رحلتي من الظلمات إلى النّور

رحلتي من الظلمات إلى النّور12%

رحلتي من الظلمات إلى النّور مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 466

رحلتي من الظلمات إلى النّور
  • البداية
  • السابق
  • 466 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 241183 / تحميل: 8328
الحجم الحجم الحجم
رحلتي من الظلمات إلى النّور

رحلتي من الظلمات إلى النّور

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

يصرّح به الامام الصادقعليه‌السلام ، فيقول : حتىٰ يلحقهم بالناس(١) .

٤ ـ لا يقرّ الاسلام أي نوع من العلاقة التي تأتي بالضرر بين البشر ، منها في العلاقات المالية ، والرسول الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول في هذا الصدد : لا ضرر ولا ضرار في الاسلام(٢) .

٥ ـ وللاسلام رأي خاص فيما يتعلق بالمصادر الطبيعية ، مثل : الاراضي والمعادن والانهار والمياه الجوفية والغابات والبحار ، فملكيتها نوعاً ما تعود الىٰ الامام المعصومعليه‌السلام وتكون ادارتها والاستفادة منها وتوزيع العوائد الحاصلة منها ومن صلاحيات الحكومة الاسلامية الحقيقية.

________________

(١) وسائل الشيعة ، كتاب الزكاة ، الباب الثامن ، من ابواب المستحقين للزكاة ، الرواية رقم ٤.

(٢) وسائل الشيعة ، الباب الاول من كتاب الارث ، الرواية رقم ٩.

١٦١

بحث القوانين القضائية في الاسلام

الشيخ : لعل تطور النظام القضائي هو من اهم مفاخر امريكا واوروبا وانجازتهما القانونية والعلمية ، اما اهم الخطوات التي قاموا بها في هذا المجال ، فهي كالتالي :

أ ـ حصانة القاضي واستقلاله ، لكي يتمكن من محاكمة الخائن في اي مستوىٰ من السلطة.

ب ـ استقلال القاضي من الناحية المالية ، لكي لا يسهل شراء رأيه وارتشاءه.

يقال : ان بريطانيا خطت خطوات واسعة في هذا المجال ، فهي لم تحدد لقضاتها مرتباً شهرياً وانما تمنحهم شيكات بيضاء موقعة من قبل الدولة وهم يدنون فيها المبلغ الذي يحتاجونه(١) .

________________

(١) جاء في مجلة نقابة المحامين ، العدد ١٠٠ سنة ١٩٦٥ ، بحث حول المسائل القضائية في بريطانيا ، بعنوان : « العدالة في بريطانيا » ، وقد جاء في الفصل الخاص بـ « حقوق القضاء » ما يلي : لا يمكن أن نتوقع من القاضي الذي ليس مرفهاً في معيشته المقاومة أما الضغوطات والاغراءات والتهديدات ، فالقاضي يكون مستقلاً ومستغنياً عندما لا يشعر بالحاجة المادية ، لذلك فالمرتبات الشهرية التي تمنح للقضاء في بريطانيا كبيرة جدّاً ، وإذا علمنا أن مرتب أحد القضاة في محكمة عادية يبلغ ما يعادل ١٣ الف تومان وأن مرتب رئيس القضاة يساوي ١٧ الف تومان ، في حين أن استاذ جامعي في بريطانيا يأخذ مرتباً مقداره الفي تومان فقط ، عند ذلك يمكن مقارنة وضع القضاة من الناحية المادية مع غيرهم من موظفي الدولة. والطريف أن مرتبات القضاة تدفع لهم من صندوق خاص يموّل بشكل

١٦٢

ج ـ الجميع متساوون امام القاضي والقضاء ، وليس لأحد ميزة على آخر.

وهذا الموارد الثلاثة التي ذكرناها ، هي اهم ما حققته اوروبا وامريكا في مجال القضاء ، ومن حسن الحظ ان الاسلام ومنذ ان جاء به الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله اهتم بهذهِ الامور علىٰ اتم وجه وافضل شكل بوحي من الباري عزّ وجلّ ، في حين تلك الدول كانت آنذاك بلدان متخلفة وسكانها متوحشين.

البقرة المسكينة !

الدكتور : يظهر ان القطار توقف ، ما الذي يحدث ؟!

العقيد : ما تقوله صحيح ، فالجميع ينظرون الىٰ الخارج.

نهض الجميع من مقاعدهم واحنوا رؤوسهم لينظروا من الشباك الىٰ خارج القطار ! ونزل مسؤولوا القطار أيضاً واخذوا يتفحصون العجلات ، فلربما هناك من سحقه القطار ، في حين أخذ المسافرين يسألون مسؤولي القطار كل لحظة ، ماذا حدث ؟

وبعد ثوان تبين ان بقرة مسكينة صدمها القطار ولم يصب منها إلّا عظم الفك. أمّا البقرة الجريحة ، فدق نهضت بسرعة وهي مرعوبة واتّجهت

________________

مستقل من خزانة الدولة ولا يحتاج إلى تصويت مجلسي اللوردات والعموم.

عزيزي القارىء ، مع الأخذ بالتقرير الموثق الذي جاء اعلاه ، حول مرتبات القضاة في بريطانيا ، نصحح المعلومات التي وردت في نصّ الكتاب.

١٦٣

مهرولة بأتجاه القرية ، فيما الدم ينزف من فكّها. ومن جهة اخرىٰ ، هرع الكثير من اهالي القرية نحو القطار ، فالظاهر انهم علموا باصابة القطار لبقرتهم.

اما رئيس القطار فما ان رأىٰ هجوم القرويين ، حتىٰ خاطب السائق : استعجل ايها السيد ، بسرعة ما دام القرويون لم يصلوا ، فلو وصلوا ورأوا بقرتهم علىٰ تلك الحالة ، سيلقنوننا درساً بعصيهم ومساحيهم لن ننساه طول العمر.

فأسرع السائق الىٰ القاطرة وصَفَر القطار بشدّة ، فصعد المسافرون الذين كانوا قد نزلوا ، وتحرك القطار قبل وصول القرويين.

الدكتور : ايها العمّ ، ارجوا ان تستمر في حديثك حول القضاء.

اول مورد قضائي متطوّر في عالم اليوم

الشيخ : كما قلت لكم ان اهم ما تفتخر به اوروبا وامريكا اليوم هو استقلالية القضاة. في حين ان الاسلام قام بتلك الخطوة قبل الف واربعمائة عام ، وقد اهتم بهذا الموضوع في قوانينه القضائية ، كما ان الاسلام خوّل القضاة صلاحيات لم يخولها لأي احد سوىٰ الخليفة ونائبه.

يقول أمير المؤمنين عليعليه‌السلام في عهده لمالك الاشتر عامله علىٰ مصر : ثم اختر للحكم بين الناس افضل رعيتك في نفسك ، الىٰ ان يقول له : واعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له

١٦٤

عندك(١) .

اصدقائي الاعزاء !

وكما لاحظتم في ذلك العهد الذي كتبه امير المؤمنينعليه‌السلام ، فأنه اعتبر اعطاء القاضي قوة وصلاحيات مستقلة ضرورة لابد منها ، لكي لا يطمع فيه شخص ويغتاله بالدسيسة عند الوالي او الخليفة. اذن ، فنحن نشاهد الاستقلال والحصانة التي توصل اليها عالم اليوم واعطاها للقضاة في العهد الذي كتبه عليعليه‌السلام لمالك الاشتر بوضوح.

نموذجان تاريخيان في استقلال القضاء في الاسلام

هنا ، ومن اجل بيان مدىٰ قوة واستقلالية القضاء في الاسلام ، ننقل قصتين تاريخيتين :

الاُولىٰ : تنازع رجل غير معروف مع الهادي العباسي الخليفة حول بستان ، فأحتكموا عند القاضي ابو يوسف ، ورأىٰ ابو يوسف ان الحق لذلك الرجل الغريب ، في حين ان للخليفة ايضاً شهوده !

فأمر ابو يوسف الخليفة بادلاء القسم لأثبات صحة اقوال شهوده ، لكن الخليفة امتنع عن القسم ، واعتبر ذلك اهانة له ، وعندما رأى ابو يوسف ان الحق

________________

(١) نهج البلاغة : ١٣٥ ، طبعة مصر.

١٦٥

مع الرجل الغريب ، اعطاه البستان وادان الخليفة(١) .

الثانية : هو ان الفضل بن ربيع ، واحد من اراذل حاشية الرشيد الخليفة العباسي المعروف ، شهد لصالح الخليفة في حادثة قضائية ، فلم يقبل ابو يوسف القاضي شهادته ، فغضب الخليفة وقال للقاضي : لماذا لا تقبل شهادة الفضل بن ربيع ؟!

فقال القاضي : لأنني سمعت الفضل بن ربيع يقول لك : انا عبدك وغلامك. فإذا كان صادقاً ، فلا تقبل شهادة العبد لصالح سيده ، واذا كان كاذباً ، فنحن لا نقبل شهادة الكاذب(٢) .

المورد الثاني للتطور القضائي في عالم اليوم

أما المفخرة القضائية الثانية لعالم اليوم ، في استقلال القضاة مالياً فهو للحيلولة دون حاجتهم إلى الآخرين. ومن حسن الحظ فقد قام الاسلام بذلك قبل الف واربعمائة عام سبقت علىٰ عصر الذرّة والتطور الذي تتبجح به الدول الاوروبية وأمريكا.

وهذا هو الامام عليعليه‌السلام يقول في عهده لمالك الاشتر في هذا الصدد :

وافسح له في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته الىٰ الناس(٣) .

________________

(١) العدالة الاجتماعية في الاسلام.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) نهج البلاغة : ١٣٠ ، طبعة مصر.

١٦٦

المورد الثالث للتطور القضائي في عالم اليوم

الخصوصية الثالثة في اوروبا وامريكا بأعتبارهما دولاً حرّة ومتطورة !! هي المساواة امام القانون والقضاء فجميع الامتيازات تلغىٰ في المحاكم القضائية. وهذا الموضوع ايضاً موجود في قوانين الاسلام القضائية بشكل افضل وادّق. ( كما سيأتي في المبحث اللاحق ، ضمن البحث في : شروط القضاء الاسلامي ).

اصدقائي الاعزاء !

ان الاسلام وضع اساساً للمساواة في المحاكم القضائية ، بحيث استطيع القول وانا مطمئن كل الاطمئنان ان اكثر دول اليوم تقدماً وفي قلب اكثر الدول تحضراً في اوروبا وامريكا لا تستطيع ايجاد مثل تلك المساواة ، لن تأتي مثل تلك المساواة لعشرات القرون الاُخرىٰ في عالم البشرية.

الدكتور : صحيح ان ادق النظريات العلمية والقانونية التي تهتم بها اوروبا وامريكا حالياً وفي جميع شؤون الحياة المادية والمعنوية ، كان الاسلام قد طرحها بأحسن وجه قبل ألف وأربعمائة عام ، لكن يجب ان لا ننسىٰ ان عالم اليوم له تطوراته في مجال القضاء « خاصة فيما يتعلق بالمساواة في محاكم القضاء » ، وحتى لو كانت لا تصل الىٰ دقة وظرافة قوانين الاسلام من الناحية العلمية ، فليس كما ادعيت من اننا لن نصل بعد عشرات القرون الىٰ قوانين ، كتلك التي وضعها الاسلام.

١٦٧

الشيخ : سعادة الدكتور ، اقول بصراحة وقاطعية ، ان الاسلام يمتلك قوانين سامية في هذا المجال الاجتماعي والسياسي والامني الحيوي والذي هو اساس سعادة الفرد والمجتمع ، ولا يوجد لها مثيل في جميع انحاء العالم ، ولكي لا يتصور اصدقائي انني اتكلم اعتباطياً ولا يستند كلامي الىٰ شيء ، لابد ان اشرح قسم من قوانين الاسلام القضائية ، لتكون شاهداً حياً علىٰ صدق اقوالي ، وهذهِ الشروط ( القوانين ) يمكن تقسيمها الىٰ اربعة اقسام :

شروط القضاء الاسلامي الفريدة

القسم الاول :

من شروط الاسلام الفريدة في القضاء ، المساواة التي يجب ان يعملها القاضي فيما يتعلق بطرفيّ النزاع ، وهذا القسم من الشروط ، كالتالي :

١ ـ من اجل المساواة بين طرفي النزاع ، قرر الاسلام ان يكون محل جلوسهم في المحكمة في مكان واحد حتىٰ لو كان احدهم الخليفة والثاني فقيراً او عاجزاً ، فليس من حق الحاكم ( القاضي ) ان يميزَّ بين طرفي النزاع(١) .

لا بدّ من محكمة !

ينقل لنا التاريخ : في احدىٰ المرّات وبعد ان انهىٰ هارون الرشيد اعمال

________________

(١) المصدر نفسه.

١٦٨

الحج ، ذهب الىٰ المدينة ، فطلب منه اهل المدينة ان ينصب لهم قاضياً ، لأن قاضيهم كان قد توفي ، وقد عرّفوا اثنين من اتقىٰ علماء المدينة الىٰ هارون الرشيد لهذا الامر ، فأراد هارون ان يختبرهما ، فأحضر احدهما ، وفى حين كان وزيره واقفاً بين يديه ، قال هارون للرجل العالم : بيني وبين وزيري نزاع علىٰ ضيعة ، ثم شرح للعالم اسباب النزاع وطلب منه ان يقضي في الامر ، وبعد ان استمع الرجل العالم الىٰ كلام هارون وشرحه ، ثم الىٰ كلام الوزير وشرحه ، قال بعد تأملّ وتفكرّ : الحقّ مع الخليفة ، وقضىٰ لصالحه ، فأجازه هارون بالانصراف.

ثمّ أمر بأحضار العالم الآخر المرشح للقضاء ، وشرح له ايضاً ذلك النزاع الوهمي بينه وبين وزيره ( كما شرحه للعالم الأول ) ثم طلب منه ان يقضي في الامر.

فقال له العالم والفقيه : انا لا استطيع القضاء هنا ، لأن هذا المجلس ليس محكمة رسمية بنظر القانون القضائي الاسلامي ، ولان احد طرفي النزاع وهو انت تجلس في صدر المجلس وفي المكان المخصص لك ، في حين يقف الطرف الآخر وهو وزيرك بين يديك ، في حين ان الاسلام يأمر بأن يجلس طرفي النزاع في محل ومستوى واحد وان لا يكون بينهما أي تمايز وتفاضل.

وبعد ان سمع هارون الرشيد ذلك الكلام الذي يعبر عن روح اسلامية حرّة في الرجل ، نصّبه قاضياً للمدينة.

١٦٩

اصحاب الابل يشتكون الخليفة

وكنموذج عملي كامل آخر للمساواة القضائية في الاسلام ، قصة شكوىٰ مجموعة من اصحاب الابل استأجر المنصور العباسي ابلهم للسفر الىٰ الحج ، لكنه امتنع عن اعطاءهم اجورهم بعد رجوعه من الحج. فأشتكىٰ اصحاب الابل الىٰ قاضي المدينة ( ومكانته آنذاك لا تتجاوز مكانة رئيس محكمة في مدينة صغيرة اليوم ) تعدّي المنصور علىٰ حقوقهم ، فأرسل القاضي مباشرة خلف المنصور للحضور في المحكمة الرسمية ، وحاكمه وهو جالس الىٰ جانب اصحاب الابل ، ثم اخذ منه اجرة الابل بعد ان اعطىٰ الحق لأصحاب الابل في المجلس نفسه.

٢ ـ ومن اجل مراعاة المساواة الكاملة بين طرفي النزاع ، علىٰ القاضي المساواة في النظرة والاشارة بينهما ، وان لا ينظر الىٰ احدهما اكثر من الآخر او يشير عليه ، الّا في حالة الضرورة.

٣ ـ علىٰ القاضي ان يتكلم مع الاثنين بالتساوي لا يحق له الكلام مع احدهما اكثر من الآخر او ابراز محبة نحوه اكثر من الآخر.

٤ _ علىٰ القاضي الالتفات والاهتمام بكلامهما علىٰ حدّ سواء.

في عهده لشريح قاضي الكوفة ، يقول الامام امير المؤمنين عليعليه‌السلام :

ثم واس بين المسلمين بوجهك ومنطقك ومجلسك حتىٰ لا يطمع قريبك في حيفك ولا ييأس عدوك في عدلك(١) .

________________

(١) مستند الشيعة ، للنراقي ، كتاب القضاء ، اضافة إلى سائر كتب الفقه.

١٧٠

حضرة الدكتور ! لكم ان تحكوا هل يجب على القاضي ـ في اكثر دول العالم تحضراً ـ ان يراعي هذا الحدّ من المساواة بين طرفي النزاع ، ويساويهما حتىٰ في النظرة ؟!

هل يعتبر القاضي في اوربا وامريكا غير ملتزماً بالقانون اذا تحدث مع احد المتنازعين اكثر من الآخر واهتم به اكثر من غريمه ؟!

٥ ـ اذا سلّم علىٰ القاضي احد طرفي النزاع عند دخوله المحكمة قبل الآخر ، يحق للقاضي ان يقدم جواب سلامه علىٰ الآخر ، ولكن اذا سلّماً معاً ، علىٰ القاضي ان يقول في جوابهما : سلام عليكما. ولا يحق له ان يقدم جواب سلام احدهما علىٰ الآخر ، لكي لا يعطي بذلك امتيازاً لأحدهما علىٰ الآخر ويخلّ بالمساواة التي يجب ان تكون بينهما(١) .

حضرة الدكتور ! هل توجد من هذه الالتفاتات القانونية في قضاء عالم اليوم ؟! ألا يحق للقاضي في الدول الغربية ردّ سلام احد اطراف النزاع ومجاملته اكثر من الآخر ؟! وهل سيتعامل قضاة امريكا بالمساواة اذا كان طرفي النزاع احدهما رئيس جمهورية امريكا والآخر مستخدم عادي ؟!

القسم الثاني :

وهي الشروط التي يجب توفرها في القاضي لكي يتسلّم هذا المنصب الحساس والمقدس.

________________

(١) المصدر نفسه.

١٧١

سعادة الدكتور ! تعلمون جيداً ان الشرط الوحيد للقضاء في الدول الغربية وسائر دول العالم التي قبلت بنظامها الاجتماعي ، هو الكفاءة العلمية ، لكن الاسلام وضع شروطاً للقاضي منطقية وعقلانية ، تلك الشروط التي لا نجد مثيلاً لها في جميع القوانين القضائية لدول العالم العظمىٰ ، وبالنتيجة فأن اغلب المراجع القضائية في عالم اليوم ليست ملجأً تطمئن اليه الطبقات المحرومة والمستضعفة والشروط هي :

١ ـ من شروط القاضي في الاسلام وبالاضافة الىٰ كفاءته العلمية ، ان يكون عادلاً وله حصانة اخلاقية وعلمية ، لانه الملجأ الوحيد للطبقات المحرومة والمستضعفة والمظلومة في البلاد. لذلك كان من الضروري ان يكون صاحب فضائل اخلاقية وان يكون عفيفاً ، حتى يطمئن الضعفاء والمظلمون عند تعرضهم لظلم وعدوان الاقوياء ان هناك من يلجئون اليه ، وهم القضاة الذين سيأخذون لهم الحق ممن ظلمهم واعتدىٰ عليهم كائناً من كان وفي اي مستوىٰ من القوة والمسؤولية.

ولكن اذا كان القاضي منحرفاً اخلاقياً وغير عادل ومليء بالذنوب ، فهل سيحصل ذلك الاطمئنان لدىٰ الطبقات الضعيفة والمحرومة ؟! وهل سيكونون بمأمن من تعديات الاقوياء واصحاب الاموال ؟! وهل يستطع القاضي الغارق بالخيانة والذنوب ان يكون المدافع عن المحرومين والمظلومين ؟! وهل يمكن تحقيق توقعات الشعب من القضاة ، بمجرد امتلاكهم كفاءة علمية حتىٰ لو كان القاضي خائناً ومنحرفاً ؟!

الدكتور : صحيح فالاسلام ومن خلال هذهِ الشروط التي وضعها

١٧٢

للقاضي حقق اكبر انجاز علمي وقضائي. لان القاضي العادل والذي يمتلك اخلاقاً فاضلة وتقوىٰ هو الذي يستطيع ان يكون ملجأ للطبقات المحرومة والمستضعفة فيما لو تعرضت للظلم والاعتداء ، ولا يمكن لشخص غير عادل لا يمتلك فضيلة اخلاقية ان يقوم بتلك المهمة الحساسة والحياتية لمجرد امتلاكه شهادة دراسية.

الشيخ : والعدالة والتقوىٰ هما أوّل شرطان يجب توفرهما هي القاضي بعد كفاءته العلمية ، اما الشرط الاخرىٰ ، فهي :

٢ ـ ان يكون القاضي صبوراً ، ليتمكن من حلّ اعقد المواضيع القضائية بهدوء وتأمل ودون اي استعجال.

٣ ـ يجب ان يتمتع القاضي بالحلم وان لا يغضب لسماعه كلام طرفي النزاع الذي لا يخلو عادة من الكلمات الجارحة والنابية.

٤ ـ يجب ان يكون القاضي علىٰ مستوىٰ من الاخلاق الفاضلة ، للحد الذي اذا اطلع في يوم من الايام علىٰ خطأ ارتكبه. يسحب كلامه ولا يعتبر ذلك عاراً.

٥ ـ يجب ان يكون القاضي صاحب همّة عالية ، لكي لا يتوقع اجراً مقابل قضاءه بالحق وحكمه الصحيح.

٦ ـ يجب ان لا يكون القاضي عاطفياً ، لكي لا يتعب من الدقّة في القضايا ، ولا يقضي فيها من خلال نظرة سطحية ، بل يبذل كل ما في طاقته ووسعه للتدقيق فيها.

١٧٣

٧ ـ يجب ان يكون القاضي انساناً وقوراً وحكيماً لكي لا يتأثر بمدح او هجاء اطراف النزاع له.

وقد جمع الامام امير المؤمنينعليه‌السلام هذهِ الشروط كلها في عهده الذي كتبه لمالك الاشتر حينما ولّاه مصر ، فقال(١) :

« ثم اختر للحكم بين الناس افضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الامور ولا تحكمه الخصوم ولا يتمادىٰ في الزلّة ولا يحصر في الفيء الىٰ الحق اذا عرفه ولا تشرف نفسه علىٰ طمع ولا يكتفي بأدنىٰ فهم دون اقصاه واوقفهم في الشبهات ، وآخذهم بالحجج ، واقلهم تبرماً بمراجعة الخصم واصبرهم علىٰ تكشف الامور واصرمهم عند اتضاح الحكم ممن لا يزدهيه اطراء ولا يستميله اغراء ».

التعجب والحيرة !

الدكتور : رفاقي الاعزاء ، من خلال معلوماتي الكثيرة عن القوانين القضائية في العالم ، يجب ان اعترف بصراحة ، ان مثل هذهِ الشروط التي يجب توفرها في القاضي بحكم العقل والمنطق ، غير موجودة في جميع دول اوروبا وامريكا وفي صميم اكثر الدول تحضراً علىٰ الارض ، علىٰ الرغم من ذلك الضجيج الذي احاطوا انفسهم به ، ومما يبعث علىٰ التعجب والحيرة هو ان المسلمين وعلى الرغم من امتلاكهم مثل هذهِ الذخائر من القوانين القضائية العلمية يمدون ايديهم الىٰ انظمة الغرب ليستعيروا منها قوانينهم الوضعية.

________________

(١) نهج البلاغة : ١٣٠ ، طبعة مصر.

١٧٤

والاعجب من ذلك كله هو ليس فقط عدم تطبيق هذهِ القوانين في المجتمعات الاسلامية ، بل ان اغلب المسلمين لا يعلمون بوجود مثل هذهِ القوانين الراقية والمتطورة.

اصدقائي الاعزاء !

من خلال استماعي لهذهِ الحقائق والمعارف العلمية التي جاءت في هذا الدين المقدس والذي ظهر قبل الف واربعمائة عام في عالم مظلم ، من أجل خلاص البشرية ، ومقارنتها بقوانين اكثر البلدان تحضّراً في اوروبا وامريكا ، اعطي تمام الحق للعلماء الغربيين وغير المسلمين ان يخضعوا بهذا الشكل امام نبي الاسلام العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله وان يعترفوا له بأدق واسمىٰ مكانة علمية.

القسم الثالث :

الشيخ : الحالات التي يجب ان يتجنبها القاضي عند الحكم ، وهذه الشروط هي :

١ ـ يكره(١) للقاضي اصدار الحكم وهو في حالة غضب.

٢ ـ يكره القضاء عندما يكون القاضي جائعاً او عطشاناً.

٣ ـ يكره القضاء ، اذا كان القاضي حزيناً غير مرتاح نفسياً.

________________

(١) المكروه ، هو العمل الذي يجوز القيام به ، ولكن يستحسن تركه.

١٧٥

٤ ـ يكره القضاء ، اذا كان القاضي متضايقاً من البول او الغائط(١) .

اصدقائي الاعزاء !

نفهم من خلال هذهِ الشروط التي وضعت للقاضي في الاسلام ، ان الدين يريد ان يكون حكم القاضي خالٍ من كل تأثيرات جانبية صغيرة او كبيرة من اجل ان يكون حكمه صحيحاً وحقاً ، لانه وخلاف ذلك لربما يضيع حق مظلوم او لا يطمئن المعتدىٰ عليه لجهاز القضاء في ان يأخذ حقه من المعتدي.

القسم الرابع :

وهي ما يتعلق بالشروط التي يضعها الاسلام لموظفي المحاكم القضائية ، لان يعدم تقواهم لربما يؤدي يوماً ما الىٰ عرقلة تنفيذ حكم القاضي ويؤخر قطع يد المعتدي عن المظلوم ، وهذا القسم من الشروط كالتالي :

١ ـ لابد ان يكون كاتب المحكمة والشخص المكلّف بتحرير حكم القاضي ، من ذوي الهمم العالية والبعيدين عن صفات الطمع وحب المال و لكي لا يخون بالتطميع او ان يؤدي الىٰ عرقلة او تأخير اجراء الحكم.

٢ ـ لا يحق للقاضي ان يضع لنفسه حاجباً(٢) ؛ لان القاضي ملجأ للمظلومين ويجب ان يكون الوصل اليه سهلاً يسيراً دون مانع أو حاجب ، كي

________________

(١) مستند الشيعة للنراقي ، كتاب القضاء.

(٢) لم ير بعض الفقهاء والمجتهدين حرمة في تعيين حاجب للقاضي ، بل اعتبروه مكروهاً.

١٧٦

يمكنه تخليص المظلومين من مخاطب الظالمين بأقصىٰ سرعة ؛ لان الحاجب ربما قام بتظليل الحاكم ( القاضي ) من خلال صداقته او قربه من الظالم والمعتدي ، وذلك بالمتعلق للقاضي ، ونقل اخبار غير صحيحه عن وضع المجتمع والناس له ، ولربما يكون حائلاً دون وصول صوت المظلومين الىٰ مسمع القاضي(١) .

اهم انجاز قضائي اسلامي

أتعلم يا سعادة الدكتور ، ان اكبر انجاز قضائي في الاسلام ، هو سرعة العمل وعدم وجود اي نوع من التشريفات !

اصدقائي الاعزاء !

اتعلمون ان القوانين القضائية مثل القوانين الطبية ، اي كما ان قوانين الطب موظفة لمعالجة المريض وخلاصه من مخالب الألم ، فأن المحاكم القضائية أيضاً موظفة بتخليص المظلومين من ايدي الظالمين واحقاقهم ، وكما ان الطب الجيد هو الذي يعالج مريضه بسرعة ويخلصه من آلام المرض ، فكذلك افضل المحاكم والقوانين القضائية هي تلك التي تقطع بسرعة يد المعتدين عن المظلومين وتخلصهم من مآسي الظلم.

أمّا إذا أصبحت قوانين الطب في يوم ما سجينة تشريفات معينة ، فمثلاً ،

________________

(١) مستند الشيعة للنراقي ، كتاب القضاء.

١٧٧

يؤتىٰ بمريض الزائدة الدودية(١) وهو يتلوّىٰ من شدّة الألم ، ويقول له الطبيب ، يجب ان تملأ استمارة وننظم لك اضبارة ، ثم نرسل الاضبارة الىٰ وزارة الصحة ، وبعد ان تمر بجميع المراحل القانونية ، ويتخذ قرار بمعالجتك ، واُبلّغ بذلك القرار ، سأقوم بعلاجك !!

فهل يمكن تسمية مثل هذه المؤسسة الطبية ـ ايها السادة ـ مؤسسة طب وعلاج ، بل هي ألعوبة وعبث ؟! وأي طبٍ هذا الذي يرىٰ المريض يتلوىٰ ألماً ، فيما ينتظر هو القيام بالروتين الاداري ؟!

اصدقائي الاعزاء !

لم توضع القوانين القضائية إلّا لانصاف المظلوم من الظالم ، والمحاكم القضائية ملاجىء قوية وسند للناس المحرومين والمستضعفين ، وعلىٰ هذا الملجأ والسند ان يغيث الناس بسرعة بسلاح القانون ويخلصهم من وطأة الظلم.

لكننا وللأسف نشاهد ان اعمال هذهِ المؤسسة المهمة مكبلة بتشريفات باطلة وزائفة ليس فقط في بلادنا بل حتىٰ في الدول التي تدعي لنفسها المدنية والتطور ، ممّا أدىٰ عملياً الىٰ استمرار الظلم والاعتداء علىٰ حقوق الآخرين ، فعجلة القضاء في جميع دول العالم بطيئة الىٰ حدّ نشاهد في بعض الاحيان المظلوم يموت تحت وطأت الظالم وبعد موته يصدر الحكم بمعاقبة الظالم والتخليص المظلوم !! وعذرهم في ذلك هو ان القضية يجب

________________

(١) Appendicite ، التهاب في الزائدة الدودية ، تصحبه آلام وحمّى وقيء.

١٧٨

ان تطوي مراحلاً قانونية واننا مشغولون بدراستها جيداً !! ولكي لا يملّ الاصدقاء من كثرة الحديث ، انقل لهم نماذُج لأساليب الاجهزة القضائية في عالمنا المعاصر :

القضية التي استمرت ١٩ عاماً !!

ينقل أحد مسؤولي وزارة العدل الكبار سابقاً وهو الآن متقاعد ، وكان عند تقاعده يشغل منصب مدعي عام احدىٰ المدن ، يقول السيد ( م ) في مذكراته : كنت مشغولاً في الشعبة الاولىٰ لمحكمة المدينة بدراسة قضية. مفادها ان شخصاً بأسم ( ح ) اقام دعوىٰ ضد بلدية طهران لخلع يدها عن قطعة ارض ، وذلك سنة ١٩٢٧ ، وكانت هذهِ القضية مستمرة لفترة ١٩ عاماً ، أي حتى سنة ١٩٤٦ ، حتى اعلنت في تلك السنة نهايتها وامرت بأخلاء الارض المتنازع عليها.

القضية التي استمرت ١٨ عاماً

ويذكر نفس الشخص ، فيقول : اقام احد المقاولين سنة ١٩٢٨ دعوىٰ ضد وزارة الحرب لأخذ طلبه منها ، وبقيت هذه القضية ١٨ عاماً تطوي مراحلها القانونية ، حتى اعلنت نهاية تحقيقها سنة ١٩٤٦ وحكمت بدفع المبلغ المذكور الىٰ المقاول من قبل وزارة الحرب.

١٧٩

تنظيف الوفر في شهر آب !!!

يقال ان رجلاً اشتكىٰ الىٰ القضاء من جاره الذي حول الوفر من سطح بيته الىٰ داخل بيت الرجل وذلك في شهر شباط ( اي في الشتاء ) ولانه يخاف علىٰ بيته من الضرر لأن بناءه قديم. وبعد ان قدم الرجل شكواه رجع للبيت فارغ البال وهو ينتظر ان يصدر حكماً بأزاحة الوفر والجليد من فناء داره في عصر ذلك اليوم أو غده ، لكنه مضت اسابيع وشهور ولم يصدر الحكم ، حتى اجتازت القضية مراحلها القانونية وصدر الحكم بالاخلاء ولكن ذلك كان في شهر آب والله العالم في تلك السنة او السنة التي تلتها !

هنا ضحك الجميع طويلاً.

لا بدّ من تحملّ دلال ملك الموت !!

قرأت في أحدىٰ الصحف خبراً لطيفاً بالعنوان اعلاه ، ونصّ الخبر يقول : « وصل لأحد العمال ابلاغ من المحكمة ، وعندما يذهب العامل في اليوم الثاني للمحكمة وعرّف نفسه ، لم يقبل بذلك اعضاء المحكمة ، وقالوا له : يجب أن تأتي الىٰ المحكمة برفقة احد رجال الشرطة ، فيذهب المسكين الىٰ احدىٰ المناطق القريبة من المحكمة ويتوسل الىٰ احد رجال الشرطة لكي يرافقه ( يحضره ) الىٰ المحكمة !! »(١) .

________________

(١) مجلة الرقيّ ، العدد ٣٥٨. ( بالفارسية )

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

من هذين البيانين اتضح مقصود القرآن الكريم من قوله :

( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) .

وقوله :

( وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ ) .

كما اتضح أيضاً لماذا لا تكون الوحدة التي نصف بها الذات الإلهية، وحدة عددية، لأنّ مثل هذه الوحدة ( أي العددية ) إنّما تتصور إذا أمكن تصور فردين أو أفراد للشيء، في حين لا يمكن تصور التعدّد في مورد اللامحدود، لأنّ كل واحد من الفردين عند افتراض التعدّد، غير الآخر، ومنتهى حدود الآخر، ولهذا يكون أي واحد منهما غير محدود، وغير متناه في حين أنّنا افترضنا الأوّل غير محدود، وغير متناه.

سؤال في المقام

نرى في الكتاب العزيز مجيء وصف « القهار » عقيب وصف الله ب‍ « الواحد » مثل قوله :

( وَمَا مِنْ إِله إلّا الله الوَاحِدُ القَهَّارُ ) (١) .

( سُبْحَانَهُ هُوَ اللهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ ) (٢) .

( وَهُوَ الوَاحِدُ القَهَّارُ ) (٣) .

__________________

(١) ص: ٦٥.

(٢) الزمر: ٤.

(٣) الرعد: ١٦.

٢٨١

وهنا ينطرح سؤال عن وجه الارتباط بين وصفي الوحدانية والقهارية ؟

الجواب :

الحق أنّ « القهارية » دليل على وحدانية الله، لأنّ الشيء المحدود المتناهي مقهور للحدود والقيود الحاكمة عليه، وعلامة المقهورية هي أن يصح سلب أُمور منه، مثلاً يصح أن يقال في شأنه :

هذا الجسم ليس هناك أو أنّه لم يكن في ذلك الوقت.

وعلى هذا فإنّ المقهورية هي سبب المحدودية.

وأمّا إذا كان الشيء « قاهراً » من كل الجهات، فلا تتحكم فيه الحدود قطعاً، واللامحدودية تستلزم الوحدانية والتفرّد، ولأجل ذلك قورنت صفة الوحدانية بوصف القاهرية، وقال:( الوَاحِدُ القَهَّارُ ) .

وفي الحقيقة يمكن اعتبار هذا النوع من الوصف ( أي الوصف بالقهارية ) إشارة إلى ذلك الدليل العقلي الذي ذكرناه في هذه الإجابة.

وهكذا يتضح وجه الارتباط بين وصفي « الوحدانية » و « القهّارية » اللّذين اجتمعا في بعض الآيات القرآنية.

سؤال آخر :

إذا كان وجود الله منزّهاً عن الوحدة العددية، ففي هذه الصورة ماذا يكون معنى الآيات التي تصف الله بأنّه « الواحد »، والواحد، كما نعلم، هو ما يقابل الاثنين والثلاث إلى غيرهما من الأعداد، كقوله سبحانه :

٢٨٢

( وَإِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ لا إِلهَ إلّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ) (١) .

( وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) (٢) .

خاصة إذا عرفنا بأنّ هذه الآيات نزلت في مقام الرد على ما كان يذهب إليه المشركون من الاعتقاد ب‍ « تعدّد الآلهة »، والذين كانوا يقولون :

( أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) (٣) .

الجواب: انّ الهدف من هذه الآيات ـ في الحقيقة ـ هو استنكار ما كان يعتقده المشركون بأنّ لكل قبيلة وقوم إلهاً خاصاً بها كانوا يعبدونه ولا يعتقدون بآلهة الآخرين.

فالمقصود من هذه الآيات هو إبطال إلوهية هذه الأوثان والآلهة المدّعاة وتوجيه الأذهان إلى « الله الواحد » بدل تلك الآلهة المتعددة.

وأمّا أنّ وحدته كيف ؟ وعلى أي وجه ؟ ومن أي نوع من أنواع الوحدات الأربع تكون هذه الوحدة ؟ فليست الآيات المذكورة ناظرة إليه، بل يجب استفادة هذا الأمر من الإشارات التي وردت في القرآن إلى هذه الوحدة في مواضع أُخرى.

أحاديث أئمّة أهل البيت: حول وحدانية الله

لقد ورد هذان الموضوعان، أعني: عدم تناهي ذاته سبحانه وعدم الوحدة العددية، المذكوران في البرهان العقلي في أحاديث أئمّة أهل البيت: أيضاً فهي

__________________

(١) البقرة: ١٦٣.

(٢) العنكبوت: ٤٦.

(٣) ص: ٥.

٢٨٣

صرّحت بنفي المحدودية والتناهي في الذات الإلهية، وصرّحت أيضاً بعدم صدق « الوحدة العددية » في حقّه سبحانه.

فقد قال الإمام الثامن علي بن موسى الرضاعليه‌السلام في خطبة ألقاها على جماعة من العلماء :

« ليس له حد ينتهي إلى حده، ولا له مثل فيعرف بمثله »(١) .

ومما يستحق الإمعان والدقة أنّ الإمامعليه‌السلام ـ بعد نفيه الحد عن الله ـ نفى المثيل له سبحانه لارتباط اللامحدودية وملازمتها لنفي المثيل على النحو الذي مر بيانه.

ومن ذلك ما قاله الإمام عليعليه‌السلام في وقعة الجمل عندما كان بريق السيوف يشد إليها العيون، وكانت ضربات الطرفين تنتزع النفوس والأرواح التفت إليه رجل من أهل العراق وسأله عن كيفية وحدانية الله، فلامه أصحاب الإمام وحملوا عليه قائلين له: يا أعرابي أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسم القلب ( أي تشتت الفكر واضطراب البال ) ؟!

فقال الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام :

« دعوه فإنّ الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم ».

ثم قال ـ شارحاً ما سأل عنه الأعرابي ـ :

« وقول القائل: واحد يقصد به باب الأعداد، فهذا ما لا يجوز، لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد ».

__________________

(١) توحيد الصدوق: ٣٣.

٢٨٤

ثمّ أضافعليه‌السلام قائلاً :

« هو ( أي الله ) واحد ليس له في الأشياء شبيه، كذلك ربنا »(١) .

وهكذا يصرح الإمام بأنّ الواحدية المذكورة هنا تعنى أنّه لا عديل له لا أنّه واحد على غرار قولنا: « هذا قلم واحد » الذي يكون مظنة لإمكان الاثنينية، إذ في هذه الصورة يمكن أن يكون ذات مصاديق متعددة وأفراد متكثرة، ولكنه انحصر في الله، وهذا خلف، وغير صحيح.

الآلهة الثلاثة أو خرافة التثليث

بعد أن درسنا ـ بالتفصيل ـ الآيات المرتبطة بتوحيد الله، يلزم أن نعرف نظر القرآن في حقيقة التثليث.

الحقيقة أنّه قلّما نجد عقيدة في العالم تعاني من الإبهام والغموض كما تعاني منها المسيحية.

كما أنّه قلّما توجد مسألة في غاية الإبهام واللامعقولية كما تكون عليه مسألة « التثليث » في تلك العقيدة.

لقد أدّى تقادم الزمن وتطور الحياة والتكامل الفكري وتضاؤل العصبيات المذهبية والتحولات الفكرية، أدّت كل هذه الأُمور إلى ظهور « طبقة » جديدة بين مفكري المسيحية وعلمائها، كما تسببت في وجود فجوة عميقة بين العلم والمنطق من جانب، وبين معتقداتهم القديمة من جانب آخر بشكل لا يمكن ملؤها بأي نحو، وأي شيء.

غير أنّ هذه « الطبقة الجديدة » من العلماء المسيحيين اتخذت لملء هذه

__________________

(١) توحيد الصدوق: ٨٣.

٢٨٥

الفجوة الفكرية وهذا الخلاء العقيدي طريقين :

الطريق الأوّل: محاولة البعض منهم لتأويل تلك المعتقدات المسيحية الباطلة المرفوضة حتى في المنطق البشري الحاضر، وإعطاء هذه الأفكار الخرافية صبغة منطقية عصرية كما نشاهد ذلك في تأويلهم لمسألة التثليث.

الطريق الثاني: هو اجتناب التأويل واتباع قاعدة أتفه وهي قولهم: « بأنّ طريق العلم يختلف عن طريق الدين » وأنّه من الممكن أن يقول الدين بشيء أو يرتضي أصلاً لا يصدقه العلم فيه. وإنّه ليس من الضروري أن يطابق الدين مع العلم دائماً.

وبالتالي قبول خرافة « الدين يخالف العلم ».

ولكن هؤلاء غفلوا عن نقطة هامّة جداً وهي أنّ القول بخرافة: « مضادة الدين للعلم » ستؤدي في المآل إلى إبطال أصل الدين، لأنّ اعتقاد البشر بأي دين من الأديان يتوقف على الاستدلالات العقلية والعلمية، وفي هذه الصورة، نعني: مضادة العلم للدين، كيف يمكن إثبات صحة الدين بالاستناد إلى الأُسس العقلية والعلمية والحال أنّ بين الدين والعلم مباينة ـ حسب هذه النظرية ـ أو أنّ في الدين ما ربما يخالف العلم والعقل ؟!!

إنّ البحث في العقيدة النصرانية حول سيدنا المسيح يتركّز في مسألتين :

١. التثليث وانّ الله سبحانه هو ثالث ثلاثة.

٢. كونه سبحانه اتخذ ولداً.

والمسألتان مفترقتان من حيث الفكرة وإقامة البرهان، ولأجل ذلك نعقد لكل واحدة منهما عنواناً خاصاً.

٢٨٦

كيف تسربت خرافة التثليث إلى النصرانية ؟

ينقل الأُستاذ فريد وجدي نقلاً عن دائرة معارف « لاروس » :

« أنّ تلاميذ المسيح الأوّليّين الذين عرفوا شخصه، وسمعوا قوله، كانوا أبعد الناس عن اعتقاد أنّه أحد الأركان الثلاثة المكونة لذات الخالق وما كان بطرس أحد حوارييه، يعتبره إلّا رجلاً موحى إليه من عند الله، أمّا بولسن فإنّه خالف عقيدة التلامذة الأقربين لعيسى وقال: إنّ المسيح أرقى من إنسان وهو نموذج إنسان جديد أي عقل سام متولد من الله »(١) .

إنّ التاريخ البشري يرينا أنّه طالما عمد بعض أتباع الأنبياء ـ بعد وفاة الأنبياء أو خلال غيابهم ـ إلى الشرك والوثنية ـ تحت تأثير المضلّين ـ وبذلك كانوا ينحرفون عن جادة التوحيد الذي كان الهدف الأساسي والغاية القصوى لأنبياء الله ورسله.

إنّ عبادة بني إسرائيل للعجل وترك التوحيد الذي هداهم النبي العظيم موسى له، لمن أفضل النماذج لما ذكرناه وهو ما أثبته القرآن والتاريخ للأجيال القادمة، وعلى هذا فلا داعي للعجب إذا رأينا تسرب خرافة « التثليث » إلى العقائد النصرانية بعد ذهاب السيد المسيحعليه‌السلام وغيابه عن أتباعه.

إنّ تقادم الزمن قد رسخ موضوع « التثليث » وعمّقه في قلوب النصارى وعقولهم بحيث لم يستطع حتى أكبر مصلح مسيحي ونعني « لوثر » الذي هذّب العقائد المسيحية من كثير من الأساطير والخرافات وأسس المذهب البروتستانتي، لم يستطع لوثر هذا من التخلّص من مخالب هذه الخرافة وأحابيلها.

__________________

(١) دائرة معارف القرن العشرين مادة ثالوث.

٢٨٧

رأي القرآن في التثليث

يعتبر القرآن الكريم « قضية التثليث » مرتبطة بالأديان السابقة على المسيحية ويعتقد أنّ المسيحعليه‌السلام نفسه ما كان يدعو إلّا إلى الله « الواحد » الأحد إذ يقول :

( لَقَدْ كَفَرَ الّذِينَ قَالُوا إنّ اللهَ هُوَ المسِيحُ ابنُ مَرْيَمَ وقالَ المَسِيحُ يا بَنِي إسرائيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبّي وَرَبَّكُمْ إنّهُ مَنْ يُشْرِكْ باللهِ فَقَدْ حَرّمَ الله عَلَيْهِ الجَنَّةَ ) (١) .

ويعتقد القرآن أنّ النصارى هم الذين أدخلوا هذه الخرافة في العقائد المسيحية إذ يقول :

( وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ المَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمْ اللهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ) (٢) .

لقد أثبتت تحقيقات المتأخرين من المحققين صحة هذا الرأي القرآني بوضوح لا لبس فيه.

فهذه التحقيقات والدلائل التاريخية جميعها تدل على أنّه أدخلت ـ في القرن السادس قبل الميلاد ـ إصلاحات على الدين البراهماني، وفي النتيجة ظهرت الديانة الهندوسية.

وقد تجلّى الرب الأزلي الأبدي وتجسد ـ لدى البراهمة ـ في ثلاثة مظاهر وآلهة :

١. برهما ( الخالق ).

__________________

(١) المائدة: ٧٢.

(٢) التوبة: ٣٠.

٢٨٨

٢. فيشنو ( الواقي ).

٣. سيفا ( الهادم ).

ويوجد هذا الثالوث الهندوكي المقدس في المتحف الهندي، في صورة ثلاث جماجم متلاصقة، ويوضح الهندوس هذه الأُمور الثلاثة في كتبهم الدينية على النحو التالي :

« براهما »: هو الموجد في بدء الخلق، وهو دائماً الخالق اللاهوتي، ويسمى الأب.

« فيشنو »: هو الواقي الذي يسمى عند الهندوكيين بالابن الذي جاء من قبل أبيه.

« سيفا »: هو المفني الهادم المعيد للكون إلى سيرته الأُولى.

لقد أثبت مؤلف كتاب « العقائد الوثنية في الديانة النصرانية » في دراسته الشاملة حول هذه الخرافة وغيرها من الخرافات التي تعج بها الديانة النصرانية أثبت أنّ هذا « الثالوث » المقدس كان في الديانة البراهمانية، وغيرها من الديانات الخرافية، قبل ميلاد المسيحعليه‌السلام بمئات السنين.

وقد استدل لإثبات هذا الأمر بكتب قيمة وتصاوير حية توجد الآن في المعابد والمتاحف يمكن أن تكون سنداً حياً، ومؤيداً قوياً لرأي القرآن الكريم، الذي ذكرناه عما قريب.

ثمّ في هذا الصدد يكتب غوستاف لوبون :

« لقد واصلت المسيحية تطورها في القرون الخمسة الأُولى من حياتها مع

٢٨٩

أخذ ما تيسر من المفاهيم الفلسفية والدينية اليونانية والشرقية وهكذا أصبحت خليطاً من المعتقدات المصرية والإيرانية التي انتشرت في المناطق الأوربية حوالي القرن الأوّل الميلادي، فاعتنق الناس تثليثاً جديداً مكوناً من الأب والابن وروح القدس مكان التثليث القديم المكون من نروپي تر، وژنون ونرو »(١) .

لقد أبطل القرآن الكريم مسألة التثليث بالبرهان المحكم إذ قال :

( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأرضِ جَمِيعاً ) (٢) .

نعم لم يرد في هذه الآية كلام صريح عن التثليث بل تركز الاهتمام فيها على إبطال « إلوهية المسيح »، ولكن طرحت ـ في آيات أُخرى ـ إلوهية المسيح في صورة إنكار « التثليث » ومن هذا الطرح يعلم أنّ إلوهية المسيح كانت مطروحة بصورة « التثليث » وتعدد الآلهة كما قال القرآن في موضع آخر :

( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَة وَمَا مِنْ إِلهٍ إلّا إِلهٌ واحِدٌ ) (٣) .

يقيم القرآن الكريم ـ في هذا المجال ـ برهانين في غاية الوضوح والعمومية، وها نحن نوضحهما فيما يأتي :

والبرهانان هما :

١. قدرة الله على إهلاك المسيح.

__________________

(١) قصة الحضارة.

(٢) المائدة: ١٧.

(٣) المائدة: ٧٣.

٢٩٠

٢. أنّ المسيح مثل بقية البشر يأكل ويمشي و

يقول القرآن حول البرهان الأوّل :

( فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأرضِ جَمِيعاً وَللهِ مُلْكُ السَّمٰوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ واللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ ) (١) .

ولا ريب أنّ جميع النصارى يعترفون بأنّ السيد المسيح « ابن » لمريم ولذلك يقولون: المسيح بن مريم.

فإذا كان عيسى « ابناً » لمريم فلابد أنّه بشر كسائر البشر وآدمي كبقية الآدميين، محياه ومماته بيد الله، وتحت قدرته، فهو تعالى يهبه الحياة متى يشاء، وهو تعالى يميته متى أراد، ومع هذه الحالة كيف تعتبره النصارى « إلهاً » وهو لا يملك لنفسه حياة ولا موتاً ؟!! »

والجدير بالذكر أنّ القرآن الكريم وجّه في هذه الآية عناية كاملة إلى « بشرية » المسيح باعتبار أنّ بشرية المسيح تؤلِّف أساس البرهان الأوّل ولذلك نجد القرآن يصفهعليه‌السلام بأنّه ابن مريم، ويتحدّث عن « أُمّه » وعن جميع من في الأرض فيقول:( وََأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأرضِ جَمِيعاً ) مشيراً إلى بشريته، بل وليثبت أنّ المسيح ليس أكثر من كونه واحداً من آحاد البشر وفرداً من أفراد النوع الإنساني يشترك مع بني نوعه في كل الأحكام على السواء.

وبعبارة أوضح أنّ هناك قاعدة في الفلسفة الإسلامية هي قاعدة « حكم

__________________

(١) المائدة: ١٧.

٢٩١

الأمثال » التي تقول: « حكم الأمثال فيما يجوز [ عليها ] وما لا يجوز واحد ».

فإذا كان هلاك أفراد الانسان ( ما عدا المسيح ) ممكناً كان هلاك المسيح أيضاً ممكناً كذلك، لكونه واحداً من البشر، وفي هذه الصورة كيف تعتبره النصارى إلهاً، والإله لا يجوز عليه الموت ؟!

ولتتميم هذا المطلب يختم القرآن الكريم الآية بجملة( وَللهِ مُلْكُ السَّمٰوَاتِ والأرض ) وفي الحقيقة إنّ هذه الجملة تكون علة للحكم السابق فمعناه أنّ الله يملك اهلاك عيسى وأُمّه وكل أفراد البشر لأنّهم جميعاً ملكه، وفي قبضته، وتحت قدرته، فيكون معنى مجموع الآية: انّ الله قادر على إهلاك عيسى وأُمّه، لأنّه مالكهم جميعاً وبيده ناصيتهم دون استثناء، والقدرة على إهلاكه وإهلاك أُمّه، أدل دليل على كونه مخلوقاً له سبحانه.

البرهان الثاني: المسيح والآثار البشرية

خلاصته: أنّ المسيح وأُمّه شأنهم شأن بقية الأنبياء، يأكلون الطعام، كأي بشر آخر، إذ يقول :

( مَا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمَّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ ) (١) .

وعلى هذا فليس بين المسيح وأُمّه وبين غيره من الأنبياء والرسل أي فرق، وتفاوت، فهم يأكلون عندما يجوعون ويتناولون الطعام كلما أحسّوا بالحاجة إلى الطعام، وشأن عيسى وأُمّه شأنهم، ولا ريب أنّ « الحاجة » دليل الإمكان والإله

__________________

(١) المائدة: ٧٥.

٢٩٢

منزّه عن الحاجة والإمكان.

إنّ هذه الآية لا تبطل إلوهية المسيح فحسب، بل تبطل إلوهية أُمّه أيضاً، إذ يستفاد من بعض الآيات أنّ « أُمّه » كانت معرضاً لهذه التصورات الباطلة أيضاً حيث يقول القرآن :

( ءَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ ) (١) .

لقد استوفينا البحث حول التثليث في نظر القرآن وبقي البحث حوله من زاوية البراهين العقلية، وسيوافيك ذلك في مختتم هذا الفصل، بعد أن ندرس بنوة عيسى ومعبوديته وبطلانها قرآنياً، لنتفرغ بعده إلى دراسة التثليث عقلياً.

الله سبحانه واتخاذ الولد(٢)

تعتبر مسألة بنوة المسيح لله إحدى مظاهر الشرك في « الذات »، الذي يصوّر حقيقة الإله الواحد في صورة آلهة متعددة، ويقوم « التثليث » النصراني في الحقيقة على هذا الأساس، أي على أساس اعتبار المسيح ابناً لله سبحانه.

وقد فنّد القرآن الكريم هذا الاعتبار الخاطئ وأبطله ببراهين عديدة، وأوضح تفاهته بطريقين :

أوّلاً: عن طريق البراهين العلميّة الدالة على استحالة أن يكون لله ولد مطلقاً سواء أكان هذا الولد عيسىعليه‌السلام أم غيره.

وثانياً: عن طريق بيان تولد المسيح من أُمّه، واستعراض حياته البشرية ،

__________________

(١) المائدة: ١١٦.

(٢) هذه هي المسألة الثانية التي أشرنا إليها ـ آنفاً في مطلع بحث التثليث ـ.

٢٩٣

الدال على بطلان كونه « ولداً » لله خصوصاً.

على أنّ النصارى ليسوا هم وحدهم الذين اعتقدوا بوجود ولد لله، بل قالت بمثل ذلك اليهود حيث ينقل سبحانه عنهم :

( وَقَالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ ) (١) .

وحذا حذوهم مشركو العرب حيث كانوا يتصورون أنّ « الملائكة » بنات الله إذ يقول سبحانه :

( وَيَجْعَلُونَ للهِ البَنَاتِ سُبْحَانَهُ ) (٢) .

وإليك هذه البراهين حول الطريق الأوّل بالتفصيل.

البرهان الأوّل

يقول سبحانه :

( بَدِيْعُ السَّمٰوَاتِ والأرض أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (٣) .

أُشير في هذه الآية الشريفة إلى برهانين على استحالة اتخاذ الله للولد :

١. انّ اتخاذ الولد يتحقق بانفصال جزء من الأب باسم « الحويمن » ويستقر في رحم الأُم ويتفاعل مع ما ينفصل منها وتسمّى بالبويضة، وتواصل تلك البويضة تكاملها حتى يكون الوليد بعد زمن.

__________________

(١) التوبة: ٣٠.

(٢) النحل: ٥٧.

(٣) الأنعام: ١٠١.

٢٩٤

إذن فمثل هذه العملية تحتاج ولا ريب إلى وجود « زوجة » أو بتعبير القرآن إلى « صاحبة » في حين يعترف الجميع بعدم الصاحبة له سبحانه كما يقول القرآن( وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ ) .

٢. إن كان معنى « اتخاذ الولد » هو ما قلناه، إذن فلا يكون الولد مصنوعاً لله ومخلوقاً له تعالى بل يكون عدلاً وشريكاً له.

لأنّ « الوالد » ليس خالق « الولد » بل الولد جزء من والده انفصل عنه، ونما خارجه، وكبر، في حين انّ الله خالق كل شيء ما سواه من الأشياء بلا استثناء كما تقول:( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) .

ويقول سبحانه في صدر الآية:( بَدِيعُ السَّمٰوَاتِ والأرْضِ ) بمعنى موجد السماوات والأرض وخالقهما وما فيهما.

البرهان الثاني

( الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمٰوَاتِ والأرضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ) (١) .

وقد أُشير في هذه الآية إلى برهان واحد على « نفي الولد لله » وهو مسألة « المالكية التكوينية له سبحانه والوهيته المطلقة » لما سواه، وتوضيحه :

إنّ هناك نوعين من المالكية: مالكية اعتبارية، تنشأ من العقد الاجتماعي الدارج بين أبناء البشر، ومالكية تكوينية تنشأ من خالقية المالك.

إنّ مالكية الإنسان لأمواله مالكية ناشئة عن « العقد الاجتماعي » الذي

__________________

(١) الفرقان: ٢.

٢٩٥

أذعن له الإنسان لغرض إدارة الحياة وضمان تمشيتها وجريانها، في حين أنّ مالكية الله للسماوات والأرض وما بينهما مالكية تكوينية ناشئة عن خالقيته لها.

فإذا كان الله سبحانه مالكاً لكل شيء فلا يمكن حينئذ أن نتصور له ولداً لأنّ ولد الإنسان ـ بحكم كونه ليس مخلوقاً له ـ لا يكون مملوكاً له كذلك مع أنّا أثبتنا أنّ الله مالك لكل شيء لكونه خالقاً لكل شيء، وإلى هذا البرهان أُشير في هذه الآية:( الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمٰوَاتِ والأرضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ) .

كما أُشير ـ في ذيل هذه الآية ـ إلى علة هذه المالكية وأساسها وهو « الخالقية » إذ يقول:( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) .

البرهان الثالث

( وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمٰوَاتِ والأرضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ *بَدِيعُ السَّمٰوَاتِ والأرضِ وَإِذَا قَضَىٰ أَمراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (١) .

استدل في هاتين الآيتين على « نفي الولد » بثلاثة براهين :

١. أنّ معنى الولد هو انفصال جزء من الوالد واستقراره في رحم الأُم، وهذا يستلزم كون الله جسماً، ومتصفاً بالآثار الجسمانية كالمكان، والزمان والجزئية، والتركب من الأجزاء بينما يكون الله سبحانه منزّهاً عن هذه الأُمور وإلى هذه الناحية أشارت الآية بكلمة « سبحانه ».

٢. انّ إلوهية الله مطلقة وربوبيته عامة وشاملة، فكل الموجودات قائمة به ومحتاجة إليه، غير مستغنية عنه.

__________________

(١) البقرة: ١١٦ ـ ١١٧.

٢٩٦

فإذا كان له « ولد » يلزم ـ حتماً ـ أن يكون الولد مثيلاً ونظيراً له في الاتصاف بجميع صفات الله ومنها: « الاستقلال والغنى عن الغير » على حين ثبت كونه سبحانه مالكاً مطلقاً للسماوات والأرض وما بينهما فهي قائمة به، تابعة له، محتاجة إليه دون استثناء ومطيعة لأمره وخاضعة لمشيئته بلا منازع، وليس هنا موجود مستقل غيره.

وإلى هذا البرهان أشار بقوله سبحانه:( لَهُ مَا فِي السَّمٰوَاتِ والأرضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ) .

٣. انّه لا موجب لاتخاذ الله للولد، لأنّ طلب الأبناء والأولاد، إمّا أن يكون لغرض استمرار النسل والذرية، أو بهدف الاستعانة بهم لرفع الاحتياج عند الشيخوخة والعجز، ولا يمكن أن يتصور أي واحد من هذه الدوافع في مقامه سبحانه وإلى هذا أشارت الآية بقولها :

( بَدِيعُ السَّمٰوَاتِ والأرضِ وَإِذَا قَضَىٰ أَمراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (١) .

فأية حاجة تتصوّر لله إلى الولد وهو بديع كل شيء ؟

وفي آية أُخرى اعتمد على موضوع « الغنى الإلهي » لنفي الولد، إذ يقول :

( قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمٰوَاتِ وما فِي الأرْضِ ) (٢) .

وهكذا ينفي القرآن الكريم خرافة اتخاذ الله للبنين والبنات، تلك الخرافة التي كانت توجد في الديانات القديمة ك‍: « اليهودية » و « النصرانية »

__________________

(١) البقرة: ١١٧.

(٢) يونس: ٦٨.

٢٩٧

و « الزرادشتية » و « الهندوكية » وعند المشركين.

ولقد استدل المسيحيون على بنوة عيسى لله بتولده من غير أب، إذ قالوا للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله هل رأيت ولداً من غير أب ؟ إذن فليس لعيسى من أب إلّا الله.

فأجاب الله عن هذا الزعم بقوله :

( إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (١) .

أي إنّ مثل عيسى في تكونه من غير أب كمثل آدم في خلق الله له من غير أب وأُم فليس عيسى عندئذ بأبدع وأعجب من آدم فكيف أنكروا هذا وأقرّوا بذلك ؟!

خلاصة ما سبق

تلخّص مما سبق أنّ القرآن يستند في نفيه لاتخاذ الله ولداً على البراهين التالية :

١. ليست له سبحانه أية زوجة حتى يكون له ولد منها.

٢. انّه تعالى خالق كل شيء واتخاذ الولد ليس خلقاً بل هو انفصال جزء من الوالد وهو ينافي خالقيته لكل شيء.

٣. انّه مالك كل شيء مالكية ناشئة عن الخالقية وكون المسيح ولداً له سبحانه يستلزم عدم مخلوقيته وهو يستلزم عدم كونه مملوكاً وهو ينافي مالكية الله العامة.

٤. انّه سبحانه منزّه عن أحكام الجسم، واتّخاذ المسيح ولداً يستلزم كون الله

__________________

(١) آل عمران: ٥٩.

٢٩٨

جسماً ومحكوماً بالأحكام الجسمانية، لأنّ معنى كون المسيح ولداً له سبحانه هو انفصال جزء منه سبحانه وهو يستلزم كونه جسماً.

٥. انّ جميع الأشياء قائمة بالله فلا استقلال لسواه في حين يستلزم افتراض ولد لله سبحانه استقلاله كاستقلال الوالد حتى يكون الولد نظير الوالد.

٦. انّ الله تعالى غني فلا حاجة له إلى ولد.

٧. انّ كون المسيح دون والد ليس بأعجب من آدم الذي وجد من دون أبوين مطلقاً.

* * *

وأمّا الطريق الثاني(١) الذي سلكه القرآن لإبطال « بنوة خصوص المسيح » فهو بيان حياة السيد المسيح وشرحها بنحو واضح في سور مختلفة خاصة في سورة « مريم »(٢) بحيث لا يبقى أي شك لمنصف في « بشريته »عليه‌السلام .

وقد وردت في بعض الآيات التي مرت في هذا البحث نماذج عن حياته البشرية(٣) .

بقي هنا بحث هام اعتنى به القرآن الكريم بجد، وهو مسألة كون المسيح

__________________

(١) قد تقدم آنفاً في صفحة ٢٩٣ إنّ القرآن استعرض مسألة نفي الولد لله سبحانه بشكلين تارة عن طريق نفي أي ولد له سواء أكان المسيح أم غيره وأُخرى عن طريق نفي خصوص بنوة المسيح، وقد استوفينا البحث في القسم الأوّل وإليك البحث في القسم الثاني.

(٢) راجع سورة مريم: ١٦ ـ ٣٥.

(٣) راجع سورة المائدة: ١٧ و ٧٥، وسورة التوبة: ٣٠ وسيوافيك قوله سبحانه:( إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَىٰ ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ ) ( النساء: ١٧١ ) فبملاحظة حالاته في هذه الدنيا نجزم بأنّه مخلوق لله سبحانه وليس ولداً له.

٢٩٩

معبوداً وانّه لا يستحق العبادة سواء أكان ابناً لله سبحانه أم لا، وسواء أصح التثليث أم لا، وهذه مسألة مستقلة تجتمع مع نفي التثليث والبنوة، ولأجل ذلك نستعرض هذا البحث مستقلاً عن البحثين الماضيين.

القرآن ومعبودية المسيح

إنّ القرآن ينزّه الله تنزيهاً مطلقاً عن أن يبعث رسلاً يدعون الناس إلى عبادة أنفسهم بدل الدعوة إلى عبادة الله سبحانه، فقال :

( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الكِتَابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ الله وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيّيِنَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ *وَلا يَأْمُرَكُمْ أنْ تَتَّخِذُوا المَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأمُرُكُمْ بِالكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) (١) .

وفي هاتين الآيتين نفي لمعبودية المسيح أو مشاركته في الربوبية.

كما أنّ القرآن الكريم طرح مسألة عبادة السيد المسيح في آيات أُخرى وأبطل ـ بنفي مالكية المسيح لضر عباده ونفعهم ـ إمكان كونه مستحقاً للعبادة فيقول :

( قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً ولا نَفْعاً والله هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ ) (٢) .

__________________

(١) آل عمران: ٧٩ ـ ٨٠.

(٢) المائدة: ٧٥.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466