ولاية أهل البيت عليهم السلام في القرآن والسنّة

ولاية أهل البيت عليهم السلام في القرآن والسنّة15%

ولاية أهل البيت عليهم السلام في القرآن والسنّة مؤلف:
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 383

ولاية أهل البيت عليهم السلام في القرآن والسنّة
  • البداية
  • السابق
  • 383 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 74546 / تحميل: 5864
الحجم الحجم الحجم
ولاية أهل البيت عليهم السلام في القرآن والسنّة

ولاية أهل البيت عليهم السلام في القرآن والسنّة

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

الصفتين هو ذلك الاستعداد الذاتي وما هو موجود فيهم «بالقوّة». أي أنّ الإنذار يؤثّر فقط في أولئك الذين لهم أسماع واعية وقلوب مهيّأة ، فالإنذار يترك فيهم أثرين : الأوّل إتّباع الذكر والقرآن الكريم ، والآخر الإحساس بالخوف بين يدي الله والمسؤولية.

وبتعبير آخر فإنّ هاتين الحالتين موجودتان فيهم بالقوّة ، وإنّها تظهر فيهم بالفعل بعد الإنذار ، وذلك على خلاف الكفّار عمى القلوب الغافلين الذين لا يملكون اذنا صاغية وليسوا أهلا للخشية من الله أبدا.

هذه الآية كالآية من سورة البقرة حيث يقول تعالى :( ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) .

٢ ـ باعتقاد الكثير من المفسّرين أنّ المقصود من «الذكر» هو «القرآن المجيد».

لأنّ هذه الكلمة جاءت بهذه الصورة مرارا في القرآن الكريم لتعبّر عن هذا المعنى(١) ، ولكن لا مانع من أن يكون المقصود من هذه الكلمة أيضا المعنى اللغوي لها بمعنى مطلق التذكير ، بحيث يشمل كلّ الآيات القرآنية وسائر الإنذارات الصادرة عن الأنبياء والقادة الإلهيين.

٣ ـ «الخشية» كما قلنا سابقا ، بمعنى الخوف الممزوج بالإحساس بعظمة الله تعالى ، والتعبير بـ «الرحمن» هنا والذي يشير إلى مظهر رحمة الله العامّة يثير معنى جميلا ، وهو أنّه في عين الوقت الذي يستشعر فيه الخوف من عظمة الله ، يجب أن يكون هنالك أمل برحمته ، لموازنة كفّتي الخوف والرجاء ، اللذين هما عاملا الحركة التكاملة المستمرة.

الملفت للنظر أنّه ذكرت كلمة «الله» في بعض من الآيات القرآنية في مورد

__________________

(١) انظر النحل : ٤٤ وفصّلت : ٤١ ، والزخرف : ٤٤ والقمر : ٢٥ ، وفي نفس الوقت فإنّ لفظة «ذكر» تكرّرت في القرآن كثيرا بمعنى «التذكير المطلق».

١٤١

«الرجاء» والتي تمثّل مظهر الهيبة والعظمة( لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ) (١) إشارة إلى أنّه يجب أن يكون الرجاء ممزوجا بالخوف ، والخوف ممزوجا بالرجاء على حد سواء (تأمّل!!).

٤ ـ التعبير بـ «الغيب» هنا إشارة إلى معرفة الله عن طريق الاستدلال والبرهان ، إذ أنّ ذات الله سبحانه وتعالى غيب بالنسبة إلى حواس الإنسان ، ويمكن فقط مشاهدة جماله وجلاله سبحانه ببصيرة القلب ومن خلال آثاره تعالى.

كذلك يحتمل أيضا أنّ «الغيب» هنا بمعنى «الغياب عن عيون الناس» بمعنى أنّ مقام الخشية والخوف يجب أن لا يتّخذ طابعا ريائيا ، بل إنّ الخشية والخوف يجب أن تكون في السرّ والخفية.

بعضهم فسّر «الغيب» أيضا بـ «القيامة» لأنّها من المصاديق الواضحة للأمور المغيبة عن حسّنا ، ولكن يبدو أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب.

٥ ـ جملة «فبشّره» في الحقيقة تكميل للإنذار ، إذ أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في البدء ينذر ، وحين يتحقّق للإنسان اتّباع الذكر والخشية وتظهر آثارها على قوله وفعله ، هنا يبشّره الباريعزوجل .

بماذا يبشّر؟ أوّلا يبشّره بشيء قد شغل فكره أكثر من أي موضوع آخر ، وهو تلك الزلّات التي ارتكبها ، يبشّره بأنّ الله العظيم سيغفر له تلك الزلّات جميعها ، ويبشّره بعدئذ بأجر كريم وثواب جزيل لا يعلم مقداره ونوعه إلّا الله سبحانه.

الملفت للنظر هو تنكير «المغفرة» و «الأجر الكريم» ونعلم بأنّ استخدام النكرة في مثل هذه المواضع إنّما هو للتدليل على الوفرة والعظم.

٦ ـ يرى بعض المفسّرين أنّ (الفاء) في جملة «فبشّره» للتفريع والتفضيل ، إشارة إلى أنّ (اتّباع التذكر والخشية) نتيجتها «المغفرة» و «الأجر الكريم» بحيث أنّ الاولى وهي المغفرة تترتّب على الأوّل ، والثانية على الثاني.

__________________

(١) الأحزاب ، ٢١.

١٤٢

بعد ذلك وبما يتناسب مع البحث الذي كان في الآية السابقة حول الأجر والثواب العظيم للمؤمنين والمصدّقين بالإنذارات الإلهية التي جاء بها الأنبياء ، تنتقل الآية التالية إلى الإشارة إلى مسألة المعاد والبعث والكتاب والحساب والمجازاة ، تقول الآية الكريمة :( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى ) .

الاستناد إلى لفظة «نحن» إشارة إلى القدرة العظيمة التي تعرفونها فينا! وكذلك قطع الطريق أمام البحث والتساؤل في كيف يحيي العظام وهي رميم ، ويبعث الروح في الأبدان من جديد؟ وليس نحيي الموتى فقط ، بل( وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ ) وعليه فإنّ صحيفة الأعمال لن تغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا وتحفظها إلى يوم الحساب.

جملة «ما قدّموا» إشارة إلى الأعمال التي قاموا بها ولم يبق لها أثر ، أمّا التعبير «وآثارهم» فإشارة إلى الأعمال التي تبقى بعد الإنسان وتنعكس آثارها على المحيط الخارجي ، من أمثال الصدقات الجارية (المباني والأوقاف والمراكز التي تبقى بعد الإنسان وينتفع منها الناس).

كذلك يحتمل أيضا أن يكون المعنى هو أنّ «ما قدّموا» إشارة إلى الأعمال ذات الجنبة الشخصية ، و «آثارهم» إشارة إلى الأعمال التي تصبح سننا وتوجب الخير والبركات بعد موت الإنسان ، أو تؤدّي إلى الشرّ والمعاصي والذنوب. ومفهوم الآية واسع يمكن أن يشمل التّفسيرين.

ثمّ تضيف الآية لزيادة التأكيد( وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ ) .

أغلب المفسّرين اعتبروا أنّ معنى «إمام مبين» هنا هو «اللوح المحفوظ» ذلك الكتاب الذي أثبتت فيه وحفظت كلّ الأعمال والموجودات والحوادث التي في هذا العالم.

والتعبير بـ «إمام» ربّما كان بلحاظ أنّ هذا الكتاب يكون في يوم القيامة قائدا وإماما لجميع المأمورين بتحقيق الثواب والعقاب ، أو لكونه معيارا لتقييم الأعمال

١٤٣

الإنسانية ومقدار ثوابها وعقوبتها.

الجدير بالملاحظة أنّ تعبير (إمام) ورد في بعض آيات القرآن الكريم للتعبير عن «التوراة» حيث يقول سبحانه وتعالى :( أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً ) .

وإطلاق كلمة «إمام» في هذه الآية على «التوراة» يشير إلى المعارف والأحكام والأوامر الواردة في التوراة ، وكذلك للدلائل والإشارات المذكورة بحقّ نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ففي كلّ هذه الأمور يمكن للتوراة أن تكون قائدا وإماما للخلق ، وبناء على ذلك فإنّ الكلمة المزبورة لها معنى متناسب مع مفهومها الأصلي في كلّ مورد استعمال.

* * *

مسألتان

١ ـ أنواع الكتب التي تثبت بها أعمال الناس

يستفاد من الآيات القرآنية الكريمة أنّ أعمال الإنسان تدون وتضبط في أكثر من كتاب ، حتّى لا يبقى له حجّة أو غدر يوم الحساب.

أوّلها : «صحيفة الأعمال الشخصية» التي تحصى جميع أعمال الفرد على مدى عمره( اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ) (١) .

هناك حيث تتعالى صرخات المجرمين( يَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها ) .(٢) وهو الكتاب الذي يأخذه المحسنون في أيمانهم والمسيئون في شمائلهم ـ الحاقّة ١٩ و ٢٥.

ثانيا : «صحيفة أعمال الامّة» والتي تبيّن الخطوط الاجتماعية لحياتها ، كما

__________________

(١) الإسراء ، ١٤.

(٢) الكهف ، ٤٩.

١٤٤

يقول القرآن الكريم :( كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا ) .(١)

وثالثها : «اللوح المحفوظ» وهو الكتاب الجامع ، ليس لأعمال جميع البشر من الأوّلين والآخرين فقط ، بل لجميع الحوادث العالمية ، وشاهد آخر على أعمال بني آدم في ذلك المشهد العظيم ، وفي الحقيقة فهو إمام لملائكة الحساب وملائكة الثواب والعقاب.

٢ ـ كلّ شيء أحصيناه

ورد في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نزل بأرض قرعاء ، فقال لأصحابه : «ائتوا بحطب ، فقالوا : يا رسول الله ، نحن بأرض قرعاء! قال : فليأت كلّ إنسان بما قدر عليه. فجاءوا به حتّى رموا بين يديه ، بعضه على بعض ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . هكذا تجمع الذنوب ، ثمّ قال : إيّاكم والمحقّرات من الذنوب ، فإنّ لكلّ شيء ، طالبا ، ألا وإنّ طالبها يكتب ما قدّموا وآثارهم وكلّ شيء أحصيناه في إمام مبين»(٢) .

هذا الحديث المؤثّر ، صورة معبّرة عن أنّ تراكم صغائر الذنوب والمعاصي يمكنه أن يولد نارا عظيمة اللهب.

في حديث آخر ورد أنّ «بني سلمة» كانوا في ناحية المدينة ، فأرادوا النقلة إلى قرب المسجد ، فنزلت هذه الآية( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ ) فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ آثاركم تكتب» ـ أي خطواتكم التي تخطونها إلى المسجد ، وسوف تثابون عليها ـ فلم ينتقلوا(٣) .

__________________

(١) الجاثية ، ٢٨.

(٢) نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ٣٧٨ ، ح ٢٥.

(٣) تفسير القرطبي ، ج ١٥ ، ص ١٢ ، نقل هذا الحديث عن أبي سعيد الخدري ، كما في صحيح الترمذي وجاء مثله في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري أيضا ، وقد ذكره مفسّرون آخرون كالآلوسي والفخر الرازي والطبرسي والعلّامة الطباطبائي ـ أيضا ـ بتفاوت يسير.

١٤٥

اتّضح إذا أنّ مفهوم الآية واسع وشامل ، وله في كلّ من تلك الأمور التي ذكرناها مصداق.

وقد يبدو عدم انسجام ما ذكرنا مع ما ورد من «أهل البيت»عليهم‌السلام حول تفسير «إمام مبين» بأمير المؤمنين علي عليه أفضل الصلاة والسلام. كما ورد عن الإمام الباقرعليه‌السلام عن آبائهعليهم‌السلام : «لمّا أنزلت هذه الآية على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ ) قام أبو بكر وعمر من مجلسهما فقالا : يا رسول الله ، هو التوراة؟ قال : لا ، قالا : فهو الإنجيل؟ قال : لا ، قالا : فهو القرآن؟ قال : لا ، قال : فأقبل أمير المؤمنين عليعليه‌السلام فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هو هذا ، إنّه الإمام الذي أحصى الله تبارك وتعالى فيه علم كلّ شيء»(١) .

وفي تفسير علي بن إبراهيم عن ابن عبّاس عن أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام أنّه قال : «أنا والله الإمام المبين ، أبيّن الحقّ من الباطل ، ورثته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم »(٢) .

فمع أنّ بعض المفسّرين من أمثال «الآلوسي» ، قد إستاء كثيرا من عملية نقل أمثال هذه الروايات من طرق الشيعة ، ونسبهم لذلك إلى عدم المعرفة والاطلاع وعدم التمكّن من التّفسير ، إلّا أنّه بقليل من الدقّة يتّضح أنّ أمثال هذه الروايات لا تتنافى مع تفسير «الإمام المبين» بـ «اللوح المحفوظ». بلحاظ أنّ قلب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمقام الأوّل ، ثمّ يليه قلب وليّه ، ويعتبران مرآة تعكس ما في اللوح المحفوظ ، وإنّ الله سبحانه وتعالى يلهمهم القسم الأعظم ممّا هو موجود في اللوح المحفوظ ، وبذا يصبحان نموذجا من اللوح المحفوظ ، وعليه فإنّ إطلاق «الإمام المبين» عليهما ليس بالأمر العجيب ، لأنّهما فرع لذلك الأصل ، ناهيك عن أنّ وجود الإنسان الكامل ـ كما نعلم ـ يعتبر عالما صغيرا ينطوي على خلاصة العالم

__________________

(١) معاني الأخبار للصدوق ، باب معنى الإمام ، صفحة ٩٥.

(٢) نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ٣٧٩.

١٤٦

الكبير ، وطبقا للشعر المنسوب إلى أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام.

أتزعم أنّك جرم صغير؟

وفيك انطوى العالم الأكبر

والعجيب أنّ «الآلوسي» لا يستبعد هذا التّفسير مع إنكاره للرّوايات السالفة الذكر ، وعلى كلّ حال فليس من شكّ في كون المقصود من «الإمام المبين» هو «اللوح المحفوظ» فإنّ الروايات السالفة الذكر يمكن تطبيقها عليه «دقّق النظر!!».

* * *

١٤٧

الآيات

( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩) )

التّفسير

واضرب لهم مثلا أصحاب القرية :

لمتابعة البحوث الماضية في الآيات السابقة حول القرآن ونبوّة الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمؤمنين الصادقين ، والكفّار المعاندين ، تطرح هذه الآيات نموذجا من موقف الأمم السابقة بهذا الصدد ، إنّ هذه الآيات وبعضا من الآيات التالية لها ،

١٤٨

والتي تشكّل بمجموعها ثماني عشرة آية ، تتحدّث حول تأريخ عدد من الأنبياء السابقين الذين بعثوا لهداية المشركين عبّاد الأوثان الذين سمّاهم القرآن الكريم( أَصْحابَ الْقَرْيَةِ ) وكيف أنّهم نهضوا لمخالفة أولئك الأنبياء ، وتكذيبهم ، وكانت خاتمتهم أن أخذهم العذاب الأليم ، لتكون تنبيها لمشركي مكّة من جهة ، وتسلية للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفئة المؤمنين القليلة به في ذلك اليوم. على كلّ حال فإنّ التأكيد على إيراد هذه القصّة في قلب هذه السورة التي تعتبر هي بدورها قلب القرآن الكريم ، بسبب تشابه ظروف تلك القصّة مع ظروف المسلمين في ذلك اليوم.

أوّلا تقول الآيات الكريمة :( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ) (١) .

«القرية» في الأصل اسم للموضع الذي يجتمع فيه الناس ، وتطلق أحيانا على نفس الناس أيضا ، لذا فمفهومها يتّسع حتّى يشمل المدن والنواحي ، وأطلقت في لغة العرب وفي القرآن المجيد مرارا على المدن المهمّة مثل «مصر» و «مكّة» وأمثالهما.

لكن ما اسم هذه القرية أو المدينة التي ذكرت في هذه الآية؟

المشهور بين المفسّرين أنّها «أنطاكية» إحدى مدن بلاد الشام. وهي إحدى المدن الرومية المشهورة قديما ، كما أنّها ضمن منطقة نفوذ تركيا جغرافيا في الحال الحاضر ، وسنتعرض إلى تفصيل الحديث عنها في البحوث الآتية إن شاء الله ، وعلى كلّ حال فإنّه يظهر جيدا من آيات هذه السورة الكريمة أنّ أهل تلك المدينة كانوا يعبدون الأصنام ، وأنّ هؤلاء الرسل جاؤوا يدعونهم إلى التوحيد ونبذ الشرك.

__________________

(١) يعتقد البعض بأنّ «أصحاب القرية» مفعول أو للفعل «اضرب» و «مثلا» مفعول ثان مقدّم ، والبعض يقول : إنّها بدل عن «مثلا» ، ولكن الظاهر رجاحة الاحتمال الأوّل.

١٤٩

بعد ذلك العرض الإجمالي العام ، تنتقل الآيات إلى تفصيل الأحداث التي جرت فتقول :( إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ) (١) .

أمّا من هم هؤلاء الرسل؟ هناك أخذ وردّ بين المفسّرين ، بعضهم قال : إنّ أسماء الإثنين «شمعون» و «يوحنا» والثالث «بولس» ، وبعضهم ذكر أسماء اخرى لهم.

وكذلك هناك أخذ ورد في أنّهم رسل الله تعالى ، أم أنّهم رسل المسيحعليه‌السلام (ولا منافاة مع قوله تعالى :( إِذْ أَرْسَلْنا ) إذ أنّ رسل المسيح رسله تعالى أيضا) ، مع أنّ ظاهر الآيات أعلاه ينسجم معه التّفسير الأوّل ، وإن كان لا فرق بالنسبة إلى النتيجة التي يريد أن يخلص إليها القرآن الكريم.

الآن لننظر ماذا كان ردّ فعل هؤلاء القوم الضالّين قبال دعوة الرسل ، القرآن الكريم يقول : إنّهم تعلّلوا بنفس الأعذار الواهية التي يتذرّع بها الكثير من الكفّار دائما في مواجهة الأنبياء( قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ ) .

فإذا كان مقرّرا أن يأتي رسول من قبل الله سبحانه ، فيجب أن يكون ملكا مقرّبا وليس إنسانا مثلنا. هذه هي الذريعة التي تذرّعوا بها لتكذيب الرسل وإنكار نزول التشريعات الإلهية ، والمحتمل أنّهم يعلمون بأنّ جميع الأنبياء على مدى التاريخ كانوا من نسل آدم ، من جملتهم إبراهيم الخليلعليه‌السلام ، الذي عرف برسالته ، ومن المسلّم أنّه كان إنسانا ، وناهيك عن أنّه هل يمكن لغير الإنسان أن يدرك حاجات الإنسان ومشكلاته وآلامه؟

وثمّ لماذا أكّدت الآية أيضا على صفة «الرحمانية» لله؟ لعلّ ذلك لأنّ الله سبحانه وتعالى ضمن نقله هذه الصفة في كلامهم يشعر بأنّ الجواب كامن في كلامهم ، إذ أنّ

__________________

(١) بعض المفسّرين قالوا بأنّ كلمة «إذ» هنا بدل عن «أصحاب القرية» ، وذهب آخرون بأنّها متعلّق لفعل محذوف تقديره «اذكر».

١٥٠

الله الذي شملت رحمته العالم بأسره لا بدّ أن يبعث الأنبياء والرسل لتربية النفوس والدعوة إلى الرشد والتكامل البشري.

كذلك يحتمل أيضا أن يكونوا قد أكّدوا على وصف الرحمانية لله ليقولوا بذلك أنّ الله الرحمن العطوف لا يثير المشاكل لعباده بإرسال الرسل والأنبياء ، بل إنّه يتركهم وشأنهم! وهذا المنطق الخاوي المتهاوي يتناسب مع مستوى تفكير هذه الفئة الضالّة.

على كلّ حال ، فإنّ هؤلاء الأنبياء لم ييأسوا جرّاء مخالفة هؤلاء القوم الضالّين ولم يضعفوا ، وفي جوابهم( قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ) ومسئوليتنا إبلاغ الرسالة الإلهية بشكل واضح وبيّن فحسب.

( وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) .

من المسلّم به أنّهم لم يكتفوا بمجرّد الادّعاء ، أو القسم بأنّهم من قبل الله ، بل إنّ ممّا يستفاد من تعبير «البلاغ المبين» إجمالا أنّهم أظهروا دلائل ومعاجز تشير إلى صدق ادّعائهم ، وإلّا فلا مصداقية (للبلاغ المبين) ، إذ أنّ البلاغ المبين يجب أن يكون بطريقة تجعل من الميسّر للجميع أن يدركوا مراده ، وذلك لا يمكن تحقّقه إلّا من خلال بعض الدلائل والمعجزات الواضحة.

وقد ورد في بعض الرّوايات أيضا أنّ هؤلاء الرسل كانت لهم القدرة على شفاء بعض المرضى المستعصي علاجهم ـ بإذن الله ـ كما كان لعيسىعليه‌السلام .

ولكن الوثنيين لم يسلموا أمام ذلك المنطق الواضح وتلك المعجزات ، بل إنّهم زادوا من عنفهم في المواجهة ، وانتقلوا من مرحلة التكذيب إلى مرحلة التهديد والتعامل الشديد( قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ ) (١) .

ويحتمل حدوث بعض الوقائع السلبية لهؤلاء القوم في نفس الفترة التي بعث فيها هؤلاء الأنبياء ، وكانت إمّا نتيجة معاصي هؤلاء القوم ، أو كإنذارات إلهية لهم ،

__________________

(١) تقدّم الكلام عن «التطيّر» بالتفصيل في تفسير سورة الأعراف ، الآية ١٣١ ، وذيل الآية ٤٧ من سورة النمل.

١٥١

فكما نقل بعض المفسّرين فقد توقّف نزول المطر عليهم لملمدّة(١) ، ولكنّهم لم يعتبروا من ذلك ، بل إنّهم اعتبروا تلك الحوادث مرتبطة ببعثة هؤلاء الرسل. ولم يكتفوا بذلك ، بل إنّهم أظهروا سوء نواياهم من خلال التهديد الصريح والعلني ، وقالوا :( لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ ) .

هل أنّ «العذاب الأليم» هو تأكيد على مسألة الرجم ، أو زيادة المجازاة أكثر من الرجم وحده؟

يوجد احتمالان ، ولكن يبدو أنّ الاحتمال الثاني هو الأقرب ، لأنّ الرجم من أسوأ أنواع العذاب الذي قد ينتهي أحيانا بالموت ، ومن الممكن أن ذكر العذاب الأليم إشارة إلى أنّنا سنرجمكم إلى حدّ الموت ، أو أنّه علاوة على الرجم فإنّنا سنمارس معكم أنواعا اخرى من التعذيب التي كانت تستعمل قديما كإدخال الأسياخ المحمّاة في العيون أو صبّ الفلز المذاب في الفمّ وأمثالها.

بعض المفسّرين احتملوا أيضا أنّ (الرجم) هو تعذيب جسماني أمّا «العذاب الأليم» فهو عذاب معنوي روحي(٢) . ولكن الظاهر أنّ التّفسير الأوّل هو الأقرب.

أجل ، فلأنّ أتباع الباطل وحماة الظلم والفساد لا يملكون منطقا يمكنهم من المنازلة في الحوار ، فإنّهم يستندون دائما إلى التهديد والضغط والعنف ، غافلين عن أنّ سالكي طريق الله لن يستسلموا أمام أمثال هذه التهديدات ، بل سيزيدون من استقامتهم على الطريق ، فمنذ اليوم الأوّل الذي سلكت فيها أقدامهم طريق الدعوة إلى الله وضعوا أرواحهم على الأكف ، واستعدوا لأي نوع من الفداء والتضحية.

هنا ردّ الرسل الإلهيون بمنطقهم العالي على هذيان هؤلاء :( قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ ) .

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ذيل الآيات محلّ البحث.

(٢) وذلك في حال كون «لنرجمنّكم» من مادّة «رجم» بمعنى السبّ والاتّهام والقذف.

١٥٢

فإذا أصابكم سوء الحظّ وحوادث الشؤم ، ورحلت بركات الله عنكم ، فإنّ سبب ذلك في أعماق أرواحكم ، وفي أفكاركم المنحطّة وأعمالكم القبيحة المشؤومة ، وليس في دعوتنا ، فها أنتم ملأتم دنياكم بعبادة الأصنام وأتباع الهوى والشهوات ، وقطعتم عنكم بركات الله سبحانه وتعالى.

جمع من المفسّرين ذهبوا إلى أنّ جملة( أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ ) جملة مستقلّة وقالوا : إنّ معناها هو «هل أنّ الأنبياء إذا جاءوا وذكروكم وأنذروكم يكون جزاؤهم تهديدهم بالعذاب والعقوبة وتعتبرون وجودهم شؤما عليكم؟ وما جلبوا لكم إلّا النور والهداية والخير والبركة. فهل جواب مثل هذه الخدمة هو التهديد والكلام السيء؟!(١) .

وفي الختام قال الرسل لهؤلاء( بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ) .

فإنّ مشكلتكم هي الإسراف والتجاوز ، فإذا أنكرتم التوحيد وأشركتم فسبب ذلك هو الإسراف وتجاوز الحقّ ، وإذا أصاب مجتمعكم المصير المشؤوم فبسبب ذلك الإسراف في المعاصي والتلوّث بالشهوات ، وأخيرا ففي قبال الرغبة في العمل الصالح تهدّدون الهادفين إلى الخير بالموت ، وهذا أيضا بسبب التجاوز والإسراف.

وسوف نعود إلى شرح قصّة أولئك القوم ، وما جرى لهؤلاء الرسل ، بعد تفسير الآيات الباقية التي تكمل القصّة.

* * *

__________________

(١) التقدير هو «أئن ذكّرتم قابلتمونا بهذه الأمور» أو «أئن ذكّرتم علمتم صدق ما قلنا».

١٥٣

الآيات

( وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧) وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩) يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠) )

١٥٤

التّفسير

المجاهدون الذين حملوا أرواحهم على الأكف!

تشير هذه الآيات إلى جانب آخر من جهاد الرسل الذي وردت الإشارة إليه في هذه القصّة. والإشارة تتعلّق بالدفاع المدروس للمؤمنين القلائل وبشجاعتهم في قبال الأكثرية الكافرة المشركة وكيف وقفوا حتّى الرمق الأخير متصدّين للدفاع عن الرسل.

تشرع هذه الآيات بالقول :( وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ) .

هذا الرجل الذي يذكر أغلب المفسّرين أنّ اسمه «حبيب النجّار» هو من الأشخاص الذين قيّض لهم الاستماع إلى هؤلاء الرسل والإيمان وأدركوا بحقّانية دعوتهم ودقّة تعليماتهم ، وكان مؤمنا ثابت القدم في إيمانه ، وحينما بلغه بأنّ مركز المدينة مضطرب ويحتمل أن يقوم الناس بقتل هؤلاء الأنبياء ، أسرع ـ كما يستشفّ من كلمة يسعى ـ وأوصل نفسه إلى مركز المدينة ودافع عن الحقّ بما استطاع. بل إنّه لم يدّخر وسعا في ذلك.

التعبير بـ «رجل» بصورة النكرة يحتمل انّه إشارة إلى أنّه كان فردا عاديا ، ليس له قدرة أو إمكانية متميّزة في المجتمع ، وسلك طريقه فردا وحيدا. وكيف أنّه في نفس الوقت دخل المعركة بين الكفر والإيمان مدافعا عن الحقّ ، لكي يأخذ المؤمنين في عصر الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم درسا بأنّهم وإن كانوا قلّة في عصر صدر الإسلام ، إلّا أنّ المسؤولية تبقى على عواتقهم ، وأنّ السكوت غير جائز حتّى للفرد الواحد.

التعبير بـ «أقصى المدينة» يدلّل على أنّ دعوة هؤلاء الأنبياء وصلت إلى النقاط البعيدة من المدينة ، وأثّرت على القلوب المهيّأة للإيمان ، ناهيك عن أنّ أطراف المدن عادة تكون مراكز للمستضعفين المستعدين أكثر من غيرهم لقبول

١٥٥

الحقّ والتصديق به ، على عكس ساكني مراكز المدن الذين يعيشون حياة مرفّهة تجعل من الصعب قبولهم لدعوة الحقّ.

التعبير بـ «يا قوم» يوضّح حرقة هذا الرجل وتألمّه على أهل مدينته ، ودعوته إيّاهم إلى اتّباع الرسل ، تلك الدعوة التي لم تكن لتحقّق له أي نفع شخصي.

والآن لننظر إلى هذا الرجل المجاهد ، بأي منطق وبأي دليل خاطب أهل مدينته؟

فقد أشار أوّلا إلى هذه القضيّة( اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً ) . فتلك القضيّة بحدّ ذاتها الدليل الأوّل على صدق هؤلاء الرسل ، فهم لا يكسبون من دعوتهم تلك أيّة منفعة ماديّة شخصية ، ولا يريدون منكم مالا ولا جاها ولا مقاما ، وحتّى أنّهم لا يريدون منكم أن تشكروهم. والخلاصة : لا يريدون منكم أجرا ولا أي شيء آخر.

وهذا ما أكّدت عليه الآيات القرآنية مرارا فيما يخصّ الأنبياء العظام ، كدليل على إخلاصهم وصفاء قلوبهم ، وفي سورة الشعراء وحدها تكرّرت هذه الجملة خمس مرّات( وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ) (١) .

ثمّ يضيف : إنّ هؤلاء الرسل كما يظهر من محتوى دعوتهم وكلامهم انّهم أشخاص مهتدون :( وَهُمْ مُهْتَدُونَ ) إشارة إلى أنّ عدم الاستجابة لدعوة ما إنّما يكون لأحد سببين : إمّا لأنّ تلك الدعوة باطلة وتؤدّي إلى الضلال والضياع ، أو لأنّها حقّ ولكن الدعاة لها يكتسبون من تلك الدعوة منافع شخصية لهم ممّا يؤدّي إلى تشويه النظرة إلى تلك الدعوة ، ولكن حينما لا يكون هذا ولا ذاك فما معنى التردّد والتباطؤ عن الاستجابة.

ثمّ ينتقل إلى ذكر دليل آخر على التوحيد الذي يعتبر عماد دعوة هؤلاء الرسل ، فيقول :( وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي ) .

فإنّ من هو أهل لأن يعبد هو الخالق والمالك والوهّاب ، وليس الأصنام التي لا

__________________

(١) الآيات : ١٠٩ ـ ١٢٧ ـ ١٤٥ ـ ١٦٤ ـ ١٨٠.

١٥٦

تضرّ ولا تنفع ، الفطرة السليمة تقول : يجب أن تعبدوا الخالق لا تلك المخلوقات التافهة.

والتأكيد على «فطرني» لعلّه إشارة إلى هذا المعنى أيضا وهو : إنّني حينما أرجع إلى الفطرة الأصيلة في نفسي ألاحظ بوضوح أنّ هناك صوتا يدعوني إلى عبادة خالقي ، دعوة تنسجم مع العقل ، فكيف أغضّ الطرف إذا عن دعوة تؤيّدها فطرتي وعقلي؟!

والملفت للنظر أنّه لا يقول : وما لكم لا تعبدون الذي فطركم؟ بل يقول :( وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي ) لكي يكون بشروعه بالحديث عن نفسه أكثر تأثيرا في النفوس وبعد ذلك ينبّه إلى أنّ المرجع والمآل إلى الله سبحانه فيقول :( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) .

أي : لا تتصوّروا أنّ الله له الأثر والفاعلية في حياتكم الدنيا فقط ، بل إنّ مصيركم في العالم الآخر إليه أيضا ، فتوجّهوا إلى من يملك مصيركم في الدارين.

وفي ثالث استدلال له ينتقل إلى الحديث عن الأصنام وإثبات العبودية لله بنفي العبودية للأصنام ، فيكمل قائلا :( أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ ) .

هنا أيضا يتحدّث عن نفسه حتّى لا يظهر من حديثه أنّه يقصد الإمرة والاستعلاء عليهم ، وفي الحقيقة هو يحدّد الذريعة الأساس لعبدة الأوثان حينما يقولون : نحن نعبد الأصنام لكي تكون شفيعا لنا أمام الله ، فكأنّه يقول : أيّة شفاعة؟ وأي معونة ونجاة تريدون منها؟ فهي بذاتها محتاجة إلى مساعدتكم وحمايتكم ، فما ذا يمكنها أن تفعل لكم في الشدائد والملمّات؟

التعبير بـ «الرحمن» هنا علاوة على أنّه إشارة إلى سعة رحمة الله وأنّه سبب لكلّ النعم والمواهب ، وذلك بحدّ ذاته دليل على توحيد العبادة ، فإنّه يوضّح أنّ الله الرحمن لا يريدون أحدا بضرّ ، إلّا إذا أوصلت الإنسان مخالفاته إلى أن يخرج من

١٥٧

رحمة الله ويلقي بنفسه في وادي غضبه.

ثمّ يقول ذلك المؤمن المجاهد للتأكيد والتوضيح أكثر : إنّي حين أعبد هذه الأصنام وأجعلها شريكا لله فإنّي سأكون في ضلال بعيد :( إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) فأي ضلال أوضح من أن يجعل الإنسان العاقل تلك الموجودات الجامدة جنبا إلى جنب خالق السموات والأرض!!

وعند ما انتهى هذا المؤمن المجاهد المبارز من استعراض تلك الاستدلالات والتبليغات المؤثّرة أعلن لجميع الحاضرين( إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ ) .

أمّا من هو المخاطب في هذه الجملة( فَاسْمَعُونِ ) والجملة السابقة لها( إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ ) ؟

ظاهر الآيات السابقة يشير إلى أنّهم تلك المجموعة من المشركين وعبدة الأوثان الذي كانوا في تلك المدينة ، والتعبير بـ «ربّكم» لا ينافي هذا المعنى أيضا ، إذ أنّ هذا التعبير ورد في الكثير من آيات القرآن الكريم التي تتحدّث عن الكفّار حينما تستعرض الاستدلالات التوحيدية(١) .

وجملة «فاسمعون» لا تنافي ما قلنا ، لأنّ هذه الجملة كانت دعوة لهم لاتّباع قوله ، بالضبط كما ورد في قصّة مؤمن آل فرعون حيث قال :( يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ ) غافر ـ ٣٨.

ومن هنا يتّضح أنّ ما ذهب إليه بعض المفسّرين من أنّ المخاطب في هذه الجملة هم أولئك الرسل ، والتعبير بـ «ربّكم» وجملة «فاسمعون» قرينة على ذلك ـ لا يقوم عليه دليل سليم.

لكن لننظر ماذا كان ردّ فعل هؤلاء القوم إزاء ذلك المؤمن الطاهر؟

القرآن لا يصرّح بشيء حول ذلك ، ولكن يستفاد من طريقة الآيات التالية بأنّهم ثاروا عليه وقتلوه.

__________________

(١) راجع الآيات ٣ و ٣٢ يونس ـ ٣ و ٥٢ هود ـ ٢٤ النمل ٢٩ ـ الكهف وغيرها.

١٥٨

نعم فإنّ حديثه المثير والباعث على الحماس والمليء بالاستدلالات القويّة الدامغة ، واللفتات الخاصّة والنافذة إلى القلب ، ليس لم يكن لها الأثر الإيجابي في تلك القلوب السوداء المليئة بالمكر والغرور فحسب ، بل إنّها على العكس أثارت فيها الحقد والبغضاء وسعرت فيها نار العداوة ، بحيث أنّهم نهضوا إلى ذلك الرجل الشجاع وقتلوه بمنتهى القسوة والغلظة. وقيل انّهم رموه بالحجارة ، وهو يقول : اللهمّ اهد قومي ، حتّى قتلوه(١) .

وفي رواية اخرى أنّهم وطؤوه بأرجلهم حتّى مات(٢) .

ولقد أوضح القرآن الكريم هذه الحقيقة بعبارة جميلة مختصرة هي( قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ) وهذا التعبير ورد في خصوص شهداء طريق الحقّ في آيات أخرى من القرآن الكريم( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) .(٣)

والجدير بالذكر والملاحظة أنّ هذا التعبير يدلّل على أنّ دخوله الجنّة كان مقترنا باستشهاده شهادة هذا الرجل المؤمن ، بحيث أنّ الفاصلة بين الإثنين قليلة إلى درجة أنّ القرآن المجيد بتعبيره اللطيف ذكر دخوله الجنّة بدلا عن شهادته ، فما أقرب طريق الشهداء إلى السعادة الدائمة!!

وواضح أنّ المقصود من الجنّة هنا ، هي (جنّة البرزخ) لأنّه يستفاد من الآيات ومن الرّوايات أنّ الجنّة الخالدة في يوم القيامة ستكون نصيب المؤمنين ، كما أنّ جهنّم ستكون نصيب المجرمين.

وعليه فإنّ هناك جنّة وجهنّم أخريين في عالم البرزخ ، وهما نموذج من جنّة وجهنّم يوم القيامة ، فقد ورد عن أمير المؤمنين علي عليه أفضل الصلاة والسلام أنّه قال : «والقبر روضة من رياض الجنّة ، أو حفرة من حفر النار»(٤) .

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ج ١٥ ، ص ١٨ و ١٩.

(٢) تفسير التبيان ، ج ٨ ، ص ٤١٤.

(٣) آل عمران ، ١٦٩.

(٤) بحار الأنوار ، ج ٦ ، ص ٢١٨.

١٥٩

وما احتمله البعض من أنّ هذه الجملة إشارة إلى خطاب يخاطب به هذا المؤمن الشهم في يوم القيامة ، وأنّها تحوي جنبة مستقبلية ، فهو خلاف لظاهر الآية.

على كلّ حال فإنّ روح ذلك المؤمن الطاهرة ، عرجت إلى السماء إلى جوار رحمة الله وفي نعيم الجنان ، وهناك لم تكن له سوى امنية واحدة( قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ) .

يا ليت قومي يعلمون بأي شيء( بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ) (١) .

أي : ليست أنّ لهم عين تبصر الحقّ ، لهم عين غير محجوبة بالحجب الدنيوية الكثيفة والثقيلة ، فيروا ما حجب عنهم من النعمة والإكرام والاحترام من قبل الله ، ويعلموا أي لطف شملني به الله في قبال عدوانهم عليّ

لو أنّهم يبصرون ويؤمنون ، ولكن يا حسرة!!

في حديث عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما يخصّ هذا المؤمن «إنّه نصح لهم في حياته وبعد موته»(٢) .

ومن الجدير بالملاحظة أنّه تحدّث أوّلا عن نعمة الغفران الإلهي ، ثمّ عن الإكرام ، إذ يجب أوّلا غسل الروح الإنسانية بماء المغفرة لتنقيتها من الذنوب ، وحينها تأخذ محلّها على بساط القرب والإكرام الإلهي.

والجدير بالتأمّل أنّ الإكرام والاحترام والتجليل ، وإن كان من نصيب الكثير من العباد ، وأصولا فإنّه ـ أي الإكرام ـ يتعاظم مع «التقوى» جنبا إلى جنب ،( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) (٣) . ولكن (الإكرام) بشكل مطلق وبدون أدنى قيد أو شرط جاء في القرآن الكريم خاصا لمجموعتين :

__________________

(١) بخصوص موقع (ما) في الجملة احتملت ثلاثة احتمالات : إمّا مصدرية ، أو موصولة ، أو استفهامية ، ولكن يبدو أنّ احتمال كونها استفهامية بعيد ، ويبقى أنّ الأقرب كونها موصولة ، مع أنّ المعنى لا يختلف كثيرا حينما تكون مصدرية.

(٢) تفسير القرطبي ، المجلّد ٨ ، ـ صفحة ٢٠.

(٣) الحجرات ، ١٣.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

وقال القعنبي : ( دخلت على مالك في مرضه الذي مات فيه ، فسلّمت عليه ، فرأيته يبكي ، فقلت : يا أبا عبد الله ما الذي يبكيك؟ فقال لي : يا ابن قعنب ومالي لا أبكي! ومن أحقّ بالبكاء منّي! لوددت أنّي ضربت سوطاً وقد كانت لي السعة فيما سبقت إليه ، وليتني لم أفت بالرأي ). يقول ابن حزم : ( فهذا رجوع منه عن كلّ ما أفتى منه برأي ، وهذا ثبت عنه ).

وروي أنّ مالكاً أفتى في طلاق البتة ـ أي : الطلاق الذي لا رجعة فيه ـ أنّها ثلاث ، فنظر إلى أشهب قد كتبها ، فقال : امحها ، أنا كلما قلت قولاً جعلتموه قرآناً! أما يدريك! لعلّي سأرجع عنها غداً فأقول : هي واحدة )(١) .

٣ ـ الإمام الشافعي :

قال حرملة بن يحيى : قال الشافعي : ( ما قلت وكان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) قد قال بخلاف قولي ، فما صحّ من حديث النبي أولى ولا تقلّدوني ).

وقال : ( كلّ مسألة صحّ فيها الخبر عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) عند أهل النقل بخلاف ما قلت فأنا راجع عنها في حياتي وبعد مماتي ).

قال الربيع بن سليمان : سمعت الشافعي يقول : ( إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) فقولوا بها ودعوا ما قلت )(٢) .

__________________

الإمام المطلبي : ١٢٧ ، جامع بيان العلم وفضله : ٢ / ٣٣. إعلام الموقعين : ١ / ٧٨ ، الإيقاظ : ص ١٨.

١ ـ إعلام الموقعين ج ٢ / ١٩٩.

٢ ـ الحاوي : ص ١٨ ، آداب الشافعي ومناقبه ، ابن أبي حاتم الرازي : ص ٩٣ ، سير أعلام النبلاء ، ١٠ / ٣٣ ، القول المفيد : ص ٦٢ ، إعلام الموقعين ٢ / ٢٨٥ ، مختصر المؤمل ، أبي شامة : ص ٥٨ ، إرشاد النقاد : ص ١٤٢ ، الإيقاظ : ص ٥٠وص ١٠٠ ، تحفة الأنام : ص ٣٤ ، تاريخ دمشق لابن عساكر : ٥١ / ٣٨٩ ، أبو نعيم ٩ / ١٠٧ ، المجموع ،

١٨١

٤ ـ أحمد بن حنبل :

( لا تقلّدني!! ولا تقلّد مالكاً!! ولا الشافعي!! ولا الأوزاعي! ولا الثوري! وخذ من حيث أخذوا ).

وقال : ( رأي الأوزاعي ورأي مالك ورأي سفيان كلّه رأي ، وهو عندي سواء ، وإنّما الحجّة في الآثار ).

وقال : ( اُنظروا في أمر دينكم فإنّ التقليد لغير المعصوم مذموم ، وفيه عمى للبصيرة )(١) .

وقفة ضمير :

بعد كلّ هذه الأخبار عن سلفكم وأئمتكم وعلمائكم ، هل يصح الإعراض عن أهل البيتعليهم‌السلام القائلين : نحن حجج الله عليكم ، نحن قرناء القرآن؟!

وبعد شهادة سلفكم ( الصحابة ) وأئمتكم ( الأئمة الأربعة ) في حقّ أمير المؤمنين وأهل بيته الطاهرين الميامينعليهم‌السلام هل يبقى شك في وجوب اتّباع سفينة النجاة؟! سؤال موجّه إلى كلّ ذي ضمير حي لا يقلّد في دينه أحد فإنّ كان شكّه في الدليل فها هو ، وان كان شكّه في المصدر فليبحث بنفسه ، ويتأكّد من صدق

__________________

الهروي ١ / ٤٧ ، مختصر المؤمل : ص ٥٧ ، مقدمة الحاوي ، الماوردي الشافعي : ص ١٨ ، صفوة الصفوة ٢ / ٢٥٧.

١ ـ حجّة الله البالغة : ١ / ١٥٧ ، الإنصاف : ص ١٠٥ ، والمدخل لدراسة الشريعة الإسلامية ، أحمد الشافعي : ص ١٠٥ ، إسلامنا : ص ٦٢ ، مختصر المؤمل ، أبي شامة الشافعي : ص ٦٠. ٥ ، مجموع فتاوى ابن تيمية : ٢٠ / ٢١١ ـ ٢١٢ ، إعلام الموقعين : ٢ / ٢٠١ ، الإيقاظ : ص ١١٣ ، مجموعة الرسائل المنيرية : ١ / ٢٧ ، الجامع : ٢ / ١٠٨٢ ، أضواء على السنة المحمّدية ، محمود أبو رية : ص ٣٨٤ نقلا عن الإسلام الصحيح : ص ٢٩٧.

١٨٢

أدلّتنا بانصاف وأمانه وتعقّل ، وليس كغيره ممن يفضّلون الخلفاء الثلاثة على الإمامعليه‌السلام بلا دليل وبرهان.

ولكن هذا من هوان الدنيا على الله أن يصبر على كثير من الناس وهو يراهم يعرضون عن أوليائه ، وقد بيّن لهم السبيل ، وهداهم لأوليائه.

نعم ، قد يقال : إنّ اسم أهل البيتعليهم‌السلام لم يصرح به في القرآن الكريم ، وهذا السؤال كثيراً ما سمعته أجيب من واجهني بالسؤال أو تسائل عبر الفضائيات أو عبر أيّ وسيلة أو حتّى مع نفسه بما يلي :

إنّ القرآن الكريم قال : أقيموا الصلاة ، ولم يبيّن أنّ عدد ركعات الظهر كذا والعصر كذا.

وكذلك قال : آتوا الزكاة ، ولم يبيّن مقدارها.

وقال : جاهدوا في سبيل الله ، لكنه ترك تعيين وقت الجهاد على ولي الأمر في كلّ عصر ، فكذلك الإمامة قال تعالى :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (١) ، فقد قرن الله تعالى طاعته بطاعة رسوله وأولي الأمر من بعده ، إذن كلّ مسلم لابدّ أن يعرف من هم أولي الأمر الذين قرن الله سبحانه طاعتهم بطاعته بدون استثناء ، هنا ترك الجواب للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما ترك تبيين عدد الركعات وتفصيل الصلاة التي هي عمود الدين إليه.

وفي هذا الكتاب بحثنا هذه الآية بحثا وافياً ، وعرفنا من هم أولي الأمر الذين تجب طاعتهم على كلّ مكلّف ، فتابع.

__________________

١ ـ النساء : ٥٩.

١٨٣

الدليل التاسع : حديث المنزلة

سوف نبيّن فيما يأتي مامعنى المنزلة وأهميتها ، ولكن نبدأ بمصادرها من الكتب المعتبرة عند أهل السنة ، وأهمّها صحيح البخاري ، فقد جاء فيه ما يلي :

حدّثنا محمّد بن بشار ، حدّثنا غندر ، حدّثنا شعبة ، عن سعد قال : سمعت إبراهيم بن سعد عن أبيه [ أي سعد بن أبي وقاص ] قال : قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي : ( أما ترضى أنّ تكون منّي بمنزلة هارون من موسى )(١) .

قال : وحدّثنا مسدد ، حدّثنا يحيى ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مصعب ـ مصعب بن سعد بن أبي وقاص ـ عن أبيه : ( إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خرج إلى تبوك فاستخلّف علياً فقال : أتكلّفني بالصبيان والنساء؟ قال : ألا ترضى أنّ تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلا أنّه ليس بعدي نبي )(٢) .

صحيح مسلم :

حدّثنا محمّد بن المنكدر ، عن سعيد بن المسيب ، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي : ( انت منّى بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبي بعدي قال سعيد : فأحببت أن أشافه بها سعداً فلقيت سعداً فحدّثته بما حدّثنى عامر ، فقال : أنا سمعته ، فقلت : أنت

__________________

١ ـ صحيح البخاري ٤ : ٢٠٨.

٢ ـ صحيح البخاري ٥ : ١٢٩.

١٨٤

سمعته؟ فوضع إصبعيه على أذنيه فقال : نعم ، وإلاّ فاستكّتا.

وحدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدّثنا غندر ، عن شعبة ح ، وحدّثنا محمّد بن المثنى وابن بشار قالا : حدّثنا محمّد بن جعفر حدّثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص ، عن سعد بن أبي وقاص قال : ( خلف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم علي بن أبي طالب في غزوة تبوك فقال يا رسول الله تخلّفني في النساء والصبيان؟ فقال : أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى غير أنّه لا نبي بعدي ).

حدّثنا عبيد الله بن معاذ ، حدّثنا أبي حدّثنا شعبة في هذا الإسناد.

حدّثنا قتيبة بن سعيد ومحمّد بن عباد ( وتقاربا في اللفظ ) قالا : حدّثنا حاتم ( وهو ابن إسماعيل ) عن بكير بن مسمار ، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه قال أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال : ما منعك أن تسبّ أبا التراب؟ فقال : أما ما ذكرت ثلاثاً قالهنّ له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فلن أسبّه لأن تكون لي واحدة منهن احبّ إلى من حمر النعم ، سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول له خلفه في بعض مغازيه فقال له علي : يا رسول الله خلفتني مع النساء والصبيان؟ فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : أما ترضى ان تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبوّة بعدي وسمعته يقول يوم خيبر لأعطين الراية رجلاً يحبّ الله ورسوله ، ويحبّه الله ورسوله. قال : فتطاولنا لها فقال : ادعوا لي علياً ، فأتي به أرمد ، فبصق في عينه ، ودفع الراية إليه ففتح الله عليه. ولمّا نزلت هذه الآية( فقل تعالوا ندع ابناءنا وابناءكم ) دعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال : اللهم هؤلاء أهلي ).

حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدّثنا غندر ، عن شعبة ح ، وحدّثنا محمّد بن

١٨٥

المثنى وابن بشار قالا : حدّثنا محمّد بن جعفر ، حدّثنا شعبة عن سعد بن إبراهيم سمعت إبراهيم بن سعد ، عن سعد ، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال لعلي : ( أما ترضى ان تكون منّي بمنزلة هارون من موسى ).

حدّثنا قتيبة بن سعيد ، حدّثنا يعقوب ( يعني : ابن عبد الرحمن القاري ) عن سهيل ، عن أبيه عن أبي هريرة أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يوم خيبر : ( لأعطين هذه الراية رجلاً يحبّ الله ورسوله ، يفتح الله على يديه. قال عمر بن الخطاب : ما أحببت الإمارة إلّا يومئذٍ ، قال : فتساورت لها رجاء أن أدعى لها ، قال : فدعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم على بن أبي طالب فاعطاه إياها ، وقال : امش ولا تلتفت حتّى يفتح الله عليك ، قال : فسار علي شيئاً ، ثمّ وقف ولم يلتفت فصرخ يا رسول الله على ماذا أقاتل الناس؟ قال : قاتلهم حتّى يشهدوا أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّداً رسول الله ، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلّا بحقّها وحسابهم على الله ).

حدّثنا قتيبة بن سعيد ، حدّثنا عبد العزيز ( يعني : ابن أبي حازم ) عن أبي حازم عن سهل ح ، وحدّثنا قتيبة بن سعيد ( واللفظ هذا ) حدّثنا يعقوب ( يعني : ابن عبد الرحمن ) عن أبي حازم ، أخبرني سهل بن سعد أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يوم خيبر : ( لأعطين هذه الراية رجلاً يفتح الله على يديه يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله قال : فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها ، قال : فلمّا أصبح الناس غدوا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كلّهم يرجون أن يعطاها ، فقال : أين علي بن أبي طالب؟ فقالوا : هو يارسول الله يشتكي عينيه ، قال : فارسلوا إليه ، فأتي به ، فبصق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في عينيه ، ودعا له فبرأ حتّى كأن لم يكن به وجع ، فاعطاه الراية ، فقال علي : يارسول الله أقاتلهم

١٨٦

حتّى يكونوا مثلنا ، فقال : انفذ على رسلك حتّى تنزل بساحتهم ، ثمّ ادعهم إلى الإسلام ، وأخبرهم بما يجب عليهم من حقّ الله فيه ، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم ).

حدّثنا قتيبة بن سعيد ، حدّثنا حاتم ( يعني : ابن إسماعيل ) عن يزيد بن أبي عبيد ، عن سلمة بن الأكوع قال : ( كان علي قد تخلّف عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في خيبر ، وكان رمداً ، فقال : أنا أتخلّف عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ؟! فخرج علي فلحق بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلمّا كان مساء الليلة التي فتحها الله في صباحها قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : لأعطين الراية أو ليأخذن بالراية غداً رجل يحبّه الله ورسوله ، أو قال : يحبّ الله ورسوله يفتح الله عليه. فإذا نحن بعلي وما نرجوه فقالوا : هذا علي ، فأعطاه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم الراية ، ففتح الله عليه )(١) .

سنن الترمذي :

حدّثنا قتيبة ، ( أخبرنا ) حاتم بن إسماعيل ، عن بكير بن مسمار ، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه قال : ( أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال : ما منعك أنّ تسب أبا تراب؟ قال : أما ما ذكرت ; ثلاثاً قالهن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فلن أسبّه لأن تكون لي واحدة منهن أحبّ إليّ من حمر النعم ، سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لعلي : وخلفه في بعض مغازيه؟ فقال له : يارسول الله تخلّفني مع النساء والصبيان؟ فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : أما ترضى أنّ تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبوّة بعدى.

__________________

١ ـ صحيح مسلم : ج ٧ ، ص ١٢٠ ـ ١٢٢.

١٨٧

وسمعته يقول يوم خيبر : لأعطين الراية رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله. قال : فتطاولنا لها ، فقال : ادعوا لي علياً ، قال : فأتاه وبه رمد ، فبصق في عينه ، فدفع الراية إليه ، ففتح الله عليه ، وأنزلت هذه الآية :( ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم ) الآية ، دعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال : اللهم هؤلاء أهلي )

حدّثنا علي بن المنذر ، ( أخبرنا ) ابن فضيل ، عن سالم ابن أبي حفصة ، عن عطية عن أبي سعيد قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي : ( يا علي لا يحلّ لأحد أنّ يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك. قال علي بن المنذر : قلت لضرار بن صرد : ما معنى هذا الحديث؟ قال : لا يحلّ لأحد يستطرقه جنباً غيري وغيرك به ).

حدّثنا القاسم بن دينار الكوفي ، ( أخبرنا ) أبو نعيم ، عن عبد السلام بن حرب ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، عن سعد بن أبي وقاص : ( أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعلي : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى ).

هذا حديث حسن صحيح.

حدّثنا محمود بن غيلان ، ( أخبرنا ) أبو أحمد الزبيري ، عن شريك ، عن عبد الله بن محمّد بن عقيل ، عن جابر بن عبد الله : ( أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعلي : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبي بعدي )(١) .

فضائل الصحابة :

أخبرنا القاسم بن زكريا بن دينار ، قال : أنا أبو نعيم ، قال ثنا عبد السلام ،

__________________

١ ـ سنن الترمذي ج ٥ : ص ٣٠١ ـ ٣٠٤.

١٨٨

عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، عن سعد بن أبي وقاص أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعلي : ( أنت منّي بمنزلة هارون من موسى ).

أخبرنا علي بن مسلم ، قال : ثنا يوسف بن يعقوب الماجشون أبو سلمة ، قال : أخبرني محمّد بن المنكدر ، عن سعيد بن المسيب قال : ( سألت سعد بن أبي وقاص فهل سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعلي : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه ليس معي أو بعدي نبي؟ قال : نعم سمعته. قلت : أنت سمعته؟ فأدخل إصبعيه في أذنيه قال : نعم وإلا فاستكتا ).

أخبرنا محمّد بن المثنى ومحمّد بن بشار قالا : أنا محمّد ، قال : أنا شعبة ، عن الحكم ، عن مصعب بن سعد ، عن سعد قال : خلف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم علي بن أبي طالب في غزوة تبوك فقال : يا رسول الله تخلّفني في النساء والصبيان؟ فقال : ( أما ترضى أنّ تكون منّي بمنزلة هارون من موسى غير أنّه لا نبي بعدي ).

أخبرنا محمّد بن بشار ، قال : أنا محمّد ، قال أنا : شعبة ، عن سعد بن إبراهيم قال : سمعت إبراهيم بن سعد يحدّث عن أبيه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال لعلي : ( أما ترضى أنّ تكون منّي بمنزلة هارون من موسى ).

أخبرنا عمرو بن علي ، قال : أنا يحيى بن سعيد ، قال : أنا موسى الجهني قال : دخلت على فاطمة بنت علي فقال لها رفيقي : عندك شيء عن والدك مثبت قالت : حدّثتني أسماء بنت عميس أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعلي : ( أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبي بعدي )(١) .

__________________

١ ـ فضائل الصحابة ، للنسائي : ١٣ ـ ١٤.

١٨٩

مسند أحمد :

( فقال له علي : أخرج معك؟ قال : فقال له نبي الله : لا ، فبكى علي ، فقال له : أما ترضى أنّ تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّك لست بنبي ، إنّه لا ينبغي أنّ أذهب إلّا وأنت خليفتي. قال : وقال له رسول الله : أنت وليي في كلّ مؤمن بعدي. وقال : سدّوا أبواب المسجد غير باب علي فقال : فيدخل المسجد جنباً وهو طريقه ليس له طريق غيره قال : وقال : من كنت مولاه فإنّ مولاه علي )(١) .

المستدرك للحاكم النيسابوري :

الحسن بن محمّد بن إسحاق الأسفراييني ، ثنا عمير بن مرداس ، ثنا عبد الله ابن بكير الغنوي ، ثنا حكيم بن جبير ، عن الحسن بن سعد مولى على عن علي رضي الله عنه : ( أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله أراد أن يغزو غزاة له قال : فدعا جعفراً فأمره أن يتخلّف على المدينة ، فقال : لا أتخلّف بعدك يا رسول الله أبداً ، قال : فدعاني رسول الله صلّى الله عليه وآله فعزم على لما تخلّفت قبل أن أتكّلم ، قال : فبكيت فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : ما يبكيك يا علي؟ قلت : يا رسول الله يبكيني خصال غير واحدة ، تقول قريش غداً : ما أسرع ما تخلّف عن ابن عمّه وخذله ، ويبكيني خصلة أخرى كنت أريد أن أتعرّض للجهاد في سبيل الله ؛ لأنّ الله يقول :( ولا يطئون موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلاً ) إلى آخر الآية ، فكنت أريد أن أتعرّض لفضل الله ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : أمّا قولك تقول قريش ما أسرع ما تخلّف عن ابن عمّه وخذله ، فإنّ لك بى

__________________

١ ـ مسند أحمد بن حنبل ج ١ ، ص ٣٣١.

١٩٠

أسوة قد قالوا : ساحر وكاهن وكذّاب أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لانبي بعدي؟ وما قولك أتعرّض لفضل الله فهذه أبهار من فلفل جاءنا من اليمن فبعه واستمتع به أنت وفاطمة حتّى يأتيكم الله من فضله ، فإنّ المدينة لا تصلح إلّا بي أو بك ).

هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه(١) .

طبقات ابن سعد :

عن البراء بن عازب وعن زيد بن أرقم قالا : ( لما كان عند غزوة جيش العسرة وهي تبوك قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم ) لعلي بن أبي طالب : إنّه لابدّ أنّ أقيم أو تقيم فخلّفه. فلمّا فصل رسول الله غازياً قال ناس ما خلّف علياً رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم ) إلّا لشيء كرهه منه ، فبلغ ذلك علياً ، فأتبع رسول الله حتّى انتهى إليه ، فقال له : ما جاء بك يا علي؟ قال : لا يا رسول الله ، إلّا أنيّ سمعت ناساً يزعمون أنّك إنّما خلّفتني لشيء كرهته منّي ، فتضاحك رسول الله وقال : يا علي أما ترضى أنّ تكون منّي كهارون من موسى إلّا أنّك لست بنبي؟ قال : بلى يا رسول الله ، قال : فإنّه كذلك )(٢) .

الشاهد في هذه النصوص :

١ ـ أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى.

٢ ـ رجلاً يحبّ الله ورسوله.

٣ ـ يفتح الله على يديه.

__________________

١ ـ المستدرك للحاكم النيسابوري ج ٢ ص ٣٣٧.

٢ ـ طبقات ابن سعد ٣ / ٢٤.

١٩١

٤ ـ قال عمر بن الخطاب : ما أحببت الإمارة إلّا يومئذٍ قال : فتساورت لها رجاء أن أُدعى لها. قال : فدعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم علي بن أبي طالب فاعطاه اياها.

٥ ـ لا ينبغي أنّ أذهب إلّا وأنت خليفتي.

٦ ـ قال له رسول الله أنت وليي في كلّ مؤمن بعدي.

٧ ـ وقال : سدّوا أبواب المسجد غير باب علي ، فقال : فيدخل المسجد جنباً وهو طريقه ليس له طريق غيره.

٨ ـ قال ناس ما خلّف علياً ما خلفه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم ) إلّا لشيء كرهه منه.

٩ ـ فإنّ لك بي أسوة قد قالوا : ساحر وكاهن وكذّاب.

١٠ ـ إنّه لابدّ أنّ أقيم أو تقيم.

١١ ـ تمنّي سعد خصلة من خصال علي.

١٢ ـ معاوية يأمر الصحابة بسبّ علي.

عندما يمتنع الصحابة عن سبّ علي ،عليه‌السلام ويستدلون بحديث المنزلة على فضله ، بل ويتمنّون ذلك فيهم ، فهذا دليل على أهمية هذه المنزلة فلو كانت أمراً عادياً كما يزعم البعض ـ أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله خلّف الإمامعليه‌السلام في تلك الفترة ، وليس هو خليفة بعده لما تمنّاها سعد ، وامتنع عن سبّ الإمامعليه‌السلام لسبب سماعها من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في حقّ عليعليه‌السلام .

بل يعترف بهذه المنزلة ويتمنّاها حتّى أعدائه ، والفضل ما شهدت به الأعداء ، كما في تاريخ دمشق والصواعق المحرقة وغيرهما : ( أنّ رجلاً سأل معاوية عن مسألة فقال : سل عنها علياً فهو أعلم ، قال الرجل : جوابك فيها أحبّ إليّ من

١٩٢

جواب علي ، قال معاوية : بئس ما قلت ، لقد كرهت رجلاً كان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم ) يغرّه بالعلم غرّا ، ولقد قال له : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبي بعدي ، وكان عمر إذا أشكل عليه شيء أخذ منه )(١) .

وفي الرواية مقاطع تدلّ على أهميتها ، منها قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( إنّه لابدّ أنّ أقيم ). وبقوله : ( لا ينبغى أنّ أذهب إلّا وأنت خليفتي ). وهذا يدلّ على أنّه لو لم يبق عليعليه‌السلام لبقي هو ، وأنّه يرى علياً كنفسه ، فلا يبقى مجال لمن ادّعى أنّ الخلافة فقط في تلك الفترة كما كان هارون خليفة موسى عندما ذهب لمناجاة ربّه.

ويبيّن ذلك قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله لله أنت وليي في كلّ مؤمن بعدي ، يعني بعد موتي ويبيّن ذلك منازل هارونعليه‌السلام من موسىعليه‌السلام وهي : الوزارة والخلافة.

ويؤيدّ ذلك أنّ حديث المنزلة تكرر في أكثر من مرّة ، وليس في استخلافهصلى‌الله‌عليه‌وآله لهعليه‌السلام في غزوة تبوك.

وكذلك أخبار كثيرة كحديث الغدير الذي فيه : ( من كنت مولاه فعلي مولاه ). وغيره من الأحاديث والأيات التي أوردت لفظ ( خليفة ) أو ( ولي ) بعد الرسول ، كما سنفصّل فيما بعد ان شاء الله تعالى.

ثمّ إنّ منازل هارون من موسى ليست منحصرة في الخلافة عندما ذهب موسى يناجي ربّه ، بل هي أكثر من ذلك كما بيّن لنا القرآن الكريم ، ومنها :

١ ـ الأخوّة : قال تعالى :( وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً ) (٢) .

__________________

١ ـ ترجمة الإمام علي من تاريخ دمشق ١ / ٣٩٦ رقم ٤١٠ ، الرياض النضرة ٣ / ١٦٢ ، مناقب الإمام علي للمغازلي : ٣٤ رقم ٥٢.

٢ ـ مريم : ٥٣.

١٩٣

٢ ـ الخلافة :( وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِين ) (١) .

٣ ـ شدّ الأزر :( واجعل لي وزيراّ من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري ) (٢) .

٤ ـ الوزارة :( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً ) (٣) .

فالإمام عليه السلام ليس خليفة النبي عندما ذهب للغزو فقط ؛ لأنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله قد بيّن أنّه لا نبي بعده ، ولهعليه‌السلام جميع المنازل التي كانت لهارون إلّا النبوّة ، ومن ألمنازل التي كانت لهارون الخلافة ، فيكون هذا الحديث نصّاً في الخلافة والإمامة والولاية بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وتترتب على ذلك : وجوب الطاعة والانقياد المطلق.

وليس هذا هو الحديث الوحيد الذي بيّن فيه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ علياً خليفته ووصيّه ، بلّ إنّ هناك أحاديث كثيرة سنذكرها فيما بعد إن شاء الله تعالى.

جريمة لا تغفر :

إنّه يوجد من يجهل ما جاء في وجوب اتّباع أهل البيتعليهم‌السلام ، ويوجد من هو يعرف لكنه لايفهم معنى الولاية والبراءة ، ويفكّر أنّ الحبّ في القلب ممكن لهم ولعدوهم في نفس الوقت ومع ذلك قد تناله شفاعة ، وقد يغفر ويكّفر ذنبه

__________________

١ ـ الأعراف : ١٤٢.

٢ ـ طه : ٢٩.

٣ ـ الفرقان : ٣٥.

١٩٤

حسب مابذل من جهد للمعرفة ، وقد وقد

ولكن الجريمة التي لا تغفر هي جريمة من يتعمد التحريف والتزييف والتضعيف ونصب العداء لاهل بيت النبوّةعليهم‌السلام بطمس فضائلهم ، بل قد وصل الأمر إلى أنّ البعض من النواصب بعد أنّ عرفوا أنّ لا جدوى في المكابرة في أسانيد الحديث حرّفوه لفظيا!! ولكن ما أشنعها وأقبحها من صنيعه ، كما في ترجمة حريز بن عثمان من تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ، وأيضاً في كتاب تهذيب التهذيب لابن حجرالعسقلاني ، يروون عن حريز قوله : ( هذا الذي يرويه الناس عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال لعلي : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى ، هذا حقّ ، ولكن أخطأ السامع. يقول الراوي : قلت : ما هو؟ قال : إنّما هو : أنت منّي بمنزلة قارون من موسى ، قلت : عمن ترويه؟ قال : سمعت الوليد بن عبد الملك يقوله وهو على المنبر )(١) .

و حريز هذا من رجال الصحاح سوى مسلم ، وكلّهم يعتمدون عليه وينقلون عنه ويصححون خبره!! فكيف تكون صحاح وهي تنقل عمن يقول ذلك في حقّ علي بن أبي طالب الصحابي الجليل والخليفة الشرعي والرابع في نظرهم ، وهم يكّفرون من سبّ معاوية الطليق ، ويعتبرون رواياته غير مقبولة؟!

وعن أحمد بن حنبل أنّه عندما سئل عن هذا الرجل قال : ثقة ثقة ثقة. وفي ترجمة هذا الرجل : أنّه كان يشتم علياً ، ويتحامل عليه بشدّة ، ونصّوا على أنّه كان ناصبياً ، وأنّه كان يقول : لا أحبّ علياً قتل آبائي ، وكان يقول : لنا إمامنا ـ يعني : معاوية ـ ولكم إمامكم ـ يعني : علياً ـ وكان يلعن علياً بالغداة سبعين مرّة ،

__________________

١ ـ تاريخ بغداد ٨ / ٢٦٨ رقم ٤٣٦٥ ، تهذيب التهذيب ٢ / ٢٠٩.

١٩٥

وبالعشي سبعين مرّة ، ومع ذلك يصححون خبره ، ويروون عنه ويوثّقوه!!

ومن هنا يمكن للباحث الحر أنّ يعرف موازين هؤلاء ومعاييرهم في تصحيح الحديث وتوثيق الراوي وحتّى لا تكن من هؤلاء أيّها القارئ المنصف عليك أن تحكّم عقلك ، ولا تكن ممن يبرر لنفسه حبّهم أو التكتّم عليهم بحجّة من الحجج ، كمن قال عن قتلة أهل البيتعليهم‌السلام إنّه ليس منافقاً ، وإنّما اجتهد فأخطأ ، كما برروا لقادة الجمل وصفين وكربلاء!!

ولكننا نلفت أذهان القرّاء الكرام أن يستخدموا مشاعرهم وعقولهم في أنّه هل هذا عذر مقبول أم لا؟ فهذا نتركه على عاتق الباحث المنصف ليصل هو للجواب السليم.

وعلى ذكر كلمة طليق أنقل كلام سمعته لأحد قابلته القناة التلفزيونية الفضائية المسمّاة بـ ( المستقلة ) في أوائل عام ٢٠٠٧ م قال : إنّه لا يوجد في كلام الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لآل أبي سفيان : ( اذهبوا فأنتم الطلقاء ). حتّى يدلّ على أنّهم لم يكونوا مسلمين قبل عام الفتح ، بل هم أسلموا وحسن إسلامهم وأبلوا في سبيل الله تعالى بلاءً حسناً قبل عام الفتح!!

ونحن نترك جوابه على الذهبي في تعريفه للطلقاء بقوله : ( الطلقاء هم كّفار قريش الذين جمعهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد فتح مكّة ، وقال لهم : ما تظنون أنّي فاعل بكم؟ فقالوا : أخ كريم وابن أخ كريم ، فقال : اذهبوا فأنتم الطلقاء )(١) .

وقال ابن قتيبة في تعريف الطلقاء أيضاً : ( طليق ، يعني : من الطلقاء الذين

__________________

١ ـ سير أعلام النبلاء للذهبي ج ٤ ص ٤٩٥.

١٩٦

قال لهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم فتح مكّة اذهبوا فأنتم الطلقاء )(١)

وذكر الطبري : ( ثمّ تلا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ( يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم ) (٢) الآية ، يا معشر قريش ، ويا أهل مكّة ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا : خيراً أخ كريم وابن أخ كريم ، ثمّ قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء ، فأعتقهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد كان الله أمكنه من رقابهم عنوة ، وكانوا له فيأً ، فبذلك يسمّى أهل مكّة الطلقاء ، ثمّ اجتمع الناس بمكّة لبيعة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم على الإسلام )(٣) .

وفي تاريخ ابن خلدون : ( ثم تلا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ( يأيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى ) إلى خبير ، يا معشر قريش ، ويا أهل مكّة ما ترون أنّي فاعل فيكم؟ قالوا : خيراً أخ كريم ، ثمّ قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء ، وأعتقهم على الإسلام ، وجلس لهم فيما قيل على الصفا فبايعوه على السمع والطاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا )(٤) .

وفي تاريخ ابن خلدون أيضاً : ( واستغلظت رياسة بني أمية في قريش ، ثمّ استحكمتها مشيخة قريش من سائر البطون في بدر ، وهلك فيها عظماء بنى عبد شمس عتبة وربيعة والوليد وعقبة بن أبي معيط وغيرهم ، فاستقل أبو سفيان

__________________

١ ـ الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري ، تحقيق الزيني ج ١ ص ٨٩.

٢ ـ الحجرات (٤٩) : ١٣.

٣ ـ تاريخ لطبري ج ٢ ، ص ٣٣٧ ، والبداية والنهاية لابن كثير ج ٤ ص ٣٤٤.

٤ ـ تاريخ ابن خلدون ج ٢ ، ص ٤٥.

١٩٧

بشرف بني أمية والتقدّم في قريش ، وكان رئيسهم في أحد ، وقائدهم في الأحزاب وما بعدها ، ولمّا كان الفتح قال العباس للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لما أسلم أبو سفيان ليلتئذ كما هو معروف ، وكان صديقاً له ـ : يا رسول الله إنّ أبا سفيان رجل يحبّ الفخر فاجعل له ذكراً فقال : من دخل دار أبى سفيان فهو آمن ، ثمّ منّ على قريش بعد أنّ ملكهم يومئذٍ وقال : اذهبوا فأنتم الطلقاء وأسلموا )(١) .

نكات مهمّة وردت في هذه النصوص يجب الالتفات إليها :

١ ـ الطلقاء هم كّفار قريش.

٢ ـ اذهبوا فأنتم الطلقاء.

٣ ـ وأعتقهم على الإسلام.

٤ ـ لمّا أسلم أبو سفيان.

وليت كلّ منصف يسمع كلام هذا الرجل الذي يدافع عن أبي سفيان ، ويفكر في معركة بدر وأُحد ، ثمّ الجمل وصفين ، ثمّ وكربلا كم جرت فيها من دماء بسبب من يصفهم أنّهم أبلوا في سبيل الله.

نعم ، إنّهم عندما يحسّوا بقوّة الدليل يقولون : لا يجوز ذكر مساوئهم ، بل لهم ما كسبوا ولنا ما كسبنا ، ويستدلون بقوله تعالى :( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (٢) . على أنّه لا يجوز ذكر الماضين بسوء ، ويقرءون ( تسألون ) بفتح التاء ، أي : لا تسألوا أنتم عن عملهم ، والآية واضحة أنّها بضم التاء ، أي : أنّ الله لا يسألكم عن عملهم ،

__________________

١ ـ تاريخ ابن خلدون ج ٣ ، ص ٣.

٢ ـ البقرة (٢) : ١٣.

١٩٨

أي : لا يؤاخذكم بذنبهم ، فلن يأمرنا أن لا نسأل عن عمل الماضيين وهو تعالى قد حثّنا في القرآن الكريم على استطلاع أخبار الأمم السابقة لنستخلص منها العبر ، فقد حكى الله لنا عن فرعون وهامان ونمرود وقارون وعن الأنبياء السابقين وشعوبهم ، وذلك لا للتسلية ولكن ليعرفنا الحق من الباطل ، ولكي نعرف أولياء الله فنواليهم ، ونعرف أعداؤه تعالى فنعاديهم ، وهذا ما طلبه منا القرآن الكريم ، بل نحن نرى ونسمع من خطابات القوم ومواعظهم ودروسهم ذكر أعمال أصحاب موسى وعيسى ، فلم عندما يصل الدور إلى أصحاب نبيّنا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله هنا لا يجوز ذكر أعمالهم غير الصالحة أمّا مدحهم فهو ثواب عظيم؟! فالآية واضحة أنّها تعني أنّ الله تعالى لا يسأل قوم عن عمل آخرين ، أي : لا يؤاخذهم بذنوبهم ، وهذا مصداق لقوله تعالى :( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىُ ) (١) .

وأنقل نصّاً عن تفسير الشيخ الطوسي ( رحمه الله ) : ( قوله تعالى :( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ، المعنى : قيل : في تكرار قوله( تلك أمّة قد خلت ) قولان :

أحدهما : أنّه عني بالأوّل : إبراهيم ومن ذكر معه من الأنبياء.

والثاني : عنى به أسلافهم من آبائهم الذين هم على ملّتهم.

والقول الثاني : إنّ الجواب إذا اختلفت أوقاته فكان الثاني في غير موطن الأوّل ، وكان بعد مدّة من وقوع الأوّل بحسب ما اقتضاه الحال لم يك ذلك معيباً

__________________

١ ـ فاطر : ١٨.

١٩٩

عند أهل اللغة ولا عند العقلاء ، والاعتراض عليهم بقوله :( تلك أمّة قد خلت ) أنّه إذا لم تشكوا أنّ يكون فرضهم غير فرض الأمّة التي قد خلت قبلكم ، ولا تحتجّوا بأنّه لا يجوز أنّ يخالفوا عليه ، ولو سلم لكم أنّهم كانوا على ما تذكرونه ما جاز لكم أنّ تتركوا ما نقل لكم الله عنه على لسان رسوله محمّد صلّى الله عليه وآله ، إذ لله تعالى أن ينسخ من الشريعة ما شاء على ما يعلم في ذلك من وجوه الحكمة ، وعموم المصلحة.

وقيل : أن ذلك ورد مورد الوعظ لهم بأنّه : إذا كان لا يؤخذ الإنسان إلّا بعمله فينبغي أن تحذروا على أنفسكم ، وتبادروا بما يلزمكم ، ولا تتكلوا على فضائل الأباء والأجداد ، فإنّ ذلك لا ينفعكم إذا خالفتم أمر الله فيما أوجب عليكم.

والمعني بقوله :( تلك أمّة قد خلت ) على قول قتادة والربيع : إبراهيم عليه السلام ومن ذكر معه.

وعلى قول الجبائي ، وغيره : من سلف من آبائهم الذين كانوا على ملّتهم اليهودية والنصرانية.

وقد بيّنا فيما مضى أنّ الأمّة : الجماعة التي تؤم جهة واحدة كأمّة محمّد صلّى الله عليه وآله التي تؤم العمل على ما دعا إليه ، وكذلك أمم سائر الأنبياء صلّى الله عليه وعليهم.

والخلاء الفراغ يقال : فرغ من عمله ، وفرغ من مكانه. وإنّما قيل لما مضى : خلا ؛ لأنّه خلا منه مكانه.

والكسب : الفعل الذي يجرّ لفاعله نفعاً أو يدفع به ضرراً. وإنّما قيل : كسب السيئة ؛ لأنّه أجلب النفع عاجلاً.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383