رحلتي من الظلمات إلى النّور

رحلتي من الظلمات إلى النّور12%

رحلتي من الظلمات إلى النّور مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 466

رحلتي من الظلمات إلى النّور
  • البداية
  • السابق
  • 466 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 240799 / تحميل: 8308
الحجم الحجم الحجم
رحلتي من الظلمات إلى النّور

رحلتي من الظلمات إلى النّور

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

يصرّح به الامام الصادقعليه‌السلام ، فيقول : حتىٰ يلحقهم بالناس(١) .

٤ ـ لا يقرّ الاسلام أي نوع من العلاقة التي تأتي بالضرر بين البشر ، منها في العلاقات المالية ، والرسول الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول في هذا الصدد : لا ضرر ولا ضرار في الاسلام(٢) .

٥ ـ وللاسلام رأي خاص فيما يتعلق بالمصادر الطبيعية ، مثل : الاراضي والمعادن والانهار والمياه الجوفية والغابات والبحار ، فملكيتها نوعاً ما تعود الىٰ الامام المعصومعليه‌السلام وتكون ادارتها والاستفادة منها وتوزيع العوائد الحاصلة منها ومن صلاحيات الحكومة الاسلامية الحقيقية.

________________

(١) وسائل الشيعة ، كتاب الزكاة ، الباب الثامن ، من ابواب المستحقين للزكاة ، الرواية رقم ٤.

(٢) وسائل الشيعة ، الباب الاول من كتاب الارث ، الرواية رقم ٩.

١٦١

بحث القوانين القضائية في الاسلام

الشيخ : لعل تطور النظام القضائي هو من اهم مفاخر امريكا واوروبا وانجازتهما القانونية والعلمية ، اما اهم الخطوات التي قاموا بها في هذا المجال ، فهي كالتالي :

أ ـ حصانة القاضي واستقلاله ، لكي يتمكن من محاكمة الخائن في اي مستوىٰ من السلطة.

ب ـ استقلال القاضي من الناحية المالية ، لكي لا يسهل شراء رأيه وارتشاءه.

يقال : ان بريطانيا خطت خطوات واسعة في هذا المجال ، فهي لم تحدد لقضاتها مرتباً شهرياً وانما تمنحهم شيكات بيضاء موقعة من قبل الدولة وهم يدنون فيها المبلغ الذي يحتاجونه(١) .

________________

(١) جاء في مجلة نقابة المحامين ، العدد ١٠٠ سنة ١٩٦٥ ، بحث حول المسائل القضائية في بريطانيا ، بعنوان : « العدالة في بريطانيا » ، وقد جاء في الفصل الخاص بـ « حقوق القضاء » ما يلي : لا يمكن أن نتوقع من القاضي الذي ليس مرفهاً في معيشته المقاومة أما الضغوطات والاغراءات والتهديدات ، فالقاضي يكون مستقلاً ومستغنياً عندما لا يشعر بالحاجة المادية ، لذلك فالمرتبات الشهرية التي تمنح للقضاء في بريطانيا كبيرة جدّاً ، وإذا علمنا أن مرتب أحد القضاة في محكمة عادية يبلغ ما يعادل ١٣ الف تومان وأن مرتب رئيس القضاة يساوي ١٧ الف تومان ، في حين أن استاذ جامعي في بريطانيا يأخذ مرتباً مقداره الفي تومان فقط ، عند ذلك يمكن مقارنة وضع القضاة من الناحية المادية مع غيرهم من موظفي الدولة. والطريف أن مرتبات القضاة تدفع لهم من صندوق خاص يموّل بشكل

١٦٢

ج ـ الجميع متساوون امام القاضي والقضاء ، وليس لأحد ميزة على آخر.

وهذا الموارد الثلاثة التي ذكرناها ، هي اهم ما حققته اوروبا وامريكا في مجال القضاء ، ومن حسن الحظ ان الاسلام ومنذ ان جاء به الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله اهتم بهذهِ الامور علىٰ اتم وجه وافضل شكل بوحي من الباري عزّ وجلّ ، في حين تلك الدول كانت آنذاك بلدان متخلفة وسكانها متوحشين.

البقرة المسكينة !

الدكتور : يظهر ان القطار توقف ، ما الذي يحدث ؟!

العقيد : ما تقوله صحيح ، فالجميع ينظرون الىٰ الخارج.

نهض الجميع من مقاعدهم واحنوا رؤوسهم لينظروا من الشباك الىٰ خارج القطار ! ونزل مسؤولوا القطار أيضاً واخذوا يتفحصون العجلات ، فلربما هناك من سحقه القطار ، في حين أخذ المسافرين يسألون مسؤولي القطار كل لحظة ، ماذا حدث ؟

وبعد ثوان تبين ان بقرة مسكينة صدمها القطار ولم يصب منها إلّا عظم الفك. أمّا البقرة الجريحة ، فدق نهضت بسرعة وهي مرعوبة واتّجهت

________________

مستقل من خزانة الدولة ولا يحتاج إلى تصويت مجلسي اللوردات والعموم.

عزيزي القارىء ، مع الأخذ بالتقرير الموثق الذي جاء اعلاه ، حول مرتبات القضاة في بريطانيا ، نصحح المعلومات التي وردت في نصّ الكتاب.

١٦٣

مهرولة بأتجاه القرية ، فيما الدم ينزف من فكّها. ومن جهة اخرىٰ ، هرع الكثير من اهالي القرية نحو القطار ، فالظاهر انهم علموا باصابة القطار لبقرتهم.

اما رئيس القطار فما ان رأىٰ هجوم القرويين ، حتىٰ خاطب السائق : استعجل ايها السيد ، بسرعة ما دام القرويون لم يصلوا ، فلو وصلوا ورأوا بقرتهم علىٰ تلك الحالة ، سيلقنوننا درساً بعصيهم ومساحيهم لن ننساه طول العمر.

فأسرع السائق الىٰ القاطرة وصَفَر القطار بشدّة ، فصعد المسافرون الذين كانوا قد نزلوا ، وتحرك القطار قبل وصول القرويين.

الدكتور : ايها العمّ ، ارجوا ان تستمر في حديثك حول القضاء.

اول مورد قضائي متطوّر في عالم اليوم

الشيخ : كما قلت لكم ان اهم ما تفتخر به اوروبا وامريكا اليوم هو استقلالية القضاة. في حين ان الاسلام قام بتلك الخطوة قبل الف واربعمائة عام ، وقد اهتم بهذا الموضوع في قوانينه القضائية ، كما ان الاسلام خوّل القضاة صلاحيات لم يخولها لأي احد سوىٰ الخليفة ونائبه.

يقول أمير المؤمنين عليعليه‌السلام في عهده لمالك الاشتر عامله علىٰ مصر : ثم اختر للحكم بين الناس افضل رعيتك في نفسك ، الىٰ ان يقول له : واعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له

١٦٤

عندك(١) .

اصدقائي الاعزاء !

وكما لاحظتم في ذلك العهد الذي كتبه امير المؤمنينعليه‌السلام ، فأنه اعتبر اعطاء القاضي قوة وصلاحيات مستقلة ضرورة لابد منها ، لكي لا يطمع فيه شخص ويغتاله بالدسيسة عند الوالي او الخليفة. اذن ، فنحن نشاهد الاستقلال والحصانة التي توصل اليها عالم اليوم واعطاها للقضاة في العهد الذي كتبه عليعليه‌السلام لمالك الاشتر بوضوح.

نموذجان تاريخيان في استقلال القضاء في الاسلام

هنا ، ومن اجل بيان مدىٰ قوة واستقلالية القضاء في الاسلام ، ننقل قصتين تاريخيتين :

الاُولىٰ : تنازع رجل غير معروف مع الهادي العباسي الخليفة حول بستان ، فأحتكموا عند القاضي ابو يوسف ، ورأىٰ ابو يوسف ان الحق لذلك الرجل الغريب ، في حين ان للخليفة ايضاً شهوده !

فأمر ابو يوسف الخليفة بادلاء القسم لأثبات صحة اقوال شهوده ، لكن الخليفة امتنع عن القسم ، واعتبر ذلك اهانة له ، وعندما رأى ابو يوسف ان الحق

________________

(١) نهج البلاغة : ١٣٥ ، طبعة مصر.

١٦٥

مع الرجل الغريب ، اعطاه البستان وادان الخليفة(١) .

الثانية : هو ان الفضل بن ربيع ، واحد من اراذل حاشية الرشيد الخليفة العباسي المعروف ، شهد لصالح الخليفة في حادثة قضائية ، فلم يقبل ابو يوسف القاضي شهادته ، فغضب الخليفة وقال للقاضي : لماذا لا تقبل شهادة الفضل بن ربيع ؟!

فقال القاضي : لأنني سمعت الفضل بن ربيع يقول لك : انا عبدك وغلامك. فإذا كان صادقاً ، فلا تقبل شهادة العبد لصالح سيده ، واذا كان كاذباً ، فنحن لا نقبل شهادة الكاذب(٢) .

المورد الثاني للتطور القضائي في عالم اليوم

أما المفخرة القضائية الثانية لعالم اليوم ، في استقلال القضاة مالياً فهو للحيلولة دون حاجتهم إلى الآخرين. ومن حسن الحظ فقد قام الاسلام بذلك قبل الف واربعمائة عام سبقت علىٰ عصر الذرّة والتطور الذي تتبجح به الدول الاوروبية وأمريكا.

وهذا هو الامام عليعليه‌السلام يقول في عهده لمالك الاشتر في هذا الصدد :

وافسح له في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته الىٰ الناس(٣) .

________________

(١) العدالة الاجتماعية في الاسلام.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) نهج البلاغة : ١٣٠ ، طبعة مصر.

١٦٦

المورد الثالث للتطور القضائي في عالم اليوم

الخصوصية الثالثة في اوروبا وامريكا بأعتبارهما دولاً حرّة ومتطورة !! هي المساواة امام القانون والقضاء فجميع الامتيازات تلغىٰ في المحاكم القضائية. وهذا الموضوع ايضاً موجود في قوانين الاسلام القضائية بشكل افضل وادّق. ( كما سيأتي في المبحث اللاحق ، ضمن البحث في : شروط القضاء الاسلامي ).

اصدقائي الاعزاء !

ان الاسلام وضع اساساً للمساواة في المحاكم القضائية ، بحيث استطيع القول وانا مطمئن كل الاطمئنان ان اكثر دول اليوم تقدماً وفي قلب اكثر الدول تحضراً في اوروبا وامريكا لا تستطيع ايجاد مثل تلك المساواة ، لن تأتي مثل تلك المساواة لعشرات القرون الاُخرىٰ في عالم البشرية.

الدكتور : صحيح ان ادق النظريات العلمية والقانونية التي تهتم بها اوروبا وامريكا حالياً وفي جميع شؤون الحياة المادية والمعنوية ، كان الاسلام قد طرحها بأحسن وجه قبل ألف وأربعمائة عام ، لكن يجب ان لا ننسىٰ ان عالم اليوم له تطوراته في مجال القضاء « خاصة فيما يتعلق بالمساواة في محاكم القضاء » ، وحتى لو كانت لا تصل الىٰ دقة وظرافة قوانين الاسلام من الناحية العلمية ، فليس كما ادعيت من اننا لن نصل بعد عشرات القرون الىٰ قوانين ، كتلك التي وضعها الاسلام.

١٦٧

الشيخ : سعادة الدكتور ، اقول بصراحة وقاطعية ، ان الاسلام يمتلك قوانين سامية في هذا المجال الاجتماعي والسياسي والامني الحيوي والذي هو اساس سعادة الفرد والمجتمع ، ولا يوجد لها مثيل في جميع انحاء العالم ، ولكي لا يتصور اصدقائي انني اتكلم اعتباطياً ولا يستند كلامي الىٰ شيء ، لابد ان اشرح قسم من قوانين الاسلام القضائية ، لتكون شاهداً حياً علىٰ صدق اقوالي ، وهذهِ الشروط ( القوانين ) يمكن تقسيمها الىٰ اربعة اقسام :

شروط القضاء الاسلامي الفريدة

القسم الاول :

من شروط الاسلام الفريدة في القضاء ، المساواة التي يجب ان يعملها القاضي فيما يتعلق بطرفيّ النزاع ، وهذا القسم من الشروط ، كالتالي :

١ ـ من اجل المساواة بين طرفي النزاع ، قرر الاسلام ان يكون محل جلوسهم في المحكمة في مكان واحد حتىٰ لو كان احدهم الخليفة والثاني فقيراً او عاجزاً ، فليس من حق الحاكم ( القاضي ) ان يميزَّ بين طرفي النزاع(١) .

لا بدّ من محكمة !

ينقل لنا التاريخ : في احدىٰ المرّات وبعد ان انهىٰ هارون الرشيد اعمال

________________

(١) المصدر نفسه.

١٦٨

الحج ، ذهب الىٰ المدينة ، فطلب منه اهل المدينة ان ينصب لهم قاضياً ، لأن قاضيهم كان قد توفي ، وقد عرّفوا اثنين من اتقىٰ علماء المدينة الىٰ هارون الرشيد لهذا الامر ، فأراد هارون ان يختبرهما ، فأحضر احدهما ، وفى حين كان وزيره واقفاً بين يديه ، قال هارون للرجل العالم : بيني وبين وزيري نزاع علىٰ ضيعة ، ثم شرح للعالم اسباب النزاع وطلب منه ان يقضي في الامر ، وبعد ان استمع الرجل العالم الىٰ كلام هارون وشرحه ، ثم الىٰ كلام الوزير وشرحه ، قال بعد تأملّ وتفكرّ : الحقّ مع الخليفة ، وقضىٰ لصالحه ، فأجازه هارون بالانصراف.

ثمّ أمر بأحضار العالم الآخر المرشح للقضاء ، وشرح له ايضاً ذلك النزاع الوهمي بينه وبين وزيره ( كما شرحه للعالم الأول ) ثم طلب منه ان يقضي في الامر.

فقال له العالم والفقيه : انا لا استطيع القضاء هنا ، لأن هذا المجلس ليس محكمة رسمية بنظر القانون القضائي الاسلامي ، ولان احد طرفي النزاع وهو انت تجلس في صدر المجلس وفي المكان المخصص لك ، في حين يقف الطرف الآخر وهو وزيرك بين يديك ، في حين ان الاسلام يأمر بأن يجلس طرفي النزاع في محل ومستوى واحد وان لا يكون بينهما أي تمايز وتفاضل.

وبعد ان سمع هارون الرشيد ذلك الكلام الذي يعبر عن روح اسلامية حرّة في الرجل ، نصّبه قاضياً للمدينة.

١٦٩

اصحاب الابل يشتكون الخليفة

وكنموذج عملي كامل آخر للمساواة القضائية في الاسلام ، قصة شكوىٰ مجموعة من اصحاب الابل استأجر المنصور العباسي ابلهم للسفر الىٰ الحج ، لكنه امتنع عن اعطاءهم اجورهم بعد رجوعه من الحج. فأشتكىٰ اصحاب الابل الىٰ قاضي المدينة ( ومكانته آنذاك لا تتجاوز مكانة رئيس محكمة في مدينة صغيرة اليوم ) تعدّي المنصور علىٰ حقوقهم ، فأرسل القاضي مباشرة خلف المنصور للحضور في المحكمة الرسمية ، وحاكمه وهو جالس الىٰ جانب اصحاب الابل ، ثم اخذ منه اجرة الابل بعد ان اعطىٰ الحق لأصحاب الابل في المجلس نفسه.

٢ ـ ومن اجل مراعاة المساواة الكاملة بين طرفي النزاع ، علىٰ القاضي المساواة في النظرة والاشارة بينهما ، وان لا ينظر الىٰ احدهما اكثر من الآخر او يشير عليه ، الّا في حالة الضرورة.

٣ ـ علىٰ القاضي ان يتكلم مع الاثنين بالتساوي لا يحق له الكلام مع احدهما اكثر من الآخر او ابراز محبة نحوه اكثر من الآخر.

٤ _ علىٰ القاضي الالتفات والاهتمام بكلامهما علىٰ حدّ سواء.

في عهده لشريح قاضي الكوفة ، يقول الامام امير المؤمنين عليعليه‌السلام :

ثم واس بين المسلمين بوجهك ومنطقك ومجلسك حتىٰ لا يطمع قريبك في حيفك ولا ييأس عدوك في عدلك(١) .

________________

(١) مستند الشيعة ، للنراقي ، كتاب القضاء ، اضافة إلى سائر كتب الفقه.

١٧٠

حضرة الدكتور ! لكم ان تحكوا هل يجب على القاضي ـ في اكثر دول العالم تحضراً ـ ان يراعي هذا الحدّ من المساواة بين طرفي النزاع ، ويساويهما حتىٰ في النظرة ؟!

هل يعتبر القاضي في اوربا وامريكا غير ملتزماً بالقانون اذا تحدث مع احد المتنازعين اكثر من الآخر واهتم به اكثر من غريمه ؟!

٥ ـ اذا سلّم علىٰ القاضي احد طرفي النزاع عند دخوله المحكمة قبل الآخر ، يحق للقاضي ان يقدم جواب سلامه علىٰ الآخر ، ولكن اذا سلّماً معاً ، علىٰ القاضي ان يقول في جوابهما : سلام عليكما. ولا يحق له ان يقدم جواب سلام احدهما علىٰ الآخر ، لكي لا يعطي بذلك امتيازاً لأحدهما علىٰ الآخر ويخلّ بالمساواة التي يجب ان تكون بينهما(١) .

حضرة الدكتور ! هل توجد من هذه الالتفاتات القانونية في قضاء عالم اليوم ؟! ألا يحق للقاضي في الدول الغربية ردّ سلام احد اطراف النزاع ومجاملته اكثر من الآخر ؟! وهل سيتعامل قضاة امريكا بالمساواة اذا كان طرفي النزاع احدهما رئيس جمهورية امريكا والآخر مستخدم عادي ؟!

القسم الثاني :

وهي الشروط التي يجب توفرها في القاضي لكي يتسلّم هذا المنصب الحساس والمقدس.

________________

(١) المصدر نفسه.

١٧١

سعادة الدكتور ! تعلمون جيداً ان الشرط الوحيد للقضاء في الدول الغربية وسائر دول العالم التي قبلت بنظامها الاجتماعي ، هو الكفاءة العلمية ، لكن الاسلام وضع شروطاً للقاضي منطقية وعقلانية ، تلك الشروط التي لا نجد مثيلاً لها في جميع القوانين القضائية لدول العالم العظمىٰ ، وبالنتيجة فأن اغلب المراجع القضائية في عالم اليوم ليست ملجأً تطمئن اليه الطبقات المحرومة والمستضعفة والشروط هي :

١ ـ من شروط القاضي في الاسلام وبالاضافة الىٰ كفاءته العلمية ، ان يكون عادلاً وله حصانة اخلاقية وعلمية ، لانه الملجأ الوحيد للطبقات المحرومة والمستضعفة والمظلومة في البلاد. لذلك كان من الضروري ان يكون صاحب فضائل اخلاقية وان يكون عفيفاً ، حتى يطمئن الضعفاء والمظلمون عند تعرضهم لظلم وعدوان الاقوياء ان هناك من يلجئون اليه ، وهم القضاة الذين سيأخذون لهم الحق ممن ظلمهم واعتدىٰ عليهم كائناً من كان وفي اي مستوىٰ من القوة والمسؤولية.

ولكن اذا كان القاضي منحرفاً اخلاقياً وغير عادل ومليء بالذنوب ، فهل سيحصل ذلك الاطمئنان لدىٰ الطبقات الضعيفة والمحرومة ؟! وهل سيكونون بمأمن من تعديات الاقوياء واصحاب الاموال ؟! وهل يستطع القاضي الغارق بالخيانة والذنوب ان يكون المدافع عن المحرومين والمظلومين ؟! وهل يمكن تحقيق توقعات الشعب من القضاة ، بمجرد امتلاكهم كفاءة علمية حتىٰ لو كان القاضي خائناً ومنحرفاً ؟!

الدكتور : صحيح فالاسلام ومن خلال هذهِ الشروط التي وضعها

١٧٢

للقاضي حقق اكبر انجاز علمي وقضائي. لان القاضي العادل والذي يمتلك اخلاقاً فاضلة وتقوىٰ هو الذي يستطيع ان يكون ملجأ للطبقات المحرومة والمستضعفة فيما لو تعرضت للظلم والاعتداء ، ولا يمكن لشخص غير عادل لا يمتلك فضيلة اخلاقية ان يقوم بتلك المهمة الحساسة والحياتية لمجرد امتلاكه شهادة دراسية.

الشيخ : والعدالة والتقوىٰ هما أوّل شرطان يجب توفرهما هي القاضي بعد كفاءته العلمية ، اما الشرط الاخرىٰ ، فهي :

٢ ـ ان يكون القاضي صبوراً ، ليتمكن من حلّ اعقد المواضيع القضائية بهدوء وتأمل ودون اي استعجال.

٣ ـ يجب ان يتمتع القاضي بالحلم وان لا يغضب لسماعه كلام طرفي النزاع الذي لا يخلو عادة من الكلمات الجارحة والنابية.

٤ ـ يجب ان يكون القاضي علىٰ مستوىٰ من الاخلاق الفاضلة ، للحد الذي اذا اطلع في يوم من الايام علىٰ خطأ ارتكبه. يسحب كلامه ولا يعتبر ذلك عاراً.

٥ ـ يجب ان يكون القاضي صاحب همّة عالية ، لكي لا يتوقع اجراً مقابل قضاءه بالحق وحكمه الصحيح.

٦ ـ يجب ان لا يكون القاضي عاطفياً ، لكي لا يتعب من الدقّة في القضايا ، ولا يقضي فيها من خلال نظرة سطحية ، بل يبذل كل ما في طاقته ووسعه للتدقيق فيها.

١٧٣

٧ ـ يجب ان يكون القاضي انساناً وقوراً وحكيماً لكي لا يتأثر بمدح او هجاء اطراف النزاع له.

وقد جمع الامام امير المؤمنينعليه‌السلام هذهِ الشروط كلها في عهده الذي كتبه لمالك الاشتر حينما ولّاه مصر ، فقال(١) :

« ثم اختر للحكم بين الناس افضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الامور ولا تحكمه الخصوم ولا يتمادىٰ في الزلّة ولا يحصر في الفيء الىٰ الحق اذا عرفه ولا تشرف نفسه علىٰ طمع ولا يكتفي بأدنىٰ فهم دون اقصاه واوقفهم في الشبهات ، وآخذهم بالحجج ، واقلهم تبرماً بمراجعة الخصم واصبرهم علىٰ تكشف الامور واصرمهم عند اتضاح الحكم ممن لا يزدهيه اطراء ولا يستميله اغراء ».

التعجب والحيرة !

الدكتور : رفاقي الاعزاء ، من خلال معلوماتي الكثيرة عن القوانين القضائية في العالم ، يجب ان اعترف بصراحة ، ان مثل هذهِ الشروط التي يجب توفرها في القاضي بحكم العقل والمنطق ، غير موجودة في جميع دول اوروبا وامريكا وفي صميم اكثر الدول تحضراً علىٰ الارض ، علىٰ الرغم من ذلك الضجيج الذي احاطوا انفسهم به ، ومما يبعث علىٰ التعجب والحيرة هو ان المسلمين وعلى الرغم من امتلاكهم مثل هذهِ الذخائر من القوانين القضائية العلمية يمدون ايديهم الىٰ انظمة الغرب ليستعيروا منها قوانينهم الوضعية.

________________

(١) نهج البلاغة : ١٣٠ ، طبعة مصر.

١٧٤

والاعجب من ذلك كله هو ليس فقط عدم تطبيق هذهِ القوانين في المجتمعات الاسلامية ، بل ان اغلب المسلمين لا يعلمون بوجود مثل هذهِ القوانين الراقية والمتطورة.

اصدقائي الاعزاء !

من خلال استماعي لهذهِ الحقائق والمعارف العلمية التي جاءت في هذا الدين المقدس والذي ظهر قبل الف واربعمائة عام في عالم مظلم ، من أجل خلاص البشرية ، ومقارنتها بقوانين اكثر البلدان تحضّراً في اوروبا وامريكا ، اعطي تمام الحق للعلماء الغربيين وغير المسلمين ان يخضعوا بهذا الشكل امام نبي الاسلام العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله وان يعترفوا له بأدق واسمىٰ مكانة علمية.

القسم الثالث :

الشيخ : الحالات التي يجب ان يتجنبها القاضي عند الحكم ، وهذه الشروط هي :

١ ـ يكره(١) للقاضي اصدار الحكم وهو في حالة غضب.

٢ ـ يكره القضاء عندما يكون القاضي جائعاً او عطشاناً.

٣ ـ يكره القضاء ، اذا كان القاضي حزيناً غير مرتاح نفسياً.

________________

(١) المكروه ، هو العمل الذي يجوز القيام به ، ولكن يستحسن تركه.

١٧٥

٤ ـ يكره القضاء ، اذا كان القاضي متضايقاً من البول او الغائط(١) .

اصدقائي الاعزاء !

نفهم من خلال هذهِ الشروط التي وضعت للقاضي في الاسلام ، ان الدين يريد ان يكون حكم القاضي خالٍ من كل تأثيرات جانبية صغيرة او كبيرة من اجل ان يكون حكمه صحيحاً وحقاً ، لانه وخلاف ذلك لربما يضيع حق مظلوم او لا يطمئن المعتدىٰ عليه لجهاز القضاء في ان يأخذ حقه من المعتدي.

القسم الرابع :

وهي ما يتعلق بالشروط التي يضعها الاسلام لموظفي المحاكم القضائية ، لان يعدم تقواهم لربما يؤدي يوماً ما الىٰ عرقلة تنفيذ حكم القاضي ويؤخر قطع يد المعتدي عن المظلوم ، وهذا القسم من الشروط كالتالي :

١ ـ لابد ان يكون كاتب المحكمة والشخص المكلّف بتحرير حكم القاضي ، من ذوي الهمم العالية والبعيدين عن صفات الطمع وحب المال و لكي لا يخون بالتطميع او ان يؤدي الىٰ عرقلة او تأخير اجراء الحكم.

٢ ـ لا يحق للقاضي ان يضع لنفسه حاجباً(٢) ؛ لان القاضي ملجأ للمظلومين ويجب ان يكون الوصل اليه سهلاً يسيراً دون مانع أو حاجب ، كي

________________

(١) مستند الشيعة للنراقي ، كتاب القضاء.

(٢) لم ير بعض الفقهاء والمجتهدين حرمة في تعيين حاجب للقاضي ، بل اعتبروه مكروهاً.

١٧٦

يمكنه تخليص المظلومين من مخاطب الظالمين بأقصىٰ سرعة ؛ لان الحاجب ربما قام بتظليل الحاكم ( القاضي ) من خلال صداقته او قربه من الظالم والمعتدي ، وذلك بالمتعلق للقاضي ، ونقل اخبار غير صحيحه عن وضع المجتمع والناس له ، ولربما يكون حائلاً دون وصول صوت المظلومين الىٰ مسمع القاضي(١) .

اهم انجاز قضائي اسلامي

أتعلم يا سعادة الدكتور ، ان اكبر انجاز قضائي في الاسلام ، هو سرعة العمل وعدم وجود اي نوع من التشريفات !

اصدقائي الاعزاء !

اتعلمون ان القوانين القضائية مثل القوانين الطبية ، اي كما ان قوانين الطب موظفة لمعالجة المريض وخلاصه من مخالب الألم ، فأن المحاكم القضائية أيضاً موظفة بتخليص المظلومين من ايدي الظالمين واحقاقهم ، وكما ان الطب الجيد هو الذي يعالج مريضه بسرعة ويخلصه من آلام المرض ، فكذلك افضل المحاكم والقوانين القضائية هي تلك التي تقطع بسرعة يد المعتدين عن المظلومين وتخلصهم من مآسي الظلم.

أمّا إذا أصبحت قوانين الطب في يوم ما سجينة تشريفات معينة ، فمثلاً ،

________________

(١) مستند الشيعة للنراقي ، كتاب القضاء.

١٧٧

يؤتىٰ بمريض الزائدة الدودية(١) وهو يتلوّىٰ من شدّة الألم ، ويقول له الطبيب ، يجب ان تملأ استمارة وننظم لك اضبارة ، ثم نرسل الاضبارة الىٰ وزارة الصحة ، وبعد ان تمر بجميع المراحل القانونية ، ويتخذ قرار بمعالجتك ، واُبلّغ بذلك القرار ، سأقوم بعلاجك !!

فهل يمكن تسمية مثل هذه المؤسسة الطبية ـ ايها السادة ـ مؤسسة طب وعلاج ، بل هي ألعوبة وعبث ؟! وأي طبٍ هذا الذي يرىٰ المريض يتلوىٰ ألماً ، فيما ينتظر هو القيام بالروتين الاداري ؟!

اصدقائي الاعزاء !

لم توضع القوانين القضائية إلّا لانصاف المظلوم من الظالم ، والمحاكم القضائية ملاجىء قوية وسند للناس المحرومين والمستضعفين ، وعلىٰ هذا الملجأ والسند ان يغيث الناس بسرعة بسلاح القانون ويخلصهم من وطأة الظلم.

لكننا وللأسف نشاهد ان اعمال هذهِ المؤسسة المهمة مكبلة بتشريفات باطلة وزائفة ليس فقط في بلادنا بل حتىٰ في الدول التي تدعي لنفسها المدنية والتطور ، ممّا أدىٰ عملياً الىٰ استمرار الظلم والاعتداء علىٰ حقوق الآخرين ، فعجلة القضاء في جميع دول العالم بطيئة الىٰ حدّ نشاهد في بعض الاحيان المظلوم يموت تحت وطأت الظالم وبعد موته يصدر الحكم بمعاقبة الظالم والتخليص المظلوم !! وعذرهم في ذلك هو ان القضية يجب

________________

(١) Appendicite ، التهاب في الزائدة الدودية ، تصحبه آلام وحمّى وقيء.

١٧٨

ان تطوي مراحلاً قانونية واننا مشغولون بدراستها جيداً !! ولكي لا يملّ الاصدقاء من كثرة الحديث ، انقل لهم نماذُج لأساليب الاجهزة القضائية في عالمنا المعاصر :

القضية التي استمرت ١٩ عاماً !!

ينقل أحد مسؤولي وزارة العدل الكبار سابقاً وهو الآن متقاعد ، وكان عند تقاعده يشغل منصب مدعي عام احدىٰ المدن ، يقول السيد ( م ) في مذكراته : كنت مشغولاً في الشعبة الاولىٰ لمحكمة المدينة بدراسة قضية. مفادها ان شخصاً بأسم ( ح ) اقام دعوىٰ ضد بلدية طهران لخلع يدها عن قطعة ارض ، وذلك سنة ١٩٢٧ ، وكانت هذهِ القضية مستمرة لفترة ١٩ عاماً ، أي حتى سنة ١٩٤٦ ، حتى اعلنت في تلك السنة نهايتها وامرت بأخلاء الارض المتنازع عليها.

القضية التي استمرت ١٨ عاماً

ويذكر نفس الشخص ، فيقول : اقام احد المقاولين سنة ١٩٢٨ دعوىٰ ضد وزارة الحرب لأخذ طلبه منها ، وبقيت هذه القضية ١٨ عاماً تطوي مراحلها القانونية ، حتى اعلنت نهاية تحقيقها سنة ١٩٤٦ وحكمت بدفع المبلغ المذكور الىٰ المقاول من قبل وزارة الحرب.

١٧٩

تنظيف الوفر في شهر آب !!!

يقال ان رجلاً اشتكىٰ الىٰ القضاء من جاره الذي حول الوفر من سطح بيته الىٰ داخل بيت الرجل وذلك في شهر شباط ( اي في الشتاء ) ولانه يخاف علىٰ بيته من الضرر لأن بناءه قديم. وبعد ان قدم الرجل شكواه رجع للبيت فارغ البال وهو ينتظر ان يصدر حكماً بأزاحة الوفر والجليد من فناء داره في عصر ذلك اليوم أو غده ، لكنه مضت اسابيع وشهور ولم يصدر الحكم ، حتى اجتازت القضية مراحلها القانونية وصدر الحكم بالاخلاء ولكن ذلك كان في شهر آب والله العالم في تلك السنة او السنة التي تلتها !

هنا ضحك الجميع طويلاً.

لا بدّ من تحملّ دلال ملك الموت !!

قرأت في أحدىٰ الصحف خبراً لطيفاً بالعنوان اعلاه ، ونصّ الخبر يقول : « وصل لأحد العمال ابلاغ من المحكمة ، وعندما يذهب العامل في اليوم الثاني للمحكمة وعرّف نفسه ، لم يقبل بذلك اعضاء المحكمة ، وقالوا له : يجب أن تأتي الىٰ المحكمة برفقة احد رجال الشرطة ، فيذهب المسكين الىٰ احدىٰ المناطق القريبة من المحكمة ويتوسل الىٰ احد رجال الشرطة لكي يرافقه ( يحضره ) الىٰ المحكمة !! »(١) .

________________

(١) مجلة الرقيّ ، العدد ٣٥٨. ( بالفارسية )

١٨٠

٦. قال الإمام أبو حفص النسفي: والشفاعة ثابتة للرسل والأخيار في حق أهل الكبائر بالمستفيض من الأخبار خلافاً للمعتزلة(١) .

٧. وقد أيّد التفتازاني في شرح العقائد النسفيّة هذا الرأي وصدّقه دون أي تردّد وتوقف(٢) .

٨. قال الطبرسي في تفسيره: إنّ الأمّة أجمعت على أنّ للنبي شفاعة مقبولة، وان اختلفوا في كيفيتها، فعندنا هي مختصة بدفع المضار وإسقاط العقاب عن مستحقيه من مذنبي المؤمنين، وقالت المعتزلة: هي في زيادة المنافع للمطيعين والتائبين دون العاصين، وهي ثابتة عندنا للنبي ولأصحابه المنتجبين والأئمّة من أهل بيته الطاهرين ولصالح المؤمنين، وينجي الله تعالى بشفاعتهم كثيراً من الخاطئين، ويؤيده الخبر الذي تلقته الأمّة بالقبول وهو قوله: « ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي » وما جاء في روايات أصحابنا رضي الله عنهم ـ مرفوعاً إلى النبي ـ أنّه قال: « إنّي أشفع يوم القيامة فأُشفّع، ويشفع عليعليه‌السلام فيشفّع، ويشفع أهل بيتي فيشفّعون، وإنّ أدنى المؤمنين شفاعة ليشفّع في أربعين من إخوانه كل قد استوجب النار » وقوله تعالى مخبراً عن الكفار عند حسراتهم على الفائت لهم مما حصل لأهل الإيمان من الشفاعة( فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ *وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) (٣) .

وقال أيضاً: أصل الشفاعة من الشفع الذي هو ضد الوتر، فإنّ الرجل إذا شفع بصاحبه فقد شفعه أي صار ثانيه، ومنه الشفيع في الملك لأنّه يضم ملك غيره إلى ملك نفسه، واختلفت الأمّة في كيفية شفاعة النبي يوم القيامة، فقالت المعتزلة ومن تابعهم: يشفع لأهل الجنّة ليزيد الله درجاتهم. وقال غيرهم من فرق

__________________

(١ و ٢) العقائد النسفية: ١٤٨.

(٣) مجمع البيان: ١ / ١٠٣ ـ ١٠٤.

١٨١

الأمّة: بل يشفع لمذنبي الأمّة ممّن ارتضى الله دينهم ليسقط عقابهم بشفاعته(١) .

٩. قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى:( وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ) (٢) : كانت اليهود تزعم أنّ آباءهم الأنبياء يشفعون لهم فأُويسوا.

فإن قلت: هل فيه دليل على أنّ الشفاعة لا تقبل للعصاة ؟

قلت: نعم، لأنّه نفى أن تقضي نفس عن نفس حقاً أخلّت به من فعل أو ترك، ثم نفى أن تقبل منها شفاعة شفيع، فعلم أنّها لا تقبل للعصاة(٣) .

١٠. قال الإمام ناصر الدين أحمد بن محمد بن المنير الإسكندري المالكي في كتابه الانتصاف فيما تضمّنه الكشاف من الاعتزال :

وأمّا من جحد الشفاعة فهو جدير أن لا ينالها، وأمّا من آمن بها وصدّقها وهم أهل السنّة والجماعة فأُولئك يرجون رحمة الله، ومعتقدهم أنّها تنال العصاة من المؤمنين وإنّما ادّخرت لهم، وليس في الآية دليل لمنكريها، لأنّ قوله:( يَوْماً ) في قوله:( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ) أخرجه منكراً، ولا شك أنّ في القيامة مواطن، يومها معدود بخمسين ألف سنة، فبعض أوقاتها ليس زماناً للشفاعة، وبعضها هو الوقت الموعود، وفيه المقام المحمود لسيد البشر، عليه أفضل الصلاة والسلام. وقد وردت آي كثيرة ترشد إلى تعدّد أيامها واختلاف أوقاتها، منها قوله تعالى:( فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ ) (٤) مع قوله:( وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ) (٥) فيتعين حمل الآيتين على يومين مختلفين، ووقتين متغايرين، أحدهما محل للتساؤل والآخر ليس له، وكذلك

__________________

(١) مجمع البيان: ٢ / ٨٣.

(٢) البقرة: ٤٨.

(٣) الكشاف: ١ / ٢١٤ ـ ٢١٥. وما ذكره صاحب الكشاف في تفسير الشفاعة راجع إلى منهجه الذي هو منهج المعتزلة في معنى الشفاعة، والهدف من نقل كلامه هو الإيعاز إلى كون أصل الشفاعة أمراً متفقاً عليه بين المسلمين، وأمّا الخصوصية فسنبحث عنها في الفصول القادمة.

(٤) المؤمنون: ١٠١.

(٥) الصافات: ٢٧.

١٨٢

الشفاعة، وأدلة ثبوتها لا تحصى كثرة، ورزقنا الله الشفاعة »(١) .

وقال الزمخشري أيضاً في تفسير قوله:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (٢) ( لا بَيْعٌ فِيهِ ) حتى تبتاعوا ما تنفقونه و( لا خُلَّةٌ ) حتى يسامحكم أخلاّؤكم به، وإن أردتم أن يحط عنكم ما في ذمتكم من الواجب لم تجدوا شفيعاً يشفع لكم في حط الواجبات، لأنّ الشفاعة ثمّة في زيادة الفضل(٣) .

وقال صاحب الانتصاف: أمّا القدرية فقد وطّنوا أنفسهم على حرمان الشفاعة، وهم جديرون أن يُحرموها، وأدلّة أهل السنّة على إثباتها للعصاة من المؤمنين أوسع من أن تحصى، وما أنكرها القدرية إلّا لإيجابهم مجازاة الله للمطيع على الطاعة وللعاصي على المعصية، إيجاباً عقلياً ـ على زعمهم ـ فهذه الحالة في إنكار الشفاعة نتيجة تلك الضلالة(٤) .

وعلى أي تقدير، فالحاصل من المناظرة التي دارت بين الفريقين هو اتفاق الأمّة الإسلاميّة على الشفاعة وان اختلفوا في تفسيرها.

١١. قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى:( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ) (٥) تمسّكت المعتزلة بهذه الآية على نفي الشفاعة لأهل الكبائر، وأجيبوا بأنّها مخصوصة بالكفار، للآيات والأحاديث الواردة في الشفاعة.

__________________

(١) الانتصاف بهامش الكشاف: ١ / ٢١٤، المطبوع عام ١٣٦٧.

(٢) البقرة: ٢٥٤.

(٣) الكشاف: ١ / ٢٩١.

(٤) الانتصاف بهامش الكشاف: ١ / ٢٩١.

(٥) البقرة: ٤٨.

١٨٣

ويؤيده أنّ الخطاب هنا مع الكفار، والآية نزلت ردّاً لما كانت اليهود تزعم أنّ آباءهم تشفع لهم(١) .

١٢. قال الفتّال النيسابوري ـ الذي هو أحد علمائنا في القرن السادس الهجري ـ: لا خلاف بين المسلمين أنّ الشفاعة ثابتة، إلّا أنّ أصحاب الوعيد ـ وهم المعتزلة ـ قالوا: مقتضاها زيادة الثواب والدرجات. وقلنا مقتضاها: إسقاط المضار والعقوبات(٢) .

١٣. يقول الرصاص ـ الذي هو من علماء القرن السادس الهجري ـ في كتابه « مصباح العلوم في معرفة الحي القيوم »: إنّ شفاعة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم القيامة ثابتة قاطعة(٣) .

١٤. قال الرازي في تفسير قوله:( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ ) (٤) .

أجمعت الأمّة على أنّ لمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله شفاعة في الآخرة، وذهبت المعتزلة إلى أنّ تأثير الشفاعة هو حصول الزيادة من المنافع على قدر ما استحقوه، غير إنّ الحق هو ما اتفقت عليه الأمّة من أنّ تأثير الشفاعة هو إسقاط العذاب عن المستحقين للعقاب، إمّا بأن يشفع لهم في عرصة القيامة حتى لا يدخلوا النار، أو إن دخلوا النار فيشفع لهم حتى يخرجوا منها ويدخلوا الجنّة، واتفقوا على أنّها ليست للكفار(٥) .

__________________

(١) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ١ / ١٥٢.

(٢) روضة الواعظين: ٤٠٦.

(٣) مصباح العلوم في معرفة الحي القيوم المعروف بالثلاثين مسألة.

(٤) البقرة: ١٢٣.

(٥) مفاتيح الغيب: ٣ / ٥٥ ـ ٥٦.

١٨٤

١٥. قال المحقق الطوسي: والإجماع على الشفاعة ( أي الإجماع قائم على ثبوت الشفاعة ) وقيل لزيادة المنافع، ويبطل منّا في حقهصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

يريد بقوله: « يبطل » انّ الشفاعة لو كانت لطلب زيادة المنافع لكنّا شافعين للنبي، لأنّا نطلب زيادة المنافع وهو مستحق للثواب، والتالي باطل، لأنّ الشفيع أعلى مرتبة من المشفوع له، وهنا ليس كذلك.

ثم استدل المحقق الطوسي على الشفاعة بالحديث المروي: « ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي »(٢) .

١٦. وقال العلّامة الحلّي في شرحه لعبارة المحقق الطوسي: اتفقت العلماء على ثبوت الشفاعة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ويدل عليه قوله تعالى:( عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) قيل انّه الشفاعة، واختلفوا فقالت الوعيدية: إنّها عبارة عن طلب زيادة المنافع للمؤمنين المستحقين للثواب. وذهبت التفضلية إلى أنّ الشفاعة للفسّاق من هذه الأمّة في إسقاط عقابهم وهو الحق(٣) .

ويقول أيضاً في كتابه « نهج المسترشدين »: يجوز العفو عن الفاسق، لأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ثبت له الشفاعة، وليست في زيادة المنافع، وإلاّ لكنا شافعين فيه، فثبت في انتفاء المضار وإسقاط العقوبة(٤) .

١٧. قال ابن تيمية الحراني الدمشقي: للنبي في القيامة ثلاث شفاعات ـ إلى أن قال ـ وأمّا الشفاعة الثالثة فيشفع في من استحق النار، وهذه الشفاعة لهصلى‌الله‌عليه‌وآله ولسائر النبيّين والصدّيقين، وغيرهم في من استحق النار أن لا يدخلها

__________________

(١) وقوله يبطل أي: لا يقع منّا في حق النبي.

(٢) شرح تجريد الاعتقاد: ٢٦٢ ـ ٢٦٣، طبعة صيدا.

(٣) شرح تجريد الاعتقاد: ٢٦٢ ـ ٢٦٣، طبعة صيدا.

(٤) نهج المسترشدين: ٢٠٥.

١٨٥

ويشفع في من دخلها.

ثم قال: وتفاصيل ذلك مذكورة في الكتب المنزلة من السماء والإثارة من العلم المأثور عن الأنبياء وفي العلم الموروث عن محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

وله رسالة أُخرى أسماها بالاستغاثة، وقد اعتبر فيها المعتزلة والخوارج الذين أنكروا الشفاعة بمعناها المعروف، وهو إسقاط العقوبة، أهل ضلال وبدعة، وقال: وأمّا من أنكر ما ثبت بالتواتر والإجماع فهو كافر بعد قيام الحجة(٢) .

١٨. وقال ابن كثير الدمشقي ـ في تفسير قوله سبحانه:( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا بِإِذْنِهِ ) (٣) ـ: هذا من عظمته وجلاله، وكبريائه عزّ وجلّ أنّه لا يتجاسر أحد على أن يشفع لأحد عنده، إلّا بإذنه له في الشفاعة، كما في حديث الشفاعة عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله : « آتي تحت العرش فأخرّ ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقال: ارفع رأسك وقل تسمع، واشفع تشفّع، قال: فيحدّ لي حداً فأُدخلهم الجنة »(٤) .

١٩. قال نظام الدين القوشجي في شرحه على شرح التجريد: اتفق المسلمون على ثبوت الشفاعة لقوله تعالى:( عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) وفسّر بالشفاعة.

ثم أشار إلى اختلاف المعتزلة والأشاعرة في معنى الشفاعة واختار المذهب المعروف فيها(٥) .

__________________

(١) مجموعة الرسائل الكبرى: ١ / ٤٠٣ ـ ٤٠٤.

(٢) الاستغاثة في ضمن مجموعة الرسائل الكبرى: ١ / ٤٨١.

(٣) البقرة: ٢٥٦.

(٤) تفسير ابن كثير: ١ / ٣٠٩.

(٥) شرح التجريد للقوشجي: ٥٠١.

١٨٦

٢٠. قال الفاضل المقداد: في شرحه منهج المسترشدين: وأمّا ثبوت الشفاعة فلوجوه: الأوّل: الإجماع، والثاني قوله تعالى:( اسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ ) والفاسق مؤمن لِما يجئ فوجب دخوله في من يستغفر له النبي(١) .

٢١. قال المحقق الدواني: الشفاعة لدفع العذاب ورفع الدرجات حق لمن اذن له الرحمان من الأنبياءعليهم‌السلام ، والمؤمنين بعضهم لبعض لقوله تعالى:( يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ) (٢) .(٣)

٢٢. قال الشعراني في المبحث السبعين: إنّ محمداً هو أوّل شافع يوم القيامة وأوّل مشفّع، وأولاه فلا أحد يتقدم عليه. ثمّ نقل عن جلال الدين السيوطي: انّ للنبي يوم القيامة ثمان شفاعات، ولهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم القيامة ثمان شفاعات، وثالثها في مَنْ استحق دخول النار أن لا يدخلها(٤) .

٢٣. قال العلّامة المجلسي: أمّا الشفاعة فاعلم أنّه لا خلاف فيها بين المسلمين بأنّها من ضروريات الدين، وذلك بأنّ الرسول يشفع لأمّته يوم القيامة، بل للأمم الأخرى، غير أنّ الخلاف إنّما هو في معنى الشفاعة وآثارها، وهل هي بمعنى الزيادة في المثوبات أو إسقاط العقوبة عن المذنبين ؟

وخصّها المعتزلة والخوارج بالمعنى الأوّل، قائلين: بأنّه يجب عليه سبحانه أن يفي بوعيده في موارد العقاب، وليس بإمكان الشفاعة أن تنقض هذه القاعدة المسلّمة. والشيعة ذهبت إلى أنّ الشفاعة تنفع في إسقاط العقاب، وان كانت ذنوبهم من الكبائر، ويعتقدون أيضاً بأنّ الشفاعة ليست منحصرة في النبي والأئمّة من بعده بل للصالحين أن يشفعوا بعد أن يأذن الله لهم بذلك(٥) .

__________________

(١) إرشاد الطالبين: ٢٠٦.

(٢) طه: ١٠٩.

(٣) شرح العقائد العضدية: ٢ / ٢٧٠.

(٤) اليواقيت والجواهر: ٢ / ١٧٠.

(٥) راجع بحار الأنوار: ٨ / ٢٩ ـ ٦٣، وحق اليقين: ٤٧٣.

١٨٧

٢٤. وقال محمد بن عبد الوهاب مؤسس المذهب الوهابي: وثبتت الشفاعة لنبينا محمد يوم القيامة ولسائر الأنبياء والملائكة والأولياء والأطفال حسبما ورد، ونسألها من المالك لها والآذن فيها بأن نقول: أللّهمّ شفّع نبينا محمداً فينا يوم القيامة. أو أللّهمّ شفّع فينا عبادك الصالحين، أو ملائكتك، أو نحو ذلك مما يطلب من الله لا منهم. إلى أن قال: إنّ الشفاعة حق في الآخرة، ووجب على كل مسلم الإيمان بشفاعته، بل وغيره من الشفعاء، إلّا أنّ رجاءها من الله فالمتعيّن على كل مسلم صرف وجهه إلى ربّه فإذا مات استشفع الله فيه نبيّه.

ويظهر من أكثر كلماته أنّه معتقد بأصل الشفاعة، ولكن اختلافه مع غيره من المسلمين في طلبها، فذهب إلى أنّه لا يطلب إلّا من الله لا من الشفعاء(١) .

٢٥. وقال السيد شبّر: اعلم أنّه لا خلاف بين المسلمين في ثبوت الشفاعة لسيد المرسلين في أُمّته، بل في سائر الأمم الماضين، بل ذلك من ضروريات الدين، قال الله تعالى:( عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) وإنّما اختلف في معناها، فالذي عليه الفرقة المحقة وأكثر العامة: أنّ الشفاعة كما تكون في زيادة الثواب كذلك تكون لإسقاط العقاب عن فسّاق المسلمين المستحقين للعذاب. والخوارج والمعتزلة: على أنّها لا تكون إلّا في طلب زيادة المنافع للمؤمنين المستحقين للثواب. ولكن الأدلة النقلية والعقلية تبطل مذهبهم في الواقع(٢) .

٢٦. وقال الشيخ محمد عبده: ما ورد في إثبات الشفاعة من المتشابهات وفيه يقضي مذهب السلف بالتفويض والتسليم وإنّها مزية يختص الله بها من يشاء يوم القيامة ـ عبر عنها سبحانه بهذه العبارة « الشفاعة » ـ ولا نحيط بحقيقتها مع تنزيه الله جل جلاله عن المعروف في معنى الشفاعة في لسان

__________________

(١) راجع الهدية السنية الرسالة الثانية: ٤٢.

(٢) حق اليقين: ٢ / ١٨٦.

١٨٨

التخاطب العرفي، وأمّا مذهب الخلف فلنا أن نحمل الشفاعة فيه على أنّها دعاء يستجيبه الله تعالى، والأحاديث الواردة في الشفاعة تدل على هذا، ثم ذكر حديثاً من الصحيحين، وقال في الهامش بمثل هذا « أي دعاء يستجيبه الله تعالى » قال شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره ولم يعدّوه تأويلا(١) .

والعجب أنّ الأستاذ محمد عبده ـ مع ماله من الاطّلاع الوسيع على المعارف الإسلامية وبالأخص فيما يرجع إلى تفسير القرآن ـ انّه كلّما مر على أُمور ترتبط بأولياء الله مثل الشفاعة والاستشفاع منهم والتوسل والزيارة يضطرب بيانه، ولا يعمد إلى كشف الحقيقة بحرية كاملة ـ كما هو دأبه في سائر المسائل ـ ونرى الأستاذ في هذه المسائل يبدو كأنّه قد تأثر بمقالة الوهابيين، وأغلب الظن أنّ الأستاذ بريء عن أكثر ما نسب إليه بالصراحة في هذه المباحث في التفسير فأنّي أُجلّه عن النزعة الوهابية، ولعل تلميذه السيد محمد رشيد رضا قد أودع كلمات الأستاذ في قوالب خاصة تتناسب مع نزعاته الوهابية، ومع ذلك فالعلم عند الله سبحانه. أللّهمّ(٢) اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان.

ولأجل ذلك نرى تلميذه الكاتب لدروسه يثير إشكالات ثلاثة حول الشفاعة، التي هي دون شأن الأستاذ، وهي :

١. ليس في القرآن نص قطعي في وقوع الشفاعة، ولكن ورد الحديث بإثباتها فما معناها ؟!

٢. الشفاعة لا تتحقق إلّا بترك الإرادة وفسخها لأجل الشفيع، فأمّا الحاكم العادل فإنّه لا يقبل الشفاعة إلّا إذا تغيّر علمه بما كان أراده، أو حكم به، كأن

__________________

(١) تفسير المنار: ١ / ٣٠٧.

(٢) نعم ما ذكره الأستاذ في تفسير سورة الفاتحة: ٤٦ ـ ٤٧ يؤيد أنّ الأستاذ كان يميل إلى الحركة الوهابية التي بلغت موجتها إلى تلك الديار في ذلك الأوان.

١٨٩

كان قد أخطأ ثمّ عرف الصواب ورأى أنّ المصلحة أو العدل في خلاف ما كان يريده أو حكم به.

٣. ما ورد في إثبات الشفاعة من المتشابهات(١) .

وستوافيك الإجابة عن هذه الإشكالات في فصله الخاص على وجه الإجمال، وأمّا التفصيل فموكول إلى الرسالة التي أفردناها في الشفاعة وأبحاثها، وقد نقلت الرسالة إلى اللغة العربية بواسطة الأخ الفاضل الشيخ جعفر الهادي دامت إفاضاته.

٢٧. وقال السيد سابق: المقصود بالشفاعة سؤال الله الخير للناس في الآخرة، فهي نوع من أنواع الدعاء المستجاب، ومنها الشفاعة الكبرى، ولا تكون إلّا لسيدنا محمد رسول الله فإنّه يسأل الله سبحانه أن يقضي بين الخلق ليستريحوا من هول الموقف فيستجيب الله له فيغبطه الأوّلون والآخرون، ويظهر بذلك فضله على العالمين، وهو المقام المحمود الذي وعد الله به في قوله سبحانه:( وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) ثم نقل الآيات والروايات المربوطة بالشفاعة والمثبتة لها، وقد ذكر بعض شروط قبولها(٢) .

٢٨. قال الشيخ الجليل محمد جواد البلاغي: إنّ الشفاعة قد نفاها القرآن من جهة وهي الشفاعة للمشركين، أو الشفاعة التي يزعمها المشركون للذين يتخذونهم آلهة مع الله بزعم أنّهم قادرون بإلهيتهم بحيث تنفذ شفاعتهم طبعاً وحتماً، أو شفاعة الشافع الذي يطاع حتماً كما في سورة ياسين الآية ٢٢، والمؤمن الآية ١٨، والزمر الآية ٤٤، والمدثر الآية ٤٨، وأثبتها من جهة أُخرى بالاستثناء بل بالاستدراك الدافع لإيهام نفيها المطلق عن كل أحد فقال تعالى:( إِلا بِإِذْنِهِ ) ،

__________________

(١) تفسير المنار: ١ / ٣٠٧.

(٢) العقائد الإسلامية: ٧٣. والسيد سابق مؤلف إسلامي مصري قدير.

١٩٠

( إِلا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ) ،( إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَٰنِ عَهْداً ) ،( إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ) ،( إِلا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ) ،( إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ) ،( إِلا مَن شَهِدَ بِالحَقِّ ) ،( إِلا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَىٰ ) ، كما في سورة البقرة الآية ٢٥٦، ويونس الآية ٦، ومريم الآية ٩٠، وطه الآية ١٠٨، والأنبياء الآية ٢٩، وسبأ الآية ٢٢، والزخرف الآية ٨٦، والنجم الآية ٢٧. وانّ الشفاعة المستثناة والمستدركة في آيات البقرة ويونس وسبأ مطلقة غير مختصة بيوم القيامة ولا بما قبل وفاة الشافع في الدنيا(١) .

٢٩. قال الدكتور سليمان دنيا: والشفاعة لدفع العذاب ورفع الدرجات حق لمن أذن له الرحمن من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والمؤمنين بعضهم لبعض لقوله تعالى:( يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ) وقوله تعالى:( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا بِإِذْنِهِ ) (٢) .

٣٠. قال الحكيم المتألّه العلّامة الطباطبائي: إنّ الآيات الواردة حول الشفاعة بين ما يحكم باختصاص الشفاعة بالله عزّ اسمه، وبين ما يعمّمها لغيره تعالى بإذنه وارتضائه ونحو ذلك، وكيف كان فهي تثبت الشفاعة بلا ريب غير أنّ بعضها تثبتها بنحو الأصالة لله وحده من غير شريك، وبعضها تثبتها لغيره بإذنه وارتضائه.

ثمّ ذكر وجه الجمع بين الآيات والذي سيوافيك توضيحه عند البحث عن الآيات(٣) .

٣١. يقول الأستاذ الشيخ محمد الفقيّ: وقد أعطى الله الشفاعة لنبيه ولسائر

__________________

(١) آلاء الرحمان: ١ / ٦٢.

(٢) محمد عبده بين الفلاسفة والكلاميين: ٢ / ٦٢٨.

(٣) الميزان: ١ / ١٥٦.

١٩١

الأنبياء والمرسلين وعباده الصالحين، وكثير من عباده المؤمنين لأنّه وإن كانت الشفاعة كلّها لله كما قال:( قُل للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) (١) إلّا أنّه تعالى يجوز أن يتفضّل بها على من اجتباهم من خلقه واصطفاهم من عباده، وكما يجوز أن يعطي من ملكه ما شاء لمن شاء، ولا حرج.

ثم أخذ يستدل على الشفاعة بالآيات والروايات والأشعار المأثورة عن الصحابة(٢) .

٣٢. قال المحقّق الكبير السيد أبو القاسم الخوئي: يستفاد من القرآن الكريم أنّ الله تعالى قد أذن لبعض عباده بالشفاعة إلّا أنّه لم ينوّه بذكرهم عدا الرسول الأكرم فقد قال الله تعالى:( لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَٰنِ عَهْداً ) ـ إلى أن قال ـ: والروايات الواردة عن النبي الأكرم وعن أوصيائه الكرام في هذا الموضوع متواترة(٣) .

هذا نزر من كثير، وغيض من فيض، أتينا به ليكون القارئ على بصيرة من موقف علماء الإسلام ـ من الفريقين ـ من هذه المسألة الهامة، وهي نصوص وتصريحات لا تترك ريباً لمرتاب ولا شكاً لأحد، غير انّ لبعض الكتّاب المصريين الذين تأثّروا بالموجة الوهابية(٤) التي وصلت إليهم في أوائل القرن الرابع عشر وقد دعمتها السياسات الحاكمة في ذلك الزمان، موقفاً آخر يتنافى مع هذا الموقف الإسلامي العام وها نحن نأتي بنص كلامه.

٣٣. قال محمد فريد وجدي في دائرة معارفه: الشفاعة هي السؤال في

__________________

(١) الزمر: ٤٤.

(٢) التوسل والزيارة في الشريعة الإسلامية: ٢٠٦، ط. مصر.

(٣) البيان: ١ / ٣٤٢.

(٤) مع أنّ مؤسس الوهابية لا ينكر أصل الشفاعة وإنّما ينكر جواز طلبها من الشفيع ويقول: إنّه يجوز أن يقال: أللّهمّ شفّع رسول الله في حقي، ولا يجوز أن يقال: اشفع يا رسول الله في حقي، وللبحث مع هؤلاء في هذا الموضوع مقام آخر.

١٩٢

التجاوز عن الذنوب، وفي الاصطلاح الديني سؤال بعض الصالحين من الله التجاوز عن معاقبة بعض المذنبين، وقد أضرت هذه العقيدة بأكثر الأديان وما هي إلّا تحريف تقصّده الكهّان ليكون لهم شأن عند الناس، وقد جاء الإسلام فقوّم عقائد الأمم من هذه الجهة، فذكر الشفاعة ثم قال:( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا بِإِذْنِهِ ) وقال تعالى:( وَكَم مِن مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَىٰ ) فمتى علم المسلم أنّ الشافع والمشفع هو الله وانّ لا أحد يمكنه أن يغني فتيلاً، رفع وجهه من الاستشفاع بمثله إلى الاستشفاع بربّه، وناهيك بهذا بعداً عن الوثنية وقرباً من الديانة الإلهية(١) .

لم يكن المتوقع من مثل عالم بارع قد أفنى عمره في الذب عن الإسلام بتآليفه القيمة أن يتعامل مع الشفاعة بمثل ما تعامل به « فريد وجدي » فإنّ كلامه هذا يكشف عن عدم تدبّره في معنى الشفاعة التي نطق بها القرآن وأثبتتها الأحاديث واختارها العلماء، فإنّك ترى أنّه ينكر الشفاعة في بدء كلامه ويتلقّاها اعتقاداً ضاراً صنعه الكهنة وبثّوه بين الأمّة، حيث قال: وقد أضرّت هذه العقيدة بأكثر الأديان وما هي إلّا تحريف تقصّده الكهان ليكون لهم شأن عند الناس. ولكنه سيعود في ذيل كلامه إلى العقيدة الوهابية في باب طلب الشفاعة الظاهرة في ثبوتها في نفس الأمر، غير أنّه ليس لنا إلّا أن نطلبها من الله سبحانه حيث قال: فمتى علم المسلم أنّ الشافع والمشفع هو الله وأنّ لا أحد يمكنه أن يغني فتيلاً، رفع وجهه من الاستشفاع بمثله إلى الاستشفاع بربِّه.

وسوف توافيك الآثار التربوية للشفاعة الصحيحة التي كشف عنها القرآن وأيّدها العقل والبرهان، وأنّ ما رآه فريد وجدي عقيدة ضارة فما هي إلّا الشفاعة التي اخترعتها الوثنية أو اليهودية البعيدة عن العقيدة الإسلامية، وليس من

__________________

(١) دائرة معارف القرن الرابع عشر: ٥ / ٤٠٢، مادة شفع.

١٩٣

الصحيح في منطق العقل أن يفسر أصل من أُصول الإسلام ببعض العقائد الدارجة بين الأقوام.

٣٤. وليعلم أنّه ليس الكاتب فريداً في هذا الخلط والخبط بل تبعه معاصره الشيخ الطنطاوي حيث يعترف في تفسيره بأنّ الشفاعة من أُصول الإسلام المسلّمة وانّه لا اختلاف بين المعتزلة والفلاسفة وسائر الفرق الإسلامية في أصل ثبوتها، ولو كان هناك اختلاف فإنّما الاختلاف في مفادها ومرماها، وحيث إنّه لم يتمكن من تحليلها بالمعنى الصحيح الذي يؤيده العقل أخذ يفسّرها بتفسير بعيد عن واقع الشفاعة، وإليك نص كلامه :

إنّ النبي كالشمس المشرقة وهي مشرقة على اليابسة والبحار والآكام والنبات والشجر والأرض السبخة والأرض الطيّبة، وكل من تلك المواضع يأخذ حظه من ضوئها على مقدار استعداده، فهكذا الأمّة التي تتبع نبياً في أطوارها وأحوالها الدينية على حسب أمزجتها وأخلاقها وعوائدها وبيئتها فلا جرم يختلفون في قبوله اختلاف أحوالهم وتكون أحوالهم في الآخرة على مقتضى ذلك الاختلاف إلى أن قال: ـ واعلم أنّ للشفاعة بذوراً ونباتاً وثمراً، فبذورها العلم، ونباتها العمل، وثمرها النجاة في الآخرة، فالأنبياء: علّموا الناس في الدنيا وفيها غرسوا البذور، والناس إذا عملوا بما سمعوا منهم ينالون تلك الثمرة وهي النجاة والارتقاء، فمبادئ الشفاعة العلم وأوسطها العمل ونهايتها الفوز والرقيّ في الآخرة، فالشفاعة تابعة للاقتداء فمن لم يعمل بما أنزل الله وتجافى عن الحق فقد عطّل ما وهب له من بذر الشفاعة(١) .

وقد نسب هذا المقال إلى محي الدين بن العربي، والإمام الغزالي، وسيوافيك بقية كلامه عند البحث عن الإشكالات.

__________________

(١) الجواهر في تفسير القرآن الكريم: ١ / ٦٤ ـ ٦٥، بتلخيص منا.

١٩٤

لو صحّ ما ذكره من المعنى للشفاعة لما كان منافياً للمعنى الآخر الذي ورد في الكتاب وتضافرت به الروايات كما سيجيئ.

ولا يخفى أنّ تفسير الشفاعة بما يتراءى في كلامه وان كان صحيحاً في حدّ ذاته، ويليق أن يسمّى الأوّل بالشفاعة القيادية، والثانية بالشفاعة العملية، غير أنّ هذين المعنيين لا يمتان إلى ما اتفقت عليه الأمّة في معنى الشفاعة بصلة، حيث إنّهم فسروها بالحديث المتواتر عنه من ادّخار شفاعته لأصحاب الكبائر أو للمذنبين من الأمّة، وأين هذا من الشفاعة القيادية التي لا تختص بصنف دون صنف، بل هي فيض إلهي عام شامل لجميع الناس حيث بعث الله سبحانه نبيّه بشيراً ونذيراً للعالمين كافة ؟

وكما أنّ الشفاعة القيادية لا تمّت إلى الشفاعة المصطلحة بصلة، فهكذا الشفاعة بمعنى العمل بالأحكام الإلهية والوظائف الدينية، فإنّها وإن كانت تنجي الإنسان يوم التناد والعذاب، لكنها غير مربوطة بما هو المصطلح في ذاك الباب.

وبالجملة فإنّ الكاتب لما لم يتوفّق لحل بعض معضلات الباب أخذ يؤوّل الشفاعة إلى المعنيين الآخرين، وليست لهما أية صلة بالمراد من الآيات والروايات الواردة في الباب.

وسيوافيك المعنى الحقيقي للشفاعة بعد سرد الآيات وتفسير بعضها ببعض ولأجل ذلك يجب علينا أن نقدم البحث عن مفاد الآيات، وتفسير بعضها ببعض حتى يرتفع الاختلاف الذي يلوح للقارئ لأوّل وهلة ثم البحث عن معنى الشفاعة ولأجل ذلك أفردنا الفصل التالي.

١٩٥

٢

الشفاعة في القرآن الكريم

قد وردت مادة الشفاعة ـ بصورها المتنوعة ـ ثلاثين مرّة في سور شتى، ووقعت فيها مورداً للنفي تارة، والإثبات أُخرى، هذا وكثرة الورود والبحث عنها ينم عن عناية القرآن بهذا الأصل، سواء في مجال النفي أو في مجال الإثبات.

غير أنّ الاستنتاج الصحيح من الآيات يحتاج إلى جمع الآيات في صعيد واحد، حتى يفسر بعضها ببعض، ويكون البعض قرينة على الأخرى، إذ من الخطأ الواضح أن نقتصر في تفسير الشفاعة وأخواتها بآية واحدة، ونغمض العين عن أُختها التي ربّما يمكن أن تكون قرينة للمراد، وهذا الاسلوب أي البحث عن آية بمفردها مع الغض عن أُختها جرّ الويل والويلات على الباحثين في الأبحاث القرآنية، وأدّى إلى ظهور مذاهب مختلفة في المعارف والعقائد، بحيث نرى أنّ صاحب كل عقيدة يستدل على اتجاهه بآية قرآنية، أو بنص نبويّ، غير أنّه أخطأ في الاعتماد على آية قد جاء توضيحها في آيات أُخرى، وهذا النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: « إنّ القرآن يصدق بعضه بعضاً » ويقول أيضاً: « إنّ القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضاً، ولكن نزل أن يصدق بعضه بعضاً » وقال أيضاً: « إنّما هلك من كان قبلكم بهذا ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وانّما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضاً، فلا تكذبوا بعضه ببعض، فما علمتم منه فقولوا وما جهلتم فكلوه إلى عالمه »(١) .

__________________

(١) الدر المنثور: ٢ / ٦.

١٩٦

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : « وينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض »(١) .

ولأجل ذلك لا مناص من طرح جميع الآيات المرتبطة بالشفاعة والاستنتاج من جميعها جملة واحدة، ولذلك نقول: إنّ الآيات المربوطة بالشفاعة على أصناف يرمي كل صنف إلى هدف خاص، فنقول :

الصنف الأوّل: الآيات النافية للشفاعة

لا نجد من هذا الصنف إلّا آية واحدة تنفي الشفاعة في بادئ الأمر بقول مطلق، وهي قوله سبحانه:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (٢) .

وهذه الآية بظاهرها تنفي الشفاعة بتاتاً، ولعل ظاهرها هو المستمسك الوحيد لمن اعتقد بأنّ الشفاعة عقيدة اختلقها الكهّان ليكون لهم شأن عند الناس(٣) .

إنّ منشأ الخطأ في تفسير هذه الآية هو الاقتصار على آية واحدة والغض عمّا ورد في موردها من الآيات الأخر.

ولأجل ذلك لو نظرنا إلى الآية التالية لهذه الآية نجد أنّها تصرّح بوجود الشفاعة عند الله سبحانه إذا كانت مقترنة بإذنه فقال سبحانه:( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا بِإِذْنِهِ ) (٤) أفبعد هذا التصريح يصح لنا أن نعتقد بنفي الشفاعة

__________________

(١) نهج البلاغة شرح عبده: ٢ / ٣٢ الخطبة ١٤٩.

(٢) البقرة: ٢٥٤.

(٣) لاحظ الفصل السابق: ص ١٩٣.

(٤) البقرة: ٢٥٥.

١٩٧

بتاتاً وننسبها إلى القرآن، ونرمي الاعتقاد بالشفاعة إلى الكهنة ؟ كلا.

ثم إنّ الدليل الواضح على أنّ مرمى الآية هو نفي قسم خاص من الشفاعة لا جميع أقسامها هو قوله سبحانه:( وَلا خُلَّةٌ ) فإنّ الظاهر من هذه الكلمة انقطاع أواصر الرفاقة يوم القيامة، من غير فرق بين المؤمن والكافر، والحال أنّ القرآن يصرح بانقطاعها بين الكفار خاصة حيث يقول سبحانه:( الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا المُتَّقِينَ ) (١) فإنّ الظاهر من الاستثناء وإن كان عدم العداوة بين المتقين إلّا أنّ المتبادر من مجموع الآية هو بقاء الرفاقة الدنيوية مضافاً إلى انتفاء العداوة.

قال في الكشاف: تنقطع في ذلك اليوم كل خلّة بين المتخالّين في غير ذات الله، وتنقلب عداوة ومقتاً، إلّا خلّة المتصادقين في الله فإنّها الخلّة الباقية المزدادة قوة إذا رأوا ثواب التحابّ في الله تعالى والتباغض في الله(٢) .

وقال العلّامة الطباطبائي: إنّ من لوازم المخالة إعانة أحد الخليلين الآخر في مهام أُموره، فإذا كانت لغير وجه الله كان الإعانة على الشقوة الدائمة والعذاب الخالد كما قال تعالى حاكياً عن الظالمين يوم القيامة:( يَا وَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً *لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي ) (٣) .

وأمّا الأخلاّء من المتقين فإنّ خلّتهم تتأكد وتنفعهم يومئذ.

وفي الخبر النبوي: « إذا كان يوم القيامة انقطعت الأرحام وقلّت الأنساب وذهبت الاخوة إلّا الاخوة في الله، وذلك قوله:( الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا المُتَّقِينَ ) »(٤) .

__________________

(١) الزخرف: ٦٧.

(٢) الكشاف: ٣ / ١٠٢.

(٣) الفرقان: ٢٨ ـ ٢٩.

(٤) الميزان: ١٨ / ١٢٠ ـ ١٢١.

١٩٨

وعلى الجملة: إنّ انقلاب المخالة إلى العداوة لأجل ما جاء في قوله سبحانه:( لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ ) فهذه العلّة منتفية في حق المتقين، فأواصر الرفاقة باقية في يوم القيامة.

وعلى ذلك فكما أنّ المنفي هو قسم خاص من المخالة دون مطلقها، فهكذا الشفاعة، فالمنفي بحكم السياق قسم خاص من الشفاعة.

أضف إلى ذلك أنّ الظاهر هو نفي الشفاعة في حق الكفّار بدليل ما ورد في ذيل الآية حيث قال:( وَالكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) أفبعد هذه الوجوه الثلاثة يصح لنا أن نجعل الآية دليلاً على انتفاء الشفاعة من أصلها يوم القيامة ؟ كلا.

الصنف الثاني: ما يفنّد عقيدة اليهود في الشفاعة

هذا الصنف من الآيات ـ الذي ستوافيك نصوصه ـ يهدف إلى نفي عقيدة اليهود في الشفاعة حيث كان لهم في هذا المجال عقيدة خاصة كشفت عنها الآيات القرآنية، وكانوا يعتقدون بأنّهم الشعب المختار، وهم أبناء الله وأحباؤه، قال سبحانه حاكياً عنهم:( وَقَالَتِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ ) (١) .

كانوا يعتقدون بأنّ الأواصر القومية القائمة بينهم وبين أنبيائهم هي التي تنجيهم وتدخلهم الجنة ويكفي في ذلك مجرّد الانتماء القومي والنسبي إلى أنبيائهم، حيث قالوا:( وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الجَنَّةَ إِلا مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ ) (٢) .

وقد بلغت مغالاتهم في هذا المجال إلى درجة أنّهم زعموا أنّهم لا تمسهم النار إلّا أياماً معدودة، قال سبحانه حاكياً عنهم:( لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّاماً مَعْدُودَةً ) ولأجل ذلك نرى أنّه سبحانه يرد على تلك المزعمة في ذيل تلك الآية

__________________

(١) المائدة: ١٨.

(٢) البقرة: ١١١.

١٩٩

بقوله:( قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللهِ عَهْداً ) (١) .

كما يرد عليهم في آية أُخرى بقوله:( تِلْكَ ( أي عدم دخول الجنة إلّا من كان هوداً أو نصارى )أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ *بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (٢) .

فهؤلاء كانوا يعتقدون بأنّ أنبياءهم وأسلافهم سوف يشفعون لهم وينجونهم من العذاب سواء أكانوا عاملين بشريعتهم أم عاصين، وأنّ مجرد الانتماء والانتساب سوف يكفيهم في ذلك المجال.

كانت هذه عقيدتهم في باب الشفاعة، وفي هذا المجال وردت آيات تندد بعقيدتهم وترفض وتفند ما يذهبون إليه قائلة:( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العَالَمِينَ *وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ ) (٣) .

وأنت ترى أن وحدة السياق تقضي بأنّ المراد من نفي قبول الشفاعة هو الشفاعة الخاطئة التي كانت تعتقدها اليهود في ذلك الزمان من دون أن يشترطوا في الشفيع والمشفوع له شرطاً أو أمراً، ونظير ذلك قوله سبحانه حيث يقول بعد قوله:( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ ) ،( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ ) (٤) .

ولأجل ذلك لا يمكن أن يُتمسَّك بهاتين الآيتين لنفي أصل الشفاعة في يوم القيامة.

__________________

(١) البقرة: ٨٠.

(٢) البقرة: ١١١ ـ ١١٢.

(٣) البقرة: ٤٧ ـ ٤٨.

(٤) البقرة: ١٢٢ ـ ١٢٣.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466