رحلتي من الظلمات إلى النّور

رحلتي من الظلمات إلى النّور12%

رحلتي من الظلمات إلى النّور مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 466

رحلتي من الظلمات إلى النّور
  • البداية
  • السابق
  • 466 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 240793 / تحميل: 8308
الحجم الحجم الحجم
رحلتي من الظلمات إلى النّور

رحلتي من الظلمات إلى النّور

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

السادس تصبح عندهم (أعضاء التناسل منطقة مولدّة للذة) ثم تأتي بعدها مرحلة الكمون (1) .

ولهذا حذّر أهل البيت (عليهم السلام) من إثارة الطفل الجنسية في هذه المرحلة، وأفضل طريقة لإبعادهم عن الإثارة الجنسية هو إبعاده عن رؤية المباشرة بين الوالد والوالدة، فعن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) قال: (قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ: والذي نفسي بيده لو أنّ رجلاً غشي امرأته، وفي البيت صبي مستيقظ يراهما ويسمع كلامهما ونَفَسَهُما؛ ما أفلح أبداً إن كان غلاماً كان زانياً، أو جارية كانت زانية) (2) .

وقال الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): (لا يجامع الرجل امرأته ولا جاريته، وفي البيت صبي، فإنّ ذلك ممّا يورث الزنا) (3) .

والطفل في هذه المرحلة يحاكي سلوك الأبوين ويقلدّهم (فيعمل ما يعمله أبواه) (4) .

وبما أنّ (اللعبة المفضّلة في تلك الأعمال هي لعبة العريس والعروسة) (5) .

لذا فإنّ الأطفال سيمارسون في لعبهم ما شاهدوه من ممارسات جنسية من قِبل الوالدين، وقد يستمرّون عليها في مراحل العمر

____________________

(1) علم النفس العلاجي: 106.

(2) وسائل الشيعة 20: 133 | 2 باب 67.

(3) وسائل الشيعة 20: 134 | 7 باب 67.

(4) التربية وبناء الأجيال، لأنور الجندي: 166 ـ دار الكتاب بيروت 1975 م ط1.

(5) مشاكل الآباء: 205.

٨١

المتقدّمة.

فيجب على الوالدين التجنّب عن ذلك، والتجنّب عن مقدّماته كالتقبيل وغيره ومن الخطأ الفاحش الذي يقوم به بعض الوالدين هو التحدّث عن أُمور الجنس أمام الأطفال في بعض المناسبات؛ فإنّ ذلك يدفع الأطفال إلى زيادة فضولهم. وعلى الوالدين أن يحتاطوا في إجراء المباشرة حتى في حالة نوم الطفل، خوفاً من استيقاظه فجأة، فإنّ ذلك يولّد في أعماقه صدمة نفسية تبقى كامنة في اللاشعور.

وعلى الوالدين أن يراقبوا سلوك أبنائهم وطريقة ألعابهم، وخصوصاً في أماكن اختلائهم بعضهم بالبعض الآخر.

ويجب على الوالدين وقاية الأطفال من الإثارة الجنسية، وهو التفريق بينهم في حالة المنام، بأن توضع فاصلة بينهم فلا ينامون تحت غطاء واحد بحيث يحتك جسم أحدهم بالآخر، وقد وردت عدّة روايات تؤكّد هذه الوقاية، قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (يفرّق بين الصبيان في المضاجع لست سنين) (1) .

وفي رواية أُخرى عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (فرّقوا بين أولادكم في المضاجع إذا بلغوا سبع سنين) (2) .

والتفريق مطلق بين الذكور والذكور، وبين الإناث والإناث، وبين الذكور والإناث.

____________________

(1) مكارم الأخلاق: 223.

(2) مكارم الأخلاق: 223.

٨٢

وفي وقتنا الحاضر، وبعد انتشار أجهزة السينما والتلفزيون والفيديو، تكون الحاجة شديدة إلى إبعاد الطفل عن الإثارة الجنسية، ويجب على الوالدين في البلدان التي لا تتبنّى الإسلام منهجاً لها في الحياة، وتعرض الأفلام المثيرة، أن يقوما بجهدٍ إضافي في مراقبة الأطفال ووقايتهم من النظر إلى هذه الأجهزة؛ حذراً من مشاهدة الأفلام غير المحتشمة، وفي الخصوص في البلدان التي ترى أنّ أفضل أُسلوب لتحرير الأطفال من الكبت المستقبلي هو عرض الأفلام الجنسية، وقد أثبت علماء النفس والتربية صحّة النظرية الإسلامية في ذلك، فالدكتور سپوك الأمريكي يقول: (إنّ النسبة المعتدلة من التحريم التي فُرضت علينا جميعاً أثناء الطفولة، والتي نقلناها نحن بدورنا إلى أبنائنا، تلعب دوراً ايجابياً في تحرير عقل الطفل في أثناء سنوات الدراسة، للتفرّغ لاهتمامات غير ذاتية مثل الكتابة والقراءة والحساب) (1) .

ولذا نراه ينتقد الممارسات الخاطئة في أمريكا، وهو عري الرجال وعري النساء على الشواطئ الأمريكية.

وخلاصة القول: إنّ على الوالدين أن يجيبوا على أسئلة الأطفال حول مسائل الجنس بهدوء لا تزمّت فيه، وأن يبعدوهم عن الإثارة الجنسية بمختلف ألوانها وأشكالها، وخصوصاً في عصر السينما والتلفزيون والفيديو.

____________________

(1) مشاكل الآباء: 284.

٨٣

تاسعاً: تنمية العواطف

العواطف من أهم دوافع الإنسان للعمل، وتبدأ العواطف ـ كما تقدّم ـ منذ الأيام الأُولى في مرحلة الرضاعة، ثم تنمو بالتدريج حينما يتقدّم الطفل في العمر، وحينما يتّسع محيطه الاجتماعي، ويتأثّر نمو العواطف وتغيّرها بالفكر الذي يؤمن به الطفل في حدود إدراكه العقلي، فحينما يؤمن الطفل بأنّ أداء العمل الفلاني يرضي والديه أو يرضي الله تعالى فإنّه يندفع لأدائه، والعكس صحيح. ويمكن تقسيم العواطف إلى أربعة أقسام: الفردية، والعالية، والاجتماعية، والخلقية.

ونقصد بالعواطف الفردية: هي العواطف التي تتعلّق بذات الإنسان: كحب التملّك، وحب الاستقلال، وحب التفوّق على الآخرين، وحب المكانة الاجتماعية واحترام الآخرين له، وهي العواطف التي تجلب له المنفعة الشخصية والذاتية.

والعواطف العالية: هي العواطف التي تسمو بالطفل في حدود إدراكه العقلي إلى المثل الأعلى، فتحبّب إليه الارتباط والتعلّق بالمطلق وهو الله تعالى مصدر اللطف والإنعام والرأفة والرحمة، وتحبّب إليه الحقيقة والخير، وليس فيها تحصيل المنفعة الشخصية والذاتية.

والعواطف الاجتماعية: هي العواطف التي تدفعه إلى الارتباط بالآخرين، ابتداءً بالوالدين والإخوة والأخوات والأقارب وانتهاءً بالمجتمع والإنسانية جمعاء.

٨٤

والعواطف الخُلُقية: هي العواطف التي تتعلّق بالممنوع وغير الممنوع من أنواع السلوك، كالتعلّق بالصدق وترك الكذب، وسائر الأخلاق الممدوحة والمذمومة.

وأفضل الطرق والوسائل لتنمية العواطف عند الطفل من قِبل الوالدين: إشعاره بالحب عن طريق إحاطته بالحنان والرأفة، وإشباع حاجاته المادية والروحيّة، فإذا استشعر الطفل بذلك فانّه يرتبط ارتباطاً عاطفياً بمصدر الحب والحنان، وهما الوالدان، فتزداد ثقته بهما وتقليدهما، والاستجابة أو الاقتناع بكل ما يطرحانه عليه من أفكار ومفاهيم ومُثُل، ويكون مستعدّاً للاستجابة إلى أوامرهم وتنفيذ ما يطلبانه منه، فتصبح لهما القدرة على الهيمنة على عواطفه، وتوجيهها توجيهاً حسناً، ومتابعة خبراته ونشاطاته وخصوصاً أثناء اللعب، فيتمّ لهما العمل على تنمية عواطفه وتهذيبها بالصورة المنسجمة مع المفاهيم والقيم الصالحة، وخلق التوازن بين مختلف أنواع العواطف لديه، وأهم العواطف التي يجب تنميتها هي العاطفة نحو الله تعالى، فتنمو عنده مشاعر الحب والثقة بالله تعالى والتقديس له، حينما يؤمن بأنّ الله تعالى هو مصدر الإنعام والرحمة والمغفرة، وأنّه تعالى خلق النعيم الدائم في الجنّة للصالحين والمطيعين. ويجب على الوالدين تنمية عواطف الطفل اتجاه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وسائر الرسل والأنبياء وأهل البيت (عليهم السلام)، وأفضل طريقة في هذا المجال هي طريق السرد القصصي الهادف، والذي يحقّق فائدتين:

الأُولى: تعميق حبّهم في قلبه.

والثانية: محاولة الاقتداء بهم بعد التعلّق بسلوكهم في الحياة.

٨٥

فتنمو في داخله العواطف المختلفة: كحب الإخلاص، وحب الكرامة، وحب الشجاعة والكرم والإيثار، وحب القيم والسلوك الصالح، والابتعاد عن كلِّ ما ابتعدوا عنه. وتنمو عواطف البغض والكره والنفور من الذين خالفوهم ووقفوا في مواجهتهم، واجتناب سلوكهم في الحاضر أو في المستقبل.

ومن الأساليب الأُخرى لتنمية العواطف: هو الإرشاد والتوجيه المستمرّين، حتى يفهم الطفل المسموح والممنوع من السلوك، وكذلك التشجيع على الارتباط والتعلّق بالقيم والأعمال الصالحة، والتشجيع على ممارستها في الواقع، فحينما يعطي شيئاً من ألعابه لطفل آخر يتم تشجيعه على ذلك بالكلام الحسن، وتعويضه بإهداء لعبة أُخرى له، وحينما يصدق في قوله، أو يحترم الآخرين، أو يرأف بالفقراء، أو يساعد إخوانه أو والديه في أداء بعض الأعمال، يُشجَّع على ذلك بالمدح والثناء والإطراء أمامه وأمام الأُسرة وأمام أقاربه وأصدقائه.

والتعامل مع الطفل كصديق يشجّعه على التعبير عن عواطفه ومشاعره المكبوتة، وهذا التعبير مفيد جداً في تحقيق التوازن العاطفي، وتهذيب العواطف غير المرضية.

ونحن نجد من خلال التجربة: أنَّ الأُسلوب القصصي من أفضل الأساليب في تنمية العواطف، وخصوصاً الأُسلوب المنسجم مع إدراكه وقدرته العقلية، فيمكن أن نقصَّ عليه قصصاً عن الطيور والحيوانات، تتضمّن القيم الصالحة والقيم الطالحة التي يتخذها الطير الفلاني أو الحيوان الفلاني، فتنمو عنده العواطف اتجاه العدل أو التعاون أو الإيثار أو

٨٦

القيم الأخلاقية الأُخرى، وتنمو عنده عاطفة حبّ المظلومين وبغض الظالمين.

والقصص عن الطيور والحيوانات مرغوبة ومحبّبة لدى أطفال هذه المرحلة، فيستمعون إليها بشوق وتلهّف أكثر من القصص الواقعية، وتتضمّن أحداثاً كثيرة تتوقّف على خيال الوالدين في السرد القصصي، وتكون شاملة لإظهار جميع أنواع وأقسام العواطف.

عاشراً: الاهتمام بالطفل اليتيم

اليتيم بعد فقد والده أو والدته أو كليهما؛ يشعر بالحرمان المطلق، حرمان من إشباع حاجاته العاطفية والروحية، وحرمان من إشباع حاجاته المادية: كالحاجة إلى المأكل والمشرب والملبس؛ فتنتابه الهواجس والمخاوف، ويخيّم عليه القلق والاضطراب. فالشعور بالحرمان من العطف والحنان له تأثيراتها السلبية على كيان الطفل وعلى بناء الشخصية، ومن خلال متابعة الواقع الاجتماعي نجد أنّ أغلب الأيتام الذين لم يجدوا العناية والاهتمام من قبل الآخرين، كانوا مضطربي الشخصية تنتابهم العُقَد النفسية، وسوء التوافق مع المجتمع الذي حرمهم من العناية والاهتمام، لذا أوصى الإسلام برعاية اليتيم رعاية خاصة، لا تقل إن لم تَزِدْ، على الرعاية الممنوحة للأطفال الآخرين، فأكدَّ على إشباع جميع حاجاتهم المادية والروحية، وكانت الآيات القرآنية المختصة برعاية الأيتام أكثر من الآيات المختصة بعموم الأطفال.

وأول الحاجات التي أكدّ الإسلام على إشباعها هي الحاجات المادية.

٨٧

قال سبحانه وتعالى: ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً.. ) (1) .

( ... أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ ) (2) .

( ... وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ ) (3) .

وجعل الله تعالى لليتيم حقّاً في أموال المسلمين: ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ... ) (4) .

وقال تعالى: ( قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ ) (5) .

ونهى تعالى عن التصرّف بأموال اليتيم إلاّ بالصورة الأحسن التي تجدي له نفعاً وربحاً: ( وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ) (6) .

وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (مَن عال يتيماً حتى يستغني، أوجب الله له بذلك الجنّة) (7) .

وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (مَن كفل يتيماً من المسلمين فأدخله إلى طعامه وشرابه،

____________________

(1) الإنسان 76: 8.

(2) البلد 90: 14 ـ 15.

(3) البقرة 2: 177.

(4) الأنفال 8: 41.

(5) البقرة 2: 215.

(6) الأنعام 6: 152.

(7) تحف العقول: 198.

٨٨

أدخله الله الجنّة البتّة، إلاّ أن يعمل ذنباً لا يُغفر) (1) .

وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (أنا وكافل اليتيم في الجنّة كهاتين ـ وهو يشير بإصبعيه ـ) (2) .

وراعى المنهج الإسلامي إشباع الحاجات المعنوية لليتيم كالإحسان إليه والعدل معه.

قال سبحانه وتعالى: ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ... ) (3) .

وقال تعالى: ( ... وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ ) (4) .

وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (خيرُ بيتٍ من المسلمين بيتٌ فيه يتيم يُحسن إليه، وشرّ بيتٍ من المسلمين بيتٌ فيه يتيم يُساء إليه) (5) .

وأوصى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على مداراة اليتيم والرفق به وتكريمه، فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (حثّ الله تعالى على برِّ اليتامى لانقطاعهم عن آبائهم، فمَن صانهم صانه الله تعالى، ومَن أكرمهم أكرمه الله تعالى، ومَن مسح يده برأس يتيم رفقاً به؛ جعل الله تعالى له في الجنّة بكلِّ شعرة مرّت تحت يده قصراً أوسع من الدنيا وما فيها...) (6) .

وشجّع الإمام الصادق (عليه السلام) على التعامل مع اليتيم بحنان ورحمة، فقال:

____________________

(1) مستدرك الوسائل 1: 148.

(2) المحجّة البيضاء 3: 403.

(3) البقرة 2: 83.

(4) النساء 4: 127.

(5) المحجّة البيضاء 3: 403.

(6) المحجّة البيضاء 3: 403.

٨٩

(ما من عبدٍ يمسح يَدَه على رأس يتيم، ترحمّاً له، إلاّ أعطاه الله تعالى بكلِّ شعرة نوراً يوم القيامة) (1) .

ومن رعاية اليتيم معالجة المشاكل التي تواجهه، والتي تسبّب له الألم والقلق والاضطراب، قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (إذا بكى اليتيم اهتزّ العرش على بكائه، فيقول الله تعالى: يا ملائكتي اشهدوا عليّ أنَّ مَن أسكته واسترضاه أرضيته في يوم القيامة) (2) .

وعنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (إذا بكى اليتيمُ في الأرض يقول الله مَن أبكى عبدي وأنا غيّبت أباه في التراب، فو عِزّتي وجلالي إنّ مَن أرضاه بشطر كلمة أدخلته الجنّة) (3) .

ومن الوصايا بشؤون اليتيم إدخال الفرح على قلبه بإشباع حاجاته المادية أو الروحية، من احترام وتقدير ومحبّة، أو مدح وتشجيع، إلى غير ذلك.

قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (إنَّ في الجنّة داراً يُقال لها دار الفرح، لا يدخلها إلاّ مَن فرّح يتامى المؤمنين) (4) .

ومن الاهتمام والعناية باليتيم هو القيام بتربيته تربية صالحة، وإعداده لأن يكون عنصراً صالحاً في المجتمع، قال أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام): (أدّب

____________________

(1) المحجّة البيضاء 3: 403.

(2) مستدرك الوسائل 2: 623.

(3) مستدرك الوسائل 2: 623.

(4) كنز العمّال 3: 170 | 6008.

٩٠

اليتيم بما تؤدّب منه ولدك...) (1) .

فاليتيم الذي يحصل على العناية والرعاية والحب والحنان، يشعر بالراحة والطمأنينة، ويعيش سوّياً في عواطفه وفي شخصيته. أمّا في حالة الحرمان، فإنّه لا يصبح سويّاً، وقد يلتقطه بعض المنحرفين فيوجّهه الوجهة غير الصالحة؛ فيصبح عنصراً ضارّاً في المجتمع.

____________________

(1) الكافي 6: 47 | 8 باب تأديب الولد.

٩١

٩٢

الفصل الخامس

المرحلة الرابعة: مرحلة الصبا والفتوّة

تبدأ هذه المرحلة من نهاية العام السابع إلى نهاية العام الرابع عشر من عمر الطفل، وهي مرحلة إعداد الشخصية، ليصبح الطفل راشداً ناضجاً وعضواً في المجتمع الكبير، وفي بداية هذه المرحلة أو قبلها بعامٍ ينتهي بالتدريج تقليد الطفل للكبار، ويبدأ بالاهتمام بما حوله، وتكون إمكانيّاته العقلية قادرة على التخيّل المجرّد، وقادرة على استيعاب المفاهيم المعنوية.

وفي هذه المرحلة يبدأ الطفل بالتفكير في ذاته، وينظر إلى نفسه أنّها كائن موجود مستقل، له إرادة غير إرادة الكبار، فيحاول أن (يتحدّى وأن يفعل ما يغيظ الأهل ليعلن أنّه كائن موجود مستقل) (1) .

ويحاول التأكيد على استقلاليّته بشتّى الوسائل والمواقف، والتي تكون غالباً مخالفة لما ألفه في المرحلة السابقة، فيختار كل ما يخصّه أو يتعلّق به بأُسلوبه الخاص وبالطريقة التي يفهمها، فيكون له ذوق خاص في اختيار ملابسه، والرغبة في اكتساب المهارات العقلية والعلمية بمفرده،

____________________

(1) حديث إلى الأُمّهات: 207.

٩٣

ويحاول إقامة علاقات اجتماعية مع بقيّة الأطفال بالطريقة التي يختارها.

وهذه المرحلة هي من أهم المراحل التي ينبغي للوالدين إبداء عناية تربوية إضافية بالطفل؛ لأنّها أول المراحل التي يدخل فيها الطفل في علاقات اجتماعية أوسع من قبل، وهي مرحلة الدخول في المدرسة.

ومن العوامل المؤثّرة في إعداد وبناء شخصية الطفل، علاقاته مع والديه وباقي أفراد أُسرته، هذه العلاقة بجميع تفاصيلها تؤدّي إلى اتّصافه بصفات خاصة تصحبه حتى الكبر، وللمدرسة أيضاً أثر عميق في شخصيته؛ حيثُ يجد فيها أطفالاً من مختلف المستويات العلمية، أكثر أو أقل منه ذكاءً أو أكثر أو أقل نشاطاً منه، (فيباريهم أو يتغلّب عليهم، أو يخضع لهم فيؤثّر ذلك في تكوين شخصيته) (1) .

وهنالك عوامل أُخرى مؤثّرة في بناء الشخصية، وهي مواصفات الجسم من حيثُ الطول والقصر، ومن ناحية الضخامة والضعف، ومن ناحية الصحّة والمرض.

ومن أهم العوامل الأُخرى هو تأثير الأفكار التي تعلّمها الطفل في بناء شخصيته، وفي هذه المرحلة تزداد حاجاته، فيجب على الوالدين إشباعها ومنها (2) : الدوافع الحيوية كالحاجة إلى المأكل والمشرب والملبس وغير ذلك.

والحاجة إلى السلامة النفسية والعاطفية والتحرّر من القلق.

____________________

(1) علم النفس، لجميل صليبا: 385.

(2) علم النفس التربوي، لفاخر عاقل: 478 ـ 486.

٩٤

والحاجة إلى القبول من قِبل المجتمع أثناء علاقته به.

والحاجة إلى الاهتمام به وتقدير مكانته.

والحاجة إلى تعلّم المهارات اللازمة للنجاح في الحياة الجديدة.

ونضيف إلى ذلك الحاجة إلى فلسفة وأفكار ومفاهيم ملائمة لمستواه العقلي، وهذه المرحلة هي مرحلة الحاجة إلى التربية المكثّفة والمتابعة المكثّفة، مع ملاحظة الحاجة إلى الاستقلال المتولّدة عند الطفل.

قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (الولد سيّد سبع سنين، وعبد سبع سنين، ووزير سبع سنين) (1) .

وقال أمير المؤمنين علي (عليه السلام): (يرخى الصبي سبعاً، ويؤدّب سبعاً، ويُستخدم سبع) (2) .

وقال الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): (دع ابنك يلعب سبع سنين، ويؤدّب سبعاً، وألزمه نفسك سبع سنين) (3) .

فهذه المرحلة مرحلة تربوية شاقّة لرغبة الطفل في الاستقلال، ولتوسع علاقاته خارج الأُسرة، فتحتاج إلى جهد متواصل في التربية والمراقبة في جميع ما يخصُّ الطفل، في أفكاره وعواطفه وفي علاقاته، وفي دراسته وتعلمّه، وفي إشباع حاجاته المختلفة، فهو بحاجة إلى التوجيه المستمر والإرشاد والتعليم، والمساعدة في رسم طريق الحياة وتحمّل ما يصدر

____________________

(1) مكارم الأخلاق: 222.

(2) مكارم الأخلاق: 223.

(3) مكارم الأخلاق: 222.

٩٥

منه برحابة صدر وانفتاح، مصحوباً بالحسم في كثير من الأحوال.

وتتحدّد معالم هذه المرحلة بما يأتي:

أولاً: تكثيف التربية

التربية الصالحة وحسن الأدب من أهم المسؤوليات الملقاة على عاتق الوالدين، وهي حق للطفل أوجبه الإسلام على الوالدين، والطفل في هذه المرحلة التي تسبق بلوغ سن الرشد، بحاجة إلى تربيّة مكثّفة وجهد إضافي، قال الإمام علي بن الحسين (عليه السلام): (وأمّا حق ولدك... أنّك مسؤول عمّا وليته من حسن الأدب والدلالة على ربّه، والمعونة له على طاعته فيك وفي نفسه، فمثاب على ذلك ومعاقب، فاعمل في أمره عمل المتزيّن بحسن أثره عليه في عاجل الدنيا، المعذر إلى ربّه فيما بينك وبينه بحسن القيام عليه والأخذ له منه) (1) .

ولحراجة المرحلة التي يمرُّ بها الطفل فانّ الوالدين بحاجة إلى الرعاية الإلهية للقيام بمهام المسؤولية التربوية، قال الإمام علي بن الحسين (عليه السلام): (اللهّم ومُنّ عليّ ببقاء ولدي... وربِّ لي صغيرهم... وأصِحّ لي أبدانهم وأديانهم وأخلاقهم... واجعلهم أبراراً أتقياء بُصراء... وأعنّي على تربيتهم وتأديبهم وبرِّهم... وأعذني وذرّيّتي من الشيطان الرجيم) (2) .

وقد أكدّت الروايات على المبادرة إلى التربية وحسن الأدب.

قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (أكرموا أولادكم وأحسنوا آدابهم) (3) .

____________________

(1) تحف العقول: 189.

(2) الصحيفة السجّادية الجامعة: 128 ـ 129 مؤسّسة الإمام المهدي قم 1411 هـ ط1.

(3) مستدرك الوسائل 2: 625.

٩٦

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (إنّ للولد على الوالد حقاً، وإنّ للوالد على الولد حقّاً، فحقُّ الوالد على الولد أن يطيعه في كلِّ شيء، إلاّ في معصية الله سبحانه. وحقُّ الولد على الوالد أن يحسِّن اسمه، ويحسِّن أدبه، ويعلمّه القرآن) (1) .

والتربية في هذه المرحلة أكثر ضرورة من المراحل الأُخرى؛ لأنّ فطرة الطفل في هذه المرحلة لا تزال سليمة ونقيّة، تتقبّل ما يُلقى إليها من توجيهات وإرشادات ونصائح، قبل أن تتلوّث ويستحكم التلوّث فيها، فيجب على الوالدين استثمار الفرصة لأداء المسؤولية التربوية.

قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيّته للإمام الحسن (عليه السلام): (... وإنّما قلب الحدث كالأرض الخالية ما أُلقي فيها من شيءٍ قبلته، فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك، ويشتغل لبُّك، لتستقبل بجدِّ رأيكَ من الأمر ما قد كفاك أهل التجارب بغيته وتجربته..) (2) .

وقال (عليه السلام): (علمّوا أنفسكم وأهليكم الخير وأدّبوهم) (3) .

والمنهج التربوي المراد تحكيمه في الواقع، هو المنهج الإسلامي الذي يدور حول العبودية والطاعة لله تعالى في كلِّ شؤون الحياة.

قال الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): (اعملوا الخير وذكّروا به أهليكم، وأدّبوهم على طاعة الله) (4) .

____________________

(1) نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح: 546.

(2) نهج البلاغة: 393.

(3) كنز العمّال 2: 539 | 4675.

(4) مستدرك الوسائل 2: 362.

٩٧

وقال (عليه السلام): (تأمرهم بما أمر الله به وتنهاهم عمّا نهاهم الله عنه...) (1) .

وهذا الحديث جامع للقواعد الكلّيّة، التي تقوم عليها أعمدة المنهج التربوي السليم، في كلِّ جوانب الحياة الفردية والاجتماعية، العاطفية والروحية، فإذا أبدى الوالدان عناية فائقة في العمل على ضوء المنهج التربوي، فإنّ الطفل سيكون عضواً صالحاً في المجتمع.

وقد كان أهل البيت (عليهم السلام) قد أبدوا عناية خاصة بتربية أبنائهم في هذه المرحلة؛ حتى أعدّوهم إعداداً متكاملاً فكانوا قمّة ونموذجاً أعلى في كلِّ شيء، فأمير المؤمنين (عليه السلام) تربّى في مرحلة الصبا في بيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قبل أن يُبعث، فآمن في اللحظات الأُولى لدعوة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فأخلص في إيمانه وطاعته لله ولرسوله، وكان قمّة في الشجاعة والإقدام، وفي التضحية والفداء، وفي الكرم والتواضع والصدق، وفي كلِّ الفضائل الخُلُقية، وربّى (عليه السلام) بدوره أبناءه فكانوا على شاكلته في الارتقاء إلى القمّة الشامخة في جميع المكارم والفضائل، وهكذا كان بقيّة الأئمّة (عليهم السلام).

وتزداد مسؤولية الوالدين في التربية والتأديب كلمّا ابتعد المجتمع عن الإسلام، أو كان مجتمعاً إسلامياً في الظاهر ولم يتبنَّ الإسلام منهاجاً له في الواقع العملي، لتأثير العادات والتقاليد والأفكار والمناهج التربوية غير السليمة على تربية الطفل، وخصوصاً أجهزة الإعلام: كالراديو والتلفزيون والسينما وغيرها.

ويلحق بالتربية الروحية والنفسية والعاطفية، شطرها الآخر وهو التربية

____________________

(1) بحار الأنوار 100: 74.

٩٨

البدنية، فهي ضرورية جداً للطفل للحفاظ على صحّته البدنية وإعداده للعمل البدني، حيثُ حثّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على التربية البدنية قائلاً: (علمّوا أولادكم السباحة والرماية) (1) .

وجعل الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) حمل الطفل وتدريبه على الأُمور الشاقّة من المستحبّات فقال: (تستحب عرامة الصبي في صغره ليكون حليماً في كبره) (2) .

والصحة البدنية لها تأثير واضح على الصحّة النفسيّة كما هو مشهور عند علماء النفس والتربية (3) .

ثانياً: المبادرة إلى التعليم

التعليم في هذه المرحلة ضروري للطفل، فهي أفضل مرحلة للمبادرة إلى التعليم، لنضوج القوى العقلية عند الطفل، وللرغبة الذاتية لدى الطفل في (اكتساب المهارة العلمية) (4) .

والطفل في هذه المرحلة لديه الاستعداد التام لحفظ كل ما يُلقى على مسامعه، والتعليم في هذهِ المرحلة يساعد على رسوخ المعلومات في ذهنه وبقائها محفوظة في الذاكرة، قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (مثل الذي يتعلّم في صغره كالنقش في الحجر) (5) .

____________________

(1) الكافي 6: 47 | 4 باب تأديب الولد.

(2) الكافي 6: 51 | 2 باب 37 من كتاب العقيقة.

(3) علم النفس، لجميل صليبا: 383.

(4) حديث إلى الأُمّهات: 217.

(5) كنز العمّال 10: 294 | 29336.

٩٩

وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (حفظ الغلام كالوسم على الحجر) (1) .

ولضرورة تعليم الطفل أوصى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الوالدين به: (مروا أولادكم بطلب العلم) (2) .

وجعل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تعليم الطفل باباً من أبواب الرحمة الإلهية للأب، فقال: (رحم الله عبداً أعان ولده على برّه بالإحسان إليه، والتآلف له وتعليمه وتأديبه) (3) .

والتعليم حق للطفل على والديه، قال الإمام علي بن الحسين (عليه السلام): (... وأمّا حق الصغير فرحمته وتثقيفه وتعليمه...) (4) .

وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (من حقِّ الولد على والده ثلاثة: يحسّن اسمه، ويعلّمه الكتابة، ويزوجّه إذا بلغ) (5) .

والتعليم على القراءة والكتابة في عصرنا الراهن تقوم به المؤسّسات التعليمية وخصوصاً المدرسة، ولكنّ ذلك لا يعني انتفاء الحاجة إلى الوالدين في التعليم، بل يجب التعاون بين المدرسة والوالدين في التعليم.

ويجب أن يكون التعليم غير مقتصر على القراءة والكتابة بل يكون

____________________

(1) كنز العمّال 10: 238 | 29258.

(2) كنز العمّال 16: 854 | 45953.

(3) مستدرك الوسائل 2: 626.

(4) تحف العقول: 194.

(5) مكارم الأخلاق: 220.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

ايها السادة المحترمون !

مثل هذهِ الامور كثيرة جداً في التاريخ القضائي لبلادنا. وان ذكرها بأجمعها يحتاج الىٰ سنوات من الوقت.

والحقيقة هي ان القيود التي وضعها العالم المتحضر علىٰ القوانيين القضائية سلبتها السرعة اللازمة وجعلها كما هي الآن مضحكة ، مما ادىٰ الىٰ يأس الفئات المستضعفة من احقاق حقها بواسطة الاجهزة القضائية ، للحدّ الذي يرضىٰ اكثر المظلومين المستضعفين بغض النظر عن حقوقهم المسلّمة والقانونية على أن يرجعوا الىٰ المحاكم.

لكن الاسلام العظيم لا يرضىٰ ان يكون هناك عمل مهما كان صغيراً بعنوان طي مراحل قانونية او عناوين اُخرىٰ في دائرته القضائية ، ومع ان المحكمة الاسلامية ليس فيها الّا عضوان هما القاضي والكاتب ( الذي يحرر الحكم ) ، الّا انه في الغالب يفضّ النزاع في اول جلسة قضائية ، ويأخذ كل واحد حقه.

المحكمة القضائية الاسلامية برأي غوستاف لوبون

يقول الدكتور غوستاف لوبون حول القضاء في الاسلام :

« القضاء الاسلامي وترتيب المحاكمات وجيز وبسيط ، فهناك شخص منصب من قبل الحاكم لأمر القضاء ، يتابع جميع القضايا شخصياً ويحكم فيها ،

١٨١

وحكمه هذا قطعي ، ففي المحكمة الاسلامية ، يدعىٰ طرفي النزاع الىٰ الحضور شخصياً الىٰ المحكمة ويقومان بشرح القضية ويقدم كل طرف منهم دليله ، ثم يصدر القاضي حكمه في ذلك المجلس.

لقد حضرت مرّة في احدىٰ هذهِ المحاكم في المغرب ورأيت كيف يقوم القاضي بعمله ، كان القاضي يجلس علىٰ كرسيه في بناية متصلة بدار الحكومة ، كما ان كلّ واحد من المتداعيين أيضاً يجلس في مكانه ومعه شهوده ، وكانوا يتحدثون بألفاظ مختصرة وكلام بسيط ، فإذا كان احدهم يحكم عليه بعدّة سياط ، كان الحكم ينفذ فيه في ختام الجلسة ، واكبر فوائد هذا النوع من القضاء هو عدم ضياع وقت المتداعيين ، وعدم وجود خسائر مالية للمتداعيين بسبب المراجعات الادارية التي نراها اليوم ، ومع البساطة والايجاز الذي ذكرته فأن الاحكام الصادرة كانت عادلة ومنصفة ».

ليس في الاسلام استئناف ولا تميز

الدكتور : الشروط التي ذكرتها والالتفاتات العلمية الموجودة في القضاء الاسلامي ليس لها مثيل في قوانين القضاء الوضعية في جميع العالم ، حسب معلوماتي الشخصية ، ورغم الضجيج الاعلامي الذي تقوم به اوروبا دعاية لمؤساستها القضائية ، فليست هناك مؤسسة متطورة كما هو الحال في المؤسسات القضائية الاسلامية. لكن هناك امر في قوانين القضاء الوضعية المعاصرة لا نجدها في القوانين القضائية الاسلامية ، وتلك مرحلة الاستئناف والتميز ، اي ان القوانين القضائية المعاصرة تكون علىٰ مرحلتين ، فلو اخطأ

١٨٢

القضاة في المرحلة الاولىٰ او ارتكبوا خيانة ، تذهب القضية مباشرة الىٰ محكمة الاستئناف ومن ثم الىٰ التميز وهناك تدرس وتتابع من جديد ، في حين ان الاسلام فاقد لهذهِ الميزة القضائية ( الاستئناف والتميز ).

الشيخ : ان وجود مرحلتان قضائيتان في عالم اليوم وعدم وجود ذلك في القانون القضائي الاسلامي هو دليل هام علىٰ استحكام مباني القوانين القضائية الاسلامية ، وهشاشتها في القوانين القضائية الوضعية المعاصرة ، ولان الاسلام يأخذ الحدّ الاقصىٰ من الاحتياط والدقة في المرحلة الاولىٰ وضمن الشروط الواجب توفرها في القاضي. لان تلك الشروط التي ذكرناها مسبقاً تجعل من الصعب ان يخطيء القاضي او يخون وبذلك تنتفي الحاجة الىٰ مرحلة الاستئناف والتميز.

أمّا دنيا اليوم ترىٰ ان شرط القضاء الوحيد هو الشهادة الدراسية ، دون الاخذ بالجوانب الاُخرىٰ والتي تجعل من اي شخص قاضياً لمجرد انه خريج فرع القانون ، لابد وان لا تطمئن لقضاءهم وان تجعل احتمال الخطأ والخيانة مساوياً لاحتمال الصحة في الحكم !

سعادة الدكتور ! حتىٰ لو فرضنا ان جميع القضاة عدول واتقياء ، فان الاسلوب القضائي المتبع اليوم لا يبعث علىٰ الاطمئنان ، لان الاضبارة التي يجب ان يدرسها القضاة نظمت في محلّ آخر ، ومن اين للقضاة ان يطمئنوا اليها وانها لم تطلها يد التحريف والتزوير ، وهل تستطيع تلك الاضبارة أن تعكس واقع الناس المساكين والمظلومين ؟! وهل الاحكام التي تصدر من مثل هذه الاضبارات صحيحة ويمكن الاطمئنان إليها ؟

١٨٣

سعادة الدكتور ! يحاول عالمنا المعاصر حلّ مشاكله القضائية مثل احتمال الخيانة او الخطأ ( وهو احتمال قوي جداً وفي محله ) عن طريق محكمة الاستئناف والتميز ، في حين ان هذا الامر خطأ تماماً وتصور مغلوط ، لان القضاة الكبار في محكمة الاستئناف والتميز ليسوا ملائكة ، بل من اولئك المتعلمين الذين يعتبر شرط استخدامهم الوحيد هو شهادتهم الدراسية ، اي ان قضاة الاستيناف والتميز ايضا من نفس شاكلة القضاة العاديين ، فكيف لا يطمئن الىٰ حكم المحاكم العادية ويطمئن الىٰ حكم محكمة الاستئناف والتميز ؟! فهل ان قضاة المحاكم العادية غير عدول وغير متقين ، لكن قضاة محاكم الاستيناف والتميز عدول ومتقون ؟!

أليسوا جميعاً من صنف وهيئة واحدة ، والشرط الوحيد لعملهم هو الورقة التي في ايديهم ( الشهادة الدراسية ) ؟!

أمّا الاسلام وعلىٰ الرغم من عدم وجود محكمة استئناف وتميز في تشكيلاته القضائية ، يمكن الاطمئنان الىٰ قضائه سبب الشروط التي يضعها للقضاء ، وللحد الذي يعترف بصراحة الدكتور غوستاف لوبون :

« علىٰ الرغم من بساطة عملية القضاء الاسلامي والايجاز الذي فيها ، إلّا ان جميع الاحكام الصادرة عادلة ومنصفة. على العكس من القضاء في دول اوروبا وامريكا رغم تشكيلاته العريضة والطويلة والمعقدة ».

سعادة الدكتور ! لقد اراد العالم الاوروبي والامريكي من خلال محاكم الاستئناف والتميز ، الدقّة والحيطة التي اتبعها الاسلام قبل تعيين القاضي من

١٨٤

حيث شروط القضاة والشهُود ، ولقد اثبتنا ان اجراءات الاسلام لها دور مهم وبارز في القضاء لا يمكن لمحاكم الاستئناف والتميز القيام به ، ويجب ان نعترف بأن محكمة الاستئناف والتميز ايضاً تتبع نفس الاجراءات الروتينية التي تتبعها المحاكم العادية ، وليس لها تأثير سوىٰ في المبالغ الطائلة التي تصرف سنوياً من اموال هذا الشعب المسكين !

جواب سؤال

الطالب الجامعي ، حسن : أيّها العمّ العزيز كيف لا يوجد في الاسلام محكمة استئناف وتميز ، مع ان الاسلام يرىٰ احتمال نقض حكم القاضي الأوّل من قبل قاض ثان ، او ان المحكوم يطلب اعادة محاكمته عند قاضٍ آخر ؟

الشيخ : الموارد التي يمكن فيها نقض حكم القاضي ، ان المحكوم يمكنه طلب اعادة المحاكمة عند قاص آخر ، لا تشبه ما عليه في محاكم الاستئناف والتميز في عالم اليوم. لانه هناك ثلاثة مراحل قضائية في مؤسسات القضاء المعاصرة ، هي : المرحلة الاولية والاستئنافية والتميزية ، فمرحلة الاستئناف فوق مستوى المرحلة الاولىٰ والتميز فوق مرحلة الاستئناف ، من شروط عقد محكمة الاستئناف هو ان لا يمضىٰ اكثر من عشرة ايام علىٰ تاريخ صدور الحكم من قبل المحكمة الاولىٰ ، كما ان محكمة التميز تنعقد بشروط خاصة ، كما لا يوجد في انعقاد محكمة التميز ، امتيازاً بين الدعاوىٰ الجزائية او الحقوقية.

١٨٥

وتنعقد محكمة الاستئناف في حال طب المحكوم ضده ، سواءً كان يحتمل الخطأ في الحكم الصادر بحقه او متيقن من خطأه ، فالقانون يقرّ انعقاد محكمة الاستئناف لمجرد طلب الشخص الذي صدر الحكم ضده ، وسواءً قطع قضاة محكمة الاستئناف بخطأ قضاة المحكمة الاوليّة اوقطعوا بعدهم خطأهم ، واحتملوا الخطأ أو الخيانة في حكمهم ، واذا ما انعقدت محكمة الاستئناف وبعد دراستهم لأضبارة طرفي النزاع ، استنبطوا حكماً مخالفاً لأستنباط المحكمة الاولىٰ ، عند ذاك يقومون بنقض حكم المحكمة الاولىٰ ويصدرون هم حكماً محله.

موارد نقض الحكم في قوانين الاسلام القضائية

في الاسلام لا يحق لقاضٍ نقص حكم قاض قبله الّا في ثلاث موارد ، هي :

١ ـ اذا لم يرَ القاضي الثاني صلاحية وجدارة في القاضي الأول لمقام القضاء.

٢ ـ فيما لو كان حكم القاضي الأول مخالفاً للأدلة القاطعة والقواعد المسلّمة في القضاء الاسلامي ، مثل : مخالفة للاجماع المحقق والثابت والخبر المتواتر وامثالها.

أمّا إذا استنبط القاضي الاول حكماً علىٰ اساس القوانين القضائية الاسلامية ، لم يستنبطه القاضي الثاني منها ، بل فهم منها شيئاً آخراً ، ففي هذه الحالة لا يحق للقاضي الثاني نقض حكم القاضي الاول.

١٨٦

٣ ـ عندما يثبت تقصير القاضي الاول في دراسته للقوانين والادلة القضائية ، ولم يدقق فيها بشكل جيد.

حول طلب اعادة المحاكمة في الاسلام

أمّا الموارد التي يمكن فيها للمحكوم ضده طلب اعادة المحاكمة ، هي الادعاء بقطع خطأ القاضي في حكمه ، او انه لم يكن يمتلك صلاحية علمية للقضاء ، او انه كان فاسقاً ، او ان الشهود لم يكونوا عدول وانهم فساق ومثل هذهِ الادعاءات.

كما انه لا تعاد المحاكمة لمجرد تلك الادعاءات ، بل على المحكوم في البداية اثبات دعواه ، فلو ادعىٰ المحكوم ان القاضي قد اخطأ ، عليه اولاً ان يثبت خطأ القاضي ومن ثم طلب اعادة المحاكمة.

أمّا اذا لم يثبت المحكوم خطأ القاضي او عدم صلاحيته او عنوان آخر مما ذكرناه ، فليس له طلب اعادة المحاكمة لمجرد احتماله الخطأ وحتىٰ لو طلب ذلك من قاض آخر ، فلا يحق لذلك القاضي ان يبحث ويدرس حكم القاضي الأول.

خصوصيات المسألتين في القضائين الاسلامي والوضعي

اصدقائي الاعزاء !

أتصوّر انه ومن خلال ما ذكرته اعلاه ، يتضح الفارق بين محكمة

١٨٧

الاستئناف والتميز عن الموارد التي يمكن فيها للقاضي المسلم نقض حكم قاض آخر او التي يحق للمحكوم فيها طلب اعادة محاكمته ، وثبت عدم تشابه ما يطرحه الاسلام عما موجود في الانظمة الوضعية ( محكمة الاستئناف والتميز ) ، وبشكل عام فأن الفوارق القضائية بين الاسلام والوضعية ، هي كالتالي :

١ ـ لا توجد في المؤسسة القضائية الاسلامية ثلاثة مراحل قضائية ، خلافاً للمؤسسة القضائية الوضعية المعاصرة التي لها ثلاث مراحل قضائية ، هي : المرحلة الاولية والاستئناف والتميز.

٢ ـ من منظار القوانين القضائية الاسلامية ، اذا كان استنباط احد القضاة مخالفاً لأستنباط وحكم القاضي الاول ، فليس له اي حق في نقض ذلك الحكم الاولي ، في حين ان القوانين القضائية الوضعية المعاصرة ترىٰ ان استنباط قضاة محكمة الاستئناف إذا كان مخالفاً للحكم الاولي ، ينقضه ويصدر مباشرة حكم آخر في القضية.

٣ ـ لا يقبل من المحكوم طلب اعادة المحاكمة ما دام لم يدعي خطأ القاضي الاول بشكل قطعي او عدم صلاحيته اوفسقه او الخ ، وحتىٰ لو طلب المتهم ذلك من قاض آخر ، فلا يحق لذلك القاضي اعادة المحاكمة او النظر في حكم القاضي الاول ، اما لو اتهم المحكوم القاضي الاول بما ذكرناه مسبقاً ، فلا تنعقد محكمة جديدة مباشرة أيضاً ، لانه عليه ان يثبت ما ادعاه اولاً ، في حين ان قوانين القضاء الوضعية تقرّ بتشكيل محكمة استئناف بمجرد طلب المحكوم لذلك ، كما ان لقضاة محكمة الاستئناف النظر في حكم المحكمة الاولىٰ ونقصه ،

١٨٨

وعلىٰ هذا لا يوجد في الاسلام محكمة استئناف وتميز بالمعنىٰ الوارد في القوانين الوضعية المعاصرة ، وان عدم وجود مرحلتي الاستئناف والتميز في القانون القضائي الاسلامي لهو خير دليل علىٰ استحكام مبنىٰ القضاء في الاسلام ، ونزلزله في القضاء الوضعي.

كانت تلك جوانب من خصوصيات قوانين القضاء الاسلامي مقارنة بالقضاء الوضعي المعاصر ، وهناك الكثير من نماذج تفوق القوانين الاسلامية علىٰ غيرها مما يعمل به في عصرنا الحاضر.

ملاحظة بعض قوانين الاسلام الجزائية

الدكتور : كما اشرتم ، ان قوانين الاسلام تتفوّق علىٰ قوانين العصر الوضعية في العديد من المجالات ، وهو امر لابد من الاعتراف به ، ولكن هناك بعض القوانين الجزائية في الاسلام ، ادت الىٰ الطعن في صميم الدين وتلك هي العقوبات الشديدة التي فرضت علىٰ بعض الذنوب في الاسلام ، مثل قطع يد السارق ، او السوط بالنسبة للزاني او شارب الخمر ، فالعالم الغربي يرىٰ ان هذهِ العقوبات اعمال وحشية ، يجب ان لا تنفذ علىٰ البشر.

الشيخ : ان معرفة حقيقة معينة تحتاج الىٰ معرفة سائر القضايا التي ترتبط بها بنحوٍ ما.

أمّا إذا أردنا دراسة موضوع ما دون الاخذ بالمواضيع الاخرىٰ المتصلة به ، فلن نصل الىٰ معرفة حقيقة وصحيحة فيما يتعلق به. ومن النماذج التامة لذلك هي القوانين الجزائية الاسلامية التي سألتم عنها. والاشكالات التي

١٨٩

يواجهها البعض مع القوانين والاحكام الجزائية في الاسلام ، مصدرها ذلك الخطأ ، وهو انهم ينظرون فقط الىٰ احكام الاسلام فيما يتعلق ببعض العقوبات ، دون الاخذ بنظر الاعتبار للقوانين التي يطرحها الاسلام في مجال تطهير المجتمع من الاثم والذنب ، والتي تعد القوانين الجزائية الشديدة ، آخر علاج لها.

أمّا الخطوات والأحكام التي يطرحها الاسلام في مجال تطهير المجتع وجعله فاضلاً ، فهي كالآتي :

أ ـ العوامل التربوية :

يستند الاسلام غالباً في صيانة المجتمع وابعاده عن العصيان والذنوب الىٰ العوامل التربوية التي يطرحها ، وهذهِ العوامل واسعة وشاملة بحيث لو أنّها طبقت بشكل جيد تضمن سلامة المجتمع ونظافته وتقيه من ٩٠% من المعاصي.

والعوامل التربوية كثيرة في الاسلام ، لكن اهمها :

١ ـ الايمان بالله.

٢ ـ الالتزام والمسؤولية.

٣ ـ الالتفات الىٰ الآخرة والحساب والاجر والعقاب.

٤ ـ دعوة الانسان الىٰ الفضيلة ومحاربة الخصال الذميمة.

٥ ـ الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.

١٩٠

٦ ـ الصلاة بمعاينها السامية ومفاهيمها التربوية الخاصة.

٧ ـ الصوم.

وعشرات العوامل الاُخرىٰ التي لها أدوار أساسية في تربية الانسان بتمام معنى الكلمة.

ب ـ العلاج من الاساس :

المسألة الاخرىٰ التي التفت اليها الاسلام من اجل تطهير المجتمع من الذنوب والمعاصي ، هي معالجة الظواهر من الاساس ، ومهاجمة العوامل الاساسية التي تؤدي الىٰ الذنب والمعصية ، وهذهِ بحد ذاتها مرحلة مهمة يجب الالتفات اليها قبل دراسة القوانين الجزائية الاسلامية الشديدة.

فالاسلام عندما حرّم الزنا ـ علىٰ سبيل المثال ـ لم يتجاهل الغريزة الجنسية للانسان او يقمعها ، بل وضع لها طرق شرعية متعددة لو طبقت سدت حاجة الانسان الجنسية.

ولو كان الاسلام شديداً في تعامله مع السارق فلأنه طرح نظاماً اقتصادياً ليست فيه فوارق طبقية وتمايزات بين البشر ، وهو يدعو الىٰ توزيع الثروات الطبيعية والدخل علىٰ اساس العدل ، وعلىٰ ضوء النظام الاقتصادي الاسلامي ، لن يكون هناك محتاجاً في المجتمع حتىٰ يقال : لماذا يقطع الاسلام يد السارق الجائع ، الذي ما سرق إلّا ليشبع بطنه ؟! لانه سيقال في جواب ذلك اولاً ، لن يكون هناك جائع على ضوء النظام الاقتصادي الاسلامي ، بل هو سيملك حق

١٩١

الاستفادة من جميع المصادر الطبيعية في العالم بقدر حاجته وعلىٰ اساس اصالة العمل. وثانياً متىٰ قال الاسلام بقطع يد السارق في النظام الذي يبيت فيه الاشخاص جياعاً ؟!

أجل ، ان علاج الحالات المرضية من الأساس هو الأصل الثاني المهم الذي وضعه الاسلام لتطهير المجتمع من الجريمة والمعصية ، وذلك من خلال قلع جذور الاسباب الرئيسية للجريمة.

ج ـ الاحام الجزائية في الاسلام :

وفي نهاية المطاف ، وكآخر حلّ يضع الاسلام مجموعة من العقوبات لردع الانسان العاصي والوقوف دون وقوع الجريمة ، والآن إذا أراد شخص ان ينظر الىٰ احكام العقوبات فقط وتجاهل الموردين الاوليين المهمين في الاسلام ، فأن هذا الشخص مخطئ تماماً ، لانه وكما شرحنا من قبل وضع الاسلام من جهة عوامل تربوية واسعة وشاملة تقوم ببناء شخصية الانسان من خلالها ، ويسيطر بها على الصفات الرذيلة ، لكي يرتدع الانسان من خلال امتناعه عن الذنب والمعصية.

ومن جهة اخرىٰ ، قام بقطع دابر العوامل المؤدية للذنب من الجذور ، ووضع حلولاً علمية مناسبة لجميع المشاكل وفي كل المجالات ، وفيما لو طبقت تضمن جميع متطلبات الانسان وحاجياته الطبيعية والمشروعة.

وصدقوني ان نسبة عالية من الناس لو اجتازوا هاتين المرحلتين سيكونون بكل تأكيد اشخاصاً متقين واصحاب فضائل.

١٩٢

أمّا لو بقي رغم ذلك كله شخصاً مصرّاً في اختيار الطرق الشيطانية والخصال الرديئة ، فهنا وكآخر وسيلة للعلاج ، يتعامل الاسلام معه بشدّة ويقف من خلال قوانينه واحكامه سدّاً مقابل هذه الاعمال التي تريد هدم كيان المجتمع.

وهنا لكم ان تحكموا ، أليس من غير الانصاف ان يأتي شخص ويحكم في قوانين الاسلام الجزائية ويدينها دون الاخذ بنظر الاعتبار للمسائل الاُخرىٰ المرتبطة بها ، اي تلكما المرحلتان التي ذكرتهما من قبل ؟!

الثقافة

من الضروري الالتفات الىٰ ان الاسلام يرىٰ ان العوامل التربوية والمرحلة الثانية التي هي علاج الحالات المرضية من الاساس لها دور مؤثر وقوي جداً في تطهير المجتمع وردع الاشخاص عن الذنب والعصيان ، كما ان القوانين الجزائية لو طبقت بشكل جيد يمكن ان تقف امام المعاصي وتحول دون انتشار الفساد.

أمّا الايديولوجيات الوضعية ـ وللأسف الشديد ـ لا هي تستخدم العوامل التربوية المؤثرة ولا هي تقدم حلولاً اصولية من اجل تأمين حاجات الانسان ومتطلباته المختلفة ، ولا تقدم للأسف ايضاً قوانين جزائية صارمة يمكنها مكافحة الجريمة والفساد بشكل واسع ومؤثر.

١٩٣

الذين قطعت ايديهم !!!

هنا قد يقال : لو ان السارقين تقطع اياديهم ، لفقد الكثير من الناس في المجتمع اياديهم ؟! وفي جواب ذلك ، نقول :

بل العكس فلو طبقت تلك القوانين ( خاصة مع الاخذ بالمرحلتين الاوليتين المذكورتين ) لن يكون في المجتمع مقطوعي ايدي ولا سارقين ، ومثال ذلك في عصرنا دولة السعودية ، فعلىٰ الرغم من عدم وجود عوامل تربوية صحيحة في ذلك المجتمع ونظام اقتصادي اسلامي عادل ، وعلىٰ الرغم من الفوارق العميقة الموجودة وترف ولهو وثروات الامراء والحواشي والمقربين من اموال النفط وعائداتة الطائلة ، فليس هناك سرقة ( طبعاً السرقة العادية وليست السرقات الكبيرة التي يقوم بها المسؤولون والامراء من اموال الشعب ) ولا ايدٍ مقطوعة ، لانه علىٰ الاقل تطبق الحكومة السعودية قانون قطع يد السارق ، وهذا ما يمكن التأكد منه بواسطة آلاف الحجيج الذين يذهبون سنوياً الىٰ هناك للحج ، فكم من يدٍ وجدوها مقطوعة ؟! وكم رؤوا من السرقات ؟! وحتىٰ لو شاهدوا السرقات فيه أقل بكثير مما يحدث في أي دولة اُخرىٰ.

فهذا نموذج عملي واحد عن دور القوانين الجزائية الاسلامية فيما يتعلق بالسرقة في عالمنا المعاصر ، علىٰ الرغم من ان السعودية دولة لا تطبق النظام الاقتصادية الاسلامي وليس هناك توزيع عادل للثروة ، كما انها من البلدان المتخلفة ثقافياً وحضارياً.

١٩٤

قاطعية الاسلام في مكافحة الفساد

لا يُنكر ان الاسلام واجه المذنبين والعصاة المفسدين بعقوبات شديدة ، لكن يجب ان لا ننسىٰ ان ذلك كله من أجل مصلحة المجتمع وبسبب خطورة المعصية اجتماعياً ، ولا يهدف الاسلام في قوانينه الجزائية إلّا المكافحة الحقيقية للمعصية.

والاسلام ليس كالعالم المعاصر وقوانينه ، الذي يسوّي المسألة مع العاصي أو المذنب ، وبهذا الشكل يتلاعب بسعادة المجتمع ومصلحته.

فالاسلام يرجح أن يضرب شارب الخمر ثمانين سوطاً من أجل ان يقطع دابر شرب الخمر من المجتمع ويخلصه من امراضه.

والاسلام يرجح ان يضرب شارب الخمر ثمانين سوطاً ولكن في المقابل يكون له ولجميع يجله رادعاً عن فعل ذلك للأبد.

والغريب ان عالمنا المعاصر وعلىٰ الرغم من اعترافاته بأضرار شرب الخمر ، فهو يقول ان المشروبات الكحولية سموم مهلكة وخطرة وانها تؤثر سلباً علىٰ المخ والدم والقلب والاعصاب والجلد والجهاز الهضمي و الخ ، لكنه لا يتعامل بجدية مع القضية ويتساهل مع شارب الخمر بشكل يعتبر عمله ترغيباً واشاعة للمعصية !

ولو كان العالم المعاصر يريد قلع جذور السرقة والاعتداء علىٰ اموال وممتلكات الناس ، فلماذا يتساهل مع السارق ويبدي معه تسامحاً ؟! ولو كان

١٩٥

العالم المعاصر يعتبر الاعتداء علىٰ اعراض الناس خيانة وجريمة فلماذا كل هذا التساهل مع من يفعلها ؟!

هنا لا بدّ أن نعترف وللأسف الشديد ، ان القوانين الوضعية الحالية لن تستطيع ان تلعب دوراً مهماً في قلع الفساد والمعاصي من الجذور في المجتمع فقط ، بل اجازت تلك الاعمال وأدت إلىٰ انتشارها من خلال التسامح والتساهل الذي تبديه مع مرتكبيها ، والنهج الذي تتبعه تلك القوانين الجزائية الوضعية في مكافحة الفساد والاثم ، يشبه عمل الدكتور الذي يكتفي ببعض الجرعات المسكنة مقابل مرض خطر ومسري ، علىٰ الرغم من امتلاكه جميع الوسائل والامكانيات لمكافحة المرض. وفي مثل هذه الحالة الا يقال ان هدف الدكتور هو ليس علاج الحالة المرضية بل الهاء المريض المسكين وتخديره !

أمّا الاسلام

لكن الاسلام ( وخلافاً لعالمنا المعاصر ) يسعىٰ بجدية لمكافحة جذرية للفساد والمعصية في المجتمع ، وهدف الاسلام من ذلك هو قلع الفساد والمعصية من الجذور ، علىٰ قدر المستطاع ، ولهذا نراه شديداً في وضعه للقوانين الجزائية وقوانين العقوبات وفي تنفيذها.

ولان الاسلام يريد مكافحة السرقة بشكل حقيقي ويضمن امن المجتمع من هذه الناحية ، لذلك يأمر بقطع يد السارق(١) .

________________

(١) طبعاً من الأخذ بالشروط التي وضعها الاسلام.

١٩٦

والاسلام يريد مكافحة الاعتداء علىٰ اعراض ونواميس الآخرين بشكل حقيقي ، لذلك أمر بجلد الزاني مئة سوط أمام أعين الناس ، لكي لا يعود الىٰ ذلك ويكون عبرة للآخرين وسدّاً امام اتساع دائرة المعصية في المجتمع.

والاسلام يرىٰ ان المشروبات الكحولية سموم مهلكة وانها تهدد أساس المجتمع وسلامته ، لذلك يأمر بضرب ذلك الشخص الذي يخاطر بسعادة نفسه وسلامتها وسعادة وسلامة جيلة ، ويشرب من هذا الشراب المهلك ، ثمانين سوطاً ، لكي يقف امام تكرار مثل هذا العمل في المجتمع.

ألا يمكن تطبيق هذه القوانين في عصرنا.

هنا يمكن القول ، علىٰ الرغم من تأثير القوانين الجزائية والعقوبات الشديدة التي وضعها الاسلام لمكافحة المعاصي والفساد من الجذور الا ان هذه القوانين غير قابلة للتطبيق في عصرنا الحاضر ، لانه يعتبرها اساليب وحشية !

فنقول : ليس لنا إلّا أن نتعجب لهذا القول ونأسف له.

أليس عجيباً ان الدنيا تصمت وتصم آذانها وهي تشاهد مئات عمليات القتل والاعتداء وقطع الاعضاء وعشرات الجرائم الاُخرىٰ ، والتي تقع بسبب السرقة او التطاول علىٰ أموال الآخرين ، ولكنها تعتبر قطع أربعة أصابع من يد خائن او معتدي وذلك أيضاً من أجل محو ظاهرة السرقة ، والوقوف أمام مئات الجرائم التي تأتي من هذه الاعتداءات والتجاوزات غير قابلة للتطبيق والاجراء ؟!

وكيف يستصعب عالم اليوم ثمانين سوطاً علىٰ جسد شارب الخمر

١٩٧

في حين انه لا يستصعب القتل والجرائم وسلب راحة المجتمع الذي ينتج عن تأثير الخمر في سلوكيات الاشخاص والمجتمع ، ويرىٰ ذلك صعب النتفيذ !

دنيا التناقضات

اليست دنيا الي نعيش فيها ، دنيا تناقضات وعصرنا عصر غريب ! فدنيانا من جهة رؤوفة وعطوفة للحد الذي لا ترضىٰ بقطع اربعة اصابع لمجرم ( من اجل الامن العام ومحو السرقة من المجتمع ) ، ومن جهة اخرىٰ ، هذه الدنيا الرؤوفة ، تستثمر وعلىٰ مدىٰ سنوات عديدة ملايين البشر الضعفاء وعشرات الشعوب الصغيرة والمحرومة ، وتعطي للاقوياء الحق في نهب ثروات المستضعفين. في حين ان اولئك المساكين يعيشون حفاة وجياعاً ويعانون من اسوء الظروف !

وكيف تبرر هذه الدنيا العطوفة التي لا ترضىٰ ان يضرب شارب الخمر أو الزاني ثمانين أو مائة سوط ، قتل مليون جزائري مسلم ليس لهم ذنب سوىٰ انهم يريدون الاستقلال والخلاص من الهيمنة الاستعمارية ؟!

وكيف قبلت هذه الدنيا بالقنبلتين الذريتين اللآتي دمرتا هيروشيما وناكازاكي في اليابان فقتل اكثر من سبعين الف شخص وتحولت الابنية والمصانع والمرافق العامة الىٰ انقاض خلال لحظات ؟ اليس من حق الانسان صاحب الضمير الحي ان يعجب امام تصرفات هذه الدنيا المتناقضة ؟!!

١٩٨

سرد موجز للجريمة في الدول المتقدمة

عالمنا الذي يرىٰ خطأ ان قوانين الاسلام الجزائية وحشية ، اراد ان يقف امام اعتدالات الانسان عن طريق وضع قوانين اقل صرامة وبعبارة اخرىٰ لينة ، وبذلك يقتلع جذور السرقة او اية جريمة اخرىٰ ، لكنه وللأسف لم يوفق في ذلك فقط ، بل اضطر الىٰ تشديد عقوباته وقوانينه الجزائية ويزيد من عدد سجونه يوماً بعد يوم.

وعلىٰ الرغم من ذلك كله ، ولسوء الحظ ، يزداد عدد السارقين والمجرمين في كل يوم للحد الذي اصبحت احصائيات الجريمة تقلق وتخيف مسؤولي اكبر الدول المتحضرة.

وهذه بعض تلك الاحصائيات المنشورة ، والتي سببها ترك قوانين الاسلام الجزائية وعدم العمل بها :

أ ـ تقرير وزير العدل :

في تقرير قدمه وزير العدل الايراني بتاريخ ٢ / ١ / ١٩٦٠ الىٰ البرلمان ( المجلس الوطني ) يقول :

« نحن نواجه هذه الحقيقة المرّة ، وهي التزايد المستمر لدعاوى الناس الحقوقية والجزائية ، ولابد من التفكير بحلّ لذلك ، وعلىٰ سبيل المثال : طبقاً للاحصائيات الموجودة عندي ، فان مجموع الاضبارات التي دخلت الىٰ جهاز

١٩٩

القضاء في الأشهر الستّة الاُولىٰ من سنة ١٩٥٩ ، هو ٣٦٢٦٦٥ في حين ان المجموع للاشهر الستة الاولىٰ من هذا العام بلغ ٤٤٤٣٩١ ، اي ان ما يقرب ثمانين الف اضبارة زادت عما كان عليه في العام الماضي ، وبالتأكيد فان العملية تصاعدية في السنوات السابقة أيضاً.

ونقلت الصحف آنذاك نصّ التقرير ، وهو نماذج صغير للجرائم الموجودة لبلد في طريقه الىٰ الرقيّ ، يرىٰ ان القوانين الجزائية الاسلامية وحشية ، ويريد ان يقف امام الجريمة بالقوانين التي تضعها عقول رجاله ورجال اوروبا المخمورين !!

ولا بدّ من كلمة لوزير العدل الذي يعجب للنتائج التي تعطيها قوانينهم الوضعية : ما ستراه في المستقبل اعظم بكثير ، فأنّك لا زلت في أول الطريق.

ب ـ سجن واشنطن :

طبقاً لاحد التقارير الذي نشرته صحيفة معروفة ، كانت في واشنطن سابقاً ٣٦٠٠ سجينة فقط ، اما هذه السنين فقد وصل عدد السجينات الىٰ ثمانية آلاف.

وفي مدينة فلادلفيا(١) يطلق سراح النساء اللواتي يصدر الحكم بسجنهن ، لان سجون النساء مكتضة ، وليس هناك مكان للسجينات الجُدد.

________________

(١) هذه الاحصائيات تعود لثمان سنوات قبل ، أمّا الآن فالله العالم.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466