رحلتي من الظلمات إلى النّور

رحلتي من الظلمات إلى النّور12%

رحلتي من الظلمات إلى النّور مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 466

رحلتي من الظلمات إلى النّور
  • البداية
  • السابق
  • 466 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 240753 / تحميل: 8307
الحجم الحجم الحجم
رحلتي من الظلمات إلى النّور

رحلتي من الظلمات إلى النّور

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

كلام مفكر والعالم حول الاسلام

الدكتور لورافاكسيا فاغليري(١) استاد جامعة نابل ، يقول :

( ما هو سبب تقدّم الاسلام وانتشاره في آسيا وافريقيا مع وجود الحرية التي تعطى لغير المسلمين في البلدان الاسلامية ومع عدم وجود اي منظمة اعلامية اسلامية حقيقية.

فاليوم لا يمكن القول ان السيف يمهد الطريق لنشر الاسلام ، بل العكس ، ففي المناطق التي كانت يوماً تحكمها دولاً اسلامية نجد اليوم دول حديثة من سائر الاديان لها منظماتها الاعلامية القوية التي تنشط بين المسلمين ، لكنها مع ذلك لم تستطع فصل الاسلام عن حياة الناس.

فما هي القوة الاعجازية الموجودة في هذا الدين ، ما هي القوة الذاتية في الاقناع الممزوجة مع هذا الدين ، واي جزء من الروح والحقيقة البشرية تتفاعل مع ذلك النداء ، وتستجيب له ).

اصدقائي !

اتعلمون سبب تقدم الاسلام في العالم وانتشاره بسرعة رغم وجود عوامل سقوط الاسلام والحدّ من نموه والذي جعل شخصاً مثل الدكتور

________________

(١) Dr. LauravaccieaVaglieri

٦١

فاغليري يعجب من ذلك !

بأعتقادي ان أهم أسباب ذلك هو كون القوانين والاحكام الاسلامية فطرية ، أي لأنّ الاسلام دين الفطرة وقوانينه جزء من ناموس العالم لذلك فكل فطرة نقية تدرك تلك القوانين ستجد في نفسها وبشكل طبيعي ميلاً نحو تلك القوانين ، وكذلك بسبب ان قوانين الاسلام المقدّسة طبيعية فهي باقية ولا تبالي بمرور الأيّام.

اعترافات السيد ويلز(١)

السيد ويلز ، كاتب بريطاني كبير ، يقول :

« الديانة الصحيحة التي وجدتها ملازمة ومجارية للحضارة هي الاسلام فقط ، وإذا اراد شخص ان يتعرّف علىٰ الاسلام ، عليه ان يقرأ القرآن ونظرياته العلمية وقوانينه وأنظمته الاجتماعية.

والقرآن كتاب ديني واجتماعي وعلمي وتهذيبي واخلاقي وتاريخي ، واكثر انظمته واحكامه تستخدم الىٰ يومنا هذا وستبقىٰ حتىٰ نهاية العالم.

وإذا سألني أحد عن حدود الاسلام ، سأجيبه : الاسلام يعني المدينة والحضارة ، فهل هناك من يستطيع القول ان الاسلام ، كان مخالفاً للمدينة والحضارة في دورة من أدوار التاريخ ، ولم يكن السباق الىٰ ذلك ، خلاصة الكلام هي ان القرآن طري وحي وجديد وجذاب في كل عصر

________________

(١) Mr. Wills

٦٢

وزمان»(١) .

أجل ، قوانين الاسلام هي القوانين السماوية الوحيدة التي توجّه وتقود الحياة الانسانية في جميع أدوار وهي دائماً جديدة وندية ، مع انه وبسبب الظلمة وشدة الجهل التي سبقت ظهوره فأن أوائل المؤمنين به اعتنقوه واستسلموا له من زاوية العقيدة والايمان ، في حين ان قيمة الاسلام العلمية بقيت مجهولة.

لكن كلّما تقدّم العلم في العالم وتنورت افكار البشرية أكثر ، ظهرت عظمة الاسلام ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله أكثر وأكثر ، للحدّ الذي لم يقتصر احترام الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله علىٰ ستمائة مليون مسلم في العالم فقط ، بل ان زعيم المسلمين العظيم وقائدهم ( الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ) يعتبر أكمل انسان في تاريخ البشرية بنظر أكبر العلماء المعاصرين ، وقد اعطوه أرفع وأسمىٰ الالقاب العلمية.

________________

(١) أما السبب في طراوة القرآن دائماً وعدم الملل منه وانه كلما قرأه الانسان وجده جديداً ندّياً ، فقد روي عن الامام محمد الباقرعليه‌السلام ، انه قال : لأن القرآن لم ينزل لقوم أو زمن معين ، وانما لجميع الناس وعلىٰ مدىٰ الزمان.

٦٣

نفوذ رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله في الماضي والحاضر(١)

اصدقائي الاعزاء !

الموضوع الذي ذكرته ، اي عظمة رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله عند المسلمين وغير المسلمين ، يستحق الالتفات والدقة ، فهل فكرتم في سبب نفوذ ومحبوبية رسول الاسلام العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله بين الناس ، خاصة المسلمين منهم ؟!

ألا يدل هذا النفوذ العميق والمتأصّل الذي يأتي من ايمان الناس المنطقي ، بحقّانية هذا الرجل العظيم ؟!

ذلك النفوذ الذي لا يقارن بقوة سلطة اخرىٰ ! في عصره ، بل وفي عالم

________________

(١) لا نهدف من هذا البحث ، الاستدلال علىٰ نبوة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله من خلال نفوذه ( رغم عمقه ورسوخه ) ، لكي يسيء استخدامه جماعة من اغنام الله ! الذين سمّوا عقائدهم المزيفة ، مذهباً ، في حين انهم صنيعي الاستعمار ، مع عدم وجود مثل تلك الفرصة لسوء الفائدة بالنسبة لهم ، لأن قائدهم وزعيمهم الوليد غير الشرعي للمستعمر ، وليس له ذلك النفوذ بين اتباعه علىٰ اساس من الطهارة والايمان ، لكي يستطيعوا الاستناد الىٰ هذا الموضوع ( حتىٰ لو كان خطأً ) ، فنفوذ الصنم في الجاهليةً ، والبقرة بين اتباعها في الهند ، اكبر واعمق من نفوذ ذلك الرجل بين أغنام الله في الوقت الحاضر ، وعدد اضاحي الاصنام والبقر ، اكثر بكثير من الاضاحي التي تقدم الىٰ ذلك الرجل ، أجل ، نحن وبعد ان ادركنا نبوة النبي محمد وانه مرسل من قبل السماء علىٰ اساس حكم العقل والمنطق ، نعدّ نفوذه عل اساس الايمان والعقيدة المقدّسة فقط ، مؤيداً لنبوته ، وليس كل من كان له نفوذ ، حاز علىٰ مقام النبوة !

٦٤

اليوم ايضاً هناك ملايين المسلمين في العالم مستعدون لبذل الغالي والنفيس في سبيله.

فهل سحر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله هذه القلوب بالاموال ؟!

وهل للقوىٰ المادية دخل في هذا الامر ؟! بالتأكيد لا ؛ لأنه لا يمكن تسخير قلوب الناس بالمال إلى هذا الحدّ.

( لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ) (١) .

الدكتور : لقد كانت لي ابحاث في هذا الموضوع ، ما ادهشتني هو ليس احترام وخضوع عالم اليوم امام عظمة رسول الاسلام ، بل تسخيره لقلوب أهل الجزيرة في ذلك الزمن ، لانني بحثت كثيراً حول تعصب العرب وتمسكهم بما جرىٰ عليه آباءهم ، ووصلت الىٰ هذه النتيجة ، وهي أنَّ العرب لا يقبلون ترك ما كان آباءهم بأي ثمن كان ، وان يغيروا حياتهم القبلية ، فما الذي دعاهم لأن يطيعوا ذلك الرجل الذي أعلن الحرب علىٰ آلهتهم وعارض اساليبهم الوحشية بصراحة ، ومنعهم من العمل بأهواءهم وشهواتهم وجعلهم يتركون الزنا والقمار والخمر والسرقة والاعتداء علىٰ أموال واعراض الآخرين ، تلك الأعمال التي كانت جزءاً من ممارساتهم اليومية ، فأخرجهم بذلك من التوحش الىٰ الفضيلة وكما الانسانية ، وكيف اصبح اولئك الناس المتردين اوفياء للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بحيث لم يبخلوا بكل ما لديهم ، بل وبأرواحهم من اجل اهدافه السامية !

________________

(١) سورة الأنفال : ٦٣.

٦٥

فمثل هذا التأثير في القلوب ، لا يكون الّا بقوة روحية والهية ، واتصور ان هذا النفوذ والتأثير هو دليل واضح وبيّن علىٰ حقّانية رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وان هذا الرجل الفذ ، مرسل من قبل السماء ، وانه رجل الهي.

الشيخ : من سعادتي ان اقبل رجل مطلع مثلك.

الدكتور : شكراً لهذا الاطراء.

الشيخ : اصدقائي ! الموضوع الذي تطرق له الدكتور يستحق الاهتمام ، لأنه وعلىٰ مرّ التاريخ ، كانت بعض المناطق التي تعد اليوم جزءاً من البلاد العربية مناطق عامرة كثيرة الدخل ، مثل : اليمن والشام ، وكانت معرّضة علىٰ الدوام الىٰ غزو الدول القوية المجاورة مثل الامبراطورية الفارسية والامبراطورية الرومانية ، فكانت جيوشهم تتّجه نحو تلك المناطق كالسيل العارم ، فيقتلون الرجال والشباب والاطفال ويأسرون النساء ، لكنهم لم يستطيعوا ان يوجدوا اقل تغير في برنامج ومسيرة حياتهم.

ينقل العالم الفرنسي المعروف ، الدكتور غوستاف لوبون(١) قصة تحكي تعصب العرب وصلابتهم وفضاضتهم ، يقول لوبون :

« عندما دخل ديموطريس(٢) البتراء(٣) ، قال له العرب : « أيُّها الملك ديموطريس ! لماذا تحاربنا ، فنحن نعيش في صحراء خالية من كل نعم الحياة

________________

(١) Dr. Gustave.Le.Bon

(٢) Demetrius ، اسماء ثلاثة من الملوك السلوكيين ، والسلوكيون اسم سلسلة من أمراء آسياء الغربية ، وقد حكموا اجزاءً من آسيا الصغرىٰ وايران علىٰ مدىٰ قرنين ونصف القرن بعد الاسكندر الكبير.

(٣) Petra اسم لمكان تجاري قديم في الجزء الجنوبي من الجزيرة العربية.

٦٦

التي يتملكها اهل المدن والقصبات ، لقد اخترنا السكن هنا ، لاننا لا نريد أن نكون عبيداً لأحد ، فاقبل هدايانا وخذ جيشك من هنا ، واعلم ان النبط ( اسم القبيلة التي ينتسبون اليها ) سيكونون اصدقاءك ، أمّا اذا اردت الاستمرار في الحصار ، فلن يستمر طويلاً حتىٰ تنالك آلاف المشاكل والمصائب ، ولن تستطيع ابداً ان تغير ما درجنا عليه منذ صغرنا ، وحتىٰ لو أخذت منا رجالاً اسرىٰ ، فسيكونون عبيداً متمردين وعاصين ، لا يستطيعون تغيير عاداتهم واختيار اخرىٰ مكانها »(١)

أيُّها السادة !

تلاحظون في هذه القصة التاريخية ، كيف تقف قبيلة صغيرة امام رجل جبار مثل ديموطريس الذي جاء لحربهم مع آلاف الجنود المدججين بالسلاح ، وتخاطبه بقوة وصلابة وصراحة تامة : حتىٰ لو تسلطت علينا فلن تستطيع اجبارنا علىٰ تغيير ما نشأنا عليه منذ الصغر واختيار اسلوب في الحياة غيره.

والحقيقة هي ان ديموطريس لم يكن باستطاعته عمل ذلك ، لأنه كان بمعنىٰ قتل كل افراد القبيلة وكما لم يستطع الغزات الذين سبقوه ذلك.

أمّا رسول الاسلام العظيم ، فقد استطاع تسخير قلوب تلك القبائل وجعلها قاعدة لرسالته ومنطلقاً لتبليغ دعوته الىٰ العالم ، وهو وحيداً في اكثر

________________

(١) حضارة الاسلام والعرب.

٦٧

فترات الرسالة الّا من دعم الله ونصرته ، فكانوا يستجيبون حباً له واكراماً لشخصه.

اعتراف ابو سفيان :

ينقل لنا التاريخ ، عند فتح مكة وبعد ان جاء العباس عمّ الرسول بأبي سفيان الىٰ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، امر ان يبقىٰ ابوسفيان في خيمة العباس تلك الليلة ، حتىٰ طلع الصبح فقام بلال ، مؤذن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأخذ يؤذن بصوته الجهور : الله اكبر ، الله اكبر كان صوت الاذان غريباً علىٰ مسامع أبو سفيان ، للحد الذي خاف وارتعد منه ، علىٰ الرغم من كونه زعيم مكة وقائد المشركين فيها. فسأل العباس خائفاً : ما هذا الصوت ؟!

قال له العباس : هذا صوت الاذان ، الاعلان الاسلامي العام للأجتماع من اجل الصلاة ، انهض يا ابا سفيان ! توضأ واستعد للصلاة.

أمّا ابو سفيان الذي كان حتىٰ الامس يعبد الاصنام ويعادي الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ويجمع القبائل لقتاله ، أبو سفيان هذا وجد نفسه محاصراً بين جيش الاسلام ، فاضطر للنهوض من فراشه والتوضأ كما علّمه العباس ، ثم خرجا من الخيمة معاً.

وفجأة شاهد ابوسفيان مشهداً غريباً ، او شك ان يفقد صوابه !

فما الذي رآه أبو سفيان ؟

لقد رأىٰ ابو سفيان عشرة آلاف مقاتل يتأهبون بنداء من رجل اسود ، هو

٦٨

بلال مؤذن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله للصلاة خلف قائدهم المحبوب ، بعد ان نهضوا من النوم وتوضأوا ، وجميعهم مشدودة اعينهم الىٰ باب الخيمة كالعشاق الذي ينتظر لقاء معشوقته ، الجميع ينتظر اشراقة شمس قائدهم العظيم من افق الخيمة ، فهم ينظرون الىٰ الخيمة وكأن ارواحهم فيها.

أبو سفيان الذي شاهد ذلك ، يقول في نفسه : عجباً ! هذا النفوذ والسطوة جميعها لرجل كان بالامس مجرد محمد الامين ! أليس هو ذلك الرجل الذي ترك وطنه ليلاً خوفاً من تعرضنا له وقرارنا بحقّه ، وهاجر من مكة الىٰ المدينة ؟! فكيف صارت له هذه السيطرة وهذه القوة ؟!

كان أبو سفيان غارقاً في افكاره ، وفجأة خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من خيمته وشفتاه تلهجان بذكر الله ، فنظر الىٰ اصحابه بوجه ضحوك ملئه السرور ، والمسلمون ايضاً كانوا ينظرون اليه بفرحه ، لكن في تبادل النظرات تلك ، كانت هناك اسرار كثيرة لا يفهما الغير.

وفيما كان الرسول يحمل وعاءً من الماء لتجديد وضوءه وهو خارج من الخيمة ، هنا كانت شدة تعجب وحيرة ابوسفيان ، لقد كان يرىٰ مشهداً غريباً جداً وكانت عيناه وكأنما تريدان الخروج من حدقتيهما ، كان ابو سفيان يرى مشهداً لم يره عند أيٍّ من ملوك واباطرة العالم.

رأى أبو سفيان هجوم المسلمين على الرسول وهو يتوضأ ، لكن لماذا ؟ وما الذي حصل ؟! كان المسلمون يتسابقون علىٰ قطرات الماء التي تقطر من وجه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يتوضأ ، فلم يكونوا يتركوا قطرة تصل الىٰ الارض فقط ، وانّما كان الذي يحصل منهم على قطرة من الماء الذي يتوضأ به الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله

٦٩

كأنما حصل على اثمن جوهرة علىٰ الارض ، ولهذا كانت حيرة ابو سفيان وشدة تعجبه.

لكن المسلمين الذين أرادوا ان يخرجوا أبا سفيان من تعجبه وحيرته ، قالوا له : لا تعجب يا أبا سفيان فهذا ماء توضأ به الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو اعزَّ علينا من ارواحنا.

اجل ، فهو النبي الذي نجّاهم من الشرك والضلالة واوصلهم الىٰ السعادة الحقيقية ، فقد تحرروا من السرقة والقمار والقتل والجريمة ووأد البنات.

أمّا أبو سفيان ، فلم يستطع كتمان ما كان يجول في خاطره من افكار كانت تعذبه ، فصاح : بالله لم أرَ كاليوم كسرىٰ ولا قيصر ، ما هذه القدرة ؟ ما هذا النفوذ ؟

نعم ، أبو سفيان محق في انه لم يرَ تلك القدرة في أيٍّ من بلاط الملوك والاباطرة ، لان قدرتهم سطحية تستند الىٰ حرابهم وظلمهم وتسلطهم علىٰ اجسام الناس. لكن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله احتل مكاناً لا تستطيع اي قوة احتلاله ، المكان الذي تعجز عن فتحه الحراب.

لقد احتل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله مكانة في قلوب الناس ، فهم يحبونه ، بل يعشقونه ويفتدونه بأرواحهم ، ومثل هذا النفوذ لا يتسير لأحد إلَّا بالنبوة او القوة الالهية.

وبعد ان صلَّىٰ المسلمون الصبح ، استعد جيش المسلمين للتحرك ، واتّجهوا نحو مكآة ، ومع ان اباسفيان كان زعيم المشركين وعلىٰ رأس معاندي الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله علىٰ مدىٰ واحد وعشرين سنة ولم يترك شيئاً لم يستعمله ضد الرسول ، من التهم والشتائم والحرب وتحريض الناس والقبائل على حرب

٧٠

المسلمين ، واجباره علىٰ الهجرة من مسقط رأسه ، وذرّ الرماد علىٰ رأسه الشريف ، ورميه بالحجارة ، لكنه اليوم ورغم ذاك الماضي السيء نجده في محاصرة قوة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وبين سيوف اصحابه ، فلو اشار الرسول اشارة صغيرة لقطّعه المسلمون إرباً إربا ، لكن مع كل ذلك فقد اعطاه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله الأمان وأمر بالمسلمين بعد ايذائه ، بل كرَّمه وقال : من دخل بيت ابو سفيان ـ في مكة ـ فهو آمن.

كان ابو سفيان مسروراً لما وجده من تسامح عند الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فأراد ان يركب الىٰ مكة. حتىٰ يخبر اهلها بتحرك جيش المسلمين ، إلَّا ان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله امر ان يقف ابو سفيان قبل ذهابه الىٰ مكة إلىٰ جانب العباس في محلّ مشرف لكي يشاهد جيش الاسلام وقوته الخارقة.

أخذ العباس عمَّ الرسول بيد ابو سفيان واوقفه في محلَّ مشرف علىٰ الجيش ، وبدأ جنود الاسلام بالتحرك فمرّت الكتيبة الاُولىٰ وهي تنادي الله اكبر ، ثم الكتيبة الثانية وهي تكبَّر ايضاً ، وهكذا مرَّت كتائب المسلمين من امام أبو سفيان ، وكلّما مرَّت كتيبة كان أبو سفيان يتصوّر انها الاخيرة ، إلّا انه كان يشاهد متعجباً كتيبة اخرى تتقدم ، فتعب ابو سفيان من طول وقوفه وازدحام الناس ، فقال للعباس : ألم يأت ابن اخيك بعد ؟

أجابه العباس : لو جاء ابن اخي ستعرفه انت دون أن اُشير اليك.

وهم على تلك الحالة من الكلام ، جاءت كتيبة اُخرىٰ من جنود الاسلام ، فقال العباس : والآن سيأتي ابن اخي وهو يتوسط جيشه.

كان ابو سفيان ينظر وكأنما ركَّز كل قواه في عينيه ، دقق النظر فإذا بما

٧١

يقرب خمسة آلاف من ابطال وصناديد المهاجرين والانصار والشباب المتحمّس الشجاع يحيطون بالرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو علىٰ ناقته في وسطهم يتحرك بوقار ليس له مثيل ، كانوا يدورون حوله دوران الفراشة حول الشمعة ، كان بعضهم يمتطي خيلاً وآخرون علىٰ جمال حمراء ، سيوفهم مشهورة ودروعهم مستعدة للدفاع ، مدججون بالسلاح حتىٰ لا يرى منهم إلّا الاعين ، وكانت اجسادهم ترىٰ خضراء من كثرة السلاح الذي يحملونه.

أمّا أبو سفيان فلم يستطع الصبر ثانية ، فألتفت الىٰ العباس وقال له : ملك ابن اخيك عظيم.

فقال له العباس : الويل لك ، انها النبوة وليست الملك.

اجل ، مثل هذا النفوذ والقوة لا يوجد إلّا عند الربّانيّون والذين اخلصوا لله ، ولا يمكن مشاهدتها في بلاط وحكومات القوىٰ المادية والحكام غير الربانيين ، مهما اتسع ملكهم.

الدكتور : اؤيد ما تقوله تماماً ، لقد ضمّ العالم والتاريخ الكثير من كبار الملوك والمخترعين والفضلاء والعلماء والفلاسفة ، ومع أن بعضهم احدث ضجة سطحية لفترة قصيرة ، لكنهم اندثروا واندثرت اسماءهم معهم بعد فترة قصيرة من موتهم ، ولا تجدهم إلّا في طيّات كتب التاريخ ، لكن الانبياءعليه‌السلام والرجال الالهيون ، لم يكسبوا ودَّ الناس ويستميلوا قلوبهم في فترة حياتهم فقط ، بل يزداد محبوهم واتباعهم كلما مرّ يوم علىٰ هذا العالم القديم ، الىٰ مستوىٰ نشاهد اليوم ستمائة مليون مسلم في جميع أنحاء العالم ، يفتخرون بأنهم اتباع رجل فذّ لامثيل له في تاريخ الانسانية ، هذا الرجل الذي عاش قبل الف واربعمائة عام

٧٢

في صحراء الحجاز ، والكثير من تلك الملايين يطبقون أوامره التي فيها سعادة الدنيا والآخرة بدقة في حياتهم اليومية ، ولا توجد اي قوة تستطيع الحدّ أو الاقلال من نفوذه الروحي ، في حين ان أقوىٰ ملوك الارض ، يجب ان يحمّل نظرياته ، وأراءه علىٰ الآخرين بالقوة ، ونجد الناس يكرهونهم في حياتهم ، بل يلعنونهم ويشتمونهم حتى وهم ينفذون اوامرهم !

النفوذ المعنوي للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله برأي الدكتور لوبون(١)

يقول الدكتور غوستاف لوبون ، العالم الفرنسي المعروف ، حول نفوذ الاسلام بين المسلمين :

«لا يقل الاسلام في التأثير علىٰ اتباعه عن سائر المذاهب والديانات ، والاقوام التي نزلت تلك الاحكام لأرشادهم ـ ومع وجود الاختلاف بينهم ـ إلّا انهم متمسكون بالاحكام المستوىٰ من تمسكهم بها قبل الف وثلاثمائة عام.

فصوم شهر رمضان الذي هو أصعب من صيام الأربعين يوماً عند بعض فرق النصارىٰ ، نجد المسلمين في العالم يجرونه بمنتهىٰ الدقّة ، وهكذا الصلاة في جميع البلدان التي زرتها في آسيا وافريقيا واماكن اخرىٰ من العالم ، خاصة انني رأيت اهتمامهم بأداء هذا الركن الاسلامي العظيم في وقته.

وفي احدىٰ المرات كنت مسافراً بالمركب في نهر النيل وكان معنا

________________

(١) Gustave. Le.Bon

٧٣

مجموعة من العرب ، وفيهم بعض المذنبين المقيدين بالسلاسل ، فعجبت كثيراً حيث رايت المذنبين يتعدّون علىٰ القانون المدني ولا يخافون عقاب الحكومة ، لكنهم لا يجرأون علىٰ مخالفة القانون الديني ( الشريعة ) ، فكان اذا صار وقت الصلاة اخرجوا قيودهم ووضعوها جانباً ، انشغلوا بأداء الصلاة والركوع السجود لله القهار »(١) .

كلام الدكتور لورافاكسيا فاغليري

يقول استاذ جامعة نابل في ايطاليا ، الدكتور لورافاكسيا فاغليري ، حول شدّة نفوذ رسول الاسلام بين اتباعه :

« كيف استطاع رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله تقوية نفوس اتباعه والجمع بين المثل والغيرة والتعصّب في روحياتهم ، بشكل يحتفظون فيه بتلك الروح بعد عشرة قرون من رحليهصلى‌الله‌عليه‌وآله بنحو لا يرىٰ مثلها في سائر الاديان ، وقد رسخ عندهم ايمان قوي سهّل لديهم أي نوع من التضيحة ، فاحتفظوا بتلك القوة الروحية علىٰ مدىٰ اعصار وقرون تختلف كثيراً من الناحية الثقافية والعلمية مع عصر المسلمين الاوائل ( صدر الاسلام ).

الشيخ : سعادة الدكتور ، انا مسرور جداً حيث وجدتك من أهل القراءة والبحث ، الظاهر انك تمتلك معلومات حول الكتب التي كتبها علماء الغرب حول الاسلام.

________________

(١) حضارة الاسلام والعرب.

٧٤

الدكتور : نعم ، فأنا احب المطالعة كثيراً ، خاصة مؤلفات كبار العلماء والمنصفين.

الشيخ : لقد اشار الدكتور في كلامه الىٰ موضوعين ، يجدر الالتفات إليهما بدقة :

الأول : هو ان العديد من الملوك والحكام الاقوياء ، والفاتحين جاؤا الىٰ العالم ، لكن اسماءهم اليوم محصورة في زوايا وكتب التاريخ ، وفي بعض الاحيان تكون اسماءهم ملازمة للعار والجريمة.

الثاني : انه قال : كان هناك رجال اقوياء أو علماء امناء ، لم يطعهم حتىٰ اقرب الناس اليهم في تطبيق نظرياتهم وتنفيذ أوامرهم ، الاّ ان يلجئوا الىٰ القوة معهم.

وفي تأييد كلام الدكتور ، احكي لكم قصَّتين تاريخيتين ، لكي نعرف من خلال الامعان فيهما القيمة الحقيقة لنفوذ رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله في الماضي وفي عالمنا اليوم.

الخليفة العباسي يزور سامراء

القصّة الاُولىٰ ، تعود لزيارة المستنصر بالله ، أحد خلفاء بني العباس الأقوياء الىٰ مدينة سامراء.

في أحد الايام تحرك المستنصر بالله من بغداد ، ومعه الوزراء ورجال الدولة نحو سامراء ، وبعد وصوله واتمام مراسيم التشريفات العادية ، توجه

٧٥

للقيام بمراسيم اخرىٰ ، لا يؤمن بها خلفاء بني العباس الىٰ حدّ ما ، وهي زيارة صحن الامامين العسكريينعليهما‌السلام (١) فرأىٰ صحناً مجللاً وكبيراً ، وافواج من الناس داخله اليه وخارجه منه ، في منتهىٰ الأدب والخضوع ، يزورون قبرا الامامين وعيونهم تذرف الدموع لصاحبي هذين القبرين ، وقلوبهم مفعمة بحبهما.

وبعد أن أتمَّ المستنصر مراسيم الزيارة ، ورأىٰ تلك المشاهد ، خرج من الصحن واتجه الىٰ قبور آبائه القريبة من الصحن الطاهر ، لكي يقرأ الفاتحة عليها !!! دخل المكان فوجد بناء القبر شبيه بالخربة ، وقبورها بمستوىٰ سطح الارض ، والغبار يعلوها ، فيما تكدّست عليها فضلات الطيور ولا أحد يأتي لقراءة الفاتحة ، فأخذ يقارن في نفسه بين حرم العسكريين وجلاله وقبور آبائه الخربة والتي تبعث الحزن في نفسه ، فالتفت إليه أحد المتملّقين من حاشيته ، وقال : يا خليفة المسلمين ، إلىٰ متىٰ تصبر علىٰ هذا العار والهوان ، هذه قبور آباءك الذين كانوا حكام البلدان الاسلامية في حياتهم ، وكانت خزائنهم مليئة

________________

(١) تجدر الاشارة الىٰ زيارة ائمة الشيعةعليهم‌السلام ، وبالاضافة الىٰ ابعادها التربوبية ، فيها أجر خاص طبقاً للروايات الواردة ، والهدف الاساس والحقيقي لزيارة قبور الائمةعليهم‌السلام ، لكي يتأمّل المسلم في الطريق الذي خطّه الامامعليه‌السلام في حياته والفضائل العلمية والانسانية التي كان يمتلكها ، ويتذكّر مواقفهم الخالدة والصريحة امام الظالمين ، فهم ائمة ويجب الاقتداء بهم.

كما ان معاني نصّ الزيارة ، جميعها دروس وعبر ( طبعاً تلك التي لها اساس حقيقي وليست موضوعة ) ، لكي يجدد الانسان الذي يقرأها ويفهم معانيها ، عهده مع الامام عليه‌السلام ويهيء نفسه للعمل بها ، لكن يجب الاعتراف بهذه الحقيقة المرّة ، وهي ان الزيارة ومثل العديد من المسائل الاسلامية ، اضحت خالية من محتواها الحقيقي ، ولم يبق منها الّا الشكل ، كما ان بعض الظلمة استفادوا من المشاهد المقدّسة وسخروها لصالحهم من اجل كسب الشرعية عند الجماهير ، في حين انهم يختلفون اساساً ومنطقاً مع روح الاسلام والامام عليه‌السلام .

٧٦

بالثروات ، واليوم قبورهم شبه خربة ، لا يزورهم الناس ، قبورهم غير مفروشة وقد غطّاها الغبار وفضلات الطيور ، وانت ابنهم وخلفهم الصالح والقوي. فيما قبور العسكريينعليهما‌السلام مجلّلة ، يحترمها الناس ، ويلجئون اليها يتوسلون بها لحلِّ مشاكلهم ، مع انهم كانوا في حياتهم اما مسجونون أو مبعدون أو مراقبون ، وكانوا علىٰ الدوام من اخطر منافسي خلافتكم. فالىٰ متىٰ تصبر يا خليفة المسلمين علىٰ ذلك ؟!

انهىٰ الوزير كلامه المتملّق وانتظر الجواب من الخليفة.

أمّا المستنصر فقد طأطأ رأسه بعد ان سمع ذلك الكلام ، وغاص في افكاره ، أمّا الحاضرون فكانوا ينظرون مرّة الىٰ الوزير واخرىٰ الىٰ الخليفة فيما يفكر كل واحد منهم بردة الفعل المترتبة علىٰ كلام الوزير.

كان الصمت ممزوجاً بالرعب في فناء القبر ، وبعد ثوان رفع المستنصر رأسه ونظر الىٰ الوزير ( المحرك الرئيسي للموضوع ) وبصوت تنتابه رجفة خفيفة من الألم ، قال له : « هذا أمر سماوي » ـ بمعنىٰ ان الاختلاف في المشهدين تقدير سماوي ـ ولا نستطيع ان نغيّر منه شيئاً ، لقد فعلنا كلما استطعنا عليه من اجل قبور آباءنا ، لكننا لا نسيطر علىٰ قلوب الناس ، فحكمنا علىٰ الابدان وليس الارواح ، لقد أرسلنا اثمن المفروشات الىٰ قبور آباءنا وجلّلناها وصرفنا عليها الكثير من الاموال ، لكي تتساوىٰ وقبور ابناء الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكن الناس كانوا يأتون في منتصف الليل فيسرقون المفروشات والادوات من قبور آباءنا ، ولم يأت أو سيأتي احد لزيارتها ، في حين ان الناس تصرف آلاف الدراهم والدنانير علىٰ قبري العسكريين من جيوبها واتعابها ، فيشترون

٧٧

المفروشات ويعلقون الستائر ، فما هو الحلّ ؟ وقلوب الناس خارجة عن متناول قوتنا وسلطتنا.

اقتراح بهمنيار على ابن سينا

اما القضية التايخية الاُخرىٰ ، التي ترتبط بالقسم الثاني من كلامه ، فهو ما حدث بين الشيخ ابن سينا واحد تلامذه المقربين ، اي بهمنيار.

وبهمنيار من تلامذة ابن سينا الملازمين له ، وكان محباً لاستاذه بشكل لا يوصف ، وكان مقام ابن سينا العلمي ونبوغه الفكري وقابلياته وقدراته الجمّة ، جعلت منه نابغة في العلم ، فكان ابن بهمنيار متحيراً في ذلك ، مما دفعه لأن يقترح علىٰ استاذه اقتراحاً خطراً.

فقال في احد الايام : استاذ ! لماذا لا تدّعي النبوة ، وتعرّف نفسك بأنّك نبي من قبل الله ؟! لأن مثل ذلك الادّعاء يليق بك ، فلو ادعيت النبوة وانكرها البعض ، وأراد ان يعارضك في ذلك ، فسيتعرّف على عظمتك العلمية في أول كلام لك معه ، وسوف يطأطأ رأسه امامك اجلالاً لمنزلتك.

استاذي انت اُسوة أهل زمانك في جميع الفضائل ، فلا تتباطأ في هذا الامر ؟!

كان بهمنيار يلحّ علىٰ ابن سينا دائماً بذلك المقترح ، لكنه لم يسمع منه جواباً علىٰ ذلك ، حتىٰ جاء الشتاء ، وفي احدىٰ الليالي الباردة جداً ، حيث الوفر والجليد غطّىٰ الارض واغصان الاشجار ، كان ابن سينا مستلقياً في غرفة

٧٨

دافئة يستريح ، فيما ابن بهمنيار يغطُّ في نوم عميق في مكان آخر من الغرفة ، كانت الساعة تشير الىٰ نهاية الليل ، نهض ابن سينا من نومه عطشان جداً ، لكنه لم يجد ماءً بالقرب منه في الغرفة ، فوضع ابن سينا يده علىٰ كتف بهمنيار وقال له بصيغة الأمر الممزوج بالمحبة : بهمنيار ! بهمنيار ! ففتح بهمنيار عينيه ، ووجد يد استاذه علىٰ كتفه ، فسلم علىٰ ابن سينا ، ورد استاذهعليه‌السلام ، ثم قال : العطش اضناني ووعاء الماء خارج الغرفة ، انهض وأئتني به.

فنظر بهمنيار الىٰ خارج الغرفة بعينين نصف مفتوحين ، ورأىٰ البخار المنجمد علىٰ زجاج باب الغرفة ، فتذكّر شدّة البرد في الخارج ، وان عليه ان ينهض من فراشه الدافيء ويرتدي ملابسه لكي يأتي بالماء الىٰ استاذه ؟!

كانت هذه الأفكار تزعجه فقرر في الفور أن لا يؤدي ذلك العمل ، لكنّه ماذا عساه أن يجيب ابن سينا ؟ لم يكن باستطاعه أن يصرّح بعدم الاستجابة ، لأن ابن سينا استاذه ونابغة العصر ومعلمه وملك الاطباء ، فأضطر أن يدخل الموضوع من باب آخر ، فقال : استاذ ! الطقس بارد خارج الغرفة ، والماء ايضاً بارد جداً ، في حين ان صدرك حار ، فلو شربت الماء البارد بهذا الشكل ، ستتعرض الىٰ الخطر بالتأكيد.

قال ابن سينا : أنا اُستاذك في الطب ، وآمرك ان تأتي بالماء.

وللمرّة الثانية كرر بهمنيار كلامه ولكن بلحن عذب وجميل ، لكنه رأىٰ استاذه مصرّاً على الاتيان بالماء.

وفي النهاية قرر ان يتكلم بصراحة ، فقال : انا لا استطيع تحمل برد

٧٩

الخارج من أجل ان أتي لك بالماء ، وفيما كانوا يتكلمون في الأمر ، إذا بصوت جميل ينبض بالدفٴ يصل من الخارج :

الهي لك الحمد يا ذا الجود والمجد والعلىٰ

تباركت تعطي من تشاءُ وتمنعُ

     

فمن أين كان هذا الصوت ؟ كان الصوت يأتي من مأذنه المسجد ، وكان هناك مسلماً منشغلاً في ذلك الطقس البارد بمناجاة الذات الالهية المقدّسة ، وبعد فترة من المناجاة طلع الصبح ، وارتفع صوت المسلم نفسه بالاذان : الله اكبر الله اكبر

مرّ ذلك الحادث ، وفي اليوم التالي كان بهمنيار يتأهب للدرس عند استاذه ، فألتفت ابن سينا الىٰ بهمنيار وقال : اقترحت علي مرات عديدة ان ادّعي النبوة ، فهل علمت سبب عدم قبولي بأقتراحك ؟

قال بهمنيار : لا.

فقال له ابن سينا : بهمنيار ! مع انك أنت الذي اقترحت ذلك ، وكنت تصرّ كثيراً علىٰ ذلك ، وأنا معك منذ فترة واستاذك ، مع ذلك لم تكن سلطتي نافذة فيك بحيث تنهض في الليلة الماضية وتأتي لي بالماء من خارج الغرفة ، لكن في تلك الساعة وفي ذلك الطقس البارد الذي وكأنه شلَّ قوة جميع الكائنات ، ينهض رجل مسلم من فراشه الدافىء ويصعد علىٰ ذلك المكان المرتفع ( المأذنة ) الذي تعصف به الرياح الباردة من كل حدب وصوب لكي يقوم بعمل مستحب ( ليس واجباً ) أمر به الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله قبل اربعمائة سنة ، دون ان ينظر الىٰ برودة الجو وبدون شعور بالألم لسبب البرد ، لكن نفوذ ذلك الانسان الرباني في اتباعه

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

التّفسير

العقاب بعد البيان :

إن الآية الأولى تشير إلى قانون كلّي وعام ، يؤيده العقل أيضا ، وهو أنّ الله سبحانه وتعالى ما دام لم يبيّن حكما ، ولم يصل شيء من الشرع حوله ، فإنّه تعالى سوف لا يحاسب عليه أحدا ، وبتعبير آخر : فإنّ التكليف والمسؤولية تقع دائما بعد بيان الأحكام ، وهذا هو الذي يعبر عنه في علم الأصول بقاعدة (قبح العقاب بلا بيان).

ولذلك فأوّل ما تطالعنا به الآية قوله :( وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ ) .

إنّ المقصود من (يضل) ـ في الأصل الإضلال والتضييع ، أو الحكم بالإضلال ـ كما احتمله بعض المفسّرين (كما يقال في التعديل والتفسيق ، أي الحكم بعدالة الشخص وفسقه)(1) أو بمعنى الإضلال من طريق الثواب يوم القيامة ، وهو في الواقع بمعنى العقاب.

أو أنّ المقصود من «الإضلال» ما قلناه سابقا ، وهو سلب نعمة التوفيق ، وإيكال الإنسان إلى نفسه ، ونتيجة ذلك هو الضياع والحيرة والانحراف عن طريق الهداية لا محالة ، وهذا التعبير إشارة خفية ولطيفة إلى حقيقة ثابتة ، وهي أنّ الذّنوب دائما هي مصدر وسبب الضلال والضياع والابتعاد عن طريق الرشاد(2) .

وأخيرا تقول الآية :( إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) أي إن علم الله يحتم ويؤكّد على أنّ الله سبحانه ما دام لم يبيّن الحكم الشرعي لعباده ، فإنّه سوف لا يؤاخذهم أو يسألهم عنه.

__________________

(1) يتصور البعض أنّ باب (تفعيل) هو الوحيد الذي يأتي أحيانا بمعنى الحكم ، في حين يلاحظ ذلك في باب (إفعال) أيضا ، كالشعر المعروف المنقول عن الكميت ، حيث يقول في بيان عشقه وحبّه لآل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وطائفة قد أكفروني بحبّكم.

(2) لمزيد التوضيح حول معنى الهداية والضلال في القرآن ، راجع ذيل الآية (26) من سورة البقرة.

٢٤١

جواب سؤال

يتصور بعض المفسّرين والمحدّثين أنّ الآية دليل على أن «المستقلات العقلية» ـ (وهي الأمور التي يدركها الإنسان عن طريق العقل لا عن طريق حكم الشرع ، كإدراك قبح الظلم وحسن العدل ، أو سوء الكذب والسرقة والاعتداء وقتل النفس وأمثال ذلك) ـ ما دام الشرع لم يبيّنها ، فإن أحدا غير مسئول عنها. وبتعبير آخر فإنّ كل الأحكام العقلية يجب أن تؤيد من قبل الشرع لإيجاد التكليف والمسؤولية على الناس ، وعلى هذا فإنّ الناس قبل نزول الشرع غير مسئولين مطلقا ، حتى في مقابل المستقلات العقلية.

إلّا أنّ بطلان هذا التصور واضح ، فإنّ جملة( حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ) تجيبهم وتبيّن لهم أنّ هذه الآية وأمثالها خاصّة بالمسائل التي بقيت في حيز الإبهام وتحتاج إلى التّبيين والإيضاح ، ومن المسلّم أنّها لا تشمل المستقلات العقلية ، لأنّ قبح الظلم وحسن العدل ليس أمرا مبهما حتى يحتاج إلى توضيح.

الذين يذهبون إلى هذا القول غفلوا عن أن هذا القول ـ إن صحّ ـ فلا وجه لوجوب تلبية دعوة الأنبياء ، ولا مبرر لأن يطالعوا ويحققوا دعوى مدعي النّبوة ومعجزاته حتى يتبيّن لهم صدقه أو كذبه ، لأنّ صدق النّبي والحكم الإلهي لم يبيّن لحد الآن لهؤلاء ، وعلى هذا فلا داعي للتحقق من دعواه.

وعلى هذا فكما يجب التثبت من دعوى من يدعي النّبوة بحكم العقل ، وهو من المستقلات العقلية ، فكذلك يجب اتباع سائر المسائل التي يدركها العقل بوضوح.

والدليل على هذا الكلام التعبير المستفاد من بعض الأحاديث الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام ، ففي كتاب التوحيد ، عن الصادقعليه‌السلام أنّه قال في تفسير هذه الآية : «حتى يعرّفهم ما يرضيه وما يسخطه»(1) .

وعلى كل حال ، فإنّ هذه الآية وأمثالها تعتبر أساسا لقانون كلّي أصولي ، وهو

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 2 ، ص 276.

٢٤٢

أننا ما دمنا لا نملك الدليل على وجوب أو حرمة شيء ، فإنّنا غير مسئولين عنه ، وبتعبير آخر فإنّ كل شيء مباح لنا ، إلّا أن يقوم دليل على وجوبه أو تحريمه ، وهو ما يسمونه ب (أصل البراءة).

وتستند الآية التالية على هذه المسألة وتوكّد :( إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) وأن نظام الحياة والموت أيضا بيد قدرته ، فإنّه هو الذي( يُحْيِي وَيُمِيتُ ) وعلى هذا :( وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) ، وهو إشارة إلى أنّه لما كانت كل القدرات والحكومات في عالم الوجود بيده ، وخاضعة لأمره ، فلا ينبغي لكم أن تتكلوا على غيره ، وتلتجئوا إلى البعيدين عن الله وإلى أعدائه وتوادوهم ، وتوثقوا علاقتكم بهم عن طريق الاستغفار وغيره.

* * *

٢٤٣

الآيتان

( لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) )

سبب النّزول

درس كبير!

قال المفسّرون : إنّ الآية الأولى نزلت في غزوة تبوك ، وما واجهه المسلمون من المشاكل والمصاعب العظيمة ، هذه المشاكل التي كانت من الكثرة والصعوبة بمكان بحيث صمّم جماعة على الرجوع ، إلّا أنّ اللطف الإلهي والتوفيق الرّباني شملهم ، فثبتوا في مكانهم.

ومن جملة من قيل أن الآية نزلت فيهم أبو خيثمة ، وكان من أصحاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،لا من المنافقين ، إلّا أنّه لضعفه امتنع عن التوجه إلى معركة تبوك مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٢٤٤

مرّت عشرة أيّام على هذه الواقعة ، وكان الهواء حارا محرقا ، فحضر يوما عند زوجتيه، وكنّ قد هيأن خيمته ، وأحضرن الطعام اللذيذ والماء البارد ، فتذكر فجأة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وغاص في تفكير عميق ، وقال في نفسه : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وضمن له آخرته ، قد حمل سلاحه على عاتقه وسار في الصحاري المحرقة ، وتحمل مشقّة هذا السفر ، أمّا أبو خيثمة ـ يعني نفسه ـ فهو في ظل بارد ، يتمتع بأنواع الأطعمة ، والنساء الجميلات!! إنّ هذا ليس من الإنصاف.

فالتفت إلى زوجاته وقال : أقسم بالله أن لا أكلم إحداكن كلمة ، ولا أستظل بهذه الخيمة حتى ألتحق بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . قال ذلك وحمل زاده وجرابه وركب بعيره وسار ، وجهدت زوجتاه أن يكلمنه فلم يعبأ بهما ولم ينبس ببنت شفة ، وواصل سيره حتى اقترب من تبوك.

فقال المسلمون بعضهم لبعض : من هذا الراكب على الطريق؟ ، فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كن أبا خيثمة» فلمّا اقترب وعرفه الناس ، قالوا : نعم ، هو أبو خيثمة ، فأناخ راحلته وسلّم على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحدثه بما جرى له ، فرحبّ به النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ودعا له.

وبذلك فإنّه كان من جملة الذين مال قلبهم إلى الباطل ، إلّا أنّ الله سبحانه وتعالى لما رأى استعداده الروحي أرجعه إلى الحق وثبّت قدمه.

* * *

وقد نقل سبب آخر لنزول الآية الثّانية ، خلاصته : إنّ ثلاثة من المسلمين وهم : «كعب بن مالك» و «مرارة بن ربيع» و «وهلال بن أمية» ، امتنعوا من المسير مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاشتراك في غزوة تبوك ، إلّا أن ذلك ليس لكونهم جزءا من المنافقين ، بل لكسلهم وتثاقلهم ، فلم يمض زمان حتى ندموا.

فلمّا رجع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غزوة تبوك حضروا عنده وطلبوا منه العفو عن

٢٤٥

تقصيرهم ، إلّا أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكلمهم حتى بكلمة واحدة ، وأمر المسلمين أيضا أن لا يكلموهم.

لقد عاش هؤلاء محاصرة اجتماعية عجيبة وشديدة ، حتى أنّ أطفالهم ونساءهم أتوا إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وطلبوا الإذن منه في أن يفارقوا هؤلاء إلّا أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يأذن لهم بالمفارقة ، لكنّه أمرهم أن لا يقتربوا منهم.

إنّ فضاء المدينة بوسعته قد ضاق على هؤلاء النفر ، واضطروا للتخلص من هذا الذل والفضيحة الكبيرة إلى ترك المدينة والالتجاء إلى قمم الجبال.

ومن المسائل التي أثرت تأثيرا روحيا شديدا ، وأوجدت صدمة نفسية عنيفة لدى هؤلاء ما رواه كعب بن مالك قال : كنت يوما جالسا في سوق المدينة وأنا مغموم ، فتوجه نحوي رجل مسيحي شامي ، فلمّا عرفني سلمني رسالة من ملك الغساسنة كتب فيها : إذا كان صاحبك قد طردك وأبعدك فالتحق بنا ، فتغير حالي وقلت : الويل لي ، لقد وصل أمري إلى أن يطمع بي العدو!

خلاصة الأمر : إنّ عوائل هؤلاء وأصدقاءهم كانوا يأتونهم بالطعام ، إلّا أنّهم لا يكلمونهم قط ، ومضت مدّة على هذه الحال وهم يتجرعون ألم الانتظار والترقب في أن تنزل آية تبشرهم بقبول توبتهم ، لكن دون جدوى في هذه الأثناء خطرت على ذهن أحدهم فكرة وقال : إذا كان الناس قد قطعوا علاقتهم بنا واعتزلونا ، فلما ذا لا يعتزل كل منا صاحبه ، صحيح أنّنا مذنبون جميعا ، لكن يحب أن لا يفرح أحدنا لذنب الآخر. وبالفعل اعتزل بعضهم بعضا ، ولم بتكلموا بكلمة واحدة ، ولم يجتمع اثنان منهم في مكان. وأخيرا وبعد خمسين يوما من التوبة والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى قبلت توبتهم ونزلت الآية في ذلك(1) .

__________________

(1) مجمع البيان ، وسفينة البحار ، وتفسير أبي الفتوح الرازي.

٢٤٦

التّفسير

الحصار الاجتماعي للمذنبين :

تتحدّث هذه الآيات أيضا عن غزوة تبوك ، والمسائل والأحداث التي ترتبط بهذا الحدث الكبير ، وما جرى خلاله.

فتشير الآية الأولى إلى رحمة الله اللامتناهية التي شملت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمهاجرين والأنصار في اللحظات الحساسة ، وتقول :( لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ ) .

ثمّ تبيّن أن شمول هذه الرحمة الإلهية لهم كان في وقت اشتدت فيه الحوادث والضغوط والاضطرابات إلى الحد الذي أوشكت أن تزل فيه أقدام بعض المسلمين عن جادة الصواب ، (وصمموا على الرجوع من تبوك) فتقول :( مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ) . ثمّ توكّد مرّة أخرى على أن الله سبحانه قد تاب عليهم ، فتقول :( ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ) .

ولم تشمل الرحمة الإلهية هذا القسم الكبير الذي شارك في الجهاد فقط ، بل شملت حتى الثلاثة الذين تخلفوا عن القتال ومشاركة المجاهدين في ساحة الجهاد :( وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ) .

إلّا أنّ اللطف الإلهي لم يشمل هؤلاء المتخلفين بهذه السهولة ، بل عند ما عاش هؤلاء ـ وهم كعب بن مالك ومرارة بن ربيع وهلال بن أمية ، الذين مر شرح حالهم في سبب النزول ـ مقاطعة اجتماعية شديدة ، وقاطعهم كل الناس بالصورة التي تصورها الآية ، فتقول :( حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ) .

بل إنّ صدور هؤلاء امتلأت همّا وغمّا بحيث ظنوا أن لا مكان لهم في الوجود ، فكأنّه ضاق عليهم( وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ ) فابتعد أحدهم عن الآخر وقطعوا العلاقة فيما بينهم.

عند ذلك رأوا كل الأبواب مغلقة بوجوههم. فأيقنوا( وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ

٢٤٧

إِلَّا إِلَيْهِ ) فأدركتهم رحمة الله مرّة أخرى ، وسهلت ويسرت عليهم أمر التوبة الحقيقية ، والرجوع إلى طريق الصواب ليتوبوا :( ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) .

* * *

بحوث

وهنا بحوث نلفت النظر إليها :

1 ـ المراد من توبة الله على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

قرأنا في الآية الأولى أن الله سبحانه قد تاب على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمهاجرين والأنصار ، وقبل توبتهم. ولا شك أنّ النّبي معصوم من الذنوب ، ولم يرتكب معصية ليتوب فيقبل الله توبته ، وإن كان بعض مفسّري العامّة قد اعتبروا التعبير في هذه الآية دليلا على صدور السهو والمعصية من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أحداث تبوك.

إلّا أنّ التدقيق في نفس هذه الآية وسائر آيات القرآن سيرشدنا إلى عدم صحة هذا التّفسير ، لأن :

أوّلا : إن معنى توبة الله سبحانه رجوعه بالرحمة والرعاية على عباده ، ولا يوجد في هذا المعنى أثر للزلل أو المعصية ، كما قال في سورة النساء بعد ذكر قسم من الأحكام:( يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) . ففي هذه الآية والتي قبلها لم يرد حديث عن الزلل والمعصية ، بل الكلام ـ عن تبيين الأحكام والإرشاد إلى سنن الماضين القيمة المفيدة ، وهذا بنفسه يوضح أن التوبة هنا بمعنى شمول رحمة الله سبحانه لعباده.

ثانيا : لقد ورد في كتب اللغة أن أحد معاني التوبة هو ما ذكرناه ، ففي كتاب (القاموس) المعروف ورد في أن هذا هو أحد معاني التوبة ما لفظة : رجع عليه بفضله

٢٤٨

وقبوله :

ثالثا : إنّ الآية تحصر الانحراف عن طريق الحق والتخلف عنه بجماعة من المؤمنين ، مع أنّها تصرح بأنّ الرحمة الإلهية تعم الجميع ، وهو بنفسه يبيّن أنّ توبة الله هنا ليست بمعنى قبول عذر العباد ، بل هي الرحمة الإلهية الخاصّة التي أدركت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكل المؤمنين بدون استثناء في اللحظات الحساسة ، وثبّتت أقدامهم في أمر الجهاد.

2 ـ غزوة تبوك وساعة العسرة

«السّاعة» من الناحية اللغوية بمعنى مقطع زمني ، سواء كان قصيرا أم طويلا ، ولا يقال للزمن الطويل جدا : ساعة. «والعسرة» بمعنى المشقة والصعوبة.

إن تاريخ الإسلام يبيّن أنّ المسلمين لم يعانوا مثل ما عانوه في غزوة تبوك من الضغوط والمشقة ، لأنّ المسير إلى تبوك كان في وقت اشتداد حر الصيف من جهة.

ومن جهة أخرى فإنّ القحط قد أثّر في الناس وأنهك قواهم.

وكذلك فإنّ الفصل كان فصل اقتطاف الثمار ، ولا بدّ من جمع ما على الأشجار والنخيل لتأمين قوت سنتهم.

وإذا تجاوزنا جميع ذلك ، فإنّ المسافة بين المدينة وتبوك طويلة جدا.

والعدو الذي كانوا يريدون مواجهته هو إمبراطورية الروم الشرقية ، التي كانت يومها من أقوى الامبراطوريات العالمية.

إضافة إلى ما مرّ ، فإنّ وسائل النقل بين المسلمين كانت قليلة إلى الحد الذي قد يضطر أحيانا عشرة أشخاص إلى أن يتناوبوا ركوب وسيلة واحدة ، وبعض المشاة لم يكونوا يمتلكون حتى النعل ، وكانوا مضطرين إلى العبور على رمال الصحراء الحارقة بأقدام عارية

أمّا من ناحية الطعام والشراب ، فإنّهم كانوا يعانون من قلّة المواد الغذائية.

٢٤٩

بحيث أنّ عدّة أشخاص يشتركون في تمرة واحدة أحيانا ، فيمص كل منهم التمرة ويعطيها لصاحبه حتى لا يبقى منها إلى النواة وكان عدّة أفراد يشتركون في جرعة ماء!!

لكن ، ورغم كل هذه الأوضاع ، فإنّ المسلمين كانوا يتمتعون بمعنويات عالية وراسخة، وبالرغم من كل المشكلات ، فإنّهم توجهوا برفقة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نحو العدو ، وبهذه الاستقامة والرجولة فإنّهم سجلوا للمسلمين. وفي كل العصور والقرون ، درسا كبيرا خالدا في ذاكرة الزمن درسا كافيا لكل الأجيال ، وطريقا للانتصار على أكبر الأعداء وأخطرهم وأكثرهم عدّة ولا شك أنّ بين المسلمين من كان يمتلك معنويات أضعف ، وهم الذين دارت في رؤوسهم فكرة الرجوع والذين عبّر عنهم القرآن الكريم ب( مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ) لأنّ (يزيغ) مأخوذة من (زيغ) بمعنى الميل والانحراف عن الحق نحو الباطل.

لكن ، وكما رأينا ، فإنّ المعنويات العالية للأكثرية من المسلمين ، ولطف الله سبحانه بهم ، هو الذي صرف هؤلاء عن هذه الفكرة ، ليلتحقوا بجماعة المجاهدين في طريق الحق.

3 ـ ما هو معنى( خُلِّفُوا ) ؟

لقد عبرت الآيات عن هؤلاء الثلاثة المقصرين المهملين ب (خلّفوا) بمعنى الذين تركهم الجيش وراء ظهره ، وذلك لأن المسلمين عند ما كانوا يصادفون من يتخاذل ويكسل عن الجهاد ، فإنّهم لا يعبؤون به ، بل يتركونه وراء ظهورهم ويتوجهون إلى جبهات الجهاد.

أو لأنّ هؤلاء عند ما حضروا عند النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليعتذروا ويطلبوا الصفح عن ذنبهم لم يقبل عذرهم ، وأخّر قبول توبتهم.

٢٥٠

4 ـ درس كبير دائمي

من المسائل المهمّة التي تستفاد من هذه الآيات ، مسألة مجازاة المجرمين والفاسدين عن طريق الحصار الاجتماعي وقطع الروابط والعلاقات ، فنحن نرى أن قطع الروابط هذا قد وضع هؤلاء الثلاثة في شدة كانت أصعب عليهم من كل السجون بحيث ضاقت عليهم الدنيا تحت وطأت الحصار الاجتماعي وقطعوا الأمل من كل شيء.

إنّ هذا الأسلوب قد أثر في المجتمع الإسلامي آنذاك تأثيرا قويا جدّا ، بحيث قلّ بعد هذه الحادثة من يجرءوا أن يرتكبوا مثل هذه المعاصي.

إنّ هذا النوع من العقاب لا يحتاج إلى متاعب وميزانية السجون ، وليس فيه خاصية تربية الكسالى والأشرار كما هو حال السجون ، إلّا أنّ أثره أكبر وأشدّ من تأثير أي سجن ، فهو نوع من الإضراب والجهاد السلبي للمجتمع مقابل الأفراد الفاسدين ، فإنّ المسلمين إذا أقدموا على مثل هذه المجابهة في مقابل المتخلفين عن أداء الواجبات الاجتماعية الحساسة ، فإنّ النصر سيكون حليفهم قطعا ، وسيكون بامكانهم تطهير مجتمعهم بكل سهولة.

أمّا روح المجاملة والمساومة والاستسلام التي سرت اليوم ـ مع الأسف ـ في كثير من المجتمعات الإسلامية كمرض عضال ، فإنّها لا تمنع ولا تقف أمام أمثال هؤلاء المتخلفين ، بل وتشجعهم على أعمالهم القبيحة.

5 ـ غزوة تبوك ونتائجها

منطقة «تبوك» هي أبعد نقطة وصل إليها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غزواته ، وهذه الكلمة في الأصل اسم قلعة محكمة وعالية كانت في الشريط الحدودي بين الحجاز والشام ، ولذلك سمّيت تلك المنطقة بأرض تبوك.

إنّ انتشار الإسلام السريع في جزيرة العرب كان سببا في أن يدوي صوت

٢٥١

الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونداؤه في جميع الدول المجاورة للجزيرة العربية ، ولم يكن أحد يعير للحجاز أهمية لغاية ذلك اليوم ، فلما بزغ فجر الإسلام ، وظهرت قوّة جيش النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي وحّد الحجاز تحت راية واحدة ، خاف هؤلاء من عاقبة الأمر.

إنّ دولة الروم الشرقية المتاخمة للحجاز ، كانت تحتمل أن تكون من أوائل ضحايا تقدم الإسلام السريع ، لذلك فقد جهزت جيشا قوامه أربعون ألف مقاتل ، وكان مجهزا بالأسلحة الكافية التي كانت تمتلكها قوّة عظمى كإمبراطورية الروم ، واستقر الجيش في حدود الحجاز ، فوصل الخبر إلى مسامع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن طريق المسافرين ، فأراد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يلقن الروم وباقي جيرانه درسا يكون لهم عبرة.

فلم يتأخر عن إصدار أمره بالتهيؤ والاستعداد للجهاد ، وبعث الرسل الى المناطق الأخرى يبلّغون المسلمين بأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يمض زمن حتى اجتمع لديه ثلاثون ألفا لقتال الروميين ، وكان من بينهم عشرة آلاف راكب وعشرون ألف راجل.

كان الهواء شديد الحّر ، وقد فرغت المخازن من المواد الغذائية ، والمحصولات الزراعية لتلك السنة لم تحصد وتجمع بعد ، فكانت الحركة في مثل هذه الأوضاع بالنسبة للمسلمين صعبة جدّا ، إلّا أنّ أمر الله ورسوله يقضي بالمسير في ظل أصعب الظروف وطي الصحاري الواسعة والمليئة بالمخاطر بين المدينة وتبوك.

إنّ هذا الجيش نتيجة للمشاكل الكثيرة التي واجهها من الناحية الاقتصادية ، والمسير الطويل ، والرياح السموم المحرقة ، وعواصف الرمال الكاسحة ، وعدم امتلاك الوسائل الكافية للنقل ، قد عرف ب (جيش العسرة) ، ولكنّه تحمل جميع هذه المشاكل ، ووصل إلى أرض تبوك في غرة شعبان من السنة التاسعة للهجرة ، وكان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد خلف علياعليه‌السلام مكانه ، وهي الغزوة الوحيدة التي لم يشارك فيها أمير المؤمنينعليه‌السلام .

إن قيام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإقامة عليعليه‌السلام مكانه كان عملا ضروريا وفي محله ، فإنّه

٢٥٢

كان من المحتمل جدا أن يستفيد المتخلفون من المشركين أو المنافقين ـ الذي امتنعوا بحجج مختلفة عن الاشتراك في الجهاد ـ من غيبة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الطويلة ، ويجمعوا أفرادهم ويحملوا على المدينة ويقتلوا النساء والأطفال ويهدموا المدينة ، إلّا أنّ وجود عليعليه‌السلام كان سدّا منيعا في وجه مؤامراتهم وخططهم.

وعلى كل حال ، فإنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينما وصل إلى تبوك لم ير أثرا لجيوش الروم ، وربّما كان ذلك لأنّهم سمعوا بخبر توجه هذا الجيش الإسلامي العظيم ، وقد سمعوا من قبل بشجاعة واستبسال المسلمين العجيبة ، وما أبدوه من بلاء حسن في الحروب ، فرأوا أنّ الأصلح سحب قواتهم إلى داخل بلادهم ، وليبيّنوا أنّ خبر تجمع جيش الروم على الحدود ، ونيّته بالقيام بهجوم على المدينة ، شائعة لا أساس لها ، لأنّهم خافوا من التورط بمثل هذه الحرب الطاحنة دون مبررات منطقية ، فخافوا من ذلك.

إلّا أنّ حضور جنود الإسلام إلى ساحة تبوك بهذه السرعة قد أعطى لأعدائه عدة دروس :

أولا : إنّ هذا الموضوع أثبت أنّ المعنويات العالية والروح الجهادية لجنود الإسلام ، كانت قوية إلى الدرجة التي لا يخافون معها من الاشتباك مع أقوى جيش في ذلك الزمان.

ثانيا : إنّ الكثير من القبائل وأمراء أطراف تبوك أتوا إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمضوا عهودا بعدم التعرض للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومحاربته ، وبذلك فقد اطمأن المسلمون من هذه الناحية ، وأمنوا خطرهم.

ثالثا : إنّ إشعاع الإسلام وأمواجه قد نفذت إلى داخل حدود إمبراطورية الروم ، ودوّى صدى الإسلام في كل الأرجاء باعتباره أهم حوادث ذلك اليوم ، وهذا قد هيأ الأرضية الجيدة لتوجه الروميين نحو الإسلام والإيمان به.

رابعا : إنّ المسلمين بقطعهم هذا الطريق ، وتحملهم لهذه الصعاب ، قد عبّدوا

٢٥٣

الطريق لفتح الشام في المستقبل ، وقد اتضح للجميع بأن هذا الطريق سيقطع في النهاية.

وهكذا ، فإنّ هذه المعطيات الكبيرة تستحق كل هذه المشاق والتعبئة والزحف.

وعلى كل حال ، فإنّ النّبي على عادته ـ قد استشار جيشه في الاستمرار في التقدم أو الرجوع ، وكان رأي الأكثر بأنّ الرجوع هو الأفضل والأنسب لروح التعليمات الإسلامية ، خاصّة وأن جيوش المسلمين كانت قد تعبت نتيجة المعاناة الكبيرة في الطريق ، وضعفت مقاومتهم الجسمية ، فأقر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا الرأي ورد جيوش المسلمين إلى المدينة.

* * *

٢٥٤

الآية

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) )

التّفسير

كونوا مع الصّادقين :

في الآيات السابقة كان الحديث حول جماعة من المتخلفين الذين نقضوا عهدهم مع الله ورسوله ، وأظهروا عمليا تكذيبهم للإيمان بالله واليوم الآخر ، ورأينا كيف أنّ المسلمين قد أرجعوهم إلى حظيرة الإيمان بمقاطعتهم ، ونبّهوههم على خطئهم.

أمّا هذه الآية فقد أشارت إلى النقطة المقابلة لهؤلاء ، فهي تأمر بتحكيم الروابط مع الصادقين الذين حافظوا على عهدهم وثبتوا عليه.

في البداية تقول الآية :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ ) ولأجل أن يستطيعوا سلوك طريق التقوى المليء بالمنعطفات والاخطار بدون اشتباه وانحراف أضافت :( وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) .

وقد احتمل المفسّرون احتمالات مختلفة في المقصود من الصادقين ، ومن هم؟إلّا أنّنا إذا أردنا اختصار الطريق ، يجب أن نرجع إلى القرآن الكريم نفسه الذي فسّر معنى الصادقين في آيات متعددة.

٢٥٥

فنقرأ في سورة البقرة ، الآية (177) :( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) .

فنحن نرى في هذه الآية أنّها بعد نهي المسلمين عن البحث والمناقشة حول مسألة تغيير القبلة ، تفسر لهم حقيقة العمل الصالح والبر بأنّه الإيمان بالله ويوم القيامة والملائكة والكتب السماوية والأنبياء ، ثمّ الإنفاق في سبيل الله ومساعدة المحتاجين والمحرومين ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والوفاء بالعهد ، والاستقامة والصمود أمام المشاكل حين الجهاد ، وبعد ذكر كل هذه الصفات تقول : إنّ الذين يمتلكون هذه الصفات هم الصادقون وهم المتقون.

وعلى هذا ، فإنّ الصادق هو الذي يؤمن بكل المقدسات ، ثمّ يعمل بموجبها في جميع النواحي ، وفي الآية (15) من سورة الحجرات نقرا :( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) فإنّ هذه الآية أيضا تعرّف الصدق بأنّه مجموع الإيمان والعمل الذي لا تشوبه أية شائبة من التردد أو المخالفة.

ونقرا في الآية (8) من سورة الحشر :( لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) فهذه الآية عرّفت الصادقين بأنّهم المؤمنون المحرومون الذين استقاموا وثبتوا رغم كل المشاكل ، وأخرجوا من ديارهم وأموالهم ، ولم يكن لهم هدف وغاية سوى رضى الله ونصرة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

من مجموع هذه الآيات نحصل على نتيجة ، وهي أنّ الصادقين هم الذين

٢٥٦

يؤدون تعهداتهم أمام الإيمان بالله على أحسن وجه دون أي تردد أو تماهل ولا يخافون سيل المصاعب والعقبات ، بل يثبتون صدق إيمانهم بأنواع الفداء والتضحية.

ولا شك أنّ لهذه الصفات درجات ، فقد يكون البعض في قمتها ، وهم الذين نسمّيهم بالمعصومين ، والبعض في درجات أقل وأدنى منها.

هل المراد من الصّادقين هم المعصومون فقط؟

بالرغم من أنّ مفهوم الصادقين ـ كما ذكرنا سابقا ـ مفهوم واسع ، إلّا أنّ المستفاد من الرّوايات الكثيرة أنّ المراد من هذا المفهوم هنا هم المعصومون فقط.

يروي سليم بن قيس الهلالي : إنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام كان له يوما كلام مع جمع من المسلمين ، ومن جملة ما قال : «فأنشدكم الله أتعلمون أن الله أنزل :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) . فقال سلمان : يا رسول الله أعامّة هي أم خاصّة؟ قال: أمّا المأمورون فالعامّة من المؤمنين أمروا بذلك ، وأمّا الصادقون فخاصّة لأخي علي والأوصياء من بعده إلى يوم القيامة»؟ قالوا : اللهم نعم(1) .

ويروي نافع عن عبد الله بن عمر : إنّ الله سبحانه أمر أوّلا المسلمين أن يخافوا الله ثمّ قال :( كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) يعني مع محمّد وأهل بيته(2) .

وبالرغم من أنّ بعض مفسّري أهل السنة ـ كصاحب المنار ـ قد نقلوا ذيل الرّواية أعلاه هكذا : مع محمّد وأصحابه ، ولكن مع ملاحظة أن مفهوم الآية عام وشامل لكل زمان ، وصحابة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا في زمن خاص ، تبيّن لنا أنّ العبارة التي وردت في كتب الشيعة عن عبد الله بن عمر هي الأصح.

ونقل صاحب تفسير البرهان نظير هذا المضمون عن طرق العامّة ، وقال : إنّ

__________________

(1) تفسير البرهان ، ج 2 ، ص 170.

(2) المصدر السّابق.

٢٥٧

موفق بن أحمد بإسناده عن ابن عباس ، يروي في ذيل هذه الآية : هو علي بن أبي طالب. ثمّ يقول : أورد ذلك أيضا عبد الرزاق في كتاب رموز الكنوز(1) .

أمّا المطلب الأهم ، فهو أنّ الآية تأمر أوّلا بالتقوى ، ثمّ بالكون مع الصادقين ، فلو أنّ مفهوم الصادقين في الآية عامّا وشاملا لكل المؤمنين الحقيقيين المستقيمين ، لكان اللازم أن يقال : وكونوا من الصادقين ، لا مع الصادقين. (فتأمل جيدا).

إنّ هذه بذاتها قرينة واضحة على أنّ (الصّادقين) في الآية هم فئة خاصّة.

ومن جهة أخرى ، فليس المراد من الكون معهم أن يكون الإنسان مجالسا ومعاشرا لهم، بل المراد قطعا هو اتباعهم والسير في خطاهم.

إذا كان الشخص غير معصوم هل يمكن صدور أمر بدون قيد أو شرط باتباعه والسير في ركابه؟ أليس هذا بنفسه دليلا على أن هذه الفئة والمجموعة هم المعصومون؟

وعلى هذا ، فإنّ ما استفدناه من الرّوايات يمكن استفادته من الآية إذا دققنا النظر فيها.

إن الملفت للنظر هنا ، أنّ المفسّر المعروف الفخر الرازي ، المعروف بتعصبه وتشكيكه، قد قبل هذه الحقيقة ـ وإن كان أغلب مفسّري السنة سكتوا عنها عند مرورهم بهذه الآية ـ ويقول : إنّ الله قد أمر المؤمنين بأن يكونوا مع الصادقين ، وعلى هذا فإنّ الآية تدل على أن من يجوز الخطأ عليهم يجب عليهم الاقتداء بالمعصوم حتى يبقوا مصونين عن الخطأ في ظلّه وعصمته ، وسيكون هذا الأمر في كل زمان ، ولا نملك أي دليل على اختصاص ذلك بعصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

إلّا أنّه يضيف بعد ذلك : إنّنا نقبل أنّ مفهوم الآية هو هذا ، ويجب أن يوجد معصوم في كل وقت ، إلّا أنّنا نرى أن هذا المعصوم هو جميع الأمّة ، لا أنّه فرد

__________________

(1) تفسير البرهان ، ج 2 ، ص 170.

٢٥٨

واحد! وبتعبير آخر : إنّ هذه الآية دليل على حجية إجماع المؤمنين ، وعدم خطأ مجموع الأمّة(1) .

وبهذا الترتيب ، فإنّ الرازي قد طوى نصف الطريق جيدا ، إلّا أنّه زاغ في النصف الثّاني ، ولو أنّه التفت إلى النكتة التي وردت في متن الآية لأكمل النصف الثّاني أيضا بسلامة ، وهي أنّه لو كان المقصود من الصادقين مجموع الأمّة ، فإنّ الأتباع سيكونون جزء من ذلك المجموع وهو في الواقع اتباع الجزء للقدوة والإمام ، وسيعني ذلك اتحاد التابع والمتبوع، في حين نرى أنّ ظاهر الآية هو أن القدوة غير المقتدي ، والتابعين غير المتبوعين ، بل يفترقون عنهم. (دققوا ذلك).

ونتيجة ذلك : إنّ هذه الآية من الآيات التي تدل على وجود المعصوم في كل عصر وزمان.

ويبقى سؤال أخير ، وهو أنّ الصادقين جمع ، وهل يجب على هذا الأساس أن يكون في كل زمان معصومون متعددون؟

والجواب على هذا السؤال واضح أيضا ، وهو أنّ الخطاب ليس مختصا بأهل زمن وعصر معين ، بل إنّ الآية تخاطب كل العصور والقرون ، ومن البديهي أن المخاطبين على مر العصور لا بد وأن سيكونوا مع جمع من الصادقين. وبتعبير آخر ، فإنّه لما كان في كل زمان معصوم ، فإنّنا إذا أخذنا كل القرون والعصور بنظر الإعتبار ، فإنّ الكلام سيكون عن جمع المعصومين لا عن شخص واحد.

والشاهد الناطق على هذا الموضوع هو أنّه لا يوجد في زمن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحد تجب طاعته غير شخص النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي الوقت نفسه فإنّ من المسلّم أنّ الآية تشمل المؤمنين في زمانه ، وعلى هذا الأساس سنفهم أن الجمع الوارد في الآية لا يراد منه الجمع في زمان واحد، بل هو في مجموعة الأزمنة.

* * *

__________________

(1) تفسير الفخر الرازي ، ج 16 ، ص 220 ـ 221.

٢٥٩

الآيتان

( ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (121) )

التّفسير

معاناة المجاهدين لا تبقى بدون ثواب :

كان البحث في الآيات السابقة حول توبيخ وملامة الممتنعين عن الاشتراك في غزوة تبوك ، وتبحث هاتان الآيتان البحث النهائي لهذا الموضوع كقانون كلّي.

فالآية الأولى تقول :( ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ) لأنّه قائد الأمّة ، ورسول الله ، ورمز

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466