رحلتي من الظلمات إلى النّور

رحلتي من الظلمات إلى النّور12%

رحلتي من الظلمات إلى النّور مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 466

رحلتي من الظلمات إلى النّور
  • البداية
  • السابق
  • 466 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 240702 / تحميل: 8306
الحجم الحجم الحجم
رحلتي من الظلمات إلى النّور

رحلتي من الظلمات إلى النّور

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

أمّا ما هو المقصود من «أزواج» هنا ، فللمفسّرين أقوال كثيرة.

ما هو مسلّم به أنّ «أزواج» جمع «زوج» عادة ، تطلق على الذكر والأنثى من أي نوع ، سواء كان ذلك في عالم الحيوان أو في غيره ، ثمّ شمل المعنى كلّ إثنين يقترنان مع بعضهما البعض أو حتّى إذا تضادّا ، حتّى الغرفتين المتشابهتين في البيت يقال لهما زوج ، ودفّتي الباب وهكذا ، فالمتصوّر أنّ لكلّ مخلوق زوج.

على كلّ حال فليس من المستبعد أن يكون المعنى المقصود هنا هو المعنى الخاصّ ، أي جنس المذكر والمؤنث ، والقرآن الكريم يخبر من خلال هذه الآية عن وجود ظاهرة الزوجية في جميع عوالم النبات والإنسان والموجودات الاخرى التي لم يطّلع عليها البشر.

هذه الموجودات يمكن أن تكون النباتات التي لم تحدّد سعة دائرة الزوجية فيها حتّى الآن. أو إشارة إلى الحيوانات التي تعيش في أعماق البحار ، وهذه الحقيقة لم تعرف سابقا ، وما عرف منها في العصر الحاضر إلّا جانب يسير.

أو أنّها إشارة إلى موجودات اخرى تقطن كواكب اخرى في هذا الكون المترامي. أو موجودات حيّة لا ترى بالعين المجرّدة ، وإن كان العلماء في وقتنا الحاضر يشيرون إلى أنّ ليس في تلك الموجودات الحيّة ذكر وأنثى ، ولكن عالم هذه الموجودات الحيّة غامض ومعقّد إلى درجة أنّ العلم البشري حتّى الآن لم يلج كلّ غوامضها ومكنوناتها.

وحتّى وجود الزوجية في عالم النبات ـ كما قلنا ـ لم يكن معلوما منها في عصر نزول القرآن سوى بعض الحالات المحدودة كما في النخل وأمثاله ، وقد كشف القرآن الكريم الستار عن ذلك كلّه ، وقد ثبت أخيرا من البحوث العلمية أنّ الزوجية قضيّة عامّة وشاملة في عالم النبات.

كذلك احتمل أيضا أن تكون قضيّة الزوجية هنا إشارة إلى وجود البروتونات الموجبة والالكترونات السالبة في الذرّة التي تعتبر الأساس في تشكيل كلّ

١٨١

الموجودات في عالم المادّة ولم يكن الإنسان مطّلعا على هذه الحقيقة والزوجية قبل تفجير الذرّة ، ولكن بعد ذلك ثبت علميا وجود الأزواج السالبة والموجبة في نواة الذرّة والالكترونات التي تدور حولها.

البعض اعتبر «الزوجية» هنا إشارة إلى تركيب الأشياء من «مادّة» و «صورة» أو «جوهر» و «عرض» ، والبعض الآخر قالوا : إنّها كناية عن «الأصناف والأنواع المختلفة» للنباتات والبشر والحيوانات وسائر موجودات العالم.

ولكن الواضح أنّه حينما نستطيع حمل هذه الألفاظ على المعنى الحقيقي (جنس المذكّر والمؤنّث) ولا نجد قرينة على خلاف ذلك ، فلا داعي لأن نبحث بعد ذلك عن المعاني الكناية ، وكما لا حظنا فإنّ هناك عدّة تفاسير جميلة للزوجية بالمعنى الحقيقي لها.

وعلى كلّ حال ، فإنّ هذه الآية واحدة من الآيات التي توضّح محدودية علم الإنسان ، وتدلّل على أنّ هناك الكثير من الحقائق الخافية علينا وعن معلوماتنا حتّى الآن.

* * *

١٨٢

الآيات

( وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠) )

التّفسير

هذه الآيات تتحدّث في قسم آخر من آثار عظمة الله في عالم الوجود ، وحلقة اخرى من حلقات التوحيد التي مرّ منها في الآيات السابقة ما يتعلّق بالمعاد وإحياء الأرض الميتة ، ونمو النباتات والأشجار.

تقول الآية الكريمة الاولى( وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ ) .

«نسلخ» من مادّة (سلخ) وتعني في الأصل نزع جلد الحيوان ، والتعبير في الآية تعبير لطيف ، فكأنّ نور النهار لباس أبيض ألبسه جسد الليل ، ينزع عنه إذا حلّ الغروب ليبدو لونه الذاتي ، والتأمّل في هذا التعبير يوضّح هذه الحقيقة ، وهي أنّ الظلام هو الطبيعة الأصل للكرة الأرضية ، وأنّ النور والإضاءة صفة عارضة عليها

١٨٣

تأتيها من مصدر آخر ، فهو كاللباس الذي يرتدى ، وحينما يخلع ذلك الثوب ، يظهر اللون الطبيعي للبدن(١) .

هنا يشير القرآن الكريم إلى ظلمة الليل ، وكأنّه يريد ـ بعد أن تعرّض إلى كيفية إحياء الأرض الميتة كآية من آيات الله في الآيات السابقة ـ أن يعرض نموذجا عن الموت بعد الحياة من خلال مسألة تبديل النور بظلمة الليل.

على كلّ حال ، فعند ما يستغرق الإنسان في ظلمة الليل ، ويتذكّر النور وبركاته ونشاطه ومنبعه يتعرّف ـ بتأمّل يسير ـ على خالق النور والظلام.

الآية التي بعدها تتعرّض إلى النور والإضاءة وتذكر الشمس فتقول :( وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ) (٢) .

هذه الآية تبيّن بوضوح حركة الشمس بشكل مستمر ، أمّا ما هو المقصود من تلك الحركة؟ فللمفسّرين أقوال متعدّدة :

قال بعضهم : إنّ ذلك إشارة إلى حركة الشمس الظاهرية حول الأرض ، تلك الحركة التي ستستمر إلى آخر عمر العالم الذي هو نهاية عمر الشمس ذاتها.

وقال آخرون : إنّه إشارة إلى ميل الشمس في الصيف والشتاء نحو الشمال والجنوب على التوالي ، لأنّنا نعلم بأنّ الشمس تميل عن خطّ اعتدالها في بدء الربيع بطرف الشمال ، لتدخل في مدار (٢٣) درجة شمالا ، وتعود مع بدء الصيف قليلا قليلا حتّى تنتهي إلى خطّ اعتدالها عند بداية الخريف وتستمر على خطّ سيرها ذلك باتّجاه الجنوب حتّى بدء الشتاء ، ومن بدء الشتاء تتحرّك باتّجاه خطّ

__________________

(١) الراغب في «المفردات» يقول : السلخ نزع جلد الحيوان ، يقال سلخته فانسلخ ، وعنه استعير سلخت درعه نزعتها ، وسلخ الشهر وانسلخ ، ولكن بعض المفسّرين يقولون : إنّ ذلك في حالة تعدّي «سلخ» بحرف الجرّ «عن» وإذا تعدّى بالحرف «من» يكون بمعنى الإخراج ، ولكن ليس من دليل واضح في كتب اللغة على هذا التفاوت ـ على ما نعلم ـ وإن كان «لسان العرب» يقول : «انسلخ النهار من الليل خرج منه خروجا» والظاهر أنّ هذا مأخوذ من المعنى الأوّل.

(٢) هذه الجملة لها إعرابان ، فإمّا أن تكون معطوفة على «الليل» والتقدير «وآية لهم الشمس» ، وإمّا أن تكون مبتدأ وخبر ، فالشمس مبتدأ و (تجري) خبر ، وقد اخترنا الإعراب الأوّل.

١٨٤

اعتدالها حتّى تبلغ ذلك عند بدء الربيع. وبديهي أنّ جميع تلك الحركات في الواقع ناجمة عن حركة الأرض حول الشمس وانحرافها عن خطّ مدارها ، وان كانت ظاهرا تبدو وكأنّها حركة الشمس.

وآخرون اعتبروا الآية إشارة إلى حركة الشمس الموضعية بالدوران حول نفسها ، حيث أثبتت دراسات العلماء بشكل قطعي أنّ الشمس تدور حول نفسها(١) .

وآخر وأحدث التفاسير التي ظهرت بخصوص هذه الآية ، هو ما كشفه العلماء أخيرا من حركة الشمس مع منظومتها باتّجاه معيّن ضمن المجرة التي تكون المجموعة الشمسية جزءا منها ، وقيل أنّ حركتها باتّجاه نجم بعيد جدّا أطلقوا عليه اسم «وجا».

كلّ هذه المعاني المشار إليها لا تتضارب فيما بينها ، ويمكن أن تكون جملة «تجري» إشارة إلى جميع تلك المعاني ومعاني اخرى لم يصل العلم إلى كشفها ، وسوف يتمّ كشفها في المستقبل.

وعلى كلّ حال ، فإنّ حركة كوكب الشمس الذي يعادل مليون ومائتي الف مرّة حجم الأرض ، بحركة دقيقة ومنظمة في هذا الفضاء اللامتناهي ، ليس مقدورا لغير الله سبحانه الذي تفوق قدرته كلّ قدرة وبعلمه اللامتناهي ، لذا فإنّ الآية تضيف في آخرها( ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) .

أمّا آخر ما قيل في تفسير هذه الآية فهو أنّ تعبير الآية يشير إلى نظام السنّة الشمسية الناشئ عن حركة الشمس عبر الأبراج المختلفة ، ذلك النظام الذي يعطي لحياة الإنسان نظاما وبرنامجا معيّنا يؤدّي إلى تنظيم حياته من مختلف النواحي.

لذا فإنّ الآية التالية تتحدّث عن حركة القمر ومنازلة التي تؤدّي إلى تنظيم أيّام

__________________

(١) طبق هذا التّفسير فإنّ (اللام) في «لمستقر لها» بمعنى «في» ويكون التقدير «في مستقر لها».

١٨٥

الشهر ، وذلك لأجل تكميل البحث السابق ، فتقول الآية :( وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ) .

المقصود بـ (المنازل) تلك المستويات الثمانية والعشرون التي يطويها القمر قبل الدخول في «المحاق» والظلام المطلق. لأنّ القمر يمكن رؤيته في السماء إلى اليوم الثامن والعشرين ، ولكنّه يكون في ذلك اليوم هلالا ضعيفا مائلا لونه إلى الاصفرار ، ويكون نوره قليلا وشعاعه ضعيفا جدّا ، وفي الليلتين الباقيتين من الثلاثين يوما تنعدم رؤيته تماما ويقال : إنّه في دور (المحاق) ، ذلك إذا كان الشهر ثلاثين يوما ، أمّا إذا كان تسعة وعشرين يوما ، فإنّ نفس هذا الترتيب سيبدأ من الليلة السابعة والعشرين ليدخل بعدها القمر في (المحاق).

تلك المنازل محسوبة بدقّة كاملة ، بحيث أنّ المنجّمين منذ مئات السنين يستطيعون أن يتوقّعوا تلك المنازل ضمن حساباتهم الدقيقة.

هذا النظام العجيب ينظّم حياة الإنسان من جهة ، ومن جهة اخرى فهو تقويم سماوي طبيعي لا يحتاج إلى تعلّم القراءة والكتابة لمتابعته. بحيث أنّ أيّ إنسان يستطيع بقليل من الدقّة والدراية في أوضاع القمر خلال الليالي المختلفة يستطيع بنظرة واحدة أن يحدّد بدقّة أو بشكل تقريبي أيّة ليلة هو فيها.

ففي الليلة الاولى يظهر الهلال الضعيف وطرفاه إلى الأعلى ، ويزداد حجمه ليلة بعد ليلة حتّى الليلة السابعة حيث تكتمل نصف دائرة القمر ، ثمّ تستمر الزيادة حتّى تكتمل الدائرة الكاملة للقمر في الليلة الرابعة عشرة ويسمّى حينئذ «بدرا». ثمّ يبدأ بالتناقص تدريجيا حتّى الليلة الثامنة والعشرين حيث يصبح هلالا باهتا يشير طرفاه إلى الأسفل.

نعم ، فإنّ النظم يشكّل أساس حياة الإنسان ، والنظم بدون التعيين الدقيق للزمن ليس ممكنا ، لذا فإنّ الله سبحانه وتعالى قد وضع لنا هذا التقويم الدقيق للشهور والسنين في كبد السماء.

١٨٦

بعد استعراضنا لأشكال القمر ومنازله يتّضح تماما معنى الجملة التالية( حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ) (١) .

وفي الحقيقة فإنّ الشبه بين العرجون والهلال من جوانب عديدة : من ناحية الشكل الهلالي ، ومن ناحية اللون الأصفر ، والذبول ، وإشارة الأطراف إلى الأسفل ، وكونه في وسط دائرة مظلمة تكون في حالة العرجون منسوبة إلى سعف النخل الأخضر ، وبالنسبة للهلال منسوبة إلى السماء المظلمة.

والوصف بـ (القديم) إشارة إلى كون العرجون عتيقا ، فكلّما مرّ عليه زمن وتقادم أكثر أصبح ضعيفا وذابلا واصفّر لونه وأصبح يشبه الهلال كثيرا قبل دخوله المحاق.

وسبحان الله فقد تضمّن تعبير واحد قصير كلّ تلك الظرافة والجمال؟

الآية الأخيرة من هذه الآيات ، تتحدّث عن ثبات ودوام ذلك النظم في السنين والشهور ، والنهار والليل ، فقد وضع الله سبحانه وتعالى لها نظاما وبرنامجا لا يقع بسببه أدنى اضطراب أو اختلال في وضعها وحركتها ، وبذا ثبت تاريخ البشر وانتظم بشكل كامل ، تقول الآية :( لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) .

من المعلوم أنّ الشمس تطوي في دورانها خلال العام الأبراج الإثني عشر ، في حين أنّ القمر يطوي منازله خلال شهر واحد ، وعليه فحركة القمر أسرع من حركة الشمس في مدارها اثنتي عشرة مرّة ، لذا فإنّ الآية تقول بأنّ الشمس بحركتها لا يمكنها أن تدرك القمر في حركته فتقطع في شهر واحد ما تقطعه في سنة واحدة. وبذا يختلّ النظام السنوي لها.

__________________

(١) «عرجون» كما قال أغلب المفسّرين وأهل اللغة : من الانعراج وهو الاعوجاج والانعطاف ، وعليه فالنون زائدة وهو على وزن فعلون ، ويعتقد آخرون أنّه مأخوذ من «عرجن» فالنون ليست زائدة ، وبمعنى : أصل عنقود الرطب المتّصل بالنخلة ، وتوضيح ذلك أنّ الرطب يظهر على شكل عنقود من النخلة ، وأصل ذلك العنقود يكون على شكل مقوّس أصفر اللون يبقى معلّقا في النخلة ، و «قديم» : بمعنى العتيق الذي مضى زمنه.

١٨٧

كما أنّ الليل لا يتقدّم على النهار ، بحيث يدخل جزء منه في النهار ، فيختلّ النظام الموجود ، بل إنّهما ـ على مدى ملايين السنين ـ ثابتان على مسيرهما دون أدنى تغيير.

يتّضح ممّا قلنا أنّ المقصود من حركة الشمس في هذا البحث ، هي الحركة بحسب حسّنا بها ، والملفت للنظر هنا ، هو أنّ هذا التعبير عن حركة الشمس ظلّ يستعمل حتّى بعد أن ثبت للجميع بأنّ الشمس هي المركز الثابت لحركة الأرض حولها ، فمثلا يقال : إنّ الشمس قد تحوّلت إلى برج الحمل ، أو يقال : وصلت الشمس إلى دائرة نصف النهار ، أو أنّ الشمس بلغت الميل الكامل (الميل الكامل هو بلوغ الشمس إلى أقصى نقطة ارتفاع لها في نصف الكرة الأرضية الشمالي في بداية الصيف أو بالعكس أدنى نقطة انخفاض في بداية الشتاء).

هذه التعبيرات تدلّل دوما على أنّه حتّى بعد أن تمّ الكشف عن دوران الأرض حول الشمس وثبات الأخيرة ظلّت تستخدم ، لأنّ النظر الحسّي يستشعر حركة الشمس وثبات الأرض ، ومن هنا تستعمل هذه التعبيرات ، وعلى هذا أيضا يكون قوله تعالى :( وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) .

كذلك يحتمل أن يكون المقصود من (السباحة) هنا حركة الشمس في فلكها مع المنظومة الشمسية والمجرّة التي نحن فيها ، حيث أنّ الثابت علميا حاليا أنّ المنظومة الشمسية التي نعيش فيها جزء من مجرّة عظيمة هي بدورها في حالة دوران. إذ أنّ «فلك» كما يقول أرباب اللغة بمعنى : بروز واستدارة ثدي البنت ، ثمّ أطلقت على القطعة المدوّرة من الأرض أو الأشياء المدوّرة الاخرى أيضا ، ومنه اطلق على مسير الكواكب الدوراني.

جملة( كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) في إعتقاد الكثير من المفسّرين ، إشارة إلى كلّ من الشمس والقمر والنجوم الاخرى التي تتّخذ لنفسها مسارات ومدارات ، وإن لم يرد ذكر النجوم في الآية ، ولكن بملاحظة ذكر «الليل» واقتران ذكر النجوم مع

١٨٨

القمر والشمس ، لا يستبعد المعنى المذكور ، خاصّة وأنّ «يسبّحون» ورد بصيغة الجمع.

وكذلك يحتمل أن تكون الجملة إشارة إلى كلّ من الشمس والقمر والليل والنهار ، لأنّ كلا من الليل والنهار له مدار خاص ، ويدور حول الأرض بدقّة ، فالظلام يغطّي نصف الكرة الأرضية دوما ، والنور يغطّي النصف الآخر منها ، وهما يتبادلان المواضع خلال أربع وعشرين ساعة ويتمّان دورة كاملة حول الأرض.

«يسبّحون» من مادة «سباحة» وهي كما يقول «الراغب» في المفردات : المرّ السريع في الماء والهواء. واستعير لحركة النجوم في الفلك والتسبيح تنزيه الله تعالى ، وأصله المرّ السريع في عبادة الله!» ولذا فإنّها في الآية إشارة إلى الحركة السريعة للأجرام السماوية ، والآية تشبهها بالموجودات العاقلة المستمرة في دورانها ، وقد ثبت حاليا أنّ الأجرام السماوية تنطلق بسرعة هائلة في الفضاء.

* * *

بحوث

١ ـ حركة الشمس (الدورانية) و (الجريانية)

«الدوران» لغة يطلق على الحركة المغزلية ، في حال أنّ «الجريان» يطلق على الحركة الطولية ، والملفت للنظر أنّ الآيات أعلاه ، نسبت الحركتين إلى الشمس ، فقالت :( وَالشَّمْسُ تَجْرِي ) و( كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) .

كانت المحافل العلمية أيّام نزول الآية متمسّكة بنظرية «بطليموس» التي كانت تقول بأنّ الأجرام السماوية ليس فيها حركة دورانية ، بل إنّ باطن الأفلاك التي تتكوّن من أجسام بلّورية متراكمة على بعضها البعض كتراكم طبقات البصلة وثابتة ، وحركتها تتبع حركة أفلاكها ، وعليه فلم يكن في تلك الأيّام معنى لا لجريان الشمس ولا غيره.

١٨٩

أمّا بعد أن تداعت الاسس التي تقوم عليها فرضية بطليموس في ضوء الاكتشافات الجديدة في القرون الأخيرة ، وتحرّرت الأجرام السماوية من قيد الأفلاك البلورية ، فقد قويت نظرية كون الشمس هي مركز المنظومة الشمسية ، وهي ثابتة وجميع المنظومة الشمسية تدور حولها.

هنا أيضا لم تكن تعبيرات الآيات أعلاه مفهومة فيما يتعلّق بحركة الشمس الطولية والدورانية حتّى أثبت العلم بتطوّره عدّة حركات للشمس في العقود الأخيرة. وهي :

حركة الشمس الموضعية حول نفسها.

حركة الشمس الطولية مع المنظومة الشمسية باتّجاه نقطة محدّدة في السماء.

وحركتها الدورانية مع المجرّة التي تتبعها وبذا ثبتت معجزة علمية اخرى للقرآن.

ولتوضيح هذه المسألة نورد ما ورد في إحدى دوائر المعارف حول حركة الشمس :

للشمس حركة ظاهرية واخرى واقعية ، وتشترك الشمس في الحركة الظاهرية ـ اليومية ـ فهي تشرق من مشرق نصف الكرة الأرضي الذي نعيش فيه ، وتمرّ في طرف الجنوب من نصف النهار ثمّ تغرب من المغرب ، وعبورها من نصف النهار يشخّص الظهر الحقيقي ـ الزوال ـ.

وللشمس أيضا حركة ظاهرية اخرى ـ سنوية ـ حول الأرض بحيث أنّها تقترب من المشرق درجة واحدة كلّ يوم ، وفي هذه الحركة تمرّ الشمس مقابل الأبراج مرّة واحدة كلّ عام ، ومدار هذه الحركة يقع على صفحة «دائرة البروج» ولهذه الحركة أهميّة عظمى في علم الفلك ، فظاهرة «الاعتدالين» و «الانقلاب» و «الميل الكلّي» كلّها مرتبطة بهذا العلم ، وعلى أساس ذلك يحسب العام الشمسي.

علاوة على هذه الحركات الظاهرية فإنّ للشمس حركة دورانية في المجرّة ،

١٩٠

فالشمس تنطلق بسرعة دورانية في الفضاء تعادل مليون ومائة وثلاثين ألف كيلومتر في الساعة!! وفي داخل المجرّة فهي ليست ثابتة أيضا ، بل إنّها أيضا تدور بسرعة تقارب إثنين وسبعين الف كيلومتر في الساعة ضمن المجموعة النجمية المسمّاة «الجاثي على ركبتيه»(١) .

وعدم علمنا بتلك الحركة السريعة للشمس هو بعد الأجرام السماوية ، والذي هو المانع من تشخيص تلك الحركة الموضعية أيضا.

دورة الحركة الوضعية للشمس على محورها تستغرق حدود الخمسة وعشرين يوما بلياليها(٢) .

٢ ـ تعبير «تدرك» و «سابق»

إنّ التعبيرات القرآنية استعملت بدقّة متناهية لا يمكن الإحاطة بجميع أبعادها. ففي الآيات أعلاه حينما تتحدّث عن الحركة الظاهرية للقمر والشمس خلال المسيرة الشهرية والسنوية تقول :( لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ ) . إذ أنّ القمر ينهي مسيرته في شهر واحد بينما الشمس في عام كامل.

أمّا حينما تحدّثت عن الليل والنهار قالت :( وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ ) لعدم وجود فاصلة بينهما ولتعاقبهما. فالتعابير غاية في الدقّة.

٣ ـ نظام النور والظلام في حياة البشر :

تعرّضت الآيات أعلاه إلى موضوعين من أهمّ المواضيع المتعلّقة بحياة البشر.

__________________

(١) «الجاثي على ركبتيه» : مجموعة من النجوم التي تتشاكل فيما بينها لترسم صورة شخص جاث على ركبتيه ، ومنه أخذت التسمية.

(٢) أي أنّ الشمس في كلّ خمس وعشرين يوما من أيّامنا تدور دورة واحدة حول نفسها ، وقد شخصت هذه المسألة من مراقبة العلماء للبقع الموجودة على سطح الشمس ، فقد لوحظ أنّها تتبادل مواقعها ثمّ تعود كما كانت خلال هذه المدّة.

١٩١

على أنّهما آيتان من آيات الله وهما مسألة ظلمة الليل ومسألة الشمس ونورها.

قلنا سابقا أنّ النور من ألطف وأكثر موجودات العالم المادّي بركة. وليس لإضاءتنا ومعيشتنا فقط فكلّ حركة ونشاط مرتبط بنور الشمس ، نزول قطرات المطر ، نمو النباتات ، تفتّح البراعم ، نضوج الثمار والفواكه ، خرير الجداول ، تلوين مائدة الطعام بأنواع المواد الغذائية ، وحتّى حركة عجلة المصانع العظيمة ، وتوليد الطاقة الكهربائية ، وأنواع المنتجات الصناعية ، كلّها تعود في أصلها إلى هذا المنبع العظيم للطاقة ، أي نور الشمس.

وخلاصة القول فإنّ جميع الطاقات على سطح الكرة الأرضية ـ عدا الطاقة الناجمة عن تفجير الذرّة ـ جميعها تستمدّ وجودها من نور الشمس ، ولو لا الأخير لخيّم الصمت والموت على كلّ مكان.

ظلمة الليل مع أنّها تذكر بالموت والفناء ، فإنّها تعدّ من الأمور الحياتية الهامّة في حياة البشر ، لأنّها تعدل نور الشمس وتؤثّر عميقا في راحة جسم وروح الإنسان ، والمنع من المخاطر الناجمة عن تسلّط أشعّة الشمس بشكل متواصل ومستمر ، بحيث لو لم يكن الليل عقيب النهار لارتفعت درجة الحرارة على سطح الأرض إلى درجة أنّ الأشياء جميعا تأخذ بالاشتعال والاحتراق ، كذلك في القمر حيث الليالي والأيّام طويلة (كلّ ليلة هناك تعادل حوالي خمسة عشر يوما بلياليها على الأرض ، كذلك الحال بالنسبة للنهار) فحرارة النهار قاتلة ، وبرودة مجمّدة.

وعليه فإنّ كلا من «النور والظلام» آية إلهية عظيمة.

ناهيك عن أنّ النظام المتناهي الدقّة الذي يحكمهما ، أدّى إلى تنظيم تأريخ حياة البشر ، ذلك التأريخ الذي لو لا وجوده لتفتتت الروابط الاجتماعية ، وأصبحت الحياة بالنسبة إلى البشر أشبه بالمستحيل ، وبذا فإنّ كلا من «النور والظلام» آيتان إلهيتان من هذه الناحية أيضا.

والملفت للنظر هنا هو قول القرآن الكريم :( وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ ) . وهذا

١٩٢

التعبير يدلّل على أنّ النهار خلق قبل الليل ، والليل بعده تماما ، فلو أنّ أحدا نظر من خارج الكرة الأرضية فسيرى موجودين أسود وأبيض يدوران بشكل مرتّب حول الأرض ، وفي مثل هذه الحركة الدائرية لا يمكن تصوّر القبل والبعد فيها.

ولكن إذا أخذنا بنظر الإعتبار أنّ الأرض التي نعيش عليها كانت يوما ما جزءا من الشمس ، وفي ذلك الوقت لم يكن سوى النهار ، ولا وجود لليل ، ثمّ بعد أن انفصلت الكرة الأرضية عن الشمس وابتعدت تكون لها ظلّ مخروطي الشكل من الجهة المخالفة للشمس فكأنّ الليل ، الليل الذي أصبحت حركته بعد النهار ، نعم ، لو توجّهنا لكلّ ذلك لاتّضحت دقّة ولطافة هذا التعبير.

وكما قلنا سابقا فليس الشمس والقمر وحدهما يسبحان في هذا الفضاء المترامي ، بل إنّ الليل والنهار أيضا يسبحان حول الكرة الأرضية ، وكلّ منهما له مدار ومسير دائري.

وقد ورد في روايات متعدّدة عن أهل البيتعليهم‌السلام التصريح بأنّ الله سبحانه وتعالى خلق النهار قبل الليل. فعن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال جوابا على سؤال في حديث طويل: «نعم خلق النهار قبل الليل ، والشمس والقمر والأرض قبل السماء»(١) .

وعن الإمام الرضاعليه‌السلام أنّه قال : «فالنهار خلق قبل الليل وفي قوله تعالى :( لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ ) أي قد سبقه النهار»(٢) .

وورد نفس المعنى عن الإمام الباقرعليه‌السلام حين قال : «إنّ اللهعزوجل خلق الشمس قبل القمر ، وخلق النور قبل الظلمة»(٣) .

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ٣٨٧ ، ح ٥٥.

(٢) نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ٣٨٧ ، ح ٥٣.

(٣) نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ٣٨٧ ، ح ٥٤.

١٩٣

الآيات

( وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (٤٢) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٤٤) )

التّفسير

حركة السفن في البحار آية إلهيّة :

رغم أنّ بعض المفسّرين أمثال القرطبي اعتبر الآية الاولى من هذه الآيات من أعقد وأصعب آيات هذه السورة ، إلّا أنّه وبتدقيق النظر في هذه الآيات وربطها بالآيات السابقة ، يتّضح أن ليس هناك تعقيد في هذه الآيات ، لأنّ الآيات السابقة تحدّثت عن دلالة قدرة الباريعزوجل في خلق الشمس والقمر والليل والنهار وكذلك الأرض وبركاتها ، وفي هذه الآيات التي أمامنا يتحدّث الباريعزوجل عن البحار وقسم من بركات ونعم ومواهب البحار ، يعني حركة السفن التجارية والسياحية على سطحها.

علاوة على أنّ حركة السفن في خضمّ المحيطات ليست بعيدة في الشبه عن حركة الكواكب السماوية في خضمّ المحيط الفضائي.

١٩٤

لذا فإنّ الآيات الكريمة تقول أوّلا :( وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ) .

الضمير «لهم» لا يعود فقط على مشركي مكّة ، بل على جميع العباد الذين أشارت لهم الآيات السابقة.

«ذرّية» : كما يقول الراغب في مفرداته ، أصلها الصغار من الأولاد ، وإن كان يقع على الصغار والكبار معا عرفا ، ويستعمل للواحد والجمع.

وما تذكره الآية من حمل ذريّاتهم وليس هم ربّما لأنّ الأولاد هم أكثر حاجة لركوب مثل ذلك المركب السريع ، بلحاظ أنّ الكبار أكثر استعدادا للسير على سواحل البحار وطي الطريق من هناك!!

فضلا عن أنّ هذا التعبير أنسب لتحريك عواطفهم.

«مشحون» أي مملوء ، إشارة إلى أنّ السفن لا تحملهم هم فقط ، بل أموالهم وتجارتهم وأمتعتهم وما أهمّهم أيضا.

وما قاله البعض من أن «الفلك» إشارة إلى سفينة نوح ، و «ذريّة» بمعنى الآباء من مادّة «ذرأ» بمعنى خلق ، فيبدو بعيدا ، إلّا إذا كان من قبيل ذكر المصداق البارز.

على كلّ حال فإنّ حركة السفن والبواخر التي هي من أهمّ وأضخم وسائل الحمل والنقل البشري ، وما يمكنها إنجازه يعادل آلاف الأضعاف لما تستطيعه المركّبات الاخرى ، كلّ ذلك ناجم عن خصائص الماء ووزن الأجسام التي تصنع منها السفن ، والطاقة التي تحرّكها ، سواء كانت الريح أو البخار أو الطاقة النووية.

وكلّ هذه القوى والطاقات التي سخّرها الله للإنسان ، كلّ واحدة منها وكلّها معا آية من آيات الله سبحانه وتعالى.

ولكي لا يتوهّم أنّ المركّب الذي أعطاه الله للإنسان هو السفينة فقط ، تضيف الآية التالية قائلة :( وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ ) .

المراكب التي تسير على الأرض ، أو في الهواء وتحمّل البشر وأثقالهم.

١٩٥

ومع أنّ البعض فسّر هذه الآية بخصوص «الجمل» الذي لقّب بـ «سفينة الصحراء» ، والبعض الآخر ذهب إلى شمولية الآية لجميع الحيوانات ، والبعض فسّرها بالطائرات والسفن الفضائية التي اخترعت في عصرنا الحالي تعبير «خلقنا» يشملها بلحاظ أنّ موادّها ووسائل صنعها خلقت مسبقا) ولكن إطلاق تعبير الآية يعطي مفهوما واسعا يشمل جميع ما ذكر وكثيرا غيره.

في بعض آيات القرآن الكريم ورد مرارا الاقتران بين «الأنعام» و «الفلك» مثل قوله تعالى :( وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ ) زخرف ـ ١٢ ، وكذلك قوله تعالى :( وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ) المؤمن ـ ٨٠.

ولكن هذه الآيات أيضا لا تنافي عمومية مفهوم الآية مورد البحث.

الآية التالية ـ لأجل توضيح هذه النعمة العظيمة ـ تتعرّض لذكر الحالة الناشئة من تغيير هذه النعمة فتقول :( وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ ) .

فنصدّر أمرنا لموجة عظيمة فتقلب سفنهم ، أو نأمر دوّامة بحرية واحدة ببلعهم ، أو يتقاذفهم الطوفان بموجة في كلّ اتّجاه بأمرنا ، وإذا أردنا فنستطيع بسلبنا خاصّية الماء ونظام هبوب الريح وهدوء البحر وغير ذلك أن نجعل الاضطراب صفة عامّة تؤدّي إلى تدمير كلّ شيء ، ولكنّنا نحفظ هذا النظام الموجود ليستفيدوا منه. وإذا وقعت بين الحين والحين حوادث من هذا القبيل فإنّ ذلك لينتبهوا إلى أهميّة هذه النعمة الغامرة.

«صريخ» من مادّة «صرخ» بمعنى الصياح. و «ينقذون» من مادّة «نقذ» بمعنى التخليص من ورطة.

وأخيرا تضيف الآية لتكمل الحديث فتقول :( إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ ) .

نعم فهم لا يستطيعون النجاة بأيّة وسيلة إلّا برحمتنا ولطفنا بهم.

«حين» بمعنى «وقت» وهي في الآية أعلاه إشارة إلى نهاية حياة الإنسان وحلول أجله ، وذهب البعض إلى أنّها تعني نهاية العالم بأسره.

١٩٦

نعم ، فالأشخاص الذين ركبوا السفن أيّا كان نوعها وحجمها يدركون عمق معنى هذه الآية ، فإنّ أعظم السفن في العالم تكون كالقشّة حيال الأمواج البحرية الهائلة أو الطوفانات المفجعة للمحيطات ، ولو لا شمول الرحمة الإلهية فلا سبيل إلى نجاة أحد منهم إطلاقا.

يريد الله سبحانه وتعالى بذلك الخيط الرفيع بين الموت والحياة أن يظهر قدرته العظيمة للإنسان ، فلعلّ الضالّين عن سبيل الحقّ يعودون إلى الحقّ ويتوجّهون إلى الله ويسلكون هذا الطريق.

* * *

١٩٧

الآيات

( وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤٦) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٧) )

التّفسير

الإعراض عن جميع آيات الله :

بعد أن كان الحديث في الآيات السابقة عن الآيات الإلهيّة في عالم الوجود ، تنتقل هذه الآيات لتتحدّث عن ردّ فعل الكفّار المعاندين في مواجهة هذه الآيات الإلهيّة ، وكذلك توضّح دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم وإنذارهم بالعذاب الإلهي الأليم.

يفتتح هذا المقطع بالقول :( وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) (١) .

__________________

(١) «وإذا قيل لهم ...» جملة شرطية ، وجزاؤها محذوف يستفاد من الآية اللاحقة ، والتقدير : «وإذا قيل لهم اتّقوا أعرضوا عنه».

١٩٨

للمفسّرين أقوال عديدة حول ما هو معنى قوله :( ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ ) و( ما خَلْفَكُمْ ) منها : أنّ المقصود بـ «ما بين أيديكم» العقوبات الدنيوية التي أوردت الآيات السابقة نماذج منها ، والمقصود بـ «ما خلفكم» عقوبات الآخرة ، وكأنّه يراد القول بأنّها خلفهم ولم تأت إليهم وسوف تصل إليهم في يوم ما وتحيط بهم ، والمقصود بـ «التقوى» من هذه العقوبات ، هو عدم إيجاد العوامل التي تؤدّي إلى وقوع هذه العقوبات ، والدليل على ذلك أنّ التعبير بـ «اتّقوا» يرد في القرآن إمّا عند ذكر الله سبحانه وتعالى أو عند ذكر يوم القيامة والعقوبات الإلهيّة ، وهذان الذكران وجهان لحقيقة واحدة ، إذن أنّ الاتّقاء من الله هو اتّقاء من عقوباته.

وذلك دليل على أنّ الآية تشير إلى الاتقاء من عذاب الله ومجازاته في الدنيا وفي الآخرة.

ومن هذه التّفسيرات أيضا عكس ما ورد في التّفسير الأوّل ، وهو أنّ «ما بين أيديكم» تعني عقوبات الآخرة و «ما خلفكم» تعني عذاب الدنيا ، لأنّ الآخرة أمامنا (وهذا التّفسير لا يختلف كثيرا عن الأوّل من حيث النتائج).

وذهب آخرون إلى أنّ المقصود من «بين أيديكم» الذنوب التي ارتكبت سابقا ، فتكون التقوى منها بالتوبة وجبران ما تلف بواسطتها ، و «ما خلفكم» الذنوب التي سترتكب لا حقا.

والبعض يرى بأنّ «بين أيديهم» الذنوب الظاهرة ، و «ما خلفكم» الذنوب الباطنة والخفيّة.

وقال البعض الآخر : «ما بين أيديكم» إشارة إلى أنواع العذاب في الدنيا ، و «ما خلفكم» إشارة إلى الموت (والحال أنّ الموت ليس ممّا يتّقى منه!!).

والبعض ـ كصاحب تفسير «في ظلال القرآن» ـ اعتبر هذين التعبيرين كناية عن إحاطة موجبات الغضب والعذاب الإلهي التي تحيط بالكافر من كلّ جانب.

و «الآلوسي» في «روح المعاني» و «الفخر الرازي» في «التّفسير الكبير» كلّ

١٩٩

منهما ذكر احتمالات متعدّدة ، ذكرنا قسما منها.

و «العلّامة الطباطبائي» في «الميزان» يرى أنّ «ما بين أيديكم» الشرك والمعاصي في الحياة الدنيا ، و «ما خلفكم» العذاب في الآخرة(١) . في حين أنّ ظاهر الآية هو أنّ كلا الإثنين من جنس واحد ، وليس بينهما سوى التفاوت الزمني ، لا أنّ إحداهما إشارة إلى الشرك والذنوب ، والاخرى إشارة إلى العقوبات الواقعة نتيجة ذلك.

على كلّ حال فأحسن تفسير لهذه الجملة هو ما ذكرناه أوّلا ، وآيات القرآن المختلفة شاهد على ذلك أيضا ، وهو أنّ المقصود من «ما بين أيديكم» هو عقوبات الدنيا و «ما خلفكم» عقوبا الآخرة.

الآية التالية تؤكّد نفس المعنى وتشير إلى لجاجة هؤلاء الكفّار وإعراضهم عن آيات الله وتعاليم الأنبياء ، تقول الآية الكريمة :( وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ ) .

فلا الآيات الأنفسية تؤثّر فيهم ، ولا الآفاقية ، ولا التهديد والإنذار ، ولا البشارة والتطمين بالرحمة الإلهيّة ، لا يتقبّلون منطق العقل ولا أمر العواطف والفطرة ، فهم مبتلون بالعمى الكلّي بحيث لا يتمكّنون حتّى من رؤية أقرب الأشياء إليهم ، وحتّى أنّهم لا يفرّقون بين ظلمة الليل وشمس الظهيرة.

ثمّ يشخّص القرآن الكريم أحد الموارد المهمّة لعنادهم وإعراضهم فيقول :( وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) .

ذلك المنطق الضعيف الذي يتمسّك به الأنانيون والبخلاء في كلّ عصر وزمان ويقولون : إنّ فلانا أصبح فقيرا بسبب عمل ارتكبه وأدّى به إلى الفقر ، مثلما أنّنا أغنياء بسبب عمل عملنا فشملنا لطف الله ورحمته ، وعليه فليس فقره ولا غنانا

__________________

(١) الميزان ، المجلّد ١٧ ، الصفحة ٩٦ ، (ذيل الآيات مورد البحث).

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

مشاهد غريبة ورهيبة بين المسلمين ، فقد شوهدت جثث بعض المسلمين بلا رؤوس وهو اقل ما جرىٰ علىٰ المسلمين ، وكانت وجوه بعض المسلمين ، تثقبت مثل الغربال من الجراح والنبال التي اصابتهم ، فكانوا يلقون بأنفسهم من أعلىٰ الحصار والحصن الىٰ اسفله ، فيبقىٰ بعضهم علىٰ جراحه حتىٰ يلقون به في النار فيما ميادين مدينة القدس مليئة ، بأكوام من الرؤوس والايدي والارجل المقطعة ، حيث يعبر المسيحيين من فوقها ، وجميع ذلك جانب صغير من مجازر المسيحيين في القدس ».

ويضيف أحد القساوسة المسيح فيقول :

« قتل عشرة آلاف شخص من المسلمين كانوا قد التجأوا في احد المساجد ، وفي احد المعابد القديمة ، كان الدم بحدّ ، بحيث كانت جثث القتلىٰ المقطعة والموزعة الىٰ ايدي وارجل ورؤوس تسبح في بركة كبيرة ، لا يمكن تشخيص جثة سالمة واحدة منها ، حتىٰ ان الجنود الاوروبيين الجناة الذين قاموا بتلك المجزرة كانوا يهربون من بخار الدم الذي ملأ فضاء المعبد.

يقول الدكتور غوستاف لوبون :

« بعد جميع تلك المجازر التي ارتكبها الصليبيين ، كانوا يقومون بأعمال لمجرد التسلية ، شنيعة وقبيحة بحدّ ، جعل المؤرخين النصارىٰ ورغم دفاعهم عن الصليبيين ، يغضبون وينفرون من تلك الاعمال المخجلة ، فيصفون اتباع دينهم بأوصاف شديدة جداً ، علىٰ سبيل المثال ، يصفهم

٢٤١

برنارد(١) بأنهم مجانين ، ويشبههم بافدين(٢) بالحيوانات التي تسبح في بولها وغائطها » وفي وصفه لمجازر المسيحيين ضد المسلمين في الاندلس ( اسبانيا ).

يقول الدكتور لوبون :

« كانت نهاية مما قام به القادة المسيحيين الاوروبيين الذي لم يكن لهم هدف سوىٰ جمع المال والثروة ، بتدمير تلك البلاد ( الاندلس ) بسرعة عجيبة ، بعد ان كانت عامرة في ظل حكم العرب والمسلمين العقلاء.

وقد بلغت قسوة المسيحيين في الاندلس حدّاً انهم كانوا يحرقون المسلمين ، بل وصل الامر الىٰ حدّ اصدر فيه اسقف طليطلة(٣) الكبير والذي كان رئيساً للمحكمة المقدسة(٤) أيضاً ، حكماً بقتل جميع العرب رجالاً ونساءً واطفالاً ».

أيُّها السادة المحترمون !

كانت تلك نماذج من معاملة المسيحيين الاوروبيين للمسلمين عندما سيطروا علىٰ بلاد المسلمين !

________________

(١) Birnard

(٢) Bavdin

(٣) من أهم محافظات الاندلس ( اسبانيا ).

(٤) محاكم اقامها القساوسة للتحقيق في عقائد الاشخاص ، وكل من يثبت انه مسلم تصدر بحقه اشد العقوبات.

٢٤٢

لقد عاملهم المسلمون برجولة وشهامة عندما فتحوا بلدانهم ، وهو من مفاخر التاريخ العسكري والحربي الانساني ولم يشاهد مثله في اي نقطة من العالم ، لكنه عندما دارت الايام وانتصر الاوروبيون علىٰ المسلمين ، بدأوا بمجازرهم الوحشية التي لا مثيل لها في تاريخ البشرية حسب تعابير مؤرّخيهم.

٢٤٣

اواني الذهب والفضة

الدكتور : سيادة العقيد ، تسمح لنا الآن ، بان نشبع بطوننا الفارغة ، ببعض الاكل ؟

العقيد : مستعد ، ولكن ما الذي سنأكل ؟

الدكتور : جميع الاصدقاء مدعون للغداء معي ، لأن مضيفي البارحة اعدّ لغدائي اليوم قدراً كبيراً من الرز ، ووضع فوق الرز دجاجة كبيرة مشويّة ، وهو كاف لجميعنا.

الطالب الجامعي حسن : دكتور ، اخاف ان يكون الرز والدجاج مثل الحلويات والفاكهة التي اعدها مضيفك لك من قبل ، فضحك الجميع لذلك.

الدكتور ، وبعد ضحكة طويلة ، قال : هذه المرّة اطمئن اصدقائي الىٰ انني سأقدم لهم وجبة اكل جيدة ، ثم نهض الدكتور وفتح حقيبته فأخرج صموناً وملاعقاً ورفع غطاء القدر وبدأ بتقسيم الأكل ، ومن المصادفة كانت بعض اواني الدكتور من الفضة ، فأنتبه الشيخ الىٰ ذلك ، وخاطب الدكتور معترضاً :

سعادة الدكتور ، ارجوا ان لا تستخدم الاواني الفضية ، لأن استعمال الذهب والفضة غير جائز في الاسلام ، كبيعها وشراءها.

الدكتور : ايها الشيخ ، هل لك ان تحدثنا بشكل موجز عن فلسفة ذلك

٢٤٤

التحريم.

الشيخ : اتصوّر ان قليل من التأمّل يوضح فلسفة حرمتها ، لأن الذهب والفضة ثمن وليستا مثمنتان ، اي انها ليست كالاثاث والملابس وسائر ادواة الحياة ، فالذهب والفضة هما محور العجلة الاقتصادية في جميع العالم وعلىٰ امتداد التاريخ ، لذلك لا يسمح الاسلام بأحتكار مثل هذان الشيئان القيمان اللذان تحدد قيمة العديد من الاشياء الاخرىٰ على اساسها ، او ان يوضعا علىٰ رفوف ، فهذه الثروة تعتبر الاسلام في اقتصاد العالم وليس من الصحيح تعطيلها وخزنها في بيت غني مغرور ، في حين انه لو استخدمت بشكل صحيح في المجالات الاقتصادية ، نتاج مجالات عمل لملايين الاشخاص ، وتنجوا الآف العوائل من الفقر والضياع.

سعادة الدكتور ! وكانت في هذا البلد حكومة اسلامية قوية وحقيقية ، وقامت بأخراج تلك الاواني الذهبية والفضية من رفوف الاغنياء علىٰ الرغم منهم ، ووظفتها في السوق الاقتصادية العالمية ، ألا سيكون بأمكانها انشاء عشرات المصانع والمعامل داخل البلاد ، وتسدّ حاجة البلاد الىٰ الكثير من الواردات التي تنهال علينا من الغرب ، وفي نفس الوقت نتاج فرص العمل لآلاف الاشخاص العاطلين وبالنتيجة ستحصل مئات العوائل علىٰ مستوىٰ جيد من الرفاه ؟

أليس من المخجل في بلاد يعيش اكثر من نصفها الفقر والحرمان واغلب قراها لا تحصل علىٰ قدح واحد من ماء الشرب الصحي ، في حين ثروتها من الذهب والفضة مكدسة علىٰ شكل كؤوس واواني في بيوت الاغنياء ، يضعونها للفخر والتباهي وتكون وسيلة للعمالة والتبعية ، فلماذا لا يحرم الذهب

٢٤٥

والفضة ؟ ولماذا يحلل بيعهما وشراءهما فالذهب والفضة اكثر قيمة من الاوراق النقدية ، لأن قيمة الورقة النقدية تحدد علىٰ ضوءهما ، لانهما يوفران الدعم لها. فلو قام أحد الاغنياء بتكديس اوراقه النقدية علىٰ رفوف بيته ليفتخر بها امام ضيوفه وتكون وسيلة لعمالته ، ألا يقال ان هذا الرجل اصيب بجنون مالي ؟! اي انه حيوان مغرور ابعدته الثروة عن كل فضيلة انسانية ، فهل نتوقع من نظام لا يقبل بالتمايز اساساً ان يبقىٰ متفرجاً دون عمل مقابل تلك الاعمال الدنيئة ؟!

الاصدقاء جميعهم : كلامك صحيح ومنطقي تماماً ، ولو اجري هذا القانون الاسلامي ، لكان خطوة اقتصادية كبيرة ولوجدت آلاف الاسر المحرومة ، الحدّ الادنىٰ من متطلبات حياتها ولتخلصت من الفقر والاضطراب ، وعلىٰ اثر ذلك ، اعاد الدكتور الاواني الفضية الىٰ حقيبته ، وجلسوا يأكلون علىٰ مائدة اسلامية وبسيطة كالاخوة ، وبعد قليل من الراحة ، تابعوا حديثهم.

غاليلو يُكفّر

يعتبر غاليلو(١) من كبار علماء ايطاليا ، الذين قالوا بحركة الارض متبعاً بذلك نظرية كربونيك(٢) ، لكنه وبعد ان أظهر رأيه ذلك ، صار هدفاً للّعن وشتائهم مختلف الفئات الاوروبية ، خاصة مسؤولي الكنيسة ، فأضطر ومن اجل

________________

(١) Galilee

(٢) Copirnec

٢٤٦

الحفاظ علىٰ حياته ، ان يتوب مما قال في مجلس رسمي حضره البابا شخصياً ، ويعترف ان كلامه كان خلافاً للحقيقة !!

نص توبة غاليلو

وكان نص توبة غاليلو ، كالتالي :

« أنا غاليلو وفي السبعين من عمري ، اركع امام حضراتكم مخاطباً البابا والقساوسة ـ وفي حين امثل امام الكتاب المقدس ـ الانجيل ـ وألمسه بيدي ، اتوب وانكر واستنفر دعوتي الباطلة في حركة الارض »(١) .

ساعة المسلمين

في العصر الذي لم يكن في جميع انحاء العالم وجود يذكر للعلم والحضارة ، ظهر اول نتاج صناعي كبير علىٰ يد المسلمين في خلافة هارون الرشيد ، وكان ذلك صناعة الساعة. وقد اهدىٰ هارون الرشيد واحدة منها الىٰ شارلمان(٢) ملك فرنسا ، وكما يقول احد كبار المؤرخين الاوروبيين ، عندما وصلت الساعة الىٰ شارلمان لم يكن في فرنسا كلها من يعرف كيف تعمل تلك الساعة.

ويضيف ذلك المؤرخ : عندما نصبوا تلك الساعة التي كان لها جرس

________________

(١) تاريخ العلوم.

(٢) Charlrimagne

٢٤٧

أيضاً أعلىٰ القصر الملكي وارتفع صوت جرسها لأول مرة ، رأىٰ افراد البلاد فجأة أن اهالي باريس متّجهون نحو القصر وهم يحملون العصي والفؤوس ، فأرسل الملك مجموعة لمعرفة سبب هجومهم ، فقال لهم الباريسيون : لا نريد ان نتعرض للملك ، بل نريد تحيطم تلك الساعة ، فمنذ زمن طويل والقساوسة يحدثنوننا عن شيطان يغوينا ويدفعنا الىٰ عمل السوء ، والآن علمنا ان ذلك الشيطان موجود في تلك الساعة ، لأنه اذا لم يكن فيها شيطان ، لما خرج منها ذلك الصوت الموحش ( صوت الجرس ) ، لأن الساعة جماد ولا تستطيع بنفسها ان تخرج صوتاً ، لذلك جئنا بعصينا وفؤوسنا لنقتل ذلك الشيطان ونخلص البشرية من وجوده وشروره !!!

ويقول الدكتور غوستاف لوبون في هذا الصدد :

« كان هارون الرشيد قد ارسل هدايا كثيرة لشارلمان ملك فرنسا وامبراطور الغرب بواسطة سفرائه ، ومن اهم تلك الهدايا كانت الساعة التي يدق جرسها رأس كل ساعة ، وما ان شاهدها شارلمان وحاشيته شبه المتوحشة حتىٰ دهشوا واصبحوا في حيرة من أمرهم ، ولم يكن في فرنسا أحد يعرف كيف تعمل الساعة.

المسلمون مؤسسوا حضارة

التفت العقيد الىٰ الشيخ وقال : كلامك حول اواني الذهب والفضة مقنع تماماً ، إلّا انّ ما يبعث علىٰ التعجب ، هو انه رغم التطور العلمي في العالم الاوروبي الذي يجعلهم في مقام ومنزلة معلمي البشرية ، ورغم ان اعمالهم

٢٤٨

تعتبر قطعياً بالنسبة لنا ، الّا ان استخدام اواني الذهب والفضة شائعة هناك ، فهل يمكن انهم لم يلتفوا الىٰ ما اشرتم اليه رغم اهتمامهم بالمسائل الاقتصادية ؟!

الشيخ : سيادة العقيد ، اتصور انه لا معنىٰ لتعجبك واستغرابك ، فهل نزل الاوروبيون من السماء فيما خرجنا نحن من الارض ؟! لماذا نستصغر انفسنا الىٰ هذا الحدّ امامهم ؟ ولماذا لا نرىٰ أية قيمة لأنفسنا وافكارنا امام الاوروبيون ؟!

اصدقائي الاعزاء !

أليس عجيباً ان تستصغر اُمّة عظيمة لها تاريخ عريق وحضارة كبيرة نفسها أمام اُناس كانوا حتىٰ الامس القريب يعدون من المتوحشين الذين يسكنون الجزر ، للحد الذي نعد كل ما يصدر منهم من اعمال وحشية سنداً قاطعاً فيما ندوس علىٰ افكارنا امامهم !

واليكم ما يقوله احد كتابنا الكبار في نقده لروح التقليد من الغرب التي تشاهد في بلادنا :

« نحن لم نخرج الىٰ العالم من تحت الصخور الصماء ونتعلم اللبس من هذا وذاك ، ولم نكن مجاميع مشتتة ليس لها تاريخ(١) نسير اينما اخذتنا الرياح ، ولم تكن لنا فكره القردة(٢) حتىٰ نقلد الآخرين دون تفكير ، فجمال العالم يأتي من الذوق السليم والطبيعة اللطيفة ، لرسامينا وفنانينا ومزارعينا وفخارينا

________________

(١) كناية عن الشعب الامريكي.

(٢) اشارة الىٰ الشعب الانجليزي ونظرية دارون.

٢٤٩

ونجارينا وحائكينا ومعمارينا ومهندسينا و وهذه متاحف الدنيا من لندن وباريس وبرلين حتىٰ موسكو وفينا وروما وغيرهن من مدن الدنيا مليئة بالقديم والبالي من قطيفة كاشان والاعمال اليدوية من اصفهان والازار والآذربيجاني والجيلاني والخمار اللرَّي و من الاعمال التي يزيد عددها علىٰ عدد الرمال ويعجز عن فهمها الجهّال ، تلك الآثار الخالدة التي عجز العالم المادي الذي سخر اعماق البحار والفضاء علىٰ ان يأتي بمثلها من تناسق الوانها وتناسب اشكالها وجمالها ، وهي من صنع التاريخ الايراني وسائر الشعوب الشرقية ».

اصدقائي الاعزاء !

أقول وأنا متأكد مما ادعيه : ان مصدر العديد من الآثار الحضارية السليمة في اوروبا وامريكا هم المسلمين ، فالحضارة الاسلامية هي التي ادخلت الاوروبيين المتوحشين الى المجتمع المحتضر ، كما ان العلاقة مع المسلمين هي التي عملتهم الادب والاخلاق بعد ان كانوا بعيدين كل البعد عنها ، ففي حين كان الاوروبيون يفخرون بجهلم ويغطون فيه ، كان للمسلمين جامعات ومراكز علمية في بلدانهم ، وعندما لم يكن في اوروبا حتىٰ مكتبة واحدة ، كان المسلمين اصحاب اكبر المراكز العلمية والثقافية في العالم ، وفي تلك الفترة التي كانت اوروبا تتهم علمائها بالجنون وتحاكمهم علىٰ يد قساوستها وتعلقهم على المشانق بتهمة الكفر ، كان المسلمون يمدون البشرية ، بأكبر العلماء والفلاسفة ، ممن يعدون معلمي البشرية حتىٰ يومنا هذا ، البلاط

٢٥٠

شخص يعرف كيف صنعت تلك الساعة »(١) .

ويقول بيير روسو :

« أرسل هارون الرشيد ساعة ذات جرس الىٰ شارلمان وكانت تلك الساعة تعمل اتوماتيكياً ، فكان الاوروبيون يعدونها ثامن اعجوبة في العالم »(٢) .

ظلم الامريكيين

أيُّها السادة المحترمون ! انتبهوا بدقة الىٰ هذه القصة ، لكي تطلعوا علىٰ مدىٰ ظلم الشعب الاميركي النجيب ! والشريف ! والمحتضر ! ولتعلموا كيف يستفيد هذا الشعب النبيل من جهل بعض المسلمين وعدم اطلاعهم ، لينسبوا اعمال الآخرين الىٰ انفسهم ، خلاصة القصة ، هو انني كنت في عيادة احد الاطباء قبل فترة في قم ، وكانت في عيادته مجموعة مجلات منها مجلة بأسم اخبار الاسبوع الامريكية والتي تصدر اسبوعياً في طهران عن الجالية الامريكية ، فتناولتها لاقضي الوقت بتصفحها ، وفجأة جلبت انتباهي صورة ساعة كبيرة يقف رجل الىٰ جانبها ، واسفلها هذا الخبر : « اول ساعة في العالم صنعت علىٰ يد راهب فرنسي يدعى جربرت سنة ٩٩٠ ميلادية ، حيث اصبح ذلك الراهب فيما بعد بابا سيلوستر ، ومع ان تلك الساعة لم تكن دقيقة ، إلّا أنّها كانت افضل من الساعات اللاتي سبقتها ، وكان ذلك تطوراً مهماً في صناعة

________________

(١) حضارة الاسلام والعرب.

(٢) تاريخ العلوم.

٢٥١

الساعات في ذلك العصر ».

اصدقائي الاعزاء !

وكما تلاحظون في الخبر الذي نقلته لكم ، لقد نسب الاميركيون النجباء !! صناعة أوّل ساعة في العالم الىٰ راهب فرنسي ، ولكن وكما يقول المثل « الكذاب كثير النسيان » ولكي يتّضح ظلمهم على ايديهم ، نلاحظ في آخر الخبر العبارة التالية « ومع ان تلك الساعة لم تكن دقيقة ، إلّا انها كانت افضل من الساعات اللاتي سبقتها » افلا يوجد من يقول لهؤلاء الامريكيين النجباء ! ايها المخادعون لماذا كل هذا التناقض ، فإذا كانت هناك ساعات صنعت قبل ساعة الراهب الفرنسي ، فماذا يعني ان ساعة الراهب أول ساعة في التاريخ ؟!

علىٰ المسلمين ان ينتبهوا

سيادة العقيد ، لقب « معلمي واساتذه البشرية » يجب ان يعطى للمسلمين ، الذين اخرجوا الاوروبيين المتوحشين من همجيتهم ووضعوهم في صف ابناء البشر ، وعلموهم الاخلاق والفضيلة ، فكل ما لدىٰ اوروبا من علم واخلاق منشأه المجتمع الاسلامي ، واستطيع ان ادعي بملء فمي انك اين ما وجدت قانوناً ذا فائدة في اوروبا أو امريكا في المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والاجتماعية و ستجد النموذج الاكمل له في الاسلام وسأثبت لكم انهم اخذوه عن المسلمين واقتبسوه منهم.

٢٥٢

ولكي لا يتصور اصدقائي ان كلامي هو بدافع التعصب الديني ، أو هو نوع من الاسترسال والمبالغة ، سأضطر لنقل كلام احد كبار علماء اوروبا فيما يتعلق بفضل المسلمين علىٰ الاوروبيين في مجال التربية ، ومدىٰ تأثير الحضارة الاسلامية في الغرب ، ولكي تتضح حالة الشعوب الاوروبية قبل ارتباطها بالمسلمين وبعده ، والكتب والعلوم التي اخذوها من المسلمين.

فليقرأ المتيّمون بحضارة اوروبا وامريكا

يقول السيد ليبر(١) وهو من أشهر علماء اوروبا ، لو لم يكن للمسلمين وجود في التاريخ ، لتأخرت النهضة العلمية في اوروبا عدة قرون اُخرىٰ.

ويقول الدكتور غوستاف لوبون :

« في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين ، أي في الفترة التي كانت الحضارة الاسلامية في اوروبا تعيش عصرها الذهبي ، كانت مراكز اوروبا العلمية ، عبارة عن قلاع رديئة متخلفة يعيش فيها اجراءنا نحن الاوروبيون ورعاياهم بحالة شبه وحشية وكان يفتخرون بجهلهم واميتهم ، وكان اعلم من فيهم الرهبان الجهلة الذين كان كل همّهم يصرف في اختيار كتب اليونان والرومان القديمة من بين كتب المكتبات الموجودة في الكنائس فيمسحون كلماتها ويدونون مكانها كلماتهم واورادهم المهملة والبربرية الاوروبية استمرت اكثر مما يجب دون ان يشعروا ، طبعاً ظهرت مشاعر بين الاوروبيين في القرن الحادي عشر ، والقرن الذي يليه خاصة ، ومنذ ان شعر بعضهم

________________

(١) Libre

٢٥٣

بضرورة فك تلك القيود والخروج من ظلمة الجهل ، اتجهوا نحو المسلمين الذين كانوا يفوقونهم وافضل منهم لأقتباس العلم والمعرفة ».

ثم يضيف الدكتور لوبون :

« وفي سنة ١١٣٠ تأسست دار للترجمة في مدينة طليطلة برئاسة الاسقف الكبير رايموند ، وبدأوا بترجمة كتب اشهر العلماء المسلمين من العربية الىٰ اللاتينية ، ونجحت تلك الترجمات في تنوير أفكار الاوروبيين وفتح عيونهم علىٰ عالم جديد ، ولم تقتصر تلك الترجمة علىٰ كتب أمثال محمد بن زكريا الرازي والتباسيس وابن سينا وابن رشد الاندلسي من علماء الاسلام ، بل ترجمة أيضاً مصنفات جالينوس وديمقراطيس وافلاطون وارسطو واقليدس وارخميدس وبطليميوس التي كان المسلمون قد ترجموها من اللاتينية الىٰ العربية من قبل ».

اعتراف غريب للدكتور ليكليرك(١)

بعد ان يذكر الدكتور ليكليرك في كتابه تاريخ الطب اسم اكثر من ثلاثمائة كتاب مشهور ترجم من العربية الىٰ اللاتينية ، يقول :

« المعلومات التي حصلنا عليها من علوم اليونان في فترة القرون الوسطىٰ كانت بواسطة هذه الترجمات العربية ، وببركة هذه الترجمات استطعنا الحصول علىٰ تصانيف اليونان القديمة ، في حين ان رهباننا كانوا لا يعرفون حتىٰ اسم اليونان ، لذلك علىٰ جميع العالم ان يعترف بالجميل الذي قام به

________________

١ ـ Liclerc

٢٥٤

المسلمون في الحفاظ علىٰ هذه الكنوز الثمينة وعلىٰ الخدمة الجليلة التي قدموها للمعرفة.

ويضيف أيضاً الدكتور لوبون بعد شرح مفصل لتأثير الحضارة الاسلامية في الغرب ، فيقول :

« إذا ثبت انه في القرن الميلادي العاشر ، لم يكن في اوروبا علىٰ سعتها سوىٰ الاندلس ( مركز حكومة المسلمين في اوروبا ) مركزاً للعلوم والمعرفة ، وفي ذلك العصر لم تكن هناك دولة ( ماعدا الدول الاسلامية في آسيا وافريقيا ) في القسم الغربي من الكرة الارضية غير الاندلس تدرس فيه العلوم والمعارف ، فحتىٰ القسطنطينية لم يكن فيها ذلك ، وكان رجال اوروبا يتجهون نحو الاندلس لتلقي العلوم عند علماء المسلمين ».

ويتكلم الدكتور غوستاف لوبون أيضاً عن مستوىٰ الانحطاط الفكري عند الاوروبيين آنذاك ، فيقول :

« قام غربرت ١١ سنة ٩٩٩ ميلادية بدراسات ، وحاز على مقام الباباوية باسم سيلوستر الثاني ، لكنه عندما اراد نشر علومه في اوروبا ، كان الامر خلافاً للطبيعة عند الاوروبيين بحيث اُتّهم ذلك المسكين بأن الشيطان حلّ في جسده وانه زاغ عن طريق رب المسيح ».

بعض كبار علماء اوروبا من تلامذة العلماء المسلمين

وفي بحث آخر يقول الدكتور غوستاف لوبون :

« حتىٰ القرن الخامس عشر ، كان علماء اوروبا ينظرون الىٰ الكلام الذي

٢٥٥

لم يأخذ عن مصنفي المسلمين ، بأنه غير موثوق ».

ثم يضيف العالم المذكور :

« ويعتبر روجر بايكون(١) وليونارد دوبيس(٢) وارنافد فيلنيف(٣) ، ورايموند لول(٤) ، والقديس ثوماس(٥) ، والبرت الكبير(٦) ، والفونس العاشر(٧) ، جميعهم اما من تلامذة علماء الاسلام أو ناقلين عنهم ».

ويقول السيد رنيان(٨) :

« كل ما كان يعرفه البرت الكبير اخذه وتعلمه من ابو علي ابن سينا العالم الاسلامي المعروف ».

كما ان جميع فلسفة القديس توماس مأخوذة عن العالم المسلم ابن رشد الاندلسي ، وكانت كتب المسلمين هي المصادر الوحيدة التي تدرس في جامعاتنا الىٰ ماقبل خمسمائة أو ستمائة سنة ، وكانت علوم المسلمين علىٰ طول تلك الفترة هي محور دراستنا وعلومنا ، وفي بعض الفروع العلمية : مثل

________________

(١) Roger Bacon

(٢) Leonard de Pise

(٣) Arnavd de Villineuve

(٤) Raymond Lulle

(٥) Saint Thomas

(٦) Albert قسيس وفيلسوف الماني معروف ، كانت افكاره عاملاً في حدوث تغييرات علىٰ الساحة الاوروبية.

(٧) Alphonse

(٨) Renan

٢٥٦

الطب لا تزال نظريات الاطباء المسلمين باقية ، ففي فرنسا بقيت مصنفات ابن سينا حتىٰ القرن الماضي ( التاسع عشر ) وكتبت عليها شروح وتعليقات ايضاً ، وكانت هيمنة علوم العرب في اوروبا إلى درجة كانوا يرجعون الىٰ مصنفاتهم حتىٰ في العلوم التي لم يكونوا متبحرين فيها ، ومنذ بداية القرن الثالث عشر اصبحت فلسفة العالم المسلم ابن رشد الاندلسي جزءً من المقرر الدراسي في مدارس اوروبا.

وفي سنة ١٤٧٣ ميلادية حيث اقر الملك لويس الحادي عشر(١) منهجاً دراسياً ، أمر بتدريس مصنفات ابن رشد في الفلسفة ، وفي جامعات ايطاليا ، خاصة جامعة بادو(٢) لم يكن نفوذ وهيمنة العلوم الاسلامية اقل من سائر الانحاء ».

________________

(١) Lovis

(٢) Padove

٢٥٧

التأثير الاخلاقي للمسلمين في اوروبا

يقول الدكتور غوستاف لوبون :

« لقد تحدثنا فيما سبق عن اخلاق امراء ونبلاء النصارىٰ والاوروبيين ، وفي المقابل ماكان للمسلمين من صفات مميزة ، واثبتنا ان اسلافنا نحن الاوروبيين تركوا بربريتهم بعد ما عاشروا المسلمين وخالطوهم ، والمسلمون هو الذين علموا الشعوب الاوروبية اعطاء قيمة للأخلاق ووظائفة مثل الشفقة والعطف علىٰ الزوجة والاولاد والوفاء للعهد والالتزام بالقسم وامثالهم ، وقد اثبتت الشعوب الاوروبية في الحروب الصليبية انها مختلفة في الفضائل الانسانية فراسخ عن المسلمين ».

وفي كتابه القرآن ، يقول السيد بارثيلمي القديس هيلر(١) :

« لقد صلحت اخلاق امراءنا واشرافنا نحن الاوروبيون وكذلك عاداتهم الرديئة ، نتيجة لمعاشرتهم للعرب وتقليدهم عن المسلمين في القرون الوسطىٰ ، لقد تعلم الاوروبيون من المسلمين الصفات الحميدة التي تمتلكها الشعوب الحيّة ، وللحضارة الاسلامية تأثير محير للعقول علىٰ جميع العالم ، وبذلك ادخلت الشعوب الاوروبية المتوحشة الىٰ دائرة المدنية ، وكان تأثير ونفوذ المسلمين العقلي في العلوم والفنون والفلسفة واضحاً حيث كان الاوروبيون آنذاك جاهلون بها تماماً ، ولقد بقي المسلمون علىٰ مدىٰ ستمائة

________________

(١) Renaissance

٢٥٨

سنة اساتذة لنا نحن الاوروبيين ».

وفي بحث للدكتور غوستاف لوبون حول ، فيما لو كان المسلمون قد سيطروا علىٰ جميع اوروبا ؟ ويقول :

« من مشاهدة الاندلس يمكن معرفة ما كان سيحدث لو كان المسلمون قد سيطروا علىٰ كل اوروبا ، لأنه عندما نشاهد الاندلس ( مركز حكومة المسلمين في اوروبا ) في ذروة رقيها ، وتحضرها تحت سلطة المسلمين في الوقت الذي كانت فيه اوروبا متوحشة جميعها ، يمكن القول ، لو كان المسلمون قد سيطروا علىٰ كل اوروبا ، لاستفادة الشعوب الاوروبية كثيراً من حكمهم ولم يكن ينلهم اي ضرر أو خسارة من ذلك ، ولعدلت الرحمة والشفقة الموجودة في الاسلام خشونة الشعوب الاوروبية ، ولخلّصتهم من الدماء والمجازر وظلم محاكم التفتيش العقائدي التي ذهبت ضحية احكامها ملايين الاوروبيين ».

ثم يضيف الدكتور المذكور :

« لقد اخرجت الحروب الصليبية هذه اوروبا من خلاقها وعاداتها الرذيلة واطوارها الوحشية ، وهيأت لها الارضية بعد ذلك نقل علوم المسلمين ومعارفهم ومن ثم بسطها في جامعاتها ، وكان ذلك السبب الرئيسي في النهضة الاوروبية »(١) .

وفي آخر كتابه يقول الدكتور لوبون في هذا الصدد :

________________

(١) لمزيد الاطلاع حول نص تلك المعاهدات ، رجع : تاريخ العالم الحديث الاسلام ، تأليف الدكتور لوثروب ستودارد ( الاميركي ).

٢٥٩

« يجب ان نعلم اولاً أنه قلما يوجد قوم في العالم يفوقون اتباع الدين الاسلامي من الزاوية الحضارية ، كما ان التطور الكبير الذي بلغوه في العلوم لم يتسير لغيرهم من الشعوب في مثل تلك الفترة القصيرة ، وقد تمكنوا من ايجاد ديانة كبيرة لا تزال من اكثر ديانات العالم حيوية ، ومن حيث الخصوصيات العقلانية والاخلاقية فيكفي انهم هم الذين ربّوا اوروبا وادخلوها الىٰ دائرة الحضارة ».

اسبانيا في ظل حكم المسلمين

في حديثه عن تأثير الحضارة الاسلامية في اسبانيا وسائر انحاء اوروبا ، يقول الدكتور غوستاف لوبون :

« لقد تقدم العرب كثيراً خاصة في اواخر فتوحاتهم ، وعلىٰ مدىٰ قرن في الاندلس التي كانت مركز حكمهم في اوروبا ، قاموا باحياء الاراضي الموات وشيدوا العمارات واوجدوا شبكة من العلاقات التجارية لهم مع سائر الشعوب والاقوام ، ثم قاموا باشاعة العلم والفنون ، فترجموا الكتب اليونانية واللاتينية واسسوا المراكز العلمية والجامعات التي بقيت يستفيد منها الاوروبيون سنوات ممتدة ، كما ان احد أهم خصوصيات الحضارة الاسلامية ، هو شوقها المفرط للعلوم والفنون ، ولذلك تراهم يؤسسون المراكز العلمية والادبية والمكتبات في اي بقعة يحلّون فيها ، وقد بذلوا جهوداً كبيرة في علوم الهندسة والهيئة والطبيعيات والفيزياء والكيمياء ، وسنشرح فيما بعد التطور والتقدم الذي حصل عليه علماء المسلمين في العلوم والفنون ، وقد نجحوا في القيام باكتشافات مهمة جداً.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466