رحلتي من الظلمات إلى النّور

رحلتي من الظلمات إلى النّور25%

رحلتي من الظلمات إلى النّور مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 466

رحلتي من الظلمات إلى النّور
  • البداية
  • السابق
  • 466 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 240735 / تحميل: 8306
الحجم الحجم الحجم
رحلتي من الظلمات إلى النّور

رحلتي من الظلمات إلى النّور

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

كلام مفكر والعالم حول الاسلام

الدكتور لورافاكسيا فاغليري(١) استاد جامعة نابل ، يقول :

( ما هو سبب تقدّم الاسلام وانتشاره في آسيا وافريقيا مع وجود الحرية التي تعطى لغير المسلمين في البلدان الاسلامية ومع عدم وجود اي منظمة اعلامية اسلامية حقيقية.

فاليوم لا يمكن القول ان السيف يمهد الطريق لنشر الاسلام ، بل العكس ، ففي المناطق التي كانت يوماً تحكمها دولاً اسلامية نجد اليوم دول حديثة من سائر الاديان لها منظماتها الاعلامية القوية التي تنشط بين المسلمين ، لكنها مع ذلك لم تستطع فصل الاسلام عن حياة الناس.

فما هي القوة الاعجازية الموجودة في هذا الدين ، ما هي القوة الذاتية في الاقناع الممزوجة مع هذا الدين ، واي جزء من الروح والحقيقة البشرية تتفاعل مع ذلك النداء ، وتستجيب له ).

اصدقائي !

اتعلمون سبب تقدم الاسلام في العالم وانتشاره بسرعة رغم وجود عوامل سقوط الاسلام والحدّ من نموه والذي جعل شخصاً مثل الدكتور

________________

(١) Dr. LauravaccieaVaglieri

٦١

فاغليري يعجب من ذلك !

بأعتقادي ان أهم أسباب ذلك هو كون القوانين والاحكام الاسلامية فطرية ، أي لأنّ الاسلام دين الفطرة وقوانينه جزء من ناموس العالم لذلك فكل فطرة نقية تدرك تلك القوانين ستجد في نفسها وبشكل طبيعي ميلاً نحو تلك القوانين ، وكذلك بسبب ان قوانين الاسلام المقدّسة طبيعية فهي باقية ولا تبالي بمرور الأيّام.

اعترافات السيد ويلز(١)

السيد ويلز ، كاتب بريطاني كبير ، يقول :

« الديانة الصحيحة التي وجدتها ملازمة ومجارية للحضارة هي الاسلام فقط ، وإذا اراد شخص ان يتعرّف علىٰ الاسلام ، عليه ان يقرأ القرآن ونظرياته العلمية وقوانينه وأنظمته الاجتماعية.

والقرآن كتاب ديني واجتماعي وعلمي وتهذيبي واخلاقي وتاريخي ، واكثر انظمته واحكامه تستخدم الىٰ يومنا هذا وستبقىٰ حتىٰ نهاية العالم.

وإذا سألني أحد عن حدود الاسلام ، سأجيبه : الاسلام يعني المدينة والحضارة ، فهل هناك من يستطيع القول ان الاسلام ، كان مخالفاً للمدينة والحضارة في دورة من أدوار التاريخ ، ولم يكن السباق الىٰ ذلك ، خلاصة الكلام هي ان القرآن طري وحي وجديد وجذاب في كل عصر

________________

(١) Mr. Wills

٦٢

وزمان»(١) .

أجل ، قوانين الاسلام هي القوانين السماوية الوحيدة التي توجّه وتقود الحياة الانسانية في جميع أدوار وهي دائماً جديدة وندية ، مع انه وبسبب الظلمة وشدة الجهل التي سبقت ظهوره فأن أوائل المؤمنين به اعتنقوه واستسلموا له من زاوية العقيدة والايمان ، في حين ان قيمة الاسلام العلمية بقيت مجهولة.

لكن كلّما تقدّم العلم في العالم وتنورت افكار البشرية أكثر ، ظهرت عظمة الاسلام ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله أكثر وأكثر ، للحدّ الذي لم يقتصر احترام الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله علىٰ ستمائة مليون مسلم في العالم فقط ، بل ان زعيم المسلمين العظيم وقائدهم ( الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ) يعتبر أكمل انسان في تاريخ البشرية بنظر أكبر العلماء المعاصرين ، وقد اعطوه أرفع وأسمىٰ الالقاب العلمية.

________________

(١) أما السبب في طراوة القرآن دائماً وعدم الملل منه وانه كلما قرأه الانسان وجده جديداً ندّياً ، فقد روي عن الامام محمد الباقرعليه‌السلام ، انه قال : لأن القرآن لم ينزل لقوم أو زمن معين ، وانما لجميع الناس وعلىٰ مدىٰ الزمان.

٦٣

نفوذ رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله في الماضي والحاضر(١)

اصدقائي الاعزاء !

الموضوع الذي ذكرته ، اي عظمة رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله عند المسلمين وغير المسلمين ، يستحق الالتفات والدقة ، فهل فكرتم في سبب نفوذ ومحبوبية رسول الاسلام العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله بين الناس ، خاصة المسلمين منهم ؟!

ألا يدل هذا النفوذ العميق والمتأصّل الذي يأتي من ايمان الناس المنطقي ، بحقّانية هذا الرجل العظيم ؟!

ذلك النفوذ الذي لا يقارن بقوة سلطة اخرىٰ ! في عصره ، بل وفي عالم

________________

(١) لا نهدف من هذا البحث ، الاستدلال علىٰ نبوة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله من خلال نفوذه ( رغم عمقه ورسوخه ) ، لكي يسيء استخدامه جماعة من اغنام الله ! الذين سمّوا عقائدهم المزيفة ، مذهباً ، في حين انهم صنيعي الاستعمار ، مع عدم وجود مثل تلك الفرصة لسوء الفائدة بالنسبة لهم ، لأن قائدهم وزعيمهم الوليد غير الشرعي للمستعمر ، وليس له ذلك النفوذ بين اتباعه علىٰ اساس من الطهارة والايمان ، لكي يستطيعوا الاستناد الىٰ هذا الموضوع ( حتىٰ لو كان خطأً ) ، فنفوذ الصنم في الجاهليةً ، والبقرة بين اتباعها في الهند ، اكبر واعمق من نفوذ ذلك الرجل بين أغنام الله في الوقت الحاضر ، وعدد اضاحي الاصنام والبقر ، اكثر بكثير من الاضاحي التي تقدم الىٰ ذلك الرجل ، أجل ، نحن وبعد ان ادركنا نبوة النبي محمد وانه مرسل من قبل السماء علىٰ اساس حكم العقل والمنطق ، نعدّ نفوذه عل اساس الايمان والعقيدة المقدّسة فقط ، مؤيداً لنبوته ، وليس كل من كان له نفوذ ، حاز علىٰ مقام النبوة !

٦٤

اليوم ايضاً هناك ملايين المسلمين في العالم مستعدون لبذل الغالي والنفيس في سبيله.

فهل سحر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله هذه القلوب بالاموال ؟!

وهل للقوىٰ المادية دخل في هذا الامر ؟! بالتأكيد لا ؛ لأنه لا يمكن تسخير قلوب الناس بالمال إلى هذا الحدّ.

( لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ) (١) .

الدكتور : لقد كانت لي ابحاث في هذا الموضوع ، ما ادهشتني هو ليس احترام وخضوع عالم اليوم امام عظمة رسول الاسلام ، بل تسخيره لقلوب أهل الجزيرة في ذلك الزمن ، لانني بحثت كثيراً حول تعصب العرب وتمسكهم بما جرىٰ عليه آباءهم ، ووصلت الىٰ هذه النتيجة ، وهي أنَّ العرب لا يقبلون ترك ما كان آباءهم بأي ثمن كان ، وان يغيروا حياتهم القبلية ، فما الذي دعاهم لأن يطيعوا ذلك الرجل الذي أعلن الحرب علىٰ آلهتهم وعارض اساليبهم الوحشية بصراحة ، ومنعهم من العمل بأهواءهم وشهواتهم وجعلهم يتركون الزنا والقمار والخمر والسرقة والاعتداء علىٰ أموال واعراض الآخرين ، تلك الأعمال التي كانت جزءاً من ممارساتهم اليومية ، فأخرجهم بذلك من التوحش الىٰ الفضيلة وكما الانسانية ، وكيف اصبح اولئك الناس المتردين اوفياء للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بحيث لم يبخلوا بكل ما لديهم ، بل وبأرواحهم من اجل اهدافه السامية !

________________

(١) سورة الأنفال : ٦٣.

٦٥

فمثل هذا التأثير في القلوب ، لا يكون الّا بقوة روحية والهية ، واتصور ان هذا النفوذ والتأثير هو دليل واضح وبيّن علىٰ حقّانية رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وان هذا الرجل الفذ ، مرسل من قبل السماء ، وانه رجل الهي.

الشيخ : من سعادتي ان اقبل رجل مطلع مثلك.

الدكتور : شكراً لهذا الاطراء.

الشيخ : اصدقائي ! الموضوع الذي تطرق له الدكتور يستحق الاهتمام ، لأنه وعلىٰ مرّ التاريخ ، كانت بعض المناطق التي تعد اليوم جزءاً من البلاد العربية مناطق عامرة كثيرة الدخل ، مثل : اليمن والشام ، وكانت معرّضة علىٰ الدوام الىٰ غزو الدول القوية المجاورة مثل الامبراطورية الفارسية والامبراطورية الرومانية ، فكانت جيوشهم تتّجه نحو تلك المناطق كالسيل العارم ، فيقتلون الرجال والشباب والاطفال ويأسرون النساء ، لكنهم لم يستطيعوا ان يوجدوا اقل تغير في برنامج ومسيرة حياتهم.

ينقل العالم الفرنسي المعروف ، الدكتور غوستاف لوبون(١) قصة تحكي تعصب العرب وصلابتهم وفضاضتهم ، يقول لوبون :

« عندما دخل ديموطريس(٢) البتراء(٣) ، قال له العرب : « أيُّها الملك ديموطريس ! لماذا تحاربنا ، فنحن نعيش في صحراء خالية من كل نعم الحياة

________________

(١) Dr. Gustave.Le.Bon

(٢) Demetrius ، اسماء ثلاثة من الملوك السلوكيين ، والسلوكيون اسم سلسلة من أمراء آسياء الغربية ، وقد حكموا اجزاءً من آسيا الصغرىٰ وايران علىٰ مدىٰ قرنين ونصف القرن بعد الاسكندر الكبير.

(٣) Petra اسم لمكان تجاري قديم في الجزء الجنوبي من الجزيرة العربية.

٦٦

التي يتملكها اهل المدن والقصبات ، لقد اخترنا السكن هنا ، لاننا لا نريد أن نكون عبيداً لأحد ، فاقبل هدايانا وخذ جيشك من هنا ، واعلم ان النبط ( اسم القبيلة التي ينتسبون اليها ) سيكونون اصدقاءك ، أمّا اذا اردت الاستمرار في الحصار ، فلن يستمر طويلاً حتىٰ تنالك آلاف المشاكل والمصائب ، ولن تستطيع ابداً ان تغير ما درجنا عليه منذ صغرنا ، وحتىٰ لو أخذت منا رجالاً اسرىٰ ، فسيكونون عبيداً متمردين وعاصين ، لا يستطيعون تغيير عاداتهم واختيار اخرىٰ مكانها »(١)

أيُّها السادة !

تلاحظون في هذه القصة التاريخية ، كيف تقف قبيلة صغيرة امام رجل جبار مثل ديموطريس الذي جاء لحربهم مع آلاف الجنود المدججين بالسلاح ، وتخاطبه بقوة وصلابة وصراحة تامة : حتىٰ لو تسلطت علينا فلن تستطيع اجبارنا علىٰ تغيير ما نشأنا عليه منذ الصغر واختيار اسلوب في الحياة غيره.

والحقيقة هي ان ديموطريس لم يكن باستطاعته عمل ذلك ، لأنه كان بمعنىٰ قتل كل افراد القبيلة وكما لم يستطع الغزات الذين سبقوه ذلك.

أمّا رسول الاسلام العظيم ، فقد استطاع تسخير قلوب تلك القبائل وجعلها قاعدة لرسالته ومنطلقاً لتبليغ دعوته الىٰ العالم ، وهو وحيداً في اكثر

________________

(١) حضارة الاسلام والعرب.

٦٧

فترات الرسالة الّا من دعم الله ونصرته ، فكانوا يستجيبون حباً له واكراماً لشخصه.

اعتراف ابو سفيان :

ينقل لنا التاريخ ، عند فتح مكة وبعد ان جاء العباس عمّ الرسول بأبي سفيان الىٰ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، امر ان يبقىٰ ابوسفيان في خيمة العباس تلك الليلة ، حتىٰ طلع الصبح فقام بلال ، مؤذن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأخذ يؤذن بصوته الجهور : الله اكبر ، الله اكبر كان صوت الاذان غريباً علىٰ مسامع أبو سفيان ، للحد الذي خاف وارتعد منه ، علىٰ الرغم من كونه زعيم مكة وقائد المشركين فيها. فسأل العباس خائفاً : ما هذا الصوت ؟!

قال له العباس : هذا صوت الاذان ، الاعلان الاسلامي العام للأجتماع من اجل الصلاة ، انهض يا ابا سفيان ! توضأ واستعد للصلاة.

أمّا ابو سفيان الذي كان حتىٰ الامس يعبد الاصنام ويعادي الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ويجمع القبائل لقتاله ، أبو سفيان هذا وجد نفسه محاصراً بين جيش الاسلام ، فاضطر للنهوض من فراشه والتوضأ كما علّمه العباس ، ثم خرجا من الخيمة معاً.

وفجأة شاهد ابوسفيان مشهداً غريباً ، او شك ان يفقد صوابه !

فما الذي رآه أبو سفيان ؟

لقد رأىٰ ابو سفيان عشرة آلاف مقاتل يتأهبون بنداء من رجل اسود ، هو

٦٨

بلال مؤذن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله للصلاة خلف قائدهم المحبوب ، بعد ان نهضوا من النوم وتوضأوا ، وجميعهم مشدودة اعينهم الىٰ باب الخيمة كالعشاق الذي ينتظر لقاء معشوقته ، الجميع ينتظر اشراقة شمس قائدهم العظيم من افق الخيمة ، فهم ينظرون الىٰ الخيمة وكأن ارواحهم فيها.

أبو سفيان الذي شاهد ذلك ، يقول في نفسه : عجباً ! هذا النفوذ والسطوة جميعها لرجل كان بالامس مجرد محمد الامين ! أليس هو ذلك الرجل الذي ترك وطنه ليلاً خوفاً من تعرضنا له وقرارنا بحقّه ، وهاجر من مكة الىٰ المدينة ؟! فكيف صارت له هذه السيطرة وهذه القوة ؟!

كان أبو سفيان غارقاً في افكاره ، وفجأة خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من خيمته وشفتاه تلهجان بذكر الله ، فنظر الىٰ اصحابه بوجه ضحوك ملئه السرور ، والمسلمون ايضاً كانوا ينظرون اليه بفرحه ، لكن في تبادل النظرات تلك ، كانت هناك اسرار كثيرة لا يفهما الغير.

وفيما كان الرسول يحمل وعاءً من الماء لتجديد وضوءه وهو خارج من الخيمة ، هنا كانت شدة تعجب وحيرة ابوسفيان ، لقد كان يرىٰ مشهداً غريباً جداً وكانت عيناه وكأنما تريدان الخروج من حدقتيهما ، كان ابو سفيان يرى مشهداً لم يره عند أيٍّ من ملوك واباطرة العالم.

رأى أبو سفيان هجوم المسلمين على الرسول وهو يتوضأ ، لكن لماذا ؟ وما الذي حصل ؟! كان المسلمون يتسابقون علىٰ قطرات الماء التي تقطر من وجه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يتوضأ ، فلم يكونوا يتركوا قطرة تصل الىٰ الارض فقط ، وانّما كان الذي يحصل منهم على قطرة من الماء الذي يتوضأ به الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله

٦٩

كأنما حصل على اثمن جوهرة علىٰ الارض ، ولهذا كانت حيرة ابو سفيان وشدة تعجبه.

لكن المسلمين الذين أرادوا ان يخرجوا أبا سفيان من تعجبه وحيرته ، قالوا له : لا تعجب يا أبا سفيان فهذا ماء توضأ به الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو اعزَّ علينا من ارواحنا.

اجل ، فهو النبي الذي نجّاهم من الشرك والضلالة واوصلهم الىٰ السعادة الحقيقية ، فقد تحرروا من السرقة والقمار والقتل والجريمة ووأد البنات.

أمّا أبو سفيان ، فلم يستطع كتمان ما كان يجول في خاطره من افكار كانت تعذبه ، فصاح : بالله لم أرَ كاليوم كسرىٰ ولا قيصر ، ما هذه القدرة ؟ ما هذا النفوذ ؟

نعم ، أبو سفيان محق في انه لم يرَ تلك القدرة في أيٍّ من بلاط الملوك والاباطرة ، لان قدرتهم سطحية تستند الىٰ حرابهم وظلمهم وتسلطهم علىٰ اجسام الناس. لكن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله احتل مكاناً لا تستطيع اي قوة احتلاله ، المكان الذي تعجز عن فتحه الحراب.

لقد احتل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله مكانة في قلوب الناس ، فهم يحبونه ، بل يعشقونه ويفتدونه بأرواحهم ، ومثل هذا النفوذ لا يتسير لأحد إلَّا بالنبوة او القوة الالهية.

وبعد ان صلَّىٰ المسلمون الصبح ، استعد جيش المسلمين للتحرك ، واتّجهوا نحو مكآة ، ومع ان اباسفيان كان زعيم المشركين وعلىٰ رأس معاندي الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله علىٰ مدىٰ واحد وعشرين سنة ولم يترك شيئاً لم يستعمله ضد الرسول ، من التهم والشتائم والحرب وتحريض الناس والقبائل على حرب

٧٠

المسلمين ، واجباره علىٰ الهجرة من مسقط رأسه ، وذرّ الرماد علىٰ رأسه الشريف ، ورميه بالحجارة ، لكنه اليوم ورغم ذاك الماضي السيء نجده في محاصرة قوة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وبين سيوف اصحابه ، فلو اشار الرسول اشارة صغيرة لقطّعه المسلمون إرباً إربا ، لكن مع كل ذلك فقد اعطاه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله الأمان وأمر بالمسلمين بعد ايذائه ، بل كرَّمه وقال : من دخل بيت ابو سفيان ـ في مكة ـ فهو آمن.

كان ابو سفيان مسروراً لما وجده من تسامح عند الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فأراد ان يركب الىٰ مكة. حتىٰ يخبر اهلها بتحرك جيش المسلمين ، إلَّا ان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله امر ان يقف ابو سفيان قبل ذهابه الىٰ مكة إلىٰ جانب العباس في محلّ مشرف لكي يشاهد جيش الاسلام وقوته الخارقة.

أخذ العباس عمَّ الرسول بيد ابو سفيان واوقفه في محلَّ مشرف علىٰ الجيش ، وبدأ جنود الاسلام بالتحرك فمرّت الكتيبة الاُولىٰ وهي تنادي الله اكبر ، ثم الكتيبة الثانية وهي تكبَّر ايضاً ، وهكذا مرَّت كتائب المسلمين من امام أبو سفيان ، وكلّما مرَّت كتيبة كان أبو سفيان يتصوّر انها الاخيرة ، إلّا انه كان يشاهد متعجباً كتيبة اخرى تتقدم ، فتعب ابو سفيان من طول وقوفه وازدحام الناس ، فقال للعباس : ألم يأت ابن اخيك بعد ؟

أجابه العباس : لو جاء ابن اخي ستعرفه انت دون أن اُشير اليك.

وهم على تلك الحالة من الكلام ، جاءت كتيبة اُخرىٰ من جنود الاسلام ، فقال العباس : والآن سيأتي ابن اخي وهو يتوسط جيشه.

كان ابو سفيان ينظر وكأنما ركَّز كل قواه في عينيه ، دقق النظر فإذا بما

٧١

يقرب خمسة آلاف من ابطال وصناديد المهاجرين والانصار والشباب المتحمّس الشجاع يحيطون بالرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو علىٰ ناقته في وسطهم يتحرك بوقار ليس له مثيل ، كانوا يدورون حوله دوران الفراشة حول الشمعة ، كان بعضهم يمتطي خيلاً وآخرون علىٰ جمال حمراء ، سيوفهم مشهورة ودروعهم مستعدة للدفاع ، مدججون بالسلاح حتىٰ لا يرى منهم إلّا الاعين ، وكانت اجسادهم ترىٰ خضراء من كثرة السلاح الذي يحملونه.

أمّا أبو سفيان فلم يستطع الصبر ثانية ، فألتفت الىٰ العباس وقال له : ملك ابن اخيك عظيم.

فقال له العباس : الويل لك ، انها النبوة وليست الملك.

اجل ، مثل هذا النفوذ والقوة لا يوجد إلّا عند الربّانيّون والذين اخلصوا لله ، ولا يمكن مشاهدتها في بلاط وحكومات القوىٰ المادية والحكام غير الربانيين ، مهما اتسع ملكهم.

الدكتور : اؤيد ما تقوله تماماً ، لقد ضمّ العالم والتاريخ الكثير من كبار الملوك والمخترعين والفضلاء والعلماء والفلاسفة ، ومع أن بعضهم احدث ضجة سطحية لفترة قصيرة ، لكنهم اندثروا واندثرت اسماءهم معهم بعد فترة قصيرة من موتهم ، ولا تجدهم إلّا في طيّات كتب التاريخ ، لكن الانبياءعليه‌السلام والرجال الالهيون ، لم يكسبوا ودَّ الناس ويستميلوا قلوبهم في فترة حياتهم فقط ، بل يزداد محبوهم واتباعهم كلما مرّ يوم علىٰ هذا العالم القديم ، الىٰ مستوىٰ نشاهد اليوم ستمائة مليون مسلم في جميع أنحاء العالم ، يفتخرون بأنهم اتباع رجل فذّ لامثيل له في تاريخ الانسانية ، هذا الرجل الذي عاش قبل الف واربعمائة عام

٧٢

في صحراء الحجاز ، والكثير من تلك الملايين يطبقون أوامره التي فيها سعادة الدنيا والآخرة بدقة في حياتهم اليومية ، ولا توجد اي قوة تستطيع الحدّ أو الاقلال من نفوذه الروحي ، في حين ان أقوىٰ ملوك الارض ، يجب ان يحمّل نظرياته ، وأراءه علىٰ الآخرين بالقوة ، ونجد الناس يكرهونهم في حياتهم ، بل يلعنونهم ويشتمونهم حتى وهم ينفذون اوامرهم !

النفوذ المعنوي للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله برأي الدكتور لوبون(١)

يقول الدكتور غوستاف لوبون ، العالم الفرنسي المعروف ، حول نفوذ الاسلام بين المسلمين :

«لا يقل الاسلام في التأثير علىٰ اتباعه عن سائر المذاهب والديانات ، والاقوام التي نزلت تلك الاحكام لأرشادهم ـ ومع وجود الاختلاف بينهم ـ إلّا انهم متمسكون بالاحكام المستوىٰ من تمسكهم بها قبل الف وثلاثمائة عام.

فصوم شهر رمضان الذي هو أصعب من صيام الأربعين يوماً عند بعض فرق النصارىٰ ، نجد المسلمين في العالم يجرونه بمنتهىٰ الدقّة ، وهكذا الصلاة في جميع البلدان التي زرتها في آسيا وافريقيا واماكن اخرىٰ من العالم ، خاصة انني رأيت اهتمامهم بأداء هذا الركن الاسلامي العظيم في وقته.

وفي احدىٰ المرات كنت مسافراً بالمركب في نهر النيل وكان معنا

________________

(١) Gustave. Le.Bon

٧٣

مجموعة من العرب ، وفيهم بعض المذنبين المقيدين بالسلاسل ، فعجبت كثيراً حيث رايت المذنبين يتعدّون علىٰ القانون المدني ولا يخافون عقاب الحكومة ، لكنهم لا يجرأون علىٰ مخالفة القانون الديني ( الشريعة ) ، فكان اذا صار وقت الصلاة اخرجوا قيودهم ووضعوها جانباً ، انشغلوا بأداء الصلاة والركوع السجود لله القهار »(١) .

كلام الدكتور لورافاكسيا فاغليري

يقول استاذ جامعة نابل في ايطاليا ، الدكتور لورافاكسيا فاغليري ، حول شدّة نفوذ رسول الاسلام بين اتباعه :

« كيف استطاع رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله تقوية نفوس اتباعه والجمع بين المثل والغيرة والتعصّب في روحياتهم ، بشكل يحتفظون فيه بتلك الروح بعد عشرة قرون من رحليهصلى‌الله‌عليه‌وآله بنحو لا يرىٰ مثلها في سائر الاديان ، وقد رسخ عندهم ايمان قوي سهّل لديهم أي نوع من التضيحة ، فاحتفظوا بتلك القوة الروحية علىٰ مدىٰ اعصار وقرون تختلف كثيراً من الناحية الثقافية والعلمية مع عصر المسلمين الاوائل ( صدر الاسلام ).

الشيخ : سعادة الدكتور ، انا مسرور جداً حيث وجدتك من أهل القراءة والبحث ، الظاهر انك تمتلك معلومات حول الكتب التي كتبها علماء الغرب حول الاسلام.

________________

(١) حضارة الاسلام والعرب.

٧٤

الدكتور : نعم ، فأنا احب المطالعة كثيراً ، خاصة مؤلفات كبار العلماء والمنصفين.

الشيخ : لقد اشار الدكتور في كلامه الىٰ موضوعين ، يجدر الالتفات إليهما بدقة :

الأول : هو ان العديد من الملوك والحكام الاقوياء ، والفاتحين جاؤا الىٰ العالم ، لكن اسماءهم اليوم محصورة في زوايا وكتب التاريخ ، وفي بعض الاحيان تكون اسماءهم ملازمة للعار والجريمة.

الثاني : انه قال : كان هناك رجال اقوياء أو علماء امناء ، لم يطعهم حتىٰ اقرب الناس اليهم في تطبيق نظرياتهم وتنفيذ أوامرهم ، الاّ ان يلجئوا الىٰ القوة معهم.

وفي تأييد كلام الدكتور ، احكي لكم قصَّتين تاريخيتين ، لكي نعرف من خلال الامعان فيهما القيمة الحقيقة لنفوذ رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله في الماضي وفي عالمنا اليوم.

الخليفة العباسي يزور سامراء

القصّة الاُولىٰ ، تعود لزيارة المستنصر بالله ، أحد خلفاء بني العباس الأقوياء الىٰ مدينة سامراء.

في أحد الايام تحرك المستنصر بالله من بغداد ، ومعه الوزراء ورجال الدولة نحو سامراء ، وبعد وصوله واتمام مراسيم التشريفات العادية ، توجه

٧٥

للقيام بمراسيم اخرىٰ ، لا يؤمن بها خلفاء بني العباس الىٰ حدّ ما ، وهي زيارة صحن الامامين العسكريينعليهما‌السلام (١) فرأىٰ صحناً مجللاً وكبيراً ، وافواج من الناس داخله اليه وخارجه منه ، في منتهىٰ الأدب والخضوع ، يزورون قبرا الامامين وعيونهم تذرف الدموع لصاحبي هذين القبرين ، وقلوبهم مفعمة بحبهما.

وبعد أن أتمَّ المستنصر مراسيم الزيارة ، ورأىٰ تلك المشاهد ، خرج من الصحن واتجه الىٰ قبور آبائه القريبة من الصحن الطاهر ، لكي يقرأ الفاتحة عليها !!! دخل المكان فوجد بناء القبر شبيه بالخربة ، وقبورها بمستوىٰ سطح الارض ، والغبار يعلوها ، فيما تكدّست عليها فضلات الطيور ولا أحد يأتي لقراءة الفاتحة ، فأخذ يقارن في نفسه بين حرم العسكريين وجلاله وقبور آبائه الخربة والتي تبعث الحزن في نفسه ، فالتفت إليه أحد المتملّقين من حاشيته ، وقال : يا خليفة المسلمين ، إلىٰ متىٰ تصبر علىٰ هذا العار والهوان ، هذه قبور آباءك الذين كانوا حكام البلدان الاسلامية في حياتهم ، وكانت خزائنهم مليئة

________________

(١) تجدر الاشارة الىٰ زيارة ائمة الشيعةعليهم‌السلام ، وبالاضافة الىٰ ابعادها التربوبية ، فيها أجر خاص طبقاً للروايات الواردة ، والهدف الاساس والحقيقي لزيارة قبور الائمةعليهم‌السلام ، لكي يتأمّل المسلم في الطريق الذي خطّه الامامعليه‌السلام في حياته والفضائل العلمية والانسانية التي كان يمتلكها ، ويتذكّر مواقفهم الخالدة والصريحة امام الظالمين ، فهم ائمة ويجب الاقتداء بهم.

كما ان معاني نصّ الزيارة ، جميعها دروس وعبر ( طبعاً تلك التي لها اساس حقيقي وليست موضوعة ) ، لكي يجدد الانسان الذي يقرأها ويفهم معانيها ، عهده مع الامام عليه‌السلام ويهيء نفسه للعمل بها ، لكن يجب الاعتراف بهذه الحقيقة المرّة ، وهي ان الزيارة ومثل العديد من المسائل الاسلامية ، اضحت خالية من محتواها الحقيقي ، ولم يبق منها الّا الشكل ، كما ان بعض الظلمة استفادوا من المشاهد المقدّسة وسخروها لصالحهم من اجل كسب الشرعية عند الجماهير ، في حين انهم يختلفون اساساً ومنطقاً مع روح الاسلام والامام عليه‌السلام .

٧٦

بالثروات ، واليوم قبورهم شبه خربة ، لا يزورهم الناس ، قبورهم غير مفروشة وقد غطّاها الغبار وفضلات الطيور ، وانت ابنهم وخلفهم الصالح والقوي. فيما قبور العسكريينعليهما‌السلام مجلّلة ، يحترمها الناس ، ويلجئون اليها يتوسلون بها لحلِّ مشاكلهم ، مع انهم كانوا في حياتهم اما مسجونون أو مبعدون أو مراقبون ، وكانوا علىٰ الدوام من اخطر منافسي خلافتكم. فالىٰ متىٰ تصبر يا خليفة المسلمين علىٰ ذلك ؟!

انهىٰ الوزير كلامه المتملّق وانتظر الجواب من الخليفة.

أمّا المستنصر فقد طأطأ رأسه بعد ان سمع ذلك الكلام ، وغاص في افكاره ، أمّا الحاضرون فكانوا ينظرون مرّة الىٰ الوزير واخرىٰ الىٰ الخليفة فيما يفكر كل واحد منهم بردة الفعل المترتبة علىٰ كلام الوزير.

كان الصمت ممزوجاً بالرعب في فناء القبر ، وبعد ثوان رفع المستنصر رأسه ونظر الىٰ الوزير ( المحرك الرئيسي للموضوع ) وبصوت تنتابه رجفة خفيفة من الألم ، قال له : « هذا أمر سماوي » ـ بمعنىٰ ان الاختلاف في المشهدين تقدير سماوي ـ ولا نستطيع ان نغيّر منه شيئاً ، لقد فعلنا كلما استطعنا عليه من اجل قبور آباءنا ، لكننا لا نسيطر علىٰ قلوب الناس ، فحكمنا علىٰ الابدان وليس الارواح ، لقد أرسلنا اثمن المفروشات الىٰ قبور آباءنا وجلّلناها وصرفنا عليها الكثير من الاموال ، لكي تتساوىٰ وقبور ابناء الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكن الناس كانوا يأتون في منتصف الليل فيسرقون المفروشات والادوات من قبور آباءنا ، ولم يأت أو سيأتي احد لزيارتها ، في حين ان الناس تصرف آلاف الدراهم والدنانير علىٰ قبري العسكريين من جيوبها واتعابها ، فيشترون

٧٧

المفروشات ويعلقون الستائر ، فما هو الحلّ ؟ وقلوب الناس خارجة عن متناول قوتنا وسلطتنا.

اقتراح بهمنيار على ابن سينا

اما القضية التايخية الاُخرىٰ ، التي ترتبط بالقسم الثاني من كلامه ، فهو ما حدث بين الشيخ ابن سينا واحد تلامذه المقربين ، اي بهمنيار.

وبهمنيار من تلامذة ابن سينا الملازمين له ، وكان محباً لاستاذه بشكل لا يوصف ، وكان مقام ابن سينا العلمي ونبوغه الفكري وقابلياته وقدراته الجمّة ، جعلت منه نابغة في العلم ، فكان ابن بهمنيار متحيراً في ذلك ، مما دفعه لأن يقترح علىٰ استاذه اقتراحاً خطراً.

فقال في احد الايام : استاذ ! لماذا لا تدّعي النبوة ، وتعرّف نفسك بأنّك نبي من قبل الله ؟! لأن مثل ذلك الادّعاء يليق بك ، فلو ادعيت النبوة وانكرها البعض ، وأراد ان يعارضك في ذلك ، فسيتعرّف على عظمتك العلمية في أول كلام لك معه ، وسوف يطأطأ رأسه امامك اجلالاً لمنزلتك.

استاذي انت اُسوة أهل زمانك في جميع الفضائل ، فلا تتباطأ في هذا الامر ؟!

كان بهمنيار يلحّ علىٰ ابن سينا دائماً بذلك المقترح ، لكنه لم يسمع منه جواباً علىٰ ذلك ، حتىٰ جاء الشتاء ، وفي احدىٰ الليالي الباردة جداً ، حيث الوفر والجليد غطّىٰ الارض واغصان الاشجار ، كان ابن سينا مستلقياً في غرفة

٧٨

دافئة يستريح ، فيما ابن بهمنيار يغطُّ في نوم عميق في مكان آخر من الغرفة ، كانت الساعة تشير الىٰ نهاية الليل ، نهض ابن سينا من نومه عطشان جداً ، لكنه لم يجد ماءً بالقرب منه في الغرفة ، فوضع ابن سينا يده علىٰ كتف بهمنيار وقال له بصيغة الأمر الممزوج بالمحبة : بهمنيار ! بهمنيار ! ففتح بهمنيار عينيه ، ووجد يد استاذه علىٰ كتفه ، فسلم علىٰ ابن سينا ، ورد استاذهعليه‌السلام ، ثم قال : العطش اضناني ووعاء الماء خارج الغرفة ، انهض وأئتني به.

فنظر بهمنيار الىٰ خارج الغرفة بعينين نصف مفتوحين ، ورأىٰ البخار المنجمد علىٰ زجاج باب الغرفة ، فتذكّر شدّة البرد في الخارج ، وان عليه ان ينهض من فراشه الدافيء ويرتدي ملابسه لكي يأتي بالماء الىٰ استاذه ؟!

كانت هذه الأفكار تزعجه فقرر في الفور أن لا يؤدي ذلك العمل ، لكنّه ماذا عساه أن يجيب ابن سينا ؟ لم يكن باستطاعه أن يصرّح بعدم الاستجابة ، لأن ابن سينا استاذه ونابغة العصر ومعلمه وملك الاطباء ، فأضطر أن يدخل الموضوع من باب آخر ، فقال : استاذ ! الطقس بارد خارج الغرفة ، والماء ايضاً بارد جداً ، في حين ان صدرك حار ، فلو شربت الماء البارد بهذا الشكل ، ستتعرض الىٰ الخطر بالتأكيد.

قال ابن سينا : أنا اُستاذك في الطب ، وآمرك ان تأتي بالماء.

وللمرّة الثانية كرر بهمنيار كلامه ولكن بلحن عذب وجميل ، لكنه رأىٰ استاذه مصرّاً على الاتيان بالماء.

وفي النهاية قرر ان يتكلم بصراحة ، فقال : انا لا استطيع تحمل برد

٧٩

الخارج من أجل ان أتي لك بالماء ، وفيما كانوا يتكلمون في الأمر ، إذا بصوت جميل ينبض بالدفٴ يصل من الخارج :

الهي لك الحمد يا ذا الجود والمجد والعلىٰ

تباركت تعطي من تشاءُ وتمنعُ

     

فمن أين كان هذا الصوت ؟ كان الصوت يأتي من مأذنه المسجد ، وكان هناك مسلماً منشغلاً في ذلك الطقس البارد بمناجاة الذات الالهية المقدّسة ، وبعد فترة من المناجاة طلع الصبح ، وارتفع صوت المسلم نفسه بالاذان : الله اكبر الله اكبر

مرّ ذلك الحادث ، وفي اليوم التالي كان بهمنيار يتأهب للدرس عند استاذه ، فألتفت ابن سينا الىٰ بهمنيار وقال : اقترحت علي مرات عديدة ان ادّعي النبوة ، فهل علمت سبب عدم قبولي بأقتراحك ؟

قال بهمنيار : لا.

فقال له ابن سينا : بهمنيار ! مع انك أنت الذي اقترحت ذلك ، وكنت تصرّ كثيراً علىٰ ذلك ، وأنا معك منذ فترة واستاذك ، مع ذلك لم تكن سلطتي نافذة فيك بحيث تنهض في الليلة الماضية وتأتي لي بالماء من خارج الغرفة ، لكن في تلك الساعة وفي ذلك الطقس البارد الذي وكأنه شلَّ قوة جميع الكائنات ، ينهض رجل مسلم من فراشه الدافىء ويصعد علىٰ ذلك المكان المرتفع ( المأذنة ) الذي تعصف به الرياح الباردة من كل حدب وصوب لكي يقوم بعمل مستحب ( ليس واجباً ) أمر به الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله قبل اربعمائة سنة ، دون ان ينظر الىٰ برودة الجو وبدون شعور بالألم لسبب البرد ، لكن نفوذ ذلك الانسان الرباني في اتباعه

٨٠

كفر ومن رضى قد شكر». قيل لها : فلِمَ حاربتيه؟ قالت : ما حاربته من ذات نفسي إلّا حملني طلحة والزبير(1) .

الفضل ما شهدت به الأعداء

عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه واله : «من فضّل أحداً من أصحابي على علي فقد كفر»(2) .

وهذا الحديث صريح الدلالة على أنّ كلّ من يفضّل أحداً على أمير المؤمنين عليه السلام فهو كافر ، فياترى ما هو حال الذين تجاسروا عليه واغتصبوا حقّه جهاراً ولم يرعوا له حرمة أبداً.

عمر يعترف بفضائل الإمام علي عليه السلام

عن عمر بن الخطّاب قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه واله يقول : فضل علي بن أبي طالب على هذه الأُمّة كفضل شهر رمضان على سائر الشهور ، وفضل علي هذه الأُمّة كفضل ليلة القدر على سائر الليالي ، وفضل علي على هذه الأُمّة كفضل ليلة الجمعة على سائر الليالي ، فطوبى لمن آمن به وصدّق بولايته والويل كلّ الويل لمن جحده وجحد حقّه ، حقّاً على الله أن يحرمه القيامة شفاعة محمّد صلى الله عليه واله(3) .

وحقيقة إنّ هذا الحديث من خيرة الأحاديث الدالّة على فضل أميرالمؤمنين عليه السلام وكونه صاحب الولاية بعد رسول الله صلى الله عليه واله وأنّ كلّ من أنكر هذ الولاية في الحياة الدنيا سيحرم يوم القيامة قطعاً من شفاعة رسول الرحمة صلى الله عليه واله. الملفت للانتباه أنّ نفس عمر يروي هذا الحديث بينما يقدّم أبا بكر للخلافة ، ثمّ يتولّى هو الخلافة وقبل أن يرحل يجعلها شورى ولا يرضى أن تصل مقاليد الخلافة لصاحبها الواقعي الذي اعترف هو

__________________

(1) بحار الأنوار ج 38 ص 7 ح 13.

(2) بحار الأنوار ج 38 ص 14 ح 19.

(3) بحار الأنوار ج 38 ص 14 ـ 15 ح 21.

٨١

شخصياً بفضيلته كما في هذا الحديث فاعتبروا يا أُولي الألباب.

من يشتري سيفي؟

عن أبي حيّان التيمي عن أبيه قال؟ رأيت علي بن أبي طالب عليه السلام على المنبر يقول : من يشتري منّي سيفي هذا؟ فلو كان عندي ثمن إزار ما بعته ، فقام إليه رجل فقال : نسلفك ثمن إزار. قال : قال عبدالرزاق ـ الراوي ـ وكانت بيده الدنيا كلّها إلّا ما كان من الشام(1) .

أوّل من صلّى مع الرسول صلى الله عليه واله

من كلام لسعد بن أبي وقّاص في الإمام علي عليه السلام قال فيه : ألم يكن أوّل من أسلم؟ ألم يكن أوّل من صلّى مع رسول الله صلى الله عليه واله؟ ألم يكن أزهد الناس؟ ألم يكن أعلم الناس(2) ؟

علي عليه السلام سيّد في الدارين

عن ابن عباس قال : نظر النبي صلى الله عليه واله إلى علي عليه السلام فقال : «أنت سيّد في الدنيا وسيّد في الآخرة ، حبيبك حبيبي ، وحبيبي حبيب الله ، وعدوّك عدوّي ، وعدوّي عدو الله ، والويل لمن أبغضك بعدي»(3) .

وهنا يحقّ لنا أن نسأل ونقول : إنّ الذين جعلوا أميرالمؤمنين عليه السلام يجلس في داره بعد أن غصبوا حقّه وأحرقوا باب الصدّيقة الزهراء عليها السلام هل كانوا من أحبّاء الإمام علي عليه السلام أم من مبغضيه؟ بلا شكّ كانوا من أعداءه وبالتالي فإنّهم ـ وكما ينصّ الحديث ـ أعداء لله ولرسوله صلى الله عليه واله ، فكيف يمكن أن يكونوا خلفاءه؟! إنّ هذا لعجباً؟!

__________________

(1) الاستيعاب في هامش الاصابة ج 2 ص 465.

(2) الفضائل الخمسة ج 3 ص 7.

(3) مستدرك الصحيحين ج 3 ص 127.

٨٢

مَن فارق عليّاً

عن أبي ذرّ رضوان الله عليه قال : قال النبي صلى الله عليه واله : «يا علي من فارقني فقد فارق الله ، ومن فارقك يا علي فقد فارقني»(1) .

ويحقّ لنا أن نسأل هنا أيضاً ونقول : هل إنّ الذين غصبوا الخلافة من أمير المؤمنين عليه السلام فارقوه أم لا؟

بالطبع أنّهم فارقوه وبذلك فإنّهم فارقوا الله ورسوله صلى الله عليه واله ولا يحقّ لمن يفارق الله ورسوله أن يستلم خلافة المسلمين.

لا فتى إلّا علي عليه السلام

عن أبي جعفر عليه السلام قال : نادى ملك من السماء يوم بدر يقال له رضوان أن لا سيف إلّا ذوالفقار ولا فتى إلّا علي(2) .

جبرئيل ينصر الإمام علي عليه السلام

عن سعيد بن المسيّب قال : لقد أصابت علياً عليه السلام يوم أُحد ستّ عشرة ضربة كلّ ضربة تلزمه الأرض فما كان يرفعه إلّا جبرئيل عليه السلام(3) .

مبارزة علي عليه السلام أفضل من أعمال الأُمّة

عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جدّه قال : قال رسول الله صلى الله عليه واله : «لمبارزة علي بن أبي طالب عليه السلام لعمرو بن ودّ يوم الخندق أفضل من أعمال أُمّتي إلى يوم القيامة»(4) .

إرادتكم إرادة الله عزّ وجلّ

روي أنّه اختصم رجل وامرأة إليه ـ الإمام علي عليه السلام ـ فعلا صوت الرجل على

__________________

(1) مستدرك الصحيحين ج 3 ص 123.

(2) ذخائر العقبى ص 74 وفي الرياض النضرة ج 2 ص 190.

(3) أُسد الغابة في معرفة الصحابة ج 4 ص 20.

(4) مستدرك الصحيحن ج 3 ص 32 تاريخ بغداد ج 13 ص 19 ح 6978.

٨٣

المرأة فقال له الإمام علي عليه السلام : اخسأ ـ وكان خارجياً ـ فإذا رأسه رأس كلب ، فقال رجل : يا أمير المؤمنين صحت بهذا الخارجي فصار رأسه رأس كلب فما يمنعك عن معاوية؟ قال : ويحك لو أشاء أن آتي معاوية إلى ههنا على سريرة لدعوت الله حتّى فعل ، ولكنّا لله خزّان لا على ذهب ولا على فضّة ولا إنكاراً بل على أسرار تدابير الله ، أما تقرأ :( بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) (1) وفي رواية قال عليه السلام : «إنّما أدعوهم لثبوت الحجّة وكمال المحنة ، ولو أُذن لي في الدعاء بهلاك معاوية لما تأخّر»(2) .

من قضاء أمير المؤمنين عليه السلام

عن عمّار بن ياسر قال : كنت بين يدي مولانا المؤمنين عليه السلام وإذا بصوت قد أخذ جامع الكوفة فقال : يا عمّار ائت بذي الفقار الباتر للأعمار فجئته بذي الفقار ، فقال : اخرج يا عمّار وامنع عن ظلامة هذه المرأة ، فإن انتهى وإلّا منعته بذي الفقار ، قال : فخرجت وإذا أنا برجل وامرأة قد تعلّقوا بزمام جمل والمرأة تقول : الجمل لي ، والرجل يقول : الجمل لي ، فقالت : إنّ أمير المؤمنين عليه السلام ينهاك عن ظلم هذه المرأة ، فقال : يشتغل علي بشغله ويغسل يده من دماء المسلمين الذين قتلهم بالبصرة ويريد أن يأخذ جملي ويدفعه إلى هذه المرأة الكاذبة؟! فقال عمّار رضي الله عنه : فرجعت لأخبر مولاي فإذا به قد خرج ولاح الغضب في وجهه وقال : ويلك خلّ جمل المرأة ، فقال : الشاهد الذي لا يكذّبه أحد من الكوفة ، فقال الرجل : إذا شهد شاهد وكان صادقاً سلّمته إلى المرأة ، فقال الإمام علي عليه السلام : تكلّم أيّها الجمل لمن أنت؟ فقال بلسان فصيح : يا أمير المؤمنين وخير الوصيّين أنا لهذه المرأة منذ بضع عشر سنة ، فقال الإمام علي عليه السلام خذي

__________________

(1) سورة الأنبياء : 26 ـ 27.

(2) بحار الأنوار ج 41 ص 191.

٨٤

جملك ، وعارض الرجل بضربة قسّمه نصفين(1) .

في مدح أمير المؤمنين عليه السلام

ومن خير ما نظم في مدح أمير المؤمنين عليه السلام هو ما نظمه الصاحب بن عبّاد قدّس الله روحه الزكيّة في قصيدته الرائعة التي جاء فيها :

قالت : فمن صاحب الدين الحنيف أجب

فقلت : أحمد خير السّادة الرسلِ

قالت : فمن بعده تُصفي الولاء له؟

قلت : الوصيّ الذي أربى على زُحلِ

قالت : فمن باب من فوق الفراش فدى؟

فقلت : أثبت خلق الله في الوهلِ

قالت : فمن ذا الذي آخاه عن مقةٍ؟

فقلت : من حاز ردّ الشمس في الطفل

قالت : فمن زوّج الزهراء فاطمة؟

فقلت : أفضل من حافٍ ومنتعلِ

قالت : فمن والد السبطين إذ فرعا؟

فقلت : سابق أهل السبق في مهلِ

قالت : فمن فاز في بدر بمعجزها؟

فقلت : أضرب خلق الله في القللِ

قالت : فمن أسد الأحزاب يفرسها؟

فقلت : قاتل عمرو الضغيم البطلِ

قالت : فيوم حنين مَن فرا وبرا؟

فقلت : حاصد أهل الشرك في عجلِ

قالت : فمن ذا دُعي للطير يأكله؟

فقلت : أقرب مرضيٍّ ومنتحلِ

قالت : فمن تلوه يوم الكساء أجب؟

فقلت : أفضل مكسوٍ ومشتملِ

قالت : فمن ساد في يوم «الغدير» أبن؟

فقلت : مَن كان للإسلام خير ولي

قالت : ففي مَن أتى في هل أتى شرفٌ؟

فقلت : أبذل أهل الأرض للنفلِ

قالت : فمن راكع زكّى بخاتمه؟

فقلت : أطعنهم مذ كان بالأُسلِ

قالت : فمن ذا قسيم النار يسهمها؟

فقلت : مَن رأيه أذكى من الشعلِ

قالت : فمن باهل الطهر النبي به؟

فقلت : تاليه في حلٍّ ومرتحل

قالت : فمن شبه هارون لنعرفه؟

فقلت : مَن لم يحل يوماً ولم يزلِ

__________________

(1) بحار الأنوار ج 41 ص 236 ح 7.

٨٥

قالت : فمن ذا غدا باب المدينة قل؟

فقلت : من سألوه وهو لم يسلِ

قالت : فمن قاتل الأقوام إذ نكثوا؟

فقلت : تفسيره في وقعة الجملِ

قالت : فمن حارب الأرجاس إذ قسطوا؟

فقلت : صفّين تُبدي صفحة العملِ

قالت : فمن قارع الأنجاس إذ مرقوا؟

فقلت : معناه يوم النهروان جَلي

قالت:فمن صاحب الحوض الشريف غداً؟

فقلت : مَن بيته في أشرف الحللِ

قالت : فمن ذا لواء الحمد يحمله؟

فقلت : مَن لم يكن في الرَّوع بالوجلِ

قالت : أكلُّ الذي قد قلت في رجلٍ؟

فقلت : كلُّ الذي قد قلت في رجلِ

قالت : فمن هو هذا الفرد سمّه لنا؟

فقلت : ذاك أمير المؤمنين علي

٨٦

الفصل الخامس

بعد أن وضعت الحرب أوزارها ظهر عاشوراء حيث ارتكب أزلام بنو أُميّة أبشع المآسي وأوجعوا قلب رسول الله صلى الله عليه واله بسفكهم للدماء الزاكية لأهل البيت عليهم السلام أخذوا النساء والأطفال ومعهم الإمام السجّاد عليه السلام الذي كان عليلاً أُسراء إلى الكوفة.

وبعد أن نزل الأُسراء الكوفة بعث ابن زياد اللعين إلى يزيد الطاغية يستأذنه في بعث القافلة إلى الشام ولمّا أذن اللعين قادوا أهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام إلى الشام وذلك عبر طريق الموصل.

وقد أمر ابن زياد اللعين كلّ من : زجر بن قيس ، ومحض بن أبي ثعلبة ، وشمر بن ذي الجوشن ، أن يقودوا الأسارى والرؤوس مع خمسة آلاف فارس نحو الشام ، التي دخلها ركب الأُسارى في اليوم الأوّل من شهر صفر المظفّر.

والآن لا بأس أن نذكر المآسي والحوادث المفجعة التي جرت على أهل البيت عليهم السلام خلال هذه المسيرة الطويلة.

1 ـ في جنب الفرات : أمر شمر بن ذي الجوشن الذي كان رئيس القافلة أن يقيّد الإمام السجّاد بالأغلال فوق النياق الهزلة وأن تجعل النساء والأطفال في الأكوار المكشوفة وأن توضع رؤوس الشهداء فوق الرماح العالية. وبعد أن سارت القافلة مسافة من الطريق نزلوا إلى جانب الفرات وجعلوا الرؤوس الشريفة على حائط إحدى الخربات وعمدوا اللعب بالقمار واللهو وشرب الخمر.

وفي ذلك الأثناء رأوا أنّ يداً ظهرت من فوق رأس سيّد الشهداء عليه السلام وكتبت بالدم على الحائط :

أترجوا أُمّة قتلت حسيناً

شفاعة جدّه يوم الحساب؟!

٨٧

ولمّا أسرع القوم ليلقوا القبض على هذه اليد لم يجدوا شيئاً ، فعادوا إلى مكانهم وانشغلوا بفسادهم ولهوهم تارةً أُخرى ، وبعد لحظات ظهرت اليد مرّة أُخرى وكتبت بالدماء الزاكية :

فلا والله ليس لهم شفيع

وهم يوم القيامة في العذاب

فأسرع القوم من جديد ليأخذوا أمامها إلّا أنّهم لم يجدوا شيئاً ، وحينما عادوا إلى لعبهم سمعوا هاتفاً يقول :

ماذا تقولون إذ قال النبي لكم

ماذا فعلتم وأنتم آخر الأُمم

بعترتي وبأهلي عند مفتقدي

منهم أُسارى ومنهم ضرّجوا بدم(1)

2 ـ تكريت : كانت تكريت المنزل الثاني لأهل البيت عليهم السلام ، فلمّا وصلت القافلة قريباً منها بعثوا بعضهم ليخبروا أهل المدينة ويأمروهم كي يأتوا ويستقبلوا الأُسارى ، فأقبل أهل تكريت فرحين ، وكان في تكريت بعض النصارى فتساءلوا من الناس : ما الخبر؟ ومن هؤلاء؟ فقالوا : لقد جيء برأس الحسين مع الأسارى من أهل بيته؟

فقال النصارى : وأي حسين هذا؟

قالوا : الحسين بن فاطمة بنت رسول آخر الزمان.

وإذا بالنصارى يضجرون ويتألّمون لهذا المصاب ويقولون لهم : الويل لكم قتلتم ابن بنت نبيّكم؟!

ثمّ إنّهم ذهبوا إلى كنائسهم وضربوا نواقيسهم وأخذوا يبكون ويبرؤون من هذا العمل ويلعنون أهله.

__________________

(1) راجع مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي ج 2 ص 105 ـ 106 ، ذخائر العقبى ص 145 ، ورواه ابن المغازلي في المناقب ص 388 رقم 442 ، وقال محقّق كتاب ابن المغازلي «البهبودي» : أخرجه العلّامة الطبراني في المعجم الكبير ص 147 ، كفاية الطالب ص 291 ، مجمع الزوائد ج 9 ص 199 ، تاريخ الإسلام للذهبي ج 3 ص 13 ، الخصائص الكبرى ج 2 ص 127 ، الاتحاف بحبّ الأشرف ص 23 ، نظم درر السمطين ص 219 ، تاريخ دمشق ج 14 ص 244 ، نفس المهموم ص 422.

٨٨

3 ـ وادي النخلة : ثمّ إنّ القافلة خرجت من تكريت ووصلت إلى وادي النخلة ، وقد سمعوا في هذا الوادي ضجّة عظيمة ونياحة شديدة إلّا أنّهم لم يكونوا يرون أحداً ، وقد سمعوا شخصاً يقول :

مسح النبي جبينه ولو يريق في الخدود

أبواه من عليا قريش وجدّه خير الجدود

وكان شخص آخر يقول :

ألا ياعين جودي فوق جدّي

فمن يبكي على الشهداء بعدي

على رهط تقودهم المنايا

إلى متجبّر بالملك عبدي

4 ـ المرشاد : ثمّ إنّ القافلة تحرّكت من وادي النخلة ووصلت إلى المرشاد فجاء أهل المحلّة نساءً ورجالاً لاستقبال القافلة ، ولمّا شاهدوا الأسارى اعتلى بكاءهم وأنينهم وصياحهم وحملوا على قتلة سيّد الشهداء.

5 ـ الحرّان : لمّا وصلت القافلة إلى مشارف الحرّان كان هناك يهودياً اسمه يحيى الخزاعي واقفاً على سطح عالي جدّاً فرأى دخول الأسارى ولذلك نزل ليتفرّج عليهم ويشاهد حالهم ، ولمّا دنا من القافلة شاهد الرأس الشريف يتلو قوله تعالى :( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) (1) فتعجّب من هذا المنظر المذهل وتساءل قائلاً : هذا الرأس لمن؟

فقالوا له : إنّه رأس الحسين بن علي ، فقال لهم : ومَن أُمّه؟ قالوا : فاطمة بنت محمّد صلى الله عليه واله.

فقال اليهودي : لو لم يكن دينه حقّ لما بدت منه هذه الكرامة المذهلة ، فأسلم يحيى وخلع عمامته ومزّقها قطعة قطعة ثمّ ناولها للعلويات المخدّرات ، ثمّ بعث ثوباً من الخز كان يرتديها إلى الإمام زين العابدين عليه السلام ومعها الف درهم ليصرفها في حاجته.

فصاح جلاوزة ابن زياد به وقالوا له : أيّها اللعين أتعين أعداء الخليفة؟!

__________________

(1) سورة الشعراء : 227.

٨٩

ابتعدوا وإلّا قتلناك ، فحمل يحيى السيف وقاتلهم قتال الأبطال ثمّ قتل شهيداً بعد أن قتل منهم خمسة أفراد. وقد دفن يحيى في دروازه حران ومقبرته معروفة اليوم باسم مقبرة الشهيد وهي محلّ لاستجابة الدعاء.

بنفسي رأس الدين ترفع رأسه

رفيع العوالي السمهرية ميد

تخاطبه مقروحة القلب زينب

فتشكو له أحوالها وتعيد

أخي كيف ترضى أن نساق حواسراً

وتسلب أبرادٌ لنا وعقود؟

أخي أترضى أن نساق أذلّة

ويطمع فينا شامت وحسود؟

أخي إنّ قلبي بات للوجد عنده

مواثيق لم تنقض لهنّ عهود

إذا رمت إخفاء الدموع فللجوى

مع الدمع منّي سائق وشهيد

6 ـ نصيبين : ولمّا وصلت القافلة إلى نصيبين بعث شمر اللعين من يخبر أمير المدينة ليأمر بتزيين المدينة فرحاً بمجيىء أسارى أهل البيت عليهم السلام.

وما أن خرج أمير المدينة المسمّى بـ «المنصور بن الياس» لاستقبال القافلة إذا بصاعقة تنزل وتحرق نصف المدينة وقد احترق كلّ من في هذا النصف من المدينة فاغتمّ أميرها بشدّة وخشي من غضب الله تعالى ولذلك أمر قوّاد القافلة بالخروج فخرجوا من المدينة بسرعة وهم يجرّون أذيال الخزي والعار.

7 ـ المدينة المجهولة : ثمّ إنّ القافلة وصلت إلى مدينة جديدة لم يذكر المؤرخون اسمها وقد كان اسم واليها سليمان بن يوسف وكان له أخوان : أحدهما قتل في معركة صفّين بيد أميرالمؤمنين عليه السلام والآخر كان شريكه في رئاسة هذه المدينة.

وعلى أيّة حال فقد أمر سليمان بالرؤوس أن تدخل من دروازة الرئيس إلّا أنّ أخيه خالفه في ذلك فاحتدّ النزاع بينهما وآل الأمر إلى المقاتلة ، فقتل سليمان وعمّت الفوضى في المدينة وخاف الشمر وأتباعه من هذه الحالة فخرجوا من المدينة بسرعة.

يا أُمّة السوء لا سقياً لربعكم

يا أُمّة لم تراع جدّنا فينا

لو أنّنا ورسول الله يجمعنا

يوم القيامة ما كنتم تقولونا؟

٩٠

تسيّرونا على على الأقتاب عارية

كأنّنا لم نشيّد فيكم دينا

تصفّقون علينا كفّكم ضرباً

وأنتم في فجاج الأرض تسبّونا

أليس جدّي رسول الله ويلكم

أهدى البريّة من سبل المضلّينا؟

8 ـ حلب : يوجد بقرب مدينة حلب جبل يسكنه اليهود كانوا يعيشون في قلعة مهيبة ومحكمة. وقد كانت حرفتهم هي الحياكة علماً أنّ حياكتهم كانت معروفة بالنعومة عند أهل الحجاز والعراق والشام.

وكان في ساحل الجبل والي يدعى عزيز بن هارون كان رئيس اليهود ، قيل أنّهم جاءوا بالقافلة إلى هذه المدينة لترعى النياق من العلف وترتوي من الماء.

عتيقة الإمام الحسين عليه السلام

نقل البعض فقال : عندما نزلت قافلة الأُسارى هذه المدينة وبعد أن أرخى الليل سدوله جاءت إحدى الجواري إلى الأسارى وتعرّفت على مولاة لها في أيّام سيّد الشهداء عليه السلام البعض يقول : إنّ سيّدة الجارية هي شهر بانو ، وكما يبدو أنّ ذلك ليس بصحيح ولعلّها كانت الرباب.

وما أن رأت هذه الجارية مولاتها سابقاً وهي على هذه الحال من الأسر والملابس الرثّة حتّى أخذت تبكي ، فتساءلوا منها : لماذا تبكين؟ قالت : أنا لا أنسى عناية سيّد الشهداء عليه السلام الخاصّة بي وكيف أنّ السيّدة شهر بانو أهدتني إليه لأكون في خدمته إلّا أنّه عليه السلام أعتقني في سبيل الله ، ولمّا رأت السيّدة شهر بانو ذلك من سيّد الشهداء عليه السلام أهدتني خلعة نفيسة جدّاً ، فالتفت إليها سيّد الشهداء عليه السلام قائلاً : لقد أعتقت الكثير من الجواري ولم تصنعي مع إحداهنّ هكذا؟

قالت : أُولئك عتقائي وهذه عتيقتك يا أبا عبدالله ولابدّ أن يكون هناك فرق بين عتقائي وعتقائك.

فدعا لها سيّد الشهداء عليه السلام وبقيت الجارية عند شهربانو مدّة من الزمن إلى اليوم الذي فارقت المدينة واليوم وبعد هذه المدّة الطويلة التقت بالأسارى وشاهدتهم على

٩١

هذه الحالة المأساوية فتذكّرت تلك الأيّام الجميلة ولذلك ذهبت وأعدّت لهم الثياب الجيّدة وجاءت بها ليلاً لتقدّمها لهم.

وحيث إنّ الأسارى كانوا محاصرين فقد استأذنت شيرين أحد رؤوساء القبيلة التي نزلت القافلة عندهم وكان يدعى «عزيز» كي يسمح لها في مساعدة الأُسارى ، وإذا به يستاءل منها قائلاً : أنت شيرين؟ فقالت : نعم ، من أين عرفت اسمي؟

قال : لقد شاهدت في الرؤيا نبي الله موسى ووصيّه هارون عليه السلام حفاة حاسرين باكيان فسلّمت عليهما وتساءلت قائلاً : ما الخطب؟ ولماذا تبكيان هكذا؟ فقالا : لقد قتل الحسين بن علي عليهما السلام واحتزّوا رأسه وطافوا به وعياله البلاد وقد أُودع الرأس الشريف في أحد الجبال.

يقول عزيز : فتساءلت من نبي الله موسى عليه السلام قائلاً : أنت تعتقد بنبوّة محمّد؟! قال : نعم ، إن محمّداً نبي حقّاً وقد أخذ الله تعالى من الأنبياء قاطبة ميثاقاً بأن يعتقدوا به وكلّ من يعرض عنه فنحن منه براء.

يقول عزيز : فطالبت نبي الله موسى عليه السلام ببعض العلائم لأطمئن بما جرى ، فقال : اذهب الآن خلف القلعة ستجد جارية اسمها شيرين عتقها الإمام الحسين عليه السلام استقبلها وأبلغها سلامي وأعلن إسلامك أمامها وهي التي ستأخذك إلى الرأس الشريف. وبالفعل فقد أخذت شيرين الثياب والطعام والطيب وأخذ عزيز الف درهم أعطاها للحرّاس كي لا يمانعوا وصولهم إلى الأسارى.

كما قدّم عزيز الفين درهماً إلى الإمام السجّاد عليه السلام وأسلم على يديه ثمّ دنا من الرأس الشريف وقال : السلام عليك يابن رسول الله ، أشهد إنّني رأيت جدّك خاتم الرسل وإلى جانبه نبي الله موسى وقد أبلغاك سلامهما ، وإذا بالرأس الشريف يجيب السلام بكلّ فصاحة قائلاً : وسلام الله عليّ.

فقال عزيز : سيّدي ارض عنّي واشفع لي عند جدّك رسول الله صلى الله عليه واله ، وإذا بالرأس الشريف يجيب : لقد رضي رسول الله صلى الله عليه واله عنك لإسلامك كما رضي أبي علي وأُمّي

٩٢

فاطمة عليهما السلام عنك لاهتداءك إلى مذهب الحقّ كما إنّي قد رضيت عنك وإنّ سلامك عليَّ كان سبباً لسروري.

وما هي إلّا لحظات وإذا بسيّد الساجدين عليه السلام يعقد عزيز على شيرين وقد آمن كافّة أهل القلعة جرّاء هذه الواقعة.

9 ـ دير النصراني : ثمّ إنّ القافلة تحرّكت نحو الدير وقد كان مع عسكر القافلة أبو سعيد الشامي وهو الذي نقل القضية التالية فقال : بلغ شمر بن ذي الجوشن خبراً أنّ نصر الحزامي قد أعدّ جيشاً ضخماً وهو يريد أن يسطو عليكم ليلاً ليأخذ الرؤوس المباركة ، ولذا اضطرب رؤساء العسكر وأخذوا يتباحثون حول حلّ هذه المشكلة فصمّموا أن يلوذوا إلى الدير ويحتموا به.

وحينما قرب الشمر وأتباعه من الدير إذا بأحد القساوسة يطلّ عليهم من وراء الجدار ويتساءل منهم عن سبب مجيئهم إلى الدير ، فقال له شمر : إنّنا من عسكر ابن زياد وقد جئنا من العراق إلى الشام ، فتساءل القس قائلاً : ولأي شيء جئتم؟ فقال الشمر : خرج رجل على يزيد فبعث إليه جيشاً جرّاراً ليقاتلوه وقد جئنا الآ برأسه ورؤوس أصحابه وقدنا حرمه كأُسارى إلى يزيد ، فقال القس : دعوني أنظر إلى الرؤوس ، ولمّا جاءوا إليه بها وقع نظره على رأس سيّد الشهداء عليه السلام ورأى النور الساطع من رأسه المبارك فأخذته حالة عجيبة من الهيبة والإجلال لهذا الرأس الطاهر وقال لهم : إنّ هذا الدير لا يسعكم جميعاً ، فإذا كان ولابدّ فأدخلوا الرؤوس والأسارى وابقوا أنتم خلف الجدار لتحرسوا القافلة ، فربما حمل عليكم العدو على حين غفلة وأنتم لا تعلمون ، ولا داعي أن تقلقوا على الأُسارى والرؤوس فإنّهم في حمايتنا وحراستنا.

فاستحسن الشمر هذا الاقتراح وقدّم إليه الرؤوس وسمح للقافلة التي يتقدّمها سيّد الساجدين عليه السلام بالدخول إلى الدير ، ثمّ إنّه جعل الأسارى في مكان مناسب وأودع الرؤوس في حجرة خاصّة ، وفي منتصف الليل مرّ على الرؤوس الشريفة فشاهد نوراً يسطع إلى السماء من رأس سيّد الشهداء عليه السلام وما هي إلّا لحظات إذا بسقف الغرفة ينفلق

٩٣

وتدخل امرأة كانت مجلّلة كانت جالسة على عرش من نور والهاتف يقول : «طرّقوا رؤوسكم ولا تنظروا».

يقول القس : حقّقت النظر وإذا بحواء أُمّ البشر ، وهاجر زوجة نبي الله إبراهيم عليه السلام وأُمّ نبي الله إسماعيل عليه السلام ، وراحيل أُمّ نبي الله يوسف عليه السلام ، وأُمّ موسى عليه السلام ، وآسية زوجة فرعون ، ومريم بنت عمران أُمّ نبي الله عيسى عليه السلام ، وبعض زوجات النبي صلى الله عليه واله قد أقبلن وأخذن الرأس المبارك من الصندوق وهنّ باكيات نائحات فبقين على هذا الحال ساعة ثمّ زرن سيّد الشهداء عليه السلام وأرجعن الرأس إلى الصندوق.

وبينما هم على هذا الحال إذا بضجّة واضطراب تعمّ الحجرة فنزل عرش نوراني آخر وإذا بهاتف يقول : غضّوا أبصاركم فإنّ شفيعة المحشر الصدّيقة الزهراء عليها السلام ستأتي ، لا شعورياً ارتعشت فرائصي وأُغمي عليّ. وبالرغم من ذلك إلّا أنّني كنت أسمع بين تلك الضجّة صوت امرأة حزينة تنادي : السلام عليك يا ولدي أيّها المظلوم ، أيّها الشهيد ، أيّها الغريب ، يا نور عيني ، فداك أُمّك يا أباعبدالله ، ولدي عزيزي سيأتي ذلك اليوم الذي ينتقم فيه لثارك من أعداءك.

ولمّا رجع أكبر القساوسة إلى وعيه تطهّر ولبس أطهر ثيابه واتّخذ من الطيب أحسنه ودخل الغرفة التي فيها الرؤوس الشريفة وأخرج رأس سيّد الشهداء عليه السلام من الصندوق وغسّله بالكافور والمسك والزعفران ثمّ وضعه باتّجاه القبلة ووقف أمامه وقال : أيّها الرأس الشريف ، إنّني أعلم أنّك رأس من مدحهم الله تعالى في التوراة والانجيل إلّا أنّني أُقسم عليك بالله العظيم الذي حباك بهكذا منزلة إلّا ما كلّمتني وعرّفتني على نفسك.

فنطق الرأس الشريف بلسان فصيح قائلاً : أنا المظلوم وأنا المغموم وأنا المهموم ، أنا المقتول بسيف الجفا ، أنا المذبوح من القفا.

ومع ذلك لم يكتف كبير القساوسة بهذا البيان وطلب من الرأس الشريف أن يعرّف نفسه أكثر ، وإذا بالرأس ينطق بكلّ فصاحة : أنا ابن محمّد المصطفى صلى الله عليه واله أنا ابن علي المرتضى عليه السلام أنا ابن فاطمة الزهراء عليها السلام أنا الحسين الشهيد المظلوم بكربلاء.

٩٤

فهاج الحزن بالراهب من هذه الكلمات وضجّ بالبكاء وأخذ الرأس الشريف وقبّله وجعله على وجهه وهو يقول : لن أُفارقك أبداً حتّى تضمن لي الشفاعة يوم القيامة.

وإذا بصوت من الرأس يهتف قائلاً : أوّلاً أُدخل في دين جدّي رسول الله صلى الله عليه واله حتّى أشفع لك ، وإذا بالقس يقول : أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أنّ محمّداً رسول الله صلى الله عليه واله. ثمّ أنّه جمع جميع القساوسة وقصّ عليهم قصّته ودعاهم إلى الدخول في الدين الإسلامي فأسلموا جميعاً وكان عددهم سبعين رجلاً وكانوا قد بكوا جميعاً لمصيبة سيّد الشهداء عليه السلام ، ثمّ إنّهم ارتدوا ثياب السواد حزناً على سيّد الشهداء عليه السلام بل إنّهم جاءوا جميعاً إلى الإمام السجّاد ليعزّوه وأعلنوا إسلامهم أمامه بعد أن كسّروا نواقيسهم وطبلوا من الإمام عليه السلام أن يأذن لهم في مقاتلة هؤلاء اللعناء ويطلبوا بثأر أبيه سيّد الشهداء عليه السلام إلّا أنّه عليه السلام لم يأذن لهم وقال : إنّ الله عزّوجلّ سينتقم منهم لا محالة(1) .

10 ـ عسقلان : وفي الصباح ـ بعد أن نام شمر بن ذي الجوشن وجماعته خارج الدير ـ تحرّكوا برفقة الأسارى والرؤوس نحو عسقلان وكان أمير هذه المدينة «يعقوب العسقلاني» حاضراً في معركة كربلاء وشارك في جناياتها.

ولذا فإنّه ريثما وصل إلى المدينة أمر بتزيينها وتعطيل الأسواق وأن يجلبوا الملاهي ووسائل الطرب والغناء خارج المدينة فرحاً بهذه المصيبة العظمى ، ثمّ جلس هو وأعوانه مسروراً جذلاً شامتاً بمقتل أهل البيت عليهم السلام وكان الناس يباركون لبعضهم البعض هذا العيد.

ومن سوء الصدف أنّ أحد التجار وهو زرير الخزاعي كان واقفاً يشاهد ما جرى فتساءل من الناس عن الخبر ، فقالوا له : شخص في العراق خرج على يزيد فبعث إليه ابن زياد جيشاً جرّاراً قتلوه وجاءوا برأسه وأهل بيته أُسارى إلى مدينتنا اليوم ويتحرّك

__________________

(1) راجع : تذكرة الخواص لابن الجوزي ص 236 ـ 237 ، مقتل الخوارزمي ج 2 ص 115 ـ 116 ، مدينة المعاجز ج 4 ص 146 ، العوالم ج 17 ص 417 ، البحار ج 45 ص 172 مع اختلاف يسير معها.

٩٥

قافلتهم غداً نحو الشام.

فتساءل زرير الخزاعي : وهل كان هذا الشخص مسلماً؟ فقالوا : كان من أكابر المسلمين ، ولمّا تساءل عن سبب خروجه قالوا له : كان يدّعي أنّه ابن رسول الله صلى الله عليه واله وأنّه أحقّ بالخلافة من يزيد ، فتساءل زرير قائلاً : ومن أُمّه أبوه؟ فقالوا : اسمه الحسين ، وأخيه الحسن ، وأُمّه فاطمة بنت محمّد صلى الله عليه واله ، وأبوه علي بن أبي طالب عليه السلام ، وجدّه رسول الله محمّد صلى الله عليه واله.

وما أن سمع زرير هذا الكلام انتفض من مكانه وارتعدت فرائصه وتفايضت عيناه بالدموع ، ثمّ إنّه أوصل نفسه بسرعة ليرى بنفسه الأسارى الذين أدخلوهم المدينة ، وريثما وقعت عيناه على الإمام السجّاد عليه السلام أجهش بالبكاء وارتفعت نياحته وأنينه ، فتساءل منه الإمام السجّاد عليه السلام قائلاً : ممّ بكاءك؟ ألا ترى أهل المدينة فرحين مسرورين؟ فأجابه زرير : سيّدي أنا تاجر غريب في هذه البلاد وقد دخلت المدينة اليوم ، وياليت قدماي قد شلّتا حين دخلتها ، ليت عيناي عميتا قبل أن أراكم على هذه الحالة.

فقال الإمام عليه السلام : كأنّك من محبّينا؟!

قال زرير : سيّدي أنا عبدك مرني فأنا في خدمتك؟

قال الإمام عليه السلام : إذا كان لديك أموال فقدّمها إلى حامل رأس أبي وأمره كي يرفع الرأس الشريف كي ينشغل الناس بالنظر إليه ، فقد خزينا من نظر الخلق إلينا.

فذهب زرير إلى حامل الرأس وأعطاه خمسين أشرفياً فتأخّر عن القافلة وانشغل الناس بالنظر إلى الرأس الشريف.

ثمّ إنّ زرير عاد إلى الإمام عليه السلام ثانية وقال له : سيّدي ألك حاجة أُخرى؟

فقال الإمام عليه السلام : إذا كان لديك شيء من القماش فأتي به لتتستّر بنات محمّد صلى الله عليه واله ، به فذهب مباشرة وجاء بالأخمرة وقدّمها للعائلة وجاء بعمامة للإمام عليه السلام.

وفيما هم كذلك إذا بضجّة ترتفع من بين الناس وكان شمر اللعين يهلهل والناس

٩٦

يهلهلون خلفه ، فذهب زرير إليه ونال منه وقال : شمر! أما تخشى من الله ، هذا رأس ريحانة رسول الله صلى الله عليه واله على القنا وهذه بنات فاطمة وعلي عليهما السلام أُسارى وأنت تهلهل فرحاً مسروراً.

وإذا باللعين يغضب ويأمر جلاوزته بأخذه فأخذوه وضربوه بشدّة حتّى أُغمي عليه فتصوّروا أنّه قد مات فتركوه.

وفي منتصف الليل استيقظ زرير وأوصل نفسه إلى قبر نبي الله سليمان عليه السلام فوجد جماعة من محبّي أهل البيت عليهم السلام حفاة حاسري الرؤوس قد جلسوا للعزاء على سيّد الشهداء عليه السلام.

أيعلى على السنان سنان

الرجس رأس الحسين بين الأنام

ثمّ يسري به يأمّ السبايا

قاصداً بالمسير نحوا الشآم

لعن الله آل حرب الكفر

والغدر عابد الأصنام

ويزيد اللعين نسل اللعين

عصبة الكفر والخنا والحرام

وزياداً ونسل آل زياد

وابن سعد اللعين ثمّ حبتر والدلام

زادهم ربّنا إلى لعناً لعناً

سرمديّاً مخلّداً بالدوام

11 ـ بعلبك : ثمّ إنّ قافلة الأُسارى تحرّكت من عسقلان نحو بعلبك ، وكما في المدن السابقة فقد أرسل شمر بعض أعوانه ليأمروا الناس بالخروج بآلات اللهو والطرب لاستقبال القافلة فهبّ الجميع بما فيهم الشيوخ والأطفال وهم يضربون الدفوف فرحين مستبشرين بقدوم القافلة وذلك على بعد ما يقارب ستّة فراسخ خارج المدينة.

والحال أنّ أهل بيت الرسالة عليهم السلام ينظرون إليهم ويتألّمون من أفعالهم بحيث لم تتحمّل السيّدة أُمّ كلثوم عليها السلام هذا المنظر فرفعت يديها بالدعاء وقالت : فرّق الله جمعكم

٩٧

وسلّط عليكم من يقتلكم جميعاً(1) .

ونقل عما الدين الطبري في كامل البهائي ج 2 ص 292 فقال : إنّ حملة رأس سيّد الشهداء عليه السلام عندما خرجوا من الكوفة كانوا خائفين من قبائل العرب فلربما جاءوا وأخذوا الرأس منهم ، ولذا فإنّهم غيّروا مسارهم من العراق واتّخذوا طريقاً آخراً ، وفي أثناء الطريق نزلوا عند إحدى القبائل وطلبوا منها علفاً لدوابهم وأخبروهم أنّ الرؤوس التي معهم هي رؤوس بعض الخوارج ، وقد استمرّوا على هذا النهج حتّى وصلوا إلى بعلبك.

وعلى كلّ فإنّ القاسم بن ربيع والي بعلبك أمر بتزيين المدينة وأمر الناس أن يخرجوا وهم يضربون المزامير والطنابير والدفوف فرحين مستبشرين بقتل سيّد الشهداء عليه السلام وقد استقبلوا الأسارى على هذه الحال وقادوهم إلى المدينة.

ولم تمض سوى سويعات وإذا بالخبر يصل إلى الناس أنّ الرأس الشريف هو رأس سيّد الشهداء عليه السلام فخرج أكثرهم خارج المدينة وأحرقوا الزينة وقد اضطربت المدينة عدّة أيّام جرّاء هذ الفاجعة المؤلمة.

ولمّا رأى حملة الرؤوس اضطراب الأوضاع في بعلبك خرجوا إلى «مرزين» وهي أوّل مدينة من مدن الشام وإذا بنصر بن عتبة اللعين والي يزيد على هذه المدينة يحتفل بهذه المناسبة وينصب الزينة فرحاً ثمّ قضى الليل كلّه بالطرب واللهو فرحاً بمقتل سيّد الشهداء عليه السلام إلّا أنّ فرحته لم تتمّ إذ أنّ صاعقة من السماء نزلت على زينتهم هذه فأحرقتها فاضطرّوا أن يدخلوا الأُسارى إلى الشام.

ورود الأُسارى إلى الشام

يقول الشيخ أبو الحقّ : بينما كان جلاوزة يزيد يطوفون برأس سيّد الشهداء عليه السلام

__________________

(1) بحار الأنوار ج 45 ص 126 ـ 127.

٩٨

في زقاق الشام سقط الرأس الشريف فجأة وإذا بالحائط ينحني ويحتضنه بحيث إنّه لم يصل إلى الأرض ، وقد شيّد في نفس هذا المكان مسجداً ما زال إلى اليوم موجوداً.

وقال أبو الحق أيضاً : ازدحم أهل الشام وتجمّعوا من كلّ حدب وصوب ليتفرّجوا على السبايا من بنات الرسول صلى الله عليه واله يقدمهم الإمام السجّاد عليه السلام الذي كان مقيّداً بالحبال القيود ومن أمامهم الرؤوس الشريفة تتقدّم القافلة ، فوالله ما شاهد أهل الشام أُناس أكثر نورانية ولا أشرف من هؤلاء الأُسارى ثمّ أنّهم أدخلوا القافلة إلى قصر يزيد الطاغية الذي كان ينتظر قدومهم.

وقبل أن يدخلوا القافلة على يزيد أخّروهم على حسب بعض الروايات ثلاث ساعات حتّى أذن لهم الطاغية اللعين بالدخول إلى قصره فأدخلهم خولّه عليه(1) .

وقد نقل عماد الدين الطبري عن دخول الأسارى فقال : ما يقارب على خمسمائة رجل وامرأة خرجوا لاستقبال الأسارى وهم يضربون بالدفوف الطبول بينما كان الكثير من الناس يرقصون فرحاً فضلاً عن الذين اءوا ليتفرّجوا على السبايا(2) .

آه من الشام

ورد في الخبر الشريف أنّ أحدهم سأل من الإمام السجّاد عليه السلام فقال : أي المصائب كانت أشدّ عليكم؟ وإذا بالإمام عليه السلام يجيب ثلاثاً : الشام الشام الشام. أو أنّه قال : آه من الشام قالها ثلاثاً. وفي خبر آخر أنّ الإمام عليه السلام قال للمنذر بن النعمان ما مضمونه : لقد نزلت علينا في الشام سبع مصائب لم نر مثلها من قبل أصلاً منها :

1 ـ أنّ قادة العسكر كانوا يقدوننا في الشام وهم شاهرون سيوفهم حاملون الرماح وكانوا بين الحين والآخر يتجاسرون علينا بكعب الرماح والناس محدقين بنا من كلّ جانب وهم يضربون بالدفوف ويرقصون فرحاً بما يجري علينا.

__________________

(1) تذكرة الشهداء للكاشاني ص 414.

(2) كامل البهائي ج 2 ص 292.

٩٩

2 ـ إنّهم مرّوا بالرؤوس الشريفة بين هوادج المخدّرات وجعلوا رأس عمّي العبّاس عليه السلام مقابل عمّاتي زينب وأُمّ كلثوم ، كما يجعلوا رأس علي الأكبر والقاسم قبال عيني سكينة وفاطمة أُختي ، وكانوا يلعبون بالرؤوس تهوي على الأرض أحياناً وتصبح موطأ لأقدام الخيول.

3 ـ كانت النساء الشاميات فوق السطوح ترمينا بالماء والنار حتّى احترقت عمّاتي وحيث إنّني مقيّد لم أستطع إخماد النيران فوصلت النار إلى رأسي واحترق بألسنة النار.

4 ـ أوقفونا منذ طلوع الشمس إلى قريب الغروب بين المغنّين وأهل اللهو فأصبحنا فرجة للناس الذين كانوا يأتون من كلّ مكان ليتفرّجوا علينا ، وكان أزلام يزيد يقولون لهم : إنّ هؤلاء الناس لا احترام لهم في الإسلام أصلاً.

5 ـ قيّدونا بالحبال ومرّوا بنا إلى جانب منازل اليهود والنصارى وقالوا لهم : هؤلاء الذين قتلوا أبوهم آباءكم في معركة خيبر فهلمّوا وخذوا بثاراتكم منهم. وقد قال الإمام السجّاد عليه السلام أيضاً : يا نعمان فما بقي أحد منهم إلّا وقد ألقى علينا ما أراد من التراب والأحجار والأخشاب.

6 ـ أخذونا إلى سوق النخاسين وأرادوا أن يبيعونا كما يبيعوا العبيد والجواري لو لا أنّ الله عزّوجلّ حال دون ذلك.

7 ـ جعلونا في دار لم يكن لها سقف ، فكانت لا تقينا من الحرّ والبرد(1) .

لهفي لرأس ابن النبي هديّة

لابن الدعي على سنان العامل

لهفي لزين العابدين مكتّفاً

يكبو له يقتاد بين عقائل

لهفي على حرم الحسين يسقن في

ذلّ السبا وما لها من كافل

لهفي لهنّ وقد برزن حواسراً

من بعد قصم أساور وخلاخل

__________________

(1) سوگنامه آل محمّد صلى الله عليه واله نقلاً عن تذكرة الشهداء للملّا حبيب الله الكاشاني ص 412.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466