رحلتي من الظلمات إلى النّور

رحلتي من الظلمات إلى النّور12%

رحلتي من الظلمات إلى النّور مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 466

رحلتي من الظلمات إلى النّور
  • البداية
  • السابق
  • 466 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 240780 / تحميل: 8308
الحجم الحجم الحجم
رحلتي من الظلمات إلى النّور

رحلتي من الظلمات إلى النّور

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

أحد من المسلمين ما له من المقام الأرفع في التقوى والزهد والورع. اذن فكيف يتصور في حقه انه يعلم بأن رسول الله أخبر بأن أمواله لا تكون ارثا بل تكون للمسلمين وهو يريد ان يستلبها منهم غصبا بدعوى الإرث ومخالفة لحكم الله وبيان الرسول ويستمر مع ذلك على المطالبة سنين عديدة. ولو تنزلنا عن هذا لقلنا لا يخفى ان عليا والعباس لهما شرف ومروءة وسداد في الرأي والقول فكيف يطالبان بالإرث من رسول الله مدة سنين ويعتر فان مع ذلك بالعلم بقول الرسول لا نورث ما تركناه صدقة. وكيف يسجلان على أنفسهما بهذا الاعتراف انهما يستمران على الدعوى الباطلة ومحاولة غصب المسلمين حقهم وأكل مالهم بالباطل. وأي صاحب شعور حتى من السفلة يقدم على ذلك فيشوه سمعته ويدنس مستقبله وإن لم يكن له رادع من تقوى الله. دع هذا ولكن كيف يجعله عمر مع ذلك من رجال الشورى المرشحين للخلافة والائتمان على امور المسلمين. فما رواية الاعتراف من علي (ع) مع إصراره على المطالبة بالإرث إلّا فلتة ممن لا يعرف كيف يتكلم فيما يرويه «ولا يقال» ان عمر ناشد عثمان وعبد الرحمن والزبير وسعدا بمثل ما ناشد عليا والعباس فقالوا اللهم نعم «لأنا نقول» ان الراوي لهذه المناشدة وجوابها هو الراوي لمناشدته عليا والعباس وجوابهما وقد عرفت قيمة الرواية. وثانيا ان الرواية تذكر ان عمر سألهم عن علمهم بذلك لا عن سماعهم له من رسول الله فأجابوا بالعلم اعتمادا على رواية أبي بكر وعمله «ولا يقال» ان عائشة قد روت حديث لا نورث لنساء النبي (ص) «لأنا نقول» انها استندت على علمهن من رواية أبيها كما يدل عليه ما تقدم في انفراد أبي بكر في روايتها فلم يسعهن إلّا السكوت في الموقف الحرج «ولا يقال» ان أبا هريرة روى عن رسول الله كما في جوامع مسلم والترمذي وأبي داود لا يقتسم ورثتي دينارا ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة. وفي حديث آخر لا نورث ما تركناه صدقة «لأنا نقول» لا يخفى ان الرواية الأولى واردة في النقود وانه (ص) لا يدخر مما يملكه منها ما يبقى بعده بل ينفقها بسماحة النبوة ورأفتها وأبوته للأمة في سبيل الله والمحاويج. ولا يزاحم ذلك إلّا بالواجب الوقتي من نفقة نسائه ومؤنة عامله فهو (ص) على هذا المنوال وقتا بعد وقت فلا يبقى في خزائنه ما يكون معرضا لأن يتركه بعده إلّا ما كان من بيت المال والصدقات ان وسع المال ان يتربص به حاجة المسلمين في المستقبل. فالحديث اجنبي عن مثل الأراضي والعقار. واما الرواية الثانية فتكون بقرينة اتحاد الراوي جارية هذا المجرى ولا دلالة لها على اكثر من ذلك

٤١

- الأمر الثالث - ان رواية عائشة في تفرد أبي بكر بالرواية. وتداول نقلها بين العلماء والمصنفين وذكرها في الكتب كلها تشهد بأن الأصل في الرواية «انا معاشر الأنبياء لا نورث» وعلى ذلك جرى سطرها في الكتب. وعليه قال الرازي في تفسيره مذهب اكثر المجتهدين ان الأنبياء لا يورثون ثم ذكر انهم احتجوا بقول النبي (ص) نحن معاشر الأنبياء لا نورث. ويشهد لذلك ما في شمائل الترمذي من رواية أبي البختري ان عمر قال لطلحة والزبير وعبد الرحمن وسعد نشدتكم الله أسمعتم رسول الله يقول كل مال نبي صدقة إلّا ما أطعمه اهله إلّا لا نورث ونحوه في كتاب الخراج من سنن أبي داود. وما رواه أحمد في مسند أبي بكر من قوله لفاطمة سمعت رسول الله يقول ان النبي لا يورث. إذن فالرواية مخالفة لكتاب الله في قوله تعالى في سورة النمل ١٦( وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ ) وليس ارث العلم والنبوة لأن القرآن يدل على ان سليمان اوتي العلم والحكمة كداود في زمان داود كما في سورة الأنبياء ٧٧ و ٧٨ وفي قوله تعالى في سورة مريم في قول زكريا ودعائه ٤( إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ ) أي الأقارب الوارثين( مِنْ وَرائِي ) أي بعد موتي أي خاف من أن يكونوا هم الوارثين لماله. ومقتضى مقام النبوة انه خاف ذلك لأمر شرعي( وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً ) لم تلد لي ولدا يكون هو الوارث من بعدي دونهم( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ) من رحمتك وقدرتك ولدا( وَلِيًّا يَرِثُنِي ) ويكون له ما ابقيه من المال الذي خفت ان يرثه الموالي من ورائي. ولا يخفى ان مقام زكريا في النبوة يمنع من ان يقال انه خاف ان يرثه مواليه وأقاربه العلم والنبوة. وذلك لأن النبوة وعلمها أمر بيد الله في مقامها الخاص يجعلها لمن هو أهل لها ويمنعها عمن ليس بأهل ولا يخفى ذلك عمن هو دون زكريا إذن فلا يصح في المعقول ان يقال ان زكريا النبي خاف من ان يجعل الله النبوة وعلمها فيمن ليس بأهل لذلك. ولا انه خاف من ان يجعل الله النبوة وعلمها بحسب حكمته فيمن هو أهل لها. فلا بد من ان يكون الذي خافه هو إرث المال الذي يرثه البر والفاجر بحسب الشريعة. ومثل ذلك قوله تعالى عن زكريا في سورة الأنبياء ٨٨( رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً ) بلا ولد وارث كما يدل عليه قوله( وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ ٨٩ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى ) وان استجابة دعائه بالوارث تبطل ان يكون يحيى قتلوه في حياة أبيه زكريا حتى لو قلنا ان مراد زكريا ارث العلم والنبوة فان معنى ارث يحيى لهما من زكريا لا يستقيم في الكلام إلّا إذا وصلا ليحيى بعد موت زكريا. ودعوى الإجماع على قتل يحيى في حياة

٤٢

أبيه مجازفة تشهد دلالة القرآن ببطلانها - الأمر الرابع - في تدافع الحجّة المروية في أحاديث المسألة فإن الحديث الأول يذكر الاحتجاج أولا برواية انا لا نورث ما تركناه صدقة. وهذا كالصريح في دعوى ان أموال النبي (ص) التي هي ملكه في حياته يتصرف بها كيف يشاء تكون بعد وفاته صدقة مضافا إلى ان الاعتبار لا يساعد على ان يكون النبي محجورا عليه في أمواله وما أفاء الله عليه واضافه إليه وجعله له في نص القرآن فلا يكون كسائر المالكين يهب ويبيع ويعطي من اعيان أمواله على ما تقتضيه الحالة والمصلحة بل تكون صدقة لا يقدر ان يتصرف فيها إلّا على شيء من نمائها لنسائه فلا يساوي في أمواله التي جعلها الله له واحدا من المسلمين - لكن قول الحديث «إنما يأكل آل محمد من هذا المال يتضمن ان رسول الله (ص) كان محجورا عليه في املاكه بالنحو الذي ذكرناه وبمجرد ان يعطيه الله شيئا تكون أعيانه صدقة محجورا عليها. فالعبارتان في الحديث متدافعتان متنافيتان. ودع ما في العبارة الثانية ومؤدى حجرها على الرسول (ص). وعلى ذلك جرى قول الحديث «لا أغير شيئا من صدقة رسول الله عن حالها التي كانت عليها» إذ لو كان المدعى ان رسول الله (ص) جعلها صدقة بجعله لكان أمرا ثالثا تجب اقامة البينة الكافية عليه ولا يكفي في ذلك كون الرسول يتناول من نماء أمواله نفقة نسائه ويصرف الباقي في سبيل الله فإنه رسول الله وابو الأمة والإسلام معدن الرحمة والجود. «لا يقال» ان معنى المروي هو ان رسول الله (ص) جعل هذه الأموال صدقة في حياته وجرى في سيرته - لأنه يقال - لو كانت صدقة بجعل الرسول قبل وفاته بمدة سنين كما يروى من سيرته لكان ذلك من الأمور المشهورة ولما خفي على خواص أصحابه وعلى نسائه واهل بيته. ولما احتاج أبو بكر في رد فاطمة إلى رواية لا نورث ولا احتاجت عائشة في رد نساء النبي (ص) إلى هذه الرواية ولا احتاج لمناشدة عثمان والزبير وطلحة وسعد عن علمهم بها. مع ان الرواية اجنبية عن موضوع النزاع على هذا التقدير بل الذي يلزم هو اقامة الحجّة على وقوع التصدق منذ سنين والاستشهاد عليه. وفي رواية مسلم والبخاري في باب فرض الخمس «واما خيبر وفدك فأمسكهما عمر وقال هما صدقتا رسول الله كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه وأمرهما إلى من ولي الأمر» والكلام في هذه الفقرة كالكلام في سابقتها. وان كل مالك تكون أمواله لحقوقه التي تعروه ونوائبه. وتزيد هذه الفقرة بدعوى ان أمر فدك وخيبر إلى من ولي الأمر. فإن المقام مقام مطالبة بالحقوق على الموازين الشرعية والحجج لا مقام استفتاء يكتفي فيه بالفتيا المجردة والدعوى

٤٣

المحضة - ومما ذكرناه - يعرف التدافع في حديث مالك بن أوس في الجمع فيها بين الاحتجاج برواية لا نورث ما تركناه صدقة وبين الاحتجاج بأن رسول الله (ص) كان ينفق من مال بني النظير على اهله نفقة سنتهم ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله كما في روايات البخاري وفي رواية مسلم ثم يجعل ما بقي أسوة المال. ولا يخفى ان للناس في أموالهم شؤونا وهل يجب شرعا أو عقلا أو عادة ان تجرى أموال الشخص بعد موته على ما كانت تجرى عليه في حياته وان رسول الله (ص) في تفانيه في ذات الله والإسلام ورحمته بالمسلمين لو ملك اضعاف ما ملك لاقتصر على واجب النفقة وأنفق الباقي في سبيل الله وأما بعد وفاته فيرجع الأمر إلى شأن وارثه وليس لأحد ان يتحكم بفعل الموروث في النماء ما لم يثبت انه تصدق بالعين في حياته. ومما يزيد في الاضطراب والتدافع في ما يروى من الحجّة ما ذكرناه مما رواه أحمد في مسند أبي بكر عن عمر عن أبي بكر انه سمع رسول الله يقول النبي لا يورث وانّما ميراثه في فقراء المسلمين والمساكين. ويزيد ذلك بما ذكرناه في الحديث الثالث من قول أبي بكر سمعت رسول الله (ص) ان الله إذا اطعم نبيه طعمة فهي للذي يقوم من بعده. ويزيد في الاضطراب ما ذكرناه من شمائل الترمذي - الوجه الثالث - قد سمعت مما تقدم من جامعي البخاري ومسلم وتاريخ الطبري ان فاطمة طالبت أبا بكر بإرثها مما أفاء الله على رسوله بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر فردها أبو بكر برواية لا نورث ما تركناه صدقة وفي رواية مالك بن أوس ان عمر قال في فدك وخمس خيبر انهما صدقة رسول الله وأمسكهما. إذن فكيف بلغ الحال إلى ما رواه أبو داود في كتاب الخراج من سننه في فدك انه لما مضى أبو بكر وعمر اقطعها «بالبناء للمجهول» مروان بن الحكم وبقيت في ولده حتى ردها عمر بن عبد العزيز. وقد صرح جماعة كثيرون بما يفهم من الحديث من ان الذي أقطعها مروان هو عثمان في أيامه كما في السيرة الحلبية والمرقاة وغيرها. وما اكثر وجوه الاشكال في هذه المسألة ورواياتها وذلك في ذمة تاريخها - هذا ومن المعلوم عند أهل البيت والإمامية وعليه حديثهم ان فدكا كانت نحلة من رسول الله لفاطمة وكانت تحت يدها وعمل عاملها في حياة رسول الله (ص) ولما طرد عاملها ادعت النحلة وقدمت لأبي بكر شهودها فلم ينفعها ذلك أصلا. ونقل ابن أبي الحديد في شرح النهج عن قاضي القضاة قوله انا لسنا ننكر صحة ما روي من ادعائها فدكا وأما انها كانت في يدها فغير مسلم ونقل أيضا عن كتاب السقيفة لأحمد بن عبد العزيز الجوهري أحاديث جمة في ادعائها

٤٤

(ع) نحلة فدك وذكر في المواقف وشرحها في المقصد الرابع من مقاصد الإمامة انها ادعت النحلة وشهد لها علي والحسنان وأضاف في المواقف ام كلثوم وقال في شرحها الصحيح انها ام ايمن : وقال ابن حجر في الشبهة السابعة من الباب الخامس من الفصل الأول في صواعقه ودعواها ان رسول الله (ص) نحلها فدكا لم تأت عليها بشاهد إلّا بعلي وام أيمن ونحوه في معجم البلدان وفتوح البلدان للبلاذري. وقال الشهرستاني في الملل والنحل الخلاف السادس في أمر فدك والتوارث عن النبي (ص) ودعوى فاطمة تملكا تارة ووراثة اخرى حتى دفعت عن ذلك بالرواية المشهورة عن النبي (ص) نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة. وفي كتاب امير المؤمنين علي إلى عامله عثمان بن حنيف «بلى كانت في أيدينا فدك فشحت عليها نفوس قوم وسخت بها نفوس قوم آخرين ونعم الحكم الله» وفي الدّر المنثور في تفسير قوله تعالى( وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ) من سورة بني إسرائيل أخرج البزاز وابو يعلى وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال لما نزلت هذه الآية( وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ) دعا رسول الله فاطمة فأعطاها فدكا. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال لما نزلت( وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ) اقطع رسول الله فاطمة فدكا. ونقل السيوطي أيضا هذين الحديثين في لباب النقول وذكر ان الطبراني أخرج الحديث الأول عن أبي سعيد وفي كنز العمال ومختصره في صلة الرحم من كتاب الأخلاق عن تاريخ الحاكم عن أبي سعيد قال لما نزلت( وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ) قال النبي (ص) يا فاطمة لك فدك - هذا ولكن لما وردت دعوى الزهراء في نحلة فدك ولم تنفعها فيها شهادة علي والحسنين وأم أيمن ويا للعجب عدلت إلى المطالبة بها بوجه الإرث اقلا كسائر المتروكات هذا وان صاحب المنار ذكر عن الالوسي في تفسيره روح المعاني احتجاجه على الشيعة في ان الأنبياء لا يورثون بأمرين - أحدهما - ما

رواه في اصول الكافي بسنده عن أبي البختري وهب عن الصادق (ع) قوله : ان العلماء ورثة الأنبياء وذلك ان الأنبياء لا يورثوا دينارا ولا درهما وانّما أورثوا أحاديث من أحاديثهم. الحديث. فاحتج بان «إنّما» تفيد الحصر «ويدفعه» أنَّ الحصر لم يكن إضافيا بالنسبة إلى الدينار والدرهم فهو حصر بالنسبة لحملة الحديث من سائر الناس وعامتهم لا وارث المال من الأقرباء ومن المعلوم أنَّ سائر الناس لا يرثون من الأنبياء إلّا الحديث في العلم ولا إرث للعلماء من الأنبياء إلّا ذلك - وثانيهما - بأن تركة النبي (ص) وقعت في أيدي جماعة من المعصومين عند الشيعة والمحفوظين عند أهل

٤٥

السنّة كعلي والحسنين وعلي بن الحسين فلم يعطوا منها العباس ولا بنيه ولا أزواج النبي (ص) ولو كان الميراث جاريا في تلك التركة لشاركوهم قطعا «ويدفعه» أنَّ ما يشير إليه من نحو العمامة المقدّسة والسّلاح والرواية قد كان رسول الله (ص) أعطاه في مرضه لعليٍّ على أنّها من مختصات الإمامة ولذا صارت تنتقل من إمام إلى إمام وعلى ذلك يجري ما رواه أحمد في مسند أبي بكر عن ابن عباس بسند لو لم يكن صحيحا عندهم لكان حسنا مقبولا قال: لما قبض رسول الله (ص) واستخلف أبو بكر خاصم العباس عليا في أشياء تركها رسول الله (ص) فقال أبو بكر شيء تركه رسول الله فلم يحركه فلا أحركه. فلما استخلف عمر اختصما إليه فقال شيء لم يحركه أبو بكر فلا أحركه. فلما استخلف عثمان اختصما إليه فسكت ونكس رأسه فخشيت ان يأخذه فضربت بين كتفي العباس فقلت: يا أبت أقسمت عليك إلّا سلمته لعلي فسلمه اليه. ورواه في كنز العمال ومنتخبه في أول كتاب الخلافة عن البزاز أيضا. ولو تنزلنا عن ذلك وفرضنا كونها تركة موروثة لقلنا ان عدم اعطائهم للعباس لأنه لا يرث مع فاطمة عند أهل البيت لآيات الأقربين واولي الأرحام كما مر في مسألة التعصيب. وأما أزواج النبي (ص) فيجوز ان يكون قد طبن نفسا بذلك لفاطمة (ع) لسماحتها لهن ببقائهن في بيوتهن وتصرفهن بما فيها من ادارة البيت احتراما لمقامهن من رسول الله أو لغير ذلك من الوجوه. ويجوز أيضا أنْ تكون تلك الأشياء تستخلص في سائر الطبقات من بقية الوراث بطيب النفس أو بالمعاوضة فلا تشبث بذلك للالوسي وصاحب المنار.

- الأمر الثامن في العول: ومحل النزاع فيه بين النافين له والمثبتين هو ان يجتمع من الفرائض المذكورة في القرآن الكريم بحسب صورة إطلاقها ما يتزاحم ولا يمكن اجتماعه مع الإطلاق وبقائه على معناه. فالقائل بالعول يخرج اسماء الفرائض في مسائل عوله عن معانيها الحقيقية لكي يقسم المال على نسبة تلك المعاني بعضها من بعض. والنافون للعول يستدلون على تقييد بعض المطلقات في تلك المسائل فيرتفع التزاحم. وتحرير الكلام هو أنَّ الصور التي يفرض تزاحم الفرائض فيها في الظاهر هي على ما يخطر في ذهني في الحال اثنتان وعشرون صورة ثلاثة عشر منها متفق على إمكان تصويرها ووقوعها بين المسلمين وتسعة منها يختص تصويرها بأهل السنة لأنهم يورثون الاخوة والأخوات مع الأمّ فلنذكر هذه الصور وما تصير إليه فرائضها على تقدير العول ليتضح وجه الحجّة والكلام في المسألة ان شاء الله وان استلزم التطويل -

٤٦

فالصور المتفّق عليها الأولى منها - زوج وبنت وأم وأب. يصير فيها على العول ربع الزوج ثلاثة من ثلاثة عشر ونصف البنت ستة من ثلاثة عشر وكل من سدسي الأب والأم اثنين من ثلاثة عشر - الثانية - زوج وبنتان فما فوق وأم وأب. يصير فيها ربع الزوج ثلاثة من خمسة عشر وهو الخمس وثلثا البنات ثمانية من خمسة عشر وكل من سدسي الأب والأم اثنين من خمسة عشر - الثالثة - زوج وبنتان فما فوق وواحد من الأبوين. يصير فيها ربع الزوج ثلاثة من ثلاثة عشر. وثلثا البنات ثمانية من ثلاثة عشر. وسدس أحد الأبوين اثنين من ثلاثة عشر - الرابعة - زوج وأخت من الأبوين أو الأب واثنان من كلالة الأم. يصير فيها نصف الزوج ثلاثة من ثمانية وكذا نصف الأخت. وكل واحد من سدسي الكلالة واحد من ثمانية وهو الثمن - الخامسة - الصورة السابقة مع كون الكلالة من الأم فيها اكثر من اثنين يصير النصفان فيها كما في التي قبلها وثلث الكلالة ربعا - السادسة - الصورة السابقة وكلالة الأم واحد. يصير فيها كل من النصفين ثلاثة من سبعة وسدس الكلالة واحد من سبعة - السابعة - زوج واختان فما فوق من الأب أو الأبوين. يصير فيها نصف الزوج ثلاثة من سبعة وثلثا الأخوات اربعة من سبعة - الثامنة - الصورة السابقة وواحد من كلالة الأم. يصير فيها نصف الزوج ثلاثة من ثمانية وثلثا الأخوات أربعة من ثمانية وهو النصف وسدس الكلالة ثمنا - التاسعة - الصورة السابقة وكلالة الأم فيها اثنان. يصير فيها نصف الزوج ثلاثة من تسعة وهو الثلث وثلثا الأخوات اربعة من تسعة وكل من سدسي الكلالة واحدا من تسعة - العاشرة - الصورة السابقة وكلالة الأم أكثر من اثنين وقسمتها كسابقتها ويكون ثلث الكلالة اثنين من تسعة - الحادية عشر - زوجة وبنتان فما فوق وأم وأب. يصير فيها ثلثا البنات ستة عشر من سبعة وعشرين(١) وثمن الزوجة ثلاثة من سبعة وعشرين وهي التسع - الثانية عشر - زوجة واختان فما فوق من الأب أو الأبوين مع اثنين من كلالة الأم. تصير فيها القسمة كسابقها - الثالثة عشر - هذه الصورة وكلالة الأم فيها اكثر من إثنين وتصير كسابقتها وثلث الكلالة ثمانية من سبعة وعشرين «وأما المختصّة» بمواريث أهل السنة فهي - الرابعة عشر - زوج وام وأخت من الأب والأبوين يصير فيها كل من نصفي الزوج والأخت ثلاثة من ثمانية وثلث الأم اثنين من ثمانية وهو الربع - الخامسة عشر - زوج وأم واختان فما فوق من الأب أو الأبوين يصير فيها نصف الزوج ثلاثة من تسعة وهو الثلث وثلثا الأخوات

٤٧

أربعة من تسعة وثلث الأم اثنين من تسعة - السادسة عشر - الصورة السابقة مع واحد من كلالة الأم. يصير فيها نصف الزوج ثلاثة من عشرة وثلث الأمّ اثنين من عشرة وهو الخمس وثلثا الأخوات اربعة من عشرة وسدس الكلالة واحد من عشرة - السابعة عشر - الصورة السابقة مع ثان من كلالة الأم. يصير فيها نصف الزوج ثلاثة من أحد عشر وثلث الأمّ اثنين من أحد عشر وثلثا الأختين اربعة من أحد عشر وكل من سدسي الكلالة واحد من أحد عشر - الثامنة عشر - الصورة السابقة ويكون فيها كلالة الأمّ اكثر من اثنين. يصير فيها ثلث الكلالة اثنين من أحد عشر - التاسعة عشر - زوجة وام وأختان فما فوق من الأب أو الأبوين. يصير فيها ربع الزوجة ثلاثة من خمسة عشر وهو الخمس وثلث الأم اربعة من خمسة عشر وثلثا الأخوات ثمانية من خمسة عشر - العشرون - الصورة السابقة مع واحد من كلالة الأمّ. يصير ربع الزوج فيها ثلاثة من سبعة عشر وثلث الأمّ أربعة من سبعة عشر وثلثا الأخوات ثمانية من سبعة عشر وسدس الكلالة اثنين من سبعة عشر - الحادية والعشرون - الصورة السابقة مع ثان من كلالة الأمّ يصير فيها ربع الزوج ثلاثة من تسعة عشر وثلث الأم اربعة من تسعة عشر وثلثا الأخوات ثمانية من تسعة عشر وكل من سدسي الكلالة اثنين من تسعة عشر - الثانية والعشرون - الصورة السابقة ويكون فيها كلالة الأم أكثر من اثنين. يصير ثلثهم فيها أربعة من تسعة عشر.

إذن فعلى القول بالعول وما تقدم من الحساب في الصور المذكورة يصير معنى الثمن المذكور في القرآن للزوجة أو الزوجات واحدا من ثمانية كما في غير مسائل العول وواحدا من تسعة أي تسعا في الصور الحادية عشر والثانية عشر والثالثة عشر : ويكون ربع الزوجة واحدا من أربعة في غير العول وواحد من خمسة كما في الصورة التاسعة عشر وثلاثة من سبعة عشر كما في الصورة العشرين وثلاثة من تسعة عشر كما في الحادية والعشرين والثانية والعشرين. وربع الزوج ثلاثة من ثلاثة عشر كما في الصورة الأولى والثالثة وثلاثة من خمسة عشر كما في الثانية ويكون نصف الزوج واحدا من اثنين في غير العول وثلاثة من سبعة كما في الصورة السادسة والسابعة. وثلاثة من ثمانية كما في الرابعة والخامسة والثامنة والرابعة عشر. وثلاثة من تسعة أي ثلثا كما في التاسعة والعاشرة والخامسة عشر. وثلاثة من عشرة كما في السادسة عشر. وثلاثة من أحد عشر كما في السابعة عشر والثامنة عشر. وتزيد معاني النصف بالنظر إلى نصفي البنت والأخ

٤٨

فيكون أيضا ستة من ثلاثة عشر كما في الصورة الأولى. وثلاثة من ثمانية كما في الرابعة والخامسة والرابعة عشر. وثلاثة من سبعة كما في السادسة فيكون للنصف سبعة معان : ويكون سدس الأب أو الأم أو الواحد من كلالة في غير العول واحدا من ستة. واثنين من ثلاثة عشر كما في الصورة الأولى والثالثة. واثنين من خمسة عشر كما في الثانية. وأربعة من سبعة وعشرين كما في الحادية عشر. وواحدا من سبعة كما في السادسة. وواحدا من ثمانية كما في الرابعة والثامنة. وواحدا من تسعة كما في التاسعة. واربعة من سبعة وعشرين كما في الثانية عشر. وواحدا من عشرة كما في السادسة عشر. وواحدا من أحد عشر كما في السابعة عشر. واثنين من سبعة عشر كما في الصورة العشرين. واثنين من تسعة عشر كما في الحادية والعشرين. فيكون للسدس اثنا عشر معنى : ويكون الثلث لكلالة الأم واحدا من ثلاثة في غير العول. واثنين من ثمانية كما في الخامسة. واثنين من تسعة كما في العاشرة. وثمانية من سبعة وعشرين كما في الثالثة عشر. واثنين من أحد عشر كما في الثامنة عشر. واربعة من تسعة عشر كما في الثانية والعشرين : ويكون الثلث للأم اثنين من ثمانية كما في الرابعة. واثنين من تسعة كما في الخامسة عشر. واثنين من عشرة كما في السادسة عشر. واثنين من أحد عشر كما في السابعة عشر والثامنة عشر. واربعة من خمسة عشر كما في التاسعة عشر. واربعة من سبعة عشر كما في الصورة العشرين : واربعة من تسعة عشر كما في الحادية والعشرين والثانية والعشرين. ويكون أيضا باعتبار ثلثي البنات والأخوات له معان أخر فإن الثلثين يكونان ثمانية من خمسة عشر في الصورة الثانية وثمانية من ثلاثة عشر في الثالثة. واربعة من سبعة في السابعة. واربعة من ثمانية في الثامنة. واربعة من تسعة في التاسعة والعاشرة والخامسة عشر. وستة عشر من سبعة وعشرين في الحادية عشر والثانية عشر والثالثة عشر. واربعة من عشرة في السادسة عشر والثامنة عشر. وثمانية من خمسة عشر في التاسعة عشر. وثمانية من سبعة عشر في الصورة العشرين. وثمانية من تسعة عشر في الحادية والعشرين والثانية والعشرين. فيكون للثلث باعتبار ثلث الأم وثلث كلالتها وثلثي البنات والأخوات أحد وعشرون معنى.

إذا تحرر هذا فنقول ان الله العليم الخبير والذي أحصى كل شيء علما وعددا لا شك في انه يمتنع على جلاله ان يكون قد جعل الفرائض وهو لا يعلم بما يؤدي إليه تزاحمها كما في فروض مسائل العول. إذن فلم يبق في المسألة إلّا وجهان - أحدهما - ان يكون استعمل

٤٩

ألفاظ الفرائض في معانيها الحقيقة في غير مسائل العول وفي المعاني الكثيرة المتنافرة التي يؤول إليها تقسيم العول كما شرحناه - وثانيهما - ان يكون الشارع في الموارد يتراءى فيها تزاحم الفرائض بحسب الظاهر البدوي من إطلاقها قد قيد بعض مطلقاتها وأخرج بعض مصاديقها منها بحيث لا يحصل التزاحم وأوكل أمر هذه المصاديق إلى عمومات الإرث بالقرابة وآيات الأقربين واولي الأرحام - لكن - الوجه الاول باطل ممتنع في اللغة لأنه يستلزم استعمال اللفظ الواحد في الاستعمال الواحد في معناه الحقيقي ومعان أخر متنافية متشتتة لا جامع بينها كما شرحناه وليس فيما بين كل واحد منها وبين المعنى الحقيقي علاقة تصحح التجوز فانها كلها في مقام التقسيم واناطة الحكم بخصوصيات الكسور فتكون بذلك معاندة ومنافرة للمعنى الحقيقي ومتعاندة ومتنافرة فيما بينها. على انه لا يجوز الجمع في الاستعمال بين الحقيقة والمجاز حتى مع وجود العلاقة ووضوحها كما تحرر في الأصول. ومما يشهد لذلك ان الأوائل القائلين بالعول من الصحابة لم يدعوا أن تزاحم الفرائض صار قرينة على ان الله أراد من ألفاظها ما ذكرناه من تلك المعاني الكثيرة بل جعلوا العول من قبيل الصلح القهري عند اشتباه الحكم الشرعي لأنه لم يتضح لهم من قدم الله ومن أخره كما يعرف من رواية عبيد الله عن ابن عباس. كما يشهد لذلك ان ابن عباس اكتفى في ابطال العول بعلم الله وإحصائه لرمل عالج عددا ولم يخطر في خياله ان الله أراد من اسماء الفرائض تلك المعاني الكثيرة وعلى ذلك يجري تصويب الزهري لقوله واحتجاجه وما ذاك إلّا لأن ما ذكرناه من الامتناع خصوصا في هذا المقام مرتكز في الغريزة مستحكم في الفطرة. هذا ولو تنزلنا وجوزنا الجمع بين كل من المعنى الحقيقي والمعنى المجازي في استعمال واحد لما كان هذا المقام من واديه ولا يدانيه لما ذكرناه من المعاندة في مقام التقسيم - فان قيل - يمكن ان يكون ألفاظ الفرائض مستعملة في الجامع بين تلك المعاني المتشتتة وهو عنوان الجزء المطلق من التركة وما يشبهه - قلنا - إذا كان المسمى والمعنى هو الجزء المطلق وكانت اسماء الفرائض كالمترادفة فما هي الفائدة فيها والمحصل منها. ولماذا يعطى في كل مورد من موارد العول وغيره جزء مخصوص ومقدار معين - فان قيل - انا نعطي تلك المقادير المخصوصة من باب تزاحم الحقوق المجعولة - قلنا - أولا لماذا تعطون في غير العول مقادير مخصوصة على مقتضى المعاني الحقيقية لألفاظ الفرائض كالنصف والثلث مثلا. وثانيا. إذا كانت اسماء الفرائض اسماء للجزء المطلق لم يكن هناك تزاحم حقوق بل يعطون

٥٠

على التساوي. فلا مناص إذن عما ذكرناه قبلا من ثاني الوجهين وهو التقييد لإطلاق بعض الفرائض التي لا تخرج أسماؤها عن معانيها الحقيقية والرجوع في موردها إلى الإرث بالقرابة. فعلينا البحث في تعيين ما هو خارج عن الإطلاق ويرجع أمر مورده إلى آيات الأقربين واولي الأرحام. فإن أصبناه انحل اشكال التزاحم وإلا وجب التوقف والرجوع إلى الصلح ما بين الورثة في هذه الموارد المشكلة بظاهر التزاحم. بل لو تمحلنا وجوزنا استعمال القرآن الكريم لألفاظ الفرائض على الوجه الأول المخالف للمعنى الحقيقي والراجع إلى الألغاز والمعميات بل الطلاسم لكان الحمل على التقييد هنا هو المتعين لأنه لا تجوز فيه وهو شايع جدا في المحاورات والقرآن الكريم. ومعرفة الخارج عن الإطلاق قريبة من التناول ووجه التقييد واضح كما قاله ابن عباس كما ذكره في كنز العمال ومختصره عن أبي الشيخ في فرائضه والبيهقي في سننه عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ورواه ابن حزم الاندلسي في كتابه المحلى عن إسماعيل القاضي كما رواه المشايخ في الكافي والفقيه والعلل والتهذيب بأسانيدهم عن الفضل بن شاذان عن محمد بن يحيى جميعا عن علي بن عبد الله المدائني(١) ورواه أيضا في التهذيب سماعا واجازة عن ابن عبدون عن أبي طالب الانباري عن أبي بكر الحافظ أحمد بن هوده عن علي بن محمد الحصيني جميعا عن يعقوب بن إبراهيم عن أبيه عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال خرجت انا وزفر بن أوس إلى ابن عباس فتحدثنا عنده حتى عرض ذكر فرائض المواريث فقال ابن عباس سبحان الله العظيم أترون الذي أحصى رمل عالج عددا جعل في مال نصفا ونصفا وثلثا. النصفان قد ذهبا بالمال فأين موضع الثلث. فقال له زفر يا أبا العباس من أول من أعال الفرائض فقال عمر بن الخطاب لما التقت عنده الفرائض ودافع بعضها بعضا قال ما ادري كيف اصنع. ما أدري أيكم قدم الله وأيكم أخر وما أجد في هذا المال شيئا أحسن من أن أقسمه عليكم بالحصص. ثم قال ابن عباس وايم الله لو قدم من قدم الله وأخر من أخر الله ما عالت فريضة. فقال له زفر وأيهم قدم الله وأيهم أخر. فقال كل فريضة لم يهبطها الله إلّا إلى فريضة فهذا ما قدم وأما ما أخر فكل فريضة إذا زالت عن فرضها لم يكن لها إلّا ما بقي فذلك الذي أخر. فأما التي قدم الله فالزوج له النصف فإذا دخل

__________________

(١) في التقريب ثقة ثبت امام اعلم أهل عصره بالحديث وعلله. إلى غير ذلك من تفخيم ابن عيينة والبخاري والنسائي له

٥١

عليه ما يزيله رجع إلى الربع لا يزيله عنه شيء. والزوجة لها الربع فإن زالت عنه صارت إلى الثمن لا يزيلها عنه شيء. والأم لها الثلث فإن زالت عنه صارت إلى السدس ولا يزيلها عنه شيء. والذي أخر فريضة الأخوات والبنات النصف والثلثان فإذا أزالتهن الفرائض عن ذلك لم يكن لهن إلّا ما بقي. فإذا اجتمع ما قدم الله وما أخر بدء بمن قدم فأعطي حقه كاملا فإن بقي شيء كان لمن أخر. فقال زفر فما منعك يا ابن عباس من ان تشير عليه بهذا الرأي قال ابن عباس هبته. قال ابن شهاب والله لو لا انه تقدمه امام عدل أمره إلى الورع لما اختلف على ابن عباس اثنان من أهل العلم إنتهى ورواه الحاكم في الصحيح على شرط البخاري ومسلم بسنده عن علي بن عبد الله المدائني إلى آخر السند المتقدم من قول ابن عباس أول من أعال الفرائض عمر إلى قوله فإن بقي شيء كان له. وفي ذلك محل الغرض من احتجاج ابن عباس فيمن قدم الله ومن أخر وبيان الوجه الذي يعرف منه التقييد لبعض المطلقات. فانه لو دخل ولد ذكر مع البنت أو البنات أو أخ مع الأخت أو الأخوات زلن عن فرضهن ولم يكن لهن مع أخيهن إلّا ما بقي. بل لو كان في مقامهن ولد أو أولاد أو أخ أو اخوة لم يكن لهم إلّا ما بقي. فيكشف ذلك عن ان هذا هو الشأن المشروع في مقام هذه الوراثة. وعلى ذلك جرى ما رواه المشايخ الثلاثة في الكافي والفقيه والتهذيب في الصحيح عن الباقر (ع) قال كان علي (ع) يقول ان الذي احصى رمل عالج يعلم ان السهام لا تعول على ستة. لو يبصرون وجهها لم تجز ستة إنتهى يعني (ع) ان كل فريضة تعطى مثل مخرجها وهو ما بنسبتها من الستة فصاحبة الثمن تعطى ثلاثة أرباع الواحد من الستة. وصاحب الربع يعطى واحدا ونصفا من الستة(١) ومراده (ع) من وجهها هو ما ذكرناه من التقييد للإطلاق في فرائض البنت والبنات والاخت والأخوات في صور التزاحم : وروى الشيخ في التهذيب عن ابن عبدون عن أبي طالب الانباري عن الحسن بن محمد بن أيوب عن عثمان بن أبي شيبة عن يحيى بن أبي بكر عن شعبة عن سماك عن ابى عبيدة السلماني قال كان علي (ع) على المنبر فقام إليه رجل فقال يا امير المؤمنين رجل مات وترك ابنتيه وأبوين وزوجة فقال (ع) صار ثمنها تسعا قال سماك فقلت لعبيدة وكيف ذلك

__________________

(١) لكنا في صور التقسيم السابق حذرا من الكسور جعلنا المخرج لما فيه الثمن اربعة وعشرين ليكون الثمن ثلاثة بلا كسر. ولما فيه الربع اثني عشرة ليكون الربع ثلاثة بلا كسر

٥٢

قال ان عمر بن الخطاب وقعت في إمارته هذه الفريضة فلم يدر ما يصنع فقال له اصحاب محمد (ص) أعط هؤلاء فريضتهم للأبوين السدسان وللزوجة الثمن وللبنتين ما يبقى فقال واين فريضتهما الثلثان فقال علي (ع) لهما ما يبقى فأبي ذلك عليه عمر وابن مسعود قال أبو عبيدة واخبرني جماعة من اصحاب علي (ع) بعد ذلك في مثلها انه اعطى الزوج الربع مع البنتين وللأبوين السدس والباقي رد على البنتين وذلك هو الحق وان أباه قومنا إنتهى ومن الواضح ان قوله (ع) صار ثمنها تسعا خارج مخرج الإنكار والتألم من قسمة العول وهو ان الذي سماه الله ثمنا كيف يكون تسعا وكيف يطلق لفظ الثمن في استعمال واحد على جزء من ثمانية وعلى جزء من تسعة : هذا واما الأحاديث الواردة في بطلان العول ودخول النقص على البنات والأخوات عن الأئمة من أهل البيت علي والباقر والصادق والرضاعليهم‌السلام فهي كثيرة تناهز التواتر أكثرها من الصحيح وعلى مقتضاها اجماع الإمامية ومذهب ابن عباس ومحمد بن الحنفية وحكاه المرتضى في الإنتصار عن عطا بن رياح وداود بن علي الاصفهاني. وفي المحلى لابن حزم قال به أبو سليمان وجميع أصحابه يعني داود إنتهى وذهب إليه الناصر جد المرتضى في الناصريات واختاره ابن حزم في المحلى.

احتجوا للقول بالعول بوجوه - الأول - انه لا بد من النقص عند تزاحم الفرائض. ودخوله على بعض دون بعض ترجيح من دون مرجح ومقتضى العدل هو إدخاله على الجميع - ويدفعه - ان المقام مقام جعل وتشريع واتباع الشرع في القسمة وقد أوضحنا انه يمتنع ان يكون في أدلة التشريع ولفظه ما يراد منه دخول النقص على الجميع. اذن فإدخال النقص على الجميع تحكم باطل على الشرع لأعدل. خصوصا إذا علمنا انه لا بد فيه من التقييد لبعض المطلقات. واما إدخال النقص على البعض فانما هو لترجيح الدليل وتعيينه كما قدمناه عن ابن عباس وما جاء عن أهل البيت (ع) وإجماع الإمامية - الثاني - القياس على الحكم بالتقسيط فيما اوصى الإنسان بوصية نافذة بنصف الألف لزيد ونصفها لعمرو وثلثها لبكر مثلا - ويدفعه - أولا بطلان القياس من أصله. وثانيا. انه قياس مع الفارق فانا إذا لم نجد في هذه الوصية قرينة على العدول أو التقييد كان قرينة ارادة الموصي بلفظي النصف والثلث مجازا بنحو اللغز هو الجزء الناتج من التقسيط على نسبة المعاني الحقيقية. وليس في هذا ما يستلزم الممتنع من الجمع

٥٣

في الاستعمال الواحد بين المعنى الحقيقي والمعاني المتعددة المتنافية المتباينة وهذا إذا جاز من الناس لا نجوز مثله من القرآن الكريم فضلا عن ان محل الكلام في العول يستلزم امرا ممتنعا في اللغة وهو الجمع بين المعنى الحقيقي والمعاني المتباينة المتنافرة كما شرحناه ولو تمحلنا وجوزناه على الناس في هذل الاحاجي والالغاز لما جاز على مجد القرآن الكريم في البيان لتمييز السهام - من وجوه القياس - ان المال إذا قصر عن ديون الغرماء يوزع عليهم على نسبة ديونهم - ويدفعه - مع انه قياس ان الفارق جلي. فإن قصور المال لا ينافي ثبوت الدين في الذمة بمقاديره الحقيقية ولم يكن ثبوته مبتنيا على استعمال ممتنع في اللفظ الواحد. وان توزيع المال على الدين لم يكن في حال يئول إلى العلم الإجمالي فضلا عن التفصيلي بالتقييد وخروج البعض من افراد الدين عن الإطلاق الذي في دليل ثبوته واستحقاقه. فما هذا القياس إلّا من نحو قياس الضد على ضده في جهة المضادة - الثالث - رواية القول بالعول عن علي (ع) في رواية عبيدة السلماني بقوله (ع) صار ثمنها تسعا - ويدفعه - ما ذكرناه من ظهوره في نفسه في خروجه مخرج الإنكار فضلا عما ذكرناه من تتمة الرواية عن عبيدة وفضلا عن المعلوم المنقول عن أئمة أهل البيت وغيرهم من انه (ع) كان ينكر على القول بالعول - الرابع - النقض على الحل لمسئلة التزاحم بتقييد بعض المطلقات وتقديم من قدمه الله وتأخير من اخره وإدخال النقص على البنات أو الأخوات من الأب أو الأبوين وذلك بما إذا كان التزاحم في فرائض من قدمه الله كما إذا كان الوراث زوجا واما واثنين من كلالة الأم أو اكثر فإن المال لا ينقسم على نصف وثلث وسدسين. وكذا إذا كان مع هؤلاء اخت أو اختان من كلالة الأب أو الأبوين فإن المال يضيق وان أخرجنا هذه الكلالة من الميراث بالمرة - ويدفعه - ان هاتين الصورتين ممتنعتين في المواريث بحسب ما تقيمه الشيعة من الأدلة على ان الكلالة بقسميها لا ترث مع الأم كما مر بعضه. فلا نقض بما ذكروه ولا تشبث

(الأمر التاسع) ارث الزوج والزوجة في عقد المتعة فإنه خارج عن اطلاق ارث الزوجين على المشهور عند الإمامية وعليه حديثهم الدال على تقييد الإطلاق

(الأمر العاشر) خروج الرباع مطلقا والشجر والبناء عينا لا قيمة عن ارث الزوجة غير ذات الولد بإجماع الإمامية وحديثهم وفي ذات الولد خلاف

(الأمر الحادي عشر) - الحبوة - وهي لباس الميت وخاتمه ومصحفه وسيفه فان

٥٤

(١٣)تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٤)وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (١٥)وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ

____________________________________

المشهور عند الامامية انها حبوة يختص بها الأكبر من أولاده الذكور الصلبيين أو المنفرد وعلى ذلك حديثهم. وقيل انها على الاستحباب لتشكيك القائلين به في استفادة الوجوب والاستحقاق من الأحاديث -

هذا وأما الكلام في مواريث الأجداد والجدات وأبناء الاخوان والأخوات. والأعمام والأخوال وأبنائهم من اولي الأرحام والأقربين وكذا ميراث الولاء فهو موكول إلى علم الفقه وكتبه ١٣( تِلْكَ ) أي ما ذكر من احكام المواريث( حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ ) في العمل بهذه الأحكام على حدودها وما جاء في السنة في بيانها تفسيرا أو تخصيصا أو تقييدا( يُدْخِلْهُ ) الله( جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ) حال كون المطيعين( خالِدِينَ ) وجرى الجمع على معنى «من» الموصولة( فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ١٤وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ ) المذكورة( يُدْخِلْهُ ) الله( ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ ) فوق ذلك( عَذابٌ مُهِينٌ ) وجرى افراد الضمائر على لفظ الموصول ١٥( وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ ) أي يفعلنها فجاءت الكناية عن الفعل بالإتيان كما جاءت الكناية عن الفعل بالقرب في قوله تعالى الانعام ١٥١( وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ) وفي سورة الاسراء ٣٢( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى ) والإتيان والقرب على معانيها الحقيقية والغرض منها الفعل ونحوه بالمعنى الكنائي فهي مثل قوله تعالى في سورتي الأعراف ٧٩ والنمل ٤٥( أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ) وفي سورة العنكبوت ٢٨( إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ) ٢٩( وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ) وقد التفت الرازي في تفسيره إلى دلالة هذه الكنايات على ان فاعل الفاحشة هو الذي فعلها بإرادته وذهب إليها من عند نفسه وأتاها بقصده. واختارها بمجرد طبعه. أي غير مجبور على ذلك بوجه من الوجوه التي يلتجأ فيها إلى فرض الكسب. ولكنه قال لا يتم ذلك إلّا على قول المعتزلة. ويا ليته أصاب المرمى فقال وهذا مما يدل على قول المعتزلة في عدم الجبر. والفاحشة اسم للفعل القبيح والمراد منه في الآية بحسب المعهود ومناسبة المقام هو الزنا. وحكي

٥٥

مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا

____________________________________

عن أبي مسلم الاصفهاني من الجمهور وحكاه الرازي أيضا عن مجاهد ان الفاحشة هنا هي مساحقة النساء وفي قوله تعالى( وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ ) هو اللواط. وذكر الرازي وجوه رده والدفع عنه بلا تصريح منه بترجيحه ورجحه صاحب المنار وحكى الترجيح عن استاذه بما لا يخرج عما ذكره الرازي وأيده الاردبيلي في زبدة البيان بنحو ذلك. والكل تخرص سقيم لا يجدي. فقد روي من عدا البخاري من اصحاب الجوامع الست وذكر في الدّر المنثور من غيرهم اثنى عشر ممن أخرجه من كبار المحدّثين عن عبادة ابن الصامت في حديث ان رسول الله (ص) اوحي إليه ولما سوى عنه الوحي قال (ص) خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا الثيب جلد مائة ورجم بالحجارة والبكر جلد مائة ثم نفي سنة. واخرج أحمد عن سلمة ابن المحيق عن رسول الله نحو ذلك. وروى في الكافي بسنده عن الباقر (ع) ما ملخصه ان كل سورة النور نزلت بعد سورة النساء قال الله تعالى :( وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ ) إلى قوله تعالى( سَبِيلاً ) فالسبيل الذي قال الله( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ) . وفي تفسير البرهان عن العياشي عن جابر عن الباقر جعل السبيل الرجم أو الجلد. ورواه الجزائري في القلائد عن العياشي عن أبي بصير عن الصادق (ع) وفي مجمع البيان ان النسخ أي بآية النور وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله. وفي الوسائل في رسالة المحكم والمتشابه للمرتضى نقلا من تفسير النعماني باسناده عن إسماعيل بن جابر عن الصادق (ع) عن آبائه عن امير المؤمنينعليه‌السلام في حديث ذكر فيه احكام هذه الآية إلى ان قال فلما قوي الإسلام انزل الله( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ) فنسخت هذه الآية الحبس والأذى الحديث. وأما القول بأن السبيل هو التزويج والاستغناء بالحلال فقد قال في التبيان انه باطل بالإجماع( مِنْ نِسائِكُمْ ) أي من نساء المؤمنين وإن كان الحكم عاما وذلك لأن المؤمنين حينئذ هم الذين يتلقون احكام الشريعة بالإجراء فحسن لذلك خطابهم بالحكم العام. ودعوى ان المراد نساء الأزواج يبطلها ما ذكرنا روايته من الفريقين من حكم غير المحصنة في الجلد( فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً ) من الرجال( مِنْكُمْ ) أي من المسلمين وذلك لأجل اجراء الحكم عليهن أي اطلبوا شهادتهم والظاهر انها على نمط الدعاوي في إقامتها عند الحاكم( فَإِنْ شَهِدُوا ) وثبت الأمر

٥٦

فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أو يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٦)وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (١٧)إنّما التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ

____________________________________

( فَأَمْسِكُوهُنَ ) حبسا( فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَ ) أي يأخذهن ويستوفيهن( الْمَوْتُ ) وقد تكلف في الكشّاف وتبعه الرازي إذ قدرا حتى يميتهن ملائكة الموت. وقد قدمنا الكلام في معنى التوفي في الجزء الأول ص ٣٣ - ٣٧( أَوْ يَجْعَلَ اللهُ ) ويشرع( لَهُنَّ سَبِيلاً ) من غير شريعة الحبس مما هو مؤدب ومقاوم لمادة فساد الزنا. وقد جرى الأمر في كلتا الشريعتين على حكمة التشريع من حيث المسايرة في أول الأمر مع الناس فيما يألفونه في مقام المحافظة على ناموس العفة وان كان غير واف بالمصلحة المطلوبة في هذا المقام حتى إذا استحكم أمر الدين وساد الخضوع للشريعة شرع الحكم الموافق للمصلحة العامة ونظام الاجتماع كما نطقت به رواية النعماني واشارت إليه الغاية في الآية الكريمة. هذا في مقام صون المرأة عن معاودة الزنا وأما ما يعود إلى مقام الردع والتأديب في أول التشريع فهو ما قاله جل شأنه ١٦( وَالَّذانِ ) أي الزاني والزانية( يَأْتِيانِها ) أي فاحشة الزنا( مِنْكُمْ ) باعتبار تلقي المسلمين لأحكام الشريعة حينئذ وان كان عاما أو لعلم الله بأن هذه الشريعة قبل نسخها لا يتيسر للمسلمين إجراؤها على غيرهم( فَآذُوهُما ) بما يعتاد بينكم نوعا من الإيذاء في مقام الردع عن الزنا من التوبيخ والضرب ونحو ذلك( فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا ) أعمالهما ليكون ذلك إمارة على التوبة الحقيقية( فَأَعْرِضُوا عَنْهُما ) من حيث الإيذاء. ولا يتقيد الاعراض بتوبتهما معا. بل يعرض عن الإيذاء لمن عرفت توبته منهما بإصلاح عمله. كما تقتضيه حكمة التوبة( إِنَّ اللهَ كانَ ) من الأزل وإلى الأبد( تَوَّاباً ) على التائبين( رَحِيماً ) بعباده لا يريد إلّا صلاحهم. ولكن لا يغتر المغترون باسم التوبة الجارية على حكمة الرحمة والإصلاح والاستصلاح بل التوبة حقيقة هي التي تجري عليها رحمة الله وحكمته. فما كل من قال تبت تاب الله عليه كما كتب بلطفه وغناه على نفسه الرحمة بل ١٧( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ ) بمقتضى رحمته ولطفه وحكمته( لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ) منهم. وذكرت الجهالة للتوضيح والتوبيخ فان كل عمل للسوء إنّما يكون بجهالة وعمى ولو أبصر الإنسان وجه رشده وعرف ببصيرته ما فيه صلاحه لما عمل السوء ولما استولت عليه النفس الأمارة وغواية

٥٧

ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٨)وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٩)يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً

____________________________________

إبليس بفلتات الشهوة والغضب والتعصيب الذميم وسوء الأخلاق وحب العاجل والتغاضي عن وباله أعاذنا الله من ذلك وأعاننا على أنفسنا بلطفه وتوفيقه( ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ ) عهد( قَرِيبٍ ) بالنسبة إلى ما كانوا يرونه بعيدا من حضور آجالهم وانقطاع آمالهم من زهرة الحياة الدنيا وحينما تموت شهواتهم وتسقط دواعي المعصية كما قال بعضهم لما سئل عن الزنا عند ضعفه بالهرم «تركني وما تركته» بل التوبة إنّما هي في الحال التي يراغمون بها نزعات النفس الأمارة وغواية إبليس وينيبون إلى الله إقلاعا عن المعصية وندما على ما فرطوا فيه ورغبة في الأعمال الصالحة في حالهم ومستقبلهم وطلبا لكمالهم واندماجهم في زمرة عباد الله الصالحين بنزوعهم إلى حقيقة التوبة وشوقهم إلى رضاء الله عنهم ، وعفوه عما سلف منهم مما عرفوا قبحه وندموا على ارتكابه. فما كل مظهر للتوبة تائب ولا كل تارك للقبيح نادم. بل كما قيل: -

إذا انبجست دموع من عيون

تبين من بكى ممن تباكى

أو ليس من حقيقة التوبة ان يخرج التائب جهد مقدوره مما لزمه في معاصيه السابقة من حقوق الناس وحقوق الله ويستشعر قلبه التوبة والندم( فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ ) لأنهم تابوا على حقيقة التوبة( وَكانَ اللهُ ) منذ الأزل ، ولا يزال( عَلِيماً ) بمن تاب حق التوبة ومن تظاهر بصورتها المموّهة( حَكِيماً ) في دعوته إلى التوبة ووعده بأن يتوب على من أناب إليه وهو ارحم الراحمين ١٨( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ ) التي قد أعدتها الحكمة في الإصلاح والرحمة( لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ ) مصرين عليها بجرأتهم على الله ومتمادين في غيهم( حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ ) وانقطعت عنه دواعي الهوى والضلال( قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ ) بما عصوا( عَذاباً أَلِيماً ١٩ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) بالله ورسوله ودانوا باتباع شريعة الله( لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ ) وتعدوهن ارثا لكم كما ترثون الأموال وتتسلطون عليهن بدعوى انتقال حق الزوجية إليكم بالوراثة( كَرْهاً ) بفتح الكاف اكراها لهن بدون

٥٨

وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ

____________________________________

تزوج جديد برضاهن. «وكرها» نائب عن المفعول المطلق المستفاد من «ترثوا» بمعنى التسلط عليهم بزعم الإرث كرها. في تفسير القمّي من رواية أبي الجارود عن الباقر (ع) كان في قبائل العرب إذا مات حميم الرجل وله امرأة القى الرجل ثوبه عليها فورث نكاحها بصداق حميمه الذي كان أصدقها يرث نكاحها كما يرث ماله وأن الآية نزلت في هذا الشأن. وفي الدّر المنثور مما أخرجه البخاري وغيره من طريق عكرمة عن ابن عباس نحوه وزاد ان شاء بعضهم تزوجها وان شاؤوا زوجوها وان شاؤا لم يزوجوها فهم أحق بها من أهلها إنتهى وهذه الزيادة لا تنطبق على الآية فان هذا المعنى لم يكن للزوج ولا يورث منه وان كان ذلك للأهل في بدع الجاهلية ومما أخرجه أبو داود من طريق عكرمة أيضا عن ابن عباس كان الرجل يرث امرأة ذي قرابته فيعضلها حتى تموت أو تؤدي إليه صداقها إنتهى وفي اقتصار الرواية على العضل مخالفة لجميع الروايات وخروج مغزى الآية. ومما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس أيضا كان الرجل إذا مات وترك جارية القى عليها حميمه ثوبه فمنعها من الناس فان كانت جميلة تزوجها وان كانت ذميمة حبسها حتى تموت فيرثها وهي قوله ولا تعضلوهن الآية وقال يعني الرجل تكون له المرأة وهو كاره لصحبتها ولها عليه مهر فيضربها لتفتدي إنتهى وفي هذه الرواية من التدافع ما لا يخفى. فالروايات عن ابن عباس مع كونها متعارضة بعيدة المجرى على سياق الآية الكريمة خصوصا إذا ضممناها إلى سائر ما رواه في الدّر المنثور هنا( وَلا تَعْضُلُوهُنَ ) أي لا تعضلوا نسائكم لا الموروثات كرها وذلك لعدم المناسبة فيما يأتي من احكام الآية للموروثات وكذا قوله تعالى( لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ ) من الصداق فإن وارث النكاح بتشريع الجاهلية لم يؤتها شيئا. والقرآن الكريم في مقام نهيه وكرامة حكمته لا يسمي إيتاء اقربائهم للصداق إيتاء منهم فيثير منهم غبار المغالطات في بدعتهم. ولو تنزلنا فما ذا يقال في قوله تعالى( وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) فهل يأمر الله بمعاشرة موروثة النكاح ببدعة الجاهلية. وعضل المرأة هنا حبس الزوج لها على نكاحه ، والتضييق عليها عند كراهته لها لتفتدي منه ببعض ما أتاها من الصداق ، ليطلقها. وقد بقي عند الأوباش بقية من هذه العادة الوخيمة فنهى الله تعالى عن هذا الظلم. نعم إذا كانت الكراهة منها لا من الزوج جاز

٥٩

إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (٢٠)وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً

____________________________________

ان يقبل الزوج منها الفداء من دون عضل كما مر في الخلع في الجزء الاول ص ٢٠٦ ، واما هنا فقد استثنى من حرمة العضل وأخذ شيء منهن بقوله تعالى( إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ) بكسر الياء المثناة أي موضحة لفحشائها وفي تفسير البرهان عن الشيباني ان الفاحشة هي الزنا وهو المروي عن أبي جعفر (ع) وفي مختصر التبيان والاولى حملها على كل معصية وفي مجمع البيان وهو المروي عن أبي جعفر (ع) أقول ولم اعثر على شيء من الروايتين لكن صدق الفاحشة على الزنا هو المتيقن في المقام ومن المعاصي ما لا يسمى فاحشة والإطلاق إنّما يجري مع صدق اسمها وشمولها لمحض النشوز بعيد أو للمساحقة والتهتك في التبرج وقول الفحش قريب في المقام. والمرجع في موارد الشك هو عموم هذا النهي عن العضل وهذا الأخذ لان الشبهة في الخاص مفهومية( وَعاشِرُوهُنَ ) أي غير من استثني عضلها من الزوجات( بِالْمَعْرُوفِ ) وهو معروف( فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَ ) لبعض الأمور من خلقتهن وغير ذلك فحاسبوا أنفسكم في هذه الكراهة فربما تزول إذا جوزتم ان يكون في هذه المرأة خير يهون عنده ما كرهتموها لأجله بأن يجعل الله فيها الخير ويبارك في نسلها ويبارك لكم بسببها( فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ) يرغب فيه ويرغب في ذلك الشيء لأجل رجائه فيه. فأمسكوا من جماح نفوسكم في الكراهة وروضوها على الأخلاق الفاضلة وحسن المعاشرة مع المؤمنات وتفكروا في عواقب الأمور فكم شوهد من مبغوضات النساء من صار منهن النسل الطيب النافع ومن كانت هي المواسية والنافعة عند الشدائد والمرض والشيخوخة نفعا لا يوازيه شيء من احسان الرجل في الرفاهية وكم وكم ينعكس الأمر في المحبوبات - وهناك أيضا مورد يدعو الإنسان لأن يحمل زوجته بأنواع الوسائل على ان ترد عليه شيئا مما أعطاها من المهر. وذلك إذا أراد ان يطلقها ليستبدل بها زوجة أخرى فقال جل شأنه في الزجر عن ذلك والتوبيخ عليه ٢٠( وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً ) مبالغة في كثرة ما يعطى على خلاف العادة لأجل التأكيد في الزجر لئلا يقال بقي عندها الشيء

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله مصدر الفضائل

وفاء النبي

كان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله من حيث الوفاء ، لا ينسىٰ احداً قدم له خدمة ، الىٰ آخر لحظة في حياته ، فحليمة السعدية التي كانت مرضعته في الصغر ، كان كلما رآها يناديها يا اماه ، ويحسن اليها قدر استطاعته.

وفي معركة بدر أسر المسلمون مجموعة من المشركين ، وبأمر من الله سبحانه وتعالىٰ تقرر ان يدفع كل اسير فدية لكي يتحرر ، وكان من بين الاسرىٰ ، ابو العاص بن ربيع ، زوج ابنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله زينب ، وكان قد تزوجها في مكة قبل البعثة ، كانت زينب في مكة ، فعلمت بحكم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقامت بأعداد فدية لتحرير زوجها أبي العاص ، وارسلتها بيد رجل الىٰ المدينة ، ومن جملة أموال الفدية كانت هناك قلادة لاُمّها خديجةعليها‌السلام اهدتها إليها ليلة زفافها.

وصل الرجل الىٰ المدينة ، فدخل علىٰ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقدم فدية ابي العاص الىٰ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فما ان رأىٰ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قلادة خديجة بين تلك الاموال ، حتىٰ تأثر كثيراً وتذكر حب خديجة واخلاصها ، فانهال من عينيه الدمع.

أجل ، تذكر النبي ان هذه القلادة تعود لخديجة ، تلك الزوجة التي بذلت جميع أموالها في سبيل أهدافه السامية ، تلك الزوجة التي تحملت لوم نساء

١٠١

العرب لحبها اياه ، خديجة تلك الوفية التي وقفت الىٰ جانبه ونصرته في جميع المواقف والابتلاءات ، فكم من ايام الصيف الحارّة التي كان الرسول يأوي فيها الىٰ الصحراء أو الىٰ جبال مكة من شدة الجراحات التي كانت تصيبه من جراء الرمي بالحجارة ، فكانت خديجةعليها‌السلام تحمل كوزاً من الماء وتبحث عنه بين الاحجار أو كثبان الرمل وهي تناديه بصوتها الحنون « حبيبي محمد » ثم تأتي به بكل عطف الىٰ البيت.

والآن ، يرىٰ رسول الله قلادة خديجة تلك امامه ، اذن من حق الرسول ان يتأثر ويذرف الدمع ، فهذا التأثر وذلك الدمع يعبر عن وفاءه ، صحيح انها رحلت إلّا انَّ حبّها لا يزال ثابت في قلب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لقد رحلت خديجة الّا انَّ خدماتها للاسلام ورسوله لا زالت باقية في التاريخ.

النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله معلم الاخلاق

كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مثالاً واُسوة في الاخلاق في حياته بين اولئك الناس الخشنين والبعيدين عن أي خلق اجتماعي. فلم يشتم احد علىٰ مدىٰ عمره ، ولم يأذي احداً بكلمة جارحة ، فكان مجلسه علىٰ شكل دائرة كي لا يمتاز احد عن الآخرين ، ولا يجعل للمجلس صدر وذيل ، حتىٰ ركبتيه كانتا عندما يجلس بمستوىٰ ركب الآخرين ، أو في بعض الاحيان متأخرة عنهم بعض الشيء ! ولم يكن يرتب هيئته أو محاسنه أو ملابسه في حضور الآخرين.

ولم يكن يمدّ رجليه في مجلس ، ولم يكن يأكل بشكل يؤدي الىٰ تنفر

١٠٢

الآخرين من الطعام ، ولم يحدد يوماً مكاناً له في مجلس ، حتىٰ انه كان ينهىٰ اصحابه عن ذلك.

وكان يجلس اين ما وجد مكاناً خالياً ، وكان اذا جلس مع أحد لا ينهض حتىٰ ينهض ذلك الشخص ، لا يقهقه اذا ضحك ، يحترم الشيوخ والطاعنين في السنّ بما يناسب مكانتهم ، وينظر بعطف الىٰ الصغار ، لا يقطع كلام أحد ، وهو ايضاً لا يتكلم الّا عند الضرورة ، لا يجادل في الحديث ، ولا يلوم احد لعيب فيه ، بل كان يوصيه برفع ذلك العيب علىٰ انفراد ، واذا كان في مجلس وقاموا بعمل يؤذيه ، كان يتغافل عنه ، لا يتكأ علىٰ شيء عند جلوسه ، يحترم الاشراف والكبار ، ينقل عبد الملك بن هشام في كتاب « السيرة » : عندما جاء المسلمون باسرىٰ قبيلة طي الىٰ المدينة ، كانت بينهم ابنة حاتم الطائي ، فقالت له : يامحمد ، هلك الوالد وغاب الوافد.

كان ذلك في اليوم الأول الذي التقته فيه ، لكنها لم تسمع جواباً منه ، فستيأست من النتيجة ، وفي ثالث يوم حيث التقته ، لم تكن تريد الكلام ، لانها لم تجد كلامها مؤثراً ، لكن الامام علي أمير المؤمنينعليه‌السلام اشار اليها بتكراره ، فقالت وللمرّة الثالثة : هلك الوالد وغاب الوافد.

فقال لها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : كنت سمعت كلامك وحررتك ، لكني انتظرت قافلة اطمئن اليها كي اودعك معها حتىٰ تعودي الىٰ موطنك ، فعلمت ابنة حاتم الطائي انها نالت العفو منذ اليوم الأول ، وعدم اعطاء الجواب كانت انتظاراً للقافلة تردّها الىٰ موطنها.

١٠٣

تواضع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله

رغم جميع تلك القوة والسلطة التي كانت لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد كان متواضعاً مع الناس ، ومع ان قوته كان ترهب الدول العظمىٰ آنذاك ، لكنه كان يسبق الآخرين في السلام ، فلم يرىٰ طول حياته ان يسبقه احد في السلام ( حتىٰ الاطفال ) ، واذا كان ذبح شاة ، كان يذبحها بيده ، وكثيراً ما كان يحدث ان يدعوه الفقراء الذين كانوا يفترشون الارض الىٰ ان يجلس ويأكل معهم ـ وهو في طريقه ـ فكانصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو القائد العظيم ورسول رب العالمين ، يجلس علىٰ الارض الى جانبهم بكل سرور ، ويأكل معهم ، كان يقبل بدعوة غلام اسود لأكل قرص شعير ، ويساعد اهل بيته في ادارة الرحىٰ ، وكان يحلب النعجة بيده ، ويرقع ثوبه أو نعله وعندما كان متجهاً الىٰ حرب خيبر كان يركب حماراً ، لجامه وسرجه من ليف النخل ، وكان ذلك يعبر عن التواضع في ذلك الزمان ، وفي احدىٰ المرّات كل رجلاً يحدثه ويرتجف ، فتألم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من ذلك كثيراً ، وقال له : لماذا تخاف منّي ؟! فأنا لست ملكاً ، انا نبي.

أي انّ الناس يخافون عندما يقفون امام ملوك وجبابرة الارض ، لكن يجب ان لا يخافون من الانبياء والرجال الربانيون ، لأنهم مع قوتهم ، يحبون للناس الحياة.

وعندما دخل عليه عدي بن حاتم قبل ان يسلم ، اجلسه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله علىٰ ردائه وجلس هو علىٰ الارض وهناك نماذج كثيرة علىٰ تواضع رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله في حياته ، تجعل القارىء والمشاهد في غاية الحيرة ، أوليس من العجب ان رجلاً يسيطر علىٰ الجزيرة العربية ، وفي قبضته حياة وأموال اهلها ،

١٠٤

يذهب بعد كل صلاة صبح الىٰ طريق ينتهي بأحد آبار الماء ، حتىٰ تأتي النساء اللاتي لهن اطفال صغار ، فيضعن اطفالهن عند الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله والرسول يداعبهم ويلاعبهم حتىٰ تنتهي امهاتهم من سحب الماء من البئر ؟!

جود النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وكرمه

كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله معروفاً بين جميع العرب بجوده وكرمه ، فبالاضافة الىٰ ان بني هاشم معروفين بالسخاء والكرم ، الّا ان الناس ، كانت تنظر بعين اخرىٰ الىٰ الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويميزونه بالايثار.

كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقدم الآخرين على نفسه في الحياة ، وكان يعطي الفقراء من الأكل واللبس الذي يحتاجه هو ، كان يبقىٰ جائعاً لفترات طويلة كي يشبع الآخرين ، وكان يرقع ملابسه لكي العراة قميصاً جديداً ، فلم يسأله احد ورجع مأيوساً ، ولم يأته صاحب حاجة ورجع بيد فارغة.

ولم يكن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يحلّ مشاكل الناس المالية فقط ، بل كان يسعىٰ في حلّ كل مشكلة يواجهونها.

قضاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله

ينقل لنا التاريخ :

جاء رجل ثري من المسلمين يوماً الىٰ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فرآه يرتدي قميصاً مرقعاً ، فأهدىٰ للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله اثنا عشر درهماً يشتري بها قميصاً له ، فأعطاها النبي

١٠٥

لعليعليه‌السلام كي يشتري له قميصاً ، ذهب أمير المؤمنينعليه‌السلام الى سوق واشترىٰ قميصاً من القطن ناعماً بالدراهم ، وجاء به الىٰ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، نظر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الىٰ القميص وتلمس نعومته ، وقال : يا علي ! لا يليق بي ان ألبس هذا القميص الناعم والثمين ، لأنني أمير قوم لا يملك بعضهم الّا قميصاً مرقّعاً ، خذ القميص واذهب للسوق وأقل المعاملة(١) .

فأخذ الامام عليعليه‌السلام القميص الىٰ السوق وأقال المعاملة وجاء بالاثني عشر درهماً فقدمها للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فذهب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مع عليعليه‌السلام الىٰ السوق لكي يشتري قميصاً اقل ثمناً من ذلك ، وفي الطريق شاهد جارية تبكي تذرف الدمع ، وتجول في الطريق تبحث في الارض ، لكنها تزداد في كل لحظة حزناً ، فما أن رأىٰ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك حتىٰ توقفت قدماه عن السير ، فتقدّم إليها وقال لها بعد السلام : ماذا يبكيك وعن اي شيء تبحثين ؟

لم يكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يستطيع ان يرىٰ الجارية تبكي ، لذلك سألها عن سبب بكاءها كي يساعدها في حلّ مشكلتها ، فهل كان الرسول يستطيع المرور منها وهي تبكي دون ان يسأل عن حالها ؟! طبعاً لا.

ولماذا هناك صنف من الناس ، لا يتأثرون من رؤية افجع المشاهد ، ولا يهمهم ان يروا معاقاً ، أو مريضاً ، أو مظلوماً ، أو يتيماً ، أو عرياناً الخ ،

________________

(١) والاقالة ، عبارة عن : اذا ندم المشتري او البائع من المعاملة التي تمت وارجع الاخر لفسخها ، فاذا كانت البضاعة التي تعاملوا عليها خالية من العيب ، يستحب في الاسلام ان يقبل الطرف الذي رجع اليه الفسخ.

١٠٦

مثل هؤلاء الناس يجب ان يشك في انسانيتهم.

والغريب ان البعض الآخر لا يتأثر فقط بمشاهدة احزان الناس وآلامهم ، بل يلتذ من ذلك احياناً ، وهؤلاء ممن ينظرون الىٰ البشرية علىٰ انها مجموعة من الاعداء ، يجب ان تنهش بعضها.

اما النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فكان يتألم اذا راىٰ شخصاً محروماً او يعاني من مشكلة ، لذلك فما ان رأىٰ الجارية تبكي حتىٰ سألها عن سبب بكاءها.

رفعت الجارية رأسها ، ونظرت الىٰ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من خلف سحب الدموع ، وردتعليه‌السلام ، ثم قالت يا رسول الله :

ارسلتني سيدتي بأربعة دراهم كي اشتري بها لحماً ، وقد ضيعتها ، فبحثت عنها كثيراً في الطريق لكني لم اجدها.

فقدّم لها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله مباشرة اربعة دراهم من تلك الدراهم الاثني عشر ، واتجه من جديد الىٰ السوق ، فرأىٰ في الطريق رجلاً فقيراً يرتدي قميصاً بالياً.

جاء الرجل الىٰ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : يا رسول الله ! قميصي ممزّق ولا يستر جسدي.

فقال له النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : تعال معي الىٰ السوق حتىٰ اشتري لك قميصاً ، فذهب الرجل مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الىٰ السوق. فأشترىٰ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بالدراهم الباقية قميصين كل واحد منهما بأربعة دراهم ، فأخذ هو واحداً واعطىٰ الآخر للمسكين ، وتوجه هو الىٰ البيت ، وفي الطريق وجد تلك الجارية بيدها اللحم وهي تبكي ايضاً ، فسألها من جديد عن سبب بكائها ، فقالت : لقد طال خروجي

١٠٧

من البيت واذا رجعت ستعاقبني سيدتي.

فقال لها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : تعالي معي لأشفع لك عند سيدتك ، فمشت الجارية خلف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتىٰ وصلوا الىٰ البيت ، طرق الباب ، وسلمّ علىٰ أهل الدار ، فلم يسمع جواباً وللمرّة الثالثة سلّم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فردّت عليه سيدة من داخل البيت ، ثم قالت : ما الذي أوجب ان تأتي يا رسول الله الىٰ دارنا ؟

فقال رسول الله : جئت لاشفع لهذه الجارية عندك ، فلا تعاقبيها.

فقالت المرأة : سوف ان اُعاقبها فقط بشارة بمقدمك الىٰ دارنا ، بل أهبها إليك يا رسول الله.

أمّا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وبعد ان شكر المرأة ، قال للجارية : وانا اعتقك في سبيل الله ، ثم التفت الىٰ عليعليه‌السلام وقال : ما أكثر بركة هذه الدراهم الاثني عشر ، لانها كست عريانين واعتقت جارية.

اجل ، فهذه سيرة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في حياته ، لم يكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يبذل امواله فقط من أجل المحرومين والمستضعفين ، بل كان يبذل كل ما في جهده لحلّ مشاكل الآخرين ، لأنه كان لايطيق ان يرىٰ شخصاً يتألم ولا يشاركه هو آلامه.

هذه النماذج صغيرة لبعض صفات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولو اردنا ان نعدّ جميع فضائله فان اطنان من الورق لا تستوعب جانباً منها.

١٠٨

اصدقائي الاعزاء !

كيف تفكرون انتم بحق مثل هذا الرجل ؟! فلو ان احداً وقف امام مثل هذا الرجل بجميع تلك الفضائل والملكات الاخلاقية التي تفوق تصور البشر ، ماذا عساه ان يفعل ، محباً كان أو مبغضاً ، وصديقاً كان ام عدواً ؟!

ألم يكن أهل الجزيرة العربية محقّون ـ وهم في جهلهم ـ أن يضعوا أرواحهم على أكفَّهُم أمام هذا الرجل ومن أجل بلوغ اهدافه السامية ؟!

أليست هذه الملكات الفاضلة في شخص لم يدرس جملة واحدة علىٰ مدىٰ حياته ولم يتصل بأي من العلماء ، ذلك الرجل الذي عاش في وحل الجزيرة العربية بين ناس لا يعرفون الّا سفك الدماء والنهب ووأد البنات ، وبشكل عام بعيدون عن الانسانية تماماً ، اكبر دليل على حقانيته ؟!

أليس ذلك دليلاً علىٰ صدق كلامه ، الذي يعتبر الله معلمه الوحيد في الحياة. فيقول :

« ادبني ربي فأحسن تأديبي ».

ألا يمكن وبعد مشاهدة تلك التصرفات الاخلاقية في ذلك الرجل ، ان نقول ، ان هذا الرجل ، الهي ، سماوي ، رجل الحق ، والمرسل من قبل الله ؟!

الاصدقاء جميعهم : الحق ما تقوله ، لأنه لم يسبق في تاريخ الانسانية لرجل ان يجمع تلك الصفات والملكات الاخلاقية دون ان يتأثر بالبيئة التي عاش فيها !

الشيخ : والآن اترككم لتحكموا بانفسكم ، هل المعجزات اكثر تأثيراً من

١٠٩

هذا الاسلوب الاخلاقي في تسخير قلوب الناس ؟!

العقيد : أيُّها العمّ ! لقد اقنعتنا منذ بداية كلامك حين قلت : اذا كان نفوذ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في قلوب الناس يعود للمعجزات التي أظهرها لهم ، لكان تقدم الاسلام في مكة قبل المدينة واكثر منها. طبعاً استفدنا كثيراً من الدلائل التي اوردتها في بيان الاسلوب والنهج الاخلاقي الذي اتبعه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مع الناس الذين كانوا فاقدين للصفات الانسانية ، وقد وجدت كلامك مطابقاً لأحدىٰ آيات القرآن الكريم ، حيث يقول :

( وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) (١) .

لأن الله تبارك وتعالىٰ تحدث في هذه العبارة المختصرة والبليغة عن سرّ نفوذ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في قلوب الناس آنذاك ، وذلك السرّ هو النهج الاخلاقي الذي اتبعه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وليست المعجزات التي اظهرها.

الطالب الجامعي ( حسن ) : اللعنة علىٰ اولئك الذين ينشرون اباطيلهم كالطاعون في بلادنا ، خاصة بين الشباب والمثقفين ، في حين ان كلامهم ما هو إلّا تُهم وافتراءات وشبهات ، ليبعدوا الناس من الاسلام الذي جاء لسعادة الانسان والمجتمع. والكثير من امثالي ، أمّا غير مطلعين علىٰ العقائد الدينية تماماً ، أو ان اطلاعهم محصور بتلك المواضيع التي تعلموها في الصغر من آبائهم وامهاتهم ، وبالاضافة الىٰ جهلهم بالاسلام ، فهم غير مستعدين لدراسة القضايا الاصولية والعلمية في الاسلام ، أو حتىٰ السؤال من الاشخاص الذين يمتلكون معلومات كافية في هذا المجال ، لكي يسمعوا الجواب المناسب.

________________

(١) سورة آل عمران : ١٥٩.

١١٠

أصدقائي ، الحقيقة انني وقبل كلام هذا العمَّ الفاضل ، كنت اوافق سيادة العميد الرأي بأن نفوذ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في الناس بالماضي هو بسبب المعجزات التي أتىٰ بها ، وكما تعلمون فالعلم اليوم لا يصدق المعجزة او اي شيء خارج عن العلل والعوامل الطبيعية ، وذلك كله بسبب شائعات يلقيها اناس مغرضون في المجتمع وبين الشباب خاصةً ، لكني اشكر الله الذي وفقني في هذه السفرة ، لان التقي بهدا الرجل العالم والاستماع الىٰ كلامه ، فعلمت وتيقنت ان نفوذ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في قلوب الناس ، هو واحدة من اكبر الادلة علىٰ نبوته.

حقيبة الدكتور فارغة

واضاف حسن : لكن ومن اجل مزيد الاستفادة ، نرجوا منه ان يتحدث عن المعجزات من زاوية العلوم العصرية ، من اجل ان تحل ـ لربّما ـ هذه القضية بالنسبة لنا أيضاً.

الاصدقاء جميعهم : موافقون.

الدكتور : أيُّها السادة ، ألم تفكروا بالشيخ الذي يتكلم منذ ساعات ، انصفونا قليلاً ، دعونا نأخذ استراحة ونغير جواً ، فمن جاء معه بفاكهة او حلويات. عليه ان يخرجها !

العقيد : دكتور ! يظهر من كلامك انك تعبت ، وتريد ان تأكل ما جلبه الاصدقاء معهم الىٰ طهران ، وتجعلهم يرجعون الىٰ بيوتهم بأيد خالية مثلك ، عند ذاك سيواجهون عصيَّ نساءهم.

١١١

حسن : دكتور ، تريد ان توقعنا في فخَّ ، لكن اطمئن حيلتك لم تنطلي علينا ، وقد نبّهنا العقيد اليها ، وحقك لا نحن تعبون ولا نعطيك من فاكهتنا ولا حلوياتنا.

الدكتور : وبعد ضحكة طويلة ، أقسم انني لست تعباً ولا اُريد اكل شيء ، بل رأفة بهذا الشيخ.

الشيخ : ارجوك يا دكتور دعني وشأني ولا تجعلني سلَّماً الىٰ فاكهتهم وحلوياتهم !

فأنفجر الجميع بالضحك.

الدكتور : عجيبة هذه الشلَّة التي اجتمعت معها ، أيُّها الشيخ ! كان املي الوحيد فيك من بينهم جميعاً ، فلماذا اصبحت معهم ؟! لذلك ومن اجل الدفاع عن نفسي ، سأضطر لان اكون اول من يفتح حقيبته ، لكي تعلموا ان حقيبتي ليست خالية ، ولكن عليكم ان تخرجوا كل ما لديكم.

وبعد تلك العبارة ، نهض الجميع الىٰ حقائبهم ، وارتفع صوت الحقائب وهي تفتح ، لكن وبعد ثوان اتّضح ان حقيبة الدكتور فارغة ، فلا حلويات ولا فاكهة ، وهو أيضاً بهت من ذلك ، فلا يجد شيئاً كلما بحث اكثر في زوايا الحقيبة ، وفجأة ارتفع صوت الجميع بالضحك.

العقيد : دكتور ، الظاهر ان ظنّي كان في محله ، أم ان فاكهتك وحلوياتك غيبية ، لا تراها اعين ابناء الحلال.

الدكتور وهو ضاحكاً : سيادة العقيد ، اللعنة علىٰ ذلك الخادم !

١١٢

اقسم ، انني البارحة كنت في منزل مضيفي ، فأوصىٰ خادمه بأن يذهب للسوق ويشتري لي كيلو من الحلويات وثلاثة كيلوات من انواع الفاكهة ، لأزيل بها مشقّة السفر.

وقد ذهب الخادم ، ثم جاء بعد ساعة وسمعت صوت حقيبتي تفتح ، لذلك كنت مطمئناً الىٰ انني احمل معي حلويات وفاكهة ، والان علمت ان ذلك الخادم فعل فعلته معي ، لانه من جهة انزل النقود في جيبه ومن جهة اُخرىٰ اخجلني امامكم ، لذلك اُقدّم اعتذاري.

في النهاية ، بدأوا يأكلون الحلويات والفاكهة التي جاء بها باقي الاصدقاء ، وقضوا فترة من الوقت علىٰ ذلك.

١١٣

المعجزة برأي العلماء والعلوم العصرية*

حسن : أيُّها العمّ ، أرجوا ان تبدأ البحث الذي وعدتنا ايّاه ، أي المعجزات برأي العلماء والعلوم العصرية.

الشيخ : بديهي أفضل دليلاً علىٰ امكان الشيء وجوده العيني ( الموضوعي ) ، ومع ان اغلب الحقائق الموجودة في العالم لها اسباب وعلل طبيعية ، لكنه لا احد ينكر انه رأىٰ في حياته أموراً غير عادية لا تنسجم والاسباب الطبيعية ، لربما تكونون قد شاهدتم بعض المرضىٰ الذين خضعوا للعلاج العلمي بأشراف اشهر الاخصائيين في الطب ، إلّا انهم لم يصلوا الىٰ نتيجة فقط ، بل سمعوا اجوبة تبعث علىٰ اليأس بصراحة من اطبائهم ، لكن هؤلاء الاشخاص ، شفوا من خلال تحول معنوي دفعة واحدة ، وهذه الحقائق الخارجية كثيرة بحيث لا يستطيع أي شخص انكارها ، ومن تلك الامراض ، العمىٰ الولادي والمعاقون الذين نشاهد ونسمع شفاءهم علىٰ الاقل مرّة أو مرتين في السنة ، في احدىٰ مشاهدة الائمةعليهم‌السلام او سائر المشاهد واماكن الزيارة.

وقبل ان أتناول البحث العلمي في هذا المجال ، سأذكر لكم نماذج علىٰ

________________

(*) على الرغم من أن موضوع المعجزات ، أحد أهم المسائل والمشاكل الدينية المعاصرة ، لكننا طرحنا الموضوع من جهة كونه مورد استناد جميع الأديان الالهية والأنبياء الكرامعليهم‌السلام وهدفنا منه هو اثبات وجود المعجزة فقط.

١١٤

ما قلته وشاهده مئات الناس وله أدلة قطعية.

الاعمىٰ الذي أبصر

لقد رأيت شخصياً ( مثل مئات الناس ) رجلاً أعمىٰ منذ الولادة في مشهد قبل سنوات شفي بعد توسله بالامام الرضاعليه‌السلام ، وقد شاهد ذلك العديد من اهالي مشهد الذين لا يزالون علىٰ قيد الحياة ، والرجل أيضاً حي الآن ، والعديد من اهالي مشهد يعرفونه ، وقد ساعدوه عندما كان أعمىٰ ، هذا الأعمىٰ وبعد أربعين سنة من عمره ، كان في السنوات الاخيرة تقوده ابنته الصغيرة ، وتدور به الشوارع والازقة والصحن الشريف للأستجداء.

وفي احد الايام يكلمه شخص بالباطل في ابنته ، فيحزن بشدّة دفعة واحدة ، ويحدث عنده تحوّل روحي ، فتقوده ابنته وهو يذرف الدمع الىٰ الصحن الشريف ، ويتوسل الىٰ الامام الرضاعليه‌السلام ان يشفي الله بصره ، حتىٰ لا يحتاج في خروجه من البيت الىٰ قيادة ابنته ، ولكي لا يسمع بعد ذلك مثلما سمعه من ذلك الرجل ، بحقِّها ، وفيما لم يمض عليه حتىٰ ساعة من ذلك الانقلاب الروحي ، فجأة يجد نفسه مبصراً ، فيتخلص من تلك الحياة الاليمة ، والرجل حيّ لحد الآن.

الرجل الذي لا يجد لقدمه علاجاً

القصة الثانية ، تخص احد اصدقائي من طلبة العلم ، ففي احد الايام يشعر

١١٥

بألم في رجله ، بحيث لا يستطيع ان يضع كعبه علىٰ الارض ولا المشي إلّا بالاتكاء علىٰ العصىٰ ، وقد رآه العديد من اصدقائه والكثير من أهالي طهران وقم علىٰ تلك الحالة سنين متوالية ، وقد راجع الرجل الكثير من اشهر اطباء طهران ، لكنهم وبعد الصور الشعاعية التي أخذوها لقدمه ( والصور موجودة لحدّ الآن ) قالوا له ان عظم الكعب فاسد وليس له أي علاج ، فيأس المريض نهائياً من العلاج.

بعد سنوات يسافر الرجل للحج ، وبانتهاء الموسم ، يعرّج علىٰ الكاظمية لزيارة الامامين الكاظم والجوادعليهما‌السلام ، هناك يلتقي بأحد اصدقائه الروحانيين ( طلبة العلم ) فيشكو له شدّة الألم التي يعانيها من قدمه ، فيعرّف له صديقه طبيباً يهودياً معروفاً في بغداد.

يقول الرجل : مع انني كنت ضيفاً علىٰ الاماميين موسىٰ بن جعفر الكاظم ومحمد بن علي الجوادعليهما‌السلام فلم اسنحي في ان اراجع رجلاً يهودياً في مرضي ( مع ان الرجوع للطبيب غير المسلم جائز في الاسلام ولا اشكال فيه ).

يقول الرجل كلامه بتمام الاخلاص والنقاء القلبي ، ودون أي تصنّع ، يدير وجهه ويضغط علىٰ عصاه ويدخل الحرم الطاهر ، ويبدأ بالبكاء والتوسل ، وبعد دقائق يرىٰ ـ متعجباً ـ قدمه عادية ، يستطيع ان يقف عليها دون الحاجة الىٰ عصاه ، وفي تلك اللحظة التي تذكر فيها العصىٰ أخذ يبحث عنها فلم يجدها ، لقد ضاعت في زحمة الحرم ، وهو لم يعد بحاجة إليها.

يعجب المريض لذلك الحدث ، ومن اجل ان يطمئن لشفاء قدمه ، يبدأ

١١٦

بالركض في الصحن الشريف ، فيرىٰ نفسه قد شفي حقاً ، وبعد ايّام يعود الىٰ طهران ويذهب الىٰ الاطباء الذين عجزوا عن علاجه ، فيحدثهم بما جرىٰ له ، فيعقد الاطباء لجنة لدراسة وفحص رجله ، فيأيدون شفاءها ويعترفون بأن الذي حدث ما هو إلّا معجزة ولا غير.

علماً ان الرجل واطباءه لا يزالون احياء ويسكنون في طهران.

حدث غريب في زاغ مرز

والاغراب مما ذكرناه ، هو ما حدث في زاغ مرز(١) قبل أربع سنوات ، خلاصته : في احدىٰ الاُسر المحترمة تمرضت طفلة بسن الثامنة مرضاً شديداً ، فكانت تعاني من الحمىٰ والضعف المفرط والصفار.

اخذها أهلها الىٰ اطباء مدينة بهشهر ، ووصفوا لها ادوية كثيرة ، دون ايّة نتيجة ، بعد ذلك اخذوها الىٰ اطباء مدينتي ساري وبابل ( اهم مدن محافظة مازندران في شمال ايران ) ولكن دون نتيجة أيضاً ، فجاءوا بها الىٰ طهران ، وتم تشكيل لجنة طبية لعلاجها ، وبعد فحص واختبارات دقيقة اعطوها بعض الادوية وعاد بها أهلها الىٰ قريتهم ، لكنهم لم يشاهدوا اي تحسن في صحتها ، لذلك اعادوها مرّة اخرىٰ الىٰ طهران ، وبعد فصوحات اخرىٰ وصور شعاعية ادخلوها مستشفىٰ النجمية ، وطبقاً لتوصية ثاني لجنة طبية ، قاموا بعملية جراحية لها ، لكنها أيضاً لم تتحسن بعد رجوعها الىٰ قريتها ، لذلك جاءوا بها للمرّة الثالثة الىٰ طهران وادخلوها غرفة العمليات ثانيةً ، لكنهم لم يشاهدوا أي

________________

(١) قرية تبعد ثلاثون كيلومتراً عن مدينة بهشهر ، احدى مدن شمال ايران.

١١٧

تغيير في حالها ، فحملوها للمرّة الرابعة الىٰ طهران ، وبعد عمليتن جراحيتين وكل تلك الادوية واللجان الطبّيّة ومصرف ما يقرب خمسة عشر الف تومان(١) ، اخبروهم بأن ابنتهم لا تشفىٰ وان عليهم ان يقطعوا الامل بتحسّن حالها وينتظروا ساعة وفاتها.

وطبيعي ان يتألم اهلها كثيراً لسماعهم ذلك الخبر ، لقد ذهبت جميع الاتعاب والمبالغ الكبيرة التي صرفوها سدىٰ ، فأعادوها الىٰ البيت وهم ينتظرون موتها.

ولانه لا بدّ ان يفيق الناس من سباتهم العميق ويتذكروا ربهم من خلال مشاهدة قدرته وعظمته ، ولكي يتم الله حجته علىٰ العقول القاصرة والتي انساها ضجيج العالم المادي كل شيء ، حتىٰ الله.

فنرىٰ تلك المريضة التي يأس منها كل الاطباء والتي تنتظر ساعة موتها ، تقول وهي علىٰ ضعفها وكأنها تتحدث عن عالم الغيب :

« خذوني الىٰ مشهد ، طبيبي الحقيقي ، هو الامام الرضاعليه‌السلام ».

وكان من الواضح ان لا يهتم اهلها بكلامها ، لان مثل هذا المريض الذي يأس منه جميع الاطباء وعجزت جميع الادوية عن علاجه ، لا يؤمن الناس عادة بشفاءه بالطرق المعنوية والسبل غير الطبيعية لذلك لم يتقبل احد حديثها سوىٰ اُمّها المسكينة ، لكن ما عسىٰ تلك الاُم ان تفعل امام معارضة جميع افراد العائلة ؟

________________

(١) ما يعادل ٢١٤٧ دولار وهو مبلغ كبير في ذلك الوقت. ( المترجم )

١١٨

لكنهم ـ وبعد مداولات كثيرة ـ وافقوا في النهاية ، وهم يرون أنَّ الفتاة لن تبلغ محطة القطار في بهشهر إلّا وهي جثة هامدة ، وكان هذا رأي اطباء بهشهر الذين استشاروهم في الأمر أيضاً ، لكن اصرار اُمّها كان أقوىٰ من جميع ذلك.

حملت الاُم ابنتها الىٰ بهشهر واشترت بطاقة قطار ، وغادرت بهشهر.

وممّا يُذكر ان موظفوا محطة القطار امتنعوا عن بيع المرأة في بداية الامر بطاقة القطار ، لانهم كانوا يرون ان المريضة سوف تموت في الطريق بعد ساعات من تحرك القطار ، لكن مكانة الاسرة المرموقة واحترامها جعلهم يوافقون في النهاية ويبيعوهم البطاقات.

كانوا قد حجزوا لها غرفة هي واُمها وثلاثة نساء اخريات لمداراتها خلال السفر ، وعندما جاء رئيس القطار لضبط البطاقات ، تشاجر مع اُمّها وأراد ان ينزلها في احدىٰ المحطات التي في الطريق ، لانه كان يقول انها ستموت قبل ان يصل القطار الىٰ مشهد. لكنه انصرف عن ذلك بعد مشاهدة بكاء اُمّها وتوسلها به ، حتىٰ وصل القطار الىٰ محطة گرمسار(١) فأنزلت الاُم ابنتها بمساعدة النسوة الثلاثة ، ثم ذهبت لشراء بطاقات الىٰ مشهد ، ومرّة اخرىٰ يمتنع موظف المحطة عن بيعهم بطاقات لانه يقول بأن المريضة ستموت في الطريق ، لكنه وبعد الحاح الاُم ومشاهدة دموعها ، يبيعهم بطاقات فيركبونها ويتحرك القطار نحو المشهد ، وتصل المريضة حيّة الىٰ مشهد ، فيحملونها مباشرة الىٰ الصحن الشريف ويضعونها خلف الشباك الحديدي الذي يقع خلف ضريح الامام الرضاعليه‌السلام والمريضة تلفظ انفاسها الاخيرة ، فيما الاُم تبكي وتذرف الدمع بحرقة وتطلب

________________

(١) احدىٰ المحطات علىٰ طريق مشهد ، حيث يلتقي فيها قطاري مشهد ومازندران.

١١٩

من ثامن الائمةعليهم‌السلام الشفاعة بشفائها من الله تبارك وتعالىٰ.

ثم جاء الليل ، وأوى الناس الىٰ بيوتهم للاستراحة ، قفلت أبواب الحرم والصحن الشريفين ، وذهب حرس وخدم الروضة الرضوية المقدسة الىٰ بيوتهم ، إلّا مجموعة من النساء بقيت خارج الحرم وداخل الصحن الشريف ، وبين الحين الاخر يأتون الىٰ المرأة يسألونها عن حال ابنتها التي لا تزال خلف الشباك الحديدي.

كانت الساعة تشير الىٰ نهايات الليل وقرب طلوع الفجر ، والاُم المسكينة تغط في نوم عميق من شدّة تعب السفر والمآسي التي انهكتها ، وهي علىٰ تلك الحالة ، اذا بيد علىٰ كتفها توقضها بشدة ، وصوت يقول بحنان : اُماه اُماه ! انهضي لقد شفيت ، أنا بصحة جيدة ، لقد شفاني الامام الرضاعليه‌السلام .

فتحت الام المسكينة عينيها بصعوبة ، فرأت ابنتها سليمة ذهب عنها المرض ، لكن المشهد كان مفاجئ بالنسبة لها فسقطت علىٰ الارض مغشياً عليها بعد صيحة عظيمة.

وعلىٰ أثر تلك الصيحة ، يحيط بهم الخدم الذين يحرسون الصحن الشريف ، وبعد دقائق تخرج المرأة من غيبوبتها وينتقل الجميع الىٰ فندق قريب.

كيف فسّرت برقية الشفاء ؟!

وفي أول فرصة ، تبرق الاُم خبر شفاء ابنتها وانطلاقتهم الىٰ البيت ، لكنهم يفسرون البرقية بموت الفتاة المريضة ، ويتصوّرون بأن كلمة شفاء كناية عن

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466