السقيفة ام الفتن

مؤلف: الدكتور جواد جعفر الخليلي
تصنيف: السيدة الزهراء سلام الله عليها
الصفحات: 119
مؤلف: الدكتور جواد جعفر الخليلي
تصنيف: السيدة الزهراء سلام الله عليها
الصفحات: 119
نبذة عن المؤلفرحمهالله
هو : الدكتور جواد جعفر الخليلي حفيد آية الله الحاج ميرزا حسين الخليلي أحد مراج العصرقدسسره .
ولادته : ولد في النجف الأشرف ٢٤ / ١٩١٤.
أسرته : اسرة عريقة في النجف الأشرف مشهورة بالفقه والاصول والطب ولها آثار بقاية منها مدرسة الخليلي العلمية في النجف الأشرف.
نشأته : نشأ في مدينة النجف الأشرف ـ العراق.
دراسته : دراسة علمية وأدبية في الطب والحقوق وعلم النفس.
مسكنه وأقامته : في السابق كان في العراق ثم انتقل إلى إيران واقام بها سنين عديدة ومنها هاجر إلى كندا مع أهله وأولاده.
أعماله الإدارية : في الشئون الطبية ، والقانون إثنى عشر سنة قضاها في مناصب طبية. وثلاثة وعشرون سنة في منصب القضاء في طهران وبعدها مارس المحاماة.
هوايته : الشعر والمطالعة ، والكتابة. له ديوان شعر في مجلدين باللغة العربية ، وله دائرة معارف الام والطفل (في التربية والطب خمسة أجزاء).
كتب : في علم النفس والتنويم المغناطيسي وتحضير الأرواح وله : الحكومة العالمية المثلى في ٣ أجزاء طبعت في بيروت وله : موسوعة المحاكمات في عشرة أجزاء. جزآن في حياة رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم وجزآن في حياة الامام أمير المؤمنين علي وصدر الجزء الأول منه قبل أعوام نشرته مكتبة چهل ستون في طهران. والجزء الخامس والسادس والسابع عن أبي بكر وعمر وعثمان والجزء الثامن من الموسوعة يحتوي على ذكر الناكثين ، والمارقين ، والقاسطين والجزء التاسع والعاشر من الموسوعة حوار فيما طرأ بسبب ما تقدم ونتج في الوضع الإسلامي من العلل والأسباب ومحاكمة المسببين ، وأنقسام الأمة الإسلامية وتدهورها.
أولاده : الدكتور باسم طبيب وجراح ، الدكترو عاصم استاذ جامعة في الهندسة الكهربائية ، سالم ، مهندس في الهندسة المعمارية ، حسين مهندس كمپيوتر ، علي طبيب ، حسن ، بكالوريوس في الادارة ، والحسابات وله ثلاث بنات حاملات شهادات عالية ومتزوجات.
زوجته : علوية هاشمية حسينية من خيرة السلالات ولها اليد الطولى في تربية أولادها وبناتها.
وفاته ومدفنه
انتقل الفقيد الراحل إلي جواره ربّه في مدينة (اُوتاوا) ـ بكندا وذلك في يوم الخميس ١٧ محرم الحرام عام ١٤١٩ ه ـ الموافق ١٤/٥/١٩٩٨ م ونقل جثمانه إلي مدينة مونتريال ودفن فيها تغمده الله برحمته الواسعة وحشره مع النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم .
كلمة المعلّق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وعترته المظلومين ، ولعنة الله على ظالميهم أجمعين الى قيام يوم الدين.
وبعد فهذه كلمة كتبناها عن كتاب : (السقيفة أم الفتن) للدكتور جواد جعفر الخليلي رحمه الله تعالى وحشره مع أئمة أهل البيتعليهمالسلام .
وبعد تعليقي على الكتاب أضفت إلى اسمه كلمة «منها خرجت الفتنة وإليها تعود».
ذكر الأستاذ الخليليرحمهالله في كتابه هذا حقائق ناصعة استخرجها من كتب الحديث : الصحاح ، والمسانيد ، وغيرها من الكتب المعتبرة عند السنة.
وأورد فيه مظلومية أهل البيت ، وذكر ما جرى عليهم من عدوان ومصائب عظام ، واضطهاد وويلات من أمراء عصورهم بعد رحيل الرسول الأعظمصلىاللهعليهوآلهوسلم عنهمعليهمالسلام .
واجتماع بعض الصحابة في السقيفة لأجل تحقيق غايتهم المشؤومة التي تواطؤوا عليها في حياة الرسول الكريمصلىاللهعليهوآلهوسلم ، وحققوها من بعد وفاته في السقيفة ، والرسولصلىاللهعليهوآلهوسلم بعد لم يدفن ومسجى على فراشه ، وبذلك حرفوا الإسلام عن مسيره
الصحيح ، والمسلمين عن الصراط المستقيم ، والنهج النبوي القويم ، فزاغوا عن أهل البيتعليهمالسلام ، ووقعوا في الضلال إلى الأبد ، على الرغم من كثرة الأحاديث التي وردت عنه (صلوات الله عليه وآله) من الوصاية بحقهم ، والأمر بمودتهم ، ورعايتهم واتباعهم ، فمما قال فيهمعليهمالسلام : ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم.
وقرنهم بالكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. وقال : «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي» ، وحيث إن التمسك بالكتاب وحده لا يفي بالمقصود ، ضم الرسول (صلوات الله عليه) أهل بيته ، وأهل البيت أدرى بما في البيت من الأجانب والأغيار.
وسيقف القارئ لهذا الكتاب على ما جرى على أهل البيتعليهمالسلام من بعد رسول الكريمصلىاللهعليهوآله من ظلم ، وجفاء ، وعدوان ، وتعد ، واضطهاد ، بعد تلك الوصاة ، حتى قالت بضعته الزهراء سلام الله عليها :
صبت علي مصائب لو أنها |
صبت على الأيام صرن لياليا |
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ، والعاقبة للمتقين.
كتبه : السيد مرتضى الرضوي طهران |
كلمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
بعد ثلاثة وعشرين عاما ، من ذلك الجهاد المرير ، الذي قام به رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم وخليفته وربيبه علي بن أبي طالبعليهالسلام منذ العهد الجاهلي المغمور في الظلمات ، ظلمات الجهل والفقر والفاقة والانحطاط الاجتماعي والخلقي والصحي.
بعد ذلك العهد الذي كانت فيه الجزيرة العربية طعمة مبتذلة لجيرانها من الفرس والرومان وحتى الأحباش ، واقلها في الحجاز وأخص منها مكة ، البلاد التي حرمت حتى من الماء والهواء العذب ، لدرجة لا يطمع فيها غاز أو فاتح بثراء ولا بجمال ، وإذا بمحمدصلىاللهعليهوآلهوسلم ، ذلك الذي قضى دور الطفولة والشباب وهو يتدبر القيام بمهمة تليق بموهبته الروحية والفكرية التي لم يسبق لها مثيل في عالم البشرية قد شاء الله عز وجل له أن يظهر ليكون ظهوره معجزة المثال البشرى على وجه هذه البسيطة ، بما أوتي من عقل وتدبير وحكمة وكفاح وجهاد ، وتصدي لأ شد الصدمات والأهوال من أفراد وجماعات تفانت في العصبية الجاهلية ، والذب عن الشرك والعادت والأخلاق المستهترة ، سارحة في بحبوحة من التعاسة والنعرات القومية يستحل فيها القوي الضعيف لأقصى ما يتصوره الفكر ، وينزل فيها الفرد لأدنى درجات الخسة ، أمام الشهوات والغرائز الجنسية. تتحكم فيهم العادات والطبائع التي نأت عن الصفات الإنسانية ، وابتعدت عن المنطق السليم. يعبدون أحجارا نحتوها بأيديهم ، ويعتقدون بسخافات وأوهام يأباها من له ذرة من العقل السليم ،
ويستحلون لفقرهم وفاقتهم وجهلهم وقساوتهم وأد بناتهم ، ولا يمنعهم عن الرذيلة مهما بلغت إباء أو شمم ، غير طمع أو فزع.
فكأن العصور المتمادية والأصقاع القريبة والنائية ، بعد طول العسر وشدة القسر ، قد جمعت ما فيها من فضيلة وحسن ، وكمال وجمال في هذه الموهبة العظمى ، التي شاء الله سبحانه عزوجل لها أن تبزغ على العالم أجمع من هذه الديار ، فتتلبس في عالم جسماني يودع في عبد المطلب لينشطر الى قسمين يعودان بعد بضع سنوات لاتحادهما الروحي ، محمدصلىاللهعليهوآلهوسلم ، وعليعليهالسلام جسمين في روح واحد يشد أحدهما أزر الآخر مادة ومعنى ، شدا لا ينفصم ، فيكون الأول نبيا والثاني وصيا ووزيرا ، وعلى اكتافهما تقام أرقى حضارة عرفها البشر ، وأجل دين وعقيدة كان لها أن تبعث بالبشرية لأقصى ما ترجوه من السعادة. قائمة على المنطق السليم والنهج القويم ، تلك التي كان يحلم بها ويتمناها أعظم فلاسفة العالم وحاروا في الوصول إليها ، كسقراط وافلاطون وأرسطو ومن سبقهم وتلاهم ،
فصدعصلىاللهعليهوآلهوسلم بأمر من الله سبحانه ليؤسس من أمة مستضعفة إمبراطورية قوامها الإيمان بالله ، مستندة إلى العقل والمنطق السليم ، تؤيدها الإرادة والاخلاص ، وضع هوصلىاللهعليهوآلهوسلم مناهجها وأسسها ، وأكملها وأتمها الله بعترته أهل بيتهعليهمالسلام ، وفي طليعتهم ابن عمه على بن أبي طالبعليهالسلام خليفته من بعده ، شقيق نفسه وباب علمه وحكمته وتدبيره ، فقالصلىاللهعليهوآلهوسلم وقد دعا إلى الله : «إني تارك فيكم الثقلين ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي» وأوضح لهم السبيل ، وأقام لهم الدليل ، وبين لهم النهج ، فكان عليعليهالسلام وصيه وأخاه ووزيره وخليفته ، وباب علمه وسفينة نجاة أمته ، والميزان الفارق بين المؤمن والمنافق ، يعسوب الدين وإمام الغر المحجلين ، قدوة المتقين وحبيبه وحبيب إله العالمين ومولى كل مؤمن ومؤمنة.
فبعد ثلاثة وعشرين عاما دعاهم في غدير خم ، وأخذ البيعة لهعليهالسلام ممن حضر هناك ، فهنأه الرجال ، والنساء آنذاك ، وخصوصا ، أبا بكر وعمر بن الخطاب ، وأخذ جبرئيل العهد على عمر كي لا ينقضه.(١) وحين قربت وفاتهصلىاللهعليهوآلهوسلم أرسل المهاجرين والأنصار مع أسامة وتحت إمارته ، ولعن من تخلف ، وقد تخلفوا ، ثم دعا بمحضرهم بداوة وقرطاس ليضع العهد كتابة(٢) ، فحدثت بمخالفة عمر أول فتنة في الإسلام ، حتى إذا قرب الأجل ورحلصلىاللهعليهوآلهوسلم إلى الرفيق الأعلى وبدأ عليعليهالسلام باجراء تنفيذ وصية رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم بغسله وتكفينه ودفنه ، اغتنم عمر الفرصة فأتى إلى دار رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم وفيها بنو هاشم وجل الصحابة ليستدعي أبا بكر وحده من بينهم ، وكان قبلها قد خلف وراءه هو وأبو بكر جيش أسامة خارج المدينة مخالفا بذلك أوامر رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم وغير مكترث باللعن الذى لعن به رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم المتخلفين عن ذلك الجيش وفي الجيش أجلة المهاجرين والأنصار ، وبادر الى السقيفة أبو عبيدة الجراح فوجدوا قلة من الأوس والخزرج اجتمعوا لانتخاب أمير من بينهم ، وكانوا قبلها بليلة قد ألقوا الفتنة والتفرقة بين الأنصار من الأوس والخزرج ، فقدم أبو بكر ليبايع أبو عبيدة الجراح أو عمر ، فقال له عمر أنت أحق بهذا الأمر ، وبايعه هو وأبو عبيدة والتحق بهما نفر من الأوس دون علم من جيش أسامه وهو على أبواب المدينة ، وبدون علم من بني هاشم أهل بيت الرسالة وأقرباء رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم القريبين والصحابة المشتركين في غسل وتدفين رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم ، ودون علم الباقين الذين هم خارج السقيفة وفي المدينة نفسها ، ودون علم من في جمع الأقطار والمدن والقرى المحيطة بالمدينة أو أطرافها ، أو مكة وحواليها أو اليمن وما فيه أو الجزيرة بما فيها من مسلمين
__________________
(١) راجع الغدير واسناده في الجزء الأول والثاني من موسوعتنا هذه.
(٢) في سر العالمين للحجة الغزالي ، وخواص الائمة للسبط ابن الجوزي.
هكذا كانت بيعة أبي بكر فلتة كما صرح بها عمر بعد ذلك
وقد سبق الدخول إلى السقيفة تهديد عمر لكل من يقول إن رسول الله قد مات(١) ، لأن با بكر كان غائبا حتى إذا حضر السقيفة وبويع انتهت مشكلته
وبعد ذلك خروجهم من السقيفة والتهريج ببيعة أبي بكر وسحب كل من في الطريق لوضع يده في يد أبي بكر وأخذ البيعة منه اختيارا أو كرها.
هذه صورة مختصرة عن الجهود التي بذلها محمدصلىاللهعليهوآلهوسلم حتى كون تلك الإمبراطورية ، وبعدها الدسيسة والفتنة الكبرى للانتفاضة ونقض أبي بكر وعمر عهدهم للخلافة الاسلامية ، والتي زعموا أن الأمة أجمعت على انتخاب الخليفة ، ونحن وإن تعرضنا مختصرا للواقعة ، سنعود لتفصيلها مع التوثيق باحثين :
اولا ـ عن أنواع الانتخابات التي جرت وتجري في العالم قديما وحديثا.
ثانيا ـ سرد نظرية إفلاطون لأنواع الحكومات في جمهوريته ، ونظرة لأصلحها للحكم.
ثالثا ـ نظرة في علم النفس.
رابعا ـ علم الاجتماع.
خامسا ـ الوراثة والمحيط والتربية
سادسا ـ نظرة الإسلام حسب الكتاب والسنة النبوية عن ذلك.
سابعا ـ تصور لما كان سيحدث فيما لو تحقق ما أراده رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم .
ثامنا ـ حكارنة الحكومات مع حياة الجسم الإنساني الطبيعي.
__________________
(١) بقوله إن رسول الله لم يمت وإنما بعث كما بعث موسى للقاء الله.
الحكومات وأنواعها في العالم وأنواع الانتخابات
كيف بدأت الحكومات؟
لا شك أن هذه الدراسة بحاجة لتأليف مفصل لشرح أنواع الحكومات منذ العصور البدائية إلى اليوم ، مستعرضين فيه ما قام منها من الشرق الى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب ، وتدرجها وتطورها منذ تشكيل العائلة ، فالقبيلة فالقصبات فالمدن فالحكومات الصغيرة فالكبيرة ، وانتشار الحضارات والثقافات وتأثيرها على الأفراد والجماعات ، ووضع النظم والقوانين ، وحدود حقوق الفرد والجماعة حتى يومنا هذا.
وبصورة مجملة ، لا شك أن المجتمعات تدرجت من صغيرة إلى كبيرة فأكبر وأكبر حتى بلغت الإمبراطوريات الواسعة ، ومن جاهلة الى أقل جهلا ، وتدرجت بالعلم والثروة الى ما هي عليه اليوم.
ولقد كان لأدمغة المفكرين والنوابغ ، واحتكاك الأفراد بعضهم من بعض ، والفقر والثراء ومتطلبات الراحة والرفاه ، وظهور الأنبياء والرسل والدعاة الى الإنسانية ، لتهذيب النفس والمجتمع ، والدعوات الإنسانية من حين لآخر بسبب ما يرتكبه الانسان من المظالم فتشقى بذلك نفسه ويشقى غيره ، وما يعكسه هذا من رد فعل الأثر الذي خلف وعيا ودعوة لإقامة أسس للحكم والعدالة الإنسانية والابتعاد عن المظالم ، ووضع قوانين مستمدة من المنطق والعدالة والعرف
والعادة في كل قبيلة ودويلة فدولة ، وتأثير الواحدة على الأخرى ، وتبادل الآراء وانتقال الحضارات والثقافات من الواحدة للأخرى.
وقد كانت في البدء العائلة أساس الجماعة ، حتى إذا توسعت وتكاثرت وضمت العائلة بعد توالدها عوائل أصبحت قبيلة ، فقبائل متجاوره انضمت إلى بعضها بناء على الغريزة الإنسانية لحب الظهور والتسلط.
ولنفس السبب ظهرت الحكومات البدائية والدويلات المتجاورة ، وبضم الكبيرة الصغيرة طبق القانون الطبيعي تشكلت الدول ثم الدول الكبرى ، من شعوب متمايزة بحضاراتها وتمدنها ، وفيها حصل تبادل الآراء في مختلف العلوم الفلسفية والاجتماعية والطبية والسياسية وغيرها.
وكانت ولا شك بحكم الغلبة والحروب أكثرها حكومات استبدادية مطلقة ، تحت نفوذ سلطة مطلقة تستمد نفوذها من رئيس الدولة وهو الملك أو قل ملك الملوك ، وإلى ذلك نرى في الشرق والغرب السلطات الثانوية المتنفذة من الناحية الروحية والنفسية من الكهنة ورجال الدين ، أولئك الذين كانوا على الأغلب بيدهم وتحت نفوذهم أهم العلوم الاجتماعية والنفسية والطبيعية وما وراء الطبيعة ، وبعض السلطات التي كان لها تأثيرها على السلطات العليا نفسيا ، كما نرى ذلك في بلاد مصر وبابل العائدة لتأثير المعابد ، وبعدها اليونان وبلاد فارس خصوصا حينما نهض فيها العلماء والمدرسون من طبيعيين وما وراء الطبيعة ، وتوسعت الأفكار ، ووضعت حدود وموازين لاستبداد الملوك ورجال الدين ، ونهض الرسل والأنبياء لاستنفار الناس والاهابة بهم ، لصد المظالم وردع المفاسد.
وعند تحديد السلطات العليا في بعض الدول ، تشكلت عوض السلطات المطلقة من فرد واحد سلطات تضم عدة أشخاص يقومون بإدارة دفة الحكومة كما نرى ذلك عند اليونان في تشكل القناصل ، وعند الرومان ، ونزع بعض السلطات
وإعطائها للمراكز الدينية ، وظهور الفكرة الديمقراطية البدائية والأرستقراطية الأفلاطونية التي سنورد شرحها فيما يلي ، حتى دخلت أنظمة الكنائس في أورپا وظهرت قوتان متنافستان فيها منذ اعتناق المسيحية ، وتسلط الكنائس بمعتقداتها حتى على السلطات والحكومات.
وحين ظهر حكم استبدادي جديد في الغرب وحدث انهيار اجتماعي في الشرق فوجئ العالم بالعقيدة الإسلامية الفذة ، تلك العقيدة التي بلغت بالإنسان وما يحمله من مزايا وما يجب أن يتمتع به من خصال لبلوغ سعادته حدودا من الكمال لو انصاع إلى رسولها الإنساني الكريم ونبيها الرباني الحكيم وما خطه له من الخطط العظمى لساد السلام والرحمة والسعادة بين الأفراد والجماعات ، ولأصبح أفراد النوع الإنساني بما فيهم من أسود وأحمر وأصفر وأسمر وأبيض في الشرق والغرب والشمال والجنوب على اختلاف لغاتهم وطباعهم وعناصرهم وأذواقهم متساوين في الحقوق والواجبات تجاه الآخرين ، ولسادت المحبة مكان الضغينة ، وما تجرأ أن يعتدي من زاغت نفسه أو طغى هواه على الغير ، تحت تربية عالمية متينة ذات أصل متين واحد ، وأصبحوا بحكم العدالة والبر والإحسان والتعاون والمحبة المتبادلة إخوانا صدقت نياتهم مع آمالهم يصدق عليهم قوله تعالى :( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) (١) .
لكنهم ما إن أغمض هاديهم ومرشدهم ورسولهم الأعظمصلىاللهعليهوآلهوسلم عينيه بعد أن أوضح لهم الطريق وأنار السبل وأدلى الحجج ، وأنذرهم الله وحذرهم الفرقة والمخالفة والخروج عما أوصاهم وتلا عليهم ما أنزله الله في كتابه حيث قال تعالى( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتهم على
__________________
(١) الحجرات ، ١٣.
أعقابكم ، ومن ينقلب على عقبيه خلى يضر الله شيئا ) (١) ، وخط لهم الخطط ووضع لهم الأسس وأرشدهم بقوله «اني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبدا».
وقال لعليعليهالسلام وصيه وخليفته وهو يعلم ما يقول إنه سيلقى منهم اضطهادا ، لذا أوصاه بالصبر والتجلد ومداراتهم ، وقد رتب ما يلزم للفتح وتعميم الدين.
فما إن أغمضصلىاللهعليهوآلهوسلم عينيه حتى نقضوا بيعتهعليهالسلام ، واختلفوا واغتصبوا منصبه الذي نصبه الله فيه ، وغيروا وصية رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم في الثقلين ، فأزاحوا عليا عن مقامه ، وأحكموا الأمر لأعدائه وخصومه مكان عترة رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم تلك العترة التي لا تسير دفة الأمور إلا على عواتقهم ، فهم المفسرون لمجمل كتاب الله وهم الحاملون لعلم نبيهم كما قال رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم لعليعليهالسلام : «إنك لتقاتل على التأويل كما قاتلت على التنزيل».
نعم ، قاتل رسول الله على تنزيل القرآن وبقي تأويل القرآن بعده لباب علمه وهادي أمته علي وعترتهعليهمالسلام ، وهم الثقل الثاني بعد كتاب الله ، فماذا كانت النتيجة؟
نعم!(٢) أجروا بعض أوامر الله ونقضوا الأخرى التي تخالف رغباتهم وتعكس أعمالهم وتفضح منكراتهم ، فسار الدولاب الذي وضعه رسول الله لأمد ثم وقف ، إذ لم يكن بيد أهله ، فصار الضعف بعد القوة ، والتفرقة بعد الاتفاق ، والخذلان بعد الثقة.
ثم لم تمض مدة حتى نرى أورپا المسيحية التي تأثرت بالحضارة الإسلامية
__________________
(١) آل عمران ، ١٤٤.
(٢) راجع الكتاب الأول والثاني في موسوعتنا هذه.
الباقية ، يستثير علماؤها جهالها ، وينهضون بعد طوال الرقاد ، يهيبون بالناس لأخذ حقهم المسلوب وإقصاء الظلم والاستبداد ، فتقوم الثورات الدينية على الكنيسة ، وبعدها الثورات على ملوكها ، تحطم الأولى تمثال الكنيسة وتهدم الثانية هيبة الملوك وصرحهم الشامخ ، ليقيموا حكومات سموها ديمقراطية تحت سلطة الشعوب مع حفظ حق الفرد ، وأخرى شيوعية تحت سلطة الجماعة مع حق الجماعة ، وقامت ثالثة فاشستيه لتعدل بينهما وتعيد الحكم المطلق بأسماء أخرى ، وثارت بينها الحروب ولازالت سجالا حتى اليوم.
تلك صورة مجملة من حكومات العالم منذ بدء التاريخ الى اليوم ، وكل منها ، سواء كانت مطلقة أو أرستقراطية ، ديمقراطية أو شيوعية ما وفت بالحق لا للفرد ولا للجماعة. بل لا زالت وبالا علينا وسخطا على شعوبها ، وساقت للبشرية باسم الإنسانية أعظم المجازر والويلات ، وجنت على شعوبها أمر ما يجنيه الجاهل والمجنون على نفسه أو العدو على عدوه.
* * *
أنواع الحكومات في العالم
الحكومات على أنواع متعددة ، فمنها : ـ
المطلقة الستبدادية : ورئيس الدولة أو الملك بيده كل السلطات ، ويفعل ما يشاء ، كالحكومات القديمة من الفراعنة والبابليين والاشوريين والرومان والأكاسرة وأمثالهم ، وفيها الحكم وراثي مطلق.
ومنها : الحكومات الدستورية كالحكومات القائمة اليوم ، ومنها :
الملكية الديمقراطية
وهي على الأغلب ذات سلطات ثلاث :
1 ـ السلطة التشريعية : وهي ذات مجلسين ، هما مجلس النواب ومجلس الأعيان ، وفيها تسن أو تعدل أو تبدل القوانين ، وبعد تصديقها من الملك ترسل لتنفيذها إلى السلطات الأخرى.
2 ـ السلطة القضائية : وهي مركز العدالة والمحاكمات في البلاد بما فيها من درجات وشعب ، وفيها مراكز التظلم وإحقاق الحق وشكاية الشكاة وملاحظفة المجرمين والجناة وإصدار الحكم لتنفيذه.
3 ـ السلطة التنفيذية : وهي الحكومة بما فيها من الوزارات والادوائر الرسمية وغير الرسمية.
والملكية هذه تختلف من حيث نفوذ الملك في السلطات الثلاث ، فمنهم (أي الملوك) من يصدر الأوامر التى يجب تنفيذها من قبل السلطات الثلاث ، وهي جميعا ذات صبغة ظاهرية لا تقوم بأي عمل صغير أو كبير إلا بإرادته ، وليس لها أي قدرة على أي عمل إلا إذا شاء. فهي حكومة دكتاتورية مطلقة في الحقيقة.
وثمة ملكية أخرى ليس لها أي صفة مما مر أعلاه ، سوى المصادقة على القوانيى وذلك والمظهر القديم لتوحيد السلطات ، وليس للملك أي مداخلة غير الصادقة
وهناك ملكية ثالثة يختلف ملكها في حق المداخلة في أمور السلطات ، وهي قائمة على نظام حقوق الفرد ومصالحه في المجتمع.
جمهورية ديمقراطية
وفيها يتمتع رئيس الجمهورية بنفس ما يتمتع به الملك من السلطات.
ومن رؤساء الجمهوريات من فرض نفسه فرضا على الشعب ، وإن ألف تلك السلطات الثلاث وسمي رئيسا ، فهو في الواقع دكتاتور مطلق. وقد يحيط نفسه بأفراد باسم هيئة القيادة أو أمناء الشعب ، بيد أنه لا يجرؤ احدهم على مخالفته في كثير من الأحيان ، فهو إما دكتاتور مطلق أو شبه دكتاتور.
الحكومة الشيوعية
وتختلف عن الأولى من حيث النظام الاقتصادي الجمعي ، وإن كل شئ في الدولة مشاع للجميع ، والخدمة جماعية ، وليس الفرد فيها كما هو في الحكومة
الديمقراطية بل مصهور في الجماعة ليس له إلا ما للكل ، والسلطة التشريعية بيد القيادة العليا للمجتمع ، وبيدها كل مقادير الدولة في الداخل والخارج ، وليس للفرد سلطة واسعة في كل شئ خاصة الملكية الفردية وحرية النفس والمال ، فالسلطة بيد عصبة تتحكم بها كما تشاء ، وليس للأكثرية حساب يذكر.
الفاشستية
والفاشستية تحاول أن تجمع بين النظام الديمقراطي والنظام الشيوعي ، فتحفظ للفرد ما له من الحقوق في الدولة الديمقراطية على أن تحده من بعض الجهات ، فتكون الملكيات الواسعة والمرافق العامة للجميع ، وتحت نظر الدولة ، وبهذا التحديد تحافظ الدولة على حقوق المجتع من الناحية الاقتصادية ، فيما تراعي في الوقت نفسه حق الجماعة من الناحية العامة.
وكانت تمثل الحكومات الديمقراطية الملكية وتتزعمها الحكومة البريطانية.
أما الجمهوريات الديمقراطية فتمهلها وتتزعمها الولايات المتحدة الأمريكية والجمهورية الفرنسية.
وكانت تتزعم الحكومات الفاشستية : ألمانيا الهتلرية وإيطاليا الموسولينية.
فيما تزعمت الدول الشيوعية روسيا (الاتحاد السوفياتي السابق) وجمهورية الصين الشعبية.
الإسلام
وأما الأسلام فقد جاء بنظام جامع لم يسبقه سابق ولم يلحقه لاحق جاء بنظام يمثل الديمقراطية الواقعية بصورة تشمل الجميع ، فهو يخدم الفرد لأقصى ما
يمكن أن يتصوره العقل ويخدم الجماعة بما يلزمها ، وقد راعى حقوق البشر لأقصى ما يمكن أن يتوخاه المفكرون من ذوي الألباب والرؤى الصائبة والآراء المتفوقة. فهو في عمره القصير وضع أسسا اجتماعية واقتصادية وأخلاقية في غاية المتانة ، كما حدد القوانين الحقوقية والجزائية وأصول المعاملات والأحوال الشخصية. ولولا ما شابه من أفعال الانتهازيين المغرضين لأزال كل ما يورث التفرقة والشقاق والنفاق واسس الضعف المادي والمعنوي ، من خلال إيضائه بالبر والإحسان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولولا من خالف تلك الشريعة السمحاء وشوهها ، وغير حدود الله في اوامره ونواهيه وسنن الرسول الأعظمصلىاللهعليهوآلهوسلم لرأينا السلام والعدالة والمحبة تسود البشرية ، ولكنهم طمسوا مبدأ العدالة والرفق والمحبة ، وأحلوا الظلم والجور والإجحاف ، وبدلوا وغيروا.
وطالما تغلب العقل البشري السليم وحكم بالصواب ، صارخا بالناس مبشرا ومنذرا على لسان الحكماء والفلاسفة والأنبياء والرسل وقادة البشر ، ذوي المنطق الصائب والإرادة المحكمة ، متأثرين بما شاهدوه من الانحطاط العقلي والانجراف الى الرذيلة ، والظلم والاستهتار وتدهور الفكر الإنساني إلى وهدات الجهل والتعاسة ، فخطبوا الجماهير ، وأوضحوا لهم سبل الحياة وجاهدوا وضحوا في سبيل العدالة وإرجاع الفرد إلى وعيه وصوابه ، فخلفوا تراثا من النظم المقدسة وسموا بالعقل البشرى ما خلد ذكراهم ، كسقراط وإفلاطون والفارابي وابن سينا ، وبوذا وكونفوشيوس ، وحكماء من الأغريق والإسلام والهند والصين ، ومن الأنبياء كإبراهيمعليهالسلام وموسىعليهالسلام وعيسىعليهالسلام وأخص منهم محمداصلىاللهعليهوآلهوسلم .
فحدد سقراط الفضيلة ، والدولة المثلى ، ووضع تلميذه إفلاطون جمهوريته ، وكان الذي حثهم هو انحطاط الدولة وتغلب الرعاع باسم الديمقراطية ، تسيرها شهواتهم ، صدعوا بهذه الأفكار لإيجاد دولة مثلى يسعد فيها هذا البشر المتسافل الى
الهوة السحيقة والى المفاسد ، وأشادوا شريعة ومنهجا يقوده إلى السعادة والسلام. واعتقد سقراط ، أن اجتماع الجماهير من الرعاع يزيدهم تدهورا وفسادا ، ويصبح ذلك بلاء إذا استثار أحدهم بقدرته الخطابية هياج الجماهير ، ومثله بالطبل الفارغ ، وحدد المستبد ، بقوله واصفا إياه أنه ذلك الفرد الذي يعمل في يقظته ، كل ما يعمله بوحي غرائزه في نومه.
.. ذلك نظر سقراط الذي حكمت الدولة عليه حنقا بالموت ، فأوحى ذلك لتلميذه إفلاطون هذه النوازع والمثارات لوضع جمهوريته التي بحث فيها ما وراء الطبيعة والآداب والفلسفة ، كما بحث عن أنواع الدولة ، فتكلم عن الأرستقراطية واعتبرها أرقاها ، كما بحث عن الديمقراطية والدكتاتورية وعن الشيوعية ومبادئ الاشتراكية واليوجينية وعلم النفس.
افلاطون
ولد افلاطون سنة 427 قبل الميلاد من أبوين أرستقراطيين ، لهذا نجده أرستقر اطي الشرب رغم تأثره بالمحيط وبمجتمعه وتربيته وتعليمه. فجمهوريته جمهورية ارستقراطية. دمع أنه ينتقد الشعر والكهنوت والأساطير ، فهو شاعر ، وقد اضطر لحفظ جمهوريته من الانقلابات أن يستحل درج الأساطير التي تحفظ العامة من الشقاق والانتفاضة على حكومته الجمهورية الأرستقراطية ، ونعثر في جمهوريته على الشيوعية والاشتراكية والتعليم الحر والتحليل النفسي ، وما قاله روسو بالعود الى الطبيعة وما أورده نيتشه وبعض الكتاب في الأدب والارستقراطية ، وبرغسن في التعليم الحر والدافع الحيوي وغيرهم. حتى قال أمرسن أن أفلاطون هو الفلسفة ، والفلسفة هي إفلاطون ، فاحرقوا الكتب فكلها من هذا الكتاب.
وتتألف جهوريته من عشرة كتب في خمسة أقسام :
1 ـ بحثه في الأول عن العدالة.
2 ـ الكتاب الثاني والثالث والرابع يبحث عن أركان الدولة ، وتعليم طبقة الحكام. وبه يحدد المقصود من العدالة في الدولة تجاه الأفراد.
3 ـ الكتاب الخامس والسادس والسابع بحث فيه عن الشيوعية والحكام وأصول تعليمهم ومدارجهم.
4 ـ الكتاب الثامن والتاسع بحث فيه عن تدهور الحكومة وأدوارها حتى ينتهى لأعنفها ، وفيها الاستبداد الكامل وذلك ضد العدالة.
5 ـ النتيجة وخلود النفس وجزاء الفضيلة يوم الدينونة.
وقد بدأ أفلاطون بالعدالة وحددها بقوله : انها «قيام كل فرد بالعمل الذي يحسنه والخاص به» ، وإن الدولة المثلى بنظره هي الدولة الارستقراطية التي تحكمها طبقة حكام تعلموا تعليما عاليا ممتازا بعد مرورهم باختبارات طويلة واستطاعوا وبرهنوا على إدراكهم لمبادئ الدولة ، وعلى رأس الجميع رئيس الكل المبرز عليهم في العلم والإدارة والشجاعة والقدرة الفكرية وكل شئ.
وقسم افلاطون الدولة الي ثلاث طبقات كالجسم الانساني ، فكما أن الجسم الانساني ينقسم الى ثلاثة أقسام : العقلي ، والحماسي ، والشهوي ، فمثله الدولة. فالعقلي يقابل القسم الأرقى في الدولة ، أي منبع الحكم والمنطق والرأى الصائب ، وهم الحكام ، وعلى رأسهم أقدرهم علما وإرادة واجتهادا وشجاعة وتجربة وغيرها من معنوية ومادية.
والحماسي يقابله رجل الحرب والشجاعة وهو الجيش وما يتبعه.
والشهوي هو باقي الطبقات ، عدا الأولين ، من تجار ومهندسين وأطباء وفنيين وعمال وغيرهم.
وجمهوريته تقوم على أساس الاختصاص ، وقيام كل بعمله وعدم مداخلة أحدهم في شؤون الآخر ، على أن يكون العنصر العقلي هو المسيطر الأعلى على الجميع ، وأقدرهم هو الزعيم الأعلى ، وأن يكون هو الحكيم الأقدر والفيلسوف الأعلى وأكثرهم علما وأوسعهم فكرا ، وبهذا فقط تسير الأمور على فطرتها ويقوم كل واحد حق قيام بما أسندله بكفاءة ومقدرة.
وقد وضع لذلك حلولا عملية :
أولها : تربية وتعليم العامة بعزل الأطفال دون سن العاشرة لهذا الغرض ، وضبط الكبار عن المفاسد ، والاهتمام منذ البداية بنشاط الجسم والفكر بالرياضة والموسيقى ، والتعويد على الحرية الفكرية والنفسية ، لذا فهو يمنع التعليم الإجباري للابتعاد عن الشعور بالحقارة ، فهو يرى ذلك بالتشويق والتحبيب ، ويرى وجوب دعم القوانين الأدبية بسلطة كامنة عن طريق الدين والإيمان بالله بالرجاء والعطف والتضحية. وبعد السادسة عشر امتحانهم في أمور نظرية وعمومية ، فمن سقط في امتحانه كان من الطبقة الأدنى وهم الكتاب والصناع والفلاحون ، ثم التعليم لعشره سنين أخرى يليها امتحان أصعب ، فمن رسب فهو من الطبقة الثانية وهم مساعدو الحكام وضباط الجيش ، ولإقصائهم عن الطبقة الأولى كي لا يتحدوا ويشكلوا خطرا على الدولة باعتبارهم الأكثرية بانتفاضة أوثورة ، يجب إقناعهم نفسيا ودينيا أن ذلك من الله ولن يتغير ، وأجاز ذلك التلقين ، ولو عن طريق الأساطير والقصص.
ومن نجح دخل في الفلسفة ، وتعلم علوم ما وراء الطبيعة ، والحكمة في الحكم لخمس سنوات ، وبعدها تميز الحقائق وراء الصدر ، وبعد الخمس سنوات يتعلمون تطبيق هذا المذهب على شؤون الناس ، فيكون مجموع السنين 35 سنة ، يكونون بها فلاسفة نظريا قد أبصروا شمس الحقيقة ، وبعدها عليهم التوغل في الظلمات ، تلك
الظلمات التي يعيش فيه سواد الناس والأشياء لتطبيق النظريات على الحقائق ، وخوض معمعة الحياة العملية ، والمنافسات الموجودة بين مختلف طبقات التجار والصناع وغيرهم ، وأخذ العبرة مما يرونه من تنافس ومشاحنات وتصادم واحتيال ومكر ، ومعاشرتهم إياهم بالكسب والمعاملات ، وذلك لمدة خمس عشرة سنة ، وهي آخر محك ، وفيها يعرف الفائز من الخاسر ، والناجح من الراسب بعد بلوغ الخمسين. وقد أتقن الحكمة نظريا وعلميا ، وعنده أن هؤلاء غايته المنشودة من حكام الدولة المثلى ، ولنبذ الانتخابات والانتخابات المزيفة يصبح هؤلاء الرجال حكام الدولة ، يتقلدون زمام الحكم دون أن يكون لإخوانهم من طبقات الشعب الأخرى رأي في ذلك ، باعتبار عدم قدرتهم على انتخاب الأصلح لإدراة الدولة ، لعدم معرفتهم حقيقة الشخص المنتخب والمزايا اللازمة له ، ومنع اندفاعهم تحت تأثير الخطب لتوليد هياج وحماس مصطنع في المجتمع ، هكذا يريد أفلاطون أن يكون التهذيب والعلم والحكمة والتجربة الواقعية هي المسيطرة.
ومتى بلغ الحكام هذا المقدار من التهذيب فهم لا يتقيدون بقانون مدون بل يعملون حسب مقتضيات الحال ، وهم يقتصرون على إدارة الدولة بما فيها دون المداخلة فيما لا يخصهم من مهنة وصنعة ، فهم المشرعون وهم الحكام والمنفذون.
وقد أشار افلاطون الى الأصالة والوارثة :
1 ـ فهو لم يسمح بالتعاقب والتوالد إلا من أبوين سالمين ، سلامة جسمية وعقلية ونفسية.
2 ـ ويدعو إلى حياة الفطرة والبساطة.
3 ـ وأن يكون القسم العقلي سواء في الفرد أو الدولة هو المسيطر على الباقين.
4 ـ ويعتبر العدالة هي القوة المنظمة لا القوة المجردة ، وليست حق الأقوى بل
هي الاتساق والتعادل بين القوى لحق المجموع.
كما يقسم الحكومات الى خمس :
1 ـ الأرستقراطية : ويمثلها الرجل الأرستقراطي ، وهو الفرد المثالي الأعلى في سدادة الرأى والعلم والحكمة والعدالة والقيادة.
2 ـ التيوغراسية : وتكون عند تفوق العنصر الحماسي وإخضاعه بقية العناصر وهي الحكومة العسكرية ، وتقابل الفرد الحماس أو الغضب.
2 ـ الاوليفاركية : وهي وليدة التيموغراسية ، حينما يطغى حب الثروة حتى يصبح أساس الجدارة.
4 ـ الديمقراطية : وهي حكومة الرعاع الفقراء الثائرين على أصحاب الثروة باسم المساواة في الحقوق ، وتتسم بالاستباحة والفوضى ، حيث يطغى فيها الرعاع حتى على العلماء والأدباء والحكماء ، والأولاد على الآباء ، والتلامذة على المعلمين والمربين ، والصغار على الشيوخ ، والخدم على السادة ، فلا يقام لهم وزن باسم المساواة.
ولا تفرق بين الوطنيين والدخلاء ، ومن خصائصها سحق المقدسات والازدراء بالشرائع والنظم.
5 ـ الاستبدادية : وتكون بيد الانتهازيين عند الغلبة على الرعاع من غير الطبقة الأولى.
والانتهازي هو بطل الجماهير المختار في الأحزاب ، يعارض من انتهازيين آخرين مثله ، حتى إذا ما غلب على أمره ولو لأحد وعاد ثانية لسبب ما بعد إقصائه ، عاد أقوى وأكثر شراسة على خصومه مما مضى ، وأحاط نفسه بحراس خوف الاعداء ، بادئا بالقضاء على منافسيه كفرد مستبد عنيد.
وخلالها ينشغل عن أصدقائه ومعاضديه فيرون منه قلة الاكتراث ، وهم الذين أيدوه ، فيخلق بينهم جوا تتخلله الريبة ، فيحاول التخلص من هؤلاء الأخيرين الذين أيدوه من قبل حتى بلغ ما بلغ ، وعندها يقضي على الفاسد والمصلح ويتحول للعامة ويجردهم من السلاح.
ويصف افلاطون هذا المستبد بأنه أردأ رجل ، وهو من كانت حالته في اليقظة مطابقة لمثله الأعلى في النوم ، ولأنه أشد شرا فهو أشد شقاء ، يتساوى في نظره الصديق والعدو. فهو بؤرة الدولة الاستبدادية ، ودولته أشقى الدول ، وعلى نقيضه الرجل الاستقراطي فدولته أسعد الدول.
وقد رأى افلاطون أن المرأة والثروة هما أسباب الاختلاف ، لذا نراه جعل النساء مشاعة بين الحكام ومنعهم من جمع الثروة ولهم التمتع بما يريدون.
كما رأى ان سبب الحروب هو كثرة السكان فقال بتحديد النسل ، ولأسباب اقتصادية ، فقال بالاحتراز من التجارة الخارجية وماتثيره من منازعات ، ويتحقق هذا اليوم في المنازعات الدولية الاقتصادية.
المقارنة بين جمهورية افلاطون والاسلام
نرى أن أفلاطون نص على بضعة أمور تكاد تكون أساسا لجمهوريته ، وأهمها :
1 ـ العدالة ، فقال : إن العدالة هي قيام كل فرد بما أودع فيه وما يحسنه ، إن العدالة ليست القوة المجردة بل هي القوة المنظمة ، وليست هي حق الأقوى ، بل الاتساق والتعادل بين القوى لحق المجموع.
2 ـ وحينما قسم الجسم البشري ، وقسم الدولة الى ثلاث قوى : العقلي ،
الحماسي ، والشهوي ، وضع القسم العقلي في المنزلة العليا الذي يحكم جميع الأقسام ، وهو الذي يقابل أرقى الأقسام في الدولة ، مقر العلم والحكمة والمنطق والرأي الصائب ، والذي محص وجرب الأمور ، ويستمد الجميع منه الرأى ، وهو المشرع والحاكم والمنفذ ، وبهذا يسود السلام والعدالة ، وتسير الأمور على فطرتها سعيدة مرضية كما يسعد الجسم بسمو العقل وحكمه ، وبدونه تختل الموازين ، كما نراه في الجسم الذي تلعب به الشهوات أو يستثيره الغضب والحماقة.
3 ـ اعتبر الأصالة والسلامة والاستقامة في الأفراد شرطا للتوالد.
4 ـ يجب أن تتمتع جمهوريته بالحياة الفطرية والبساطة.
5 ـ يعتبر سلامة الجسم والعقل من أهم الشروط في جمهوريته.
6 ـ جعل الحكمة والعلم والفلسفة في القمة للحكم. واعتبر الاستبداد وحكومة العوام الرعناء الجهال باسم الديمقراطية أتعس الحكومات. وكان يحاول الابتعاد عن الانتخابات المزيفة.
حكومة الطبيعة أو الفطرة
اعرف نفسك تعرف ربك
دعا افلاطون الى الحياة إلفطرية البسيطة ، ونرى الاسلام يدعو الى حياة الفطرة والبساطة ، وسمعنا الجمل أعلاه تتردد من الأفواه ونسبوها الى الرسولصلىاللهعليهوآلهوسلم أو الى حكيم أو إمام ، ومهما كان فإن هناك حقيقة لا يمكن إنكارها ، وهي أن للطبيعة قوانين نعرف بعضها وسميناها بالقوانين الطبيعة من كمياوية وفيزياوية ، كما أن هناك قوانين للحيوان والنبات والجماد نجهل أكثرها ، وأن هناك قوانين تخص كل جسم حي في حياته الاجتماعية والاقتصادية وغيرها ، وهناك قوانين تشد أصر أخرى تعاضدها ، مقابل أخرى تخالفها وتناقضها.
وإن في كل جسم حي حكومة خاصة به كما لجسم الانسان. وحيث إن الأنسان أقرب لنفسه ، والحديث يقول : من عرف نفسه فقد عرف ربه ، كانت تلك حقيقة ثابتة ، لذا نبحث فيها لنرى بعض الأسرار. ودمع أني بحثته في كتابي «الحكومة العالمية المثلى» بحثا مسهبا ، إلا أنه وبغية الوصول الى ما أتوخاه من تقريب الموضوع لفكر القارئ الكريم أبحثه هنا بصورة موجزة ، فأقول :
الإنسان
أبدع حكومة عالمية مثلى توجد في جسم الإنسان ، فالبدن الإنساني كحكومة قائمة بذاتها ، أفرادها الخلايا وجماعاتها في الأنسجة والعضلات وأعضاء البدن ، ومنظماتها ذات تخصص كل في فنه ، لها مميزاتها وخواصها وأعمالها ومراكزها الثابتة ، كل منها يقوم بخدمة المجموع ، والمجموع لخدمة الأفراد ، تشدها رابطة مشتركة ، وصلة وثيقة ، وسير فطري طبيعي لكل ما يدور في عالمها الجسمي ذي القوى البدنية والمعنوية ، يشد بعضها بعضا ، لا ينقصها في حياتها شئ ، فهي كاملة ، بديعة الاتفاق بمنظماتها وصلاتها وأعمالها ودفاعها وهجومها وتدابيرها الوقائية وسعيها الدائب في إدامة الحياة الفردية والحياة الجماعية ، والحجيرات والخلايا في البدن الانساني تشابه الأفراد في المجتمع البشري ، وكما ان كل حجيرة وخلية لها أهميتها بالنسبة للجهاز الذي تعمل فيه فكذلك المرء له أهميته بالنسبة للمجال الذي يعمل به ، فحجيرة المخ والمخيخ ، وحجيرة القلب والكبد والكلية تختلف أهمية عن بعضها ، كما تقل عنها أهمية حجيرات أعضاء الحركة في الأطراف ، وهكذا حجيرات أجهزة البصر والسمع والذوق تقابلها حجيرات أقل أهمية ، تلك هي حجيرات البشرة والأنسجة الواقية في الجانب الوحشي من البدن الإنساني ، ورب مجموعة من حجيرات المخ والمخيخ أو عضلة القلب والتنفس تبلغ من الأهمية بمكان تتوقف عليه إدامة الحياة ،
في حين لا يكون ذلك في الأطراف والزوائد
ومثل هذا نجده في المجتمع البشرى بالنسبة لمكانتهم ، وقد أحاطت الطبيعة كل عضو وما يحتويه من الحجيرات المهمة على قدر أهميتها بحصون واقية لمكانتها ومركزها المهم في المجتمع القائمة فيه ، لذا نرى كيف صانت الطبيعة المخ بطبقات الشحوم والأغشية والعظام ومثله المخيخ ، ويليه القلب والغدد الصماء ، حتى بإمكاننا إن نقدر أهمية كل عضو وما يحويه من حجيرات بدرجة الاهتمام والحفاوة والصيانة والوقاية التي أحاطت به الطبيعة هذا القسم ، وتركت له الفرص الكاملة للقيام بأعماله بعيدا عن المخاطرات والمزعجات ، كما نرى في الأنسجة الواقعة في الجانب الوحشي للبدن ، أخص منها العضلات فالبشرة ، بما تشمل من الحجيرات هي أقل أهمية من الأولى.
وفي ذلك عبرة وعظة يلزمنا رعايتها في مواضع الشبه من المجتمع الانساني ، ثم تخصص كل حجيرة من العضو وكل عضو حسب مكانته وأهميته وما خص به ووضع له وما يقوم به من الأعمال بالنسبة له ولعضوه من جهة ، والرابطة المشتركة بينه وبين بقية الأعضاء الأخرى ودرجة مساعدة الواحد للآخر ، أو في حالة حدوث اختلال بسيط أو كبير كيف تهتم به المراكز الحساسة بالدرجة المناسبة لتلافي النقص ، متحملة كل منها على قدرها من هذه المعونة والعناء ، من جهة أخرى.
فما من حجيرة في حجيرات البدن الانساني إلا ونجد له محلا للتطبيق في المجتمع البشري ، فأفراد المجتمع البشري ينقسمون حسب الأهمية إلى مجموعات كبيرة وصغيرة ، عالمة وجاهلة ، وفيه مختلف الطبقات والزمر والتخصصات ، لكل منها مقام ودرجة في المجتمع الإنساني ، ولكل مكانه كما وجدنا ذلك في الحجيرات ، وكما أن حجيرات أنسجة الدماغ لا يمكن تعويضها بحجيرات وأنسجة عضلة الكبد ، وهذه بدل أنسجة المثانة ، وتلك بأنسجة الجهاز العصبي ، فكذلك لا يمكن ذلك في
المجتمع البشري.
فإن تعويض قسم من عضو على أثر تلفه بصدمة لابد أن يسد بأنسجة مشابهة ، وبغير ذلك يرفضه العضو ، وربما عاد عليه بالفساد ، إذ ما للرأس يصلح به الرأس وما للأطراف يسد ويجبر به الأطراف ، وإذا حصل غير ذلك فمعناه ارتباك وفساد خاص وعام ، بل تدهور وخراب قد لا يمكن بعد حين ترميمه. وهذا عينه يحصل في المجتمع البشري ، لذا يلزم تطبيقة ورعايته ، وفي الواقع يكفي وضع فرد في غير محله لإيجاد علة تختلف في الدرجة من بسيطة إلى عظيمة وقد تكون فاحشة على المجتمع تكفي لتدميره.
ولقد دلت التجارب الطبية والعمليات الجراحية على صدق هذا القول في عالم الجسم ، كما دلت الاوضاع الاجتماعية والعلمية على صحة ذلك أيضا في عالم الاجتماع ، وما أكثر الشواهد الطبية والاجتماعية حتى لتجد تدهور وانهيار بل قل موت الجسم لوضع فاسد في أحد أعضائه وتدهور مجتمع وانهياره على أثر وضع عضو في غير محله ، وهذا الفساد والتدهور يعود لدرجة أهمية مركز هذا العضو في الجسمين ، سيان الإنساني أو المجتمع البشري.
أليست هذه مقارنة صحيحة ومستدلة؟ ألسنا نعترف بهذا؟
ولذا ومن خلال هذه المقارنة لابد من تطبيق ما تعلمناه من الجسم البشري على الجسم الاجتماعي الانساني.
أهمية أجهزة البدن
ربما إذا فقدت كلية من البدن عشنا بكلية واحدة ، أو عين عشنا بعين واحدة وتحملنا هذه الخسارة ، ولكن بفقدان القلب لا يمكن مواصلة الحياة ، وأعظم منه المخ
والمخيخ ، أو حتى فقدان مراكز خاصة منها.
فما هي المراكز المشابهة للقلب والمخ والمخيخ في جسم الجامعة البشرية؟
ليس هناك فقدان بالشكل الأكمل في جسم الجامعة البشرية كما هو في البدن الانساني ، إلا إذا اعتبرنا انهيار القوى المعنوية والاجتماعية أو تدهور الدولة واضمحلالها ، أو القضاء على العلوم والفنون في الدولة بما فيها العلماء والحكماء والأدباء وأمثال ذلك ، مصداقا له.
وإن القضاء على طبقة معناه فقدان طبقة مشابهة في الجسم الإنساني ، ففقدان القلب في الجسم الإنساني يناسبه القضاء على مجموعة من أجهزة المجتمع الانساني وضرورياته ، كمراكز المواصلات والمؤن ومنابع الدفاع والمقاومة والتغذية والتهوية والمياه وما شاكل ، ولكن باختلاف وهو أن الجسم البشري لا يقضى عليه تماما مثل الجسم الانساني إلا بالقضاء على تمام افراده ، إلا إذا اعتبرنا الموت في كليهما إنما هو موت معنوي لا موت مادي فحسب.
وهنا نتساءل هل بالإمكان الاستفادة من أنسجة غير مشابهة في غير محلها؟ إن عدم التشابه يختلف بالدرجة ، فقد يتقارب وقد يتباعد ، فأنسجة المخ بالنسبة لأنسجة القلب وهذه بالنسبة لعضلات الحركة ، وأنسجة العضلات لأنسجة الأعصاب وهذه بالنسبة لأنسجة الفرد الصماء ، فترميم قسم لعضلة من مشابهة لها ممكن ، ولكن لا يمكن وضع قسم من عضلة القلب لترميم عضلة الساعد أو الشفة ، أو وضع قسم من عضلة الكلية لترميم قسم من الكبد.
وأما إذا ابتعدنا أكثر ، وقلنا هل يمكننا الاستفادة من عضلات الجسم عامة لترميم قسم من المخ أو المخيخ؟ فهو ما لا يمكن تصوره أبدا في الحال الحاضر ، وبالتالي فإن اصلاح عضو بغير المناسب له قد يؤدي الى فساده ودماره ، ومثل هذا تماما يحدث في المجتمعات البشرية المطلوب إصلاحها.
حكومة الطبيعة
فجعل شئ في غير موضعه معناه الإفساد ، وحتى إنه أحيانا لو وضعت ـ بحكم الاضطرار ـ عضلة شيخ في عملية جراحية لترميم عضلة شاب ، وإن تشابهت من حيث النوع ، لا يخلو من عيوب ، لأن عضلة الشيخ أقل عمرا وأضعف طاقة من عضلة الشاب ، وربما كان العكس أجدى ، أي وضع عضلة شاب محل عضلة شيخ أو قلب شاب محل قلب شيخ ، بالنظر لقوة ومقاومة عضلة الشاب وقابليته لحياة أطول ، هذا إلى مراعاة أمور أخرى كالتشابه في نوع الدم وغيره والخصال التي توجد بين الأقارب ، فإن مراعاة ذلك وتطبيقه في المقارنة بين الفرد البشري والمجموع البشري له آثاره القيمة وشأوه البالغ ، وهو درس بليغ في شتى نواحي الحياة يمكن الاستفادة منه لمديات قصوى وواسعة ، وربما أدى الى ابتكارات مهمة وعميقة.
انظر إلى حكمة الله في الطبيعة ، ومثل هذا تجده في البشر طبيعيا وغريزيا في بعض الموارد
فأي نقص في عضو ـ ولو تناهى في الصغر ـ وأي اختلال فيه يترك استنفارا وكدرا في كافة الحجيرات وأعضاء الجسم لا تنفك حتى ترممه وتعيد إصلاحه. وإذا أردنا إصلاح عضو ما في البدن فإنما نريد أن نعيد النظام والسعادة إلى جميع البدن المضطرب لما يجده في عضوه من ألم ، وهكذا نظرتنا للجماعة البشرية المشتركة بالحس والشعور.
إن البدن كله بما فيه على أهبة واستعداد وعلم بأدنى ألم وسرور يصيب أي جزء منه حتى القسم المعنوي ، وعندئذ يهب لإصلاحه ، وهذا الشعور حقيقة واقعية يلزم تطبيقها في الجامعة البشرية.
وقد يصيب البدن داء أو عاهة أو شئ يفقده جانبا منه ، فتراه في حالة متهيجة لإعادته ، فإن كان نقصا فلا بد لإكمال سعادته من رفع النقص واعادة صحته
واعتداله ، وإن دخل فيه شئ لا بد من إزالته حتى يعود سالما. وقد يحدث كلاهما ، لذاترى البدن يدوم اضطرابه حتى يعود الوضع الطبيعي الى حالته السابقة ، ومثله الفسخ والرض الحاصل في المفصل ، لذا تراه متورما متألما لا يقر له قرار وترى الجسم كله في اضطراب وألم حتى إعادته إلى حالته العادية ، ولا ننسى ما يحدثه ذلك من ضعف وإعياء وإنهاك لجميع البدن.
وهذا عينه يحدث للجامعة البشرية في الحوادث المشابهة ، وقد تطول هذه العلة على المرء حتى تراه وتشاهده وهو بائس منهك وليس له بد سوى إعادة الشئ لمحله أو إزالة الشئ المزاحم عنه أو كلاهما ، ويكفي لاضطراب شعب من أدناه إلى أقصاه وضع رجل في غير مركزه ، أو إدخال رجل في مكان غير مكانه ، وكلما كان هذا المركز والمكان مهما كانت الصدمة أعظم وأقسى.
وقد يسبب ذلك النقص أو الزيادة في الجسم عيوبا في جهات أخرى من البدن ، تبقى على مرور الزمان تحتاج إلى الاصلاح وإن أصلح العيب الأول ، وله مشابهات في جسم المجتمع البشرى ، فإذا توفقنا لإرجاع الشئ إلى أصله أو إخراج الشئ الغريب منه ، كان من الضروري إصلاح الاختلالات الحاصلة على أثر الصدمة الواردة.
وهناك أمر بالغ الأهمية ، وهو تشخيص الداء والأدواء ، وتشخيص العواقب والآثار التي حدثت له على مرور الأيام والسنين ، ومهم جدا نوع العلاج في كل منها بعد التشخيص.
وهذا عينه يحصل في الجامعة البشرية. وكلما طال الأمد ، صعب العلاج للآثار السيئة التي خلفتها المدة وما أولدته من الانحرافات.
وربما اعتاد البشر خلال المدة الماضية على علاجات لرفع إلمه ، وهذه نفسها تخلق فيه عاهات كأداء حتى بعد زوال أو إصلاح الداء الأصلي ، كإعادة العضو
المتفسخ إلى محله وزوال الألم ، لكن بعده يبقى اعتياده على تناول المورفين المخدر ، وهذا ربما لم يكن أقل شدة بل كان أشد عند الترك من نفس الصدمة الأصلية ، وتلك نفسها في المجتمع البشري.
لم يتوصل البشر بعد لدرجة صغيرة من الكمال المخلوق في إنسان ، بل ولا في أدنى الحيوانات والحشرات ، وهو بحاجة لبحث مستمر للسلوك الطبيعي والاستفادة من مكنوناته ومدخراته وكنوزه الثمينة التي يحملها كل إنسان لتطبيقها تطبيقا حسنا ، ومنها نشر الحقائق وأتباعها والجد للوصول الى الحقيقة ، حتى إذا شعر المجتمع بالألم لإصلاحه وضع الدواء الطبيعي له ، وأن يعلم أن سروره الحقيقي وشقاءه الواقعي إنما يتوقف على سعادة وشقاء مجموعه كما في البدن الإنساني ، وأن يكون كالبدن الإنساني ، ليس فيه كذب ولا رياء ولا خداع ، بل كل حقيقة ، وكله سرعة فائقة أسرع من لمح البصر فيمايخص العلم بوقوع الحادث وفيما يخص علاجه ، فأنت إن قربت أدنى حرارة أو آلة واخزة إلى أدنى حيوان انتقل حالا لضم الطرف ثم الشروع حالا لترميم ما خرب ، هكذا يجب في المجتمع.
هذه مقارنة تعرفنا حكمة الطبيعة وإتقانها ومدى جهلنا ، وأي جهل اعظم من أن نطلب السعادة عن طريق الشقاء.
وتمتاز الحجيرات بعضها عن بعض بالنسبة للمركز الذي تشغله في الجسم. وبمقدار أهمية الوظيفة التي تؤديها يحافظ عليها ، وتصان بتلك النسبة. فحجيرات المخ تحاط ـ لأهميتها ـ بقشرة شحمية وتليها أغشية وعظام ، كما تختلف من حيث غذائها ومدة حياتها بالنسبة لحجيرات البشرة ، فبقدر ما تسديه للجسم من خدمة يكون مقامها وشأنها ، والمحافظة عليها أكثر ومدة حياتها أطول ، كلما سمت وارتفعت بخدماتها ، ويقدم لها غذاء على قدر مجهودها.
هكذا يصنع لمن يجب أن يناط إليه المركز الأعلى لقيادة الأمة ، وكيف يجب أن