رحلتي من الظلمات إلى النّور

رحلتي من الظلمات إلى النّور12%

رحلتي من الظلمات إلى النّور مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 466

رحلتي من الظلمات إلى النّور
  • البداية
  • السابق
  • 466 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 240972 / تحميل: 8319
الحجم الحجم الحجم
رحلتي من الظلمات إلى النّور

رحلتي من الظلمات إلى النّور

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

وكانت قرطبة ، عاصمة المسلمين آنذاك ، مركز مهماً للعلم والفن والتجارة في اوروبا وكانت تفوق اكبر العواصم الاوروبية ».

اسبانيا في ظل الحكم الاوروبي

يقول عالم فرنسا المعروف :

« عندما كانت الاندلس ( اسبانيا ) تحت حكم المسلمين ، بلغت ذروة تحضّرها ، إلّا ان تلك الاندلس نفسها اتجهت نحو السقوط والانحدار بعد حكم المسلمين ومجىء الحكم المسيحي الاوروبي ، وعلىٰ حدّ اعتراف كبار علماء اوروبا لم تشاهد دولة بلغت تلك المدارج من الرقي بهذه السرعة في ظل حكم المسلمين ، كما انه لم يشاهد مثلها في سرعة السقوط والتدني خلال حكم النصارىٰ الذين دمروا كل شيء وقوضوا كل الاُمور حتى عدد السكان بسبب كثرة القتل الذي قاموا به.

لقد اضطربت احوال الاندلس بمجىء الاوروبيين في جميع المجالات من الزراعة والتجارة الىٰ العلم والادب ، فالاندلس لم تكن متحضرة قبل حكم المسلمين لها ، لكنها وصلت الىٰ اعلىٰ درجات التحضّر والعمران في فترة الحكم الاسلامي ، ولكنها تراجعت حضارياً بشدة مع انتهاء فترة حكم المسلمين وتسلط الاوروبيين والنصارىٰ عليها.

فعندما سقطت ( غرناطة ) آخر عاصمة للمسلمين هناك بيد النصارىٰ ، ذهب جميع ذلك التساهل الديني الذي كان العرب يعاملونهم به ، وعلىٰ الرغم

٢٦١

من المعاهدات التي كانت بينهم(١) عاملوهم بأشد درجة من القسوة والظلم ، وبعد قرن علىٰ ذلك قرروا اخراج المسلمين من البلاد بشكل تام ، لقد كان المسلمون متفوقون عليهم في جميع العلوم حتىٰ تحت ظل حكمهم ـ النصارىٰ ـ للحد الذي شكىٰ الاسبان ذلك الىٰ حكومتهم من ان المسلمين لم يتركوا لهم مجالاً للقيام بعمل محترم ومرموق ، والحقيقة ان النصارىٰ لم يكونوا جديرين للقيام باي عمل ، حتىٰ لا يحتاجوا المسلمين في انجازه.

خلاصة القول :

انه وبعد حكم المسلمين اغلقت المعامل التي كانوا قد شيدوها بأيديهم ، واختلت امور الزراعة ، فصارت الاراضي التي احياها المسلمون الى موات ، مما اثر ذلك علىٰ العمران المدني ، لذلك نشاهد تدني في امور المدن ايضاً ، ففي اشبيلية التي كان فيها علىٰ حكم المسلمين الف وستمائة مصنع وكان يعمل في تلك المصانع اكثر من مائة وثلاثين الف عامل ، تقلص العدد في طل حكم النصارىٰ الىٰ ثلاثمائة مصنع فقط !

وفي طليلة وحدها كان هناك خمسين مصنع للنسيج والاقمشة في فترة حكم المسلمين ، بقيت منها ثلاثة عشر فقط بعدهم ، اما المصانع التي كانت مخصصة لانتاج الاقمشة الحريرية والتي كان يعمل فيها اكثر من اربعين الف عامل ، فقد اغلقت جميعها ، هذا الامر ادىٰ الى خراب مدن مشهورة كانت

________________

(١) لمزيد الاطلاع حول نص تلك المعاهدات : راجع ، تاريخ العالم الحديث الاسلام ، تاليف الدكتور لوثروب ستودارد ( الاميركي ).

٢٦٢

عامرة في فترة حكم المسلمين مثل ، قرطبة ، وسقوبية وبورغوس.

وقد وصل الامر الىٰ الاوروبيين لرادوا ان ينشئوا في بداية القرن الثامن عشر مصنعاً في سقوبية ، ولأنه لم يكن قد بقي هناك واحداً من الصناعيين المسلمين اضطروا لأن يأتوا بالصناعيين والعمال من هولندا. وبشكل عام لقد سقطت الاندلس في الفقر والحرمان والتخلف علىٰ يد النصارىٰ بعد ان كانت القمة الحضارية في اوروبا والعالم في فترة حكم المسلمين.

نماذج مضحكة من جهل الاوروبيين

سيادة العقيد : من اجل ان تتعرفوا اكثر علىٰ هؤلاء الذين ترونهم افضل منكم ، سأنقل لكم نماذج عن جهلهم ومستوىٰ انحطاطهم الفكري في الماضي ، لكي تعرفوا مدىٰ تخلفهم عندما كان للمسلمين مجد وعظمة علمية في الدنيا :

١ ـ مسكين فلتن الامريكي ، لقد صنع زورقاً بخارياً سرعته ما يقرب من خمسة عشر كيلو متراً في الساعة وقام بتجربته في احد الانهار في امريكا ، المتفرجون الامريكيون الذين كانوا يشاهدون حركة الزورق من علىٰ ساحل النهر ، تصوروا ان هذا الزورق ما هو الّا عفريت والدخان الذي يتصاعد من مدخنة غرفة المحرك انفاس ذلك العفريت !!

٢ ـ وفي السويد كانوا يقومون بشنق الشيوخ والعجائز والمرضىٰ الذين يصعب علاجهم ، ولا زالت هناك بعض اعواد المشانق بأسماء بعض الاسر ...!

٣ ـ وفي بريطانيا والىٰ قرون متأخرة كان هناك قانون يجيز للمرأة ان

٢٦٣

يكون لها اكثر من زوج !

٤ ـ نقل بعض المثقفين الفرنسيين الىٰ ملك فرنسا ، ان المسلمين في الاندلس يرصون ارض شوارعهم وازقتهم بأحجار ظريفة ويبالغون في الحفاظ علىٰ نظافتها ، في حين ان شوارع وازقة بلادنا غير مرصوصة بالحجارة والخنازير سائبة فيها علىٰ الدوام مما يزيد في اوساخها ، وبعد ان استمع ملك فرنسا الىٰ كلام هؤلاء ، امر برسم خرائط عن شوارع وازقة مدن الاندلس ، وبعد ذلك ترص شوارع وازقة مدن فرنسا علىٰ غرارها ، كما امر بمنع خروج الخنازير الىٰ الشوارع والازقة.

وما ان سمع الشعب الفرنسي بقرارات الملك ، حتىٰ قامت هناك انتفاضة عامة سميت بالحركة المسيحية في باريس ، واعتبر الباريسيون ان منع حرية الخنازير أمر يخالف التعاليم النصرانية ، وقد وصل الامر الىٰ حدّ اضطر فيه ملك فرنسا لأن يمنح الخنازير حرية التجوال في الشوارع والازقة ، بل ومن اجل جبران ما امر به في السابق ، امر بأن يتعلق في رقبة كل واحد منها جرس خاص ، دلالة علىٰ قدسيتها(١) ، وبالنهاية كانت هذه الاجراس هي السبب في موت ملك فرنسا.

ففي أحد الايام حيث كان الملك ممتطياً جواده ، فاجئته مجموعة من تلك الخنازير بأجراسها ، فارتهب الجواد من صوت اجراسها وقفز من مكانه ،

________________

(١) يشاهد اليوم في الغرب اهتمام بالغ بالكلاب والقطط حتىٰ انهم يعدونها كأحد افراد الاسرة ...!

وحول مكانة الكلاب عند الغربيين راجع :

صحيفة اطلاعات ( بالفارسية ) العدد ٩٢٧١ بتاريخ ١٣ / ٣ / ١٩٥٧. مقال بقلم الدكتور زهيري.

٢٦٤

فوقع الملك من علىٰ ظهره وكان في ذلك موته.

٥ ـ يقول الدكتور غوستاف لوبون : « كان الجمود والتحجر يسود الاندلس بعد حكم المسلمين لحد ، اقترح مجموعة من المثقفين الاوروبيين علىٰ حكامهم ضرورة تنظيف الشوارع والازقة من القاذورات من اجل نظافة العابرين ، ولمجرد هذا الاقتراح تشكلت هيئة طبية اوروبية وخالفته ، وكان تعليمهم : هو ان آباءنا كانوا عقلاء وكانوا راضون عن مثل هذا الوضع ولابد لنا نحن اتباع نهج اسلافنا في ذلك وان اخراج القاذورات من الشوارع والازقة وتنظيفها بعد عملاً لا تعرف نتائجه ؟! »

فطير وشراب

الدكتور : هل صحيح ان الشعوب الاوروبية كانت علىٰ هذا المستوىٰ من الانحطاط حتىٰ القرن الثامن عشر ؟!

الشيخ : حضرة الدكتور ! لا يقتصر الامر علىٰ الماضي بل في عصر الذرة الذي ينظر فيه شعبنا اليهم بقداسة ، هناك خرافات شائعة بينهم تجعل كل انسان عاقل في حيرة من امره.

ولقد تأصلت هذه الخرافات في عقول كبار سياسييهم وعلماءهم ، بحيث انهم ينفذونها ويلتزمون بها دون اي تحفظ او انتباه ، واليكم بعضها :

أ ـ واحدة من تلك الخرافات التي شارك فيها العديد من الشخصيات في اوروبا وامريكا ، شعائر تسمىٰ « الفطير المقدّس » وهو انهم يحضرون في اليوم الذي يقولون فيه بصلب عيسىٰ ، فطائر يعدونها من دقيق جيد ، ويأخذونها الىٰ

٢٦٥

البابا أو كبير القساوسة ، فياتي البابا أو كبير القساوسة بذلك الفطير ومعه زجاجة شراب الىٰ الكنيسة وقد امتلأت لكبار الشخصيات والناس العاديين وهم مصطفّون ومستعدون ، فيضع كبير القساوسة من ذلك الشراب في كأس من الفضة ، والفطائر في منديل نظيف ، وبعد ان يعبر من امام المصطفين ، يقف ووجهه نحو الشرق مقابل الجميع ويقرأ من الاية ٤٨ الىٰ الآية ٥٨ من الانجيل(١) علىٰ الشراب والفطير الذي بيديه ـ في شعائر خرافية للغاية ـ ثم يسجد علىٰ ذلك الفطير ويخاطبه وهو ساجد : انت يا عيسىٰ رب السماوات والارضين ، انت الذي تجسمت في بطن مريم ، انت ابن الله الذي ولدت قبل جميع العوالم ، وأنت الذي تنجو ببركته من ايدي الشياطين ، وانت الذي تجلس علىٰ يمين الاب في السماوات ! نسألك أن تغفر لنا وأن تغفر لاُمّتك التي دفعت دمك ثمناً لخلاصها !

وبعد ذلك يرفع رأسه من السجود ويمسك بالشراب والفطير أمام الحاضرين فيسجد الجميع امامهما ، لانهم يعتقدون ان ذلك الفطير وبعد ان قرأ عليه القس الاكبر تلك الآيات تحول الىٰ جسم المسيح. وبعد ان يتم الجميع سجودهم ، يمسك القس الاكبر بكأس الخمرة ويخاطب الحاضرين قائلاً : لقد امسك عيسىٰ قبل موته كأس الخمرة واعطاه للحواريين ـ والعياذ بالله ـ وقال لهم اشربوه فهذا دمي ، وبعد ذلك الخطاب يقوم القس ومن بعده الحاضرين بالسجود امام ذلك الكأس الذي يعتقدون بأنه دم عيسىٰ ، ثمّ يقوم القس الاكبر بتقطيع الفطائر بحيث تكون الواحدة بمقدار حبّة الحمص أو أصغر ، ثم يقف هو وبيده قطع الفطير ويمسك قس آخر بكأس الشراب فيأتي المصطفون واحد

________________

(١) الباب السادس من انجيل يوحنا ، ص ١٥٥ ، طبع لندن ١٩٠١ م.

٢٦٦

بعد واحد اليه يضع في فمهم قطعة من الفطير يبلعونها دون ان تنالها اسنانهم ، لأنها من جسم عيسىٰ ! ثم الىٰ القس الآخر فيشربون من كأس الخمرة دون ان يمسونه ، ويعتدون انهم وبعد ان أكلوا الفطير وشربوا الخمرة اصبحوا جميعاً ابناء الله.

هنا يعجب الاصدقاء من ذلك الكلام الذي رواه لهم الشيخ.

الاصفهاني يشتري النار !

ب ـ ومن الخرافات الاُخرىٰ السائدة حتىٰ اليوم في الدول الغربية ، قصة بيع الجنة وتفصيل ذلك هو ان المسيحيين يؤمنون بأن عيسىٰ قتل لكي يخلّص بدمه اتباعه من الذنوب والعذاب عند ابيه !!! ( الله ) ، ولذلك فان عيسىٰ يستطيع ان يغفر للمذنبين شخصياً

وهذه العقيدة الوهمية اصبحت وسيلة بيد القساوسة لأخذ الاموال من الناس ، فالمسيحي المذنب يأتي الىٰ القس ويعترف بذنبه فيغفر له القس ذنوبه بأعتباره ممثلاً للمسيح ثم يدفع للقس مبلغاً من المال ازاء شراء قطعة ارض في الجنة.

يقال ان أحد الاصفهانيين اطلع علىٰ هذا الأمر في روما ، فذهب الىٰ القس الأكبر وبعد ان اعترف بمجموعة من الذنوب طلب من القس ان يبيعه جميع جهنم ، ومهما أراد القس الاكبر بنصيحته من ان جهنم مركز العذاب في الآخرة ، ويستطيع هو ان يشتري قطعة ارض من جنة مقابل المبلغ الذي يدفعه ، إلّا ان الاصفهاني اصرّ علىٰ شراء جميع جهنم ، وفي النهاية باعه القس

٢٦٧

الأكبر جميع جهنم ازاء مبلغ زهيد ، فطلب الاصفهاني من القس سنداً للملكية ، فكتب له القس الاكبر كتاباً بذلك ووقعه ، فأخذ الاصفهاني الوثيقة ودخل الىٰ اكبر كنيسة ، هناك وخاطب المسيحيين قائلاً ، لاتذهبوا بعد اليوم الىٰ البابا لشراء أرض في الجنة ، لأن شراء الجنة كان خوفاً من جهنم والآن ارحتكم من ذلك ، فقد اشتريت جميع جهنم من البابا وهذه وثيقة الملكية موقعة من قبل البابا نفسه ، وسيضطر الله الىٰ ادخالكم الجنة لأنه لم يبق لديه مكان آخر.

وبعد ان رأىٰ النصارىٰ وثيقة الملكية بيد الاصفهاني موقعة من قبل البابا ، ايقنوا من صحة الامر ، فكانوا يذنبون دون خوف ودون مراجعة للقساوسة من اجل الاعتراف أو شراء الجنة ، وبعد فترة من الزمن شاهد القساوسة عدم مراجعة احد للاعتراف أو شراء الجنة ، وفهموا ان سبب ذلك هو حيلة الاصفهاني التي دبرها ضدهم ، فأضطروا لأن يذهبوا اليه ويعيدوا سند ملكية جهنم اليهم مقابل مبلغ طائل من المال ، وبهذا الشكل عادوا من جديد الىٰ بيع الجنة وغفران الذنوب !

وهنا ينفجر الاصدقاء ضاحكين.

ج ـ ومن أعمال الاوروبيين غير المنطقية معاملتهم للكلاب ، فمن الغريب ان يعجب المؤرخون الاوروبيون الىٰ وضع اجراس في اعناق الخنازير في فرنسا ـ كما تحدثنا عن ذلك سابقا ـ ويعتبرونه دليل علىٰ انحطاط وتوحش الشعوب الاوروبية السابقة ، في حين انهم لم يعتبروا وضع علامة دفع الضرائب في رقبة الكلاب واعداد سيارات ومطاعم وغرف نوم خاصة لها دليلاً علىٰ التوحش والانحطاط الفكري.

٢٦٨

اصدقائي الاعزاء !

هذه والعشرات من امثالها من الخرافات والوهم الذي يسود صميم اوروبا واميركا ويشيع بين رجالها وعلمائها وشعوبها التي ترفع راية الحضارة المعاصرة ، وللاسف الشديد فان بعض افراد شعوبنا الاسلامية والشرقية ومن خلال مشاهدتها لتطور الغرب الصناعي تتصور ان كل ما يقومون به اكبر دليل علىٰ الحضارة والمدنية لمجرد انه صادر من قبلهم !!!

٢٦٩

التقدم العلمي عند المسلمين

حسن ، الطالب الجامعي : كلامك قيّم وهو وثيقة فخر لنا نحن المسلمون ، ولكن يجب ان لا ننسىٰ ان العالم الاوروبي اصبح قدوة للبشرية في جميع العلوم والفنون ، وبالتقدم الذي احرزوه في هذا المجال ، لهم حق كثير علىٰ عاتق العالم ، واعترافاً بالجميل ، يجب ان نقدمهم ( نحن وجميع الشعوب الاخرىٰ ) علىٰ انفسنا.

استمع الشيخ الىٰ كلام حسن ثم تنهّد وقال : بني حسن ، كلما سمعت مثل هذا الكلام يصدر عن اخواني المسلمين وهم يرون انفسهم في مرتبة دون تلك الشعوب الاوروبية المغرورة ويرونهم معلموهم في كل شيء ، اتأثر كثيراً ، بني ، كلامك حول اوروبا وتعليمها للمسلمين ، شبيه بأن تأتي مجموعة من السارقين ، فيسرقون كل ما تملك من اموال ، ثم يعطونك جزءاً يسيراً جداً منها ـ لأغراض في انفسهم ـ فتشكرهم وتنظر اليهم كأولياء نعمتك وتكون ممتناً لهم علىٰ الدوام ، في حين انها اموالك التي سرقوها منك وهي اتعابك واتعاب آباءك السابقين !!

اصدقائي الاعزاء !

يجب ان نقول وللأسف الشديد : آه من جهل وعدم ومعرفة بعض المسلمين ، آه لكل هذا الشقاء وهذه التعاسة !

٢٧٠

اصدقائي ، معلموا البشرية هم المسلمون وليسوا الاوروبيون ! وهم مدانون لنا في العلم ، لا ان نكون نحن الممتنين لهم ! ولقب « الاستاذ » جدير بنا ، لا الاوروبيون والشعوب الغربية ! ومنجزاتهم العلمية التي ادت الىٰ جميع هذا الصناعات والاكتشافات ، مصدرها نحن ! علماء الغرب يعترفون : « المسلمون اساتذتنا »

الدكتور : ايها الشيخ لقد ادعيت امراً كبيراً ، لا اتصوّر انك تقوىٰ علىٰ اثباته !

الشيخ : سعادة الدكتور ! هناك العديد من حقائق الوجود لم تكونوا تتصورونها من قبل ، ومن أجل ان لا يكون كلامي اعتباطاً ، سأنقل لكم في البداية أقوال بعض علماء اوروبا في هذا الصدد ، ثم سأثبت لكم ـ بحول الله وقوته ـ ان الاوروبيين كانوا تلامذة المسلمين في كل واحدة من العلوم وانهم اخذوها منا ، حسب اعتراف علماءهم الكبار.

واليكم نصوص من تلك الاعترافات :

١ ـ يقول العالم الفرنسي المعروف ، ليبري(١) :

« لو لم يظهر الاسلام والمسلمين في التاريخ لتأخّرت النهضة العلمية الاوروبية قرون عديدة ».

٢ ـ ويقول الكاتب الانجليزي الكبير ، برناردشو(٢) :

________________

(١) Libre

(٢) Birnazd Shaw

٢٧١

« تقدم وتطور العلم والفلسفة ، في جميع انحاء العالم هو من عمل المسلمين ».

٣ ـ ويقول الفيلسوف المعروف ، ديكارت(١) مؤسس الفلسفة الحديثة :

« جوب الفرنسي ، الذي يهدُ من اشهر علماء اوروبا ، اخذ العلم في الاندلس من المسلمين ».

٤ ـ ويقول الدكتور غوستاف لوبون ، حول « روسن مارتن » الذي لم يبخل منزلة المسلمين وخدماتهم في مجال العلم : « مستبعد أن يتجاهل شخص مثل روسن مارتن خدمات المسلمين وحقهم العلمي علينا نحن الشعوب الاوروبية ».

٥ ـ ويقول ارنست رينان(٢) الفيلسوف الفرنسي المعروف :

« ان كل ما يمتكله البرت الكبير كان قد أخذه عن العالم المسلم ابن سينا ، كما ان القديس ثوماس اخذ فلسفته عن الفيلسوف المسلم ابن رشد الاندلسي أيضاً ».

٦ ـ ويقول المؤرخ الفرنسي المعروف ، السيد سديو(٣) :

« التقدم والتطور الحضاري الاوروبي المعاصر سببه العلوم التي نشرها المسلمون في شتىٰ انحاء العالم من شرقها الىٰ غربها ، ولابد من الاعتراف بهذه الحقيقة وهي ان المسلمين اساتذة شعوب اوروبا الأوّلين ».

________________

(١) Discartes

(٢). E. Renan

(٣) Mr. sidilot

٢٧٢

٧ ـ ويقول العالم الانجليزي المعروف ، بوغولد :

« كانت الجامعات الاسلامية في بغداد والاندلسي تستقبل الطلبة الاجانب من اليهود والنصارى ، وكانت تدفع تكاليف الدراسة من خزانة الحكومة ، كما كانت تحترمهم كثيراً ، ولقد استفاد مئات الشبان الاوروبيين من هذه الحرية والمساعدة الاسلامية وكانوا يدرسون مختلف العلوم والمعارف في تلك المراكز العلمية ».

٨ ـ ويقول بوغيزجيفاي :

« لقد أوجد المسلمون مراكز الثقافة رسمياً في القرون الوسطىٰ ، وأسّسوا الجامعات ، وكان كل اوروبي يدخل الجامعات الاسلامية ، يفتخر بين اقرانه ويكون مرفوع الرأس في عشيرته واسرته ، وكانوا يعتبرونه عظيماً وعالماً ».

٩ ـ ويقول القس الفرنسي المعروف ، راموزار سيلوستر :

« في ذلك العصر الذي سطع فيه شعاع الاسلام من بغداد ( في الشرق ) وغرناطة ( في الغرب ) ، كان الاوروبيون يغطون في سبات عميق ، وبعده فترة طويلة ظهرت مجموعة صغيرة منهم اتجهت نحن المراكز العلمية الاسلامية وبدأوا يحتلون جامعات الاندلس ( دولة المسلمين في اوروبا ) ».

١٠ ـ ويقول المؤرخ الاميركي ، درابر :

« كانت للمسلمين باع طويلة في جميع العلوم القديمة منها والحديثة ، وكانت لهم مهارة خاصة في الميكانيك والديناميك والايذوستاتيك ، وفي مسائل علم الفيزياء ، وعلم الكيمياء في مباحث التقطير والتصعيد والتذويب

٢٧٣

والتصفية ، وكانت الجامعات الاسلامية تدرس جميع العلوم من الفيزياء والكيمياء والهيئة ، حتىٰ الزراعة والاسعافات واخلاق الفلاسفة الكبار ، ولم تشاهد جامعة مثل الجامعات الاسلامية فيها ستة آلاف طالب ».

١١ ـ ويقول المؤرخ الفرنسي الشهير « سديلو » في كتاب « تاريخ العرب » :

«كان المسلمون في القرون الوسطىٰ ، القمّة في الفسلفة ومختلف الفنون ، واين ما وطئت اقدامهم ارضاً نشروا فيها العلم ، حتىٰ وصلت علومهم الىٰ اوروبا وادت الىٰ النهضة العلمية الاوروبية »(١) .

١٢ ـ ويقول « جوزيف ماك كاب » :

« لا يوجد في التاريخ شعب وقدم يهتم بالعلم والمعرفة للحد الذي سيطر حب العلم والفن علىٰ جميع طبقاته ، إلّا المسلمين »(٢) .

١٣ ـ ويقول « رنبورت » :

لا بدّ من الاعتراف ان العلوم الطبيعية والفلكية والفلسفة والرياضيات التي احيت اوروبا في القرن العاشر ، كانت مأخوذة من القرآن ، بل اوروبا مدينة بكامل نهضتها للاسلام »(٣) .

١٤ ـ ويقول جورجي زيدان :

________________

(١) روح الدين الاسلامي.

(٢) عظمة المسلمين في اسبانيا.

(٣) نو دانش ، سنة ١٩٨٥ ( بالفارسية ).

٢٧٤

« اينما حكم الاسلام ، تقدم العلم والادب بسرعة »(١) .

١٥ ـ وفي مكان آخر يقول المؤرخ الاميركي « درابر » ، استاذ جامعة نيويورك :

« اذا اردنا كتابة آثار نهضة المسلمين العلمية ، سنخرج من اطار كتاب ـ نزاع العلم والدين ـ ولكن يكفي ان نعلم ان المسلمين تقدّموا وترقّوا كثيراً في العلوم القديمة التي كانت موجودة قبلهم ، كما انّهم أوجدوا علوماً جديدة لم تكن في السابق ، واكتشفوا وسائل عديدة في الكيمياء وغيرها من العلوم ، ولهذا اعتبروهم مؤسسوا علم الكيمياء.

وفي ذلك العصر كانت الجامعات الاسلامية مفتوحة بوجه عامة المسلمين وعلماء اوروبا ، وكان الامراء والسلاطين يتجهون نحو الدول والبلدان الاسلامية للعلاج »(٢) .

١٦ ـ ويقول « دالامبر » في كتابه « الهيئة » : « لم تكن خدمات المسلمين تقتصر في ابحاثهم واكتشافاتهم وتقدمهم العلمي فقط ، بل انهم نفخوا في العلم روحاً خاصة ، ونشروه في ارجاء العالم من خلال الكتب التي الّفوها والجامعات التي اسسوها ، وبهذا الشكل احسنوا الىٰ العالم واوروبا ، حيث يمكن القول ان المسلمين كانوا اساتذة الاوروبيين في العلوم والفنون علىٰ مدىٰ قرون »(٣) .

________________

(١) تاريخ الحضارة اسلامية.

(٢) روح الدين الاسلامي.

(٣) العالم الاسلامي.

٢٧٥

١٧ ـ ويقول كريستوف كولومبس(١) مكتشف القارة الاميركية :

« لقد استفدت في الوصول الىٰ هدفي السامي وهو كشف طريق الهند من كتاب العالم ابن رشد الاندلسي ، حتىٰ استطعت في النهاية ان اكتشف جزيرة امريكا ».

١٨ ـ ويقول أي. دي. همبلت ، أحد كبار علماء اوروبا :

« يجب ان نعتبر المسلمين هم المؤسسون الحقيقيّون للعلوم الطبيعية »(٢) .

اصدقائي الاعزاء !

هذه نماذج من اعترافات كبار علماء اوروبا في تقدم المسلمين في مختلف العلوم ، وكونهم اساتذة اوروبا وسائر الشعوب في العالم.

وبعد ذلك سأبدأ بحثي حول التطور العلمي للمسلمين في مجالات العلوم الحديثة ، وسأورد لكم في ذلك ادلة قاطعة :

________________

(١) Christopher Columbes

(٢) صورة الاسلام.

٢٧٦

تقدم المسلمين في مجال الطب

يقول المستشرق الفرنسي الكبير الدكتور غوستاف لوبون والذي يحمل شهادة دكتوراه في الطب والطبيعيات والاجتماع : « الطب أيضاً مثل الهيئة والرياضيات والكيمياء من العلوم التي كانت للمسلمين اكتشافات ودراسات فيها ، وقد توصلوا الىٰ نتائج مهمة فيه ، وكتب الطب العربية لم تفقد مثل سائر تصانيفهم لأنها ترجمت الىٰ اللاتينية.

ومن اشهر اطباء المسلمين محمد بن زكرياء الرازي الذي يعد من علماء الكيمياء أيضاً ، كان الرازي يعلم الطب في بغداد لفترة خمسين سنة ، وقد كتب مصنفات عديدة في التاريخ والكيمياء والطب ، وله مؤلفات في الحمىٰ البثورية ، مثل الحصبة وامثالها ، ويعد كتابه « علاج الاطفال » اول كتاب في هذا المجال ، ففيه معالجات حديثة مثل استخدام الماء البارد في تخفيض درجة الحرارة ( الحمىٰ ) والذي لا يزال يستخدم في الطب الاوروبي الحديث ، واستخدم الكحول للجروح والحجامة للسكتة وأمثالها.

واشهر كتاب للرازي في الطب هو « الكبير » ، وهو يحتوي على جميع المسائل الطبية وله كتاب آخر في الطب يسمى « المنصورية » والذي كتبه باسم الخليفة المنصور ، ويتضمن عشرة أبواب :

الأوّل : في التشريح ( الفسيولوجيا ).

الثاني : في الامزجة.

٢٧٧

الثالث : في الاغذية والادوية.

الرابع : في الحفاظ علىٰ الصحة.

الخامس : في الأدوية التي تزيّن الجسم.

السادس : في لوازم حفظ الصحة خلال السفر.

السابع : في الجراحة.

الثامن : في السموم.

التاسع : في امراض الكلية.

العاشر : في انواع الحمّىٰ.

وأغلب كتب الرازي مترجمة الىٰ اللاتينية ومطبوعة أكثر من مرّة ، خاصة انها طبعت في فينيسيا ( البندقية )(١) سنة ١٥٠٩ ميلادية ، وفي باريس سنة ١٥٢٨ ، وكتابه حول الحصبة طبع مرتان باللاتينية سنة ١٧٤٥ ميلادية.

وبقيت كتب الرازي في الطب تدرس لفترة طويلة في الكليات الطبية الاوروبية ، وفي لوفين(٢) كانت كتب الرازي وكتب ابن سينا في الطب تدرس حتىٰ القرن السابع عشر ( اي الىٰ ما قبل ثلاثة قرون ).

ومن علماء المسلمين الآخرين في الطب « علي بن العباس » الذي كتب العديد من المصنفات في هذا المجال وانتقد فيها عبارات هيبوكرات

________________

(١) Vines

٢ ـ Lovin

٢٧٨

وجالينوس واوري باز وبول دوجين ، واثبت خطأهم.

ومن اشهر علماء المسلمين في هذا المجال هو الشيخ الرئيس ابو علي بن سينا ، الذي استمرت آراءه ومصنفاته الطبية علىٰ قوتها لفترة طويلة جداً ، بحيث سميّ « ملك الاطباء » ، وقد ترجمت كتب ابن سينا الىٰ جميع لغات العالم ، وكانت تعد الاساس والمبنىٰ في الطب علىٰ مدىٰ ستة قرون خاصة في جامعات فرنسا وايطاليا التي اعتمدتها كمنهاج دراسية ، وقد اعيد طبعها في القرن الثامن عشر ( قبل قرنين ) مرتان ، ولم يمض علىٰ حذفها من مناهج الجامعات الفرنسية والايطالية اكثر من خمسين سنة فقط.

ومن اطباء المسلمين « ابو مروان عبد الملك بن زهرة » من علماء القرن الثاني عشر في اشبيلية ، ورغم ان شهرته ليست بمستوىٰ سائر اطباء المسلمين ، إلّا ان له كمانة رفيعة في الطب ، وقد قام باصلاحات عديدة في العلاج ، واثبت ان للطبيعة تأثير بالغ في جميع افعال واعمال الجسم ، وبشكل عام كان يرىٰ امكانية دفع الامراض دون الحاجة الىٰ دواء ، واستطاع ابن زهرة خلافاً لما كان سائداً في ذلك العصر ، الجمع بين الجراحة والعلاج وخواص الأدوية وله اُسس وأحكام صائبة لا يمكن الشك فيها حول الكسر والخلع الذي يحدث في العظام.

أمّا الطبيب المسلم الآخر ، فهو « ابن رشد » الذي ولد سنة ١١٢٦ في قرطبة ، وتوفي في سنة ١١٨٨ م ، ورغم مؤلفاته في الطب الّا ان شهرته كانت في الفلسفة ، ولابن رشد شرح علىٰ الكتاب ابن سينا في الطب ، وله مؤلفات في الترياق والسمّيّات وأقسام الحمّىٰ والامراض الاُخرىٰ ، وقد طبعت كتبه

٢٧٩

الطبية في اوروبا عدة مرّات بعد ان ترجمت الىٰ اللاتينية(١) .

يقول الدكتور غوستاف لوبون :

« لقد ترجمت كتب ابن سينا في الطب الىٰ جميع لغات العالم ، وبقيت الاساس والمبنىٰ في الطب علىٰ مدىٰ ستمائة سنة »(٢) .

ويقول جورجي زيدان :

« الطب الاسلامي ، هو خلاصة ذلك العلم عند الشعوب المتحضرة آنذاك حتىٰ زمن ظهور الاسلام ، وقد قام المسلمون بجمع الطب الايراني واليوناني والكلداني والهندي واضافوا عليه اشياء كثيرة وانتقدوه في الكثير من الاشياء »(٣) .

تغيير المناخ في الطب الاسلامي

يقول الدكتور غوستاف لوبون :

« كان الاطباء المسلمون مطلعين علىٰ فوائد المناخ بشكل تام ، للحد الذي يوصي ابن رشد في شرحه لكتاب ابن سينا في الطب ، بتغيير الجو ( المناخ ) لعلاج المصاب بالسلّ ، فيقول : في فصل الشتاء تعد ارض الحجاز والحبشة مفيدة لعلاج هذا المرض ، كما ان اطباء اوروبا يرسلون المصابين بهذا

________________

(١) حضارة الاسلام والعرب.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) تاريخ الحضارة الاسلامية.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

( فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ )

فلم يخلصه أصدقاؤه ، ولا الذين كانوا يحملون أمتعته ولا أمواله ولا أي أحد من عذاب الله ، ومضى قارون وأمواله ومن معه في قعر الأرض!

أمّا آخر آية ـ محل البحث ـ فتحكى عن التبدل العجيب لأولئك الذين كانوا يتفرجون على استعراض قارون بالأمس ويقولون : يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون ، وما شابه ذلك!. وإذا هم اليوم يقولون : واها له ، فإنّ الرزق بيد الله( وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ ) .

لقد ثبت عندنا اليوم أن ليس لأحد شيء من عنده! فكلّ ما هو موجود فمن الله ، فلا عطاؤه دليل على رضاه عن العبد ، ولا منعه دليل على تفاهة عبده عنده!.

فالله تعالى يمتحن بهذه الأموال والثروة عباده أفرادا وأقواما ، ويكشف سريرتهم ونيّاتهم.

ثمّ أخذوا يفكرون في ما لو أجيب دعاؤهم الذي كانوا يصرون عليه ، وأعطاهم الله هذا المال ، ثمّ هووا كما هوى قارون ، فما ذا يكون قد نفعهم المال؟

لذلك شكروا الله على هذه النعمة وقالوا :( لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ ) .

فالآن نرى الحقيقة بأعيننا ، وعاقبة الغرور والغفلة ونهاية الكفر والشهوة!. ونعرف أن أمثال هذه الحياة المثيرة للقلوب بمظاهرها الخداعة ، ما أوحشها! وما أسوأ عاقبتها!.

ويتّضح من الجملة الأخيرة في هذه القصّة ـ ضمنا ـ أنّ قارون المغرور مات كافرا غير مؤمن ، بالرغم من أنّه كان يعدّ عارفا بالتوراة قارئا لها ، وعالما من بني إسرائيل ومن أقارب موسى.

* * *

٣٠١

بحوث

١ ـ نماذج قارونية بالأمس واليوم!

قصّة قارون ـ هذا الثري المغرور ـ التي ذكرها القرآن في سبع آيات بينات ـ بأسلوب جذّاب ـ تكشف الحجب عن حقاق كثيرة في حياة الناس!

هذه القصّة النّيرة توضح هذه الحقيقة ، وهي أن غرور الثروة ونشوتها قد ينجر بهما الإنسان ـ أحيانا ـ إلى أنواع الجنون جنون إظهار الثروة وعرضها ولفت أنظار الآخرين إلى التلذذ من تحقير الفقراء والمساكين.

كما أن هذا الغرور وهذه النشوة والعشق المطلق للفضة والذهب ، قد تكون سببا لأنّ يجرأ الإنسان أحيانا إلى ارتكاب أقبح الذنوب وأخسها ، كالإساءة إلى النّبي ومناهظة الحق والحقيقة واتهام أطهر الأفراد ، واستخدام الثروة لإنفاقها على الفواحش في سبيل الوصول إلى الغرض المطلوب.

أن الغرور والنشوة الناشئين من كثرة الثروة ، لا يسمحان للإنسان أن يسمع نصيحة الآخرين ، ويستجيب لمن يريد له الخير!.

وهؤلاء المغرورون الجهلة يتصورون أنّهم أعلم الناس وأكثرهم اطلاعا ، وفي اعتقادهم أن ثروتهم التي وقعت في أيديهم ، وربّما تقع عن طريق الغصب أحيانا ، هي دليل على عقلهم وذكائهم وأن جميع الناس جهلة كما يظنون ، وأنّهم ـ وحدهم ـ العلماء فحسب!.

ويبلغ بهم الأمر حدّا أن يظهروا قدرتهم أمام الخالق ، وكأنّهم مستقلّون ، ويدّعون أنّ ما وصلهم هو عن طريق ابتكارهم وذكائهم ، واستعدادهم وخلّاقيتهم ومعرفتهم التي لا نظير لها!

ورأينا عاقبة هؤلاء المغرورين المنحرفين ، وكيف ينتهون ، وإذا كان قارون وأتباعه وثروته جميعا قد خسفت بهم الأرض فهووا إلى قعرها ، فإنّ الآخرين يفنون بأشكال مختلفة وأحيانا تبتلع الأرض حتى ثروتهم العظيمة بشكل

٣٠٢

آخر أو يبدّلون ثروتهم الكبيرة بالقصور والبساتين والأراضي الشاسعة ثمّ لا يستفيدون منها أبدا وقد يشترون الأراضي الموات والبائرة ، على أمل تقسيمها صغيرة لتباع كل قطعة بسعر باهض! وهكذا تبتلع الأرض ثروتهم.

أمثال هؤلاء الأفراد من سقيمي العقول حين لا يجدون طريقا لصرف ثروتهم العظيمة يتوجهون إلى القيم الخيالية وينفقون أموالهم على الخزف المتكسّر على أنّه من التراث القديم كالأكواز والأقداح الخزفية ، والطوابع ، والأوراق النقدية المتعلقة بالسنوات القديمة ، ويحافظون عليها في مكان حريز من بيوتهم على أنّها أغلى التحف ، وهي لا تستحق أن توضع إلّا في المزابل لو نظرنا إليها بعين البصيرة والاعتبار!

أولئك الذين يحيون مثل هذه الحياة الناعمة الخيالية قد يتفق أن يرى في مدينتهم أو في مناطقهم ـ وأحيانا في جيرانهم ـ من لا عهد له بالشبع ، ويسهرون لياليهم على الطوى جائعين ، ومن العجيب أنّهم يرون هذه الحالة فلا تهتز لها ضمائرهم ، ولا يتأثر لأجلها وجدانهم!.

كما يتفق لحيواناتهم أن تعيش حياة الرفاه ، وتستفيد من رعاية الأطباء والأدوية الخاصّة! في حين أن أناسا محرومين يعيشون في ظروف صعبة وسيئة إلى جوارهم ، وربّما يرقدون في المستشفى ، ويئنّون ولا من مصرخ لهم ، ولا من علاج لمرضهم!.

جميع هذه البحوث تنطبق أحيانا على بعض الأفراد في مجتمع ما ، وقد تنطبق على دولة معينة قبال دول الدنيا كلها ، أي قد نجد دولة قارونية مستكبرة أمام الدول الضعيفة ، كما نلاحظ في العصر الحاضر في شأن الدول الاستكبارية كأمريكا وكثير من الدول الأوروبية.

لقد هيأ هؤلاء حياة التنعّم والرفاه ـ في أرقى صورها ـ باستثمار أبناء العالم الثّالث والدول الفقيرة العزلاء بحيث أنّهم يرمون فضلات طعامهم في المزابل ،

٣٠٣

ولو قدر أن تجمع بصورة صحيحة ، لأمكن عندئذ تغذية الملايين المحرومة الجائعة من هذه المواد الغذائية الإضافية.

وما نقوله من أن بعض الدول فقيرة هي في الحقيقة ليست دولا فقيرة ، بل هي دول منيت بسرقة خيراتها وأغير عليها وربّما كان لديها أغلى المصادر والمعادن تحت الأرض ، لكن هؤلاء المغيرين ينهبون هذه الخيرات ويتركون أهلها على الأرض السوداء الجرداء.

فهؤلاء القارونيون يشيدون قواعد قصورهم الظالمة على أكواخ المستضعفين المهدّمة وإذا لم يتّحد المستضعفون يدا بيد ليقذفوا بالمستكبرين إلى قعر الأرض كما فعل بقارون ، فإنّ حالة الدنيا ستبقى هكذا.

فأولئك يشربون الخمور ويضحكون منتشين ، وهؤلاء يجلسون على بساط الفقر والحرمان باكين.

٢ ـ من أين جاء قارون بهذه الثروة العريضة؟

الطريف أنّنا نقرأ في الآيتين (٢٣) و (٢٤) من سورة المؤمن ما نستفيد منه بوضوح أنّ رسالة موسىعليه‌السلام كانت من البداية لمبارزة ثلاثة أشخاص! «فرعون» ، ووزيره «هامان» ، و «قارون» الثري المغرور.( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ ) .

ونستفيد من النصّ القرآني المتقدم أن قارون كان من جماعة فرعون ، وكان على خطه ؛ كما أنّنا نقرأ في التواريخ أنّه كان ممثلا لفرعون في بني إسرائيل من جهة(١) ، وأنّه كان أمين الصندوق عند فرعون ، والمسؤول على خزائنه من جهة أخرى(٢) .

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، ج ٢٥ ، ص ١٣ ، وتفسر مجمع البيان ، ج ٧ ، ص ٢٦٦ ـ ذيل الآية محل البحث

(٢) مجمع البيان ، ج ٨ ، ص ٥٢٠ ذيل الآية ٢٤ من سورة المؤمن.

٣٠٤

ومن هنا تتّضح هويّة قارون فإنّ فرعون من أجل إذلال بني إسرائيل وسلب أموالهم اختار رجلا منافقا منهم ، وأودعه أزمّة أمورهم ، ليستثمر أموالهم لخدمة نظامه الجبار ، وليجعلهم حفاة عراة ، ويكتسب من هذه الطريقة ثروة ضخمة منهم!.

والقرائن تشير إلى أنّ مقدارا من هذه الثروة العظيمة وكنوز الأموال بقيت بعد هلاك فرعون عند قارون ، ولم يطلع موسىعليه‌السلام ـ إلى تلك الفترة ـ على مكان الأموال لينفقها على اتباعه الفقراء.

وعلى كل حال ، فسواء كانت هذه الثروة قد حصل عليها قارون في عصر فرعون ، أو حصل عليها عن طريق الإغارة على خزائنه بعد هلاكه ، أو كما يقول البعض قد حصل عليها عن طريق علم الكيمياء أو التجارة أو معرفته بأصول استثمار أموال المستضعفين.

مهما يكن الأمر فإنّ قارون آمن بموسى بعد انتصار موسى على فرعون ، وبدّل وجهه بسرعة ، وأصبح من قرّاء التوراة وعلماء بني إسرائيل في حين أنّ من البعيد أن تدخل ذرة من الإيمان في مثل قلب هذا المنافق!.

وأخيرا فحين أراد موسىعليه‌السلام أن يأخذ من قارون زكاة المال ، خدع به الناس ، وعرفنا كيف كانت عاقبته.

٣ ـ موقف الإسلام من الثّروة!

لا ينبغي أن نستنبط من المسائل التي ذكرناها آنفا أنّ الإسلام يقف من الثروة موقفا سلبيا ، وأنّه يخالف خط الثراء ، ولا ينبغي أن نتصور أنّ الإسلام يريد حياة الفقر والفقراء ، ويعدّ حياة الفقر من الكلمات المعنوية!.

بل على العكس من ذلك ، فإنّ الإسلام يعد الثروة عاملا مهمّا نحو الآخرة! وقد عبّر القرآن عن المال بالخير في الآية (١٨٠) من سورة البقرة( إِنْ تَرَكَ

٣٠٥

خَيْراً ) أي مالا.

ونقرأ في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام في هذا الصدد «نعم العون الدنيا على طلب الآخرة»(١) .

بل حتى الآيات ـ محل البحث ـ التي تذم قارون أشدّ الذم ، لأنّه اغتر بالمال ، هي شاهد بليغ على هذا الموضوع غاية ما في الأمر أنّ الإسلام يقبل بالثروة التي بواسطتها تبتغى الدار الآخرة ، كما قال علماء بني إسرائيل لقارون( وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ) .

والإسلام يرضى بالثروة التي نرى فيها «أحسن كما أحسن الله إليك» ولكن للجميع!.

والإسلام يوافق على ثروة يتحقق فيه القول «لا تنس نصيبك من الدنيا» ويمدحها.

وأخيرا فإنّ الإسلام لا يطلب ثروة ينبغي بها الفساد في الأرض وتنسى بها القيم الإنسانية وتكون نتيجتها الابتلاء بمسابقة جنون التكاثر ، أو أن ينفصل الإنسان عن ذاته ويحتقر الآخرين ، وربّما تجرّه إلى مواجهة الأنبياء كما فعل قارون في مواجهته لموسىعليه‌السلام !.

يريد الإسلام الثروة لتكون وسيلة لملء الفراغ الاقتصادي ، وأن يستفيد منها الجميع ، ولتكون ضمادا لجراح المحرومين ، وللوصول بها إلى إشباع الحاجات الاجتماعية وحلّ مشاكل المستضعفين

فالعلاقة بين هذه الثروة وهذه الأهداف المقدّسة ليست علاقة دنيوية ، أو ارتباطا بالدنيا ، بل هي علاقة أخروية.

كما نقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أن أحد أصحابه جاءه شاكيا أمره ، وقال : والله إنّا لنطلي الدنيا ونحبّ أن نؤتاها. فقالعليه‌السلام : «تحبّ أن تصنع بها

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٢ ، ص ١٧ ، الحديث ٥ من الباب ١٦ من أبواب مقدمات التجارة.

٣٠٦

ما ذا؟»

قال : أعود بها على نفسي وعيالي ، وأصل بها وأتصدق بها وأحج وأعتمر فقال الامام الصادقعليه‌السلام : «ليس هذا طلب الدنيا ، هذا طلب الآخرة»(١) .

ومن هنا يتّضح فساد عقيدة طائفتين في هذا المجال :

طائفة من المسلمين ، أو بتعبير أدق : ممن يتظاهرون بالإسلام ، وبعيدون عن تعاليمه ، فيعرّفون الإسلام على أنّه محام عن المستكبرين.

وطائفة من الأعداء المغرضين الذين يريدون أن يمسخوا وجه الإسلام الأصيل ، ويجعلوه معاديا للثروة ، وأنّه يقف الى جانب الفقراء فحسب.

وأساسا فإنّ أمّة فقيرة لا تستطيع أن تعيش وحدها مرفوعة الرأس حرّة كريمة!.

فالفقر وسيلة للارتباط بالاجنبي والتبعية

والفقر أساس الخزي في الدنيا والآخرة!

والفقر يدعو الإنسان إلى الإثم والخطيئة.

كما نقرأ في حديث للإمام الصادق في هذا الصدد «غنى يحجزك عن الظلم ، خير من فقر يحملك على الإثم»(٢) .

إنّ على المجتمعات الإسلامية أن تسعى ـ مهما استطاعت ـ نحو التقدم لتكون غنيّة غير محتاجة ، ولتبلغ مرحلة الاكتفاء الذاتي ، وأن تقف على أقدامها وأن لا تضحّي باستقلالها وعزّتها وشرفها من أجل الفقر المذلّ الموجب للتبعية وتعلم أن منهج الإسلام الأصيل هو هذا لا غير.

* * *

__________________

(١) «وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ١٩ الحديث الثّالث الباب السابع من أبواب مقدمات التجارة.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ١٧ ، الحديث السابع الباب السادس من أبواب مقدمات التجارة.

٣٠٧

الآيتان

( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤) )

التّفسير

نتيجة حبّ التسلط والفساد في الأرض :

بعد البيان المثير لما حدث لثري مستكبر ومتسلط ، وهو قارون ، تبدأ الآية الأولى من هذا المقطع ببيان استنتاج كلي لهذا الواقع وهذا الحدث ، إذ تقول الآية( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً ) .

أجل ، فهم غير مستكبرين ولا مفسدين في الأرض وليس هذا فحسب ، بل قلوبهم مطهّرة من هذه المسائل ، وأرواحهم منزهة من هذه الأوساخ! فلا يريدون ذلك ولا يرغبون فيه.

وفي الحقيقة إنّ ما يكون سببا لحرمان الإنسان من مواهب الدار الآخرة ، هو هذان الأمران : «الرغبة في العلو» أيّ الاستكبار و «الفساد في الأرض» وهما

٣٠٨

الذنوب لأنّ كل ما نهى الله عنه فهو على خلاف نظام خلق الإنسان وتكامل وجوده حتما ، فارتكاب ما نهى الله عنه يدمر نظام حياة الإنسان ، لذا فهو أساس الفساد في الأرض! حتى مسألة الاستعلاء ـ بنفسها ـ هي أيضا واحدة من مصاديق الفساد في الأرض ، إلّا أن أهميته القصوى دعت إلى أن يذكر بالخصوص من بين جميع المصاديق للفساد في الأرض!.

وقد رأينا في قصّة «قارون» وشرح حاله أنّ السبب الأساس في شقوته وهلاكه هو العلوّ و «الاستكبار».

ونجد في الرّوايات الإسلامية اهتماما بهذه المسألة حتى أنّنا نقرأ حديثا عن الإمام أمير المؤمنين علىعليه‌السلام يقول : «إن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحتها»(١) .

(وهذا أيضا فرع صغير من الاستعلاء).

ومن الطريف أنّ صاحب «تفسير الكشاف» يعلق بعد ذكر هذا الحديث فيقول : بعض الطامعين ينسبون «العلوّ» في الآية محل البحث لفرعون بمقتضى قوله :( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ ) ،(٢) والفساد لقارون بمقتضى قوله :( تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ ) ،(٣) ويدعون بأن من لم يكن كمثل فرعون وقارون فهو من أهل الجنّة والدار الآخرة ، وعلى هذا فهم يبعدون فرعون وقارون وأمثالهما من الجنّة فحسب ، ويرون الباقين من أهل الجنّة ، إلّا أنّهم لم يلاحظوا ذيل الآية( وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) بدقة ـ كما لاحظها الإمام عليعليه‌السلام (٤) .

وما ينبغي إضافته على هذا الكلام هو أن هؤلاء الجماعة أخطئوا حتى في معرفة قارون وفرعون لأنّ فرعون كان عاليا في الأرض وكان من المفسدين

__________________

(١) تفسير جوامع الجامع ، ذيل الآية محل البحث.

(٢) سورة القصص ، الآية ٤.

(٣) سورة القصص ، الآية ٧٧.

(٤) تفسير الفخر الرازي ، ذيل الآية محل البحث.

٣٠٩

( إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) ،(١) وقارون أيضا كان مفسدا وكان عاليا بمقتضى قوله :( فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ) .(٢)

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه كان يسير في الأسواق أيام خلافته الظاهرية ، فيرشد التائهين إلى الطريق ويساعد الضعفاء ، وكان يمرّ على الباعة والكسبة ويتلوا الآية الكريمة( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً ) . ثمّ يضيف سلام الله عليه : «نزلت هذه الآية في أهل العدل والتواضع من الولاة وأهل القدرة من الناس»(٣) .

ومعنى هذا الكلام ، أنّه كما لم يجعل الخلافة والحكومة وسيلة للاستعلاء ، فلا ينبغي أن تجعلوا أموالكم وقدرتكم وسيلة للتسلط على الآخرين ، فأنّ العاقبة لأولئك الذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا وكما يقول القرآن في نهاية الآية( وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) .

و «العاقبة» بمفهومها الواسع هي النتيجة الصالحة ، وهي الانتصار في هذه الدنيا ، والجنّة ونعيمها في الدار الأخرى وقد رأينا أنّ قارون وأتباعه إلى أين وصلوا وأيّة عاقبة تحمّلوا! مع أنّهم كانوا مقتدرين ولكن حيث كانوا غير متقين فقد ابتلوا بأسوأ العاقبة والمصير!.

ونختم كلامنا في شأن هذه الآية بحديث للإمام الصادقعليه‌السلام وهو أنّ الإمام الصادق حين تلا هذه الآية أجهش بالبكاء وقال : «ذهبت والله الأماني عند هذه الآية»(٤) .

وبعد ذكر هذه الحقيقة الواقعية ، وهي أن الدار الآخرة ليست لمن يحب

__________________

(١) سورة القصص ، الآية ٤.

(٢) سورة القصص ، الآية ٧٩.

(٣) نقل هذه الرواية زاذان عن أمير المؤمنين «مجمع البيان (ذيل الآية محل البحث)».

(٤) تفسير علي بن إبراهيم ذيل الآية محل البحث.

٣١٠

السلطة والمستكبرين ، بل هي للمتقين المتواضعين وطلبة الحق ، تأتي الآية الثّانية لتبيّن قانونا كليا وهو مزيج بين العدالة والتفضل ، ولتذكر ثواب الإحسان فتقول :( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها ) .

وهذه هي مرحلة التفضل ، أي أنّ الله سبحانه لا يحاسب الناس كما يحاسب الإنسان نظيره بعين ضيّقة ، فإذا أراد الإنسان أن يعطي أجر صاحبه فإنّه يسعى أن يعطيه بمقدار عمله ، إلّا أنّ الله قد يضاعف الحسنة بعشر أمثالها وقد يضاعفها بمئات الأمثال وربّما بالآلاف ، إلّا أن أقلّ ما يتفضل الله به على العبد أن يجازيه عشرة أضعاف حسناته ، حيث يقول القرآن في الآية (١٦٠) من سورة الأنعام :( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ) .

أمّا الحدّ الأكثر من ثواب الله وجزائه فلا يعلمه إلّا الله ، وقد جاءت الإشارة إلى جانب منه ـ وهو الإنفاق في سبيل الله ـ في الآية ٢٦١ من سورة البقرة إذ يقول سبحانه في هذا الصدد( ... مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ) .

وبالطبع فإنّ مضاعفة الأجر والثواب ليس أمرا اعتباطيا ، بل له ارتباط وثيق بنقاء العمل وميزان الإخلاص وحسن النيّة وصفاء القلب ، فهذه هي مرحلة التفضل الإلهي في شأن المحسنين.

ثمّ يعقّب القرآن ليذكر جزاء المسيئين فيقول :( وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

وهذه هي مرحلة العدل الإلهي ، لأنّ المسيء لا يجازى إلّا بقدر إساءته ، ولا تضاف على إساءته أية عقوبة!.

الطريف هنا عند ذكر جزاء السيئة أن القرآن يعبر عن الجزاء بالعمل نفسه( إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) أي إن أعمالهم التي هي طبقا لقانون بقاء الموجودات في

٣١١

عالم الوجود ، تبقى ولا تتغير ، وتبرز في يوم القيامة متجسمة دون خفاء ، فهو (يوم البروز) في شكل يناسب العمل ، وهذا الجزاء يرافق المسيئين ويعذبهم!.

* * *

ملاحظات

١ ـ لم تكرر ذكر «السيئة» في هذه الآية مرتين؟

من المحتمل أن يكون ذكر السيئة مرتين في الآية ، لأن الله يريد أن يؤكّد على هذه المسألة ، وهي أن السيئة لا جزاء لها إلّا نفسها.

٢ ـ هل تشمل الحسنة الإيمان والتوحيد؟ فإذا كان كذلك فما معنى هذه الجملة( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها ) ؟! وهل هناك خير من الإيمان والتوحيد؟!

وفي الإجابة على هذا السؤال نقول ـ بدون شك وترددّ ـ إن للحسنة معنى واسعا فهي تشمل المناهج الاعتقادية والأقوال والأعمال الخارجية ، وما هو أفضل من الاعتقاد بتوحيد الله فهو رضا الله سبحانه الذي يكون ثوابا للمحسنين ، فنحن نقرأ في الآية (٧٢) من سورة التوبة قوله تعالى :( وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ) !

٣ ـ لم عبّر القرآن عن الحسنة بصيغة الإفراد ، وعن السيئات بصيغة الجمع؟! يعتقد بعض المفسّرين أنّ هذا التعبير عائد إلى كثرة المسيئين وقلة المحسنين(١) .

كما ويحتمل أيضا أن الحسنات تتلخص في حقيقة التوحيد ، وأنّ جميع الحسنات تعود إلى «جذر» واحد وهو توحيد الله ، في حين أن السيئات ترجع إلى الشرك الذي هو مصداق التشتت والتعدد والكثرة.

* * *

__________________

(١) روح المعاني ، الآلوسي ذيل الآية.

٣١٢

الآيات

( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨) )

سبب النّزول

نقل جماعة من المفسّرين ـ سببا لنزول الآية الأولى من الآيات أعلاه عن ابن عباس مضمونه ما يلي :

حين كان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله متوجها من مكّة إلى المدينة في سفر الهجرة وبلغ «الجحفة» وهي لا تبعد عن مكّة كثيرا تذكر وطنه «مكّة» هذه البقعة التي هي حرم الله وأمنه وفيها البيت العتيق «الكعبة» التي تعلق بها قلب النّبي وروحه تعلقا لا يقبل الانفكاك ظهرت آثار الشوق على وجه النّبي الكريم مزيجة بالحزن

٣١٣

والتأثر ، فنزل أمين الوحي جبريل على رسول الله وقال : أتشتاق الى بلدك وهو مولدك؟! فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نعم فقال جبرئيلعليه‌السلام : فإن الله يقول :( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ ) (١) يعني مكّة

ونعلم أنّ هذا الوعد العظيم تحقق أخيرا ، ودخل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بجيشه القوي وقدرته وعظمته الكبيرة مكّة ظافرا ، واستسلمت مكّة والحرم الآمن دون حرب للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فعلى هذا تعدّ الآية آنفة الذكر من الإخبار الإعجازي السابق لوقوعه ، إذ أخبر القرآن عن رجوع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى مكّة بصورة قطعيّة ودون أي قيد وشرط ، ولم تطل المدّة حتى تحقق هذا الوعد الإلهي الكبير!.

التّفسير

الوعد بعودة النّبي إلى حرم الله الآمن :

هذه الآيات التي هي آخر الآيات في سورة القصص تخاطب نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله وتبشره بالنصر ، بعد أن جاءت الآيات الأولى لتبيّن قصّة موسى وفرعون وما جرى له مع قومه ، كما أنّ هذه الآيات فيها ارشادات وتعليمات مؤكّدة لرسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله .

قلنا : إنّ الآية الأولى من هذه الآيات طبقا لما هو مشهور بين المفسّرين نزلت في «الجحفة» في مسير النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلى المدينة إذ كان متوجها إلى يثرب لتتحول بوجوده إلى «مدينة الرّسول» وأن يبذر النّواة الأصيلة «لحكومة إسلامية» فيها ويجعلها مقرّا لحكومة إلهية واسعة ، ويحقق فيها أهدافها.

لكن هذا الحنين والشوق والتعلق بمكّة يؤلمه كثيرا ، وليس من اليسير عليه الابتعاد عن حرم الله الآمن.

__________________

(١) راجع تفسير الميزان ، تفسير القرطبي ، ومجمع البيان «التّفسير الكبير» للفخر الرازي ، وتفاسير غيرها.

٣١٤

وهنا يشرق في قلبه الطاهر نور الوحي ، ويبشّره بالعودة إلى وطنه الذي ألفه فيقول :( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ ) .

فلا تكترث ولا تذهب نفسك حسرات ، فالله الذي أعاد موسى إلى أمّه هو الذي أرجعه أيضا إلى وطنه بعد غياب عشر سنوات في مدين ، ليشعل مصباح التوحيد ويقيم حكومة المستضعفين ويقضي على الفراعنة ودولتهم وقوّتهم.

هو الله سبحانه الذي يردك إلى مكّة بكلّ قوّة وقدرة ، ويجعل مصباح التوحيد على يدك مشرقا في هذه الأرض المباركة.

وهو الله الذي أنزل عليك القرآن ، وفرض عليك إبلاغه ، وأوجب عليك أحكامه.

أجل ، إنّ ربّ القرآن وربّ السماء والأرض العظيم ، يسير عليه أن يردّك إلى معادك ووطنك «مكّة».

ثمّ يضيف القرآن في خطابه للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أن يجيب على المخالفين الضالين بما علّمه الله( قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) .

إنّ طريق الهداية واضح ، وضلالهم بيّن ، وهم يتعبون أنفسهم عبثا ، فالله يعرف ذلك جيدا ، والقلوب التي تعشق الحق تعرف هذه الحقيقة أيضا.

وبالطبع فإنّ التّفسير الواضح للآية كما بيّناه آنفا ، إلّا أن جمعا من المفسّرين لديهم احتمالات أخرى في كلمة «معاد» من قبيل «العودة للحياة بعد الموت» «المحشر» او «الموت». كما فسّروه «بالجنّة» أو مقام «الشفاعة الكبرى» أو «بيت المقدس» الذي عرج النّبي منه أوّل مرة ، وغير هذه المعاني.

إلّا أنّه مع الالتفات إلى محتوى مجموع هذه السورة ـ القصص ـ وما جاء في قصّة موسى وفرعون وبني إسرائيل ، وما سقناه من شأن نزول الآية ، فيبعد تفسير المعاد بغير العودة إلى مكّة كما يبدو!.

أضف إلى ذلك أن المعاد في يوم القيامة لا يختصّ بالنّبي وحده ، والحال أن

٣١٥

الآية تتحدث عن النّبي ـ هنا ـ وتخاطبه وحده. ووجود هذه الآية بعد الآية التي تتحدث عن الثواب والجزاء في يوم القيامة ، لا دلالة فيها على هذا المعنى ، بل على العكس من ذلك ، لأنّ الآية السابقة تتحدث عن الانتصار في الدار الآخرة ، ومن المناسب أن يكون الحديث في هذه الآية عن الانتصار في هذه الدنيا.

أمّا الآية التالية فتتحدث عن نعمة أخرى من نعم الله العظيمة على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فتقول :( وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ) (١) .

كان كثير من الناس قد سمعوا بالبشارة بظهور الدين الجديد ، ولعل طائفة من أهل الكتاب وغيرهم كانوا ينتظرون أن ينزل عليهم الوحي ويحمّلهم الله هذه المسؤولية ، ولكنّك ـ أيّها النّبي ـ لم تكن تظن أنّه سينزل عليك الوحي( وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ ) إلّا أن الله رآك أجدر بالأمر ، وأن هذا الدين الجديد ينبغي أن ينتشر ويتسع على يدك في هذا العالم الكبير!.

وبعض المفسّرين يرون هذه الآية منسجمة مع آيات سابقة كانت تتحدث عن موسىعليه‌السلام ، وتخاطب النّبي ـ أيضا ـ كقوله تعالى :( وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ) .

فعلى هذا يكون المقصود بالكتاب هنا هو قصص الأنبياء السابقين إلّا أن هذا التفسير لا منافاة فيه مع التفسير المتقدم! بل يعدّ قسما منه في الواقع!.

ثمّ يضيف القرآن في خطابه للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن طالما كنت في هذه النعمة( فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ ) .

ومن المسلّم به أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن ظهيرا للكافرين أبدا ، إلّا أن الآية جاءت في مقام التأكيد على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبيان المسؤولية للآخرين ، وأن

__________________

(١) قال بعضهم : إن «إلّا» هنا تفيد الاستثناء ، فاضطروا إلى أن يقولوا بحذف كلمة والتقدير لها من عندهم وهو تحكّم إلّا أن البعض الآخر فسّر «إلّا» بمعنى «لكن» وأنّها تفيد الإستدراك ، وهذا الوجه أقرب للنظر!

٣١٦

وظيفتهم أن يتأسوا بالنّبي ولا يكون أيّ منهم ظهيرا للكافرين.

وهذا الموضوع ينسجم تماما مع الموضوع الذي قرأناه في شأن موسىعليه‌السلام ، إذ قال :( رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ) وبيّنا معناه في شأن إعانة الظالمين في الآية (١٧) من سورة القصص ، أمّا الآيتان اللتان تختتم بهما سورة القصص ، فهما تأكيد على مسألة التوحيد بتعابير واستدلالات متعددة ـ ومختلفة.

التوحيد الذي هو أساس جميع المسائل الدينية التوحيد الذي هو الأصل وهو الفرع وهو الكلّ وهو الجزء!.

وفي هاتين الآيتين أربعة أوامر من الله لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأربعة صفات لله تعالى ، وبها يكتمل ما ورد في هذه السورة من أبحاث.

يقول أوّلا :( وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ ) وبالرغم من أن النهي موجه إلى الكفار ، إلّا أن مفهوم الآية عدم تسليم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أمام صدّ الكافرين ، وإحباطهم ومؤامراتهم ، وهذا تماما يشبه ما لو قلنا مثلا : لا ينبغي أن يوسوس لك فلان ، فمعناه : لا تستسلم لوسوسته!.

وبهذا الأسلوب يأمر الله النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقف راسخ القدم عند نزول الآيات ولا يتردد في الأمر ، وأن يزيل الموانع من قارعة الطريق مهما بلغت ، وليسر نحو هدفه مطمئنا ، فإنّ الله حاميه ومعه أبدا.

ويقول ابن عباس : وإن كان المخاطب هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلّا أنّ المراد عموم الناس ، وهو من قبيل المثل العربي المعروف «إيّاك أعني واسمعي يا جارة!».

وبعد هذا الخطاب الذي فيه جنبة نهي ، يأتي الخطاب الثّاني وفيه سمة إثبات فيقول :( وَادْعُ إِلى رَبِّكَ ) فالله الذي خلقك وهو الذي ربّاك ورعاك

والأمر الثالث ، بعد الأمر بتوحيد الله ، هو نفي جميع أنواع الشرك وعبادة الأصنام( وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) فإن طريق التوحيد واضحة بينة ، ومن

٣١٧

ساروا عليها فهم على صراط مستقيم!.

والأمر الرّابع تأكيد آخر على نفي جميع أنواع الشرك ، إذ يقول تعالى :( وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ) .

وهذه الأوامر المتتابعة كل واحد منها يؤكّد الآخر ، يوضح أهمية التوحيد في المنهج الإسلامي ، إذ بدونه يكون كل عمل زيفا ووهما.

وبعد هذه الأوامر الأربعة تأتي أوصاف أربعة لله سبحانه ، وهي جميعا تأكيد على التوحيد أيضا.

فالأوّل قوله :( لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) .

والثّاني قوله :( كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) .

والوصف الثالث :( لَهُ الْحُكْمُ ) والحاكمية في عالمي التشريع والتكوين.

والرابع : أن معادنا إليه( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) .

والأوصاف الثلاثة الأخيرة يمكن أن تكون دليلا على إثبات التوحيد وترك جميع أنواع عبادة الأصنام ، الذي أشير إليه في الوصف الأول!

لأنّه طالما كنّا هالكين جميعا وهو الباقي.

وطالما كان التدبير لنظام الوجود بيده والحكم له!

وطالما كان معادنا إليه وإليه نرجع! فما عسى أن يكون دور المعبودات غيره ، وأي أحد يستحق العبادة سواه!؟

والمفسّرون الكبار لديهم آراء مختلفة في تفسير جملة( كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) تدور حول محور كلمتي «وجه» و «هالك».

لأنّ الوجه يطلق ـ من حيث اللغة ـ على المحيّا أو ما يواجهه الإنسان من الشخص المقابل ، ولكن الوجه حين يطلق على الخالق فإنّه يعني عندئذ ذاته المقدسة!.

وكلمة «هالك» مشتقّة من مادة «هلك» ومعناه الموت والعدم ، فعلى هذا

٣١٨

يكون معنى الجملة المتقدمة فناء جميع الموجودات عدا ذات الخالق المقدسة وهذا الفناء بالنسبة للموجودات الممكنة غير منحصر بفناء هذا العالم وانتهائه ، فالموجودات الآن فانية قبال الذات المقدسة ، وهي تحتاج إلى فيضه لحظة بعد لحظة ، وليس لديها في ذاتها أي شيء ، وكلّ ما لديها فمن الله!

ثمّ بعد هذا كلّه فإنّ موجودات هذا العالم جميعها متغير وفي معرض التبدل ، وحتى طبقا لفلسفة «الحركة الجوهرية» فذاتها هي التغيير بعينه ، ونحن نعرف أن الحركة والتغيير معناهما الفناء والعودة الدائمية ، فكل لحظة تموت موجودات العالم وتحيا!.

فعلى هذا فإنّ الموجودات هالكة وفانية الآن ـ أيضا ـ غير أن الذات التي لا طريق الفناء إليها ولا تهلك ، هي الذات المقدسة!

كما نعلم أنّ الفناء أو العدم يتجلى بصورة واضحة في نهاية هذا العالم ، وكما يقول القرآن :( كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ ) .(١)

ولا يخصّ الفناء ما على الأرض ، بل يشمل حتى أهل السماء( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ) .(٢) فهذا التّفسير منسجم مع ظاهر الآية والآيات الأخرى في القرآن ، غير أن بعض المفسّرين ذكروا تفاسير أخرى غير ما تقدم بيانه ، ومنها :

١ ـ أنّ المقصود من كلمة (وجه) هو العمل الصالح ، ومفهوم هذه الآية يكون حينئذ أن جميع الأعمال تمضي مع الرياح سوى ما يكون خالصا لله.

وقال بعضهم : إنّ المراد بالوجه هو انتساب الأشياء إلى الله ، فيكون مفهوم الآية أنّ كل شيء معدوم ذاتا إلّا من ناحية انتمائه إلى الله!

وقال بعضهم : المراد بالوجه هو الدين ، فيكون مفهوم الآية أن المذاهب كلها

__________________

(١) سورة الرحمن ، الآيتان ٢٦ و ٢٧.

(٢) سورة الزمر ، الآية ٦٨.

٣١٩

باطلة سوى دين الله.

وجملة( لَهُ الْحُكْمُ ) هي كما فسّروها بأنّها الحاكمية التشريعية. وهو تأكيد على التّفسير السابق!.

كما أن جملة( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) فسّروها بالرجوع إلى الله في أخذ الشريعة عنه! وهذا تأكيد آخر على هذا المعنى(١) .

وهذه التفاسير مع ما بيّناه آنفا لا نجد بينها منافاة في الحقيقة! لأنّنا حين عرفنا أن الشيء الوحيد الذي يبقى في هذا العالم هو الذات المقدسة لله فحسب! فيتّضح أن ما يرتبط بذات الله بنحو من الأنحاء فإنه يستحق البقاء والابدية.

فدين الله الصادر منه أبديّ ، والعمل الصالح الذي له أبديّ والقادة الإلهيّون الذين يرتبطون يتّسمون بالخلود.

والخلاصة ، كل ما هو مرتبط بالله ـ ولو بنحو من الأنحاء ـ فهو غير فان «فلاحظوا بدقّة».

* * *

مسألتان

١ ـ كيف تفنى جميع الأشياء؟!

من جملة الأسئلة التي أثيرت في ذيل الآية ، هو أنّه إذا كان لا بدّ من فناء جميع الأشياء في نهاية العالم ، فلا محيص من أن تتلاشى الأتربة التي تكونت من أبدان الناس ، في حين أن القرآن يصرّح مرارا بأن الله سيجمع هذه الاتربة وينشر الناس منها ، وأن الناس سينشرون في يوم القيامة من قبورهم!.

وطبقا لظاهر الآيات ـ أيضا ـ فإن الجنّة معدّة ، والنّار معدّة ومهيأة من قبل ،

__________________

(١) وردت روايات متعددة في تفسير «نور الثّقلين» في ذيل الآيات فسّرت بعضها الوجه بدين الله ، وبعضها برسل الله وما هو منسوب لله.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466