رحلتي من الظلمات إلى النّور

رحلتي من الظلمات إلى النّور16%

رحلتي من الظلمات إلى النّور مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 466

رحلتي من الظلمات إلى النّور
  • البداية
  • السابق
  • 466 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 240624 / تحميل: 8302
الحجم الحجم الحجم
رحلتي من الظلمات إلى النّور

رحلتي من الظلمات إلى النّور

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

أيضاً حدث من الأحداث.(١)

ويقول الدكتور « دونالد روبرت كار »: إنّ هذا الكون لا يمكن أن يكون أزليّاً ولو كان كذلك لما بقيت فيه أيّ عناصر إشعاعية. ويتفق هذا الرأي مع القانون الثاني للديناميكا الحرارية.(٢)

أقول: إنّ هذا الأصل يثبت لنا أمرين :

الأوّل: حدوث المادة وكونها مسبوقة بالعدم كما أفاده الدكتور « دونالد »، إذ لو كانت قديمة بلا أوّل لنفدت طاقاتها عبر القرون غير المتناهية، لأنّ صرف القوىٰ المحدودة في زمان غير محدود ينتهي إلى نفاد القوى وعدم بقاء شيء منها، فإذا رأينا بقاء المادة ونشاطها وتفجّر طاقاتها، ننتقل إلى أنّها مسبوقة بالعدم، وانّها وجدت في ظروف محدودة بنحو نفدت بعض طاقاتها.

الثاني: تقويض أُسس النظام السائد تحت غطاء نفاد الطاقات وتساوي الأجسام من حيث الفعل والانفعال والحرارة والبرودة، والإنسان جزء من هذا النظام السائد فهو أيضاً مكتوب عليه الموت.

إنّ العلم الحديث وإن بادر إلىٰ مكافحة الموت وبذل الحياة للإنسان كي يعمّر طويلاً إلّا أنّ هذه المبادرة باءت بالفشل فلم يمكنه أن يهب للإنسان الحياة الخالدة لأنّه سيواجه الموت مهما عمّر، لأنّ الموت سنّة إلهية قطعية، وإلىٰ ذلك تشير الآيات والروايات :

١.( أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ المَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ) .(٣)

٢.( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ ) .(٤)

٣.( وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الخَالِدُونَ ) .(٥)

__________________

١ و ٢. الله يتجلىٰ في عصر العلم: ٢٧ و ٨٥.

٣. النساء: ٧٨.

٤. آل عمران: ١٨٥.

٥. الأنبياء: ٣٤.

١٦١

وفي الأحاديث ما يدعم ذلك.

قال الإمام عليٌّعليه‌السلام : « فلو أنّ أحداً يجد إلى البقاء سُلّماً أو لدفع الموت سبيلاً، لكان ذلك سليمان بن داودعليهما‌السلام الذي سُخّر له ملك الجن والإنس ».(١)

ويقول أيضاً في موضع آخر :« إنّ لله ملكاً ينادي في كلّ يوم: لِدُوا للموت ».(٢)

د. خوف الإنسان من الموت

للإنسان حسب فطرته، رغبة في الاستمرار في الحياة، وهذا ممّا لا ينبغي الشكّ فيه، لأنّ الرغبة إلى الحياة أمر جبلي، ولعلها دليل علىٰ أنّ بعد الموت حياة أُخرى فيها تتحقق أُمنيّة الإنسان ولولاها لكانت تلك الرغبة في خلقته أمراً عبثاً سدىً.

والفلاسفة يستدلّون بوجود الرغبة في الحياة على وجود المرغوب إليه في الخارج.

بيد أنّ الناس أمام الموت على صنفين :

فصنف يتصوّر أنّ الموت نهاية الحياة، ولذلك كلّ ما يسمع لفظة الموت يأخذه الحزن والأسىٰ ويتجسّد الموت أمامهم كأنّه غول ذو مخالب فتّاكة يريد أن يبطش بهم.

وآخر ممّن لا يستوحش من الموت ولا من سماعه، لأنّه هو الذي وقف علىٰ حقيقة الحياة الدنيا، وأنّ الموت ليس إلّا قنطرة إلى الحياة الأُخرىٰ، ولذلك يستقبل الموت برحابة صدر ووجه مستبشر.

__________________

١. نهج البلاغة: الخطبة ١٨٢.

٢. نهج البلاغة: من كلماته القصار، برقم ١٣٢.

١٦٢

ثمّ إنّ الأسباب الكامنة من وراء الخوف من الموت أمران :

الأوّل: كون الموت خاتمة المطاف.

الثاني: الإيمان بالحشر والجزاء، وأنّ الناس مجزيّون بأعمالهم إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.

إنّ القرآن الكريم يصف حالة اليهود ويؤكد على أنّ خوفهم من الموت نجم من جرّاء الأمر الثاني، ويقول:( قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ *وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) (١) ، ويقول في سورة أُخرى:( قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ للهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ *وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) .(٢)

وقد أشير في بعض الروايات إلىٰ سبب الخوف من الموت.

روى السكوني عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، عن أبيهعليه‌السلام أنّه قال: أتى النبي رجل فقال: مالي لا أحب الموت ؟ فقال لهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « ألك مال ؟ » قال: نعم. قال: « فقدمته ؟ »، قال: لا. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « فمن ثمّ لا تحب الموت ».(٣)

وقد أشار الإمام في خطبه وكلمه إلى الأسباب الداعية إلى كراهة الموت، يقولعليه‌السلام : « واعلموا أنّه ليس شيء إلّا ويكاد صاحبه يشبع منه ويملّه إلّا الحياة فانّه لا يجد في الموت راحة ».(٤)

وقالعليه‌السلام : « ولا تكن ممّن يكره الموت لكثرة ذنوبه ».(٥)

__________________

١. البقرة: ٩٤ ـ ٩٥.

٢. الجمعة: ٦ ـ ٧.

٣. البحار: ٦ / ١٢٧.

٤. نهج البلاغة: الخطبة ١٢٩، ط عبده.

٥. نهج البلاغة: قسم الحكم برقم ١٥٠.

١٦٣

وقال رجل للحسن بن عليّعليهما‌السلام : ما لنا نكره الموت ولا نحبّه ؟ فقال: « إنّكم أخربتم آخرتكم وعمّرتم دنياكم، فأنتم تكرهون النقلة من العمران إلى الخراب ».(١)

قيل للإمام محمد بن عليّ بن موسى: : ما بال هؤلاء المسلمين يكرهون الموت ؟ قال: « لأنّهم جهلوه فكرهوه، ولو عرفوه وكانوا من أولياء الله عزّوجلّ لأحبّوه ولعلموا أنّ الآخرة خير لهم من الدنيا ».(٢)

والرواية تشير إلى السبب الأوّل وهو الجهل بحقيقة الموت وانّه انتقال من الحياة الدنيا إلى الحياة الأُخرى، ولذلك نرى أنّ علياًعليه‌السلام يشتاق إلى الموت ويتحنّن إليه، ويقول: « والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أُمّه ».(٣)

وفي خطبة أُخرى يقولعليه‌السلام : « فواللّه ما أُبالي دخلت إلى الموت أو خرج الموت إليّ ».(٤)

هذه من خصائص الأولياء وميزاتهم، حيث يستقبلون الموت بصدر رحب لأنّهم يرون الموت قنطرة من الحياة الدنيا إلى حياة طيبة، يقول سبحانه:( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الحُسْنَىٰ أُولَٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ *لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ *لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ المَلائِكَةُ هَٰذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ) .(٥)

__________________

١. البحار: ٦ / ١٢٩.

٢. معاني الأخبار: ٢٠٩.

٣. نهج البلاغة: الخطبة ٥.

٤. نهج البلاغة: الخطبة ٥٥.

٥. الأنبياء: ١٠١ ـ ١٠٣.

١٦٤

ه‍. أقسام الموت في القرآن الكريم

إذا كان الموت انتقالاً من دار إلى دار ومن حياة ضيقة إلى حياة واسعة، فطبيعة الحال تقتضي أن لا يكون أمراً يسيراً بل يتزامن مع العسر والحرج، وهذا نظير انتقال الجنين من رحم الأُمّ الضيّق إلى الدنيا الواسعة ويتزامن هذا الانتقال مع العسر.

نعم هذا العسر يكون مقدمة لحياة جديدة مرافقة لليسر.

وقد أشار الإمام الثامنعليه‌السلام إلى المواقف التي يشهدها الإنسان مع الخوف والوجل :

١. الولادة ٢. الموت ٣. البعث.

ولأجل المواقف العسيرة التي يواجهها الإنسان في هذه الأدوار الثلاثة نجد أنّ الله سبحانه وعد يحيىعليه‌السلام بالسلامة من كلّ مكروه في هذه المواقف، قال سبحانه:( وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ) .(١)

إذا عرفت ذلك فلنشرح أقسام الموت :

١. الموت العسير واليسير

إنّ حقيقة الموت ترجع ـ في الواقع ـ إلى نزع الروح من البدن مرفقاً بعسر وحرج وضيق عند قاطبة الناس ويشتد خاصة عند من يواجه الموت مقترفاً للذنوب يقول سبحانه:( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالحَقِّ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ ) .(٢)

__________________

١. مريم: ١٥.

٢. ق: ١٩.

١٦٥

وفي آية أُخرى:( فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ المَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ) .(١)

وفي مقابل هؤلاء المؤمنون المطيعون لأوامر ربّهم ونواهيه فهم يقابلون بالسلام، يقول سبحانه:( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ) .(٢)

وفي آية ثانية يخاطب سبحانه النفس المطمئنّة، بقوله:( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ *ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ) .(٣)

وهذا التقسيم الذي تبنّاه الكتاب الإلهي من تقسيم الناس حين الموت إلى من يبشر بالسوء والخير، شائع في روايات أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام .

يقول الإمام الحسنعليه‌السلام : « أعظم سرور يرد على المؤمنين إذا نقلوا عن دار النكد إلى نعيم الأبد ».(٤)

وقال الإمام عليّ بن الحسينعليهما‌السلام : « الموت للمؤمن كنزع ثياب وسخة قملة وفك قيود وأغلال ثقيلة، والاستبدال بأفخر الثياب وأطيبها روائح وأوطئ المراكب وآنس المنازل ; وللكافر كخلع ثياب فاخرة، والنقل عن منازل أنيسة، والاستبدال بأوسخ الثياب وأخشنها، وأوحش المنازل وأعظم العذاب ».(٥)

إلى غير ذلك من الروايات.


__________________

١. محمد: ٢٧.

٢. النحل: ٣٢.

٣. الفجر: ٢٧ ـ ٢٨.

٤. البحار: ٦ / ١٥٤.

٥. البحار: ٦ / ١٥٥.

١٦٦

٢. موت البدن والقلب

قد ينسب الموت إلى البدن، وأُخرى إلى القلب، فإذا انقطعت علاقة الروح بالبدن فهذا موت البدن، ولكن إذا كانت العلاقة موجودة ولكن الإنسان بلغ من التفكير والتعقّل درجة نازلة تلحقه بميت الأحياء، ولذلك يعد سبحانه الفئة المعاندة للإسلام أمواتاً، ويقول:( فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتَىٰ وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ) (١) ، وقد ورد هذا المضمون في آيات أُخرى من الذكر الحكيم.

ويقول سبحانه:( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ) .(٢)

والمراد من « الميت » هو ميت القلب الغافل عن الحقائق والمعارف، فإذا أشرق نور الإسلام على قلبه صار حيّاً بحياة معنوية يمشي بنوره بين الناس، فليس هو كمن بقي في الظلمات ولا يستطيع الخروج منها.

ومن لطائف الكلام ما نلمسه في خطب الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام حيث يصف حياة المتخلفين عن الجهاد أمام أعدائهم موتاً، كما يصف الشهادة في ميادين الجهاد حياة، ويقولعليه‌السلام : « فالموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين ».(٣)

لأنّ الحياة المعنوية رهن آثار وأهمها الدفاع عن كيان الدين ودفع عادية المعتدين، فالطائفة الأُولى فقدوا هذه الخصيصة فكأنّهم ليسوا بأحياء بل أمواتٌ، بيد أنّ تلك الخصيصة متوفرة عند الطائفة الثانية فهم وإن ضُرّجوا بدمائهم في

__________________

١. الروم: ٥٢.

٢. الأنعام: ١٢٢.

٣. نهج البلاغة: الخطبة ٥١.

١٦٧

ساحات الوغىٰ ولكنّهم دافعوا عن كيان الإسلام فصانوا دينهم وديارهم ونواميسهم.

ونظير ذلك تارك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي استولت الأنانية عليه وغفل عن الآخرين فهو حيّ ظاهراً وميت حقيقةً، إذ لا يشعر بأي مسؤولية حيال إزالة المفاسد الاجتماعية التي تهدِّد المجتمع.

يقول الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام : « ومنهم تارك لإنكار المنكر بلسانه وقلبه ويده فذلك ميت الأحياء ».(١)

ويقول أيضاً فيمن يهتمُّ بحياة البدن دون القلب: « يرون أهل الدنيا يعظمون موت أجسادهم وهم أشدّ إعظاماً لموت قلوب أحيائهم ».(٢)

٣. موت الإنسان والمجتمع

يصف علماء الاجتماع المجتمع تارة بالطفولة، وأُخرى بالريعان والنضج، وثالثة بالانحطاط والهرم وفقاً للحالات الطارئة على الإنسان من طفولة إلى ريعان الشباب ثمّ الشيخوخة والهرم.

فالإنسان في مرحلة الطفولة تكمن فيه استعدادات وقابليات مختلفة، فإذا اجتاز تلك المرحلة تتفجر طاقاته الكامنة رويداً رويداً حتى يبلغ مرحلة الشباب ثمّ يجتاز تلك المرحلة إلىٰ مرحلة الشيخوخة فتنهار قواه وتأخذ بالضعف، وهكذا المجتمع.

وهناك تقسيم آخر وهو :

إنّ الإنسان من حين ولادته إلىٰ أن يبلغ مرحلة شبابه تتكامل شخصيته

__________________

١. نهج البلاغة: قسم الحكم، برقم ٣٧٤.

٢. نهج البلاغة: الخطبة ٢٣٠.

١٦٨

شيئاً فشيئاً، فإذا اشتدّت قواه، يبدأ باستغلالها بغية نيل الأموال والمناصب وغيرها، وكلّما تقدم في العمر يزداد حرصاً وطمعاً فإذا اجتاز تلك المرحلة ودخل مرحلة الهرم فيشرع بحفظ ما جمعه وبلغت إليه يده من الأموال والثروات إلى أن يبلغ أجله.

فالمرحلة الأُولىٰ: مرحلة التكوين، والثانية: مرحلة الهجوم، والثالثة: مرحلة التدافع ; والرابعة: مرحلة الانقراض، وهكذا المجتمع في مراحله الأربع.

فالحضارات الإنسانية، مرَّت بتلك المراحل إلىٰ أن اضمحلّت واندثرت.

يقول سبحانه:( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) (١) فيعد للأُمة حياةً وأجلاً.

عوامل أُفول الحضارات

إنّ بزوغ نجم الحضارات وأُفولها من السنن القطعية الإلهية فلا تدوم حضارة عبر القرون والدهور بل تتبعها حضارة أُخرى وهكذا.

نعم هذا البزوغ والأُفول رهن عوامل داخلية وخارجية وليس أمراً اعتباطياً، يقول سبحانه:( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) .(٢)

إنّ اضمحلال الحضارة واندثارها ناجم عن عوامل كثيرة أهمها تفشي الظلم في المجتمعات وغياب العدالة الاجتماعية في حياتها، وهذا بمرور الزمان يستفحل شيئاً فشيئاً حتى يصل مرحلة لا يطيقها المجتمع فيؤول إلىٰ عصيان عام

__________________

١. الأعراف: ٣٤.

٢. الأعراف: ٩٦.

١٦٩

يؤدي إلىٰ سقوط الحضارة، يقول سبحانه:( وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ) (١) ، ويقول في آية أُخرى:( وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا *وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ) .(٢)

فقد عدّت الآية الأُولى والثانية الظلم والفسق وارتكاب الذنوب من أسباب انهيار الحضارات وزوالها، ووجهه واضح، لأنّ الفسق والزنا وأكل الأموال بالباطل والغش والسرقة، طغيانٌ على الفطرة السليمة وخروجٌ عليها، ومعه تنفصم عرى الحضارة الإنسانية. فضلاً عن بثِّ العداوة والبغضاء في القلوب.

نعم هناك ذنوب تترك آثاراً سلبية في المجتمع، وإن لم نقف على الصلة بينها، فقد ورد في الحديث: انّه إذا كثر الزنا، كثر موت الفجأة. وهناك صلة بين الأمرين وإن لم تثبته العلوم الحديثة.

وأمّا تأثير الظلم وبعض الذنوب التي تخالف الفطرة كالزنا واللواط وجمع الأموال بالباطل فهو واضح حسب المعايير الاجتماعية كما ذكرناه.

٤. الموت المشرّف

إنّ بعض أنواع الموت يعد مشرّفاً في حدّ ذاته، وهذا كالموت في سبيل طلب العلم وإقامة العدل وغير ذلك من الأهداف السامية، ولذلك يعد سبحانه هؤلاء أحياءً لا أمواتاً ويقول:( وَلا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لاَّ تَشْعُرُونَ ) .(٣)

__________________

١. هود: ١١٧.

٢. الإسراء: ١٦ ـ ١٧.

٣. البقرة: ١٥٤.

١٧٠

كما أنّه سبحانه يعد من مات في سبيل العلم مجاهداً مأجوراً عند الله، يقول سبحانه:( وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ ) .(١)

و. الموت والأجل المحتوم

القرآن الكريم يقسّم الأجل إلى أجل مطلق وأجل مسمّىٰ، ويقول:( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ) .(٢)

كما أنّه يصرّح بأنّ للشمس والقمر أجلاً مسمّىٰ، يقول:( وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى ) (٣) . إلى غير ذلك من الآيات الناصة على الأجل المطلق والمسمّى.

وقد بسط المفسرون الكلام في تفسير الأجلين، ولكن الذي نفهمه من الآيات هو أنّه سبحانه جعل لكلّ شيء أجلاً طبيعياً بمعنىٰ قابليته لأن ينتهي إليه، ولكن ربّما تعوق المعوِّقات عن بلوغ ذلك الأمد، وهذا كالإنسان فله استعداد أن يحيىٰ ١٢٠ سنة ولكن الظروف البيئية ربما تحول دون ذلك، فالمقدّر لكلّ شيء حسب طبيعته هو الأجل المطلق وأمّا ما ينتهي إليه مصير الشيء، فهو يختلف، فتارة ينقص عن الأجل المطلق لأجل عوائق تحول بينه وبين الأجل المطلق، وأُخرىٰ يجتازه ويعمر أكثر من العمر الطبيعي لأجل توفّر عوامل بيئية ونفسية مناسبة.

وهذا التقسيم أيضاً جار في الصنائع، فلكلّ مصنوع عمر محدد مفيد، ولكنّه

__________________

١. النساء: ١٠٠.

٢. الأنعام: ٢.

٣. فاطر: ١٣.

١٧١

ربّما يواجه ظروفاً وعوامل خاصّة تنقص من ذلك العمر المفيد، كما أنّه ربما يجتازه لأجل رعاية الأساليب الفنية في استخدام ذلك المصنوع.

ز. التوبة والندامة قبيل الموت أو حينه

الموت يلازم رفع الحجب المادية عن البصر، فيرى الإنسان المحتضر مصيره بأُمِّ عينيه، فالصالحون يرون روحاً وريحاناً وحياة فيستقبلون الموت بوجوه مشرقة وصدور رحبة، وأمّا الظالمون المستكبرون فيلمسون حياة مريرة تعانق الآلام والنيران فيحاولون جهد إمكانهم أن يدّاركوا ما اقترفوه من الآثام بالتوبة والندامة ليتخلّصوا بذلك من العذاب الأليم، ولات حين مناص، فلا تنفع الندامة لأنّ الهدف من التوبة هو طهارة الروح من أدران المعصية والآثام وهذه الأمنية رهن صدور التوبة عن اختياره ورغبته إلى الطهارة، وهذا غير متحقق في حال الاحتضار، لأنّه يتوب ويندم بلا اختيار.

وبعبارة أُخرى: التائب إنّما تقبل توبته إذا كان أمامه طريقان فينتخب الطريق الحقّ باختياره، وهذا إنّما يتيسر له ذلك في ثنايا حياته لا في حال الاحتضار الذي يسلب عنه اختياره، ولذلك يقول سبحانه:( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ ) (١) وفي آية أُخرى:( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ *لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاًّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) .(٢)

إنّ فرعون مصر لما كاد أن يغرق، ورأى مصيره المرير حاول أن يتوب ويظهر إيمانه بربّ موسى ولكنّه جُوبه بالرفض والاستنكار، قال سبحانه:( حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ

__________________

١. النساء: ١٨.

٢. المؤمنون: ٩٩ ـ ١٠٠.

١٧٢

الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلَٰهَ إلّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ *آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المُفْسِدِينَ ) .(١)

وليست هذه خصيصة فرعون فحسب، بل الأُمم الغابرة الغارقة في الفساد حاولوا ردّ العذاب بالتوبة بعدما نالوا من الأنبياء والمصلحين وسخروا منهم فلم تغن عنهم توبتهم في شيء قال سبحانه:( فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ *فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ) .(٢)

والإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام يصف بعض الظالمين الذين يواجهون أنواع العذاب حين الموت ويقول: « فهو يعضُّ يده ندامة علىٰ ما أضمر له عند الموت من أمره ».(٣)

وقد علم من كلّ ذلك أنّ رفض توبة الإنسان في تلك الحالة لا يدل على عدم سعة رحمته، لما عرفت من أنّ قبول التوبة فرع سموِّ الإنسان عن اقتراف الذنوب الذي يلازم الاختيار، وهذا غير متحقّق حين الموت.

ح. الوصية في حال الموت

يُستحب للإنسان في جميع الأحوال أن يوصي بما عليه من الديون والحقوق لا سيما إذا حضره الموت، يقول سبحانه:( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى المُتَّقِينَ ) .(٤)

__________________

١. يونس: ٩٠ ـ ٩١.

٢. غافر: ٨٤ ـ ٨٥.

٣. نهج البلاغة: الخطبة ١٠٩.

٤. البقرة: ١٨٠.

١٧٣

ومن الواضح أنّ هذه اللحظة هي آخر ما يتمكن الإنسان من الوصية والأَولىٰ أن يقدّمها على الاحتضار سواء أكان شاباً أم هرماً، قال عليٌّعليه‌السلام : « ما ينبغي لامرئ أن يبيت ليلة إلّا ووصيته تحت رأسه ».(١)

ويستحب أن يشهد على الوصية عدلان، قال سبحانه:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ المَوْتِ ) .(٢)

فالآية ترغِّب إلى شهادة عدلين من المسلمين إذا أمكن، و إلّا فليشهد من غير المسلمين من أهل الكتاب كما إذا كان الموصي ضارباً في الأرض ولم يجد من نحلته من يُشهده علىٰ وصيته فعليه أن يُشهد من غيرهم، وما هذا إلّا لأجل أن يوصد باب الأعذار على ورثة الميت ويقطع دابر الحيل التي ربما تحول دون تنفيذ الوصية.

ط. جهل الإنسان بموته

إنّ حبّ البقاء من الأُمور التي جبل الإنسان عليها، ولو سلب عنه ذلك الحب لأُطفئت جذوة حياته، فحبّ البقاء مصباح منير لحياته، كما أنّ اليأس من الحياة ظلام دامس لها; روي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّه قال: « الأمل رحمة لأُمّتي ولولا الأمل ما رضعت والدة ولدها، ولا غرس غارس شجرة ».(٣)

ولو كان الإنسان مطلعاً على زمان موته ومكانه لاستولىٰ عليه الحزن واليأس قبل أن يموت بسنين، وربما يموت قبل أجله المقرر، ولذلك يعد الجهل بزمان موته

__________________

١. وسائل الشيعة: ١٣، كتاب الوصايا، باب ١، حديث ٧.

٢. المائدة: ١٠٦.

٣. سفينة البحار: مادة أمل.

١٧٤

من علل بقاء حياته ونشاطه، ولذلك ستر سبحانه علم هذا الموضوع عن الناس إلّا في موارد خاصة لملاكات كذلك.

على أنّ لهذا الجهل أثراً تربوياً، فانّ الرجوع إلى الله سبحانه والتوبة من المعاصي مع الرجاء بالبقاء أفضل من التوبة والرجوع إليه عند اقتراب أجله وقبل إطفاء مصباح حياته.

نعم ربما يكون الجهل بالموت سبباً للغرور والاغترار حيث إنّ المغتر يزعم أنّه سيعيش عمراً طويلاً، ولكنّه يرى موته أمراً بعيداً، فيقترف المعاصي في شبابه علىٰ أمل أن يتوب منها في هرمه، ولكنه في الوقت نفسه عامل تربوي للحد من الغرور لأنّه يحتمل أن يكون قد اقترب أجله ويكون هو على مقربة من الموت.

ولهذه الوجوه ستر سبحانه علمه عن الناس وقال:( وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ) .(١)

ويدل على ذلك ما دلّ من الآيات على أنّ الأجل المسمّى عنده، وهو يلازم جهل الإنسان بموته لانحصار علمه بالله سبحانه.

ي. الموت والملائكة الموكّلون

إنّ من مراتب التوحيد حصر التدبير في الله سبحانه، وأنّه لا مدبّر إلّا هو ولو كانت الشمس مشرقة والقمر منيراً وغيرهما من العوامل الطبيعية ذات الآثار الخاصة فإنّما هو بأمره سبحانه، كما يقول:( أَلا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) .(٢)

__________________

١. لقمان: ٣٤.

٢. الأعراف: ٥٤.

١٧٥

ولكن الإيمان بحصر التدبير في الله لا ينافي وجود عوامل أُخرى مؤثرة تدبر الكون، بأمر من الله سبحانه، فانّ هذا التدبير الظلي التبعي في طول تدبير الله سبحانه، ولأجل ذلك ينسب الله تعالى توفّي الأنفس إليه ويقول:( اللهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) (١) ، ولكنّه في الوقت نفسه ينسبه إلى الملائكة تارة وملك الموت أُخرى، ويقول:( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ) (٢) ويقول سبحانه:( قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) .(٣)

فهناك فعل واحد نسب إلى فواعل ثلاثة، تارة إلى الله، وأُخرى إلى الملائكة، وثالثة إلى ملك الموت، فالفعل واحد والفواعل متعددة، لأنّ فعل الجميع هو فعل الله سبحانه بالتسبيب.

وترى نظير ذلك في قوله سبحانه:( وَاللهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ ) (٤) حيث ينسب الكتابة إلى الله، وفي آية أُخرى ينسبها إلى الرسل، ويقول:( أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) .(٥)

وتتجلّى تلك الحقيقة في الآيات التالية الواردة في الموت والحياة، يقول سبحانه:( إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) (٦) ، ويقول:( وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا ) (٧) .

ويقول أيضاً:( نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ المَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ) (٨) .

__________________

١. الزمر: ٤٢.

٢. النحل: ٢٨.

٣. السجدة: ١١.

٤. النساء: ٨١.

٥. الزخرف: ٨٠.

٦. التوبة: ١١٦.

٧. النجم: ٤٤.

٨. الواقعة: ٦٠.

١٧٦

إلى غير ذلك من الآيات التي تعد الإماتة والإحياء فعلاً لله سبحانه، وفي الوقت نفسه تعدّهما فعلاً لغيره، ويقول:( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ) .(١)

نعم تجعل بعض الآيات زمام الموت والحياة بيد الملائكة الموكّلين، وما هذا إلّا لأنّ عملهم عمله سبحانه.

نعم الذي لا يمكن أن ينكر أنّ الذكر الحكيم يركّز على أنّ ما في الكون أثر فعله سبحانه تكريساً للتوحيد في الربوبية.

















__________________

١. الأنعام: ٦١.

١٧٧





الفصل الثالث عشر :

القبر وعالم البرزخ

إذا كانت حالة الاحتضار نهاية النشأة الأُولى وبداية النشأة الثانية، فالتكفين والصلاة على الميت والتدفين في القبر، هو المنزل الثاني من النشأة الثانية، وهو منزل ضيق للغاية، ولعل الإنسان لا أُنس له بهذا النوع من المنازل، وتنقطع صلته عن الحياة الدنيويّة إذا وُري جثمانه الثرىٰ، وهذا أمر ملموس، يشير إليه قوله سبحانه:( ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ ) (١) .

ولكن في بطن هذا المنزل من تلك النشأة، عالم فسيح يحيا فيه الإنسان لا بهذا البدن المقبور، بل ببدن يناسب تلك النشأة، وهو البدن المثالي الذي له آثار المادة وإن تجرّد عنها، وهذا ما يعبر عنه بعالم البرزخ، وقد صرح به الذكر الحكيم، يقول تعالى:( وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) (٢) ، فقوله:( وَمِن وَرَائِهِم ) بمعنى أمامهم لا بمعنى خلفهم، بشهادة قوله سبحانه:( وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ) .(٣)

__________________

١. عبس: ٢١.

٢. المؤمنون: ١٠٠.

٣. الكهف: ٧٩.

١٧٨

والبرزخ بمعنى الحائل والفاصل، يقول تعالىٰ:( بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ ) (١) وإنّما أطلق على هذا النوع من الحياة لفظ البرزخ، لأجل الفصل بين الحياتين علىٰ وجه لا يمكن للإنسان أن يتجاوز الفاصل والحائل ويعود إلى الدنيا.

والآيات الدالة عليه كثيرة.

منها: ما دلّت على تجرّد النفس وبقائها بعد الموت، وقد مرّ ما يدل على ذلك.

ومنها: ما دلت على حياة الشهداء، وانّهم في ذلك العالم فرحين مستبشرين بنعم الله سبحانه.

ومنها: ما ورد في حقّ آل فرعون، وانّهم يعرضون على النار غدواً وعشياً، ويوم القيامة يدخلون النار، كما ورد نظيره في حقّ قوم نوحعليه‌السلام وقد مرّت هذه الآيات في فصل تجرد النفس فلاحظ.

وثمّة آيات أُخرى تدل على الحياة البرزخية لم نذكرها فيما سبق.

قال سبحانه:( قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ ) .(٢)

فالآية تحكي عن إماتتين وإحياءين، فالإماتة الأُولىٰ في النشأة الدنيا، والإماتة الثانية في عالم البرزخ عند نفخ الصور.

يقول سبحانه:( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إلّا مَن شَاءَ اللهُ ) .(٣) فالموت عند نفخ الصور يلازم وجود الحياة قبل النفخ، وليس هو إلّا الحياة البرزخية، وأمّا الإحياءان فالأوّل منهما عبارة عن الحياة

__________________

١. الرحمن: ٢٠.

٢. غافر: ١١.

٣. الزمر: ٦٨.

١٧٩

في عالم البرزخ، والثاني هو الإحياء بعد نفخ الصور. يقول سبحانه:( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ ) .(١)

ولأجل إعطاء صورة واضحة عن طبيعة الإماتتين والإحياءين، نقول :

الإماتة الأُولىٰ عند حلول أجله القطعي.

والإماتة الثانية عند نفخ الصور الأوّل.

والإحياء الأوّل بعد الموت وانتقاله إلى النشأة الأُخرى.

والإحياء الثاني عند نفخ الصور الثاني.

وبهذا يعلم وجود الحياة البرزخية بين النشأة الأُولى وقيام الساعة.

وقد ذكر لهاتين الإماتتين، وهذين الإحياءين، وجه آخر ولكن لا ينطبق على ظواهر الآيات.

الحياة البرزخية في الروايات

وقد وردت أحاديث كثيرة في كيفية وطبيعة ذلك العالم نقتصر علىٰ هذا الحديث.

روى أبو بصير، قال: سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن أرواح المؤمنين، فقال: « في حجرات في الجنة يأكلون من طعامها، ويشربون من شرابها، ويقولون ربّنا أقم لنا الساعة، وانجز لنا ما وعدتنا » وسألته عن أرواح المشركين، فقال: « في النار يعذبون ويقولون ربّنا لا تقم لنا الساعة ولا تنجز لنا ما وعدتنا ».(٢)

__________________

١. يس: ٥١.

٢. بحار الأنوار: ٦ / ٢٦٩، الحديث ١٢٢ و ١٢٦ وما ذكرناه حديث واحد وإن جعله العلّامة المجلسي
حديثين.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

واكبر خدمة قدمها المسلمون في الرياضيات ، هو اكتشاف ( Sin = جيب ) وادلتها ، وان اول من اثبت قضاياها وادلتها هو الفيلسوف المسلم ابو نصر الفارابي.

ويعد نصير الدين الطوسي وهو من كبار فقهاء الشيعة ومن اشهر الفلاسفة والرياضيين ، اول من طرح المثلثات كعلم مستقل ، والمسلمون هم اول من اكتشف ال‍ ( Sin = جيب ) وابو ريحان البيروني هو العالم المسلم الذي تحدث عنه وشرح قضاياه.

أمّا « رغيومونتانوس » و « يوهاس مولر » فقد استطاعا تأليف كتبا في هذا المجال بعد دراسة مؤلفات نصير الدين الطوسي ، فكان ذلك اساس التكامل ومبنىٰ التقدم في الغرب »(١) .

________________

(١) نشرة « نور دانس » السنوية ، لسنة ١٩٢٦ ، ( بالفارسية ).

٣٠١

تقدم المسلمين في الهيئة والفلك

يقول الدكتور غوستاف لوبون :

« الهيئة من العلوم التي نشرها المسلمون منذ البداية في بغداد ، وقد بقيت مراكز التعليم العالي المهمة في علم الهيئة ببغداد من سنة ٧٥٠ م الىٰ ١٤٥٠ اي علىٰ مدىٰ ٧٠٠ سنة ، ومن هنا يمكن القول : المسلمون هم الذين نشروا الهيئة في جميع بلدان العالم »(١) .

ويقول جوزيف ماك كاب :

« كان المسلمون يستخدمون انابيب طويلة لرؤية النجوم ، وكانوا يعتقدون تماماً بكروية الارض ، كما انهم اكتشفوا زاويتي الخسوف والكسوف وقاسوهما ، وبعبارة اخرىٰ ، لقد اكتشف المسلمون كل ما يمكن اكتشافه قبل اختراع تلسكوب ، واستطاعوا صنع افضل واجمل ادوات ووسائل الرصد ، كما صنعوا كرات يبلغ قطر الواحدة منها ثمانية اذرع وان اسطرلاباتهم مشهورة في جميع انحاء اوروبا وكتبوا في هذا المجال من الكتب بحيث كان في مكتبة القاهرة لوحدها ستة آلاف كتاب في الهيئة والرياضيات فقط ، اضافة الىٰ كرتين فلكيتين كبيرتين »(٢) .

________________

(١) حضارة الاسلام والعرب.

(٢) المصدر نفسه.

٣٠٢

يقول السيد لالاند :

يعتر محمد بن جابر التباني ، العالم المسلم ومؤلف كتاب « علم النجوم » الذي ترجم الىٰ اللاتينية أيضاً ، والمعروف في الوسط الاوروبي ، واحداً من عشرين عالم هيئة مشهور في العالم كله »(١) .

ويذكر المؤرخ الفرنسي « سديلون » :

« أن بيضوية مدارات الكواكب ، وحركة الارض حول الشمس من المسائل التي اكتشفها علماء المسلمين قبل زمن « كبلر » و « كوبرنيك »(٢) ».

يقول البارون :

« لقد بلغ المسلمون في علم الفلك اعلىٰ مدارج العلم في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين ، ومن علماء المسلمين الذين اشتهروا في اوروبا ، الفلكي « الفرغاني » ويعدّ كتابه في الفلك من المؤلفات الاسلامية الثمنية التي بقيت متداولة في الغرب »(٣) .

ويذكر جورجي زيدان :

« اكتشف المسلمون اسلوباً جديداً في المراصد واخترعوا ادوات ووسائل عديدة فيها »(٤) .

________________

(١) عظمة المسلمين في اسبانيا.

(٢) العالم الاسلامي.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) تاريخ الحضارة الاسلامية.

٣٠٣

تقدم المسلمين في الجغرافيا

يذكر الدكتور غوستاف لوبون :

« لقد كان المسلمون شجعان علىٰ الدوام في قيادة السفن والابحار ، ولم يكونوا يخافون طول المسافات وبعدها ، فكانت لهم في اوائل الحكومة الاسلامية علاقات تجارية واسعة مع دول بعيدة مثل الصين وبعض انحاء روسيا ، ومناطق من افريقيا لم تكن معروفة من قبل بالنسبة للاوروبيين ».

بعد ذلك يذكر الدكتور لوبون قصص عديدة عن الاسفار التي قام بها المسلمون عن طريق البحر ، منها ما ينقله عن احد التجار العرب والذي يدعىٰ « سليمان » ، فيقول :

« لقد نشر سليمان مذكرات سفره ، وان هذا الكتاب هو اول كتاب يصدر في اوروبا ويتحدث عن الصين ، وترجم هذا الكتاب الىٰ الفرنسية أيضاً في بدايات هذا القرن ».

وبعد ، يضيف الدكتور لوبون :

ابن حوقل ، أحد كبار علماء المسلمين الجغرافيين ، يقول في كتابه : « لقد شرحت في هذا الكتاب كل شيء ، وبينت فيه جميع الدول وحدود البلاد الاسلامية ، والحقت به خارطة لكل بلد تبيّن مختلف مناطقه ، من مدن وقصبات وشطوط وانهار وبحار ومحاصيل زراعية ، والطرق ومسافة ذلك البلد

٣٠٤

عن البلدان التي تجاوره واهم بضائعه التي يستوردها او يصدرها ، وكل ما يحبّذه السلاطين والامراء أو سائر الاشخاص من اُمور في علم الجغرافيا ، فجميع ذلك اوردته في هذا الكتاب ».

ثم يذكر الدكتور لوبون اسماء مجموعة من علماء المسلمين الذين عملوا في مجال الجغرافيا ، منهم ابو ريحان البيروني ، وابن بطوطة وابو الحسن ، ويضيف :

« وقد تقدّم المسلمون كثيراً في الجغرافيا وسبب ذلك يعود الىٰ امرين ، الاول ، الاسفار التي قاموا بها وجولاتهم السياحية ، والثاني المعلومات التي كانو يملكونها عن علم الهيئة »(١) .

ويقول السويسري ، جورج ريفار :

« اقدم كتاب جغرافي للمسلمين ، هو كتاب « انهار البصرة » الذي صدر سنة ٧٤٠ م وهو موجود حالياً في مكتبة باريس الحكومية ، وبعد ذلك كتاب « الاستخري وسليمان » وكاتبه احد التجار المسلمين الذين سافروا الى الهند والصين ويعود تاريخ تأليفه الىٰ قرن التاسع الميلادي ، وقد ترجم سنة ١٨٥٤ م الىٰ الفرنسية في مجلّدين على يد السيد رينو ونشر في اوروبا »(٢) .

ويضيف ريفار قائلاً :

« للأعمال التي قام بها العلماء المسلمون تأثير في اكتشاف امريكا ،

________________

(١) حضارة الاسلام والعرب.

(٢) صورة الاسلام.

٣٠٥

وهناك رسالة من كريستوف كولومبس ، يعود تاريخها الىٰ تشرين الاول ( اكتوبر ) ١٤٩٨ م يذكر فيها اسم « أبو الفوارس » احد الجغرافيين المسلمين ، من جملة الكتّاب الذين توقعوا وجود عالم جديد ( اي ؛ الامريكيتان واستراليا ) »(١) .

ويقول الدكتور ب فودوارد :

« لقد تحدّث أبو علي سينا عن طبقات الارض وتكوّنها كدليل علىٰ انجماد الارض في عصور متمادية »(٢) .

________________

(١) المصدر نفسه.

(٢) عظمة المسلمين في اسبانيا.

٣٠٦

تقدم المسلمين في الصناعات الجميلة

يقول الدكتور غوستاف لوبون :

« من خلال مشاهدة عامة للمساجد والمراكز العلمية ودور استراحة المسافرين يتضح ان التدين والتحضر قد امتزجا في الاسلام بحيث لا يمكن فصل احدهما عن الآخر.

ويمكن معرفة قريحة أي شعب ما وأية اُمّة من خلال الاقتباسات التي تقوم بها ، والتغيرات السريعة ، التي تقوم بها في تلك المقتبسات حسب متطلباتها ، فتجعلها علىٰ صبغتها وتضفي عليها طابعها ، فتكون قد ابتكرت شيئاً جديداً ، وعلىٰ ضوء الادلة التي نمتلكها فليس هناك اُمّة استطاعت ان تفوق المسلمين في هذا الأمر وتتقدّم عليهم ، فمن خلال مشاهدة ابنيتهم وعماراتهم يمكن معرفة قوة ابداعهم واختراعهم وافضل مثال علىٰ ذلك ، مسجد قرطبة في الاندلس ، الذي استفيد في بنائه من معماريين محليين ، لكنهم في نفس الوقت امروهم بادخال طراز جديد وبديع ، منها ما شاهده المسلمون من قصر اعمدة المعابد القديمة في قرطبة بحيث ان البناء الذي يأتي عليها ، يكون غير مناسب لها من حيث الحجم ، لذلك أمروا المعماريين أن يصنعوا عمودين ( لزيادة الارتفاع ) ومن ثم تغطية مفاصل هذه الاعمدة بنقوش ومواد زينة ، لكي يراها

٣٠٧

المشاهد واحدة »(١) .

ثمّ يذكر الدكتور لوبون امثلة عديدة علىٰ جمال اعمال المسلمين في العمارات والابنية التي شيدوها في اوروبا.

________________

(١) حضارة الاسلام والعرب.

٣٠٨

تقدم المسلمين في مجال الفنون(١)

يقول الدكتور غوستاف لوبون :

« كان عمل المسلمين في ميدان الفنون مصحوباً بأبحاث علمية ، ومن خلال تلك المعلومات العلمية نشاهد تلك الابداعات في نتاجاتهم الفنية ، ورغم عدم وصول شيء من كتب العرب ومصنفاتهم في الفنون والمهن الينا ، لكن نتاجات تلك العلوم التي دونوها موجودة ، لقد شاهدنا مهاراتهم في استخراج معادن ، مثل : الذهب والحديد والنحاس والكبريت والزئبق ، وكذلك في صناعة الاصباغ ، ومن سيوف طليطلة يتّضح المستوىٰ الذي بلغه المسلمون في هذا المجال.

أمّا منسوجاتهم واسلحتهم وجلودهم وورقهم فهي من المنتوجات المشهورة في العالم ، وفي العديد من الامور لم يستطع الاوروبيون التفوق عليهم ».

كما ان أوّل مدفعية استخدمت في العالم ، كانت علىٰ يد المسلمين.

وخدمات المسلمين لا تنحصر بتطويرهم للعلوم من خلال البحث والاكتشاف ، وضخ روح خاصة فيه ، بل تشمل ايضاً امراً هاماً جداً ، وهو

________________

(١) المقصود بالفنانين ، هم اصحاب المشاغل والحرف الدقيقة والظريفة ، وليس ما يسمونه بالفنانين وهم الراقصون والراقصات و ...!!

٣٠٩

تدوين وتأليف الكثير من الكتب وتأسيس مدارس عالية لنشره في جميع ارجاء العالم ، وبهذا الشكل احسنوا الىٰ العلوم الاوروبية الىٰ حدّ لا يمكن تصوره »(١) .

________________

(١) حضارة الاسلام والعرب.

٣١٠

تقدم المسلمين في صناعات الاخشاب والعاج

يقول الدكتور غوستاف لوبون :

« ومن الصناعات التي طورها المسلمون هي ترصيع الخشب او العاج والصدف ، وقد تركوا لنا آثار عديدة من ابواب جميلة في المساجد القديمة ، والمنابر المرصعة بالاحجار الكريمة ، والسقوف المزينة بالمرايا والكاشي والشبابيك المصنوعة علىٰ شكل زخارف واشكال هندسية متنوعة ، حيث لا يمكن صنع مثيلات لها اليوم الّا بصرف مبالغ طائلة ».

وكان المسلمون ماهرين في الحك علىٰ العاج ايضاً ، والشاهد علىٰ ذلك منضدة كنيسة القديس ايزديلون(١) والصندوق الصغير الذي صنعوه في القرن الحادي عشر لملك اشبيلية ، وكذلك محفظة عاجية تعود لكنيسة بايفا(٢) صنعت في القرن الثاني عشر والظاهر ان الاوروبيين جاؤا بها من مصر في زمن الحروب الصليبية ، والمحفظة المذكورة مطلية ومنقوش عليها بالفضة والذهب وعليها صور لانواع الطيور خاصة الطاووس ، ويلاحظ في صناعات المسلمين في الاخشاب والعاج والاحجار الكريمة امراً غريباً ، وهو انهم يستخدمون ادوات خشنة وقاسية في اعمال ظريفة ودقيقة ، وهذا دليل على فطنتهم وذوقهم الفني ، ومع ان ادوات الزينة والمرصعات الموجودة حالياً في القاهرة

________________

(١) Saint Isedeleon

(٢) Baeva

٣١١

أو دمشق لا يمكن مقارنتها بما كان في عصر الخلفاء المسلمين ، لكنه يمكننا القول انه لا يوجد في اوروبا اليوم مَن يستطيع عمل شيء من أباريق أو أساور أو تخوت مرصعة ومنقوشة ومزينة ، بأدوات قديمة لا تزال تستخدم في بلدان الشرق »(١) .

________________

(١) حضارة الاسلام والعرب.

٣١٢

تقدم المسلمين في صناعة الكاشي

يقول الدكتور غوستاف لوبون :

« لقد تقدم المسلمون في صناعة الكاشي ـ مثل العمران ـ خطوات كبيرة ، والصناعة التي تعلمونها من اقوام اخرىٰ طوروها بشكل لم يستطع احد مجاراتهم فيها ، وفي بدايات القرن العاشر الميلادي شرع المسلمون باستعمال الكاشي مزّين والمرصّع بمادة المينا وقد احدثوا لهذا الامر مصانعاً كانت تصدر منتوجاتها الىٰ جميع انحاء العالم ، فالكاشي المزين بالمينا والمصنوع في القرن الثالث عشر استخدم بشكل ليس له مثيل في قصر الحمراء ، وكان ذلك الكاشي برّاقاً مثل الكاشي الذي صنع فيما بعد في ايطاليا وعرف باسم « مجالكا » ولفظة مجالكا مشتقة من ميورقة(١) وهي اسم واحدة من اكبر مصانع الكاشي التي شيّدها المسلمون ، وهذا دليل علىٰ ان الايطاليين اخذوا هذا الفن من المسلمين.

ومن أعظم آثار المسلمين في فن الكاشي أو السيراميك ، سندانة الورد المعروفة في قصر الحمراء ، ويبلغ ارتفاع هذه السندانة متر ونصف المتر ، ولونها أبيض يميل الىٰ الصفار نقشت عليها شجيرات ورد زرقاء ، بالاضافة الىٰ نقوش اُخرىٰ وصوراً لحيوانات غريبة ، منها واحدة تشبه الغزال ، وهي قمة في الابداع مثل سائر ابداعات المسلمين »(٢) .

________________

(١) جزيرة في الجانب الشرقي.

(٢) حضارة الاسلام والعرب.

٣١٣

اختراع المسلمين للورق القطني

يقول الدكتور غوستاف لوبون :

«كانت كتابات الاوروبيين الىٰ فترة من القرون الوسطىٰ تتم علىٰ الجلود ، وكانت قيمته الباهضة تحول دون انتشار الكتب واشاعتها ، بالاضافة الىٰ انها وبعد فترة اصبحت نادرة ويصعب الحصول عليها ، فقام جماعة من الرهبان الروم واليونان بجمع التصانيف القديمة والضخمة جداً ، فكانوا يحكون احرفها وكلماتها ويكتبون عليها من جديد مسائلهم الدينية ، ولو لم يخترع المسلمون الورق لأتىٰ الرهبان علىٰ جميع تلك الكتب القديمة التي كانت في حوزتهم ، واختراع المسلمين هذا قدم خدمة جليلة لعالم العلم ».

لقد وجد كاسيري(١) كتاباً من الورق في مكتبة ايسكيريال(٢) كتب في سنة ١٠٠٩ ويُعد من أقدم النسخ الخطية في مكتبات اوروبا ، ويتّضح من ذلك ان المسلمين استخدموا الورق بدل الجلود قبل الآخرين.

وفي مقابل القائلين بأن الصينيين هم الذين اخترعوا الورق الحريري ، وبعد اعترافه بذلك ، يقول :

« لم يكن الورق المصنوع من الحرير ذا فائدة لاوروبا آنذاك ، لأنه لم

________________

(١) Casierie

(٢) Eskerial

٣١٤

يكن هناك حرير في اوروبا ، بل كان هناك قطن ، والمسلمون هم الذين اخترعوا الورق المصنوع من القطن ، وبهذا تكون اوروبا مدينة لهم في علمها ، كما يتّضح من كتب المسلمين القديمة ، انهم طوّروا هذا الفن حتىٰ اعلىٰ درجاته ، فلم يصنع احد افضل من الورق الذي صنعوه ، ويشهد لهم التاريخ بأنهم صنعوا الورق حتىٰ من الملابس البالية علىٰ الرغم من صعوبة ذلك ، والاعمال العديدة التي يتطلبها والتي لم يكن يقوىٰ علىٰ مثلها إلّا المسلمون »(١) .

________________

(١) حضارة الاسلام والعرب.

٣١٥

تقدم المسلمين في علم الميكانيك

يذكر الدكتور غوستاف لوبون :

«كانت معلومات المسلمين في مجال رفع الاثقال متطورة جداً ، ومن خلال بعض الادوات التي وصلتنا والكتب القديمة التي دوّنوها تتّضح قوّة اُسس التطوّر الصناعي الذي كان للمسلمين ».

ويقول الدكتور برنارد(١) استاذ جامعة اكسفور(٢) : « ان استخدم الرقّاص في الساعة هو من اختراعات المسلمين »(٣) .

يقول درابر استاذ جامعة نيويورك : «كان المسلمون مطّلعين في علوم الميكانيك ، وقد وضعوا قوانيناً لحركة الاجسام ، وكانوا ملمّين بجميع خصوصيات الميكانيك ( علم الحركات ) »(٤) .

________________

(١) Bernard

(٢) Oxford

(٣) حضارة الاسلام والعرب.

(٤) موسوعة فريد وجدي ، حرف العين.

٣١٦

تقدم المسلمين في صناعة الزجاج

يقول الدكتور غوستاف لوبون :

« تنسب صناعة الزجاج الىٰ الفينيقين ، وبعد ذلك تعلمتها جميع الشعوب الآسيوية ، وقامت كل واحدة منهم بتطويرها ، خاصة المسلمون الايرانيون ، والمصريون ، حيث بلغوا مدارج رفيعة في هذا الفن ، وقد تم الكشف عن أواني زجاجية في نينوى ( شمال غرب العراق حالياً ) يعود تاريخها الىٰ القرن السابع أو الثامن الميلادي.

وفي عصر الرومان قَدِمَ الكثير من صنّاع الزجاج في الاسكندرية الىٰ روما ، فكانوا يصنعون كؤوساً مزينة بـ ( المينا ) جميلة جداً ، ولكن لا بد ان نعلم ، ان هذه الصناعة القديمة بلغت ذروتها علىٰ يد المسلمين الذين اشتهروا بهذا الفن ، والنماذج التي بقيت من اعمال المسلمين دليل علىٰ مستوىٰ المهارة التي بلغوها في صناعة الزجاج ، وقد ترك المسلمون في هذا الميدان آثاراً خالدة ، منها ابريق من الكريستال موجود حالياً في متحف باريس.

ويرىٰ أكثر المؤرّخون ان اهالي البندقية الذين كانت لهم علاقات جيدة بالمسلمين تعلموا هذه الصناعة منهم ، ولهذا السبب حصلت أدوات مورانو(١) الكريستالية علىٰ شهرة واسعة(٢) .

________________

(١) Murano

(٢) حضارة الاسلام والعرب.

٣١٧

استعمال المسلمين للبوصلة في البحر

يذكر الدكتور غوستاف لوبون :

« يتّفق الجميع علىٰ ان الصينيين هم الذين اخترعوا البوصلة ، لكنه ليس من الواضح انهم استخدموها أيضاً في رحلاتهم البحرية ، لانهم لم يكونوا ماهرين في المواصلات البحرية وماكانوا يبتعدون عن سواحلهم كثيراً.

في حين ان للمسلمين باع طويل في المواصلات البحرية ، وكانت لهم علاقات تجارية مع الصين منذ ذلك الوقت ، في حين ان اوروبا كانت آنذاك لا تعلم بوجود بلاد الصين اساساً. ومما لا شك فيه ان الاوروبيين اطلعوا علىٰ البوصلة من خلال المسلمين ، فلم يكن الاوروبيون يعرفون استخدامها لفترة طويلة ، وبالتحديد حتى بدايات القرن الثالث عشر الميلادي ، في حين أن المؤرخ الاسلامي « الادريسي » يذكر في اواسط القرن الثاني عشر ان استخدام البوصلة شائع بين المسلمين(١) ».

________________

(١) المصدر نفسه.

٣١٨

تقدم المسلمين في مجال التعليم

يقول بنيامين تودل :

« في الاسكندرية وحدها شاهدت عشرون مركزاً تعليماً ، بالاضافة الىٰ مراكز التعليم العامة في بغداد والقاهرة وطليطلة وقرطبة وغيرها من المدن الاسلامية.

أمّا الجامعات التي أسسها المسلمون فكانت فيها مختبرات(١) ومراصد ومكتبات كبيرة وسائر ادوات ووسائل البحث ».

ويذكر الدكتور غوستاف لوبون :

«كان في مكتبة الحاكم الثاني في قرطبة ( عاصمة المسلمين في اوروبا ) ، ستمائة الف كتاب ، منها اربع واربعين مجلداً خاصاً بفهرس المكتبة ».

ثمّ يضيف الدكتور لوبون نقلاً عن أحد كبار علماء اوروبا ، انه قال :

« بعد اربعمائة عام ، وعندما اسس شارل الحكيم(٢) مكتبة باريس الحكومية ، لم يتسطع جمع اكثر من تسعمائة كتاب ، ثلثها من الكتب الدينية ، وذلك رغم الجهود الكبيرة التي بذلها.

________________

ـ Bineamin de Tudele

(١) Laborotoire

(٢) Charles Lesage

٣١٩

ملخّص القول ، أنّ تقدّم المسلمين في مجال التعلم بلغ مستوىٰ جعل العالم يمد اليهم يد السؤال علىٰ مدىٰ تسعة قرون.

ويقول البحار المعروف ومكتشف القارة الامريكية ، كريستوف كولومبس :

« لقد نجحت في اكتشاف جزيرة امريكا عن طريق الهند ، في حين انني وجدت الطريق الىٰ الهند من خلال ماكتبه العالم المسلم ابن رشد الاندلسي ».

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466