كان يهدي إلى عمر بن الخطاب كلّ سنة فخذ جزور، قال فجاء يخاصم إلى عمر فقال يا أمير المؤمنين اقض بيننا قضاء فصلا كما تفصل الفخذ من الجزور قال فكتب عمر إلى عماله لا تقبلوا الهدايا فإنها رشوة(٣) .

____________________

(١) تفسير البغوي، ج ١ ص ٩٣.

(٢) تفسير البغوي، ج ١ ص ٢٦٠.

(٣) السنن الصغرى للبيهقي، نسخة الأعظمي) ج ٩ ص ٥١ تحت رقم ٤١٨٦ وسنن البيهقي الكبرى، ج ١٠

٤٩٣

ويبدو أن البهقي قد حذف مقطعا من القصة، فقد رواها ابن أبي الدنيا كما يلي: عن أبي جرير الأزدي قال كان رجل لا يزال يهدي لعمر فخذ جزور قال إلى أن جاء إليه ذات يوم بخصم فقال له يا أمير المؤمنين اقض بيننا قضاء فصلا كما تفصل الفخذ من سائر الجذور. قال عمر: فما زال يردّدها عليّ حتى خفت على نفسي، فقضى عليه عمر ثمّ كتب إلى عماله: أما بعد، فإيّاكم والهدايا فإنها من الرشا(١) .

ومن حقّ الرجل أن يرددها لأنه أهدى مرّات ومرّات، فالرواية تقول: (لا يزال يهدي).

وعن أنس انّ عمر بن الخطابرضي‌الله‌عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعبّاس بن عبد المطّلب فقال: (اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل غليك بعم نبينا فاسقنا)، قال: فيسقون(٢) .

أقول:

إذا كان ثالث ثلاثة، وأفضل الخلق بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر، فلماذا لا يستسقي بنفسه، فإنّ الاستسقاء بالمفضول مع وجود الفاضل قبيح في نظر العقلاء؟!. وإذا كان العبّاس - على جلالة قدره - أفضل من علي بن أبي طالب عليه السلام فلم لم يباهل به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم وفد نجران؟! نعم، كان عمر بن الخطاب يعلم أنّ القرشيين - إلاّ من رحم ربّك - يبغضون عليّا عليه السلام، ولو استسقى به لدحضت حجّتهم وافتضحت خباياهم وظهر فضله ومقامه لمن كان يجهله، وقريش إنّما كانت تجتهد في صرف الأمر عن أهل البيت عليهم السلام بكل الوسائل.

وعن ابن شهاب قال حدثني سعيد بن المسيب قال: لمّا توفّي أبوبكر رحمه الله أقامت عليه عائشة النّوح(٣) ، فأقبل عمر بن الخطّاب حتى قام ببابها فنهاهن عن البكاء

____________________

ص ١٣٨ والإشراف في منازل الأشراف، ج ١ ص ٢٩٥ وكنز العمال، ج ٥ ص ٣٢٧.

(١) الإشراف في منازل الأشراف ج ١ ص ٢٥١.

(٢) صحيح البخاري، ج ١ ص ٣٤٢ الحديث رقم ٩٦٤.

(٣) وهذا يعني أن عائشة زوج النبيص) وهي التي يؤخذ عنها نصف الدين كانت ترى جواز النوح على الميت.

٤٩٤

على أبى بكر، فأبين أن ينتهين، فقال عمر لهشام بن الوليد: (ادخل فأخرج إليّ ابنة أبي قحافة أخت أبي بكر) فقالت عائشة: لهشام حين سمعت ذلك من عمر إني أحرّج عليك بيتي فقال عمر لهشان ادخل فقد أذنت لك فدخل هشام فأخرج أم فروة أخت أبي بكر إلى عمر فعلاها الدّرّة فضربها ضربات فتفرّق النّوح حين سمعوا ذلك(١) .

يبدو أن الخليفة مولع بالهجوم على أهل الحداد الذين فقدوا أعزاءهم وتيقّنوا أنهم لن يروهم قبل يوم القيامة إلاّ في عالم الرؤيا؛ فكما هجم على بيت فاطمة عليها السلام، هجم على بيت عائشة زوج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي هي في نفس الوقت بمنزلة أمّه، باعتبارها إحدى أمّهات المؤمنين، وزوجة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وابنة صديقه وحليفه الأوّل، فلم يرع لا هذه ولا تلك ولا الأخرى، وهجم على بيت عائشة الذي هو أحد بيوت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا إشكال. فإذا كان القرءان الكريم قد نهى عن دخول بيوت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من دون إذن منه فكيف بالهجوم عليه؟ ثم هو يقول للرّجل: ادخل فقد أذنت لك، فمتى أعطاه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكالة كي يأذن بذلك. هذه المسألة محلّ تأمل.

وقال الطبري في تاريخه: قال عليّ بن محمد عن الذين سميت قال بعضهم: جعل أبوبكر عمر قاضيا في خلافته فمكث سنة لم يخاصم إليه أحد قال وقالوا: كان يكتب له زيد بن ثابت(٢) .

أقول:

إمّا وإمّا؛ إما أنّ الناس عاشوا ملائكة على الأرض يمشون سنة كاملة، ثمّ عادت إليهم الشّيطنة أو عادوا إليها..

وإمّا أن النّاس يئسوا من حقوقهم بعد أن رأوا حكم الرّجلين بخصوص فاطمة وعليّ عليه السلام، فإنّ الذي يكذّب مطهّرين بنصّ الكتاب ويردّ شهادتهما قد ردّ شهادة الحقّ لهما بالطّهارة. وبعد كلّ ذلك، في تولية القضاء من لا يعرف الكلالة وكثيرا من

____________________

(١) تاريخ الطبري، ج ٢ ص ٦١٤.

(٢) تاريخ الطبري، ج ٢ ص ٦١٧.

٤٩٥

شبيهاتها نظر، اللّهمّ إلاّ أن يكون منصب القضاء لا علاقة له بالعلم والاجتهاد!

وعن المسور بن مخرمة عن عبد الرحمنبن عوف أنّه حرس ليلة مع عمر بن الخطّاب بالمدينة فبينما هم يمشون شب لهم سراج في بيت فانطلقوا يؤمونه حتى إذا دنوا منه إذا باب مجاف على قوم لهم فيه أصوات مرتفعة، فقال عمر وأخذ بيد عبد الرحمن: أتدري بيت من هذا؟ قال: لا. قال: هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف، وهم الآن شرب فما ترى؟ فقال عبد الرحمن: أرى قد أتينا ما نهى الله عنه نهانا الله عزوجل فقال (ولا تجسسوا) فقد تجسنا، فانصرف عمر عنهم وتركهم. هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه(١) .

عن حرام بن هشام عن أبيه قال: رأيت عمر بن الخطّاب عام الرّمادة مرّ على امرأة وهي تعصد عصيدة لها فقال: ليس هكذا تعصدين ثمّ أخذ المسوط فقال: هكذا، فأراها(٢) .

أقول:

ليس من عادة الرّجال في ثقافة العرب الدّخول في تفاصيل شؤون النّساء. وهذا الذي قام به عمر بن الخطّاب يذكّر ببرنامج إذاعيّ كان يبثّ على الإذاعة التّونسية أيّام الرئيس بورقيبة تحت عنوان (من توجيهات الرئيس)، كان الرئيس التّونسي (المجاهد الأكبر) يومها يتوجّه إلى المواطنين التّونسيين بنصائح وإرشادات تساعدهم في حياتهم اليوميّة - على زعمه - وكأنّه لم يكن في تونس يومها عقل سوى عقل المجاهد الأكبر.

عن محمد بن عمر المخزومي عن أبيه قال: نادى عمر بن الخطّاب: الصلاة جامعة! فلما اجتمع النّاس وكثروا صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله وصلّى على نبيّه ثمّ قال: أيّها الناس! لقد رأيتني أرعى على خالات لي من بني مخزوم فيقبضن لي القبضة من التّمر أو الزّبيب فأظلّ يومي وأيّ يوم؟ ثمّ نزل فقال له عبدالرحمن بن

____________________

(١) في المستدرك على الصحيحين، الحاكم، ج ٤ ص ٤١٩ تحت رقم ٨١٣٦.

(٢) الطبقات الكبرى، محمد بن سعد، ج ٣ ص ٣١٤ كنز العمال ج ١٢ ص ٢٩١..

٤٩٦

عوف: ما زدت على أن قمّأت نفسك، يعني عبت، قال: ويحك يا ابن عوف! إنّي خلوت فحدّثتني نفسي فقالت: أنت أمير المؤمنين فمن ذا أفضل منك؟ فأردت أن أعرفها نفسها(١) .

أقول:

ملك ذو القرنين أرضا واسعة بين المشرق والمغرب ولم يقم بالحركة التي قام بها عمر؛ ويقول عمر: (خلوت فحدّثتني نفسي..) فلماذا لم يحدّثها خاليا كما حدّثته خاليا؟ ومادام الحديث بينه وبين نفسه فلماذا أقحم فيه الناس؟! أين هو عن المناجاة كأن يقول: (وأنا عبدك الذليل الحقير المسكين المستكين)؟! وهذا أقرب مقرّبيه وأمين سرّه عبدالرحمن بن عوف استهجن الحركة وعدّها إذلالا للنّفس في ما لا طائل تحته. وأمّا قوله (فأردت أن أعرّفها نفسها) فقد عرفت نفسه نفسها يوم أحد حين كان يصعد الجبل كالأروى لا يلوي على شيء فرارا من الشّهادة، ويوم خيبر إذ فرّ لمجرّد رؤية مرحب اليهوديّ ورجع بأصحابه يجبّنهم ويجبّنونه، ويوم الأحزاب إذ كان يرتجف بينما كان عمرو بن عبد ودّ يتحدّاه ويتحدّى بقيّة مشايخ قريش الذين تأخرت شجاعتهم إلى يوم السّقيفة، يوم هجموا على أشرف بيت!

وفي مصنف ابن أبي شيبة: عن عبد الله بن عمر أنّ عاتكة بنت زيد امرأة عمر بن الخطّاب قبّلته وهو صائم فلم ينهها(٢) .

قال السيوطي: وأخرج مالك عن عبد الله بن دينار قال خرج عمر بن الخطّاب من الليل يسمع امرأة تقول: تطاول هذا الليل واسود جانبه وأرقني أن لا خليل ألاعبه * فو الله لو لا الله أني أراقبه * لحرّك من هذا السّرير جوانبه * فسأل عمر ابنته حفصة كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها؟ فقالت: ستّة أشهر أو أربعة أشهر. فقال عمر: لا أحبس أحدا من الجيوش أكثر من ذلك(٣) .

____________________

(١) كنز العمال، المتقي الهندي، ج ١٢ ص ٢٩١.

(٢) مصنف ابن أبي شيبة ج ٢ ص ٣١٥ الحديث رقم ٩٤٠٨.

(٣) الدر المنثور، ج ١ ص ٦٥٢.

٤٩٧

أقول:

يسأل ابنته هذا السؤال مع إمكان سؤال غيرها، وله أكثر من زوجة وجارية، وفيه من ترك الحشمة ما فيه بين الأب وابنته! لم لم يسأل إحدى أزواجه؟! لأنّ الذين رووا هذا الخبر أرادوا أن يجعلوا من ذلك إنجازا لآل الخطّاب، فحصروا القضيّة بين عمر وابنته، وغفلوا عمّا في ذلك من ترك الحياء والحشمة.

قالوا: أتت امرأة إلى عمر بن الخطّاب فقالت: يا أمير المؤمنين، إنّ زوجي يصوم النّهار، ويقوم اللّيل، وأنا أكره أن أشكوه إليك وهو يقوم بطاعة الله! فقال لها: جزاك الله خيرا من مثنية على زوجها، فجعلت تكرّر عليه القول وهو يكرّر عليها الجواب، وكان كعب بن سوار الأسدي حاضرا فقال له: اقض يا أميرالمؤمنين بينها وبين زوجها. فقال: وهل فيما ذكرت قضاء؟ فقال: إنّها تشكو مباعدة زوجها لها عن فراشها، وتطلب حقها في ذلك فقال له عمر: أما لأن فهمت ذلك فأقض بينهما(١) .

أقول:

هذا الذي ظنّه أفضل من يقين غيره، ويوافقه ربّه فينزل القرآن منسجما مع خطرات نفسه، لم يفهم كلام المرأة لأنّها ألبسته الحشمة والحياء، على خلاف طريقته هو الذي جبه ابنته بذاك السؤال. أين ذهب التّحديث والملائكة والموافقة السّماوية؟!

وأخرج البيهقي في سننه عن عمر بن الخطّاب قال والله إني لأكره نفسي على الجماع رجاء أن يخرج الله مني نسمة تسبّح(٢) .

وأخرج عبد الرزاق في المصنف عن زيد بن أسلم قال: بلغني أنّه جاءت امرأة إلى عمر بن الخطّاب فقالت إن زوجها لا يصيبها فأرسل إليه فقال كبرت وذهبت قوتي فقال له عمر: أتصيبها في كل شهر مرّة؟ قال: اكثر من ذلك! قال عمر: في كم تصيبها؟

____________________

(١) تفسير القرطبي ج ٥ ص ١٩ والدر المنثور ج ١ ص ٦٥٣ وعمدة القاري ج ٢٠ ص ١٨٨ والمنتظم ج ٥ ص ١١٥ والمبسوط للسرخسي ج ٥ ص ٢٢٠ وبغية الطلب في تاريخ حلب ج ٥ ص ٢٤٤٥ وصفة الصفوة ج ١ ص ٤٥٢ والأذكياء ج ١ ص ٢٠٨.

(٢) سنن البيهقي الكبرى ج ٧ ص ٧٩ وكنز العمال ج ١٦ ص ٢٠٣ والإفصاح ج ١ ص ٥٧.

٤٩٨

قال: في كل طهر مرّة. فقال عمر: اذهبي فإنّ فيه ما يكفي المرأة(١) .

أقول:

هذا رأي عمر، وهو بهذا يجهل أو يتجاهل التّفاوت بين النّاس رجالا ونساء في هذه المسألة، والحال أنّ المرأة إذا لم يكفها زوجها ويحصنها فتح لها الشّيطان أبوابا يصعب سدّها. وإذا كان عمر بن الخطاب خبيرا في هذا الميدان بحيث يعلم أنّ في ذاك القدر ما يكفي المرأة كما يقول، فلماذا سأل ابنته كم تصبر المرأة عن زوجها وهو الخبير؟

وأخرج عبد الرزاق في المصنف عن عبيد بن عمير قال: ائتمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه كيف يجعلون شيئا إذا أرادوا جمع الصّلاة اجتمعوا لها به، فائتمروا بالنّاقوس؛ فبينا عمر بن الخطّاب يريد أن يشتري خشبتين للنّاقوس إذ رأى في المنام أن لا تجعلوا النّاقوس بل أذنوا بالصّلاة فذهب عمر إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليخبره بالذي رأى وقد جاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الوحي بذلك فما راع عمر إلا بلال يؤذن فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد سبقك بذلك الوحي حين أخبره بذلك عمر(٢) .

أقول:

هما وحيان، وحي إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووحي إلى عمر! لكنّ الرواية تذكر أنّ عمر رأى في المنام أن (لا تجعلوا النّاقوس بل أذّنوا بالصّلاة) ولا تذكر ألفاظ الأذان، وهذا محلّ تأمّل.

أخرج أحمد والبخاريّ والترمذي والنسائي وابن حبان وابن مردويه عن عمر بن الخطّاب قال: كنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سفر فسألته عن شيء ثلاث مرّات فلم يردّ عليّ، فحرّكت بعيري ثمّ تقدّمت أمام النّاس، وخشيت أن ينزل فيّ القرآن [!] فما نشبت

____________________

(١) مصنف عبد الرزاق ج ٦ ص ٢٥٧ والدر المنثور ج ١ ص ٦٥٥.

(٢) مصنف عبد الرزاق ج ١ ص ٤٥٦ الدر المنثور ج ٣ ص ١٠٨ وفتح الباري ج ٢ ص ٨٢ وعمدة القاري ج ٥ ص ١٠٧ وص ١٠٩ وتنوير الحوالك ج ١ ص ٦٦ وشرح الزرقاني ج ١ ص ١٩٨ وشرح سنن ابن ماجه ج ١ ص ٥١ وعون المعبود ج ٢ ص ١١٩ والمراسيل لابي داود ج ١ ص ٨١ وإعانة الطالبين ج ١ ص ٢٢٩ والسيرة النبوية ج ٣ ص ٤٢ والبداية والنهاية ج ٣ ص ٢٣٣.

٤٩٩

إذ سمعت صارخا يصرخ بي فوجفت وأنا أظن أنّه نزل فيّ شيء، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لقد أنزلت علي اللّيلة سورة أحبّ إليّ من الدّنيا وما فيها، إنّا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر(١) .

أقول:

لماذا يخاف أن ينزل فيه قرآن وهو صاحب الموافقات يحدّثه الحقّ تعالى في كلّ شيء، والمبشّر بالجنة في درجة النبيين والصّدّيقين والشهداء والصالحين؟!

قال الآلوسي: أخرج الخرائطيّ في مكارم الأخلاق عن ثور الكندي أن عمررضي‌الله‌عنه كان يعسّ بالمدينة فسمع صوت رجل في بيت يتغنّى، فتسوّر عليه(٢) فوجد عنده امرأة وعنده خمر فقال: يا عدوّ الل أظننت أنّ الله تعالى يسترك وأنت على معصية؟ فقال: وأنت يا أميرالمؤمنين لا تعجل عليّ، إن كنت عصيت الله تعالى واحدة فقد عصيت الله تعالى في ثلاث قال سبحانه: ولا تجسّسوا وقد تجسّست. وقال الله تعالى: (وأتوا البيوت من أبوابها) وقد تسوّرت وقال جل شأنه:( لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتّى‏ تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلّمُوا عَلَى‏ أَهْلِهَا ) ودخلت عليّ بغير إذن. قال عمررضي‌الله‌عنه : فهل عندكم من خير إن عفوت عنك؟ قال: نعم؛ فعفا عنه وخرج وتركه(٣) .

أقول:

(تسوّر عليه) معناه في اللّغة تسلّق السّور، ولك أن تتخيّل مشهد خليفة المسلمين يتسلّق السّور وقد تجاوز الخمسين من عمره! فإن كانت هذه أوّل مرّة يتسلّق فيها الأسوار فإنّه عمل عجيب وبئس العمل هو في آخر مراحل عمره! وإن كان قد تسلّق

____________________

(١) صحيح البخاري، ج ٤ ص ١٥٣١ وج ٤ ص ١٨٢٩ وج ٤ ص ١٩١٥ سنن النسائي الكبرى ج ٦ ص ٤٦١ ومسند أحمد بن حنبل ج ١ ص ٣١ وكنز العمال ج ٢ ص ١٣٤ والجمع بين الصحيحين، ج ١ ص ١٣٥ وموطأ مالك ج ١ ص ٢٠٣ وشرح الزرقاني ج ٢ ص ٢٣ والاستذكار، ج ٢ ص ٤٩٥ وشعب الإيمان، ج ٢ ص ٤٨٧ ودلائل النبوة ج ٤ ص ١٥٤ وتاريخ الإسلام ج ٢ ص ٣٩٥.

(٢) هل يقبل الإعلام الرسمي اليوم تصوير أحد الملوك أو الرؤساء العرب وهو يتسلّق سور بيت على أهله؟ طبعا لا؛ بل يرون في ذلك مساسا بالذات الملكية أو الأميرية أو الرئاسية! لكن حينما يكون المتسوّر المتسلّق هو عمر بن الخطاب، ينقلب ذلك المساس فجأة إلى فضيلة لا يلقّاها إلاّ ذو حظّ عظيم!

(٣) روح المعاني، ج ٢٦ ص ١٥٧.

٥٠٠

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564