ولاية أهل البيت عليهم السلام في القرآن والسنّة

ولاية أهل البيت عليهم السلام في القرآن والسنّة15%

ولاية أهل البيت عليهم السلام في القرآن والسنّة مؤلف:
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 383

ولاية أهل البيت عليهم السلام في القرآن والسنّة
  • البداية
  • السابق
  • 383 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 74434 / تحميل: 5846
الحجم الحجم الحجم
ولاية أهل البيت عليهم السلام في القرآن والسنّة

ولاية أهل البيت عليهم السلام في القرآن والسنّة

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

٦. قال الإمام أبو حفص النسفي: والشفاعة ثابتة للرسل والأخيار في حق أهل الكبائر بالمستفيض من الأخبار خلافاً للمعتزلة(١) .

٧. وقد أيّد التفتازاني في شرح العقائد النسفيّة هذا الرأي وصدّقه دون أي تردّد وتوقف(٢) .

٨. قال الطبرسي في تفسيره: إنّ الأمّة أجمعت على أنّ للنبي شفاعة مقبولة، وان اختلفوا في كيفيتها، فعندنا هي مختصة بدفع المضار وإسقاط العقاب عن مستحقيه من مذنبي المؤمنين، وقالت المعتزلة: هي في زيادة المنافع للمطيعين والتائبين دون العاصين، وهي ثابتة عندنا للنبي ولأصحابه المنتجبين والأئمّة من أهل بيته الطاهرين ولصالح المؤمنين، وينجي الله تعالى بشفاعتهم كثيراً من الخاطئين، ويؤيده الخبر الذي تلقته الأمّة بالقبول وهو قوله: « ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي » وما جاء في روايات أصحابنا رضي الله عنهم ـ مرفوعاً إلى النبي ـ أنّه قال: « إنّي أشفع يوم القيامة فأُشفّع، ويشفع عليعليه‌السلام فيشفّع، ويشفع أهل بيتي فيشفّعون، وإنّ أدنى المؤمنين شفاعة ليشفّع في أربعين من إخوانه كل قد استوجب النار » وقوله تعالى مخبراً عن الكفار عند حسراتهم على الفائت لهم مما حصل لأهل الإيمان من الشفاعة( فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ *وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) (٣) .

وقال أيضاً: أصل الشفاعة من الشفع الذي هو ضد الوتر، فإنّ الرجل إذا شفع بصاحبه فقد شفعه أي صار ثانيه، ومنه الشفيع في الملك لأنّه يضم ملك غيره إلى ملك نفسه، واختلفت الأمّة في كيفية شفاعة النبي يوم القيامة، فقالت المعتزلة ومن تابعهم: يشفع لأهل الجنّة ليزيد الله درجاتهم. وقال غيرهم من فرق

__________________

(١ و ٢) العقائد النسفية: ١٤٨.

(٣) مجمع البيان: ١ / ١٠٣ ـ ١٠٤.

١٨١

الأمّة: بل يشفع لمذنبي الأمّة ممّن ارتضى الله دينهم ليسقط عقابهم بشفاعته(١) .

٩. قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى:( وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ) (٢) : كانت اليهود تزعم أنّ آباءهم الأنبياء يشفعون لهم فأُويسوا.

فإن قلت: هل فيه دليل على أنّ الشفاعة لا تقبل للعصاة ؟

قلت: نعم، لأنّه نفى أن تقضي نفس عن نفس حقاً أخلّت به من فعل أو ترك، ثم نفى أن تقبل منها شفاعة شفيع، فعلم أنّها لا تقبل للعصاة(٣) .

١٠. قال الإمام ناصر الدين أحمد بن محمد بن المنير الإسكندري المالكي في كتابه الانتصاف فيما تضمّنه الكشاف من الاعتزال :

وأمّا من جحد الشفاعة فهو جدير أن لا ينالها، وأمّا من آمن بها وصدّقها وهم أهل السنّة والجماعة فأُولئك يرجون رحمة الله، ومعتقدهم أنّها تنال العصاة من المؤمنين وإنّما ادّخرت لهم، وليس في الآية دليل لمنكريها، لأنّ قوله:( يَوْماً ) في قوله:( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ) أخرجه منكراً، ولا شك أنّ في القيامة مواطن، يومها معدود بخمسين ألف سنة، فبعض أوقاتها ليس زماناً للشفاعة، وبعضها هو الوقت الموعود، وفيه المقام المحمود لسيد البشر، عليه أفضل الصلاة والسلام. وقد وردت آي كثيرة ترشد إلى تعدّد أيامها واختلاف أوقاتها، منها قوله تعالى:( فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ ) (٤) مع قوله:( وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ) (٥) فيتعين حمل الآيتين على يومين مختلفين، ووقتين متغايرين، أحدهما محل للتساؤل والآخر ليس له، وكذلك

__________________

(١) مجمع البيان: ٢ / ٨٣.

(٢) البقرة: ٤٨.

(٣) الكشاف: ١ / ٢١٤ ـ ٢١٥. وما ذكره صاحب الكشاف في تفسير الشفاعة راجع إلى منهجه الذي هو منهج المعتزلة في معنى الشفاعة، والهدف من نقل كلامه هو الإيعاز إلى كون أصل الشفاعة أمراً متفقاً عليه بين المسلمين، وأمّا الخصوصية فسنبحث عنها في الفصول القادمة.

(٤) المؤمنون: ١٠١.

(٥) الصافات: ٢٧.

١٨٢

الشفاعة، وأدلة ثبوتها لا تحصى كثرة، ورزقنا الله الشفاعة »(١) .

وقال الزمخشري أيضاً في تفسير قوله:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (٢) ( لا بَيْعٌ فِيهِ ) حتى تبتاعوا ما تنفقونه و( لا خُلَّةٌ ) حتى يسامحكم أخلاّؤكم به، وإن أردتم أن يحط عنكم ما في ذمتكم من الواجب لم تجدوا شفيعاً يشفع لكم في حط الواجبات، لأنّ الشفاعة ثمّة في زيادة الفضل(٣) .

وقال صاحب الانتصاف: أمّا القدرية فقد وطّنوا أنفسهم على حرمان الشفاعة، وهم جديرون أن يُحرموها، وأدلّة أهل السنّة على إثباتها للعصاة من المؤمنين أوسع من أن تحصى، وما أنكرها القدرية إلّا لإيجابهم مجازاة الله للمطيع على الطاعة وللعاصي على المعصية، إيجاباً عقلياً ـ على زعمهم ـ فهذه الحالة في إنكار الشفاعة نتيجة تلك الضلالة(٤) .

وعلى أي تقدير، فالحاصل من المناظرة التي دارت بين الفريقين هو اتفاق الأمّة الإسلاميّة على الشفاعة وان اختلفوا في تفسيرها.

١١. قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى:( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ) (٥) تمسّكت المعتزلة بهذه الآية على نفي الشفاعة لأهل الكبائر، وأجيبوا بأنّها مخصوصة بالكفار، للآيات والأحاديث الواردة في الشفاعة.

__________________

(١) الانتصاف بهامش الكشاف: ١ / ٢١٤، المطبوع عام ١٣٦٧.

(٢) البقرة: ٢٥٤.

(٣) الكشاف: ١ / ٢٩١.

(٤) الانتصاف بهامش الكشاف: ١ / ٢٩١.

(٥) البقرة: ٤٨.

١٨٣

ويؤيده أنّ الخطاب هنا مع الكفار، والآية نزلت ردّاً لما كانت اليهود تزعم أنّ آباءهم تشفع لهم(١) .

١٢. قال الفتّال النيسابوري ـ الذي هو أحد علمائنا في القرن السادس الهجري ـ: لا خلاف بين المسلمين أنّ الشفاعة ثابتة، إلّا أنّ أصحاب الوعيد ـ وهم المعتزلة ـ قالوا: مقتضاها زيادة الثواب والدرجات. وقلنا مقتضاها: إسقاط المضار والعقوبات(٢) .

١٣. يقول الرصاص ـ الذي هو من علماء القرن السادس الهجري ـ في كتابه « مصباح العلوم في معرفة الحي القيوم »: إنّ شفاعة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم القيامة ثابتة قاطعة(٣) .

١٤. قال الرازي في تفسير قوله:( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ ) (٤) .

أجمعت الأمّة على أنّ لمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله شفاعة في الآخرة، وذهبت المعتزلة إلى أنّ تأثير الشفاعة هو حصول الزيادة من المنافع على قدر ما استحقوه، غير إنّ الحق هو ما اتفقت عليه الأمّة من أنّ تأثير الشفاعة هو إسقاط العذاب عن المستحقين للعقاب، إمّا بأن يشفع لهم في عرصة القيامة حتى لا يدخلوا النار، أو إن دخلوا النار فيشفع لهم حتى يخرجوا منها ويدخلوا الجنّة، واتفقوا على أنّها ليست للكفار(٥) .

__________________

(١) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ١ / ١٥٢.

(٢) روضة الواعظين: ٤٠٦.

(٣) مصباح العلوم في معرفة الحي القيوم المعروف بالثلاثين مسألة.

(٤) البقرة: ١٢٣.

(٥) مفاتيح الغيب: ٣ / ٥٥ ـ ٥٦.

١٨٤

١٥. قال المحقق الطوسي: والإجماع على الشفاعة ( أي الإجماع قائم على ثبوت الشفاعة ) وقيل لزيادة المنافع، ويبطل منّا في حقهصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

يريد بقوله: « يبطل » انّ الشفاعة لو كانت لطلب زيادة المنافع لكنّا شافعين للنبي، لأنّا نطلب زيادة المنافع وهو مستحق للثواب، والتالي باطل، لأنّ الشفيع أعلى مرتبة من المشفوع له، وهنا ليس كذلك.

ثم استدل المحقق الطوسي على الشفاعة بالحديث المروي: « ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي »(٢) .

١٦. وقال العلّامة الحلّي في شرحه لعبارة المحقق الطوسي: اتفقت العلماء على ثبوت الشفاعة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ويدل عليه قوله تعالى:( عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) قيل انّه الشفاعة، واختلفوا فقالت الوعيدية: إنّها عبارة عن طلب زيادة المنافع للمؤمنين المستحقين للثواب. وذهبت التفضلية إلى أنّ الشفاعة للفسّاق من هذه الأمّة في إسقاط عقابهم وهو الحق(٣) .

ويقول أيضاً في كتابه « نهج المسترشدين »: يجوز العفو عن الفاسق، لأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ثبت له الشفاعة، وليست في زيادة المنافع، وإلاّ لكنا شافعين فيه، فثبت في انتفاء المضار وإسقاط العقوبة(٤) .

١٧. قال ابن تيمية الحراني الدمشقي: للنبي في القيامة ثلاث شفاعات ـ إلى أن قال ـ وأمّا الشفاعة الثالثة فيشفع في من استحق النار، وهذه الشفاعة لهصلى‌الله‌عليه‌وآله ولسائر النبيّين والصدّيقين، وغيرهم في من استحق النار أن لا يدخلها

__________________

(١) وقوله يبطل أي: لا يقع منّا في حق النبي.

(٢) شرح تجريد الاعتقاد: ٢٦٢ ـ ٢٦٣، طبعة صيدا.

(٣) شرح تجريد الاعتقاد: ٢٦٢ ـ ٢٦٣، طبعة صيدا.

(٤) نهج المسترشدين: ٢٠٥.

١٨٥

ويشفع في من دخلها.

ثم قال: وتفاصيل ذلك مذكورة في الكتب المنزلة من السماء والإثارة من العلم المأثور عن الأنبياء وفي العلم الموروث عن محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

وله رسالة أُخرى أسماها بالاستغاثة، وقد اعتبر فيها المعتزلة والخوارج الذين أنكروا الشفاعة بمعناها المعروف، وهو إسقاط العقوبة، أهل ضلال وبدعة، وقال: وأمّا من أنكر ما ثبت بالتواتر والإجماع فهو كافر بعد قيام الحجة(٢) .

١٨. وقال ابن كثير الدمشقي ـ في تفسير قوله سبحانه:( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا بِإِذْنِهِ ) (٣) ـ: هذا من عظمته وجلاله، وكبريائه عزّ وجلّ أنّه لا يتجاسر أحد على أن يشفع لأحد عنده، إلّا بإذنه له في الشفاعة، كما في حديث الشفاعة عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله : « آتي تحت العرش فأخرّ ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقال: ارفع رأسك وقل تسمع، واشفع تشفّع، قال: فيحدّ لي حداً فأُدخلهم الجنة »(٤) .

١٩. قال نظام الدين القوشجي في شرحه على شرح التجريد: اتفق المسلمون على ثبوت الشفاعة لقوله تعالى:( عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) وفسّر بالشفاعة.

ثم أشار إلى اختلاف المعتزلة والأشاعرة في معنى الشفاعة واختار المذهب المعروف فيها(٥) .

__________________

(١) مجموعة الرسائل الكبرى: ١ / ٤٠٣ ـ ٤٠٤.

(٢) الاستغاثة في ضمن مجموعة الرسائل الكبرى: ١ / ٤٨١.

(٣) البقرة: ٢٥٦.

(٤) تفسير ابن كثير: ١ / ٣٠٩.

(٥) شرح التجريد للقوشجي: ٥٠١.

١٨٦

٢٠. قال الفاضل المقداد: في شرحه منهج المسترشدين: وأمّا ثبوت الشفاعة فلوجوه: الأوّل: الإجماع، والثاني قوله تعالى:( اسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ ) والفاسق مؤمن لِما يجئ فوجب دخوله في من يستغفر له النبي(١) .

٢١. قال المحقق الدواني: الشفاعة لدفع العذاب ورفع الدرجات حق لمن اذن له الرحمان من الأنبياءعليهم‌السلام ، والمؤمنين بعضهم لبعض لقوله تعالى:( يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ) (٢) .(٣)

٢٢. قال الشعراني في المبحث السبعين: إنّ محمداً هو أوّل شافع يوم القيامة وأوّل مشفّع، وأولاه فلا أحد يتقدم عليه. ثمّ نقل عن جلال الدين السيوطي: انّ للنبي يوم القيامة ثمان شفاعات، ولهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم القيامة ثمان شفاعات، وثالثها في مَنْ استحق دخول النار أن لا يدخلها(٤) .

٢٣. قال العلّامة المجلسي: أمّا الشفاعة فاعلم أنّه لا خلاف فيها بين المسلمين بأنّها من ضروريات الدين، وذلك بأنّ الرسول يشفع لأمّته يوم القيامة، بل للأمم الأخرى، غير أنّ الخلاف إنّما هو في معنى الشفاعة وآثارها، وهل هي بمعنى الزيادة في المثوبات أو إسقاط العقوبة عن المذنبين ؟

وخصّها المعتزلة والخوارج بالمعنى الأوّل، قائلين: بأنّه يجب عليه سبحانه أن يفي بوعيده في موارد العقاب، وليس بإمكان الشفاعة أن تنقض هذه القاعدة المسلّمة. والشيعة ذهبت إلى أنّ الشفاعة تنفع في إسقاط العقاب، وان كانت ذنوبهم من الكبائر، ويعتقدون أيضاً بأنّ الشفاعة ليست منحصرة في النبي والأئمّة من بعده بل للصالحين أن يشفعوا بعد أن يأذن الله لهم بذلك(٥) .

__________________

(١) إرشاد الطالبين: ٢٠٦.

(٢) طه: ١٠٩.

(٣) شرح العقائد العضدية: ٢ / ٢٧٠.

(٤) اليواقيت والجواهر: ٢ / ١٧٠.

(٥) راجع بحار الأنوار: ٨ / ٢٩ ـ ٦٣، وحق اليقين: ٤٧٣.

١٨٧

٢٤. وقال محمد بن عبد الوهاب مؤسس المذهب الوهابي: وثبتت الشفاعة لنبينا محمد يوم القيامة ولسائر الأنبياء والملائكة والأولياء والأطفال حسبما ورد، ونسألها من المالك لها والآذن فيها بأن نقول: أللّهمّ شفّع نبينا محمداً فينا يوم القيامة. أو أللّهمّ شفّع فينا عبادك الصالحين، أو ملائكتك، أو نحو ذلك مما يطلب من الله لا منهم. إلى أن قال: إنّ الشفاعة حق في الآخرة، ووجب على كل مسلم الإيمان بشفاعته، بل وغيره من الشفعاء، إلّا أنّ رجاءها من الله فالمتعيّن على كل مسلم صرف وجهه إلى ربّه فإذا مات استشفع الله فيه نبيّه.

ويظهر من أكثر كلماته أنّه معتقد بأصل الشفاعة، ولكن اختلافه مع غيره من المسلمين في طلبها، فذهب إلى أنّه لا يطلب إلّا من الله لا من الشفعاء(١) .

٢٥. وقال السيد شبّر: اعلم أنّه لا خلاف بين المسلمين في ثبوت الشفاعة لسيد المرسلين في أُمّته، بل في سائر الأمم الماضين، بل ذلك من ضروريات الدين، قال الله تعالى:( عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) وإنّما اختلف في معناها، فالذي عليه الفرقة المحقة وأكثر العامة: أنّ الشفاعة كما تكون في زيادة الثواب كذلك تكون لإسقاط العقاب عن فسّاق المسلمين المستحقين للعذاب. والخوارج والمعتزلة: على أنّها لا تكون إلّا في طلب زيادة المنافع للمؤمنين المستحقين للثواب. ولكن الأدلة النقلية والعقلية تبطل مذهبهم في الواقع(٢) .

٢٦. وقال الشيخ محمد عبده: ما ورد في إثبات الشفاعة من المتشابهات وفيه يقضي مذهب السلف بالتفويض والتسليم وإنّها مزية يختص الله بها من يشاء يوم القيامة ـ عبر عنها سبحانه بهذه العبارة « الشفاعة » ـ ولا نحيط بحقيقتها مع تنزيه الله جل جلاله عن المعروف في معنى الشفاعة في لسان

__________________

(١) راجع الهدية السنية الرسالة الثانية: ٤٢.

(٢) حق اليقين: ٢ / ١٨٦.

١٨٨

التخاطب العرفي، وأمّا مذهب الخلف فلنا أن نحمل الشفاعة فيه على أنّها دعاء يستجيبه الله تعالى، والأحاديث الواردة في الشفاعة تدل على هذا، ثم ذكر حديثاً من الصحيحين، وقال في الهامش بمثل هذا « أي دعاء يستجيبه الله تعالى » قال شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره ولم يعدّوه تأويلا(١) .

والعجب أنّ الأستاذ محمد عبده ـ مع ماله من الاطّلاع الوسيع على المعارف الإسلامية وبالأخص فيما يرجع إلى تفسير القرآن ـ انّه كلّما مر على أُمور ترتبط بأولياء الله مثل الشفاعة والاستشفاع منهم والتوسل والزيارة يضطرب بيانه، ولا يعمد إلى كشف الحقيقة بحرية كاملة ـ كما هو دأبه في سائر المسائل ـ ونرى الأستاذ في هذه المسائل يبدو كأنّه قد تأثر بمقالة الوهابيين، وأغلب الظن أنّ الأستاذ بريء عن أكثر ما نسب إليه بالصراحة في هذه المباحث في التفسير فأنّي أُجلّه عن النزعة الوهابية، ولعل تلميذه السيد محمد رشيد رضا قد أودع كلمات الأستاذ في قوالب خاصة تتناسب مع نزعاته الوهابية، ومع ذلك فالعلم عند الله سبحانه. أللّهمّ(٢) اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان.

ولأجل ذلك نرى تلميذه الكاتب لدروسه يثير إشكالات ثلاثة حول الشفاعة، التي هي دون شأن الأستاذ، وهي :

١. ليس في القرآن نص قطعي في وقوع الشفاعة، ولكن ورد الحديث بإثباتها فما معناها ؟!

٢. الشفاعة لا تتحقق إلّا بترك الإرادة وفسخها لأجل الشفيع، فأمّا الحاكم العادل فإنّه لا يقبل الشفاعة إلّا إذا تغيّر علمه بما كان أراده، أو حكم به، كأن

__________________

(١) تفسير المنار: ١ / ٣٠٧.

(٢) نعم ما ذكره الأستاذ في تفسير سورة الفاتحة: ٤٦ ـ ٤٧ يؤيد أنّ الأستاذ كان يميل إلى الحركة الوهابية التي بلغت موجتها إلى تلك الديار في ذلك الأوان.

١٨٩

كان قد أخطأ ثمّ عرف الصواب ورأى أنّ المصلحة أو العدل في خلاف ما كان يريده أو حكم به.

٣. ما ورد في إثبات الشفاعة من المتشابهات(١) .

وستوافيك الإجابة عن هذه الإشكالات في فصله الخاص على وجه الإجمال، وأمّا التفصيل فموكول إلى الرسالة التي أفردناها في الشفاعة وأبحاثها، وقد نقلت الرسالة إلى اللغة العربية بواسطة الأخ الفاضل الشيخ جعفر الهادي دامت إفاضاته.

٢٧. وقال السيد سابق: المقصود بالشفاعة سؤال الله الخير للناس في الآخرة، فهي نوع من أنواع الدعاء المستجاب، ومنها الشفاعة الكبرى، ولا تكون إلّا لسيدنا محمد رسول الله فإنّه يسأل الله سبحانه أن يقضي بين الخلق ليستريحوا من هول الموقف فيستجيب الله له فيغبطه الأوّلون والآخرون، ويظهر بذلك فضله على العالمين، وهو المقام المحمود الذي وعد الله به في قوله سبحانه:( وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) ثم نقل الآيات والروايات المربوطة بالشفاعة والمثبتة لها، وقد ذكر بعض شروط قبولها(٢) .

٢٨. قال الشيخ الجليل محمد جواد البلاغي: إنّ الشفاعة قد نفاها القرآن من جهة وهي الشفاعة للمشركين، أو الشفاعة التي يزعمها المشركون للذين يتخذونهم آلهة مع الله بزعم أنّهم قادرون بإلهيتهم بحيث تنفذ شفاعتهم طبعاً وحتماً، أو شفاعة الشافع الذي يطاع حتماً كما في سورة ياسين الآية ٢٢، والمؤمن الآية ١٨، والزمر الآية ٤٤، والمدثر الآية ٤٨، وأثبتها من جهة أُخرى بالاستثناء بل بالاستدراك الدافع لإيهام نفيها المطلق عن كل أحد فقال تعالى:( إِلا بِإِذْنِهِ ) ،

__________________

(١) تفسير المنار: ١ / ٣٠٧.

(٢) العقائد الإسلامية: ٧٣. والسيد سابق مؤلف إسلامي مصري قدير.

١٩٠

( إِلا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ) ،( إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَٰنِ عَهْداً ) ،( إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ) ،( إِلا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ) ،( إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ) ،( إِلا مَن شَهِدَ بِالحَقِّ ) ،( إِلا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَىٰ ) ، كما في سورة البقرة الآية ٢٥٦، ويونس الآية ٦، ومريم الآية ٩٠، وطه الآية ١٠٨، والأنبياء الآية ٢٩، وسبأ الآية ٢٢، والزخرف الآية ٨٦، والنجم الآية ٢٧. وانّ الشفاعة المستثناة والمستدركة في آيات البقرة ويونس وسبأ مطلقة غير مختصة بيوم القيامة ولا بما قبل وفاة الشافع في الدنيا(١) .

٢٩. قال الدكتور سليمان دنيا: والشفاعة لدفع العذاب ورفع الدرجات حق لمن أذن له الرحمن من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والمؤمنين بعضهم لبعض لقوله تعالى:( يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ) وقوله تعالى:( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا بِإِذْنِهِ ) (٢) .

٣٠. قال الحكيم المتألّه العلّامة الطباطبائي: إنّ الآيات الواردة حول الشفاعة بين ما يحكم باختصاص الشفاعة بالله عزّ اسمه، وبين ما يعمّمها لغيره تعالى بإذنه وارتضائه ونحو ذلك، وكيف كان فهي تثبت الشفاعة بلا ريب غير أنّ بعضها تثبتها بنحو الأصالة لله وحده من غير شريك، وبعضها تثبتها لغيره بإذنه وارتضائه.

ثمّ ذكر وجه الجمع بين الآيات والذي سيوافيك توضيحه عند البحث عن الآيات(٣) .

٣١. يقول الأستاذ الشيخ محمد الفقيّ: وقد أعطى الله الشفاعة لنبيه ولسائر

__________________

(١) آلاء الرحمان: ١ / ٦٢.

(٢) محمد عبده بين الفلاسفة والكلاميين: ٢ / ٦٢٨.

(٣) الميزان: ١ / ١٥٦.

١٩١

الأنبياء والمرسلين وعباده الصالحين، وكثير من عباده المؤمنين لأنّه وإن كانت الشفاعة كلّها لله كما قال:( قُل للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) (١) إلّا أنّه تعالى يجوز أن يتفضّل بها على من اجتباهم من خلقه واصطفاهم من عباده، وكما يجوز أن يعطي من ملكه ما شاء لمن شاء، ولا حرج.

ثم أخذ يستدل على الشفاعة بالآيات والروايات والأشعار المأثورة عن الصحابة(٢) .

٣٢. قال المحقّق الكبير السيد أبو القاسم الخوئي: يستفاد من القرآن الكريم أنّ الله تعالى قد أذن لبعض عباده بالشفاعة إلّا أنّه لم ينوّه بذكرهم عدا الرسول الأكرم فقد قال الله تعالى:( لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَٰنِ عَهْداً ) ـ إلى أن قال ـ: والروايات الواردة عن النبي الأكرم وعن أوصيائه الكرام في هذا الموضوع متواترة(٣) .

هذا نزر من كثير، وغيض من فيض، أتينا به ليكون القارئ على بصيرة من موقف علماء الإسلام ـ من الفريقين ـ من هذه المسألة الهامة، وهي نصوص وتصريحات لا تترك ريباً لمرتاب ولا شكاً لأحد، غير انّ لبعض الكتّاب المصريين الذين تأثّروا بالموجة الوهابية(٤) التي وصلت إليهم في أوائل القرن الرابع عشر وقد دعمتها السياسات الحاكمة في ذلك الزمان، موقفاً آخر يتنافى مع هذا الموقف الإسلامي العام وها نحن نأتي بنص كلامه.

٣٣. قال محمد فريد وجدي في دائرة معارفه: الشفاعة هي السؤال في

__________________

(١) الزمر: ٤٤.

(٢) التوسل والزيارة في الشريعة الإسلامية: ٢٠٦، ط. مصر.

(٣) البيان: ١ / ٣٤٢.

(٤) مع أنّ مؤسس الوهابية لا ينكر أصل الشفاعة وإنّما ينكر جواز طلبها من الشفيع ويقول: إنّه يجوز أن يقال: أللّهمّ شفّع رسول الله في حقي، ولا يجوز أن يقال: اشفع يا رسول الله في حقي، وللبحث مع هؤلاء في هذا الموضوع مقام آخر.

١٩٢

التجاوز عن الذنوب، وفي الاصطلاح الديني سؤال بعض الصالحين من الله التجاوز عن معاقبة بعض المذنبين، وقد أضرت هذه العقيدة بأكثر الأديان وما هي إلّا تحريف تقصّده الكهّان ليكون لهم شأن عند الناس، وقد جاء الإسلام فقوّم عقائد الأمم من هذه الجهة، فذكر الشفاعة ثم قال:( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا بِإِذْنِهِ ) وقال تعالى:( وَكَم مِن مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَىٰ ) فمتى علم المسلم أنّ الشافع والمشفع هو الله وانّ لا أحد يمكنه أن يغني فتيلاً، رفع وجهه من الاستشفاع بمثله إلى الاستشفاع بربّه، وناهيك بهذا بعداً عن الوثنية وقرباً من الديانة الإلهية(١) .

لم يكن المتوقع من مثل عالم بارع قد أفنى عمره في الذب عن الإسلام بتآليفه القيمة أن يتعامل مع الشفاعة بمثل ما تعامل به « فريد وجدي » فإنّ كلامه هذا يكشف عن عدم تدبّره في معنى الشفاعة التي نطق بها القرآن وأثبتتها الأحاديث واختارها العلماء، فإنّك ترى أنّه ينكر الشفاعة في بدء كلامه ويتلقّاها اعتقاداً ضاراً صنعه الكهنة وبثّوه بين الأمّة، حيث قال: وقد أضرّت هذه العقيدة بأكثر الأديان وما هي إلّا تحريف تقصّده الكهان ليكون لهم شأن عند الناس. ولكنه سيعود في ذيل كلامه إلى العقيدة الوهابية في باب طلب الشفاعة الظاهرة في ثبوتها في نفس الأمر، غير أنّه ليس لنا إلّا أن نطلبها من الله سبحانه حيث قال: فمتى علم المسلم أنّ الشافع والمشفع هو الله وأنّ لا أحد يمكنه أن يغني فتيلاً، رفع وجهه من الاستشفاع بمثله إلى الاستشفاع بربِّه.

وسوف توافيك الآثار التربوية للشفاعة الصحيحة التي كشف عنها القرآن وأيّدها العقل والبرهان، وأنّ ما رآه فريد وجدي عقيدة ضارة فما هي إلّا الشفاعة التي اخترعتها الوثنية أو اليهودية البعيدة عن العقيدة الإسلامية، وليس من

__________________

(١) دائرة معارف القرن الرابع عشر: ٥ / ٤٠٢، مادة شفع.

١٩٣

الصحيح في منطق العقل أن يفسر أصل من أُصول الإسلام ببعض العقائد الدارجة بين الأقوام.

٣٤. وليعلم أنّه ليس الكاتب فريداً في هذا الخلط والخبط بل تبعه معاصره الشيخ الطنطاوي حيث يعترف في تفسيره بأنّ الشفاعة من أُصول الإسلام المسلّمة وانّه لا اختلاف بين المعتزلة والفلاسفة وسائر الفرق الإسلامية في أصل ثبوتها، ولو كان هناك اختلاف فإنّما الاختلاف في مفادها ومرماها، وحيث إنّه لم يتمكن من تحليلها بالمعنى الصحيح الذي يؤيده العقل أخذ يفسّرها بتفسير بعيد عن واقع الشفاعة، وإليك نص كلامه :

إنّ النبي كالشمس المشرقة وهي مشرقة على اليابسة والبحار والآكام والنبات والشجر والأرض السبخة والأرض الطيّبة، وكل من تلك المواضع يأخذ حظه من ضوئها على مقدار استعداده، فهكذا الأمّة التي تتبع نبياً في أطوارها وأحوالها الدينية على حسب أمزجتها وأخلاقها وعوائدها وبيئتها فلا جرم يختلفون في قبوله اختلاف أحوالهم وتكون أحوالهم في الآخرة على مقتضى ذلك الاختلاف إلى أن قال: ـ واعلم أنّ للشفاعة بذوراً ونباتاً وثمراً، فبذورها العلم، ونباتها العمل، وثمرها النجاة في الآخرة، فالأنبياء: علّموا الناس في الدنيا وفيها غرسوا البذور، والناس إذا عملوا بما سمعوا منهم ينالون تلك الثمرة وهي النجاة والارتقاء، فمبادئ الشفاعة العلم وأوسطها العمل ونهايتها الفوز والرقيّ في الآخرة، فالشفاعة تابعة للاقتداء فمن لم يعمل بما أنزل الله وتجافى عن الحق فقد عطّل ما وهب له من بذر الشفاعة(١) .

وقد نسب هذا المقال إلى محي الدين بن العربي، والإمام الغزالي، وسيوافيك بقية كلامه عند البحث عن الإشكالات.

__________________

(١) الجواهر في تفسير القرآن الكريم: ١ / ٦٤ ـ ٦٥، بتلخيص منا.

١٩٤

لو صحّ ما ذكره من المعنى للشفاعة لما كان منافياً للمعنى الآخر الذي ورد في الكتاب وتضافرت به الروايات كما سيجيئ.

ولا يخفى أنّ تفسير الشفاعة بما يتراءى في كلامه وان كان صحيحاً في حدّ ذاته، ويليق أن يسمّى الأوّل بالشفاعة القيادية، والثانية بالشفاعة العملية، غير أنّ هذين المعنيين لا يمتان إلى ما اتفقت عليه الأمّة في معنى الشفاعة بصلة، حيث إنّهم فسروها بالحديث المتواتر عنه من ادّخار شفاعته لأصحاب الكبائر أو للمذنبين من الأمّة، وأين هذا من الشفاعة القيادية التي لا تختص بصنف دون صنف، بل هي فيض إلهي عام شامل لجميع الناس حيث بعث الله سبحانه نبيّه بشيراً ونذيراً للعالمين كافة ؟

وكما أنّ الشفاعة القيادية لا تمّت إلى الشفاعة المصطلحة بصلة، فهكذا الشفاعة بمعنى العمل بالأحكام الإلهية والوظائف الدينية، فإنّها وإن كانت تنجي الإنسان يوم التناد والعذاب، لكنها غير مربوطة بما هو المصطلح في ذاك الباب.

وبالجملة فإنّ الكاتب لما لم يتوفّق لحل بعض معضلات الباب أخذ يؤوّل الشفاعة إلى المعنيين الآخرين، وليست لهما أية صلة بالمراد من الآيات والروايات الواردة في الباب.

وسيوافيك المعنى الحقيقي للشفاعة بعد سرد الآيات وتفسير بعضها ببعض ولأجل ذلك يجب علينا أن نقدم البحث عن مفاد الآيات، وتفسير بعضها ببعض حتى يرتفع الاختلاف الذي يلوح للقارئ لأوّل وهلة ثم البحث عن معنى الشفاعة ولأجل ذلك أفردنا الفصل التالي.

١٩٥

٢

الشفاعة في القرآن الكريم

قد وردت مادة الشفاعة ـ بصورها المتنوعة ـ ثلاثين مرّة في سور شتى، ووقعت فيها مورداً للنفي تارة، والإثبات أُخرى، هذا وكثرة الورود والبحث عنها ينم عن عناية القرآن بهذا الأصل، سواء في مجال النفي أو في مجال الإثبات.

غير أنّ الاستنتاج الصحيح من الآيات يحتاج إلى جمع الآيات في صعيد واحد، حتى يفسر بعضها ببعض، ويكون البعض قرينة على الأخرى، إذ من الخطأ الواضح أن نقتصر في تفسير الشفاعة وأخواتها بآية واحدة، ونغمض العين عن أُختها التي ربّما يمكن أن تكون قرينة للمراد، وهذا الاسلوب أي البحث عن آية بمفردها مع الغض عن أُختها جرّ الويل والويلات على الباحثين في الأبحاث القرآنية، وأدّى إلى ظهور مذاهب مختلفة في المعارف والعقائد، بحيث نرى أنّ صاحب كل عقيدة يستدل على اتجاهه بآية قرآنية، أو بنص نبويّ، غير أنّه أخطأ في الاعتماد على آية قد جاء توضيحها في آيات أُخرى، وهذا النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: « إنّ القرآن يصدق بعضه بعضاً » ويقول أيضاً: « إنّ القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضاً، ولكن نزل أن يصدق بعضه بعضاً » وقال أيضاً: « إنّما هلك من كان قبلكم بهذا ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وانّما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضاً، فلا تكذبوا بعضه ببعض، فما علمتم منه فقولوا وما جهلتم فكلوه إلى عالمه »(١) .

__________________

(١) الدر المنثور: ٢ / ٦.

١٩٦

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : « وينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض »(١) .

ولأجل ذلك لا مناص من طرح جميع الآيات المرتبطة بالشفاعة والاستنتاج من جميعها جملة واحدة، ولذلك نقول: إنّ الآيات المربوطة بالشفاعة على أصناف يرمي كل صنف إلى هدف خاص، فنقول :

الصنف الأوّل: الآيات النافية للشفاعة

لا نجد من هذا الصنف إلّا آية واحدة تنفي الشفاعة في بادئ الأمر بقول مطلق، وهي قوله سبحانه:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (٢) .

وهذه الآية بظاهرها تنفي الشفاعة بتاتاً، ولعل ظاهرها هو المستمسك الوحيد لمن اعتقد بأنّ الشفاعة عقيدة اختلقها الكهّان ليكون لهم شأن عند الناس(٣) .

إنّ منشأ الخطأ في تفسير هذه الآية هو الاقتصار على آية واحدة والغض عمّا ورد في موردها من الآيات الأخر.

ولأجل ذلك لو نظرنا إلى الآية التالية لهذه الآية نجد أنّها تصرّح بوجود الشفاعة عند الله سبحانه إذا كانت مقترنة بإذنه فقال سبحانه:( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا بِإِذْنِهِ ) (٤) أفبعد هذا التصريح يصح لنا أن نعتقد بنفي الشفاعة

__________________

(١) نهج البلاغة شرح عبده: ٢ / ٣٢ الخطبة ١٤٩.

(٢) البقرة: ٢٥٤.

(٣) لاحظ الفصل السابق: ص ١٩٣.

(٤) البقرة: ٢٥٥.

١٩٧

بتاتاً وننسبها إلى القرآن، ونرمي الاعتقاد بالشفاعة إلى الكهنة ؟ كلا.

ثم إنّ الدليل الواضح على أنّ مرمى الآية هو نفي قسم خاص من الشفاعة لا جميع أقسامها هو قوله سبحانه:( وَلا خُلَّةٌ ) فإنّ الظاهر من هذه الكلمة انقطاع أواصر الرفاقة يوم القيامة، من غير فرق بين المؤمن والكافر، والحال أنّ القرآن يصرح بانقطاعها بين الكفار خاصة حيث يقول سبحانه:( الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا المُتَّقِينَ ) (١) فإنّ الظاهر من الاستثناء وإن كان عدم العداوة بين المتقين إلّا أنّ المتبادر من مجموع الآية هو بقاء الرفاقة الدنيوية مضافاً إلى انتفاء العداوة.

قال في الكشاف: تنقطع في ذلك اليوم كل خلّة بين المتخالّين في غير ذات الله، وتنقلب عداوة ومقتاً، إلّا خلّة المتصادقين في الله فإنّها الخلّة الباقية المزدادة قوة إذا رأوا ثواب التحابّ في الله تعالى والتباغض في الله(٢) .

وقال العلّامة الطباطبائي: إنّ من لوازم المخالة إعانة أحد الخليلين الآخر في مهام أُموره، فإذا كانت لغير وجه الله كان الإعانة على الشقوة الدائمة والعذاب الخالد كما قال تعالى حاكياً عن الظالمين يوم القيامة:( يَا وَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً *لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي ) (٣) .

وأمّا الأخلاّء من المتقين فإنّ خلّتهم تتأكد وتنفعهم يومئذ.

وفي الخبر النبوي: « إذا كان يوم القيامة انقطعت الأرحام وقلّت الأنساب وذهبت الاخوة إلّا الاخوة في الله، وذلك قوله:( الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا المُتَّقِينَ ) »(٤) .

__________________

(١) الزخرف: ٦٧.

(٢) الكشاف: ٣ / ١٠٢.

(٣) الفرقان: ٢٨ ـ ٢٩.

(٤) الميزان: ١٨ / ١٢٠ ـ ١٢١.

١٩٨

وعلى الجملة: إنّ انقلاب المخالة إلى العداوة لأجل ما جاء في قوله سبحانه:( لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ ) فهذه العلّة منتفية في حق المتقين، فأواصر الرفاقة باقية في يوم القيامة.

وعلى ذلك فكما أنّ المنفي هو قسم خاص من المخالة دون مطلقها، فهكذا الشفاعة، فالمنفي بحكم السياق قسم خاص من الشفاعة.

أضف إلى ذلك أنّ الظاهر هو نفي الشفاعة في حق الكفّار بدليل ما ورد في ذيل الآية حيث قال:( وَالكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) أفبعد هذه الوجوه الثلاثة يصح لنا أن نجعل الآية دليلاً على انتفاء الشفاعة من أصلها يوم القيامة ؟ كلا.

الصنف الثاني: ما يفنّد عقيدة اليهود في الشفاعة

هذا الصنف من الآيات ـ الذي ستوافيك نصوصه ـ يهدف إلى نفي عقيدة اليهود في الشفاعة حيث كان لهم في هذا المجال عقيدة خاصة كشفت عنها الآيات القرآنية، وكانوا يعتقدون بأنّهم الشعب المختار، وهم أبناء الله وأحباؤه، قال سبحانه حاكياً عنهم:( وَقَالَتِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ ) (١) .

كانوا يعتقدون بأنّ الأواصر القومية القائمة بينهم وبين أنبيائهم هي التي تنجيهم وتدخلهم الجنة ويكفي في ذلك مجرّد الانتماء القومي والنسبي إلى أنبيائهم، حيث قالوا:( وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الجَنَّةَ إِلا مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ ) (٢) .

وقد بلغت مغالاتهم في هذا المجال إلى درجة أنّهم زعموا أنّهم لا تمسهم النار إلّا أياماً معدودة، قال سبحانه حاكياً عنهم:( لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّاماً مَعْدُودَةً ) ولأجل ذلك نرى أنّه سبحانه يرد على تلك المزعمة في ذيل تلك الآية

__________________

(١) المائدة: ١٨.

(٢) البقرة: ١١١.

١٩٩

بقوله:( قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللهِ عَهْداً ) (١) .

كما يرد عليهم في آية أُخرى بقوله:( تِلْكَ ( أي عدم دخول الجنة إلّا من كان هوداً أو نصارى )أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ *بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (٢) .

فهؤلاء كانوا يعتقدون بأنّ أنبياءهم وأسلافهم سوف يشفعون لهم وينجونهم من العذاب سواء أكانوا عاملين بشريعتهم أم عاصين، وأنّ مجرد الانتماء والانتساب سوف يكفيهم في ذلك المجال.

كانت هذه عقيدتهم في باب الشفاعة، وفي هذا المجال وردت آيات تندد بعقيدتهم وترفض وتفند ما يذهبون إليه قائلة:( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العَالَمِينَ *وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ ) (٣) .

وأنت ترى أن وحدة السياق تقضي بأنّ المراد من نفي قبول الشفاعة هو الشفاعة الخاطئة التي كانت تعتقدها اليهود في ذلك الزمان من دون أن يشترطوا في الشفيع والمشفوع له شرطاً أو أمراً، ونظير ذلك قوله سبحانه حيث يقول بعد قوله:( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ ) ،( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ ) (٤) .

ولأجل ذلك لا يمكن أن يُتمسَّك بهاتين الآيتين لنفي أصل الشفاعة في يوم القيامة.

__________________

(١) البقرة: ٨٠.

(٢) البقرة: ١١١ ـ ١١٢.

(٣) البقرة: ٤٧ ـ ٤٨.

(٤) البقرة: ١٢٢ ـ ١٢٣.

٢٠٠

وقوله :( ولا تسألون ) معناه لا تطالبون. والسؤال الطلب. وهو أيضاً الإخبار الذي اقتضاه ما تقدّم من الكلام ، أي : لا يقال لكم : لم عصي آباؤكم؟ وإنّما يقال لكم : لم عصيتم ولم ظلمتم )؟(١) .

نعود لحديث المنزلة الذي هو محور هذا البحث بعد أن نقلنا نصوصه من الكتب المعتبرة ، وبيّنا بعضاً مما يجب تبيينه وأمّا من حيث السند فنقول :

كلّ ذي اطّلاع ومطالعة يعلم بأنّ المشهور بين إخواننا من أهل السنّة قطعية أحاديث الصحيحين ، لكن البعض منهم لم يلتزموا بهذه القاعدة ؛ لأنّهم يناقشون في سند حديث المنزلة فلم يسلّموا بصحته رغم أنّه في الصحاح ، فيظهر أنّه ليس هناك قاعدة يلجؤون إليها ويلتزمون بها دائماً ، وإنّما هي أهواء يسمونها قواعد وأسس ، فيطبقونها متى ما شاؤا ويتركونها متى ما شاؤا!!

ورواة هذا الحديث من الصحابة أكثر من ثلاثين ، وربما يبلغون الأربعين رجل وامرأة.

وأقرّ بصحته وتواتره أعلامهم ، يقول ابن عبد البر في الاستيعاب عن هذا الحديث : ( هومن أثبت الأخبار وأصحّها. قال : وطرق حديث سعد بن أبي وقاص كثيرة جدّاً. فذكر عدّة من الصحابة الذين رووا هذا الحديث ، ثمّ قال : وجماعة يطول ذكرهم ). ويقول الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرح البخاري بعد أنّ يذكر أسامي عدّة من الصحابة ، ويروي نصوص روايات جمع منهم يقول : ( وقد استوعب طرقه ابن عساكر في ترجمة علي )(٢) .

__________________

١ ـ التبيان ، الشيخ الطوسي ، تفسير الآية المذكورة ١ : ٤٩١.

٢ ـ الاستيعاب٣ : ١٠٩٧ ، وتهذيب الكمال٢ : ٤٨٣ ، فتح الباري في شرح صحيح البخاري ٧ : ٦٠.

٢٠١

فهذا الحديث مضافاً إلى أنّه متواتر عند أصحابنا الإمامية هو من الأحاديث الصحيحة المعروفة المشهورة عند أهل السنة ، بل هو من الأحاديث المتواترة عندهم كذلك.

يقول الحاكم النيسابوري : ( هذا حديث دخل في حدّ التواتر )(١) . كما أنّ الحافظ السيوطي أورد هذا الحديث في كتابه الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة ، وتبعه الشيخ علي المتقي في كتابه قطف الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة.

كذبة مفضوحة :

١ ـ إنّهم لم يكتفوا بحذف وتضعيف ماجاء في أهل بيت النبوّةعليهم‌السلام بل عمد بعضهم إلى وضع حديث المنزلة للشيخين ، فروى عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : ( أبو بكر وعمر منّي بمنزلة هارون من موسى )(٢) .

ونقول في الجواب :

ما أسرع ما ينقض الكذب نفسه أو يفضحه أبناء جنسه ، فلقد أورد ابن الجوزي هذا الحديث في العلل المتناهية في الأحاديث الواهية ، وقال : ( حديث لا يصح )(٣) . ويقول الذهبي في كتابه ميزان الاعتدال : ( هذا حديث منكر )

__________________

١ ـ كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب للحافظ الكنجي : ٢٨٣ ، الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة : حرف الألف.

٢ ـ تاريخ بغداد ١١ / ٣٨٥ رقم ٦٢٥٧ ، كنوز الحقائق من حديث خير الخلائق ـ هامش الجامع الصغير ـ حرف الألف.

٣ ـ العلل المتناهية ١ / ١٩٩ رقم ٣١٢.

٢٠٢

وقال في مكان آخر : ( خبر كذب )(١) . وابن حجر العسقلاني أيضاً يكذّب هذا الحديث في لسان الميزان(٢) .

فهذا الحديث الموضوع الذي شيعة أبي بكر أنفسهم ينصّون على عدم صحّته ، بالاضافة أنّه غير موجود في شيء من الصحاح والمسانيد والسنن ، ويفهم حتّى الطفل أنّه وضع مقابل حديث المنزلة الذي ذكرنا مصادره آنفا ، فماذا يسمى هذا أيّها الأحرار في دينكم وضمائركم؟!

٢ ـ قالوا : إنّ هارون لم يخلف موسى إلّا في فترة ذهابه فقط ، فكذا علي خلفه في فترة غيابهصلى‌الله‌عليه‌وآله في غزوة تبوك.

والجواب :

١ ـ لقد بيّنا آنفاً منازل هارون من موسى ، وكلّها ثابتة للإمام عليعليه‌السلام بالنصّ إلّا النبوّة فقد استثنيت ولم يستثنى غيرها من المنازل.

٢ ـ لقد كرر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حديث المنزلة في موارد عديدة ، منها :

أ ـ غزوة تبوك ، على ما مرّ تفصيله.

ب ـ يوم غدير خمّ ، كما بيّنا في حديث الغدير.

ج ـ يوم المؤاخاة ، كما أخرجه أحمد بإسناده عن محدوج بن زيد الباهلي قال : ( آخى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين المهاجرين والأنصار فبكى علي عليه السلام ، فقال رسول الله : ما يبكيك؟ فقال : لم تواخ بيني وبين أحد ، فقال :

__________________

١ ـ ميزان الاعتدال ٥ / ٤٧٣ رقم ٦٩٠٠.

٢ ـ لسان الميزان ٥ / ٩ رقم ٥٨٢٨.

٢٠٣

إنّما ادخرتك لنفسي ثمّ قال : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى )(١) .

د ـ عندما كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في دار أم سلمة ، إذ أقبل علي يريد الدخول على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : ( يا أم سلمة هل تعرفين هذا؟ قالت : نعم. قال : هذا علي سيط لحمه بلحمي ودمه بدمي ، وهو منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبي بعدي )(٢) .

وعن ابن عباس أنّه قال : سمعت عمر وعنده جماعة ، فتذاكروا السابقين إلى الإسلام ، فقال عمر : ( أمّا علي ، فسمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول فيه ثلاث خصال ، لوددت أنّ تكون لي واحدة منهن ، كانت أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس ، كنت أنا وأبو عبيدة وأبو بكر وجماعة من أصحابه ، إذ ضرب النبي صلّى الله عليه وآله على منكب علي فقال له : يا علي أنت أوّل المؤمنين إيماناً ، وأوّل المسلمين إسلاماً ، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى )(٣) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله كما في حديث الدار : ( فأيّكم يوآزرني على أمري هذا؟ قال علي : أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه ، فقال : إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعواً. وفي رواية : ( وزيري ووصيي ووارثي وخليفتي من

__________________

١ ـ فراجع مصادر حديث الغدير والمؤاخاة في هذا الكتاب.

٢ ـ ترجمة الإمام علي بن أبي طالب من تاريخ دمشق لابن عساكر ج ١ / ٧٨ ح ١٢٥ و ٤٠٦ ، والمناقب للخوارزمي ص ٨٦ ، وينابيع المودّة للقندوزي ١ : ١٥٨ ، ٣٨٩ ، ومجمع الزوائد ج ٩ / ١١١ ، وكفاية الطالب للكنجي الشافعي ص ١٦٨ ط الحيدرية وص ٧٠ ط الغري ، وميزان الاعتدال ج ٢ / ٣ ، فرائد السمطين ج ١ / ١٥٠.

٣ ـ رواه ابن أبي الحديد في شرح النهج ، والخوارزمي في مناقبه ، وابن عساكر في تاريخ دمشق : ٣ / ٣٣١ ، والمتقي الهندي في كنز العمال : ١٥ / ١٠٨ و ١٠٩.

٢٠٤

بعدي ).

وعن أسماء بنت عميس قالت : ( سمعت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم ) يقول : اللهم إنّي أقول كما قال أخي موسى : اللهم اجعل لي وزيراً من أهلي أخي علياً ، اشدد به أزري ، وأشركه في أمري ، كي نسبحك كثيراً ، ونذكرك كثيراً ، إنّك كنت بنا بصيراً )(١) .

٣ ـ إنّ خليفة موسى هو يوشع ؛ لأنّ هارون مات في زمن موسى.

والجواب :

إنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بيّن أنّ منزلة علي منه هي منزلة هارون من موسى ، ولم يقل إنّ ما يحصل لهارون يحصل لعلي.

__________________

١ ـ الرياض النضرة ٣ : ١١٨ ، ترجمة الإمام علي من تاريخ دمشق ١ / ١٢٠ ـ ١٢١ رقم ١٤٧ ، الدر المنثور ٥ / ٥٦٦ ، ولمزيد من المصادر راجع مصادر حديث الدار في هذا الكتاب.

٢٠٥

الدليل العاشر : حديث النجوم

إنّ حدبث النجوم وحديث السفينة وحديث الثقلين وغيرها كلّها تؤكد أنّ أهل البيتعليهم‌السلام هم الفرقة الناجية من بين (٧٣) فرقة ؛ لأنّ لفظ ( من ركبها نجا ) ، ولفظ ( لن تضلّوا ما ان تمسكتم بهما أبداً ) ولفظ ( أمان لأهل الأرض ) كلّها تدلّ بوضوح أنّهم الفرقة الناجية من الضلال والانحراف.

وفيها دلالة على العصمة ؛ إذ إنّهم أمان فمن تبعهم أمن على دينه ونفسه ، وهذا لا يكون إلّا مع معصومين لا يخالفون الحق ولا يختلفون فيه ، وقد بيّنا في آية التطهير وغيرها من هم أهل البيتعليهم‌السلام أكثر فكن معنا.

وأمّا نصوص حديث النجوم من كتب أهل السنة المعتبرة :

الصواعق لابن حجر :

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق ، وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف ، فإذا خالفتها قبيلة من العرب ، اختلفوا فصاروا حزب إبليس )(١) .

__________________

١ ـ الصواعق المحرقة لابن حجر ٢ : ٤٤٥ ، ونحوه في ينابيع المودّة للقندوزي الحنفي ٢ : ٤٤٣ ط اسلامبول ، وجواهر البحار للنبهاني ج ١ / ٣٦١ ط الحلبي بمصر ، وذخائر العقبى لمحب الدين الطبري ص ١٧ ، نظم درر السمطين للزرندي الحنفي ص ٢٣٤ ، إحياء الميت للسيوطي بهامش الاتحاف ص ١١٢ ، الجامع الصغير للسيوطي ٢ : ٦٨٠ ، إسعاف الراغبين للصبّان الشافعي بهامش نور الأبصار ص ١٢٨ ط السعيدية وص ١١٧.

٢٠٦

كنز العمّال :

( النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق ، وأهل بيتي أمان لامتي من الاختلاف ، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس ).

( النجوم أمان لأهل السماء ، فإذا ذهبت أتاها ما يوعدون ، وأنا أمان لأصحابي ما كنت فيهم ، فإذا ذهبت أتاهم ما يوعدون ، وأهل بيتي أمان لأمّتي ، فإذا ذهب أهل بيتي أتاهم ما يوعدون )(١) .

المستدرك على الصحيحين :

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق ، وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف ، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس )(٢) .

قال الحاكم : ( هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ).

محاولة تحريف الكلم عن مواضعه :

١ ـ قال ابن حجر : ( قال بعضهم : يحتمل أنّ المراد بأهل البيت ـ الذين هم أمان ـ علماؤهم ؛ لأنّهم الذين يهتدى بهم كالنجوم ، والذين إذا فقدوا جاء أهل الأرض من الآيات ما يوعدون )(٣) .

أقول : يكفي من ابن حجر وأمثاله الاعتراف بهذا الحديث ، أمّا محاولته

__________________

١ ـ كنز العمال ج ١٢ ، ص ١٠٢.

٢ ـ المستدرك ٣ : ١٤٩. ونوه في ٢ : ٤٤٨.

٣ ـ الصواعق المحرقة : ١٥٢.

٢٠٧

صرف الحديث عن المعصومينعليهم‌السلام وجعله عام في العلماء ، فهذا لايجد له مجالاً في عقول أهل العلم والتحقيق والإنصاف ؛ لأنّ علماءهم مختلفون إلى مذاهب شتّى فأيّهم الأمان من الضلال؟!

أمّا من هم أهل البيت الذين يعنيهم الحديث؟ فالجواب في حديث الكساء ، ذلك الحديث الذي أكثر طرقه عن أم سلمة ، حيث أرادت الدخول مع الخمسةعليهم‌السلام تحت الكساء ، فجذب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الكساء ، ولم يأذن لها بالدخول ، وقال لها : ( وإنك على خير أو إلى خير ) والحديث أيضاً وارد عن عائشة.

أخرج الترمذي عن عمرو بن أبي سلمة ، قال : لمّا نزلت هذه الآية على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم :( إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) ، في بيت أم سلمة ؛ فدعا فاطمة وحسناً وحسيناً ، فجللهم بكساء ، وعلي خلف ظهره ، فجلله بكساء ، ثم قال : ( اللهم هؤلاء أهل بيتي ، فأذهب عنهم الرجس ، وظهّرهم تطهيراً ) ، قالت أمّ سلمة : وأنا معهم يا رسول الله؟ قال : ( أنت على خير )(١) .

وقال الألباني : ( صحيح )(٢) .

٢ ـ هناك حديث يروونه وهو : أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ( أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم ).

الجواب :

__________________

١ ـ سنن الترمذي ٥ : ٣٢٨ ، كتاب تفسير القرآن.

٢ ـ صحيح سنن الترمذي ٣ : ٣٠٦.

٢٠٨

إنّ مصير محاولاتهم الفشل ؛ لأنّهم يكذّب بعضهم بعضاً ، وأمّا أهل البيتعليهم‌السلام فيدعم بعضهم بعضاً.

ولقد ضعّف حديث أصحابي كالنجوم أعلامهم ومفسّريهم ومحدّثيهم ، كالحافظ الدارقطني ، إذ أخرجه في كتابه ( غرائب مالك ) ، ذكر ذلك الحافظ ابن حجر العسقلاني.

وكذّبه ابن حزم وحكم ببطلانه وكونه موضوعاً.

وذكر ذلك جماعة ، منهم : أبو حيّان حيث قال عند ذكره هذا الحديث : ( قال الحافظ أبو محمّد بن أحمد بن حزم في رسالته في ( إبطال الرأي والقياس والاستحسان والتعليل والتقليد ) ما نصّه : ( وهذا خبر مكذوب موضوع باطل لم يصح قط )(١) .

وضعّف حديث أصحابي كالنجوم الحافظ البيهقي في كتابه ( المدخل ) على ما نقل عنه الحافظ ابن حجر العسقلاني(٢) .

وقال الحافظ أبو عمر ابن عبد البر ما نصّه : قد روى أبو شهاب الحناط ، عن حمزة الجزري ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : أصحابي مثل النجوم فأيهم أخذتم بقوله اهتديتم.

وهذا إسناد لا يصح ، ولا يرويه عن نافع من يحتج به.

وقد روى في هذا الحديث إسناد غير ما ذكر البزار عن سلام بن سليم قال :

__________________

١ ـ المحيط ٥ / ٥٢٨ ، سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة ١ / ٧٨.

٢ ـ الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف المطبوع على هامش الكشاف ٢ / ٦٢٨.

٢٠٩

حدّثنا الحارث بن غصين ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم.

قال أبو عمرو : هذا إسناد لا تقوم به حجّة ، لأنّ الحارث بن غصين مجهول(١) .

وصرّح بضعف حديث أصحابي كالنجوم الحافظ ابن عساكر.

وقال الحافظ ابن الجوزي ما نصّه : روى نعيم بن حماد ، قال : نا عبد الرحيم ابن زيد العمي ، عن أبيه ، عن سعيد بن المسيب ، عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : سألت ربّي فيما يختلف فيه أصحابي من بعدي ، فأوحى إليّ يا محمّد : إنّ أصحابك عندي بمنزلة النجوم في السماء بعضها أضوأ من بعض ، فمن أخذ بشيء مما عليه من اختلافهم فهو على هدى.

وقال يحيى بن معين : عبد الرحيم كذّاب(٢) .

قدح الحافظ ابن دحية في حديث أصحابي كالنجوم ونفى صحتّه ، فقد قال الحافظ الزين العراقي ما نصّه : ( وقال ابن دحية ـ وقد ذكر حديث أصحابي كالنجوم ـ حديث لا يصح(٣) .

وقال الحافظ أبو محمّد بن أحمد بن حزم في رسالته ( إبطال الرأي والقياس والاستحسان والتعليل والتقليد ) ما نصّه : وهذا خبر مكذوب عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مما في أيدي العامة ترويه عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : إنما مثل أصحابي كمثل النجوم ـ أو كالنجوم ـ بأيّها اقتدوا اهتدوا.

__________________

١ ـ جامع بيان العلم ٢ / ٩٠ ـ ٩١.

٢ ـ العلل المتناهية في الأحاديث الواهية ، وفيض القدير في شرح الجامع الصغير ٤ / ٧٦.

٣ ـ تعليق تخريج أحاديث منهاج البيضاوي. جاء ذلك عنه في عبقات الأنوار.

٢١٠

وهذا كلام لم يصح عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رواه عبد الرحيم بن زيد العمى ، عن أبيه ، عن سعيد بن المسيب ، عن ابن عمر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم .

وإنّما أتى ضعف هذا الحديث من قبل عبد الرحيم ، لأنّ أهل العلم سكتوا عن الرواية لحديثه.

والكلام أيضاً منكر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يثبت ، والنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يبيح الاختلاف من بعده من أصحابه.

قال ابن معين : عبد الرحيم بن زيد كذّاب ليس بشيء ، وقال البخاري : هو متروك.

وقدح شمس الدين ابن القيم الجوزية في حديث النجوم ، حيث قال في ردّ المقلّدين وأدلّتهم :

الوجه الخامس والأربعون : قولهم : يكفي في صحة التقليد الحديث المشهور : أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم.

جوابه من وجوه :

أحدها : إنّ هذا الحديث قد روي من طريق الأعمش عن أبي سفيان بن جابر ، ومن حديث سعيد بن المسيب عن ابن عمر ، ومن طريق حمزة الجزري عن نافع عن ابن عمر ، ولا يثبت شيء منها.

قال ابن عبد البر : حدّثنا محمّد بن إبراهيم بن سعيد : إنّ أبا عبد الله بن مفرح حدّثهم ثنا محمّد بن أيوب الصّموت قال : قال لنا البزار : وأمّا ما يروى عن النبي

٢١١

صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم فهذا الكلام لا يصح عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) .

وقال الحافظ الزين العراقي ما نصّه : ( حديث أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم : رواه الدارقطني في ( الفضائل ) وابن عبد البر في ( العلم ) من طريقه من حديث جابر وقال : هذا إسناد لا تقوم به حجّة ، لأنّ الحارث بن غصين مجهول.

ورواه عبد بن حميد في ( مسنده ) من رواية عبد الرحيم بن زيد العمي ، عن أبيه ، عن ابن المسيب ، عن ابن عمر. قال البزار : منكر لا يصح.

ورواه ابن عدي في ( الكامل ) من رواية حمزة بن أبي حمزة النصيبي ، عن نافع ، عن ابن عمر بلفظ : فأيّهم أخذتم بقوله ـ بدل اقتديتم ـ وإسناده ضعيف من أجل حمزة فقد اتّهم بالكذب.

ورواه البيهقي في ( المدخل ) من حديث عمر ومن حديث ابن عباس بنحوه ، ومن وجه آخر مرسلاً وقال : متنه مشهور وأسانيده ضعيفة لم يثبت في هذا إسناد.

قال البيهقي : ويؤدّي بعض معناه حديث أبي موسى : النجوم أمنة لأهل السماء ـ وفيه ـ : أصحابي أمنة لأمّتي الحديث.

والدارقطني في ( المؤتلف ) من رواية سلام بن سليم ، عن الحارث بن غصين ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر مرفوعاً ، وسلام ضعيف.

__________________

١ ـ إعلام الموقعين ٢ / ٢٢٣.

٢١٢

وأخرجه في ( غرائب مالك ) من طريق حميد بن زيد ، عن مالك ، عن جعفر ابن محمّد ، عن أبيه ، عن جابر في أثناء حديث وفيه : فبأيّ قول أصحابي أخذتم اهتديتم ، إنما مثل أصحابي مثل النجوم من أخذ بنجم منها اهتدى ، وقال : لا يثبت عن مالك ، ورواته دون مالك مجهولون.

ورواه عبد بن حميد والدارقطني في ( الفضائل ) من حديث حمزة الجزري ، عن نافع ، عن ابن حمزة. وحمزة اتّهموه بالوضع.

ورواه القضاعي في ( مسند شهاب ) من حديث أبي هريرة ، وفيه جعفر ابن عبد الواحد الهاشمي ، وقد كذّبوه.

ورواه ابن طاهر من رواية بشر بن الحسن ، عن الزبيري عدي ، عن أنس ، وبشر كان متّهماً أيضاً.

وأخرجه البيهقي في ( المدخل ) من رواية جويبر ، عن الضحاك ، عن ابن عباس. وجويبر متروك ، ومن رواية جويبر عن جوّاب بن عبيد الله مرفوعاً. وهو مرسل.

قال البيهقي : هذا المتن مشهور وأسانيده كلّها ضعيفة.

وروى في ( المدخل ) أيضاً عن ابن عمر : سألت ربّي فيما يختلف فيه أصحابي من بعدي ، فأوحى إليّ يا محمّد أصحابك عندي بمنزلة النجوم في السماء بعضها أضوأ من بعض فمن أخذ بشيء مما هم عليه من اختلافهم فهو عندي على هدى. وفي إسناده عبد الرحيم بن زيد العمي. وهو متروك(١) .

__________________

١ ـ الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف المطبوع بهامش الكتاب ، ٢ / ٦٢٨.

٢١٣

وقال القاضي الشوكاني في مبحث الإجماع : وهكذا حديث أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم ، يفيد حجّية قول كلّ واحد منهم.

وفيه مقال معروف ، لأنّ في رجاله عبد الرحيم العمي عن أبيه ، وهما ضعيفان جدّاً ، بل قال ابن معين : إنّ عبد الرحيم كذّاب ، وقال البخاري : متروك ، وكذا قال أبو حاتم.

وله طريق آخر فيه : حمزة النصيبي وهو ضعيف جدّاً ، قال البخاري : منكر الحديث ، وقال ابن معين : لا يساوي فلساً ، وقال ابن عدي : عامّة مروياته موضوعة.

وروى أيضاً من طريق : جميل بن زيد ، وهو مجهول(١) .

وما ذكرناه كان على سبيل المثال ، إذ إنّ هناك علماء كثيرين غيرهم يصرّحون بضعف حديث أصحابي كالنجوم ، فراجع(٢) .

هذه نبذة من أقوالهم في ردّ حديث أصحابي كالنجوم وتضعيفه والحكم بوضعه ، فثبت أنّه مجعول لأغراض سياسية ،( وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ) . بل إنّه لا يمكن أن يكون كلّ الصحابة أمان لمن تبعهم ؛ لأنّه صحب الرسول حتّى المنافقين ، كعبد الله بن أبي ومعاوية وامثالهم وممن انقلبوا من بعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله على أعقابهم خاسرين فقد ورد في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما من تبيين حال بعض الصحابة ماهذا نصّه : ( وإنّ أناساً من أصحابي

__________________

١ ـ إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول : ٨٣.

٢ ـ راجع : سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة ، النصائح الكافية لمن يتولّى معاوية.

٢١٤

يؤخذ بهم ذات الشمال ، فأقول : أصحابي أصحابي فيقال : إنّهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم )(١) .

وفي موضع آخر : ليرفعن رجال منكم ، ثمّ ليختلجن دوني فأقول : يا ربّ أصحابي ، فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك(٢) .

وفي موضع آخر : أقول : إنّهم منّي ، فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول : سحقاً لمن غيّر بعدي(٣) .

وفي آخر : فأقول : يا ربّ أصحابي ، فيقول : إنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى.

وفي آخر : بينا أنا قائم إذا زمرة حتّى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم ، فقال : هلمّ ، فقلت : أين؟ قال : إلى النار والله ، قلت : وما شأنهم؟ قال : إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى ، فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم(٤) .

قال القسطلاني في شرح صحيح البخاري في هذا الحديث : همل ، بفتح الهاء والميم : ضوال الإبل ، واحدها : هامل ، أو : الإبل بلا راع ، ولا يقال ذلك في الغنم ، يعني : أنّ الناجي منهم قليل في قلّة النعم الضالّة ، وهذا يشعر بأنّهم صنفان كفّار وعصاة.

نعم ، إنّ الصحابة لا يصح أن يكونوا كلّهم أمان ونجاة لمن اقتدى بهم ،

__________________

١ ـ صحيح البخاري ج ٤ ص ١١٠ ، وج ٥ ص ١٩١ وص ٢٤١ ، و ج ٧ ص ١٩٥ ، وسنن الترمذي ج ٤ ص ٣٨ ، وسنن النسائي ج ٤ ص ١١٧ ، وصحيح مسلم ج ٨ ص ١٥٧.

٢ ـ صحيح البخاري ٨ : ١٤٨ ، وسنن ابن ماجه ج ٢ص ١٠١٦ ، وسنن الترمذي ج ٥ص ٤.

٣ ـ صحيح البخاري ٨ : ١٥٠ و ٩ : ٥٩.

٤ ـ صحيح البخاري ٨ : ١٥٠ ـ ١٥١.

٢١٥

للأسباب التالية :

١ ـ لبطلان الحديث ، كما صرّح به أعلامهم.

٢ ـ كما نقلنا عن الصحاح : أنّ الصحابة منهم من ارتدّ على عقبيه ، ومنهم من غيّر وبدّل وأحدث بعد رحيل الرسول ، ومنهم من آذى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في أهل بيته ، ومنهم

٣ ـ ما كان من الشجار بين الصحابة الموجب للتباغض ، وحصل بينهم التشاتم(١) والمقاتلة والاختلافات القاضية بخروج إحدى الفريقين عن حيّز العدالة ، كما تشهد بذلك السقيفة وصفين والجمل و

٤ ـ لما أثبتنا من عدم كفاءتهم ، فراجع آية الذكر وحديث الثقلين ومدينة العلم.

٥ ـ ما أثبتنا من أدلّة في أنّ أهل البيتعليهم‌السلام هم الأمان وسفينة النجاة وباب حطّة :( وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ) .

٦ ـ بل إنّ القرآن الكريم قد أخبر بوجود منافقين في حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال تعالى :( وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أهل الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثمّ يُرَدُّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ ) .

وأخبر القرآن بأنّ البعض قد ينقلب على عقبيه :( وَمَا محمّد إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ) .

__________________

١ ـ سنبيّن ذلك حول قصّة السقيفة ، وما حصل مع سعد وعمر و

٢١٦
٢١٧

الدليل الحادي عشر : علي مع الحق

إنّ هذا الحديث القاضي بأحقيّة عليعليه‌السلام على لسان أصدق البشر يقتضي بطلان كلّ من تنازع معه في أيّ أمر.

أمّا صحّة هذا الحديث عن أصدق الخلقصلى‌الله‌عليه‌وآله فكالعادة نستدل بها من كتب المخالف.

المعيار والموازنة :

( قالت لها أم سلمة : يا بنت أبي بكر أبدم عثمان تطلبين؟ فوالله إن كنت لأشدّ الناس عليه وما كنت تدعينه إلّا نعثلاً ، أم على علي بن أبي طالب تنقمين وقد بايعه المهاجرون والأنصار ، أذكّرك الله وخمساً سمعتهن أنا وأنت من رسول الله صلّى الله عليه وآله ، قالت : وما هنّ؟ قالت : [ أتذكرين ] يوم أقبل رسول الله صلّى الله عليه وآله ونحن معه حتّى إذا هبط من ( قديد ) مال الناس ذات اليمين وذات الشمال ، فأقبل هو وعلي بن أبي طالب يتناجيان ، فأقبلت على جملك فنهيتك ، وقلت : رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم مع ابن عمّه ولعل لهما حاجة ، فعصيتيني ، فهجمت عليهما ، فلم تلبثي أنّ رجعت تبكين ، فقلت لك : قد نهيتك ، فقلت : والله ما جرّأني على ذلك إلّا أنّه يومي من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقلت لك : ما أبكاك؟ فقلت : هجمت عليهما ، فقلت : يا علي إنّما لي من رسول الله صلّى الله عليه من تسعة أيام يوم ، فلا تدعني ويومي؟ فأقبل عليّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم

٢١٨

غضباناً محمّراً وجهه ، فقال : والله لا يبغضه أحد من أهل بيتي وغيرهم إلّا خرج من الإيمان ، وإنّه مع الحق والحق معه. أتذكرين هذا؟ قالت : نعم.

قالت : ويوم كنت أنا وأنت مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنت تغسلين رأسه وأنا أحيس [ له ] حيساً وكان يعجبه فرفع رأسه إليّ فقال : يا بنت أبي أمية أعيذك بالله أنّ تكوني منبحة كلاب الحوأب ، وأنت يومئذٍ ناكبة عن الصراط ، فرفعت يدي من الحيس فقلت : أعوذ بالله وبرسوله من ذلك ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ إحداكن يفعل هذا.

أتذكرين هذا؟ قالت : نعم.

قالت : ويوم كنّا أزواج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في بيت حفصة بنت عمر فتبدّلنا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولبست كلّ امرأة منّا ثياب صاحبتها ، فأقبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم حتّى جلس إلى جنبك وكنت تعجبينه فقال ـ وضرب بيده على ظهرك ـ : أترين يا حميراء أنّي لا أعرفك أنّ لأمّتي منك يوماً مرّاً. أتذكرين هذا؟ قالت : نعم.

قالت : ويوم كنت أنا وأنت مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في بعض أسفاره وكان علي يتعاهد ثياب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ونعله ، فإذا رأى ثوبه قد توسّخ غسله ، وإذا رأى نعله قد نقبت أو رثّت خصفها ، فأقبل علي يوماً فأخذ نعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فخصفها في ظل سمرة ، فأقبل أبوك وعمر فاستأذنا ، فقمنا إلى الحجاب فدخلا ، ثمّ قالا : يا رسول الله ، إنّا والله ما ندري ما قدر ما تصحبنا ، أفلا تعلمنا خليفتك فينا فيكون مفزعنا إليه؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : أما أنّي قد أرى مكانه ولو فعلت لنفرتم عنه كما نفرت بنو إسرائيل عن هارون بن عمران.

٢١٩

فلمّا أن خرجا ، خرجت أنا وأنت فقلت له : يا رسول الله من كنت مستخلفاً عليهم؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : خاصف النعل ، قال : فنظرت إلى علي بن أبي طالب فقلت : يا رسول الله ما أرى إلّا علي بن أبي طالب ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : هو ذاك. أتذكرين هذا؟ قالت : نعم.

قالت : ويوم جمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أزواجه عند موته ، فقال : يا نسائي ، اتّقين الله وقرن في بيوتكن ولا يستفزنكن أحد. أتذكرين هذا؟ قالت : نعم.

فخرجت من عندها وقد ضعفت عزيمتها ، وفترت عن الخروج ، وأمرت مناديها فنادى بمكة : ألا إنّ أم المؤمنين قد بدا لها من الخروج. فاجتمع عليها طلحة والزبير ، ومروان بن الحكم وعبد الله بن الزبير ، فقلبوا رأيها وموهوا الأمور عليها ، واستغلطوها واستغفلوها )(١) .

( فلمّا سمع الناس قول عمار بن ياسر عرجوا عن أبي موسى وقالوا : يا أبا اليقظان ، إنّك كنت من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمكان الذي تعلم ، فنسألك بحقّ الله وحقّ رسوله هل سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكر هذه الفتنة؟ فقال عمار : أشهد أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أمرنا بقتال الناكثين والقاسطين ، وأمرنا بقتال المارقين من أهل النهروان بالطرقات ، وسمعنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : علي مع الحق والحق مع علي لا يفترقان حتّى يردا علي الحوض يوم القيامة. فقبل الناس قول عمار بن ياسر واستجابوا له(٢) .

__________________

١ ـ المعيار والموازنة : ٢٧.

٢ ـ المعيار والموازنة : ١١٩.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383