ولاية أهل البيت عليهم السلام في القرآن والسنّة

ولاية أهل البيت عليهم السلام في القرآن والسنّة15%

ولاية أهل البيت عليهم السلام في القرآن والسنّة مؤلف:
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 383

ولاية أهل البيت عليهم السلام في القرآن والسنّة
  • البداية
  • السابق
  • 383 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 74465 / تحميل: 5848
الحجم الحجم الحجم
ولاية أهل البيت عليهم السلام في القرآن والسنّة

ولاية أهل البيت عليهم السلام في القرآن والسنّة

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

لخّصت حواري معهنّ حول ماقد دار بيننا ، وماهو محور النقاش الذي أُواجهه في أكثر من مكان ، ومع أكثر من أخت ، ولم تسمح الظروف بالجواب الكافي مع مصدره ، والآن وبحمد الله تعالى تيسّرت الظروف بأن أكتب هذا البحث المتواضع علّه يكون فاتحة خير لنا بالثواب ولهنّ بالهداية ، ومضمون كلامي في هذا البحث لهنّ ولكلّ منصف هو الآتي :

١ ـ جواب على ما رأيته من تساؤلات بعض العيون الحائرة في هذا الزمان الذي كثرت فيه الفرق والأحزاب :( كلّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) (١) تلك العيون الحائرة الباحثة عن الحق لاتدري أين هو؟! ولو عرفته لاتّبعته ، وليس المتعصبة عن جهل أوعن علم فهي تدري بالحق ولكن تحرّفه على هواها كما فعله من كان قبلهم :( مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ) (٢) .

نعم ، فقد قرأت البراء ة والحيرة في عيون كثيرة ، وواجهت الكثير من الأسئلة البريئة التي لم تحن الفرصة للوفاء بحقّها ، فأنا هنا أردت أنّ أُبيّن لهم أسباب تعدد الفرق والأحزاب(٣) وأُبيّن الفرقة الناجية من بينها ، وأثبت ذلك بالعقل والنقل ـ إن شاء تعالى ـ علماً أنّ بحثي كلّه من الصحاح والمسانيد والكتب السنيّة المعتبرة ، ولا يعني أنّ كتبهم معتبرة عندنا ، إنّما نحاججهم بما

__________________

١ ـ الروم (٣٠) : ٣٢.

٢ ـ النساء (٤) : ٤٦.

٣ ـ لمزيد من التوضيح حول مسألة الخلاف بين البشر راجع كتاب ( بنور القرآن اهتديت ) للسيّد يحيى طالب مشاري. فقد كان التركيز على هذه المسألة أهمّ عامل في استبصاري.

٢١

يعتبروه هم صحيح.

٢ ـ جواب لكلّ منصف حيران لا يدري أين الحق هل هو مع السنّة أم هو مع الشيعة؟ فأنا في هذا البحث وضعت أصبعي على نقطة الخلاف ، وهي الولاية لأهل البيتعليهم‌السلام فإنّ ثبتت ثبت مذهب أتباعهم ( الشيعة ) ، وإن لم تثبت فالحقّ مع غيرهم ، ولكن سنثبت إن شاء الله تعالى من الكتاب والسنّة أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ترك أُمّته على المحجّة البيضاء ليلها كنهارها ، ولم يذهب عن الدنيا إلّا بعد الوصيّة الصريحة بخلافة أهل بيتهعليهم‌السلام في أُمّته ، وجعلهم الفرقة الناجية ، المنجية كما سنبيّن ذلك إن شاء الله تعالى.

٣ ـ وأُثبت من الكتاب والسنة أنّ الشيعة ليسو مغالين كما يزعم البعض بأنّهم هم أتباع أهل البيت وأنّ الشيعة مغالون! بل إنّ ما تعتقده الشيعة في أهل البيتعليهم‌السلام وارد فيهم حقّاً ، وأنّ المغالي ماهو إلّا من قال فيهم مالا يستحقّون ، والشيعة تكفّر الغلاة وتتبراء منهم ، أمّا من قال واعتقد في أهل البيتعليهم‌السلام بماجاء به القرآن الكريم والسنّة الصحيحة فهو متبّع ومسلّم للسنّة النبوية وللأمر الإلهي ، ونحن نسرد أدلّتنا على وجوب الولاية من الصحاح والمسانيد ، ونقول : أتلوا كتبكم لعلّكم تهتدون.

٤ ـ وأُثبت بالدليل أنّ الفرق والأحزاب الموجودة الآن ما هي إلّا نتيجة السقيفة ، وتدبير من خالفوا النصّ الواضح الصريح في الأمر الإلهي بالولاية لأهل البيتعليهم‌السلام ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا

٢٢

بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين) (١) واجتهدوا في دين الله بالهوى ، وغلبهم حبّ السلطة والتسلّط في الأرض ، فكان نتيجة ذلك تعدد الفرق والمذاهب والأحزاب إلى يومنا هذا ، وقد اعترف بذلك الصحابة والتابعين وتابعيهم ، فالحقّ يظهر مهما سعى الأعداء في إخفائه ، فإنّ الله يظهره على ألسنتهم ليكون حجّة عليهم ، كما قال تعالى لأهل الكتاب :( وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ) (٢) .

ولكنهم يحرفونه حسب أهوائهم والله تعالى يخاطبهم بأن يقرأوا كتبهم لتشهد عليهم( قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) (٣) .

ويدّعون أشياء كاذبة بدون دليل فيقول لهم المولى عزّ وجلّ :( قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) (٤) .

والشيعة دائماً تقول لمن يفترون عليهم : هاتوا صحاحكم ، هاتوا مسانيدكم وكتبكم المعتبرة لديكم لنرى من الصادق في مدّعاه؟! فإنّ صحاحكم تثبت صدق مدّعانا.

ولكن كما لجأ أهل الكتاب إلى تحريف كتبهم فكذلك حصل للطبعات الأخيرة من الصحاح والمسانيد وغيرها ، ولكن بقي رغم كلّ جهد بُذل في

__________________

١ ـ المائدة (٥) : ٦٧.

٢ ـ البقرة (٢) : ٨٩.

٣ ـ آل عمران (٢) : ٩٣.

٤ ـ البقرة (٢) : ١١١.

٢٣

إخفاء الحقيقة مع مرور الأزمان وتعدد الأيدي والأهداف ما يثبت مدّعانا ، ونحن نطلب النقاش العلمي لعلّ الله يهدي بأيدينا بعضاً من تلك العيون المتحيّرة والقلوب الصافية المنصفة ، ( لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أنّ يكون لك حمر النعم )(١) .

٥ ـ وبيّنت أنّ الولاية صمّام الأمان في كلّ مجتمع ، ولسبب جهلها أو سوء الاستفادة منها وجدنا مجتمعاتنا تزرع ولا تجني الثمر ، وفي فشل مستمر كما بيّن ذلك علماء السياسة والتأريخ.

٦ ـ وبيّنت أنّ الفرق والأحزاب قد ظهرت في المجتمع الإسلامي بعد رحيل مؤسس الدولة الإسلامية وواضع منهجها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والسبب هو عدم التزام الناس بالقيادة العلياً المنصوبة من قبل الله تعالى على لسان نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي )(٢) ، وأنّ سبب كلّ هذه الحيرة والضباب والتفرق ما هو إلّا نتيجة السقيفة ، ثمّ المناهج الأموية ، ثمّ العباسية ، ثمّ تداول الأيدي الحليفة لها أو اللامبالية في دينها ، حتّى وصل الأمر إلى أنّ الطالب العربي أو المسلم في الدول الإسلامية ـ باستثناء إيران الإسلامية الشيعية أو من درس في المعاهد الشيعية الخاصّة ـ يكمل الجامعة وهو يعتقد أنّ خولة بنت الأزور بطلة النساء ، ولا يعرف عن بطلة كربلاء شيئاً!! وأنّ عائشة أفضل النساء وأحبّهنّ إلى قلب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ولا يعرف عن قرّة عين

__________________

١ ـ صحيح البخاري ٤ : ٢٠٧ ، كتاب فضائل أصحاب النبي ، باب مناقب علي بن أبي طالب.

٢ ـ المصنّف ٧ : ٤١٨ ، كتاب الفضائل ، حديث٤١.

٢٤

الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وبضعته إلّا اليسير!!

وأنّ أبا بكر أفضل الصحابة ، ولا يعرف عن نفس الرسول وحبيبه ووصيّه إلّا اليسير!!

وأنّ خالد بن الوليد هو البطل الضرغام ، وصلاح الدين الأيوبي الفاتح الناصح ، ولا يعرف عن بطل كربلاء شيئاً!!

وأنّ معاوية حليم العرب وعمرو بن العاص داهيتهم ، ولا يعرف عن حليم آل البيت شيئاً!!

وهذا ما أنا متأكّدة منه في مناهجنا الدراسية الأكاديمية ، ولا يعرف الحقيقة إلّا من درس في المعاهد الدينية الشيعية ، أو ذهب إلى إيران الإسلامية ، أو من قرأ كتب الشيعة وتابع علماءهم ولو عبر الفضائيات ونحوها ، وأنا في هذا البحث أُثبت بالعقل والنقل أنّ في مناهجنا الدراسية الكثير من الظلم لأهل بيت النبوّةصلى‌الله‌عليه‌وآله في كتمان فضلهم ، ونشر فضل أعدائهم.

وأنصح كلّ مؤمن منصف يخاف أنّ يظلم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله في أهله أنّ يقرأ هذا البحث وغيره ، ممن بحث هذه المسألة بانصاف حتّى يعرف الحق وأهله ويتّبعه ، ويعلن أمام الورى ظلم الأمّة لأهل بيت نبيها صلوات الله عليهم أجمعين.

٧ ـ بيّنت أنّ ماعند الفرق الإسلامية من بضاعة في موضوع الإمامة أو الخلافة إلى وقتنا الحاضر يؤكّد أنّ أهل السنّة يخلطون بيّن الإمامة والحكم ، وأنّهم استخدموا اصطلاح الإمامة حيناّ والخلافة حيناً آخر للتعبير عن معنى واحد هو رئاسة الدولة ، لكننا لا نقف على شيء من هذا الخلط عند الشيعة الإمامية قديماً وحديثاً ، فكلّما اطّلعت أكثر على عقائدهم كلّما اطمأننت أنّ الحقّ معهم ، وأنّهم سفينة النجاة وأمان لأهل الأرض ، وأنّ تفرّق وتشعّب الفرق المخالفة للشيعة

٢٥

سببه الحكومات التي حكمتنا باسم الإسلام ، وسياسة مبرمجة لإبقاء هذا الجمهور معصوب العينين ، حتّى لا يفهم شيئاً عن حقائقهم المخزية ، ولكن لابدّ من يوم أنّ تظهر فيه الحقيقة ، ويتولّى الحقّ أهله ،( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) (١) .

٨ ـ ذكرت بعض القصص الواقعيّة والحوارات الحديثة كشاهد حي يصدقه من شهده ، ويحسّ بصدقه من قرأه ؛ لأنّه حقيقة معاشه وملموسه في واقعنا المعاصر.

٩ ـ من خلال بحثي لما جاء من الأدلّة لإثبات وصيّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أُمّته باتباع أهل بيتهعليهم‌السلام مطلقاً أجبنا على بعض الشبهات والتحريفات حول فضائل أهل البيتعليهم‌السلام التي حاول البعض أنّ يحرّفها أو يسرقها لغيرهم أو يكذّبها ؛ لأنّها تدلّ على إمامتهم ، ووجوب موالاتهم ، وأنّه لا يخلو زمن منهم.

ومن هنا رأيت أنّ أدع هذا الكتاب يجد طريقه إلى المنصفين علّه يكون بداية وفاتحة خير ، وجواب لتلك الأسئلة والحائرة التي قرأتها في تلك العيون المتحيّرة ، ووحدة إسلامية تحت ظل ولي أمرهم ، ومن الله تعالى نستمد السداد والتوفيق.

المؤلّفة

حسينة حسن الدريب

__________________

١ ـ الأنبياء (٢١) : ١٠٥.

٢٦
٢٧

تمهيد

هل يصدّق عاقل أنّ الصحابة قد أحسّوا بأهميّة إدارة الأُمّة فأجمعوا فشكّلوا اجتماع السقيفة لاختيار مدير لها ، وأدركوا الحاجة إلى الدولة والنظام ، ولم يدرك ذلك الله ورسوله؟! ـ معاذ الله ـ وهو الذي بلّغ الحجّة على أنّ النعمة قد تمّت ، وأنّ الدين قد اكتمل :( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِينا ) (١) وأنّه مابقي شيء مما يهم الإنسانية في أمور دينها ودنياها إلّا في كتابه العزيز :( ومَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ) (٢) .

بل نقول : إنّ القيادة هي أهم أمر شدّد عليه الإسلام ، وكرّره الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في أكثر من موقف ابتداءً بحديث الدار عند نزول آية الإنذار وحتّى حديث الغدير ، بل حتّى أنّ طلب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ يؤتى بدواة وقرطاس يكتب لأُمّته كتاباً لا يضلّوا بعده أبداً ، وهذا الكتاب الذي أراد أنّ يكتبه ويبيّنه هو مفاد حديث الثقلين المشهور والمتواتر بأنّ أهل البيت والقرآن لا يضلّ من تمسك بهما أبداً ، والوصيّة لأهل البيتعليهم‌السلام حتّى آخر الحجج المهدي المنتظر ( عجل الله فرجه ).

لشدّة أهميّة الخلافة الإسلامية ، والقيادة الحكيمة ، وضرورة وحدة القيادة جعل بدوره من ينوب عنه في غيبته لكي لا يسود الهرج والمرج في الأُمّة ، فصدر

__________________

١ ـ المائدة (٥) : ٣.

٢ ـ الأنعام (٦) : ٣٩.

٢٨

التوقيع من الإمام المهدي ( عجل الله فرجه ) ، والذي يقول فيه : ( وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنّهم حجّتي عليكم ، وأنا حجّة الله عليهم )(١) فهم سلام الله عليهم يهتمّون بأمر القيادة اهتماماً كبيراً لأنّ وحدة القيادة حتمية عقلاً ونقلاً.

بل إنّ الخلفاء أنفسهم أوصى بعضهم لبعض ، كما يقولون إنّ أبا بكر أوصى لعمر ، وعمر أوصى لستة ـ بغضّ النظر عن التخبّط الكبير في موضوع الخلافة ، وهل كانت شورى أو بالنصب ـ بحجّة أنّ القائد الكفوء لابدّ من تعيينه من قبل أهل الخبرة ، فنحن نرى أنّ الله تعالى هو الخبير البصير أخبر رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن القادة على أُمّته وهم أهل بيته ، وأهل بيته اختاروا من ينوب عنهم في الغيبة الكبرى ؛ لأنّ القيادة لابدّ أنّ تكون بأمر الله تعالى وبأمر من أمر الله بطاعته وقيادته.

بل حتّى ابن تيميّة اعتبر الولاية من أعظم واجبات الدين فقد قال : ( إنّ ولاية أمر الناس أعظم واجبات الدين ، بل لا قيام للدين إلّا بها ، فإنّ بني آدم لا تتم مصالحهم إلّا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى البعض ، ولابدّ لهم عند الاجتماع من رأس ، حتّى قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمّروا أحدهم فالواجب اتّخاذ الإمارة ديناً وقربة يتقرّب بها إلى الله ، فإنّ التقرّب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات )(٢) .

ولكن لا فرق عنده بين الرئيس وحاكم الجور ، وبين الأئمة الذين أمرنا الله

__________________

١ ـ كمال الدين وتمام النعمة : ٤٨٤ ، الباب ٤٥ في ذكر التوقيعات.

٢ ـ السياسة الشرعية : ١٦٥ ـ ١٦٦.

٢٩

تعالى بطاعتهم ، وبين القيادة العامّة ، فتأريخنا ينبغي أنّ نحلله وفق مبادئ الإسلام نفسه ، وقواعده التي وضعها ، ونفرّق بين الحكّام الذين أخذوا الحكم بالسيف والجور ، وبين من نصبهم الله تعالى أماناً للأُمّة من الاختلاف والهلاك ، ونخرّب ما بنته أيدي الحكّام الظلمة ، ثمّ تداولته عقول مغفّلة في زمن الحكم المخالف لسفينة النجاة.

والآن ونحن في زمن الغيبة الكبرى ، وتحت ظلّ الثورة الإسلامية الإيرانية حفظها الله تعالى التي قام بها الشعب الإيراني المسلم البطل بقيادة إمام المسلمين ومكسّر أصنام المستعمرين سماحة آية الله العظمى الإمام المجاهد السيّد روح الله الموسوي الخميني ( قدس سره ) ـ يتمتع المسلم الشيعي بإبداء رأيه ، وأفكاره ، وعقيدته ، ومناقشة أبناء المذاهب والأديان الأُخرى بعدما كانوا يضطرّون للتقيّة في أكثر العصور ، فهذه الحكومة الإسلامية التي حققها هذا الشعب البطل ، وبها ثبت أنّ الإسلام قادر على إدارة البلاد والعباد في هذا الزمن الذي يدعوا فيه أعداء الدين إلى فصل الدين عن السياسة.

فإيران الإسلامية تمثّل أعظم دولة في السياسة والعدل ، بل الديمقراطية والحرية في إطار الإسلام ، وإعطاء كلّ ذي حق حقّه عملاً وتطبيقاً لا شعاراً برّاقاً ، وطبّقت ولاية الفقية ، وأخرجتها من دفّات الكتب ، إذ في تأريخ الفكر الشيعي فكرة ولاية الفقيه ثابتة ، لكنها في دفّات الكتب فقط ؛ لأنّها نادت بذلك وهي خارج السلطة ، أمّا الإمام الخميني ( قدس سره ) فقد أثمرت فكرته ؛ لأنّه تمكّن من إقامة نظام جديد ، أمسك فيه بعنان الحكم ، ومن ثمّ اكتسبت أفكاره قوّة من قوّة الحاكم المسلم الشيعي الذي ينهج نهج أمير المؤمنينعليه‌السلام

وولاية الفقيه تعني أنّ الفقيه المجتهد الجامع للشروط نائب الإمام المعصوم

٣٠

في حال غيبته ، وهو الحاكم والرئيس المطلق(١) .

له ما للإمام في الفصل في القضايا والحكم بين الناس ، وإنّ ما اتّفق عليه علماء الطائفة الحقّة ، وأثبتوه بالأدلّة والبراهين أنّ الأرض لا تخلو من حجّة ، من إمام ظاهر معلوم أو باطن مستور ، لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ، ولو خليت الأرض لساخت بأهلها ، ولأصبح أعاليها أسافلها ، فصلاحها من الله تعالى بالإمام ، ولو لم يبق في الأرض إلّا اثنان لكان أحدهما الحجّة كما في الأخبار(٢) ، ولذلك انتجب المولى تعالى بحكمته أنبياءه ورسله ، واختارهم أُمناء على وحيه ، وقواماً على خلقه ، وشهداء يوم حشره ،( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) (٣) بالحجج والآيات ، حتّى خاتمهم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله سيّد الكائنات.

ولما كانت نبوّات الأنبياء السابقين مختصّة بأزمانهم وأجيالهم ، اقتضت الحكمة أنّ تكون معاجزهم محدودة الأجل ، لتكون حجّة على من رآها ، وحجّة على من سمع بها بالتواتر ، ولابدّ للرسالة الخالدة أيضاً من حجّة خالد ة إلى يوم يبعثون ، ليسير الثقلان جنباً لجنب ، وهذا ما جاء في حديث الثقلين المتواتر ؛ لأنّ أمد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وأجله معلوم ، فترك في أُمّته ثقلين ليكونا للأُمّة أمانين من الاختلاف ، الثقل الأوّل ، القرآن الكريم ، وهو حمّال ذو وجوه( مِنْهُ آيَاتٌ

__________________

١ ـ راجع عقائد الإمامية للشيخ العلاّمة محمّد رضا المظفر : ٢٢ ، تحت عنوان ( عقيدتنا في المجتهد ) ، وغيره من كتب الشيعة التي بحثت ولاية الفقيه مفصّلة.

٢ ـ كمال الدين وتمام النعمة : الباب ٢١ و٢٢.

٣ ـ البقرة (٢) : ١٤٣.

٣١

مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ) (١) ، والثقل الثاني : هم عترته ، ومن عندهم علم الكتاب.

ولكن البعض لم يقبلوا بالثقل الثاني فنشأت الخلافات ، وبرز الشقاق فاستغلّها أهل الفسوق والنفاق ، في فتن دامسة ، فتركوا الناس فيها تائهون حائرون ، فلو تمسّكوا بالثقل الثاني ، لركبوا سفينة النجاة ، ولأمنوا من دمس الجهل واختلاف الرأي ؛ لأنّهمعليهم‌السلام سفينة النجاة من الغرق في بحر الاختلاف.

ونحن في هذا البحث نثبت أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله نصبهم أولياء للناس ، ووصفهم بقرناء القرآن ، وسفينة النجاة ، وأمان أهل الأرض وغيرها من الأوصاف ، ولنا أدلّة كثيرة على ذلك من القرآن الكريم والسنّة الصحيحة.

__________________

١ ـ آل عمران (٣) : ٧.

٣٢
٣٣

الدليل الأوّل : حديث الدار وآية الإنذار

قال الله تعالى لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله :( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِين ) (١) .

إنّ هذا دليل نقلي صحيح متواتر عند نقلة التأريخ والأثر ، حيث إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد أوصى إلى علي في مبدأ الدعوة الإسلامية ، حين أنزل الله سبحانه :( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِين ) ولم يزل بعد ذلك يكرر وصيّته إليه ، ويؤكّدها المرّة بعد المرّة ، حتّى قوله صلّى الله عليه وآله : ( ائتوني أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً ) ، فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع ، فقالوا : هجر رسول الله ، فقال لهم : ( قوموا عنّي )(٢) فاكتفى بعهوده اللفظية التي سوف نسردها من كتب التأريخ والحديث والتفسير السنيّة نصّاً صريحاً يصدّق بعضه بعضاً ويشد أزر بعضه بعضاً كالقرآن الكريم يردّ متشابهه لمحكمه ، فيفهمه من أراد فهمه ، ويبقى من في قلبه مرض يتخبّط في لجاجته وعناده.

نصّ ماجاء في السيرة النبوية لابن كثير :

وقال الحافظ أبو بكر البيهقى في الدلائل : ( أخبرنا ) محمّد بن عبد الحافظ ، حدّثنا أبو العباس محمّد بن يعقوب ، حدّثنا أحمد بن عبد الجبّار ، حدّثنا يونس بن بكير ، عن محمّد بن إسحاق ، قال : فحدّثني من سمع عبد الله بن الحارث بن

__________________

١ ـ الشعراء (٢٦) : ٢١٤.

٢ ـ سوف نورد النص والمصدر في الصفحات التالية إن شاء الله تعالى.

٣٤

نوفل ، واستكتمني اسمه ، عن ابن عباس ، عن على بن أبى طالب ، قال : لمّا نزلت هذه الآية على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِين ) ،( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِين ) .

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : ( عرفت أنّي إن بادأت بها قومي رأيت منهم ما أكره ، فصمت. فجاءني جبريلعليه‌السلام فقال : يا محمّد إن لم تفعل ما أمرك به ربّك عذّبك بالنار ).

قال : فدعاني فقال : ( يا علي إنّ الله قد أمرني أنّ أنذر عشيرتي الأقربين ، فاصنع لنا يا علي شاة على صاع من طعام ، وأعدّ لنا عس لبن ، ثمّ اجمع لي بني عبد المطلب. ففعلت ، فاجتمعوا له يومئذ ، وهم أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصون ، فيهم أعمامه : أبو طالب ، وحمزة ، والعباس ، وأبو لهب الكافر الخبيث. فقدّمت إليهم تلك الجفنة ، فأخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم منها حذية فشقّها بأسنانه ، ثمّ رمى بها في نواحيها وقال : ( كلوا بسم الله ).

فأكل القوم حتّى نهلوا عنه ، ما نرى إلّا آثار أصابعهم ، والله إن كان الرجل ليأكل مثلها. ثمّ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : ( اسقهم يا علي ) ، فجئت بذلك القعب فشربوا منه حتّى نهلوا جميعاً ، وأيم الله إن كان الرجل ليشرب مثله. فلمّا أراد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّ يكلّمهم بدره أبو لهب لعنه الله فقال : لهد ما سحركم صاحبكم! فتفرّقوا ، ولم يكلّمهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم .

فلمّا كان من الغد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : ( عد لنا مثل الذي كنت صنعت لنا بالأمس من الطعام والشراب ، فإنّ هذا الرجل قد بدر إلى ما سمعت قبل أنّ أكلّم القوم ).

٣٥

ففعلت ، ثمّ جمعتهم له ، وصنع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كما صنع بالأمس ، فأكلوا حتّى نهلوا منه ، وأيّم الله إن كان الرجل ليأكل مثلها. ثمّ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : ( اسقهم يا علي ) ، فجئت بذلك القعب ، فشربوا منه حتّى نهلوا جميعاً ، وأيم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله. فلمّا أراد رسول الله أنّ يكلّمهم ، بدره أبو لهب لعنه الله إلى الكلام فقال : لهد ما سحركم صاحبكم! فتفرّقوا ، ولم يكلّمهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم .

فلمّا كان من الغد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : ( يا علي عد لنا بمثل الذى كنت صنعت بالأمس من الطعام والشراب ، فإنّ هذا الرجل قد بدرني إلى ما سمعت قبل أنّ أكلّم القوم ). ففعلت ، ثمّ جمعتهم له ، فصنع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كما صنع بالأمس ، فأكلوا حتّى نهلوا عنه ، ثمّ سقيتهم من ذلك القعب حتّى نهلوا ، وأيّم الله إن كان الرجل ليأكل مثلها وليشرب مثلها. ثمّ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : ( يا بني عبد المطلب إنّي والله ما أعلم شابّاً من العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به ، إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ).

هكذا رواه البيهقي من طريق يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق ، عن شيخ أبهم اسمه ، عن عبد الله بن الحارث به.

وقد رواه أبو جعفر بن جرير ، عن محمّد بن حميد الرازي ، عن سلمة بن الفضل الأبرش ، عن محمّد بن إسحاق ، عن عبد الغفار أبو مريم بن القاسم ، عن المنهال بن عمرو ، عن عبد الله بن الحارث ، عن ابن عباس ، عن علي ، فذكر مثله.

وزاد بعد قوله : ( وإنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه ، فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أنّ يكون أخي وكذا وكذا ).

٣٦

قال : فأحجم القوم عنها جميعاً ، وقلت ولأنّي لأحدثهم سنّاً ، وأرمصهم عيناً ، وأعظمهم بطناً ، وأخمشهم ساقاً : أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه. فأخذ برقبتى فقال : ( إن هذا أخي وكذا وكذا ، فاسمعوا له وأطيعوا ). قال : فقام القوم يضحكون ، ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أنّ تسمع لابنك وتطيع(١) .

وفـي مسند أحمد ما هذا نصّه :

حدّثنا عبد الله ، ثنا أبي ، ثنا أسود بن عامر ، ثنا شريك عن الأعمش ، عن المنهال ، عن عباد بن عبد الله الأسدي ، عن علي رضي الله عنه قال : لمّا نزلت هذه الآية( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِين ) ، قال : ( جمع النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهل بيته فاجتمع ثلاثون ، فأكلوا وشربوا. قال : فقال لهم : من يضمن عني ديني ومواعيدي ، ويكون معي في الجنّة ، ويكون خليفتي في أهلي ، فقال رجل لم يسمّه شريك : يارسول الله أنت كنت بحراً من يقوم بهذا؟ قال : ثمّ قال الآخر : قال : فعرض ذلك على أهل بيته فقال علي رضي الله عنه : أنا )(٢) .

ونصّ ماجاء في تاريخ الطبري :

( حدّثنا ابن حميد ، قال : حدّثنا سلمة قال : حدّثني محمّد بن إسحاق ، عن عبد الغفّار بن القاسم ، عن المنهال بن عمرو ، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ، عن عبد الله بن عباس ، عن علي بن أبى طالب قال : لمّا نزلت هذه الآية على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِين ) ، دعاني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال لي : يا علي إنّ الله أمرني

__________________

١ ـ السيرة النبوية لابن كثير ، ج ١ص ٤٥٧.

٢ ـ مسند أحمد ، ج ١ ، ص ١١١.

٣٧

أن أنذر عشيرتي الأقربين فضقت بذلك ذرعاً ، وعرفت أنّي متى أباديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره ، فصمت عليه حتّى جاءني جبريل فقال : يا محمّد إنّك إلّا تفعل ما تؤمر به يعذّبك ربّك.

فاصنع لنا صاعاً من طعام ، واجعل عليه رحل شاة ، واملأ لنا عساً من لبن ، ثمّ اجمع لي بني عبد المطلب حتّى أكلّمهم وأبلّغهم ما أمرت به. ففعلت ما أمرني به ، ثمّ دعوتهم له ، وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصونه فيهم أعمامه : أبو طالب ، وحمزة ، والعبّاس ، وأبو لهب. فلمّا اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذى صنعت لهم فجئت به ، فلمّا وضعته تناول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم حذية من اللحم فشقّها بأسنانه ، ثمّ ألقاها في نواحي الصفحة ، ثمّ قال : ( خذوا بسم الله ). فأكل القوم حتّى مالهم بشيء حاجة ، وما أرى إلّا موضع أيديهم ، وأيّم الله الذي نفس علي بيده ، وإن كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدّمت لجميعهم. ثمّ قال : اسق القوم ، فجئتهم بذلك العس ، فشربوا منه حتّى رووا منه جميعاً ، وأيّم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله ، فلمّا أراد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّ يكلّمهم بدره أبو لهب إلى الكلام ، فقال : لهد ما سحركم صاحبكم! فتفرّق القوم ، ولم يكلّمهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : الغد يا علي ، إنّ هذا الرجل سبقني إلى ما قد سمعت من القول ، فتفرّق القوم قبل أنّ أكلّمهم ، فعد لنا من الطعام بمثل ما صنعت ، ثمّ اجمعهم إليّ.

قال : ففعلت ، ثمّ جمعتهم ، ثمّ دعاني بالطعام ، فقرّبته لهم ، ففعل كما فعل بالأمس ، فأكلوا حتّى ما لهم بشيء حاجة ، ثمّ قال : اسقهم ، فجئتهم بذلك العس ، فشربوا حتّى رووا منه جميعاً ثمّ تكلّم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا بني عبد المطلب إنّي والله ما أعلم شابّاً في العرب جاء قومه بأفضل مما قد

٣٨

جئتكم به ، إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني الله تعالى أنّ أدعوكم إليه ، فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أنّ يكون أخى ووصيي وخليفتي فيكم؟ قال : فأحجم القوم عنها جميعاً ، وقلت وإنّي لأحدثهم سنّاً ، وأرمصهم عيناً ، وأعظمهم بطناً ، وأحمشهم ساقاً : أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه. فأخذ برقبتي ، ثمّ قال : إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا. قال : فقام القوم يضحكون ، ويقولون لأبي طالب قد أمرك أنّ تسمع لابنك وتطيع.

حدّثنى زكرياء بن يحيى الضرير ، قال : حدّثنا عفان بن مسلم ، قال : حدّثنا أبو عوانة ، عن عثمان بن المغيرة ، عن أبى صادق ، عن ربيعة بن ناجد ، أنّ رجلاً قال لعلي عليه السلام : يا أمير المؤمنين بم ورثت ابن عمّك دون عمّك؟ فقال علي : هاؤم! ثلاث مرّات ، حتّى اشرأبّ الناس ، ونشروا آذانهم. ثمّ قال : جمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أو دعا رسول الله ـ بني عبد المطلب منهم رهطه ، كلّهم يأكل الجذعة ويشرب الفرق ، قال : فصنع لهم مُدّاً من طعام ، فأكلوا حتّى شبعوا ، وبقي الطعام كما هو كأنّه لم يمس. قال : ثمّ دعا بغُمَر فشربوا حتّى رووا ، وبقي الشراب كأنّه لم يمس ولم يشربوا. قال : ثمّ قال : يا بني عبد المطلب ، إنّي بعثت إليكم بخاصّة ، وإلى الناس بعامّة ، وقد رأيتم من هذا الأمر ما قد رأيتم ، فأيّكم يبايعني على أنّ يكون أخي وصاحبي ووارثي؟ فلم يقم إليه أحد ، فقمت إليه ـ وكنت أصغر القوم ـ قال : فقال : اجلس ، قال : ثمّ قال ثلاث مرّات ، كلّ ذلك أقوم إليه ، فيقول لي اجلس ، حتّى كان في الثالثة ، فضرب بيده على يدي. قال : فبذلك ورثت ابن عمّي دون عمّي )(١) .

__________________

١ ـ تاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ٦٢ ـ ٦٤.

٣٩

ونصّ ماجاء في نظم درر السمطين :

( وفي رواية فأيّكم يبايعني على أنّ يكون أخي وصاحبي ووليي قال : فلم يقم إليه أحد منهم ، قال علي : فقمت إليه ـ وكنت اصغر القوم ـ فقال : اجلس ، ثمّ قال ذلك ثلاث مرّات ، كلّ ذلك أقوم إليه فيقول لي : اجلس ، حتّى كان في الثالثة ضرب بيده على يدي.

وفي رواية لهم من يؤاخيني ، ويؤازرني ، ويكون وليي وصاحبي ، ويقضي ديني ، فسكت القوم ، وأعاد ذلك ثلاثاً ، كلّ ذلك يسكت القوم ، ويقول علي : أنا ، فضرب يده على يدي فقال : أنت فقام القوم وهم يقولون لأبي طالب : أطع ابنك فقد أمّر عليك )(١) .

ونصّ ماجاء في كنز العمّال :

( ثمّ تكلّم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم شابّاً في العرب جاء قومه بأفضل ما جئتكم به ، إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه ، فأيّكم يؤازرني على أمري هذا؟ فقلت وأنا أحدثهم سنّا وأرمصهم عيناً ، وأعظمهم بطناً ، وأحمشهم ساقاً : أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه ، فأخذ برقبتي فقال : إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا ، فقام القوم يضحكون ، ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أنّ تسمع وتطيع لعلي )(٢) .

ولنا ملاحظات نقف معها للتدبّر حول النصوص السابقة ، ليترك القارئ

__________________

١ ـ نظم درر السمطين : ٨٣.

٢ ـ كنز العمّال : ج ١٣ ، ص ١٢٨ ـ ١٣٣.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

تشير الآية (٢٥٧) من سورة البقرة إلى هذا الموضوع فتقول :( اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) .

وبما أنّ العين المبصرة وحدها لا تكفي لتحقّق الرؤية ، فيجب توفّر النور والإضاءة أيضا لكي يستطيع الإنسان ـ الإبصار بمساعدة هذين العاملين ـ تضيف الآية التالية :( وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ ) .

لأنّ الظلام منشأ الضلال ، الظلام سبب السكون والركود ، الظلام مسبّب لكلّ أنواع المخاطر ، أمّا النور والضياء فهو منشأ الحياة والمعيشة والحركة والرشد والنمو والتكامل ، فلو زال النور لتوقّفت كلّ حركة وتلاشت جميع الطاقات في العالم ، ولعمّ الموت العالم المادّي ـ بأسره ، وكذلك نور الإيمان في عالم المعنى ، فهو سبب الرشد والتكامل والحياة والحركة.

ثمّ تضيف الآية( وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ ) فالمؤمن من يستظلّ في ظلّ إيمانه بهدوء وأمن وأمان ، أنمّا الكافر فلكفره يحترق بالعذاب والألم.

يقول «الراغب» في مفرداته : الحرور : (على وزن قبول) الريح الحارّة. واعتبرها بعضهم «ريح السموم» وبعضهم قال بأنّها «شدّة حرارة الشمس».

ويقول «الزمخشري» في الكشّاف : «السموم يكون بالنهار ، والحرور بالليل والنهار ، وقيل بالليل خاصّة»(١) ، على أيّة حال ، فأين الحرور من الظلّ البارد المنعش الذي يبعث الارتياح في روح وجسم الإنسان.

ثمّ يقول تعالى في آخر تشبيه :( وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ ) . المؤمنون حيويون ، سعاة متحرّكون ، لهم رشد ونمو ، لهم فروع وأوراق وورود وثمر ، أمّا الكافر فمثل الخشبة اليابسة ، لا فيها طراوة ولا ورق ولا ورد ولا ظلّ لها ، ولا تصلح إلّا حطبا للنار.

__________________

(١) الكشّاف ، الجزء ٣ ، ص ٦٠٨.

٦١

في الآية (١٢٢) من سورة الأنعام نقرأ :( أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها ) .

وفي ختام الآية يضيف تعالى :( إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ ) لكي يسمع دعوة الحقّ ويلبّي نداء التوحيد ودعوة الأنبياء( وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ) .

فمهما بلغ صراخك ، ومهما كان حديثك قريبا من القلب ، ومهما كان بيانك معبّرا ، فإنّ الموتى لا يسعهم إدراك شيء من ذلك ، ومن فقد الروح الإنسانية نتيجة الإصرار على المعاصي ، وغرق في التعصّب والعناد والظلم والفساد ، فبديهي أنّ ليس لديه الاستعداد لقبول دعوتك.

وعليه فلا تقلق من عدم إيمانهم ، ولا تجزع ، فليس عليك من وظيفة إلّا الإبلاغ والإنذار( إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ ) .

* * *

بحوث

١ ـ آثار الإيمان والكفر

نعلم أنّ القرآن لا يعير اهتماما للحواجز الجغرافية والعرقية والطبقية وأمثالها ممّا يفرّق بين الناس ، فالقرآن الكريم يعتبر أنّ الحدّ هو الحدّ بين [الإيمان والكفر] ، وعليه فإنّه يقسّم المجتمع البشري إلى قسمين «المؤمنين» و «الكافرين».

ولتعريف «الإيمان» شبّهه القرآن الكريم بـ «النور» ، كما أنّه شبّه الكفر بـ «الظلام» وهذا التشبيه أحسن مؤشّر على ما يستخلصه القرآن الكريم من مسألة الكفر والإيمان(١) .

فالإيمان نوع من الإحساس والنظرة الباطنية ، ونوع من العلم والمعرفة متوائمة

__________________

(١) راجع الآيات ٢٥٧ : البقرة ، ١٥ : المائدة ، ١٦ : المائدة ، ١ و ٥ : إبراهيم ، ٢٢ : الزمر ، ٩ : الحديد ، ١١ : الطلاق.

٦٢

مع عقيدة قلبية وحركة ، ونوع من التصديق الذي ينفذ في أعماق روح الإنسان ليكون منبعا لكلّ الفعّاليات البنّاءة.

أمّا الكفر ، فجهل وعدم معرفة وتكذيب يؤدّي إلى تبلّد ، بل فقدان الإحساس بالمسؤولية ، كما يؤدّي إلى كلّ أنواع الحركات الشيطانية والتخريبية.

كذلك نعلم أيضا بأنّ «النور» منشأ لكلّ حياة وحركة ونمو ورشد في الحياة ، بالنسبة إلى الإنسان والحيوان والنبات ، على عكس الظلام فهو عامل الصمت والنوم والموت والفناء في حال استمراره. لذا فلا عجب حينما يشبه القرآن الكريم «الإيمان والكفر» «بالنور والظلمة» تارة و «بالحياة والموت» تارة اخرى ، وفي مكان آخر يشبّههما (بالظلّ الظليل والريح السموم) ، أو حينما يشبّه (المؤمن والكافر) (بالبصير والأعمى). وقد أوضحنا كلّ ما يتعلّق بهذه التشبيهات الأربعة.

ولا نبتعد كثيرا ، فعند ما نجالس (مؤمنا) نحسّ أثر ذلك النور في كلّ وجوده ، أفكاره تنير لمن حوله ، وحديثه مليء بالإشراق ، أعماله وأخلاقه تعرّفنا حقيقة الحياة وحياة الحقيقة.

أمّا الكافر فكلّ وجوده مليء بالظلمة ، لا يفكّر إلّا بمنافعه الماديّة وكيفية الترقّي في الحياة الماديّة ، أفقه وفضاء فكره لا يتجاوز حدود حياته الشخصية ، غارق في الشهوات ، لا يدفع روح وقلب جليسه إلّا إلى أمواج الظلمات.

وعليه فإنّ ما أوضحه القرآن في هذه الآيات ، قابل للإدراك والتعقّل بشكل محسوس وملموس.

٢ ـ هل أنّ الموتى واقعا لا يدركون؟

من ملاحظة ما ورد في الآيات أعلاه ، يطرح هنا سؤالان :

الأوّل : كيف يقول تعالى في القرآن الكريم مخاطبا الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ) ؟ مع أنّه جاء في الحديث المعروف أنّ الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٦٣

أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش فقذفوا في طويّ من أطواء بدر خبيث مخبث ، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال فلمّا كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته ، فشدّ عليها رحلها ثمّ مشى واتّبعه أصحابه وقالوا : ما نراه ينطلق إلّا لبعض حاجته ، حتّى قام على شفة الركي مجفل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم : يا فلان بن فلان ويا فلان بن فلان أيسّركم أنّكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنّا قد وجدنا ما وعدنا ربّنا حقّا فهل وجدتم ما وعد ربّكم حقّا؟ قال : فقال عمر : يا رسول الله ما تكلّم من أجساد لا أرواح لها؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «والّذي نفس محمّد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم»(١) .

أو ما ورد في آداب دفن الموتى من تلقينهم عقائد الحقّ.

فكيف يمكن التوفيق بين هذه الأمور والآيات مورد البحث أعلاه.

يتّضح الجواب على هذا السؤال إذا أخذنا بنظر الإعتبار ما يلي : إنّ الحديث في الآيات كان حول عدم إدراك الموتى بالشكل الطبيعي والاعتيادي ، أمّا الرواية التي ذكرناها أو تلقين الميّت فإنّما ترتبط بظروف خاصّة وغير عاديّة ، حيث أنّ الله سبحانه مكّن حديث الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تلك الحالة من الوصول إلى أسماع الموتى.

وبتعبير آخر فإنّ الإنسان في عالم البرزخ ينقطع ارتباطه مع عالم الدنيا ، إلّا في الموارد التي يأذن الله فيها أن يوصل هذا الارتباط ، ولذا فإنّنا لا نستطيع عادة الاتّصال بالموتى في الظروف العادية.

السؤال الآخر : هو إذا كان حديثنا غير بالغ أسماع الموتى فما معنى لسلامنا على الرّسول الأكرم والأئمّةعليهم‌السلام والتوسّل بهم ، وزيارة قبورهم ، وطلب الشفاعة منهم عند الله؟

__________________

(١) تفسير «روح البيان» ذيل الآيات مورد البحث : وورد هذا الحديث أيضا في صحيح البخاري بتفاوت يسير (صحيح البخاري ، الجزء الخامس ، ص ٩٧ باب قتل أبي جهل).

٦٤

وقد استندت جماعة من الوهّابيين المعروفين بجمودهم الفكري على هذا التوهّم الباطل ، وبالتمسّك بظواهر الآيات القرآنية ، دون الاهتمام بمحتواها العميق ، أو الالتفات إلى الأحاديث الشريفة الكثيرة الواردة في هذا المجال ، سعوا إلى نفي وردّ مفهوم «التوسّل» وإثبات بطلانه.

الجواب على هذا السؤال أيضا يتّضح ممّا ذكرناه كمقدّمة في الإجابة على السؤال الأوّل ، من أنّ التعامل مع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأولياء الله يختلف عنه مع الآخرين ، فهؤلاء كالشهداء (بل إنّهم يحتلّون الصفّ الأوّل أمام الشهداء) وهم أحياء وخالدون ، وهم مصداق لقوله :( أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) ، وبأمر من الله فإنّهم يحتفظون بارتباطهم بهذا العالم ، كما أنّهم يستطيعون وهم في هذه الدنيا أن يتّصلوا بالموتى ـ كما في حالة قتلى بدر ـ.

استنادا إلى ذلك نقرأ في روايات كثيرة وردت في كتب الفريقين أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّةعليهم‌السلام يسمعون سلام من يسلّم عليهم سواء كان قريبا أو بعيدا ، بل إنّ أعمال الامّة تعرض عليهم(١) .

الجدير بالملاحظة أنّنا مأمورون بالسلام على الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في التشهّد الأخير للصلوات اليومية ، وهذا إعتقاد المسلمين عامّة ، أعمّ من كونهم شيعة أو سنّة ، فكيف يمكن مخاطبة من لا يمكنه السماع أصلا؟

كذلك وردت روايات متعدّدة في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة ، عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «لقّنوا موتاكم لا إله إلّا الله»(٢) .

كذلك وردت الإشارة في نهج البلاغة إلى مسألة الارتباط مع أرواح الموتى ، فعند ما كان أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه قال راجعا من صفّين أشرف

__________________

(١) كشف الارتياب ، ص ١٠٩ ـ كذلك فقد أشرنا إلى روايات (عرض الأعمال) عند تفسير الآية (١٠٥) من سورة التوبة ـ راجع المجلّد السادس من هذا التّفسير.

(٢) صحيح مسلم ، كتاب الجنائز ، حديث ١ و ٢ (المجلّد ٢ ، صفحة ٦٣١).

٦٥

على القبور بظاهر الكوفة : «يا أهل الديار الموحشة إلى أن قال : أما لو أذن لهم في الكلام لأخبروكم أنّ خير الزاد التقوى»(١) .

٣ ـ تنويع التعبيرات جزء من الفصاحة

لوحظ في التشبيهات الأربعة الواردة في الآيات أعلاه ، تعبيرات متفاوتة تماما مثلا (أعمى ـ بصير) و (ظلّ ـ حرور) جاءت بصورة المفرد في حال أنّ (أحياء ـ أموات) بصورة الجمع ، وجاءت (ظلمات ـ نور) بصورة جمع والثانية بصورة مفرد هذا من جانب.

ومن جانب آخر فقد قدمت التشبيهات ذات المنحى السلبي على غيرها في التشبيه الأوّل والثاني (أعمى ـ ظلمات) في حال قدمت التشبيهات ذات المنحى الإيجابي في التشبيه الثالث والرابع (ظلّ ـ أحياء).

ومن جانب ثالث تكرّرت أداة النفي في التشبيهات الثاني والثالث والرابع في حين أنّها لم تتكرّر في التشبيه الأوّل.

وأخيرا ، فإنّ جملة( ما يَسْتَوِي ) وردت فقط في التشبيه الأوّل والأخير ، ولا أثر لها في التشبيهات الاخرى.

بعض المفسّرين علّلوا هذه الاختلافات بتعليلات كثيرة بعضها جدير بالاهتمام وبعضها الآخر مورد مساءلة.

وضمن جملة التعليلات اللطيفة أنّ جمع «الظلمات» وإفراد «النور» للتدليل على أنّ الظلمة ـ التي تعني الكفر ـ ذات تشعّبات كثيرة ، بينما حقيقة «الإيمان» والتوحيد واحدة ليس إلّا. فالإيمان كالخطّ المستقيم الذي يوصل بين نقطتين لا وجود لسواه بينهما ، في حين أنّ ظلمة الكفر مثل آلاف الآلاف من الخطوط المتعرّجة المنحرفة التي يمكن إيجادها بين نقطتين.

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، جملة ١٣٠.

٦٦

كذلك فإنّ تقديم التشبيهات ذات المنحى السلبي في المثالين الأوّليين إنّما هو للإشارة إلى الإسلام نقل الناس من الجاهلية وظلمات الشرك إلى نور الهداية.

وأمّا المثالان الأخيران فإشارة إلى المراحل الاخرى التي أحكم الإسلام فيها جذوره في القلوب ، ووسّع المناحي الإيجابية في المجتمع.

وإذا تجاوزنا كل ذلك فإنّ التنوّع أصلا في البيان يمنح الحديث طراوة وروحا خاصّة ، ممّا يجعل ذلك مؤثّرا وجميلا وجذّابا ، في حال إنّ التكرار على نمط واحد يسلب الحديث لطافته ـ إلّا في موارد استثنائية ـ وبناء على هذا فإنّ الفصحاء والبلغاء يسعون دائما إلى تنويع تعبيراتهم وجعلها مؤثّرة ، ونعلم أنّ القرآن على أعلى درجات الفصاحة والبلاغة.

وعليه ، فلو لم يكن غير مراعاة الفصاحة أمر آخر لكفى ، مع أنّ من الممكن أن يتوصّل غيرنا من الأجيال القادمة إلى كشف أسرار اخرى غير ما ذكرنا ممّا هو محجوب عنّا الآن.

* * *

٦٧

الآيات

( إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٢٦) )

التّفسير

لا عجب من عدم إيمان :

توصّلنا في الآيات السابقة إلى أنّ هناك أفرادا كالأموات والعميان لا تترك مواعظ الأنبياء في قلوبهم أدنى أثر ، وعلى ذلك فإنّ الآيات مورد البحث تقصد مواساة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا الخصوص وتخفيف آلامه لكي لا يغتمّ كثيرا.

أوّلا تقول الآية الكريمة :( إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ ) . فيكفيك من أداء وظيفتك أن لا تقصّر فيها ، أوصل نداءك إلى مسامعهم ، بشّرهم بثواب الله ، وأنذرهم عقابه ، سواء استجابوا ولم يستجيبوا.

الملفت للنظر أنّه تعالى قال في آخر آية من الآيات السابقة مخاطبا الرّسول الأكرم( إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ ) ، ولكنّه في الآية الاولى من هذه الآيات يقول :( إِنَّا

٦٨

أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً ) إشارة إلى أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يقوم بهذا العمل من عند نفسه ، وإنّما هو مأمور من قبل الله تعالى.

وإذا كانت الآية السابقة قد ركّزت على الإنذار فقط ، فلأنّ الحديث كان حول الجاهلين المعاندين الذين هم كالأموات المقبورين الذين لا يتقبّلون أي حديث ، أمّا هذه الآية فإنّها توضّح بشكل كامل ، وظيفة الأنبياء الثنائية الهدف «البشارة» و «الإنذار» ، مؤكّدة في آخرها من جديد على «الإنذار» لأنّ الإنذار هو القسم الأساس من دعوة الأنبياء في قبال المشركين والظلمة.

«خلا» : من (الخلاء) وهو المكان الذي لا ساتر فيه من بناء ومساكن وغيرهما ، والخلوّ يستعمل في الزمان والمكان ، ولأنّ الزمان في مرور ، قيل عن الأزمنة الماضية «الأزمنة الخالية» لأنّه لا أثر منها ، وقد خلت الدنيا منها.

وعليه فإنّ جملة( وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ ) بمعنى أن كلّ امّة من الأمم السالفة كان لها نذير.

الجدير بالملاحظة ، طبقا للآية أعلاه ، أنّ كلّ الأمم كان فيها نذير إلهي ، أي كان فيها نبي ، مع أنّ البعض تلقّي ذلك بمعنى أوسع ، بحيث يشمل العلماء والحكماء الذين ينذرون الناس أيضا ، ولكن هذا المعنى خلاف ظاهر الآية.

على كلّ حال ، فليس معنى هذا الكلام أن يبعث في كلّ مدينة أو منطقة رسول ، بل يكفي أن تبلّغ دعوة الرسل وكلامهم أسماع المجتمعات المختلفة ، إذ أنّ القرآن يقول :( خَلا فِيها نَذِيرٌ ) ولم يقل «خلا منها نذير».

وعليه فلا منافاة بين هذه الآية التي تقصد وصول دعوة الأنبياء إلى الأمم ، مع الآية (٤٤) من سورة سبأ والتي تقول :( وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ ) والتي يقصد منها كون المنذر منهم.

ويضيف تعالى في الآية التالية :( وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ ) فلا عجب من ذلك ، ولا تحزن بسبب ذلك ، لأنّه( فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ

٦٩

وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ ) .

فلست وحدك الذي أصبحت موضع تكذيب هؤلاء القوم الجاهلين بما عندك من معجزات وكتاب سماوي ، فقد واجه الرسل السابقون هذه المشكلة أيضا ، لذا فلا تغتمّ وواصل سيرك بحزم ، واعلم أنّ من كتبت له الهداية فسوف يهتدي.

أمّا ما هو الفرق بين (البيّنات ـ والزبر ـ والكتاب المنير)؟ المفسّرين أظهروا وجهات نظر مختلفة ، أوضحها تفسيران :

١ ـ «البيّنات» بمعنى الدلائل الواضحة والمعجزات التي تثبت حقّانية النبي ، أمّا «الزبر» فجمع «زبور» بمعنى الكتب التي كتبت بإحكام (مثل الكتابة على الحجر وأمثالها) وهي كناية عن استحكام مطالبها(١) . وإشارة إلى الكتب النازلة قبل موسىعليه‌السلام . في حين أنّ «الكتاب المنير» إشارة إلى كتاب موسىعليه‌السلام والكتب السماوية الاخرى التي نزلت بعده ، (لأنّه وردت الإشارة في القرآن المجيد في سورة المائدة ـ الآيات ٤٤ و ٤٦ إلى التوراة والإنجيل على أنّهما (هدى ونور وفي نفس السورة ـ الآية ١٥ عبّر عن القرآن الكريم بالنور أيضا).

٢ ـ المقصود بـ «الزبر» ذلك القسم من كتب الأنبياء التي تحتوي على العبرة والموعظة والنصيحة والمناجاة (كزبور داود) ، وأمّا «الكتاب المنير» فتلك المجموعة من الكتب السماوية التي تحتوي على الأحكام والقوانين والتشريعات الاجتماعية والفردية المختلفة مثل التوراة والإنجيل والقرآن. ويبدو أنّ هذا التّفسير أنسب.

تشير الآية الأخيرة من هذه الآيات إلى العقاب الأليم لتلك المجموعة فتقول :( ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) (٢) فهم لم يكونوا بمنأى عن العقاب الإلهي ، وإن

__________________

(١) يقول الراغب في مفرداته : زبرت الكتاب كتبته كتابة عظيمة ، وكلّ كتاب غليظ يقال له زبور.

(٢) (أخذت) من مادّة (أخذ) بمعنى حيازة الشيء وتحصيله ، لكنّها هنا كناية عن المجازاة ، لأنّ الأخذ مقدّمة للعقاب.

٧٠

استطاعوا أن يستمروا بتكذيبهم إلى حين.

فبعض عاقبناهم بالطوفان ، وبعض بالريح العاصفة المدمّرة ، وآخرون بالصيحة والصاعقة والزلزلة.

أخيرا لتأكيد وبيان شدّة وقسوة العقوبة عليهم يقول :( فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ ) ذلك تماما مثلما يقوم شخص بإنجاز عمل مهمّ ثمّ يسأل الحاضرين : كيف كان عملي؟

على أيّة حال فإنّ هذه الآيات تواسي وتطمئن من جانب كلّ سالكي طريق الله والقادة والزعماء المخلصين منهم بخاصّة ، من كلّ امّة وفي أي عصر وزمان ، لكي لا ييأسوا ولا يفقدوا الأمل عند سماعهم استنكار المخالفين ، ولكي يعلموا أنّ الدعوات الإلهية واجهت دائما معارضة شديدة من قبل المتعصّبين الجاحدين الظلمة ، وفي نفس الوقت وقف المحبّون العاشقون المتولّهون إلى جنب دعاة الحقّ وفدوهم بأنفسهم أيضا.

ومن جانب آخر فهي تهديد للمعاندين الجاحدين ، لكي يعلموا أنّهم لن يستطيعوا إدامة أعمالهم التخريبية القبيحة إلى الأبد ، فعاجلا أو آجلا ستحيط بهم العقوبة الإلهية.

* * *

٧١

الآيتان

( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨) )

التّفسير

العجائب المختلفة للخلقة :

مرّة اخرى تعود هذه الآيات إلى مسألة التوحيد ، وتفتح صفحة جديدة من كتاب التكوين أمام ذوي البصائر من الناس ، لكي ترد بعنف على المشركين المعاندين ومنكري التوحيد المتعصّبين.

لفتت هذه الصفحة المشرقة من كتاب الخلق العظيم إلى تنوّع الجمادات والمظاهر المختلفة والجميلة للحياة في عالم النبات والحيوان والإنسان ، وكيف جعل الله سبحانه من الماء العديم اللون الآلاف من الكائنات الملوّنة ، وكيف خلق من عناصر معيّنة ومحدودة موجودات متنوّعة أحدها أجمل من الآخر.

فهذا النقاش الحاذق أبدع بقلم واحد وحبر واحد أنواع الرسوم والأشكال التي

٧٢

تجذب الناظرين وتحيّرهم وتدهشهم.

أوّلا تقول الآية الكريمة :( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها ) .

شروع هذه الجملة بالاستفهام التقريري ، وبتحريك حسّ التساؤل لدى البشر ، إشارة إلى أنّ هذا الموضوع جلي إلى درجة أنّ أي شخص إذا نظر أبصر ، نعم ، يبصر هذه الفواكه والزهور الجميلة والأوراق والبراعم المختلفة بأشكال مختلفة تتولّد من ماء وتراب واحد.

«ألوان» : قد يكون المراد «الألوان الظاهرية للفواكه» والتي تتفاوت حتّى في نوع الفاكهة الواحد كالتفّاح الذي يتلوّن بألوان متنوعة ناهيك عن الفواكه المختلفة. وقد يكون كناية عن التفاوت في المذاق والتركيب والخواص المتنوّعة لها ، إلى حدّ أنّه حتّى في النوع الواحد من الفاكهة توجد أصناف متفاوتة ، كما في العنب مثلا حيث أنّه أكثر من ٥٠ نوعا ، والتمر أكثر من سبعين نوعا.

والملفت للنظر هو استخدام صيغة الغائب في الحديث عنهعزوجل ، ثمّ الانتقال إلى صيغة المتكلّم ، وهذا النوع من التعابير ، غير منحصر في هذه الآية فقط ، بل يلاحظ في مواضع اخرى من القرآن المجيد أيضا ، وكأنّ الجملة الاولى تعطي للمخاطب إدراكا ومعرفة جديدة ، وتستحضره بهذا الإدراك والمعرفة بين يدي الباريعزوجل ، ثمّ عنده حضوره يلقى عليه الحديث مباشرة.

ثمّ تشير الآية إلى تنوّع أشكال الجبال والطرق الملوّنة التي تمرّ من خلالها وتؤدّي إلى تشخيصها وتفريقها الواحدة عن الاخرى. فتقول :( وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ ) (١) .

هذا التفاوت اللوني يضفي على الجبال جمالا خاصّا من جهة ، ومن جهة

__________________

(١) قال البعض بأنّ هذه الجملة الاستئنافية «من الجبال» خبر مقدّم و «جدد» مبتدأ مؤخّر ، وذهب آخرون : إنّ تقدير الجملة هكذا «ألم تر أنّ من الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها».

٧٣

اخرى ، يكون سببا لتشخيص الطرق وعدم الضياع فيما بين طرقها المليئة بالالتواءات والانحدارات ، وأخيرا فهو دليل على أنّ الله على كلّ شيء قدير.

«جدد» جمع «جدّة» ـ على وزن غدّة ـ بمعنى الجادّة والطريق.

«بيض» جمع «أبيض» كما أنّ «حمر» جمع «أحمر» وهو إشارة إلى الألوان.

«غرابيب» جمع «غربيب» ـ على وزن كبريت ـ وهو المشبّه للغراب في السواد ، كقولك أسود كحلك الغراب. وعليه فإنّ ذكر كلمة «سود» بعدها والتي هي أيضا جمع «أسود» تأكيد على شدّة وحلك السواد في بعض الطرق الجبلية(١) .

واحتمل أيضا أن يكون التّفسير : ألم تر أنّ الجبال نفسها مثل طرائق بيضا وحمرا وسودا مختلفا ألوانها خطّت على سطح الأرض ، وخاصّة إذا نظر إليها الشخص من فاصلة بعيدة ، فانّها ترى على شكل خطوط مختلفة ممدودة على وجه الأرض بيض وحمر وسود مختلف ألوانها(٢) .

على كلّ حال فإنّ تشكيل الجبال بألوان مختلفة من جهة ، وتلوين الطرق الجبلية بألوان متفاوتة ، من جهة اخرى ، دليل آخر على عظمة وقدرة وحكمة الله سبحانه وتعالى والتي تتجلّى وتتزيّن كلّ آن بشكل جديد.

وفي الآية التالية تطرح مسألة تنوّع الألوان في البشر والأحياء الاخرى ، فيقول تعالى :( وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ ) .

أجل ، فالبشر مع كونهم جميعا لأب وأمّ واحدين ، إلّا أنّهم عناصر وألوان متفاوتة تماما ، فالبعض أبيض البشرة كالوفر ، والبعض الآخر أسود كالحبر ، وحتّى في العنصر الواحد فإنّ التفاوت في اللون شديد أيضا ، بل إنّ التوأمين الذين يطويان المراحل الجنينية معا ، واللذين يحتضن أحدهما الآخر منذ البدء ، إذا دقّقنا

__________________

(١) استنادا إلى ما صرّحت به بعض كتب اللغة كلسان العرب فإنّ (سود) في الآية أعلاه هي بدل عن «غرابيب» لأنّه في حالة الألوان لا يقدّم التأكيد ، لاحظ أنّ (غرابيب) أكثر إشباعا للتأكيد من ناحية السواد ، لذا قيل إنّ الأصل كان «سود غرابيب».

(٢) تفسير الميزان ، مجلّد ١٧ ، صفحة ٤٢.

٧٤

النظر نجدهما ليسا من لون واحد ، مع أنّهما من نفس الأبوين ، وتمّ انعقاد نطفتيهما في وقت واحد ، وتغذّيا من غذاء واحد.

ناهيك عن التفاوت والاختلاف الكامل في بواطنهم عدّ أشكالهم الظاهرية ، وفي خلقهم ورغباتهم وخصوصيات شخصياتهم واستعداداتهم وذوقهم ، بحيث يتكوّن بذلك كيان مستقل منسجم بكلّ احتياجاته الخاصّة.

في عالم الكائنات الحيّة أيضا يوجد آلاف الآلاف من أنواع الحشرات ، الطيور ، الزواحف ، الحيوانات البحرية ، الوحوش الصحراوية ، بكلّ خصائصها النوعية وعجائب خلقتها. كدلالة على قدرة وعظمة وعلم خالقها.

حينما نضع قدمنا في حديقة كبيرة من حدائق الحيوان فسوف نصاب بالذهول والحيرة والدهشة بحيث أنّنا ـ بلا وعي منّا ـ نتوجّه بالشكر والثناء لله المبدع لكلّ هذا الفن الخلّاب على صفحة الوجود. مع أنّنا لا نرى أمامنا في تلك الحديقة إلّا جزء من آلاف الأجزاء من الموجودات الحيّة في العالم.

وبعد عرض تلك الأدلّة التوحيدية يقول تعالى في الختام جامعا : نعم إنّ الأمر كذلك( كَذلِكَ ) (١) .

ولأنّ إمكانية الانتفاع من آيات الخلق العظيمة هذه تتوفّر أكثر عند العباد العقلاء والمفكّرين يقول تعالى في آخر الآية :( إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) .

نعم فالعلماء من بين جميع العباد ، هم الذين نالوا المقام الرفيع من الخشية «وهي الخوف من المسؤولية متوافق مع إدراك لعظمة الله سبحانه» ، حالة (الخشية) هذه تولّدت نتيجة سبر أغوار الآيات الآفاقية والأنفسية ، والتعرّف على حقيقة علم وقدرة الله وغاية الخلق.

__________________

(١) حول ما هو إعراب «كذلك» أعطيت احتمالات عديدة ، بعضهم قالوا بأنّها جملة مستقلّة تقديرها (الأمر كذلك) ونحن انتخبنا في تفسيرنا هذا المعنى لكونه الأنسب ، ولكن البعض ربطوها بالجملة السابقة فقالوا : إنّ المعنى هو كما أنّ الثمرات وجدد الجبال مختلف ألوانها كذلك الناس والدواب والأنعام ، وقد احتمل أيضا أن تكون الجملة مرتبطة بما بعدها والمعنى : كذلك تختلف أحوال العباد في الخشية.

٧٥

الراغب في مفرداته يقول : «الخشية خوف يشوبه تعظيم ، وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه ، ولذلك خصّ العلماء بها».

قلنا تكرارا بأنّ الخوف من الله بمعنى الخوف من المسؤولية التي يواجهها الإنسان ، الخوف من أن يقصّر في أداء رسالته ووظيفته ، ناهيك عن أنّ إدراك جسامة تلك المسؤولية يؤدّي أيضا إلى الخشية ، لأنّ الله المطلق قد عهد بها إلى الإنسان المحدود الضعيف ، (تأمّل بدقّة)!!

كذلك يستفاد من هذه الجملة ضمنا بأنّ العلماء الحقيقيين هم أولئك الذين يستشعرون المسؤولية الثقيلة حيال وظائفهم ، وبتعبير آخر : أهل عمل لا كلام ، إذ أنّ العلم بدون عمل دليل على عدم الخشية ، ومن لا يستشعر الخشية لا تشمله الآية أعلاه.

هذه الحقيقة وردت في حديث عن الإمام زين العابدين علي بن الحسينعليه‌السلام حيث يقول : «وما العلم بالله والعمل إلّا إلفان مؤتلفان فمن عرف الله خافه ، وحثّه الخوف على العمل بطاعة الله ، وإنّ أرباب العلم وأتباعهم (هم) الذين عرفوا الله فعملوا له ورغبوا إليه ، وقد قال الله :( إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) »(١) .

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام في تفسير هذه الآية «يعني بالعلماء من صدق قوله فعله ومن لم يصدق قوله فعله فليس بعالم»(٢) .

وفي حديث آخر جاء «أعلمكم بالله أخوفكم لله»(٣) .

ملخّص القول أنّ العلماء ـ بالمنطق القرآني ـ ليسوا أولئك الذين تحوّلت أدمغتهم إلى صناديق للآراء والأفكار المختلفة من هنا وهناك ومليئة بالقوانين والمعادلات العلميّة للعالم وتلهج بها ألسنتهم ، أو الذين سكنوا المدارس

__________________

(١) روضة الكافي ، طبقا لنقل نور الثقلين ، مجلّد ٤ ، صفحة ٣٥٩.

(٢) مجمع البيان ، تفسير الآيات مورد البحث.

(٣)

٧٦

والجامعات والمكاتب ، بل إنّ العلماء هم أصحاب النظر الذين أضاء نور العلم والمعرفة كلّ وجودهم بنور الله والإيمان والتقوى ، والذين هم أشدّ الناس ارتباطا بتكاليفهم مع ما يستشعرونه من عظمة المسؤولية إزاءها.

نقرأ في سورة القصص أيضا أنّه حينما اغترّ «قارون» واستشعر الرضى عن نفسه وادّعى لها مقام العلم ، قام يعرض ثروته أمام الناس ، وتمنّى عبّاد الدنيا الذين أسرتهم تلك المظاهر البرّاقة أن تكون لهم مثل تلك الثروة والإمكانية الدنيوية ، ولكن علماء بني إسرائيل قالوا لهم : إنّ ثواب الله خير وأبقى لمن آمن وعمل صالحا ، ولا يفوز بذلك إلّا الصابرون المستقيمون :( وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ ) (١) .

وفي ختام الآية يقول تعالى ، كدليل موجز على ما مرّ :( إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ) .

«عزّته» وقدرته اللامتناهية منبع للخوف والخشية عند العلماء ، و (غفرانه) ، سبب في الرجاء والأمل عندهم ، وبذا فإنّ هذين الاسمين المقدسين يحفظان عباد الله بين الخوف والرجاء ، ونعلم بأنّه لا يمكن إدامة الحركة باتّجاه التكامل بدون الاتّصاف بهاتين الصفتين بشكل متكافئ.

* * *

__________________

(١) القصص ـ ٨٠

٧٧

الآيتان

( إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠) )

التّفسير

التجارة المربحة مع الله :

بعد أن أشارت الآيات السابقة إلى مرتبة الخوف والخشية عند العلماء ، تشير الآيات مورد البحث إلى مرتبة «الأمل والرجاء» عندهم أيضا ، إذ أنّ الإنسان بهذين الجناحين ـ فقط ـ يمكنه أن يحلّق في سماء السعادة ، ويطوي سبيل تكامله ، يقول تعالى أوّلا :( إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ ) (١) .

بديهي أنّ «التلاوة» هنا لا تعني مجرّد القراءة السطحية الخالية من التفكّر والتأمّل ، بل قراءة تكون سببا وباعثا على التفكّر ، الذي يكون بدوره باعثا على العمل الصالح ، الذي يربط الإنسان بالله من جهة ، ومظهر ذلك الصلاة ، ويربطه

__________________

(١) يلاحظ أنّ «يرجون» خبر «أنّ».

٧٨

بخلق الله من جهة ثانية ، ومظهر ذلك الإنفاق من كلّ ما تفضّل به الله تعالى على الإنسان ، من علمه ، من ماله وثروته ونفوذه ، من فكره الخلّاق ، من أخلاقه وتجاربه ، من جميع ما وهبه الله.

هذا الإنفاق تارة يكون (سرّا) ، فيكون دليلا على الإخلاص الكامل. وتارة يكون (علانية) فيكون تعظيما لشعائر الله ودافعا للآخرين على سلوك هذا الطريق.

ومع الالتفات إلى ما ورد في هذه الآية والآية السابقة نستنتج أنّ العلماء حقّا هم الذين يتّصفون بالصفات التالية :

* قلوبهم مليئة بالخشية والخوف من الله المقترن بتعظيمه تعالى.

* ألسنتهم تلهج بذكر الله وتلاوة آياته.

* يصلّون ويعبدون الله.

* ينفقون في السرّ والعلانية ممّا عندهم.

* وأخيرا ومن حيث الأهداف ، فإنّ أفق تفكيرهم سام إلى درجة أنّهم أخرجوا من قلوبهم هذه الدنيا الماديّة الزائلة ، ويتأمّلون ربحا من تجارتهم الوافرة الربح مع الله وحده ، لأنّ اليد التي تمتدّ إليه لا تخيب أبدا.

والجدير بالملاحظة أيضا أنّ «تبور» من «البوار» وهو فرط الكساد ، ولمّا كان فرط الكساد يؤدّي إلى الفساد كما قيل «كسد حتّى فسد» عبّر بالبوار عن الهلاك ، وبذا فإنّ «التجارة الخالية من البوار» تجارة خالية من الكساد والفساد.

ورد في حديث رائع أنّه جاء رجل إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله ، ما لي لا أحبّ الموت؟ قال : «ألك مال» قال : نعم. قال : «فقدّمه» قال : لا أستطيع. قال : «فإنّ قلب الرجل مع ماله ، إن قدّمه أحبّ أن يلحق به ، وإن أخّره أحبّ أن يتأخّر معه»(١) .

إنّ هذا الحديث في الحقيقة يعكس روح الآية أعلاه ، لأنّ الآية تقول إنّ الذين

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٤ ، ص ٤٠٧.

٧٩

يقيمون الصلاة ، وينفقون في سبيل الله لهم أمل وتعلّق بدار الآخرة ، لأنّهم أرسلوا الخيرات قبلهم ولهم الميل للحوق به.

الآية الأخيرة من هذه الآيات ، توضّح هدف هؤلاء المؤمنين الصادقين فتقول : انّهم يعملون الخيرات والصالحات( لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ) (١) .

هذه الجملة في الحقيقة تشير منتهى إخلاصهم ، لأنّهم لا ينظرون إلّا إلى الأجر الإلهي ، أي شيء يريدونه من الله يطلبونه ، ولا يقصدون به الرياء والتظاهر وتوقّع الثناء من هذا ومن ذاك ، إذ أنّ أهمّ قضيّة في الأعمال الصالحة هي «النيّة الخالصة».

التعبير بـ «أجور» في الحقيقة لطف من الله ، فكأنّ العباد يطلبون من الله مقابل أعمالهم أجرا!! في حال أنّ كلّ ما يملكه العباد منه تعالى ، حتّى القدرة على إنجاز الأعمال الصالحة أيضا هو الذي أعطاهم إيّاها.

وألطف من هذا التعبير قوله( وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) الذي يبشّرهم بأنّه علاوة على الثواب الذي يكون عادة على الأعمال والذي يكون مئات أو آلاف الأضعاف المضاعفة للعمل ، فإنّه يزيدهم من فضله ، ويعطيهم من سعة فضله ما لم يخطر على بال ، وما لا يملك أحد في هذه الدنيا القدرة على تصوره.

جاء في حديث عن ابن مسعود عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال في قوله :( وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) : هو الشفاعة لمن وجبت له النار ممّن صنع إليه معروفا في الدنيا(٢) .

وبذا فإنّهم ليسوا فقط من أهل النجاة ، بل إنّهم يكونون سببا في نجاة الآخرين بفضل الله ولطفه.

__________________

(١) جملة «ليوفّيهم» إمّا أنّها متعلّقة بجملة «يتلون كتاب الله ...» وعليه يكون معناها «إنّ هدفهم من التلاوة والصلاة والإنفاق الحصول على الأجر الإلهي» أو أنّها متعلّقة بـ «لن تبور ...» وبذا يكون معناها «إنّ تجارتهم لن يصيبها الفساد لأنّ المثيب لهم هو الله تعالى».

(٢) مجمع البيان ، ج ٤ ، ص ٤٠٧.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383