الفاطمة المعصومة (سلام الله عليها)

الفاطمة المعصومة (سلام الله عليها)23%

الفاطمة المعصومة (سلام الله عليها) مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 254

  • البداية
  • السابق
  • 254 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 38985 / تحميل: 6120
الحجم الحجم الحجم
الفاطمة المعصومة (سلام الله عليها)

الفاطمة المعصومة (سلام الله عليها)

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

قال علي أمير المؤمنين (عليه السلام): (ليس له صفة تُنال، ولا حدٌّ يضرب له فيه الأمثال، كلٌّ دون صفاته تجير الصفات، وضلَّ هنالك تعاريف الصفات، وحار في مكنونه عميقات مذاهب التفكير، وانقطع دون الرسوخ في علمه جوامع التفسير، وحال دون غيبه المكنون حجاب مِن العيون، وتاهت في أدنى أدانيها طامحات العقول في لطيفات الدهور)(١) .

قال الإمام الصادق (عليه السلام): (إنَّه شيء بحقيقة الشيئية، غير أنَّه لا جسم ولا صورة ولا يُحسُّ ولا يُجسُّ، ولا يدرَك بالحواس الخمس، لا تدركه الأوهام، ولا تنقصه الدهور، ولا يغيره الزمان)(٢) .

____________________

(١) بحار الأنوار، للمجلسي، ج ٤.

(٢) الاحتجاج للطبرسي ج ٢، احتجاج الصادق في شتَّى العلوم.

٤١

وحدة الوجود:

لعلَّ الذي يتأمَّل في الآيات الكريمة الخاصة بالإحاطة، وكذلك خطبة الإمام علي (عليه السلام): (مع كلِّ شيء لا بمقارنة، وغير كل شيء لا بمزايلة)، وقوله:( ... أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ ) (فاطر: ٤١) وغيرها، يتصوَّر أنَّ ذلك دليلاً حول وحدة الوجود ويتصوَّر أنَّ الله عز وجل مندمجاً في المادة هذه المادة العاجزة الخالية مِن العقل والتفكير. كلاَّ، بل هو منفصل ومستقلٌّ وانفصاله عنها بسيط وظاهر؛ لأنَّ المادة خالية مِن الإرادة والوعي والعلم، والله تعالى عالم والمادة تحتاج إلى مَن ينظِّمها ويوجدها، ويشكلها لتؤلِّف هذا الكون.

ولا تنظِّم نفسها بنفسها ولو ادَّعى أحداً أزليَّتها إنَّما تحتاج إلى مؤثِّر.

قال تعالى:( إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ ) (فاطر: ٤١).

٤٢

بعض المصطلحات المنطقية والفلسفية:

لمَّا كان علم الفلسفة يحتاج إلى مقدِّمة كعلم المنطق، وكلاهما فيه مِن المصطلحات التي تحتاج إلى تعريف؛ لذا نلجأ إلى توضيح بعض الاصطلاحات لتتمَّ الفائدة:

الحادث: هو المسبوق بالغير أو المسبوق بالعدم.

المحدَث: هو الذي وجوده مسبوق بالغير، أو المسبوق بالعدم.

القديم والأزلي: هو المصاحب لمجموع الأزمنة المحقّقة والمقدَّرة، بالنسبة إلى جانب الماضي.

الأزلي: ما لا أوَّل له.

الباقي: هو المستمرُّ الوجود المصاحب لجميع الأزمنة.

الأبدي: هو المصاحب، كجميع الأزمنة محقِّقة كانت أو مقدرة بالنسبة إلى الجانب المستقل، أو هو ما لا آخر له.

الإدراك: هو السمع والبصر أيْ هو مدرك. أنَّ الله سامع ليس بآلة وباصر ليس بآلة.

الجوهر: هو المتحيِّز بذاته والموجود لا في موضوع.

العرض: هو الموجود القائم بغيره، كالألوان القائمة بالأجسام.

الهيولى: الجوهر القابل للصورة (وهي قوة محضة، ولا تنتقل إلى الفعل إلاَّ بقيام الصورة بها).

الصورة: هي الجوهر الذي به تتحقَّق فعلية المادة.

الجسم: ما تركب مِن المادة والصورة.

٤٣

النفس: الجوهر المجرَّد عن المادة ذاتاً والمتعلِّق بها فعلاً، لاحتياجها إلى الآلة في التأثير.

التسلسل: هو ترتُّب العلل إلى ما لا نهاية.

الدور: هو توقُّف وجود الشيء على نفسه.

العقل النظري: إدراك ما ينبغي أنْ يُعلم.

العقل العملي: إدراك ما ينبغي أنْ يُعمل.

العلَّة: ما يؤثِّر في غيره.

المعلول: هو الأثر الحادث عن العلَّة.

الوجود: أوضح المفاهيم الموجودة في ذهن الإنسان.

العقل: هو الجوهر المجرَّد مِن المادة ذاتاً وفعلاً.

اللاهوت: الألوهية وعلم التوحيد.

الناسوت: الإنسان أو العالم السفلي.

النسبة القيدية: في أحكام الجواهر والأعراف.

التماثل: نسبة بين المعقولين المتساويين في تمام الماهية كالبياضين والسوادين.

التخالف: ويقسم إلى التلاقي والتقابل.

التلاقي: يقع بين الشيئين الوجوديين، اللذين يمكن اجتماعهما، إلاَّ أنَّ الافتراق بينهما منشأ بسبب خارج عن الذات (الشيء)، كاحتراق الحلاوة ومواد في السكر والفحم وهما المتخالفين.

٤٤

التقابل: ويقع بين المتغايرين أحدهما للآخر لذاته ويقسم إلى أقسام أربعة.

التضايف: يقع بين الشيئين الوجوديين، اللذين يعقل كلٌّ منهما بالنسبة إلى الآخر نحو الأبوَّة والنبوَّة.

التضاد: ويقع بين الشيئين الوجوديين، اللذين لا يجتمعان في محلٍّ واحد، ويمكن أنْ يرتفعان عنه كالسواد والبياض.

الملكة وعدمها: ويقعان في الشيئين، اللذين أحدهما وجودي والآخر عدمي مِن شأنه أنْ يتَّصف محلُّه بوجود مقابله، أي فيه قابلية الاتِّصاف بالملكة (كالعمى)، وهما لا يجتمعان في ذات واحدة ولا يرتفعان عنها.

التناقض: ويقع بين الشيئين اللذين أحدهما وجودي والآخر عدمي، يمثِّل الوجودي طرف الإيجاب أو الإثبات، ويمثِّل العدمي السلب أو النفي مثل الوجود والعدم.

الضروري: البديهي وهو ما لا يحتاج في حصوله إلى كسب ونظر وفكر، كتصديقنا بأنَّ الكلَّ أعظم مِن الجزء.

النظري: ما يحتاج حصوله إلى كسب ونظر وفكر، كتصديقنا بأنَّ الأرض متحرِّكة حول نفسها، ويسمَّى الكسبي.

الدلالة المطابقية: دلالة اللفظ على تمام معناه الموضع له ويطابقه، كدلالة لفظ الكتاب على تمام معناه، فيدخل فيه جميع أوراقه وما فيه مِن غلاف.

الدلالة التضمينية: بأنْ يدلَّ اللفظ على جزء معناه الموضوع، الداخل في ذلك الجزء في ضمنه، كدلالة الجزء ضمن الكلِّ، كما لو بعت الكتاب يفهم المشتري دخول الغلاف فيه.

الدلالة الالتزامية: التلازم بين معنى اللفظ والمعنى الخارج اللازم تلازماً ذهنياً، فلا يكفي التلازم في الخارج فقط مِن دون رسوخه في الذهن، ولا لما حصل انتقال الذهن فينتقل إلى لازمة دون حاجة لتوسط، كدلالة لفظ الدواة على القلم، فلو طلب أحداً أنْ تأتيه بدواة ولم ينصَّ على القلم، وأتيته بالدواة لعاتبك بأنَّ طلب الدواة كافٍ في الدلالة على طلب القلم بالالتزام.

٤٥

الفصل الحادي عشر

ما السبيل لمعرفة كنهه

(لا سبيل إلى معرفة كنه الخالق وحقيقته والإحاطة به كما قال : ( وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ) (طه: ١١٠).

وقوله :( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ... ) (الأنعام: ٩١).

وفي الدعاء : (سبحان الله من لا يعلم ما هو إلا هو) .

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : (لا تقدر عظمة الله على قدر عقلك ، فتكون من الهالكين) .

وقال علي (عليه السلام) : (من قال فيه : لم؟ فقد علله، ومن قال فيه: حتى. فقد وقته، ومن قال: فيم؟ فقد ضمنه، ومن قال: أنى؟ فقد أنهاه، ومن قال: متى؟ فقد ثناه، ومن ثناه فقد جزأه، ومن جزأه فقد ألحد فيه، لا يتغير الله بتغاير المخلوق، ولا يتجدد بتجدد المحدود.

وعن الصادق (عليه السلام): (وكيف أصفه بالكيف، وهو الذي كيف الكيف حتى صار كيف، فعرفت الكيف بما كيّف لنا من الكيف).

وتوضيح ذلك - على ما قاله بعض العارفين -: أن الخلق لم يعرفوا إلا احتياج هذا العالم المنظوم المحكم إلى صانع، مدبر حي عالم، سميع بصير قادر، وهذه المعرفة لها طرفان:

الأول: يتعلق بالعالم ومعلوم احتياجه إلى مدبر.

الثاني: يتعلق بالله ومعلومه، أسامي مشتقة من صفات غير داخلة في حقيقة الذات ومهيَّته.

وقد ثبت إنه إذا أشار المشير إلى شيء، وقال: ما هو؟ لم يكن ذكر الأسماء المشتقة جواب أصلاً، فلو أشار شخص إلى حيوان، فقال: ما هو؟ فقيل: طويل، أو أبيض، أو بصير. أو أشار إلى ماء فقال: ما هو؟ فجيب: بأنه بارد، أو إلى نار فقال: حار. فكل ذلك ليس

٤٦

بجواب عن الماهية لحقَّة، والمعرفة بالشيء هو معرفة حقيقته وماهيته لا معرفة الأسامي المشتقة، فإن قولنا: حار. معنه شيء مبهم له وصف الحرارة، وكذلك قولنا: قادر عالم. معناه شيء مبهم له وصف العلم والقدرة.

وأما قولنا: نه واجب الوجود، فهو عبارة عن إستغناءه عن الفاعل، وهذا يرجع إلى سلب السبب عنه. وقولنا: نه يوجد عنه كل موجود يرجع إلى إضافة الأفعال إليه، فإذا قيل له: ما هذا الشيء؟ فقلنا: هو الفاعل. لم يكن جواباً، فكيف قولنا: هو الذي لا سبب له؛ لأن كل الأخبار عن غير ذاته، وعن إضافة له إلى ذاته إما بنفي أو إثبات، وكل ذلك في أسماء وصفات وإضافات، فإنا لما رأينا الوجود والقدرة والعلم فينا، وعلمنا أنها ليست من ذواتنا بل من الفياض الحقيقي، علمنا أنه موجود قادر عالم، ونجد ذلك بلا كيفية لصفاته.

ولما رأينا فينا بعض الكلمات، كالوجود والقدرة، والعلم والحياة، والإدراك ونحوها، وعلمنا أن نقائضها من العدم والعجز، والجهل والموت، وعدم الإدراك نقائض، وصفنا ربنا بالكمالات ونزهناه عن النقائض مع عدم علمنا بكنه ما أثبتناه له تعالى.

فنهاية معرفة العارفين عجزهم عن المعرفة، ومعرفتهم بالحقيقة أنهم لا يعرفونه حق معرفته، وأنه لا يمكنهم معرفة الحقيقية لبتة، وأنه يستحيل أن يعرف الله المعرفة الحقيقية المحيطة بكنه صفاته الربوبية إلا الله تعالى. فإذا انكشف لهم ذلك انكشافاً برهانياً، فقد عرفوه، أي بلغوا المنتهى الذي يمكن في حق الخلق من معرفته.

وهو الذي أشار إليه من قال: العجز عن الإدراك إدراك. بل هو الذي عناه سيد البشر، ومن حيث قال: (لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)، ولم يرد به أنه عرض منه ما لا يطاوعه لسانه في العبارة عنه، بل معناه إني لا أحيط بمحامدك وصفات إلهيتيك، وإنما أنت المحيط بها وحدك. وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (إن الله احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار، وإن الملا العلى يطلبون كما تطلبونه أنتم).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: (من نظر في الله كيف هو هلك). وما اتساع المعرفة، فإنما يكون من معرفة أسمائه وصفاته، وبما تتفاوت درجة درجات الملائكة والأنبياء والأولياء في معرفة الله عز وجل، وليس من يعلم أنه قادر عالم على الجملة

٤٧

كمن شاهد عجائب آياته في ملكوت السماوات والأرض، وخلق الأرواح والأجساد وأطلع على بدائع المملكة وغرائب الصفة ممعنا في التفصيل ومستقصياً دقائق الحكم، ومستوفيا لطائق التدبير، ومتصفا بجميع الصفات الملكية المقربة من الله تعالى نائلا لتلك الصفات نيل إتصافه بها، بل بينهما من البون البعيد ما لا يكاد يحصى وفي تفصيل ذلك ومقاديره. تتفاوت الدرجات فلا تلتفت إلى من يزعم أنه وصل إلى كنه الحقيقة المقدسة بل أحث التراب في فيه فقد ضل وغوى وكذب وافترى فإن الواقع أرفع وأظهر من أن يتلوث بخواطر البشر، وكلما تصوره العالم الراسخ فهو عن حرم الكبرياء بفراسخ، وأقصى ما وصل إليه الفكر العميق فهو غاية مبلغه في التدقيق سبحان من حارت لطائف الأوهام في بيداء كبريائه وعظمته وسبحان من لم يجعل للخلق سبيلا إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته.

وكما يمتنع على غير الله تعالى معرفة كنه ذات الله فكذلك يمتنع معرفة كنه صفاته لأن صفاته تعالى عين ذاته وكما وصفه به العقلاء فإنما هو على قدرأفهامهم وبحسب وسعهم فإنهم إنما يصفونه بالصفات التي ألفوها وشاهدوها في أنفسهم مع سلب النقائض الناشئة من إنتسابها إليهم بنوع من المقايسة ولو ذكر لهم من صفاته عز وجل ما ليس لهم ما يناسبه بعض المناسبة لم يفهموه ككونه تعالى لا أول له ولا آخر، ولا جزء له وليس في مكان ولا زمان، كان ولم يكن معه شيء من زمان أو مكان أو ليل أو نهار أو ظلمة أو ضياء، حاروا وتحيروا وعجزوا ولم يفهموا شيئاً فتوصيفهم إياه سبحانه بأشرف طرفي النقيض كالعلم والجهل والقدرة والعجز أو الحياة والموت إنما هو على قدرهم لا قدره، وبحسبهم لا بحسبه، فسبحانه عما يصفون وتعالى شأنه عما يقولون، ولذا قال باقر العلوم عليه السلام (هل سمِّي عالماً قادراً إلاَّ لأنَّه وهب العلم للعلماء والقدرة للقادرون، وكلمَّا ميَّزتموه بأوهامكم في أدقِّ معانيه فهو مخلوق ممنوع، متكلَّم مردود إليكم، والباري تعالى واهب الحياة، ومقدِّر الموت، ولعلَّ النمل الصغار، تتوهَّم أنَّ لله زبانيتين (أي قرنين) فإنهما كمالها، وتتصور أن عدمهما نقصان لمن لا يكونان له، ولعل حال كثير من العقلاء كذلك فيما يصفون الله تعالى به) سبحان ربِّك رب العزة عما يصفون، ولذا أورد النهي عن وصفه تعالى بغير ما وصف به نفسه)(١) .

____________________

(١) حق اليقين.

٤٨

الفصل الثاني عشر

ماهيته

يعم بحثنا بشرح ما قدمناه وما ذكر في الفصل الثالث، في كتاب نهاية الحكمة للسيد محمد حسين الطباطبائي، وقد شرحه السيد كمال الحيدري (واجب الوجود ماهيته إنيّته، بمعنى أن لا ماهية له وراء وجوده الخاص به؛ وذلك أنه لو كانت له ماهية وذات وراء وجوده الخاص به، لكان وجوده زائداً على ذاته عرضياً لها، وكل عرضي معلل بالضرورة، فوجوده معلل، وعلته إما ماهيته أو غيرها. فإن كانت علته ماهيته - والعلة متقدمة على معلولها بالوجود بالضرورة – كانت الماهية متقدمة عليه بالوجود، وتقدمها عليه إما بهذا الوجود، ولازمه تقدم الشيء على نفسه وهو محال، وإما بوجود آخر وننقل الكلام إليه ويتسلسل. وإن كان علته غير ماهيته، فيكون معلول لغيره، وذلك ينافي وجوب الوجود بالذات.

وقد تبيّن بذلك أن الوجوب بذاته، وصف منتزع من حاق وجود الواجب، كاشف عن كون وجوده بحتاً في غاية الشدّة، غير مشتمل على جهة عدمية؛ إذ لو اشتمل على شيء من الأعدام، حرم الكمال الوجودي الذي في مقابله، فكانت ذاته مقيّدة بعدمه، فلم يكن واجباً بالذات صرفاً له كل كمال.

الشرح: بعد أن ثبت في الفصل الأول أن الموجود ينقسم إلى الواجب والممكن، تعرض المصنف لبيان أحكام الواجب وأحكام الممكن، وبدأ يذكر أهم خواص واجب الوجود، وهو أنه لا ماهية له وراء وجوده الخاص به. وهذا هو موضوع الفصل الثالث، وقبل إيراد الدليل الذي أقامه لإثبات هذه الدعوى لا بأس بالإشارة إلى البحوث التالية:

الأول: تحرير محل النزاع.

الثاني: لنتائج المترتبة على تحقيق هذه المسألة.

الثالث: الأقوال فيها.

البحث الأول: تحرير محل النزاع:

تستعمل الماهية في البحوث الفلسفية على نحوين، فمرة تطلق ويراد بها ما يجاب به عن السؤال بـ (ما هو) وهذا المعنى هو ما يناله العقل من الموجودات الممكنة عند

٤٩

تصورها تصوراً تاماً، وإن شئت قلت: قالب ذهني كلي للموجودات العينية، أو الحد العقلي الذي ينعكس في الذهن من الموجودات المحدودة، ويقال لها: الماهية بالمعنى الأخص، وتطلق خرى ويراد بها (ما به الشيء هو هو)، ويقال لها: الماهية بالمعنى الأعم؛ لأنها تشمل الماهية بالمعنى الأخص والوجود والعدم أيض؛ لأنه إن كان مصداق الشيء هو الماهية، فحقيقته وما به هو هو هي الماهية، وإن كان هو الوجود فهو الوجود، وإن كان العدم فهو العدم. وهذا الاصطلاح يصدق على ما لا ماهية له بالمعنى الأول، كالواجب (تعالى) على مذاق مشهور الفلاسفة، وما له ماهية كالإنسان والماء والشجر ونحوها.

قال صدر المتألهين في الأسفار: إن الأمور التي تلينا لكل منها ماهية وإنية، والماهية ما به يجاب عن السؤال بـ (ما هو) كما أن الكمية ما به يجاب عن السؤال بـ (كم هو)، وقد يفسر بـ (ما هو الشيء هو هو). وقد علق المصنف على هذا الكلام بقوله: (إن أخذ الجواب عن السؤال في هذا التعريف الأول، يدل على كون المعرّف – بالفتح – أمر معقول جائز الحلول في الذهن، ولا ينطبق هذا إلا على تلك المور الخارجية التي حيثية ماهيتها دون حيثية وجودها، وخارجيتها المقابلة للذهن. وأما قولهم: (ما به الشيء هو هو)، فكما يجوز انطباقه على حيثية ماهية الأشياء، كذلك يجوز صدقه على حيثية وجودها، فيكون التعريف الثاني أعم مطلق).

إذا عرفت ذلك نقول: اختلفت تعبيرات القوم في هذه المسألة، فقد عبّر عنها المصنف في المتن (واجب الوجود ماهيته إنيته)، وعبر عنها في نهاية الحكمة (واجب الوجودة لا ماهية له) وعبر عنها ابن سيناء في (الشفاء): (إن الأول لا ماهية له غير لنية)؛ لذلك قد يشكل على الجمع بين قولهم: (لا ماهية له)، وقولهم: (ماهيته إنيته). وعندئذ يمكن أن يقال – كما ذكر شيخ لشراق –: (إن الماهية قد يعنى بها ما به يكون الشيء هو ما هو) وبهذا المعنى يقولون: للباري ماهيته هي نفس الوجود، وقد تخصّص بما يزيد على الوجود مما به الشيء هو ما هو، فتقتصر على أشياء الوجود من لواحقها، وبهذا الاعتبار يقولون: (الأول لا ماهية له)، أي أمر يعرض له الوجود).

وهذا ما أشار إليه شيخنا حسن زاده آملي بقول: (إنه تعالى إنية صرفة، ووجود بحت وحقيقة محضة، لا تشوبه وصمة الماهية أصل، فلو طلقت الماهية عليه (تعالى) فهي بمعناها الأعم، أي ما به هو هو، فإن الماهية بهذا المعنى يصح إطلاقها على الوجود أيض، فيصح إطلاقها عليه (تعالى)، وأما بمعناها الأخص، أي ما يقال في جواب ما

٥٠

هو، فهي مسلوبة عنه (تعالى). وربما قيل: يراد بالماهية في قولهم: (ماهيته إنيته)، المعنى الأول كما هو الحال في قولهم: (لا ماهية له)، فيكون هذا التركيب مجازياً للمبالغة في نفي الماهية عن الواجب (تعالى) كما تقول: (حدّه أنه لا حدّ له).

البحث الثاني: النتائج المترتبة على المسألة:

تعد هذه المسألة من أهم الأصول والقواعد، حيث تبتني عليها فروع كثيرة في الإلهيات بالمعنى الأخص، وسيأتي بيان تلك النتائج في المرحلة الأخيرة من الكتاب، وللإشارة تعرض لبعضها:

- إثبات بساطة ذاته (تعالى):

وعدم وجود جنس مشترك بينه وبين سائر الموجودات، وهذه البساطة لا يمكن إثباتها إلا بالالتزام بأن الواجب (تعالى) لا ماهية له، وراء وجوده الخاص به؛ وذلك لأن (كل ما يفصله الذهن إلى معروض وعارض هو الوجود، كان في مرتبة ذاته – مع قطع النظر عن العارض الذي هو الوجود – كلياً بالضرورة، وكل ما له ماهية كلية، فنفس تصورها لا يأبى أن يكون لها جزئيات غير متناهية، إلا لمانع خارجي.

فلو كان المفروض واجباً معنى غير نفس الوجود، يكون معنى كلياً له جزئيات بحسب العقل، فتلك الجزئيات إما أن تكون جميعها ممتنعة لذاتها أو واجبة لذاتها أو ممكنة لذاتها. لا سبيل إلى الأول، وإلا لما تحقق شيء منها، والكلام على تقدير وجود فرد واجب منها، فلا يمتنع شيء منها لماهيتها، ولا إلى الثاني وإلا لوقع الكل وهو محال، ولا إلى الثالث وإلا لكان هذا الواقع ممكناً أيض مع أنه واجب، هذا خلف. فإذن إن كان في الوجود واجب بالذات، فليس له ماهية وراء الوجود بحيث يفصله الذهن إلى أمرين، فهو الوجود الصرف).

- إثبات توحيده (تعالى):

ودفع بعض الشبهات التي أوردت حوله. (وليعلم أن البراهين الدالة على هذا المطلب – يعني توحيده تعالى – الذي هو من أصول المباحث الإلهية كثيرة، لكن تتميم جميعها مما يتوقف على أن حقيقة الواجب (تعالى) هو الوجود البحت القائم بذاته، المعبّر عنه بالوجود المتأكد. وبها يندفع ما تشوشت به طبائع الأكثرين، وتبلدت أذهانهم مما ينسب إلى أبن كمونه، لاشتهاره بإبداع هذه الشبهة العويصة والعقدة العسيرة الحل). وسيأتي تقريرها والجواب عنها في الفصل الثاني من المرحلة الثانية عشرة.

٥١

- عدم استطاعة العقل التعرف على كنه ذاته (سبحانه):

لأن العقل إنما يمكنه كتناه الماهيات، وأما ما لا ماهية له فليس للعقل أن يعرف كنهه؛ لذلك قيل: (إن حقيقة الواجب غير معلومة لأحد بالعلم الحصولي الصوري، فهذا مما لا خلاف فيه لأحد من الحكماء والعرفاء، وقد قيم عليه البرهان، كيف وحقيقته ليست إلا نحو وجوده العيني الخاص به، وليس الوجود الخاص للشيء متعدداً بخلاف الماهية، فإنها أمر مبهم لا تأبى تعدد أنحاء الوجود لها، والعلم بالشيء ليس إلا نحواً من أنحاء وجود ذلك الشيء للذات المجردة).

وهذا بالإضافة إلى نتائج خرى سنقف عليها في موضعها المناسب إن شاء الله، وربما قيل أيض: إن هذه المسألة تطرح مرة في الإلهيات بالمعنى الأعم والأمور العامة، وتطرح خرى في الإلهيات بالمعنى الأخص، وهذا ما صنعه صدر المتالهين في كتابه (الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة) وتبعه المصنف في (نهاية الحكمة) وعندئذ هل يعدّ هذا تكرار في البحث؟ أم هناك نكتة فنية توجب ذلك؟

والجواب: أن الذي تثبته البراهين من وجود الواجب (تعالى) في الإلهيات بالمعنى الأخص، هو الموجود الذي لا واسطة في الثبوت لوجوده، أي لا يحتاج في تحقق ذاته إلى غيره، بخلاف الممكن، فإنه يحتاج في وجوده إلى واسطة في ثبوته، وأما نفي الواسطة في العروض، أي أن الواجب تعالى لا يحتاج إلى غيره في عروض الوجود للماهية، باعتبار أنه لا ماهية له وراء وجوده، فهو الذي يثبت من خلال هذا البحث.

قال المصنف في حواشيه على الأسفار: (هذا البحث لا محيص عنه، حتى على تقسيم المصنف – صدر لمتلهين – الموجود إلى الواجب والممكن، بانتزاع الوجود عن ذاته بذاته، وانتزاعه بملاحظة غيره، فإن الممكن على هذا التقسيم يمكن أن يكون موجوداً بالواسطة في الثبوت كالوجود الإمكاني، أو بالواسطة في العروض كالماهية، فالواجب موجود بذاته من غير واسطة خارجة، أعم من الواسطة في الثبوت والواسطة في العروض، إلا أن الذي يثبته نوع البراهين من وجود الواجب هو الموجود الذي لا واسطة في الثبوت لوجوده، فنفي الواسطة في العروض في مورده يحتاج إلى هذا البحث، حتى يتم للواجب مصداق على هذا التقسيم).

٥٢

البحث الثالث:

الأقوال في المسألة: ذكر الفخر الرازي في كتابه (المطالب العالية من العلم الإلهي)، تحت عنوان (إن وجود الله تعالى نفس ماهيته أو صفة زائدة على ماهيته): (إنه من المعلوم بالضرورة أنا نصف واجب الوجود لذاته بأنه موجود، ونصف أيضاً ممكن الوجود لذاته بأنه موجود. فنقول: إما أن يكون وقوع لفظ الوجود على هذين القسمين بحسب مفهوم مشترك بين هذين القسمين، وإما أن لا يكون كذلك بل يكون بحسب الاشتراك اللفظي فقط. فإذا كان الحق هو القسم الأول، فنقول: هذا القسم ينقسم إلى قسمين آخرين؛ وذلك لأن ذلك المفهوم المسمى بالوجود، إما أن يقال: إنه في حق واجب الوجود مقارن لماهية خرى، ويكون هذا الوجود صفة لتلك الماهية ولاحقاً من لواحقها، وإما أن يقال: إنه أمر قائم بنفسه مستقل بذاته من غير أن يكون صفة لشيء من الماهيات، ومن غير أن يكون عارضاً لشيء من الحقائق. فيثبت أن القول في وجود الله تعالى لا يمكن أن يخرج من هذه الأقسام الثلاثة:

الأول: قول من يقول: لفظ الموجود الواقع على الواجب لذاته وعلى الممكن لذاته، لا يفيد مفهوماً واحد مشتركاً فيه بين القسمين، بل هو بحسب الاشتراك اللفظي فقط، وهو قول طائفة عظيمة من المتكلمين كأبي الحسن الأشعري وأبي الحسين البصري.

الثاني: قول من يقول: لفظ الموجود يفيد مفهوماً واحداً، إلا أنه في حق واجب الوجود لذاته وجود مجرد، أعني أنه وجود بشرط كونه غير عارض لشيء من الماهيات، بل يكون وجوداً قائماً بنفسه، وبهذا التقدير يكون وجود الله تعالى نفس حقيقته. وهو القول الذي اختاره ابن سينا في جميع كتبه.

الثالث: قول من يقول: إن الوجود صفة من صفات حقيقة الله تعالى ونعت من نعوت ماهيته، وبهذا التقدير فوجود الله غير ماهيته. وهو قول طائفة عظيمة من المتكلمين وهو الذي نصرناه في أكثر كتبنا).

٥٣

والذي ينبغي الوقوف عنده هما القولان (الأخيران)، وأمَّا الأول، فقد تقدَّم الكلام عنه في الفصل الثاني مِن المرحلة الأولى، وما يرد عليه؛ ولذا سوف نتوقَّر قليلاً على توضيح هذين القولين وما يمكن أنْ يقال فيهما.

القول الأول: وهو الذي اختاره الفخر الرازي، ونسبه إلى طائفة مِن المتكلمين، وتوضيحه: أنَّه بعد أنْ حكم أنَّ الوجود شيء واحد في الجميع بنحو الاشتراك المعنوي، ولا يقع على الموجودات بنحو الاشتراك اللفظي: (صرَّح بأنَّ وجود الواجب مساوٍ لوجود الممكنات. ثمَّ إنَّه لما رأى وجود الممكنات أمراً عارضاً لماهياتها، وكان قد حكم بأنَّ وجود الواجب مساوٍ لوجود الممكنات، حكم بأنَّ وجود الواجب أيضاً عارض لماهيته، فماهيته غير وجوده، وظنّ أنَّه إنْ لم يجعل وجود الواجب عارضاً لماهيته، لزمه إمَّا كون ذلك الوجود مساوياً للوجودات المعلولة، وإمَّا وقوع الوجود على الواجب ووجود غيره بالاشتراك اللفظي).

والتأمُّل في كلماته جميعاً توصل إلى أنَّه يريد بيان حقيقة أنَّ وجوده (تعالى) عارض على ماهيته وحقيقته عيناً وخارجاً، وبتعبيره (نعت مِن نعوت ماهيته)، والشاهد على ذلك الحجة التي أقامتها الحكمة المشائية لإبطال هذا القول؛ حيث سيتَّضح أنَّها قائمة على افتراض أنَّ عروض الوجود للماهية وزيادته عليها، إنَّما هي في الواقع الخارجي لا التحليل العقلي؛ إذن فهذا القول يذهب إلى الزيادة العينية للوجود على الماهية فيه (تعالى)، فضلاً عن الزيادة والعروض الذهني له عليها. ولكنْ مِن جهة أُخرى يرى أنَّ ماهيته مجهولة الكُنه بالنسبة إلينا، ولا يمكن الوقوف عليها، كما هو الأمر في الماهيات الإمكانية، التي يمكن التعرُّف عليها وجعلها في جواب السؤال بـ (ما هو).

القول الثاني: إنَّ واجب الوجود لا ماهية له بحسب التحليل العقلي، فضلاً على الواقع الخارجي، وهذا بخلاف الممكن كالإنسان مثلاً، فإنَّ له ماهية هي الحيوان الناطق، ووجوداً هو كونه في الأعيان، وهو الذي اختاره أكثر الحكماء (سواء كانوا قائلين بأصالة الوجود أم لا)، فإنَّهم قائلون - في هذه المسألة -: بأنَّ إنِّيته تعالى ماهيته، بمعنى أنَّه لا ماهية له سوى الوجود الخاص المجرد عن مقارنة الماهية، وكما أنَّهم متَّفقون في أنَّ الوجود أصل فيه تعالى كذلك متَّفقون أنَّ ذلك الوجود الأصيل إنِّيَّة صرفة).

٥٤

قال الشيخ ابن سينا في إلهيات الشفاء: (إنَّ الأول لا ماهية له وراء الإنِّيَّة) بمعنى أنَّ واجب الوجود لا يصحُّ أنْ يكون له ماهية يلزمها وجوب الوجود، ثمَّ أوضح هذا المدعّى مِن خلال مثال هو أنَّ المبدأ تعالى يتَّصف بأنَّه واحد فقال: (والذي جعله – أي المبدأ – منهم واحداً، فمنهم مَن جعل المبدأ الأول لا ذات الواحد، بلْ شيئاً هو الواحد، مثل ماء أو هواء، أو نار أو إنسان هو واحد، ومنهم مَن جعل المبدأ ذات الواحد مِن حيث هو واحد، لا شيء عرض له الواحد، ففرق - إذن - بين ماهية يعرض لها الواحد والموجود، وبين الواحد الموجود مِن حيث هو واحد وموجود.

فنقول: إنَّ واجب الوجود لا يجوز أنْ يكون على الصفة التي فيها تركيب حتى يكون هناك ماهية ما، وتكون تلك الماهية واجبة الوجود، فيكون لتلك الماهية معنى غير حقيقتها، وذلك المعنى وجوب الوجود، مثلاً إذا كانت تلك الماهية أنَّه إنسان فيكون أنَّه إنسان غير أنَّه واجب الوجود).

القول الثالث: وهو الذي يأخذ مِن كلِّ مَن القولين السابقين شيئاً ويدع شيئاً آخر، أمَّا المأخوذ مِن الأول فهو قبول أنَّ للواجب (تعالى) ماهية ووجوداً بحسب التحليل العقلي؛ وذلك لأنَّ متقضى كونه وجوداً شخصياً ممتازاً عن غيره، كونه واجداً لما به يمتاز عمَّا عداه، وما به امتياز كلِّ موجود عن غيره هو ماهيته التي تقال في جواب السؤال بـ (ماهو)، وإمَّا المتروك منه فهو دعوى الزيادة والعروض بحسب الواقع الخارجي. والمأخوذ مِن الثاني أنَّ الواجب (تعالى) بسيط حقيقة في متن الأعيان، وأنَّ ماهيته عين وجوده الخارجي مِن دون تقدُّم أحدهما على الآخر في الواقع؛ لأنَّ الموجود في الحقيقة هو الوجود، والماهية منتزعة عنه. وإذ جاء في كلمات الأعلام تقدُّم الوجود – بحسب العين – على الماهية، فمعنا أنَّ الوجود هو الأصل في التقرُّر والتحقُّق في الأعيان لكونه نفس التقرر فيها، والماهية مفهومة منه منتزعة عن نحو الوجود الخاص، فتكون فرعاً للوجود بهذا الاعتبار، لا بمعنى المعلولية والتأثر، وليس هذا الأمر مختصَّاً بالواجب (تعالى)، بلْ نعتقد أنَّ ذلك جار في الوجودات الإمكانية أيضاً. قال المحقِّق الطوسي في شرح الإشارات: (إذا صدر عن المبدأ وجود، كان لذلك الوجود هوية مغايرة للأول، ومفهوم كونه صادراً عنه غير مفهوم كونه ذا هوية؛ فإذنْ ها هنا أمران معقولان:

أحدهما: الأمر الصادر عن الأول، وهو المسمَّى بالوجود.

٥٥

وثانيهما: هو الهوية اللازمة لذلك الوجود، وهي المسمى (بالماهية) وربَّما أشارت بعض كلمات صدر المتألِّهين إلى هذه الحقيقة أيضاً، قال: (وتحقيق الحق، إنَّه كما يوجد في الخارج شخص كزيد مثلاً، ويوجد معه صفاته وأعراضه وذاتياته، كالأبيض والضاحك، والماشي والجالس، والنامي والحيوان والناطق، فهي موجودات توجد بوجود زيد، بلْ عين زيد ذاتاً ووجوداً)، بتعبير آخر: تنتزع الماهية مِن مرتبة هوية الوجود، فهي غير الوجود ذهناً وعينه خارجاً.

وأمَّا المتروك مِن الثاني فهو القول: إنَّه لا يمكن تحليل واجب الوجود عقلاً إلى ماهية ووجود.

أجل، هذه الماهية مجهولة الكُنه لغيره (تعالى)؛ إذ لا يحيطون به علماً.

فأنْ قلت: كيف يصدق على ما به امتيازه مِن غيره الماهية، وهي ما يقال في جواب السؤال بـ (ما هو) ولا يمكننا العلم بماهيته حتَّى نقوله في جواب (ما هو)؟

قلت: ليس معنى كون الشيء له ماهية تقال في جواب (ما هو) هو أنْ نقدر على معرفة تلك الماهية، وإنَّما المراد هو قبوله لذلك وإنْ لم نقدر عليه، فإنَّ عدم علمنا بماهية شيء لا ينافي كونه ذا ماهية.

لقد استدلَّ المصنف في المتن لإثبات مدعَّى الحكماء بهذا البيان: لو كان للواجب (تعالى) ماهية وراء وجوده الخاص به، لكان وجوده زائداً على ذاته عرضياً لها؛ لأنَّ الماهية – كما سيأتي في الفصل الأول مِن المرحلة الخامسة – مِن حيث هي ليست إلاَّ هي لا موجودة ولا معدومة. بمعنى أنَّ الموجودية ونقيضها ليس شيء منهما مأخوذاً في حدِّ ذاتها، بأنْ يكون عينها أو جزؤها، ومِن ثمَّ فهي لا تأبى أنْ تتَّصف بهما؛ إذنْ الوجود لا هو عين الماهية ولا جزؤها، كما هو الأمر في الحيوانية والناطقية بالنسبة إلى الإنسان. وكذلك ليس الوجود لازماً اصطلاحياً للماهية كالزوجية إلى الأربعة، ولا هو لازم ذاتي للماهية كالإمكان بالنسبة إليها. فينحصر الأمر في أنْ يكون عرضاً غريباً للماهية. هذه صغرى القياس. أمَّا الكبرى فهي قاعدة فلسفية مفادها (أنَّ كلَّ عرضي فهو معلَّل)، بمعنى أنَّ الوجود العارض لكي يحمل على الموضوع المعروض له يحتاج إلى علَّة.

٥٦

قال صدر المتألِّهين: (إنَّ كلَّ ماهية يعرض لها الوجود ففي اتِّصافها بالوجود وكونها مصداقاً للموجود، يحتاج إلى جاعل يجعلها كذلك، فإنَّ كلَّ عرضي معلَّل)، فإذا كان وجوده معلَّلاً فيحتاج إلى علَّة. والعلَّة إمَّا ماهية الواجب أو غيرها ولا ثالث لهما. والثاني محال؛ لأنَّه يلزم أنْ يكون الواجب بالذات واجباً بالغير، وقد تقدَّم اسحالته في الفصل الثاني مِن هذه المرحلة. فينحصر الأمر في أنْ تكون الماهية علَّة لوجوده، وسيأتي في مباحث العلَّة والمعلول أنَّ العلَّة التي تفيض الوجود لابدَّ أنْ تكون متقدِّمة على المعلول وجوداً، لمكان توقُّف وجود الفعل على وجود الفاعل.

إذن؛ فالماهية الموجودة تكون علَّة للوجود العارض عليها. هنا ننقل الكلام إلى الوجود الذي يقع وصفاً للماهية التي هي في رتبة العلَّة، هل هو نفس الوجود الذي يقع في رتبة المعلول أو غيره؟ ثمَّ احتمالان لا ثالث لهما، فإذا كان أحدهما عين الآخر يلزم تقدُّم الشيء على نفسه؛ لأنَّ المعلول متأخِّر وجوداً والعلَّة متقدِّمة وجوداً، وبطلانه ضروري؛ حيث يكون الواجب موجوداً قبل أنْ يحصل له الوجود أيْ في حال العدم، والوجود في حال العدم جمع للنقيضين الذي هو بديهي الاستحالة. أمَّا إذا كان الوجود في رتبة العلَّة غير الوجود في رتبة المعلول، فإنَّه – بالإضافة إلى أنَّ ماهية واحدة توجد بوجودين، وهو غير معقول كما تقدَّم – يلزم التسلسل في الوجودات؛ لأنَّنا ننقل الكلام إلى الوجود الذي في رتبة العلَّة، هل هو عين الماهية أو زائد عليها؟ فإنْ كان زائداً عليها كما هو المفروض، فيأتي البيان السابق، فتسلسل وجودات لا متناهية بالنسبة إلى الواجب سبحانه. (وهذا التسلسل المحال عند الحكماء؛ لأنَّ تلك الإنِّيات مترتبة مِن جهة أنَّ الوجود السابق منشأ للاحق، حيث إنَّ العلَّة بوجودها مفيضة، ومجتمعة في الوجود أيضاً كما هو الظاهر).

قال صدر المتألِّهين: (لو كان وجوده زائداً عليه يلزم تقدُّم الشيء بوجوده على وجوده، وبطلانه ضروري مِن دون الاستعانة بما ذكره صاحب المباحث، مِن أنَّه يفضي إلى وجود الشيء مرَّتين، وإلى التسلسل في الوجودات؛ لأنَّ الوجود المتقدِّم إنْ كان نفس الماهية فذاك، وإنْ كان غيرها عاد الكلام فيه وتسلسل.

وجه اللزوم: إنَّ الموجود حينئذ يحتاج إلى الماهية احتياج العارض إلى المعروض، فيكون ممكناً، ضرورة احتياجه إلى الغير، فيفتقر إلى علَّة هي الماهية لا غير، لامتناع افتقار الواجب في وجوده إلى الغير، وكلُّ علَّة فهي متقدِّمة على معلولها بالضرورة، فتكون الماهية متقدِّمة على وجودها بوجودها).

٥٧

نفي التشبيه:

في قوله: ( ... لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ... ) ، فهو تعالى ليس له نظير مِن أيِّ جهة؛ وذلك لأنَّه وجود مستقلٌّ بذاته، ولا نهاية له وغير محدود مِن جميع الجهات، لا في علمه، ولا في قدرته، ولا في حياته، ولا في إرادته. وإمَّا ما سواه مِن الموجودات فهي تابعة ومحدودة ومتناهية وناقصة؛ لذا لا يوجد وجه شبه بين وجوده الذي يمثِّل الكمال المطلق، وبين النقصان المطلق (أي الموجودات) الإمكانية، فهو الغني المطلق، ومَن سواه فقير ومحتاج في كلِّ شيء. وليس كذاته المقدَّسة شيء؛ لأنَّه متنزِّه عن المثيل والشبيه، وهو موجود في كلِّ مكان وليس له كفوءاً أحد، بمعنى ليس له نظير أو ضدٌّ، والله أكبر مِن أنْ يوصف وأعلى مِن الخيال والقياس، والظنِّ والوهم، ولا يقاس بمخلوقاته( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ... ) أيْ المشركون؛ لأنَّهم قاسوه بمخلوقاته. قال أمير المؤمنين في خطبته الأشباح: (وأشهد أنَّ مَن ساواك بشيء مِن خلقك فقد عدل بك، والعادل بك كافر بما تنزَّلت به محكمات آياتك، ونطقت به شواهد صحيح بيناتك، وأنَّك أنت الله الذي لم تتناه في العقول، فتكون في مهبِّ فكرها مكيَّف، ولا في روايات خواطرها فتكون محدوداً مصرفاً).

وفي حديث الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) بجوابه لأبي فروة - عند سؤاله عن التوحيد -: أنَّا روينا أنَّ الله عز وجل قسم الرؤية والكلام بين اثنين فقسم لموسى (عليه السلام) الكلام ولمحمد (صلى الله عليه وآله) الرؤية، فقال أبو الحسن (عليه السلام): (فمَن المبلِّغ عن الله عز وجل إلى الثقلين الجنِّ والإنس،( لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ ... ) و (يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ) و( ... لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ... ) أليس محمد (صلى الله عليه وآله)؟). قال: (فكيف يجيئ رجل إلى الخلف جميعاً، ويخبرهم أنَّه جاء مِن عند الله وأنَّه يدعوهم إلى الله بأمر الله ويقول:( لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ ... ) ،( ... وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ) ( ... لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ... ) ثمَّ يقول: أنا رأيته بعيني، وأحطت به علماً وهو على صورة البشر؟! أما تستحيون، ما قدرت الزنادقة أنْ ترميه بهذا أنْ يكون يأتي عن الله بشيء، ثمَّ يأتي بخلافه مِن وجه آخر؟!).

قال أبو فروة: فإنَّه يقول:( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ) . فقال أبو الحسن (عليه السلام): (إنَّ بعد هذه الآية ما يدلُّ على ما رأى، حيث قال:( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ) يقول: ما كذب فؤاد محمد (صلى الله عليه وآله) ما رأت عيناه، ثمَّ أخبر بما رأى فقال:( لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ) ، فآيات الله عز وجل غير الله: وقد قال( ... ولا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ) ، فإذا رأته

٥٨

الأبصار فقد أحاطت به العلم ووقعت المعرفة).

فقال أبو فروة: فتكذِّب بالروايات؟

فقال أبو الحسن (عليه السلام): (إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذَّبت بها، وما أجمع المسلمون عليه إنَّه لا يُحاط به علم. لا تدركه الأبصار وليس كمثله شيء).

١٧-آب٠٨-٢٠٠٧

٥٩

مصادر البحث

١- كتاب كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، شرح الشيخ جمال الدين الحسن بن يوسف العلاَّمة الحلِّي

٢- حق اليقين في معرفة أصول الدين، للعلاَّمة السيد عبد الله شبَّر

٣- التوحيد للسيد كمال الحيدري

٤- النافع يوم الحشر في شرح الباب الحادي عشر، للمقداد السيوري

٥- الكافي، للكليني

٦- التوحيد، للشيخ أبي جعفر محمد بن علي الصدوق

٧- علل الشرائع، للشيخ أبي جعفر محمد بن علي الصدوق

٨- بداية الحكمة، للعلاَّمة السيد محمد حسين الطباطبائي

٩- نهاية الحكمة، للعلاَّمة السيد محمد حسين الطباطبائي

١٠- منظومة الحكمة، للسيد عبد الهادي السبزواري

١١- الحكمة المتعالية في الأسفار الأربعة، لصدر المتألِّهين

١٢- موجز علم الكلام، للدكتور عبد الهادي الفضيل

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

إعلانه، ولم يدركوا أن المأمون يسعى بذلك لتوطيد الحكم وتثبيته عن طريق هذا الإجراء، كما أن فيه توجيه تحذير خفي إلى العباسيين، ومضمونه أن هناك من يعتمد عليهم ويستند إليهم، فيما إذا تخلوا عنه، أو فكروا في القيام بعمل مضاد.

ثم أعقب المأمون ذلك برغبته في استقدام الإمامعليه‌السلام من المدينة إلى عاصمة الدولة، وقد بعث إليه رجاء بن أبي الضحاك لحمل الإمامعليه‌السلام وحدد له طريق المسير بأن يكون على طريق البصرة والأهواز ولا يمر به الكوفة، وفي ذلك غرض أخفاه المأمون ولم يفصح عنه على ما كشفت عنه الأبحاث التاريخية التحليلية وأشارت إلى الأسباب والأهداف من وراء استقدام الإمامعليه‌السلام من المدينة إلى مرو، ومنها الخوف من الرضاعليه‌السلام لشياع أمره في الحرمين، وانتشار ذكره وإقبال الناس عليه، وغيرها من الأمور التي جعلت المأمون يتخذ قرارا حاسما في الحد من هذا الانتشار، وليكون الإمامعليه‌السلام تحت رقابة مفروضة صارمة لا يمكنه الإفلات منها، وليتسنى للمأمون أن ينفذ خططه السياسية المبيتة(١) .

حتى إذا وصل الإمامعليه‌السلام إلى مرو عاصمة المأمون وأظهر العناية والاحتفاء به واستقر به المقام عرض المأمون على الإمام أمر الخلافة، فأباها الإمامعليه‌السلام أشد الإباء، وكان الإمامعليه‌السلام على بصيرة بما يخطط له

____________________

(١) للاستزادة يراجع كتاب الحياة السياسية للإمام الرضاعليه‌السلام .

١٢١

المأمون، وإذا كان الإمامعليه‌السلام قد أبى الخلافة فإنه لم يكن له بد من قبول ولاية العهد، وقد كشف الإمامعليه‌السلام سر قبوله لها في حديثه مع الريان بن الصلت الذي قال: دخلت على علي بن موسى الرضاعليهما‌السلام ، فقلت له:

يا بن رسول الله يقولون: إنك قبلت ولاية العهد مع إظهارك الزهد في الدنيا، فقالعليه‌السلام : قد علم الله كراهتي لذلك، فلما خيرت بين قبول ذلك وبين القتل اخترت القبول على القتل(١) .

ومما يدل على علم الإمامعليه‌السلام بألاعيب المأمون ومخططاته أنهعليه‌السلام واجه المأمون ببعض الحقيقة حين قال له: وإني لأعلم ما تريد، فقال المأمون: وما أريد؟ قال: الأمان على الصدق، قال: لك الأمان، قال:

تريد بذلك أن يقول الناس: إن علي بن موسى الرضاعليهما‌السلام لم يزهد في الدنيا بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعا في الخلافة، فغضب المأمون ثم قال: إنك تتلقاني أبدا بما أكرهه، وقد أمنت سطوتي، فبالله أقسم لئن قبلت ولاية العهد وإلا أجبرتك على ذلك، فإن فعلت وإلا ضربت عنقك، فقال الرضاعليه‌السلام : قد نهاني الله تعالى أن ألقي بيدي إلى التهلكة، فإن كان الأمر على هذا فافعل ما بدا لك، وأنا أقبل ذلك على أني لا أولي أحدا، ولا أعزل أحدا، ولا أنقض رسما ولا سنة، وأكون في الأمر من بعيد مشيرا، فرضي منه بذلك وجعله ولي عهده على كراهية منهعليه‌السلام بذلك(٢) .

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٣٩.

(٢) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٠.

١٢٢

إن هذا الموقف من الإمامعليه‌السلام يدلنا على أنه عالم بأن المأمون يريد أن يحقق أغراضه السياسية، وأهمها إثباته للعباسيين أن بإمكانه أن يعتمد على خصومهم فضلا عن غيرهم.

ومما يدلنا على سوء نوايا المأمون وعدم إخلاصه في هذه القضية إكراه الإمامعليه‌السلام على القبول وتهديده بالقتل، واكتفائه منه بالقبول الصوري، والتشديد على الإمامعليه‌السلام ، ورصد جميع تحركاتهعليه‌السلام ومحاسبته عليها، مضافا إلى ما سبق هذه القضية وما لحقها من أحداث مما يدل دلالة قاطعة على أن المأمون إنما أراد من هذا الإجراء تحقيق طموحاته السياسية التي لا تتحقق إلا بهذا النحو من التدبير، ولسنا في مقام دراسة هذا الموضوع، ونكتفي بهذه الإشارة التي تدل على أن الإمامعليه‌السلام عاش ظروفا قاسية وأياما صعبة عانى منها الآلام.

ولما كان الإمامعليه‌السلام يعلم بقساوة الأيام التي سيعيشها تحت رقابة المأمون في عاصمة ملكه وبما بيته له من مكائد، كان خروجه من مدينة جدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حالة من اللوعة والأسى، وقد نعى فيها نفسه.

روى الصدوق بسنده عن مخول السجستاني، قال: لما ورد البريد بإشخاص الرضاعليه‌السلام إلى خراسان، كنت أنا بالمدينة، فدخل المسجد ليودع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فودعه مرارا كل ذلك يرجع إلى القبر ويعلو صوته بالبكاء والنحيب، فتقدمت إليه وسلمت عليه فرد السلام وهنأته، فقال: زرني، فإني أخرج من جوار جديصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأموت في

١٢٣

غربة وأدفن في جنب هارون(١) ...

وما أقسى أن يخرج الإنسان عن موطنه ويبعد عن أهله وذويه من دون أن يكون له خيار في ذلك، وما أشبه ذلك بالإلقاء في السجن حيث يفرض عليه نمط معين من الحياة، ويرى نفسه مقيدا بالالتزام به، وهو يخالف طبعه وما نشأ عليه.

وإذا كانت السنوات الأخيرة من حياة الإمام الكاظمعليه‌السلام قد مضت وهو ينقل من سجن إلى سجن، ويعاني من ثقل الحديد، فإن السنوات الأخيرة من حياة ابنه الرضاعليه‌السلام وإن لم تكبل فيها يداه ورجلاه بالأغلال إلا أنه كبل بقيود من نوع آخر، كان يعاني من ثقلها، وليس السجن الذي أودع فيه الرضاعليه‌السلام بأحسن حالا من السجن الذي أودع فيه الإمام الكاظمعليه‌السلام .

ثم إن الإمام الرضاعليه‌السلام لما أراد الخروج من المدينة نظر إلى ولده الإمام الجوادعليه‌السلام وأقبل به إلى قبر جدهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما يحدث بذلكعليه‌السلام فيقول: ثم أخذت أبا جعفر - ولم يكن له ولد غيره في أشهر الأقوال وله من العمر سبع سنوات(٢) - فأدخلته المسجد ووضعت يده على حافة القبر وألصقته به، واستحفظته رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فالتفت إلي أبو جعفرعليه‌السلام فقال لي: بأبي أنت، والله تذهب إلى الله، وأمرت جميع وكلائي وحشمي له بالسمع والطاعة، وترك مخالفته، وعرفتهم أنه القيم مقامي(٣) .

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢١٧.

(٢) منتهى الآمال ج ٢ ص ٤٥١.

(٣) منتهى الآمال ج ٢ ص ٤٥٠.

١٢٤

ومما يثير الاستغراب أن الإمام الرضاعليه‌السلام قد أقام العزاء على نفسه قبل مغادرته المدينة، فقد روى الصدوق بسنده عن الحسن بن علي الوشاء، قال: قال لي الرضاعليه‌السلام : إني حيث أرادوا الخروج بي من المدينة، جمعت عيالي، فأمرتهم أن يبكوا علي حتى أسمع، ثم فرقت فيهم اثني عشر ألف دينار، ثم قلت: أما إني لا أرجع إلى عيالي أبدا(١) .

ووجه الغرابة أن العادة جرت على أن إقامة العزاء والبكاء إنما هي بعد الموت، فما معنى أن يأمر الإمام الرضاعليه‌السلام عياله بالبكاء عليه ليسمع بكاءهم؟! مع أنهم علموا بشهادته في يوم وقوعها، فقد روى محمد بن أحمد بن يحيى بسنده عن أمية بن علي قال: كنت بالمدينة، وكنت أختلف إلى أبي جعفرعليه‌السلام ، وأبو الحسنعليه‌السلام بخراسان، وكان أهل بيته وعمومة أبيه يأتونه ويسلمون عليه، فدعا يوما الجارية فقال:

قولي لهم يتهيأون للمأتم، فلما تفرقوا قالوا: ألا سألناه مأتم من؟ فلما كان من الغد فعل مثل ذلك، فقالوا مأتم من؟ قال: مأتم خير من على ظهرها، فأتانا خبر أبي الحسن بعد ذلك بأيام، فإذا هو قد مات في ذلك اليوم(٢) .

فهل كان أمر الإمام الرضاعليه‌السلام عياله بالبكاء عليه لأنه يموت في الغربة بعيدا عن الأهل والوطن؟ أو لأنه كان يريد إشعارهم بأنه لن يعود فلا يأملون في لقائه؟

أو لأنه اعتبر نفسه ميتا فأمرهم بالبكاء لشدة ما سيلاقي من المحن

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢١٧ - ٢١٨.

(٢) إعلام الورى ج ٢ ص ١٠٠.

١٢٥

والمآسي؟

وعلى أي حال فقد كان أمرا غريبا لم يعهد من أحد من الأئمةعليهم‌السلام (١) .

وبعد، فأين كانت السيدة فاطمة المعصومة من هذا كله؟ وما هي حالها وهي ترى شقيقها يتركها في المدينة وينتقل إلى خراسان حيث الغربة والعناء وفراق الأهل وجوار الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ ولو كان الأمر بيده أو بيدها لخرجت معه ولسارت حيث يسير، وعاشت حيث يعيش، ولكنه خرج مقهورا تاركا عياله وأخواته حتى ابنه الإمام الجوادعليه‌السلام ، الذي كان له من العمر سبع سنوات(٢) ، بل أقل من ذلك كما يستفاد مما ذكره الشيخ المفيد رحمه الله حيث قال: ومضى الرضا علي بن موسىعليهما‌السلام ولم يترك ولدا نعلمه إلا ابنه الإمام بعده أبا جعفر محمد بن عليعليهما‌السلام وكانت سنه يوم وفاة أبيه سبع سنين وأشهرا(٣) .

وكان خروج الإمام الرضاعليه‌السلام من المدينة سنة ٢٠٠ هـ وشهادته

____________________

(١) ورد في أحوال عبد المطلبعليه‌السلام أنه أمر بذلك قبل أن يموت، فقد ذكروا أنه لما أدركت عبد المطلب الوفاة، بعث إلى أبي طالب وهو في سكرات الموت ومحمد على صدره، فوصاه برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورعايته وأن يحفظه بلسانه وماله ويده، وقال له: إنه والله سيسودكم ويملك أمركم، ثم أخذ عهدا من أبي طالب، وقال:

الآن هان علي الموت، ثم جعل محمداصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على صدره وبكى، وأمر بناته بالبكاء عليه ورثائه قبل أن يموت، فجاءت ست من بناته وأنشدت كل واحدة منهن قصيدة في حقه، إلى أن توفي، وكان عمره الشريف حينذاك مائة وعشرين سنة. لاحظ منتهى الآمال ج ١ ص ١١٠.

أقول: والفرق بين الأمرين أوضح من أن يذكر.

(٢) منتهى الآمال ج ٢ ص ٤٥١.

(٣) الإرشاد ج ٢ ص ٢٧١.

١٢٦

سنة ٢٠٣ هـ(١) .

وقد اعتصر قلب السيدة فاطمة المعصومةعليها‌السلام من الألم ولوعة الفراق، وعلمت من خلال ما جرى أن أخاها لن يعود، وكانت في جملة الباكين عليه، وقد سمع بكاءها وحسرتها على فراقه، ولعله أسر إليها أو علمت من خلال مجرى الأحداث بما سيقدم عليه من آلام ومآسي، ولذا لم تكتف بوداعه بل كما حدثني أحد أساتذتي الأجلاء بأنه سمع أو قرأ في كتاب أنه لما سار ركب الإمامعليه‌السلام من المدينة صعدت السيدة فاطمة المعصومةعليها‌السلام على السطح وبقيت تنظر إلى أخيها وهو يمشي حتى غاب عن عينيها.

وإن هذا الموقف يحمل من الدلالات شيئا كثيرا، ويبين مدى الصلة بين الأخ وشقيقته، كما يدل على مدى أثر لوعتها بفراقه وحزنها عليه.

وليست هذه الصلة الوثيقة بين الشقيقين لمجرد الرابطة النسبية وأنهما يلتقيان في أب واحد وأم واحدة، وإنما هي لما ذكرناه فيما سبق من علمها ومعرفتهاعليها‌السلام بمقام الإمامة المتمثلة في أخيها الإمام الرضاعليه‌السلام .

إلى الرضاعليه‌السلام :

وسار الموكب الرضوي يقطع البيد والمفاوز والقفار ميمما نحو

____________________

(١) منتهى الآمال ج ٢ ص ٤٥١ وص ٤٩٩.

١٢٧

خراسان حيث مركز حكم المأمون وسلطانه، ولم يكن للإمامعليه‌السلام مناص من الرحيل عن المدينة، موطن الأهل وحرم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فرحل الإمامعليه‌السلام عنها تاركا أهله وعياله وديعة عند جده المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

حتى إذا وصل الموكب إلى مرو ونفذت أولى خطط المأمون من ولاية العهد، وأخذ البيعة وضرب الدراهم والدنانير، ولم يكن الإمامعليه‌السلام بذلك مسرورا، فقد أسر إلى بعض أصحابه أن ذلك أمر لا يتم(١) ، وأنه حلقة من سلسلة المخطط الذي يهدف المأمون إلى تنفيذه، وكان ذلك في سنة ٢٠٠ هـ، ومرت الأيام بطيئة ثقيلة لم يلق فيها الإمامعليه‌السلام يوم راحة واطمئنان، فقد حقق المأمون من الإمام أغلى أمانيه.

وكان الإمامعليه‌السلام وهو في غربته يعاني من فراق أهله وعياله، فقد انقطعت الأخبار فما حال أولئك الثكالى؟ وما حال شقيقته الوحيدة؟

فهي بالأمس تفقد أباها، وهي في زهرة العمر، واليوم ينتزع منها شقيقها ولا ترجو له عودة.

ومضى عام على رحيل أخيها عنها فهاجت بها لواعج الحنين والشوق إلى أخيها الغريب، وقد علم الإمامعليه‌السلام بحال أخته، فإنها لم تغب عن قلبه، وهو يعلم شدة تعلقها به، فكتب إليها كتابا يطلب منها القدوم عليه، وأعطاه أحد غلمانه، وأمره بالمسير إلى المدينة ولا

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٠٢.

١٢٨

يلوي علي شئ، ولا يقف في طريقه إلا بمقدار الضرورة ليوصل الكتاب في أسرع وقت ممكن، وقد أعلمه الإمامعليه‌السلام بالمكان والبيت لئلا يسأل أحدا من الناس.

وأغد الغلام المسير يواصل ليله ونهاره، حتى شارف المدينة، وجاء إلى بيت الإمامعليه‌السلام وسلم الكتاب إلى فاطمة المعصومةعليها‌السلام (١) .

وما إن وقع بصرها على خط الإمام حتى تذكرت أخاها، وما كان له معها من شأن، وكأنه لم يمض عام واحد فحسب، وإنما عشرات الأعوام.

ثم إنها تهيأت للمسير.

وهذا الأمر هو ما نرجحه على القول بأن فاطمة المعصومةعليها‌السلام غادرت المدينة من تلقاء نفسها، فإن ذلك ينافي جلالة قدرها، وعظمة شأنها، وسمو نفسها، وإن كان الخطب جليلا، على أنها كانت في حمى ابن أخيها الجوادعليه‌السلام ، فعلى فرض أن موضوع الكتاب لم يثبت من ناحية تاريخية إلا أنها وهي العالمة بأن ابن أخيها إمام معصوم مفترض الطاعة فلا بد من استئذانه.

على أن التهيؤ بموكب قوامه اثنان وعشرون شخصا من الأخوة وأبنائهم والغلمان(٢) في مسيرهاعليها‌السلام لم يكن ليتم إلا عن رضا وموافقة

____________________

(١) كريمة أهل البيتعليهم‌السلام ص ٤٩٣ - ٤٩٤.

(٢) سيدة عش آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ص ٧٣. والحياة السياسية للإمام الرضاعليه‌السلام ص ٤٢٨.

١٢٩

وإذن.

ولذا فإنا وإن لم يثبت لنا الأمر من ناحية تاريخية - وما أكثر ما ضاع من الأحداث والوقائع وحل محلها الزيف والبهتان - إلا أننا بملاحظة حال السيدة فاطمة وشأنها ومكانتها في العلم والمعرفة لا نقبل بل لا نتوهم أنها خرجت من تلقاء نفسها لمجرد أنها رغبت في لقاء أخيها، فإذن ذلك يتنافى مع ما علمناه من مقامها.

وهي وإن كانت على موعد مع مدينة قم وأهلها الذين سيسعدون بها، وسينفتح لهم باب من أبواب الجنة، وستكون فاطمة المعصومةعليها‌السلام سيدة هذه البلدة الطيبة، وهو السر الخفي الذي يحدو بها للمسير - وسيوافيك الحديث في ذلك - إلا أن جلالة قدرها وعظمة شأنها تقتضيان أن يكون خروجها مرعيا بنظر المعصومعليه‌السلام .

هذا، وقد ذكرت المصادر أنها لما أزمعت الرحيل إلى لقاء أخيها في طوس، أعدت للسفر عدته، وتهيأ ركب قوامه اثنان وعشرون شخصا ضم بعض إخوتها، وبعض أبنائهم وغلمانهم، وساروا يقطعون البيد والقفار واتخذوا من الطريق المؤدي إلى قم مسارا لهم إلى طوس.

وفي الوقت نفسه تهيأ ركب آخر من بقية إخوتها ومن انضم إليهم، وخرجوا قاصدين إلى طوس حيث الإمام الرضاعليه‌السلام ، فقد ذكروا أن الإمام الرضاعليه‌السلام قد استأذن المأمون في قدومهم، وكان قوام هذا الركب ثلاثة آلاف شخص، فقد التحق بهم عدد كبير من بني أعمامهم

١٣٠

وأولادهم وأقاربهم ومواليهم، كما التحق بهم في مسيرهم أعداد كبيرة من الشيعة رجالا ونساء حتى بلغوا قريبا من خمسة عشر ألف شخص(١) .

وقد اختاروا المسير عن طريق شيراز وكان في طليعة هذا الركب أحمد ومحمد والحسين أبناء الإمام الكاظمعليه‌السلام (٢) .

وقد بلغت أنباء هذا التحرك إلى المأمون فأثار في نفسه التوجس فإن عددا ضخما كهذا العدد لا بد وأن يثير في نفسه تخوفا وتهيبا، ولا سيما أنه يعلم أن الإمام الكاظمعليه‌السلام ذهب ضحية غدر أبيه هارون الرشيد، ولم تمض مدة كافية ينسى هؤلاء المثكولون فقد أبيهم، وما خلفه موته من أحزان وآلام، ولا شك أن هؤلاء يعلمون أن ما اتخذه المأمون من تدابير سياسية - على خلاف ما هو المعهود والمألوف من بني العباس من الفتك والبطش بالعلويين - ما هي إلا مجرد تغطية واحتواء للأزمة الخانقة آنذاك.

على أن وصول الركب العلوي بهذا العدد إلى عاصمة الحكم قد يشكل خطرا على سياسة الحكم، ويفشل الخطط المرسومة، ولذا ما إن وصل الركب إلى أطراف شيراز حتى أوعز المأمون إلى ولاته بصدهم ومنعهم عن المسير وإرجاعهم إلى المدينة(٣) .

____________________

(١) سيدة عش آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ص ٦٩.

(٢) سيدة عش آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ص ٧١.

(٣) سيدة عش آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ص ٦٩ - ٧٠.

١٣١

وما راعهم إلا أربعون ألف شخص من جنود بني العباس تحت إمرة والي شيراز يقطعون الطريق عليهم، وهم على مقربة من شيراز، ودخل الطرفان في معركة دامية أسفرت عن انكسار الوالي وجنوده، فلجؤا إلى الحيلة فأشاعوا فيهم أنه إذا كان الغرض الوصول إلى لقاء الرضا فإن الرضا قد مات، الأمر الذي قد أدى إلى زعزعة أفراد هذا الركب وتشتت شملهم وتفرقهم في أطراف البلاد(١) .

وهذه القضية تكشف لنا سرا من أسرار التاريخ، فإن من المعروف انتشار قبور العلويين في بلدان إيران المختلفة، وقد أشرنا إلى ذلك في مطلع هذا البحث.

وإن انتشار هذه المراقد الطاهرة في مختلف القرى والمدن مما يثير الالتفات، إذ لا تكاد تخلو مدينة أو قرية من قبر أو أكثر للعلويين حتى أن بعضهم شكك في مصداقية ذلك، وادعى أن ذلك من فعل الناس وبمرور الزمن وتوارث الأجيال تقديس هذه المواضع وقصدها واللجوء إليها واقتران ذلك بأهل البيتعليهم‌السلام أصبح عند المتأخرين أن هذه القبور لأبناء الأئمةعليهم‌السلام ، وإلا فقد تكون هذه القبور لأناس عاديين، ماتوا ودفنوا في هذه الأماكن من دون أن يكونوا من أهل البيتعليهم‌السلام فضلا عن أن يكون لهم شأن.

ولكن بالوقوف على قضايا التاريخ، وما جرى في تلك الحقبة من

____________________

(١) سيدة عش آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ص ٧٠ - ٧١.

١٣٢

الزمن في عهد حكام بني العباس، وتتبعهم لبني هاشم، ومحاولة استئصالهم والحوادث الدامية التي جرت عليهم، والرعب والتشريد والملاحقة تكفي للاطمئنان بأن انتشار هذه القبور في أطراف القرى والمدن أمر لا يبعد تصديقه، والأحداث ومجرياتها تؤيده.

على أننا نقول إنه ليس كل هؤلاء أولاد الأئمةعليهم‌السلام لأصلابهم، بل قد يكون بعضهم أحفادا وأبناء أحفاد، أو أسباطا وأبناء أسباط.

ثم إننا لا نستبعد أن تكون هناك عنايات إلهية خفية كانت وراء إظهار هذه القبور، ولو بعد عشرات السنين، فإن أهلها فروع من الشجرة الطيبة.

ومما يؤيد ذلك ما ورد في كتب الرجال في ترجمة السيد عبد العظيم الحسني - وهو من أصحاب الهادي والعسكريعليهما‌السلام - وبيان بعض أحواله، فقد روى النجاشي في كتابه بسنده عن أحمد بن محمد ابن خالد البرقي قال: كان عبد العظيم ورد الري هاربا من السلطان، وسكن سربا في دار رجل من الشيعة في سكة الموالي، فكان يعبد الله في ذلك السرب، ويصوم نهاره، ويقوم ليله، فكان يخرج مستترا فيزور القبر المقابل قبره، وبينهما الطريق، ويقول: هو قبر رجل من ولد موسى بن جعفرعليه‌السلام ، فلم يزل يأوي إلى ذلك السرب ويقع خبره إلى الواحد بعد الواحد من شيعة آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى عرفه أكثرهم، فرأى رجل من الشيعة في المنام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال له: إن رجلا من ولدي يحمل

١٣٣

من سكة الموالي ويدفن عند شجرة التفاح في باغ عبد الجبار بن عبد الوهاب، وأشار إلى المكان الذي دفن فيه، فذهب الرجل ليشتري الشجرة ومكانها من صاحبها، فقال له: لأي شئ تطلب الشجرة ومكانها؟ فأخبره بالرؤيا، فذكر صاحب الشجرة أنه كان رأى مثل هذه الرؤيا، وأنه قد جعل موضع الشجرة مع جميع (الباغ) وقفا على الشريف، والشيعة يدفنون فيه، فمرض عبد العظيم ومات رحمة الله عليه، فلما جرد ليغسل وجد في جيبه رقعة فيها ذكر نسبه فإذا فيها: أنا أبو القاسم عبد العظيم بن عبد الله بن علي بن الحسن بن زيد بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب(١) .

وأضف إلى ذلك ما شاهده الناس من آثار البركات واستجابة الدعوات وقضاء الحوائج عند هذه المراقد الشريفة، وذلك مما يؤكد هذه الحقيقة.

وهذا الموضوع حري بدراسة مستوعبة يكشف فيها النقاب عن جانب من جوانب تاريخ سلالات الأئمةعليهم‌السلام ، ومواطن قبورهم في مكة والمدينة وأطرافهما والعراق والشام واليمن ومصر وبلاد المغرب العربي وإيران وغيرها من الأماكن، وأسأل الله أن يقيض لهذه المهمة الكبيرة من يتصدى للقيام بها.

هذا، ولكن ذكر بعض المحققين في قضايا التاريخ أن الركب العلوي

____________________

(١) رجال النجاشي ج ٢ ص ٦٦ - ٦٧.

١٣٤

إنما خرج بعد ما بلغه أن المأمون العباسي قد غدر بالإمام الرضاعليه‌السلام ، وكان خروجه من أجل الطلب بالثأر.

يقول السيد العاملي: كما أن بعض المصادر التأريخية تذكر أن أحمد بن موسى أخا الإمام الرضا لما بلغه غدر المأمون بأخيه الرضا، وكان آنذاك في بغداد خرج من بغداد للطلب بثأر أخيه، وكان معه ثلاثة آلاف من العلوية، وقيل: اثنا عشر ألفا... وبعد وقائع جرت بينه وبين (قتلغ خان) الذي أمره المأمون فيهم بأمره، والذي كان عاملا للمأمون على شيراز... استشهد أصحابه واستشهد هو وأخوه محمد العابد أيضا... ثم نقل السيد العاملي عن أحد الكتاب قوله: إن كثيرا من العلويين قد قصدوا خراسان أيام تولي الإمام العهد من المأمون، لكن أكثرهم لم يصل، وذلك بسبب استشهاد الإمامعليه‌السلام وأمر المأمون الحكام وأمراء البلاد بقتل أو القبض على كل علوي(١) .

وهذا ينافي ما نقلناه من أن الركب إنما خرج من أجل لقاء الإمامعليه‌السلام وليس طلبا للثأر.

وعلى أي حال فإن ذلك يؤكد ما ذكرناه من انتشار قبور السادة العلويين في مدن وقرى إيران المتنائية الأطراف وسيأتي ما يعزز ذلك أيضا.

وأما ركب السيدة فاطمة المعصومةعليها‌السلام فقد اتخذ طريق قم كما أسلفنا، ولكن ما إن وصل إلى ساوة - وهي بلدة لا تبعد كثيرا عن قم -

____________________

(١) الحياة السياسية للإمام الرضاعليه‌السلام ص ٤٢٧ - ٤٢٨.

١٣٥

حتى حوصر الركب فقتل وشرد كل من فيه، وجرحوا هارون أخا الإمام الرضاعليه‌السلام ، ثم هجموا عليه وهو يتناول الطعام(١) فقتلوه.

وكان ذلك كله بمرأى من السيدة فاطمة المعصومةعليها‌السلام فقد شاهدت مقتل إخوتها وأبنائهم، ورأت تشرد من بقي منهم، فماذا سيكون حالها آنذاك؟ واكتفى بعض المؤرخين بالقول إنها مرضت، فسألت عن المسافة بينها وبين قم فقيل لها عشرة فراسخ، فأمرت خادما لها أن يحملها إلى قم، ومكثت في قم في منزل موسى بن خزرج الأشعري سبعة عشر يوما ثم ماتت(٢) .

وذكر آخرون إنها قد دس إليها السم في ساوة، ولم تلبث إلا أياما قليلة واستشهدت(٣) .

واختلفوا أيضا في أن ما جرى على هذا الركب من المآسي والقتل والتشريد هل كان بإيعاز من المأمون إلى شرطته وأمره بمحاصرة الركب وقتل رجاله وتشريدهم؟ أو أن أهل ساوة الذين كانوا آنذاك من أشد الناس عداوة لأهل البيتعليهم‌السلام ، فلما وصل الركب إلى ساوة حاصره أهلها، ثم حملوا عليه ووقعت معركة دامية قتل فيها أخوة السيدة فاطمة وأبناؤهم وتشرد من بقي منهم، ولما شاهدت السيدة فاطمة إخوتها وأبناءهم صرعى وقد قطعت أجسادهم أصابها الحزن

____________________

(١) حياة الإمام موسى بن جعفرعليهما‌السلام ج ٢ ص ٤٣٥.

(٢) تاريخ قم ص ٢١٣.

(٣) الحياة السياسية للإمام الرضاعليه‌السلام ص ٤٢٨.

١٣٦

الشديد وضعفت قواها وعلى أثر ذلك اشتد بها المرض؟(١) ولا نملك السند التاريخي لترجيح أحد القولين، وبناء على أن الجمع أولى من الطرح وصحة تطبيقه في المقام فيمكن أن يقال بأنه لا تنافي بين الأمرين، وكلا الطرفين قد اشترك في إحداث هذه الفاجعة، وساهم في القضاء على هذا الموكب بمن فيه.

ولعل ما يؤيد ذلك انحراف أهل ساوة عن أهل البيتعليهم‌السلام ، على ما ذكره ياقوت الحموي في معجم البلدان حيث قال: ساوة مدينة حسنة بين الري وهمذان في وسط بينهما، وبين كل واحد من همذان والري ثلاثون فرسخا، وبقربها مدينة يقال لها آوه، فساوة سنية شافعية، وآوة أهلها شيعة إمامية وبينهما نحو فرسخين ولا يزال يقع بينهما عصبية وما زالتا معمرتين إلى سنة ٦١٧...(٢) .

ومن الطبيعي أن العصبية - ولا سيما العصبية المذهبية - تدعو إلى العداء، وهو قد يجر إلى سفك الدماء، وقد كانت الظروف آنذاك وسياسة الحكام يوم ذاك إنما تقوم على تأجج نار العصبية وإلقاء الفتن بين الناس تفريقا لكلمتهم وعملا بالمقولة المشهورة « فرق تسد ».

وأما ما ذكره بعض الباحثين من قضية دس السم للسيدة فاطمة المعصومةعليها‌السلام فهي وإن كنا لا نملك دليلا قاطعا على وقوعها أو عدمه إلا أننا لا ننفي ذلك، نظرا إلى أن السم كان أحد أمضى الأسلحة الفتاكة

____________________

(١) الحياة السياسية للإمام الرضاعليه‌السلام ص ٤٢٨ وكريمة أهل البيتعليهم‌السلام ص ١٧٤ - ١٧٥.

(٢) معجم البلدان ج ٣ ص ٢٠١.

١٣٧

التي كان العباسيون يستخدمونها ضد مناوئيهم، وكم لهم من قتيل ذهب ضحية شربة من سم دسها بنو العباس، وكان أكثر ضحاياهم من آل أبي طالبعليهم‌السلام ، حتى أن ستة من أئمة أهل البيت الاثني عشرعليهم‌السلام قد استشهدوا عن هذا الطريق.

ولذا فإنا لا نستبعد وقوع هذه الحادثة - وإن كانت تفتقر إلى السند التاريخي كما هو مقتضى الصناعة -، إذ لم يكن ثمة ما يحول بينهم وبين الفتك بمن يتوهمون فيه أن وجوده يشكل خطرا يتهدد دوام حكمهم وسلطتهم ومصالحهم، وأي حاجز كان يمنعهم وهم الذين قتلوا الأطفال والشيوخ ووضعوا أجسادهم في أساس البنيان، ودفنوا بعضهم أحياء، وسلبوا النساء، وفعلوا ببني عمهم ما لا يخطر على بال، حتى أنه لو أوصى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقتل ذريته وتشريد عترته لما زادوا على ما صنعوا بهم.

وقد أعترف المأمون نفسه بفظاعة ما ارتكب العباسيون من جرائم الإبادة في حق بني علي وفاطمةعليهم‌السلام ، وأن بني أمية برغم بشاعة ما اقترفوا كانوا أخف وطأة على العلويين منهم، فقال يخاطب بني العباس: ويحكم إن بني أمية إنما قتلوا منهم من سل سيفا، وإنا معشر بني العباس قتلناهم جملا، فلتسألن أعظم الهاشمية بأي ذنب قتلت؟

ولتسألن نفوس ألقيت في دجلة والفرات؟ ونفوس دفنت ببغداد

١٣٨

والكوفة أحياء؟...(١) .

وعلى أي حال فقد كانت الأيام الأخيرة من حياة السيدة فاطمة المعصومةعليها‌السلام مريرة مؤلمة عانت فيها آلاما في الروح وآلاما في الجسد حتى آذنت شمسها بالمغيب.

في قم:

ورحلت السيدة المعصومةعليها‌السلام من ساوة وهي مثقلة بالهموم والآلام والأحزان ميمنة نحو قم، وكانت على موعد مع هذه البلدة الطيبة، والتي ستزداد مكانتها رفعة وشأنا وشرفا يوم تطأ أرضها قدما السيدة فاطمةعليها‌السلام ، ولنا حديث حول قم وتاريخها سيأتي في موضعه.

لقد علمت السيدة فاطمة المعصومةعليها‌السلام بأنها المعنية في ما ورد عن جدها الإمام الصادقعليه‌السلام يوم قال... وإن لنا حرما وهو بلدة قم وستدفن فيها امرأة من أولادي تسمى فاطمة فمن زارها وجبت له الجنة.

وذكر الرواة أن الإمامعليه‌السلام قد حدث بذلك قبل ولادة الإمام الكاظمعليه‌السلام (٢) .

وعلمت السيدة فاطمةعليها‌السلام بقرب رحيلها عن الدنيا، وأنها لن تلبث إلا أياما قليلة، كما علمت أن مواصلة المسير إلى طوس أصبح عسيرا

____________________

(١) الطرائف ج ١ ص ٢٧٨.

(٢) تاريخ قم ص ٢١٥ وبحار الأنوار ج ٦٠ ص ٢١٦ - ٢١٧.

١٣٩

بعد أن فقدت إخوتها وأبناءهم قتلا وتشريدا، ولم تكن أرض ساوة ولا أهلها آنذاك أهلا لاستضافتها، ومن أجل ذلك كان لا بد أن ترحل عن ساوة إلى قم، فأمرت خادمها أن يحملها إليها.

ولما بلغ أهل قم نبأ قرب وصولها خرج الأشراف لاستقبالها، ولعلهم كانوا يعلمون بما حدث به الإمام الصادقعليه‌السلام ، وأن هذه المرأة الجليلة هي التي وعدوا بها، وكان في طليعة مستقبليها موسى بن خزرج بن سعد الأشعري، فلما وصل إليها أخذ بزمام ناقتها، وجرها إلى منزله وكانت في داره سبعة عشر يوما(١) .

ولا زال موضع المنزل ماثلا إلى اليوم، حيث أصبح مدرسة علمية ومسكنا لطلاب العلوم الدينية في قم، وقد اتخذت من بيته موضعا جعلته محرابا لها تصلي فيه.

يقول الشيخ المحدث القمي: والمحراب الذي كانت فاطمة رضي الله عنها تصلي فيه موجود إلى الآن في دار موسى ويزوره الناس.

وما يزال هذا المحراب المبارك موجودا إلى يومنا هذا ويقع في محله (ميدان مير) ومعروف بـ (ستية) والتي بمعنى السيدة(٢) .

لقد كانت السيدة فاطمة المعصومةعليها‌السلام تأمل في أن تحظى بلقاء شقيقها الرضاعليه‌السلام ، لتطفئ لواعج الشوق والحنين، وتروي ظمأ الفؤاد، وكانت تغذ السير نحو طوس لا تلوي على شئ... ولكنها الأقدار

____________________

(١) تاريخ قم ص ٢١٣.

(٢) منتهى الآمال ج ٢ ص ٣٧٩.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254