الفاطمة المعصومة (سلام الله عليها)

الفاطمة المعصومة (سلام الله عليها)15%

الفاطمة المعصومة (سلام الله عليها) مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 254

  • البداية
  • السابق
  • 254 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 39047 / تحميل: 6137
الحجم الحجم الحجم
الفاطمة المعصومة (سلام الله عليها)

الفاطمة المعصومة (سلام الله عليها)

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

ومن هنا ندرك مدى اهتمام أهل البيتعليهم‌السلام بهذا الأمر، ومدى ارتباطه الوثيق بالجانبين الفردي والاجتماعي وقد أشرنا إلى ذلك فيما تقدم.

كما ندرك أنهمعليهم‌السلام كانوا يتخيرون لأولادهم أسماء حسنة مراعاة لهذه الجوانب، وهي تحمل دلالات مهمة، ومعان سامية، وقد روي عن أبي جعفرعليه‌السلام أنه قال: - في حديث - إنا لنكني أولادنا في صغرهم مخافة النبز أن يلحق بهم(١) .

وقد ذكرت الروايات الترغيب في أسماء معينة كمحمد وعلي، وحسن، وحسين، وجعفر، وطالب، وعبد الله، وحمزة، وغيرها من الأسماء كأسماء الأنبياء والأئمةعليهم‌السلام ، بل ورد استحباب تسمية الأولاد قبل أن يولدوا، بل وإن كانوا أسقاطا فإن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد سمى محسنا قبل أن يولد(٢) .

وأما أسماؤهمعليهم‌السلام فقد اختارها الله تعالى لهم وجاء في الزيارة الجامعة: (فما أحلى أسماءكم) وقد دلت عدة روايات على ذلك.

ولما كانت السيدة المعصومة ربيبة الإمامة فقد حظيت بأحسن الأسماء، وأجمل الألقاب، وإن لأسمائها وألقابها من الدلالات والمعاني ما يشير إلى عظمتها، ذلك لأن الاسم أو اللقب لم يطلق عليها جزافا، وإنما صدر عن المعصوم الذي يضع الأشياء في مواضعها، الأمر الذي يدل على جلالة هذه الشخصية وعظمتها في كل شأن من

____________________

(١) وسائل الشيعة ج ١٥ باب ٢٧ من أبواب أحكام الأولاد الحديث ١.

(٢) وسائل الشيعة ج ١٥ باب ٢٣ وباب ٢٤ من أبواب أحكام الأولاد.

٦١

شؤونها.

وأما أسماؤها وألقابها فهي:

١ - فاطمة:

وكم لهذا الاسم من شأن وخصوصية عند الأئمةعليهم‌السلام وشيعتهم، وكم كان الأئمةعليهم‌السلام يولون هذا الاسم أهمية فائقة، لا نجدها في سائر الأسماء عندهم.

روى الكليني بسنده عن السكوني، قال: دخلت على أبي عبد اللهعليه‌السلام وأنا مغموم مكروب، فقال لي: يا سكوني ما غمك؟ فقلت:

ولدت لي ابنة، فقال: يا سكوني على الأرض ثقلها، وعلى الله رزقها، تعيش في غير أجلك، وتأكل من غير رزقك، فسرى والله عني، فقال: ما سميتها؟ قلت: فاطمة، قال: آه، آه، آه، ثم وضع يده على جبهته،.... - ثم قال -: أما إذا سميتها فاطمة فلا تسبها، ولا تلعنها، ولا تضربها(١) .

إن لهذا الاسم قدسية في نفوس أهل البيتعليهم‌السلام ، ولذا ذكر بعض الباحثين أن جميع الأئمةعليهم‌السلام كانت لهم بنات بهذا الاسم، حتى أن أمير المؤمنينعليه‌السلام الذي كان اسم أمه فاطمة واسم زوجته فاطمة، كان له بنت اسمها فاطمة، وأن الإمام الكاظمعليه‌السلام كانت له أربع بنات بهذا الاسم، الأمر الذي يؤكد على أن هذا الاسم ليس أمرا عاديا، فيا ترى ما هو الوجه في ذلك؟

____________________

(١) الفروع من الكافي ج ٦ - كتاب العقيقة - باب حق الأولاد الحديث ٦ ص ٤٨.

٦٢

إن شيعة أهل البيتعليهم‌السلام يدركون تماما خصوصية هذا الاهتمام وأبعاده ومغزاه، فإن المتسميات بفاطمة من النساء كثير، إلا أنه ما إن يطلق هذا الاسم ويتناهى إلى الأسماع حتى تتبادر الأذهان إلى فاطمة بضعة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي كانت واسطة العقد وملتقى النورين ومنشأ السلالة النبوية الشريفة والذرية الطاهرة.

وإلى ما جرى على فاطمةعليها‌السلام - من الخطوب والمآسي، وما نالته فاطمة من إجماع أصحاب أبيها على هضمها، والتنكر لمقامها، وحرمانها من حقها - يعود كل ما تمخض من أحداث مؤلمة وفجائع أصابت أبناءها وشيعتها عبر التاريخ.

وإن في تأوه الإمام الصادقعليه‌السلام ثلاث مرات ووصيته للسكوني أن لا يسب ابنته ولا يلعنها ولا يضربها حيث سماها فاطمة دلالات تقصر عنها العبارات وتتعثر الأفكار.

إن الأمة قد انحرفت عن طريق الهداية والرشاد منذ اللحظة التي عزم فيها القوم على هضم فاطمة وظلمها وهتك حرمتها حيث داسوا على وصايا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأقدامهم وتجاسروا على بيت النبي في هجوم شرس زعزع القواعد التي أرساها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لضمان سلامة الأمة من الضيعة والضلال.

ولو أن الأمة أنصفت وأعطت فاطمة حقها لكانت قيادة الأمة بيد أمير المؤمنينعليه‌السلام ولا بيض وجه التاريخ.

٦٣

ولسنا في مقام الحديث عن تاريخ حياة فاطمةعليها‌السلام ، وإنما أردنا الإشارة إلى أن تسمية إحدى بناتها باسمها يحمل من الدلالات ما هو أكبر من مجرد إطلاق اسم على مسمى، فإن في التسمية بهذا الاسم تذكيرا وإيحاء بما جرى في تلك الأيام التي أعقبت وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ومن هنا ندرك اهتمام الأئمةعليهم‌السلام وشيعتهم بهذا الاسم العظيم.

وقد ذكرت الروايات الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام عدة تفاسير لمعنى فاطمة وكلها تدل على عظمة الصديقة الزهراءعليها‌السلام ومقامها(١) .

٢ - المعصومة:

ويقترن هذا الاسم باسم فاطمة بنت الإمام موسى بن جعفرعليهم‌السلام ، فيقال في الأعم الأغلب: فاطمة المعصومة، كما يقال عند ذكر أمها الكبرى: فاطمة الزهراءعليها‌السلام .

وقد ورد هذا الاسم في رواية عن الرضاعليه‌السلام حيث قال: من زار المعصومة بقم كمن زراني(٢) .

ولهذه التسمية من الدلالة ما لا يخفى، فإنها تدل على أن السيدة فاطمةعليها‌السلام قد بلغت من الكمال والنزاهة والفضل مرتبة شامخة حيث سماها الإمامعليه‌السلام بالمعصومة، والعصمة تعني الحفظ والوقاية،

____________________

(١) بحار الأنوار ج ٤٣ ص ١٠ - ١٢ - ١٣ - ١٤ - ١٥ - ١٦ - ١٨ - ٦٥.

(٢) رياحين الشريعة ج ٥ ص ٣٥.

٦٤

والمعصوم هو الممتنع عن جميع محارم الله تعالى، وهي لا تنافي الاختيار، فتكون مرتبة من الكمال لا تهم النفس معها بارتكاب المعصية فضلا عن الإتيان بها مع القدرة عليها عمدا أو سهوا أو نسيانا، ولا يكون معها إخلال بواجب من الواجبات، بل ولا مخالفة الأولى كما في بعض المعصومينعليهم‌السلام ، وليست هي أمرا ظاهرا وإنما هي حالة خفية من حالات النفس، ويستدل عليها بالنص أو القرائن القطعية الدالة على ثبوتها، كما أنها أمر مشكك، أي ذات مراتب تتفاوت فيها القابليات والاستعدادات من شخص إلى آخر.

وقد اتفقت كلمة الشيعة الإمامية على عصمة الأنبياء والأئمةعليهم‌السلام والملائكة وبعض الأولياء، وإن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة الاثني عشر والصديقة الزهراءعليها‌السلام في أرقى درجات العصمة، فإنهم بلغوا من العصمة مقاما لا تصدر منهم معصية، ولا يتركون واجبا، ولا يبدر منهم ما كان على خلاف الأولى، وبذلك نطقت الأدلة وقامت البراهين العقلية والنقلية كما هي مبثوثة في كتب الشيعة الإمامية الكلامية(١) .

ويتلوهم الأمثل فالأمثل بمقتضى تفاوت المراتب والمقامات.

وعلى هذا فلا يبعد القول بأن السيدة فاطمة هي إحدى المعصومات وإن لم تبلغ درجة الصديقة الزهراءعليها‌السلام ، أو أحد الأئمةعليهم‌السلام .

____________________

(١) أوائل المقالات ص ٣٥ وتلخيص الشافي ج ١ ص ١٨٣ - ١٩٦ وكشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد ص ٢٧٤ وص ٢٨٦ - ٢٨٧.

٦٥

وقد ذكر بعض الباحثين(١) عدة قرائن تدل على ذلك ومنها:

أولاً: ما ورد في الرواية عن الإمام الرضاعليه‌السلام من أنه قال: من زار المعصومة بقم كمن زارني.

ومن المعلوم أن الإمامعليه‌السلام لا يلقي الكلام جزافا، ولا يمكن أن تصدر منه مبالغة في القول في حق شخص من الأشخاص على خلاف الحق.

ولم يكن اسم المعصومة يطلق على السيدة فاطمة في حياتها ليكون التعبير بالمعصومة عنوانا مشيرا، بل إن هذا التعبير منهعليه‌السلام صدر عنه بعد وفاتهاعليها‌السلام وهو يدل على إثبات العصمة لهذه السيدة الجليلة لأنه بناء على أساس القاعدة المعروفة من أن تعليق الحكم بالوصف مشعر بالعلية، يصبح معنى الحديث هكذا: من زار المعصومة بقم كمن زارني لأنها معصومة.

فإذا ثبت أن هذا الحديث صادر عنهعليه‌السلام فلا إشكال في دلالته على عصمتهاعليها‌السلام .

وثانياً: بما ورد من الأحاديث الصحيحة المستفيضة الواردة في وجوب الجنة لمن زار قبر هذه السيدة الجليلة.

وإن كان لا ملازمة بين العصمة ووجوب الجنة، ولكن لم يعهد في شأن غير المعصوم ذلك، حتى أن ثلاثة من الأئمة المعصومينعليهم‌السلام يؤكدون على زيارتها - وسيأتي الحديث عن ذلك -.

____________________

(١) كريمة أهل البيتعليهم‌السلام ص ٣٦ - ٤٢.

٦٦

وثالثاً: بشفاعتها الشاملة لجميع شيعة أهل البيتعليهم‌السلام .

نعم ذكرت الشفاعة في شأن العالم والشهيد ونحوهما، ولكن لم يرد شمول الشفاعة وسعتها بحيث تشمل الجميع إلا في حقها وحق آبائها المعصومين، يقول الإمام الصادقعليه‌السلام : تدخل بشفاعتها شيعتنا الجنة بأجمعهم.

رابعاً: الروايات المتواترة الواردة في فضل قم وقداسة أرضها ببركة قدوم هذه السيدة الجليلة، ولم يرد في شأن مدينة أخرى كما ورد في شأن مدينة قم، ومن الطبيعي أن قداسة هذه المدينة إنما هي من أجل هذه السيدة الجليلة.

خامساً: التعبير عن قم بأنها حرم أهل البيت، وعش آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وغيرها من التعابير العالية التي لم يرد لها مثيل إلا في مواطن ومشاهد الأئمةعليهم‌السلام .

سادساً: الكرامات الباهرة لهذه السيدة الجليلة التي كانت ترى على مر القرون والأزمان، ولم يكن لأحد من أولاد الأئمة ذلك، إلا ما كان من أبي الفضل العباسعليه‌السلام الذي يقال بعصمته أيضا.

سابعاً: التعبيرات العالية الواردة في زيارتها مثل: « فإن لك عند الله شأنا من الشأن » وحيث أن هذه الزيارة مروية عن الإمام الرضاعليه‌السلام ، فإن هذه التعبيرات العالية الشأن لا تتناسب مع غير المعصوم.

ثامناً: إخبار الإمام الصادقعليه‌السلام عن تشرف هذه البقعة - مدينة قم -

٦٧

ببضعة من ولده موسىعليه‌السلام ، وكان إخباره بذلك قبل ولادة موسى بن جعفرعليهما‌السلام ، وهو يدل على مقامها العظيم، ومع هذا يؤكدعليه‌السلام على أن جميع الشيعة يدخلون الجنة بشفاعتها، وذلك علامة على جلالة قدرها، الأمر الذي لم نقف عليه في شأن غير المعصوم.

وعاشراً: مجئ الإمامين الرضا والجوادعليهما‌السلام لتجهيز ودفن هذه السيدة الجليلة دليل واضح على عصمتها، وذلك لأن من معتقدات الشيعة أن جنازة المعصوم لا يتولى دفنها إلا المعصوم، فإن أمير المؤمنينعليه‌السلام هو الذي تولى تجهيز فاطمةعليها‌السلام مع حضور أسماء، حتى أن الإمام الصادقعليه‌السلام رأى أن ذلك ثقل على المفضل - الذي كان يحدثه - فقال لهعليه‌السلام : لا تضيقن فإنها صديقة، ولم يكن يغسلها إلا صديق، أما علمت أن مريم لم يغسلها إلا عيسى(١) .

فقد ورد في أحكام غسل الميت أن الزوج أحق بتغسيل زوجته، وإن وجد المماثل، وأما الولد فلا يمكنه أن يغسل أمه في حال الاختيار مع وجود المماثل، ولكن لما كانت مريمعليها‌السلام معصومة فلم يكن مناص إلا أن يتولى ولدها عيسىعليه‌السلام تغسيلها.

ومن قولهعليه‌السلام : « صديقة » يستفاد عصمة مريمعليها‌السلام ، وقد ورد في القرآن الكريم التعبير عنها بذلك، وهكذا تولى الإمام الرضاعليه‌السلام تغسيل أبيه، كما أن الإمام الجوادعليه‌السلام جاء من المدينة إلى خراسان، والإمام

____________________

(١) الأصول من الكافي ج ١ - كتاب الحجة - باب مولد الزهراء فاطمةعليها‌السلام الحديث ٤ ص ٤٥٩.

٦٨

الهادي جاء من المدينة إلى بغداد، ومن قبلهما جاء الإمام زين العابدينعليه‌السلام من السجن لتجهيز والده في كربلاء.

والملفت للنظر أن الإمام زين العابدينعليه‌السلام لما أراد أن يدفن أباه الحسينعليه‌السلام ، وعلي الأكبرعليه‌السلام ، وأبا الفضل العباسعليه‌السلام ، لم يطلب العون من بني أسد، بل قام بذلك بنفسه، ولكن لما أراد أن يدفن الشهداء طلب منهم أن يحفروا حفرتين وأمرهم بدفن شهداء بني هاشم في واحدة، ودفن سائر الشهداء في الأخرى.

وهذا بنفسه علامة على عصمة علي الأكبر. وأبي الفضل العباسعليهما‌السلام .

وهكذا في تجهيز السيدة فاطمة، فإن حضور الإمامين الرضا والجوادعليهما‌السلام له معنى كبير، وهو شاهد حي على عصمة هذه السيدة الجليلة.

فمع الالتفات إلى هذه الأمور فإذا ادعى شخص أن السيدة فاطمة المعصومةعليها‌السلام نالت مرتبة من العصمة فليس فيه انحراف في القول أو مجازفة في المقال، نعم هذه المرتبة من العصمة دون مرتبة المعصومين الأربعة عشرعليهم‌السلام ، فإن أولي العزم من الأنبياء لم يبلغوا تلك المرتبة.

وهناك تفاوت آخر، وهو أن العصمة في الأنبياء والأئمة أمر لازم

٦٩

لا بد منه، وأما العصمة في هذه الشخصيات العالية فليست بلازمة(١) .

ولئن لم تكن معصومة بالمعنى الخاص للعصمة الخاصة بالأئمةعليهم‌السلام والصديقة الزهراءعليها‌السلام إلا أن في التعبير عنها بالمعصومة إشعارا ببلوغها مرتبة عالية من الطهارة والعفة والنزاهة والقداسة، ولا غرو فإنها تنحدر من بيت العصمة وتربت على يد المعصوم، وكانت ابنة معصوم وأخت معصوم وعمة معصوم.

٣ - كريمة أهل البيت:

وهو من ألقاب هذه السيدة الجليلة، وعرفت به من دون سائر نساء أهل البيت.

وقد اشتهر الإمام الحسن المجتبىعليه‌السلام بهذا اللقب من دون سائر الرجال، فكان يقال له كريم أهل البيت.

وقد أطلقه عليها الإمام المعصومعليه‌السلام في قصة وقعت لأحد السادة الأجلاء وقال له: «عليك بكريمة أهل البيت » مشيرا إلى هذه السيدة الجليلة، وسنذكر تفاصيلها في موضع آخر.

ولهذا اللقب دلالة بعيدة الغور على شأن فاطمة بنت الإمام موسى ابن جعفرعليهم‌السلام ، فإن أهل البيتعليهم‌السلام قد جمعوا غر الفضائل والمناقب وجميل الصفات، ومن أبرز تلك الخصال الكرم، وقد عرفوه بأنه إيثار الغير بالخير ولا تستعمله العرب إلا في المحاسن الكثيرة، ولا يقال

____________________

(١) كريمة أهل البيتعليهم‌السلام ص ٣٦ - ٤٢.

٧٠

كريم حتى يظهر منه ذلك(١) ، والكريم هو الجامع لأنواع الخير والشرف والفضائل.

ومن ذلك يعلم أن للكرم معنى واسعا لا ينحصر في بذل المال أو إقراء الضيف أو حسن الضيافة، فإنها من مصاديق الكرم لإتمام معناه.

وعلى ضوء هذا المعنى الشامل للكرم يتجلى لنا المراد من وصف أهل البيتعليهم‌السلام بأنهم أكرم الناس على الإطلاق لما اشتملوا عليه من أنواع الخير والشرف والفضائل، وقد حفظ لنا التاريخ شيئا من ذلك وحدث به الرواة.

كما يتجلى لنا أيضا اتصاف هذه السيدة الجليلة بأنها كريمة أهل البيتعليهم‌السلام .

وإن من أبرز مظاهر كرمها أن مثواها المقدس كان ولا يزال منبعا للفيض، وملاذا للناس، ومأمنا للعباد، ومستجارا للخلق، وبابا من أبواب الرحمة الإلهية للقاصدين، وأن مدينة قم حيث تضم مرقدها الطاهر كانت ولا تزال حاضرة العلم، وحرم الأئمة وعش آل محمدعليهم‌السلام ومنفرا لأهل العلم من شتى بقاع الأرض، يتلقون علوم أهل البيتعليهم‌السلام محتضنة كوكبة من العلماء والطلاب، ولا زالت هي والنجف الأشرف فرسي رهان تتسابقان في تخريج حملة العلوم على شتى مراتبهم، وسيوافيك عن ذلك حديث.

ففي وصف هذه السيدة الجليلة بأنها كريمة أهل البيت دلالة على

____________________

(١) مجمع البحرين ج ٦ ص ١٥٢.

٧١

أنها ذات خير وبركة على الخلق، ولا سيما شيعة آل محمد وأختص أهل قم منذ اللحظة التي تشرفت أرضهم بها أنهم لا يزالون ينعمون ببركاتها وخيراتها آناء الليل وأطراف النهار، ويعيشون في حماها ويتفيأون ظلالها في امتياز خاص بهم من دون أهل سائر المناطق الأخرى.

أسماء وألقاب أخرى:

ذكر العلامة المتتبع الشيخ علي أكبر مهدي پور في كتابه القيم (كريمة أهل البيتعليهم‌السلام )(١) أن لفاطمة المعصومة عدة أسماء وألقاب غير ما ذكرنا، وردت في عدة من المصادر، وهي:

١ - الطاهرة ٢ - الحميدة ٣ - البرة ٤ - الرشيدة ٥ - التقية ٦ - النقية ٧ - الرضية ٨ - المرضية ٩ - السيدة ١٠ - أخت الرضا ١١ - الصديقة ١٢ - سيدة نساء العالمين.

وسواء ثبتت هذه الألقاب والأسماء أو لم تثبت إلا أن من الواضح انطباق ما تضمنته من معان ودلالات على هذه السيدة الجليلة.

وقد أطلق أكثر هذه الأوصاف على أمها فاطمة الزهراءعليها‌السلام ، ولا سيما الأخير منها، فإن فاطمة الزهراءعليها‌السلام هي سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، كما أطلق على السيدة مريم بنت عمرانعليها‌السلام ،

____________________

(١) كريمة أهل البيتعليهم‌السلام ص ٤٧ - ٤٨.

٧٢

وقيد - كما في الروايات - بأن سيادتها على نساء العالمين إنما هو خاص بنساء زمانها، ولذا ينبغي التخصيص في إطلاقه على فاطمة المعصومةعليها‌السلام أو يقال بالتخصص إذ من المعلوم أن مقام فاطمة الزهراءعليها‌السلام لا يرقى إليه أحد من النساء، فإنها بضعة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وروحه التي بين جنبيه.

وهكذا الحال بالنسبة إلى سائر الألقاب الأخرى.

وعلى أي حال فإن في تسميتها بفاطمة ووصفها بالمعصومة وكريمة أهل البيتعليهم‌السلام وأنها صادرة من المعصومين دلالة على المقام الرفيع الذي بلغته سيدة عش آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

في رحاب العلم والمعرفة:

عاشت السيدة فاطمة المعصومة مع أخيها الإمام الرضاعليه‌السلام أكثر من عشرين عاما على أقل التقادير، إذا ما استبعدنا أن تكون ولادتها في سنة ١٨٣ هـ، لأنها السنة التي استشهد فيها أبوها الإمام الكاظمعليه‌السلام في قول أكثر المؤرخين، وإلا فتكون المدة التي عاشتها السيدة فاطمة مع أخيها سبعة عشر عاما، وذلك لأن انتقال الإمام الرضاعليه‌السلام من المدينة إلى مرو في خراسان كان سنة ٢٠٠ هـ وكانت ولادتهعليه‌السلام سنة ١٤٨ هـ كما هو المشهور، وقيل في سنة ١٥٣ هـ(١) . فعلى القول بأن ولادتهاعليها‌السلام

____________________

(١) منتهى الآمال ج ٢ ص ٤٠٣.

٧٣

كانت سنة ١٧٩ هـ يكون عمرها الشريف يوم رحلة أخيها من المدينة واحدا وعشرين عاما، وعلى القول بأن ولادتها كانت سنة ١٧٣ هـ كما رجحه بعضهم يكون عمرها آنذاك سبعة وعشرين عاما.

وعلى أي تقدير فقد عاشت السيدة فاطمة المعصومةعليها‌السلام في كنف أخيها الرضاعليه‌السلام ورعايته مدة من الزمن تمكنها من تلقي التربية والتعليم اللائقين بمقامها على يد أخ شقيق لم يكن في علمه ومقامه كسائر الناس، فهو الإمام المعصوم وهو المربي والمعلم والكفيل.

وهذه المدة وإن لم تخل من مضايقات عانى منها الإمام الرضاعليه‌السلام الشدائد والمحن بعضها كان محصورا في نطاق أسرته وأهل بيته، وهو ما لاقاه الإمامعليه‌السلام من بعض أخوته وعمومته حيث اعترض بعضهم على تفضيله وتمييزه عليهم، ولا نريد الولوج في تفاصيل هذا الموضوع الخاص خشية التعثر في طريقه، على أنه لا أثر يترتب على الخوض في الحديث عنه.

وبعضها كان من بعض من كانوا في عداد شيعة أبيه حيث نجم قرن فتنة الواقفية الذين حليت الدنيا في أعينهم، فحاولوا قطع الطريق على الإمام الرضاعليه‌السلام وابتدعوا القول بأن الإمام الكاظمعليه‌السلام لم يمت، وأنه غاب وسيعود، وفي طليعة هؤلاء علي بن أبي حمزة البطائني، وزياد بن مروان القندي، وعثمان الرواسي(١) وأضرابهم من الذين أحدثوا

____________________

(١) معجم رجال الحديث ج ١٢ ص ٢٣٥ - ٢٣٦.

٧٤

هذه الفتنة وكانوا سببا مباشرا وغير مباشر في تألم الإمامعليه‌السلام وإيذائه.

وبعضها كان من السلطة الحاكمة حيث كانت تتحرش - بين حين وآخر - بالإمام وتوعز إلى جلاديها بالهجوم على بيت الإمام كما سيأتي تفصيله.

أقول: إن هذه الفترة وإن لم تصف للإمامعليه‌السلام ولم تخل من المضايقات إلا أن من اليقين أن الإمام قام بدوره مربيا ومعلما وراعيا وكفيلا، وفي طليعة من رباهم الإمامعليه‌السلام وعلمهم شقيقته السيدة فاطمة المعصومة، فأخذت عنه العلم والمعرفة والفضائل والمناقب، حتى غدت ذات شأن عند الله تعالى كما جاء في زيارتهاعليها‌السلام ، وأن شفاعتها كفيلة بإدخال الشيعة بأجمعهم إلى الجنة، كما تحدث بذلك جدها الإمام الصادقعليه‌السلام .

والمصادر وإن لم تسعفنا بذكر شئ مما تلقته الأخت من أخيها، وبماذا حدثها، وكيفية حديثه إليها، إلا أن لدينا ما يكفي للكشف عن بلوغها مرتبة عالية من العلم والمعرفة والمقام، ومنه قول معلمها ومربيها الإمام الرضاعليه‌السلام إذ روي عنه أنه قال: من زار المعصومة بقم كمن زارني(١) .

ولا يغيب عن بالنا أن القائل معصوم لا ينطق عن الهوى، وإن وراء هذه الجملة على قصرها ما يدل على المقام الرفيع في العلم وغيره،

____________________

(١) رياحين الشريعة ج ٥ ص ٣٥.

٧٥

ولولا أن السيدة فاطمة المعصومة بلغت من المنزلة مكانة عظيمة لما كان الإمامعليه‌السلام يقول ذلك.

على أنه هل من المعقول أن يقال في حقها بأنها معصومة ولا تكون قد بلغت من العلم مكانة يكشف لها الواقع على ما هو عليه، أليست العصمة تستلزم العلم والمعرفة؟!.

ومما يؤيد ذلك ما نقله العلامة الشيخ علي أكبر مهدي پور حكاية عن أحد الفضلاء عن المرحوم السيد أحمد المستنبط عن كتاب كشف اللئالي لابن العرندس الحلي، وحاصلها: أن جمعا من الشيعة قصدوا بيت الإمام موسى بن جعفرعليهما‌السلام للتشرف بلقائه والسلام عليه، فأخبروا أن الإمامعليه‌السلام خرج في سفر وكانت لديهم عدة مسائل فكتبوها، وأعطوها للسيدة فاطمة المعصومةعليها‌السلام ثم انصرفوا.

وفي اليوم التالي - وكانوا قد عزموا على الرحيل إلى وطنهم - مروا ببيت الإمامعليه‌السلام ، ورأوا أن الإمامعليه‌السلام لم يعد من سفره بعد، ونظرا إلى أنه لا بد لهم أن يسافروا طلبوا مسائلهم على أن يقدموها للإمامعليه‌السلام في سفر آخر لهم للمدينة، فسلمت السيدة فاطمةعليها‌السلام المسائل إليهم بعد أن كتبت أجوبتها، ولما رأوا ذلك فرحوا وخرجوا من المدينة قاصدين ديارهم.

وفي أثناء الطريق التقوا بالإمام الكاظمعليه‌السلام وهو في طريقه إلى المدينة، فحكوا له ما جرى لهم فطلب إليهم أن يروه تلك المسائل،

٧٦

فلما نظر في المسائل وأجوبتها، قال ثلاثا: فداها أبوها.

فإن صحت هذه الحكاية فهي تدل - أولا: - على أن السيدة فاطمة المعصومة عاصرت أباها مدة طويلة من الزمن فيكون القول بأن ولادتها سنة ١٨٣ هـ أو ١٧٩ هـ غير صحيح قطعا.

وثانيا: تدل على المقام العلمي الرفيع الذي بلغته السيدة فاطمة المعصومةعليها‌السلام ، بل كما قال الشيخ مهدي پور إنه دليل على أنها عالمة غير معلمة، هذا مع التوجه إلى أنها كانت صغيرة السن آنذاك(١) .

ولئن لم يحفظ لنا التاريخ خصوصيات ما تلقته من العلم على أيدي أبيها وأخيها إلا أنه أبقى بين طياته نزرا من الروايات التي حدثت بها هذه السيدة الجليلة.

ومما لا شك فيه أن علم الحديث من أجل العلوم وأشرفها، فهو العلم الجامع للتفسير والفقه والأخلاق والكلام وغيرها من سائر المعارف الدينية.

ويعود انتشار معارف الدين وبقائها إلى هذا العلم الجليل، وقد قام علماء الشيعة بمساندة أئمتهمعليهم‌السلام بتعاهد هذا العلم حفظا وتنقية وتبويبا حتى وضعوا الموسوعات الروائية، واشتهرت بينهم جملة من الكتب أصبحت فيما بعد مرجعا للشيعة يستقون منها معارفهم الدينية المختلفة، وعليها تدور رحى مباحثهم العلمية، كالكتب الأربعة

____________________

(١) كريمة أهل البيتعليهم‌السلام ص ٦٢ - ٦٤.

٧٧

وغيرها من الكتب الكثيرة.

كما تعاهد علماء الشيعة بالبحث والتحقيق أسناد تلك الأحاديث، ووضعوا الضوابط العلمية الرصينة والمقاييس الدقيقة لمعرفة أحوال الرواة وطبقاتهم ومدى إمكان الاعتماد على رواياتهم وعدمه وانبثق عن ذلك علم آخر اقترن بعلم الحديث وهو علم الرجال، فوضع علماء الشيعة معاجم الرجال لدراسة أحوالهم من حيث الوثاقة وعدمها، واشتهار هذا العلم باسم الرجال لا يعني اختصاصه بهم ولا نصيب فيه للنساء، وإنما كانت التسمية مراعاة للغالب على من تمرس في هذا العلم، وإلا فهناك من النساء اللائي بلغن مرتبة عالية في هذا العلم، ولم تغفل المعاجم التي تناولت أحوال الرواة عن ذكرهن والإشادة ببعضهن وبيان طبقتهن من حيث سلسلة السند، حتى أن الأجلاء من رواة الحديث قد رووا عن بعضهن، وفي طليعة أولئك النسوة فاطمة المعصومة بنت الإمام موسى بن جعفرعليهم‌السلام .

ولكن مما يثير الغرابة أن لا نجد ترجمة لهذه السيدة الجليلة والمحدثة العظيمة في المعاجم التي عنيت بضبط أسماء الرواة، ولذا ذكرها الشيخ النمازي في مستدركاته مشيرا إلى المواضع التي ذكرت فيه من كتاب البحار(١) فقط، مع أن أصحاب هذه المعاجم قد ذكروا نساءا أقل شهرة منها، وربما أقل حديثا، ولم ندر ما هو الوجه في

____________________

(١) مستدركات علم رجال الحديث ج ٨ ص ٥٩٣ - ٥٩٤.

٧٨

ذلك؟!!

وعلى أي حال فقد كانت هذه السيدة الجليلة من المحدثات، وورد ذكرها في أسانيد رواها العامة فضلا عن الخاصة، منها ما ورد في كتاب المسلسلات لأبي محمد جعفر بن أحمد بن علي القمي، قال: حدثنا محمد بن علي بن الحسين، قال: حدثني أحمد بن زياد، قال: حدثني أبو القاسم جعفر بن محمد العلوي العريضي، قال: قال أبو عبد الله أحمد بن محمد بن خليل، قال: أخبرني علي بن محمد بن جعفر الأهوازي، قال: حدثني بكير بن أحنف، قال: حدثتنا فاطمة بنت علي بن موسى الرضاعليه‌السلام ، قالت: حدثتني فاطمة، وزينب، وأم كلثوم بنات موسى بن جعفرعليه‌السلام ، قلن: حدثتنا فاطمة بنت جعفر بن محمدعليه‌السلام ، قالت: حدثتني فاطمة بنت محمد بن عليعليه‌السلام ، قالت: حدثتني فاطمة بنت علي بن الحسينعليه‌السلام ، قالت: حدثتني فاطمة وسكينة ابنتا الحسين بن عليعليه‌السلام ، عن أم كلثوم بنت عليعليه‌السلام ، عن فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قالت: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: لما أسري بي إلى السماء دخلت الجنة، فإذا أنا بقصر من درة بيضاء مجوفة، وعليها باب مكلل بالدر والياقوت، وعلى الباب ستر، فرفعت رأسي فإذا مكتوب على الباب: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي ولي القوم، وإذا مكتوب على الستر بخ بخ من مثل شيعة عليعليه‌السلام ، فدخلته، فإذا أنا بقصر من عقيق أحمر مجوف، وعليه باب من فضة مكلل بالزبرجد

٧٩

الأخضر، وإذا على الباب ستر فرفعت رأسي فإذا مكتوب على الباب:

محمد رسول الله، علي وصي المصطفى، وإذا على الستر مكتوب: بشر شيعة علي بطيب المولد، فدخلته، فإذا أنا بقصر من زمرد أخضر مجوف لم أر أحسن منه، وعليه باب من ياقوتة حمراء مكللة باللؤلؤ، وعلى الباب ستر فرفعت رأسي فإذا مكتوب على الستر: شيعة علي هم الفائزون، فقلت: حبيبي جبرئيل لمن هذا؟ فقال: يا محمد لابن عمك ووصيك علي بن أبي طالبعليه‌السلام يحشر الناس كلهم يوم القيامة حفاة عراة إلا شيعة عليعليه‌السلام ، ويدعى الناس بأسماء أمهاتهم إلا شيعة عليعليه‌السلام ، فإنهم يدعون بأسماء آبائهم، فقلت: حبيبي جبرئيل وكيف ذاك؟ قال: لأنهم أحبوا عليا فطاب مولدهم(١) .

ومنها: ما رواه محمد الجزري في أسنى المطالب بإسناده عن علي ابن محمد بن جعفر الأهوازي، مولى الرشيد، عن بكر بن أحمد القصري، عن الفواطم، عن فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالت: أنسيتم قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم غدير خم: من كنت مولاه فعلي مولاه؟

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنت مني بمنزلة هارون من موسىعليهما‌السلام ؟(٢) .

وقد عرف هذا النحو من الإسناد بالمسلسل، وهو فن من فنون الضبط وضرب من ضروب المحافظة، وفيه فضل للحديث من حيث

____________________

(١) كتاب المسلسلات ص ٢٥٠ - ٢٥١.

(٢) كتاب المسلسلات ص ٢٧٢ - ٢٧٣.

٨٠

الاشتمال على مزيد ضبط الرواة(1) .

وعرفه المحقق الداماد بأنه هو ما تتابع فيه رجال الإسناد عند روايته على قول كسمعت فلانا يقول: سمعت فلانا... أو أخبرنا فلان والله، قال: أخبرنا فلان والله، إلى آخر الإسناد(2) .

وذكر أكثر من خمسة عشر نحوا من أنحاء تتابع الرواة عند رواية الحديث.

على أن هذين السندين عن فاطمةعليها‌السلام مسلسلان من وجه آخر وهو أن كل واحدة من الفواطم تروي عن عمة لها، فهو رواية خمس بنات أخ، كل واحدة منهن عن عمتها.

هذا وهناك روايات أخرى كانت السيدة فاطمة المعصومةعليها‌السلام في أسنادها وبعضها مسلسلة على النحو المتقدم.

وخلاصة القول أن هذه السيدة الجليلة نالت قسطا وافرا من العلم والمعرفة، قد تلقته من معدنه الصافي، وأخذته من منبعه العذب، حتى غدت ذات شأن ومقام وإن لم يصلنا منه إلا النزر اليسير.

المكانة الاجتماعية والشأن الرفيع:

لما كان أهل البيتعليهم‌السلام يمثلون الفطرة السليمة في أنقى حالاتها، والفضيلة في أجلى معانيها، وقد اجتمعت فيهم الكمالات البشرية

____________________

(1) أصول علم الرجال بين النظرية والتطبيق ص 353.

(2) الرواشح السماوية - الراشحة السابعة والثلاثون - ص 157 - 161.

٨١

المختلفة، وأحاطتهم العناية الإلهية في جميع أحوالهم وشؤونهم، وتقرر أن الإنسان بطبعه عاشق للكمال والفضيلة، فمن الطبيعي جدا أن تهفو القلوب نحوهم، وتميل النفوس إليهم، من دون سائر البشر.

وقد ورد في الروايات أن ذلك دعوة إبراهيمعليه‌السلام ، فقد جاء في تفسير قوله تعالى:( فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ) (1) أن المراد هم أهل البيتعليهم‌السلام قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : والأفئدة من الناس تهوي إلينا، وذلك دعوة إبراهيمعليه‌السلام (2) .

وقال الإمام الباقرعليه‌السلام : فنحن والله دعوة إبراهيمعليه‌السلام التي من هوانا قلبه قبلت حجته، وإلا فلا(3) .

نعم قد تتلوث بعض النفوس ويتكدر صفاؤها نتيجة لعوامل متعددة فتضل الطريق، ولكن تبقى في أعماقها ميالة إليهم راغبة فيهم، وإن كانت في ظاهر الأمر ضدهم، وهذا ما قد كشف عنه الفرزدق الشاعر المشهور، حين لقيه الحسينعليه‌السلام وهو في طريقه إلى كربلاء، وسأله عن الناس خلفه، فقال له: قلوب الناس معك وأسيافهم عليك(4)

وأما أولئك الذين انحرفت ذواتهم وخبثت أصولهم فهم في طريق آخر، ولذلك وردت عدة روايات تؤكد هذه الحقيقة، منها: ما روي عن

____________________

(1) سورة إبراهيم الآية 37.

(2) تفسير نور الثقلين ج 2 ص 551.

(3) الروضة من الكافي - الحديث 485 ص 311 - 312.

(4) الإرشاد ج 2 ص 67.

٨٢

النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال: من فارق عليا فقد فارقني، ومن فارقني فقد فارق الله عز وجل(1) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا علي لولاك لما عرف المؤمنون بعدي(2) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يخاطب عليا -: ما سلكت طريقا ولا فجا إلا سلك الشيطان غير طريقك وفجك(3) .

وجاء في التفسير عن أبي جعفرعليه‌السلام أنه قال: إن أبانا إبراهيم صلوات الله عليه كان فيما اشترط على ربه أن قال:( فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ) (4) أما إنه لم يعن الناس كلهم، أنتم أولئك ونظراؤكم، وإنما مثلكم في الناس مثل الشعرة البيضاء في الثور الأسود، أو مثل الشعرة السوداء في الثور الأبيض(5) .

وغيرها من الشواهد الكثيرة. وقد تقدم في الحديث المروي عن السيدة فاطمةعليها‌السلام أن حب عليعليه‌السلام عنوان طيب الولادة.

والحقيقة الثابتة أن أهل البيتعليهم‌السلام حيث جمعوا الفضائل والمناقب والكمالات كانت لهم السيادة على النفوس. والمحبة في القلوب، واحتلوا موقع الصدارة بين الناس من دون فرق بين رجالهم ونسائهم، فكان رجالهم خير الرجال، ونساؤهم خير النساء، وعلى هذا فلا شك أن تكون للسيدة فاطمة المعصومةعليها‌السلام منزلتها الخاصة، ومكانتها

____________________

(1) بحار الأنوار ج 40 ص 26.

(2) بحار الأنوار ج 40 ص 26.

(3) بحار الأنوار ج 40 ص 27.

(4) سورة إبراهيم الآية 37.

(5) تفسير نور الثقلين ج 2 ص 551.

٨٣

العالية، ولذا كان لها عند الله شأن من الشأن فضلا عن شأنها عند الناس.

وقد كان لهاعليها‌السلام بأخيها الإمام الرضاعليه‌السلام صلة خاصة قل نظيرها كما كشفت عنها الروايات والأحداث وسيأتي منها ما يدل على ذلك.

وإن من أهم أسباب بلوغها هذا المقام الشامخ علمها ومعرفتها بمقام الإمامة والإمام، وقد كان إمام زمانها شقيقها الإمام الرضاعليه‌السلام ، الذي تولى تربيتها فعلى يديه نشأت، وعنه أخذت، وتحت إشرافه ونظره ترعرعت، وبأخلاقه وآدابه سمت وتكاملت.

ولذا تميزت الصلة بينهما بحيث أصبحت تعرف نفسها بأنها أخت الرضاعليه‌السلام كما سيأتي.

وهما وإن كانا ينحدران من أب واحد وأم واحدة وذلك أحد أسباب شدة الصلة بينهما إلا أن السبب الأقوى والأتم هو علمها بمقام أخيها وإمامته، إذ أن الرابطة النسبية تصبح - حينئذ - عاملا ثانويا بالقياس إلى العلم والمعرفة.

هذا، وقد نوه الأئمةعليهم‌السلام بمكانتها ومنزلتها قبل ولادتها، وبعد أن ولدت وتوفيت.

روي عن عدة من أهل الري أنهم دخلوا على أبي عبد اللهعليه‌السلام ، وقالوا: نحن من أهل الري، فقالعليه‌السلام : مرحبا بإخواننا من أهل قم، فقالوا: نحن من أهل الري، فأعاد الكلام، قالوا ذلك مرارا وأجابهم بمثل ما أجاب به أولا، فقالعليه‌السلام : إن لله حرما وهو مكة، وإن لرسول الله حرما وهو المدينة، وإن لأمير المؤمنين حرما وهو الكوفة، وإن لنا حرما وهو

٨٤

بلدة قم، وستدفن فيها امرأة من أولادي تسمى فاطمة، فمن زارها وجبت له الجنة.

قال الراوي: وكان هذا الكلام منهعليه‌السلام قبل أن يولد الكاظم(1) .

وفي رواية أخرى عن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام : ألا إن لله حرما وهو مكة، ألا إن لرسول الله حرما وهو المدينة، ألا إن لأمير المؤمنين حرما وهو الكوفة، ألا إن حرمي وحرم ولدي بعدي قم، إلا إن قم الكوفة الصغيرة، ألا إن للجنة ثمانية أبواب، ثلاثة منها إلى قم، تقبض فيها امرأة من ولدي، واسمها فاطمة بنت موسى، تدخل بشفاعتها شيعتنا الجنة بأجمعهم(2) .

وفي رواية أن الإمام الرضاعليه‌السلام قال لسعد الأشعري القمي: يا سعد عندكم لنا قبر، قلت له: جعلت فداك قبر فاطمة بنت موسىعليه‌السلام ، قال:

نعم، من زارها عارفا بحقها فله الجنة(3) .

وروى الصدوق في العيون بسنده عن سعد بن سعد قال: سألت أبا الحسن الرضاعليه‌السلام عن زيارة فاطمة بنت موسى بن جعفرعليهم‌السلام ، فقال:

من زارها فله الجنة(4) .

وروى ابن قولويه في كامل الزيارات بسنده عن الإمام الجوادعليه‌السلام

____________________

(1) تاريخ قم (فارسي) ص 215 وبحار الأنوار ج 60 ص 216 - 217.

(2) بحار الأنوار ج 60 ص 228.

(3) بحار الأنوار ج 102 ص 265.

(4) عيون أخبار الرضا ج 2 ص 267.

٨٥

أنه قال: من زار قبر عمتي بقم فله الجنة(1) .

وغيرها من الروايات حتى قال المحدث القمي: والروايات بهذا المضمون كثيرة(2) .

وسيأتي الحديث عن زيارتها، وإنما ذكرنا هذه الروايات في المقام لبيان ما لها من منزلة عند الأئمةعليهم‌السلام حيث أشاد ثلاثة من المعصومينعليهم‌السلام بذلك.

لماذا لم تتزوج السيدة المعصومة؟

ثم إن هناك أمرا لا بد من البحث حوله وله صلة وثيقة بما نحن فيه، إذ له مدخلية في مكانتها الاجتماعية، ومنزلتها بين الناس، ذلكم هو عدم زواج السيدة فاطمة المعصومةعليها‌السلام .

والمستفاد من جملة الروايات أن بنات الإمام الكاظمعليه‌السلام وعددهن إحدى وعشرون بنتا لم تتزوج منهن واحدة.

ونقل المحدث القمي عن تاريخ قم ما حاصله: أن هذا كان سائرا في بنات الرضائية(3) .

وهذا أمر مثير للتساؤل، ولا سيما مع ملاحظة ما ورد عن أهل

____________________

(1) كامل الزيارات باب 106 فضل زيارة فاطمة بنت موسى بن جعفرعليهم‌السلام بقم الحديث 2 ص 536.

(2) منتهى الآمال ج 2 ص 380.

(3) منتهى الآمال ج 2 ص 380 - 381.

٨٦

البيتعليهم‌السلام من الحث على التناكح والترغيب فيه، وأن به إكمال ثلث الدين أو نصفه أو ثلثيه، فيا ترى ما هي الأسباب المانعة عن هذا الأمر في حق بنات الإمام الكاظمعليه‌السلام ؟

وينبغي أن نؤكد قبل كل شئ على أن عدم اقتران واحدة من بنات الإمام الكاظمعليه‌السلام بزوج - ولا سيما السيدة فاطمة المعصومةعليها‌السلام - لم يكن عن عيب مانع في الخلق أو الخلق، وقد مر علينا أنها كانت جليلة القدر ذات شأن عظيم، ومنزلة كبيرة، على أن هذا الأمر لم تنفرد به وحدها من دون سائر أخواتها، فلا بد أن يكون المانع أمرا آخر، وهذا ما نسعى للبحث حوله بمقدار ما يسعفنا به ما ورد حول هذه القضية من الروايات.

ومن الضروري أن نلتفت قبل ذلك إلى أن هذا الأمر يعد من الشؤون الخاصة التي هي أشبه شئ بالأسرار العائلية والأسرية كغيرها من الخصوصيات التي لا تكون معرضا عاما لعامة الناس لإبداء أنظارهم وآرائهم فيها، وإنما ساغ للباحث أن يتناول بعض الشؤون بالدراسة والتحليل لأن أهل البيتعليهم‌السلام يمثلون القدوة الصالحة التي ترشد الإنسان إلى طريق الحق والهداية، وقد صدرت الأوامر الإلهية والنبوية بالاقتداء بهم، والسير على خطاهم، واقتفاء آثارهم، فإنهم لا يخرجون الناس من باب هدى ولا يدخلونهم في باب ضلالة.

ولعل السبب في قلة الروايات الواردة في هذا الشأن خصوصية هذه القضية، وأنها لا تعني سائر الناس وكونها من شؤونهمعليهم‌السلام الخاصة

٨٧

بهم دون سواهم، كما لعله أيضا لعدم اهتمام المؤرخين بهذه الناحية، كما أشرنا إلى ذلك فيما تقدم.

ولكن لما كان في هذه القضية معصوم فلا بد أن يكون الفعل معصوما موافقا لمقتضى الحكمة، وعلى طبق الموازين الإلهية سواء حالفنا التوفيق فأدركنا السبب أو أخفقنا فلم ندركه.

ثم إنه بدراسة الواقع الاجتماعي والسياسي والظروف المحيطة بأهل البيتعليهم‌السلام آنذاك قد نتمكن من إعطاء صورة تقريبية عن الأسباب الكامنة وراء هذه القضية فنقول:

أولاً: إن نظرة سريعة إلى تاريخ حياة الإمام الكاظمعليه‌السلام تدل على أن تلك الفترة كانت تتسم بالتوتر والتوجس والرهبة والخوف، فبرغم ما عاناه الإمام الصادقعليه‌السلام من حكام بني العباس وقد فرضوا عليه الحصار وتشددوا في عزله عن شيعته، وحاولوا بشتى الوسائل اصطناع شخصيات علمية مناوئة، للحيلولة دون انتشار فكر أهل البيتعليهم‌السلام ، وبرغم حملات الإبادة التي تعرض لها العلويون من قتل وسجن وتشريد. وهم - العباسيون - وإن نجحوا إلى حد ما في تفتيت البنية الظاهرية لمذهب أهل البيتعليهم‌السلام وألجئ الأئمةعليهم‌السلام إلى التقية في كثير من أحوالهم وشؤونهم على ما هو مذكور في كتب الفقه إلا أن فكر أهل البيتعليهم‌السلام بقي حيا زاخرا بالعطاء، الأمر الذي يدل دلالة قاطعة على أن العناية الإلهية تحوطه وترعاه، ويأبى الله إلا أن يتم نوره. فقد

٨٨

كان الإمام الصادقعليه‌السلام على تمام الحيطة والحذر، يحبط كثيرا من مخططاتهم بأساليبه الحكيمة، حتى إذا استشهد الإمام الصادقعليه‌السلام وقع الاضطراب الشديد في صفوف الشيعة، وقد ذكرنا في مطلع هذا البحث شيئا من ذلك، ومما زاد الأوضاع وخامة ظهور الدعاوى الكاذبة التي ساعدت على زيادة ضغط السلطة على كل من ينتمي لأهل البيتعليهم‌السلام في الفكر والعقيدة. وكادت معالم التشيع أن تنطمس لولا ظهور الإمام الكاظمعليه‌السلام في الوقت المناسب مع حراجة الظروف وخطورتها.

فكانت الفترة التي عاشها الإمام الكاظمعليه‌السلام من أشد الفترات صعوبة، ولا سيما في عهد الرشيد العباسي الذي كان على معرفة بأن الإمام الكاظمعليه‌السلام هو صاحب الحق الشرعي، وأن الشيعة لا ترضى بغيره بدلا.

وإن أشد ما يقض مضجع الحاكم ويؤرق حياته أن يرى أحدا ينافسه على السلطان، فهو إذ ذاك لا يقر له قرار، ولا يهنأ له عيش، ولا يشعر بالأمان حتى يفتك بخصمه أيا كان.

ولم يدر هؤلاء الحكام أن سلطان أهل البيتعليهم‌السلام إنما هو على القلوب والأرواح، فما عهد عن أحد من أئمة أهل البيتعليهم‌السلام أنه سعى للسلطة وتولي الحكم أو حمل سلاحا أو نظم جيشا ليقلب نظاما على صاحبه أيا كان، حتى أن أمير المؤمنينعليه‌السلام مع أنه كان الإمام والحاكم

٨٩

وقد نصبه النبي خليفة على الأمة لم يطمع في الولاية يوم استأثر بها القوم، وحملوه على قبول ولايتهم قسرا، واعتزلهم وما يفعلون، ولما قتل عثمان جاؤوا يسعون إليه وبايعوه عن طواعية واختيار، وسعى أمير المؤمنينعليه‌السلام أن يسوسهم بالعدل والحكمة، ويسير فيهم بسيرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويحملهم على المحجة البيضاء، فلم يرق لهم ذلك، فنقضوا بيعته، وحاربوه، وكان أول من نقض البيعة وأول من حاربه هو أول من بايعه ونادى بخلافته.

إن أولئك الحكام يحسبون أئمة أهل البيتعليهم‌السلام كأنفسهم، حيث يجد الحكام أنفسهم ذوي أطماع في الحكم والسلطان، وإن أشادوا حكمهم على أشلاء الضحايا وبنوا قصورهم على أجساد الأبرياء، وسقوا أساس ملكهم بدماء المظلومين.

وعلى أي حال فقد كان عصر الإمام الكاظمعليه‌السلام عصر خوف واضطراب، وقد أحكمت السلطة قبضتها على زمام الأمر فأخمدت الأنفاس، وكتمت الأصوات، وسفكت الدماء، وضاقت السجون وتفرق الرجال.

ولم يكن الذي يجري إلا على أهل البيت وشيعتهم وفي طليعة أهل البيتعليهم‌السلام الإمام موسى بن جعفرعليهما‌السلام .

ولك أن تتصور حالات الذعر والفزع والاضطراب التي مني بها أهل البيتعليهم‌السلام وشيعتهم، رجالا ونساء وعلى مختلف الأصعدة.

٩٠

ونحن إذ نستفظع ما نقرأ، ونرتاع لما نتلوا من صحف صبغها المجرمون بدماء المظلومين، فما ظنك بمن قاسى أهوال المآسي وفوادح الخطوب.

والناس آنذاك إزاء ما يجري على أهل البيتعليهم‌السلام بين من أصبح آلة في أيدي الظالمين يحققون به أغراضهم، ويتوصلون به إلى أهدافهم، ويحقق بهم مطامعه، وبين من أرعبه الخوف والهلع، فانطوى على نفسه، وتوارى وراء التقية خوفا على نفسه وعرضه وماله، وبين من لا يعنيه من الأمر شئ فلم يبال بما يجري من أحداث.

ثانياً: إن مما تقرر في مذهب أهل البيتعليهم‌السلام أن العصمة الخاصة - في هذه الأمة - منحصرة في النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والصديقة الزهراءعليها‌السلام والأئمة الاثني عشرعليهم‌السلام دون سواهم، وقد قامت الأدلة العقلية والنقلية على ذلك، مما هو مبثوث في الكتب الكلامية، وقد أحلنا القارئ العزيز على بعض المصادر فيما تقدم.

ولئن استفيد من بعض الأدلة أو القرائن عصمة بعض الأفراد من أهل البيتعليهم‌السلام كأبي الفضل العباس، وعلي الأكبر، والسيدة زينب بنت أمير المؤمنين، والسيدة فاطمة المعصومةعليهم‌السلام ، فليس المراد بعصمة هؤلاء هي تلك العصمة الخاصة اللازمة، وإنما المراد أنهم بلغوا مرتبة عالية من الكمال لم ينلها سائر الناس. على ما بيناه فيما سبق.

وعلى هذا فما عدا هؤلاء من سائر أفراد أهل البيتعليهم‌السلام ليسوا

٩١

بمعصومين بمعنى أنه لا يصدر عنهم خطأ أو اشتباه عن تعمد كان أو عن سهو، وإن نالوا شرف الأصل والنسبة، إذ ليس من البعيد أن يصدر من بعضهم ما لا يليق صدوره من مثلهم من الهفوات الأخطاء الكبيرة أو الصغيرة التي عانى منها الأئمةعليهم‌السلام في كثير من القضايا والأمور.

وقد عانى الإمام الكاظمعليه‌السلام من بعض إخوانه كما عانى آباؤه من بعض بني عمومته من قبل، وهكذا بقية الأئمةعليهم‌السلام على ما تكفلت ببيانه الروايات وكتب التراجم.

ولولا أن الأئمةعليهم‌السلام كانوا يعالجون هذه القضايا بالحكمة، ورحابة الصدر، وبعد النظر، والصبر والتحمل لكان للصورة وجه آخر، وقد وعدنا بعدم الخوض في تفاصيل ذلك، ونكتفي بهذه الإشارة.

وهذا هو أحد الامتيازات والفوارق بين المعصوم وغيره، وإن كان هذا الغير - ينحدر في نسبه - من أهل البيتعليهم‌السلام .

وثالثاً: إن حكومة بني العباس في نظر الأئمةعليهم‌السلام لم تكن حكومة شرعية، ولم تحظ بالتأييد والمساندة منهمعليهم‌السلام ، بل كانوا يظهرون لبعض خواصهم ممن له علاقة بالسلطة الحاكمة عدم مشروعية العمل للحكام والتحذير من الدخول في ولاياتهم، أو السعي في قضاء حوائجهم، وإن كان العمل بحسب الظاهر في نفسه بعيدا عن جرائمهم ومخازيهم، ويرى الإمامعليه‌السلام أن إسداء أي خدمة لهم مهما كانت، مشاركة لهم في الجريمة، كما يكشف عن ذلك الحوار الذي جرى بين

٩٢

الإمام الكاظمعليه‌السلام وبين صفوان بن مهران الجمال، الذي روى ما جرى فقال: دخلت على أبي الحسن الأولعليه‌السلام ، فقال لي: يا صفوان كل شئ منك حسن جميل ما خلا شيئا واحدا، قلت: جعلت فداك أي شئ؟!

قال: إكراؤك جمالك من هذا الرجل - يعني هارون - قلت: والله ما أكريته أشرا، ولا بطرا، ولا للصيد، ولا للهو، ولكني أكريته لهذا الطريق - يعني طريق مكة - ولا أتولاه، ولكن أبعث معه غلماني، فقال لي: يا صفوان أيقع كراك عليهم؟ قلت: نعم جعلت فداك، فقال لي: أتحب بقاءهم حتى يخرج كراك؟ قلت: نعم، قال: فمن أحب بقاءهم فهو منهم، ومن كان منهم ورد النار، فقال صفوان: فذهبت وبعت جمالي عن آخرها، فبلغ ذلك إلى هارون، فدعاني، وقال: يا صفوان بلغني أنك بعت جمالك، قلت: نعم، فقال: لم؟ قلت: أنا شيخ كبير، وإن الغلمان لا يفون بالأعمال، فقال: هيهات، إني لأعلم من أشار عليك بهذا، أشار عليك بهذا موسى بن جعفر، قلت: مالي ولموسى بن جعفر، فقال: دع هذا عنك، فوا الله لولا حسن صحبتك لقتلتك(1) .

إن هذا الموقف الصارم وأمثاله من الإمامعليه‌السلام لا يدع مجالا للحاكم أن يشعر بالاستقرار، إذ يرى أن الخطر يتهدد سلطانه، ويزعزع أركان وجوده، وينذره بالزوال.

وهذه السلبية التي أنتهجها الإمامعليه‌السلام إزاء حكومة هارون الرشيد

____________________

(1) معجم رجال الحديث ج 10 ص 133.

٩٣

أظهرت كثيرا من الحقائق الخفية على الناس، وجعلت الحاكم يزداد في تماديه وضلاله، فيرتكب من الجرائم ما هو أبشع، ومن المنكرات ما هو أفظع، ويظهر حقيقته التي كان يسترها وراء بعض المظاهر الدينية التي قد ينخدع بها بعض من قصرت بصيرته عن إدراك الحقيقة، فقد ظن صفوان أن عمله مشروع، لأنه يكري جماله في طريق الحج، وهو أمر منفصل لا علاقة له بما يمارسه هارون الرشيد من اللهو واللعب والمحرمات، ولكن الإمامعليه‌السلام أوقفه على الحقيقة، وبين له أن البصير ينبغي أن لا ينخدع بمظهر زائف، وأن لا يكون مطية يحقق بها الظالم أغراضه.

وقد تنبه لذلك فاتخذ إجراءا حاسما، فباع جماله وتخلى عن مهنته، وأدرك هارون الرشيد السر وراء ذلك، ولولا شفاعة حسن صحبة صفوان لكان في عداد الضحايا.

ولا شك أن هذه الحادثة وأمثالها تركت هارون الرشيد يتميز من الغيظ، ويبحث عن أساليب أخرى يكيد بها الإمامعليه‌السلام .

وأما إذنهعليه‌السلام لعلي بن يقطين في تولي منصب الوزارة لهارون الرشيد ورغبتهعليه‌السلام في بقائه في الوزارة فليس ذلك نقضا لهذا الموقف، وذلك لأن الوزارة منصب عام يرتبط بعامة الناس، وله صلاحيات واسعة يستطيع علي بن يقطين من خلالها أن يؤدي خدمات كبيرة للشيعة على مختلف طبقاتهم ودفع الأخطار عنهم، ومع أن هذا

٩٤

المنصب حساس جدا وقد استأذن ابن يقطين الإمامعليه‌السلام في الاستعفاء من هذا المنصب، إلا أن الإمامعليه‌السلام رغب في بقائه لحماية الشيعة(1) ، وتكفل له بالرعاية والتسديد في مواطن الخطر. وقد أنقذه الإمامعليه‌السلام في مواضع كثيرة كاد أن يتورط فيها علي بن يقطين، على أنه كان من الجلالة والاستقامة والمعرفة بالحق ما يؤمن منه الانحراف أو تلتبس عليه الأمور.

وأما صفوان بن مهران فلم يكن عمله بهذه المثابة، بل كان خدمة خالصة لهارون الرشيد والجهاز الحاكم، وليس فيها إلا التأييد والمساندة لحكومة بني العباس، من دون أن يكون فيها نفع يذكر لغيرهم، ولذلك لم يمنعه الإمامعليه‌السلام من التخلي عن هذا العمل في حين أمر ابن يقطين بالبقاء، فلا تنافي بين الأمرين.

رابعاً: إن من أهم الركائز التي اعتمدت عليها سياسة الحكام منذ اليوم الذي استولوا فيه على مقام الزعامة واغتصبوا فيه منصب الخلافة، هو السعي لإبقاء أصحاب الحق الشرعي في عوز وفاقة، كسرا لشوكتهم وتقليصا لشأنهم، وحدا من قدراتهم وإمكانياتهم، وإظهارهم للناس بأنهم ليسوا ممن يطمع فيهم، أو يرغب في صحبتهم أو حملهم على الاستجداء والخنوع.

ومن المعلوم أن الناس أبناء الدنيا وعبيد الدرهم والدينار، إلا ما قل

____________________

(1) معجم رجال الحديث ج 13 ص 242 - 252.

٩٥

وندر، وكان ذلك أحد العوامل التي ساهمت في انحسار أغلب الناس وتخليهم عنهم بل والتنكر لهمعليهم‌السلام .

وقد اتخذ الحكام عدة إجراءات للحيلولة دون تمكن أهل البيتعليهم‌السلام من الإنفاق بما يتناسب مع شأنهم فصادروا فدكا(1) من أصحابها ومنعوهم الحق الشرعي الذي افترضه الله على عباده بنص القرآن وهو الخمس، ومنعوهم عطاءاتهم، واستولوا على بعض ممتلكاتهم، واستمرت هذه السياسة جارية في بني أمية وبني العباس، حتى بلغ الأمر أنه إذا ما تناهى إلى أسماعهم أن أحدا أعطى خمسه للإمامعليه‌السلام فإنهم ينكلون به أشد التنكيل، وكانت الرصد والعيون التي جندها الحكام على الأئمةعليهم‌السلام ترقب عليهم كل تصرف.

وكان قسم كبير من تلك الأموال التي استولى عليها الظالمون غصبا وعدوانا يبذل لأولئك الذين يتزلفون للحكام من الشعراء الذين اتخذوا من هجاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعترته ذريعة لنيل الأموال والحصول عليها، كأبان بن عبد الحميد، ومروان بن أبي حفصة، وأضرابهما ممن طبع على قلوبهم وباع دينه بدنياه(2) .

وأما القسم الآخر - من الأموال - فكان يبذل على الفسوق والفجور، والفساد، مما حفلت بذكره كتب التاريخ(3) .

____________________

(1) بحار الأنوار ج 29 ص 183 - 213.

(2) حياة الإمام موسى بن جعفرعليهما‌السلام ج 2 ص 75 - 81.

(3) حياة الإمام موسى بن جعفرعليهما‌السلام ج 2 ص 26 - 54.

٩٦

وبقيت الأمة ولا سيما أهل البيتعليهم‌السلام يرزحون تحت وطأة القهر والحرمان.

وقد اعترف هارون الرشيد بذلك، كما جاء في حواره مع ولده المأمون لما اعترض على أبيه لقلة ما أعطى الإمام موسى بن جعفرعليهما‌السلام في حين أنه ضمن له أن يعطيه الكثير.

قال المأمون: يا أمير المؤمنين تعطي أبناء المهاجرين والأنصار وسائر قريش وبني هاشم، ومن لا يعرف نسبه خمسة آلاف دينار وتعطي موسى بن جعفر وقد أعظمته وأجللته مائتي دينار أخس عطية أعطيتها أحدا من الناس، فثار هارون وصاح في وجهه قائلا: اسكت لا أم لك، فإني لو أعطيت هذا ما ضمنته له ما كنت آمنه أن يضرب وجهي بمائة ألف سيف من شيعته ومواليه، وفقر هذا وأهل بيته أسلم لي ولكم من بسط أيديهم وأعينهم...(1) .

وخامساً: إنه برغم ما كان يمارسه حكام بني العباس من سياسة البطش والقهر، والحرمان والإبادة والتشريد، إلا أن الأئمةعليهم‌السلام ما كانوا ليتنازلون عن منصب الإمامة والولاية، فإنها حق إلهي لهم من دون سائر الناس بل كانوا يقفون مواقف التحدي للحكام ويمارسون دورهم في حدود ما تسمح به الظروف المحيطة بهم وبشيعتهم، وكان الإمام السابق ينص على إمامة اللاحق في جمع من خواص الشيعة،

____________________

(1) عيون أخبار الرضا ج 1 ص 92.

٩٧

ويؤكدون على ذلك بين حين وآخر، ويبينون لشيعتهم الأحكام والمعارف وإن كانت على خلاف ما عليه الحكام وأذنابهم.

وبعبارة أخرى: كان الأئمةعليهم‌السلام وشيعتهم في معزل عن السلطة في الفكر والعقيدة والسلوك على نحو الاستقلال التام، مع علمهم بأن الحكام لهم ولشيعتهم بالمرصاد.

ونستفيد ذلك من المواقف الصريحة التي يواجه الإمامعليه‌السلام بها رأس السلطة الحاكمة.

فقد ذكر الرواة أن هارون سأل الإمامعليه‌السلام عن فدك ليرجعها إليه، فأبى الإمامعليه‌السلام أن يأخذها إلا بحدودها، فقال الرشيد: ما حدودها؟

فقالعليه‌السلام : إن حددتها لم تردها. فأصر هارون عليه أن يبينها له قائلا:

بحق جدك إلا فعلت. ولم يجد الإمام بدا من إجابته فقال له: أما الحد الأول فعدن، فلما سمع الرشيد ذلك تغير وجهه، واستمر الإمامعليه‌السلام في بيانه قائلا: والحد الثاني سمرقند، والحد الثالث إفريقيا، والحد الرابع سيف البحر مما يلي الجزر وأرمينية، فثار الرشيد وقال: لم يبق لنا شئ، فقالعليه‌السلام : قد علمت أنك لا تردها(1) .

وفي هذا الحوار موقف الإمام الصريح وبيان أحقيته بالخلافة، ومن الطبيعي أن يترك ذلك الحوار أثرا في نفس هارون حيث يرى نفسه غاصبا ليس له من الأمر شئ.

____________________

(1) بحار الأنوار ج 48 ص 144.

٩٨

ونظير هذا الموقف موقف آخر للإمامعليه‌السلام مع هارون لما أرادعليه‌السلام أن يبين شدة صلته وقربه من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد سأله هارون: لم قلت: إنك أقرب إلى رسول الله منا؟ فقالعليه‌السلام : لو بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيا، وخطب منك كريمتك هل كنت تجيبه إلى ذلك؟ فقال هارون:

سبحان الله! وكنت أفتخر بذلك على العرب والعجم.

فقالعليه‌السلام : لكنه لا يخطب مني ولا أزوجه لأنه والدنا لا والدكم، فلذلك نحن أقرب إليه منكم، ثم قالعليه‌السلام : هل كان يجوز له أن يدخل على حرمك وهن مكشفات فقال هارون: لا، فقال الإمام: لكن له أن يدخل على حرمي، ويجوز له ذلك، فلذلك نحن أقرب إليه منكم(1) .

وقد اعترف هارون بأحقية الإمامعليه‌السلام حين أخذته هيبة الإمامعليه‌السلام ولم ير بدا من إظهار احترامه وإجلاله، الأمر الذي أثار ابنه المأمون فدفعه للسؤال قائلا: يا أمير المؤمنين من هذا الرجل الذي عظمته، وقمت من مجلسك إليه، فاستقبلته، وأقعدته في صدر المجلس، وجلست دونه، ثم أمرتنا بأخذ الركاب له؟ فقال هارون: هذا إمام الناس وحجة الله على خلقه، وخليفته على عباده، قال المأمون: يا أمير المؤمنين أو ليست هذه الصفات كلها لك وفيك؟ فقال: أنا إمام الجماعة في الظاهر بالغلبة والقهر، وموسى بن جعفر إمام حق، والله يا بني إنه لأحق بمقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مني ومن الخلق جميعا، ووالله لو

____________________

(1) حياة الإمام موسى بن جعفرعليهما‌السلام ج 2 ص 457.

٩٩

نازعتني هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك، فإن الملك عقيم(1) .

وهكذا كان الأئمةعليهم‌السلام مع الحكام في كل عصر من عصورهم، فلم يكن أحد من الأئمةعليهم‌السلام ليتخلى عن منصب الإمامة مهما كانت الظروف، ولئن لم يتمكن الأئمةعليهم‌السلام من ممارسة أدوارهم في الظاهر إلا أنهم قاموا بوظيفتهم في الواقع، وإذا كان ثمة تقصير فهو من الناس حيث ضلوا الطريق فتاهوا، لا من الأئمةعليهم‌السلام ، وقد فاز بذلك شيعة أهل البيتعليهم‌السلام فساروا في ركاب أئمتهم، وركبوا في سفينتهم والعاقبة للمتقين.

ولا شك أن هذا الموقف الصارم من الأئمةعليهم‌السلام في مسألة الإمامة يجعل ردة الفعل من قبل الحكام عنيفة جدا، بحيث تصبح حياة الأئمةعليهم‌السلام وشيعتهم مهددة بالأخطار ولا ينافي ذلك أمر التقية، لأنها إنما تسوغ في بعض المواطن وليس هذا منها.

وبعد هذا كله نقول: جاء في وصية الإمام الكاظمعليه‌السلام لابنه الإمام الرضاعليه‌السلام بما يتعلق بهذا الموضوع أنهعليه‌السلام قال: وإني قد أوصيت إلى علي وبني بعد معه، إن شاء وآنس منهم رشدا، وأحب أن يقرهم فذاك له، ولا أمر لهم معه... وإلى علي أمر نسائي دونهم... وإن أراد رجل منهم أن يزوج أخته فليس له أن يزوجها إلا بإذنه وأمره، فإنه أعرف بمناكح قومه،... وأمهات أولادي من أقامت منهن في منزلها وحجابها

____________________

(1) عيون أخبار الرضا ج 1 ص 91.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254