نهاية الحكمة

نهاية الحكمة0%

نهاية الحكمة مؤلف:
تصنيف: مكتبة الفلسفة والعرفان
الصفحات: 437

نهاية الحكمة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف:

الصفحات: 437
المشاهدات: 169020
تحميل: 6835

توضيحات:

نهاية الحكمة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 437 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 169020 / تحميل: 6835
الحجم الحجم الحجم
نهاية الحكمة

نهاية الحكمة

مؤلف:
العربية

وأمّا عدّ علْم الشيء بنفسه من اتّحاد العالم والمعلوم فهو باعتبار انتزاع مفهوميَ العالم والمعلوم منه وهما مفهومان متغايران ، فسُمّي ذلك «إتّحاداً» وإن كان في نفسه واحداً.

وبما تقدّم يظهر فساد الإعتراض بلزوم كون جميع المجرّدات شخصاً واحداً لما ظهر أنّ شخصيّة العالم أو المعلوم لا تبطل بسبب الاتّحاد المذكور.

الفصل الثالث

في انقسام العلم الحصوليّ إلى كلّيّ وجزئيّ وما يتّصل به

ينقسم العلم الحصوليّ إلى كلّيّ وجزئيّ.

والكلّيّ ما لا يمتنع العقل من فَرْضِ صدقه على كثيرين ، كالإنسان المعقول ، حيث يجوّز العقلُ صدقَهُ على كثيرين في الخارج.

والجزئي ما يمتنع العقل من تجويز صدْقِهِ على كثيرين ، كالعلم بهذا الإنسان الحاصل بنوع من الاتّصال بمادّته الحاضرة ويسمّى «علماً حسّيّاً وإحساسيّاً» ، وكالعلم بالإنسان المفرد من غير حضور مادّته ويسمّى «علماً خياليّاً».

وعَدُّ هذين القسمين من العلْم جزئيّاً ممتنعَ الصدق على كثيرين إنّما هو من جهة اتّصال أدوات الحسّ بمادّة المعلوم الخارجيّ في العلم الحسّيّ وتوقُّفِ العلْم الخياليّ على سبق العلم الحسّيّ ، وإلاّ فالصورة العلميّة سواء كانت حسيّة أو خياليّة أو غيرهما لا تأبى بالنظر إلى نفسها أن تصدق على كثيرين.

فروع :

الأوّل : ظهر ممّا تقدم أنّ اتّصال أدوات الحسّ بالمادّة الخارجيّة وما في ذلك من الفعل والإنفعال المادّيَيْن لحصول الإستعداد للنفس لإدراك صورة المعلوم جزئيّة أو كلّيّة.

٣٠١

ويظهر منه أنّ قولهم : «إنّ التعقّل إنمّا هو بتقشير المعلوم عن المادّة وسائر الأعراض المشخّصة المكتنفة بالمعلوم حتّى لا يبقى إلاّ الماهيّة المعرّاة من القشور ، بخلاف الإحساس المشروط بحضور المادّة واكتناف الأعراض المشخّصة ، وبخلاف التخيّل المشروط ببقاء الأعراض والهيئات المشخّصة دون حضور المادّة»(1) ، قولٌ على سبيل التمثيل للتقريب.

وحقيقة الأمر أنّ الصورة المحسوسة بالذات صورةٌ مجرّدةٌ علميّةٌ ، واشتراط حضور المادّة واكتناف الأعراض المشخّصة لحصول الإستعداد في النفس للإدراك الحسّيّ ، وكذا اشتراط الاكتناف بالمشخّصات للتخيّل ، وكذا اشتراط التقشير في التعّقل للدلالة على اشتراط إدراك أكثر من فرد واحد لحصول استعداد النفس لتعقّل الماهيّة الكلّيّة المعبّر عنه بانتزاع الكلّيّ من الأفراد.

الثاني : أنّ أخْذَ المفهوم وانتزاعه من مصداقه يتوقّف على نوع من الاتّصال بالمصداق والارتباط بالخارج ، سواء كان بلا واسطة كاتّصال أدوات الحسّ في العلم الحسيّ بالخارج ، أو مع الواسطة كاتّصال الخيال في العلم الخياليّ بواسطة الحسّ بالخارج ، وكاتّصال العقل في العلم العقليّ من طريق إدراك الجزئيّات بالحسّ والخيال بالخارج.

فلو لم تستمدّ القوّة المدركة في إدراك مفهوم من المفاهيم من الخارج وكان الإدراك بانشاء منها من غير إرتباط بالخارج استوت نسبة الصورة المدركة إلى مصداقها وغيره ، فكان من الواجب أن تصدق على كلّ شيء أو لا تصدق على شيء أصلا ، والحال أنّها تصدق على مصداقها دون غيره ، وهذا خلف.

فإن قلت : انتهاء أكثر العلوم الحصوليّة إلى الحسّ لا ريب فيه ، لكن ما كلُّ عِلم حصوليٍّ حاصلا بواسطة الحسّ الظاهر ، كالحبّ والبغض والإرادة والكراهة

__________________

(1) راجع الأسفار ج 3 ص 360 ـ 361 ، والتحصيل ص 745 ـ 746 ، وشرح الإشارات ج 2 ص 322 ـ 324 ، وشرح المقاصد ج 1 ص 229 ، والمبدأ والمعادللشيخ الرئيسص 102 ـ 103. وفي الجميع زادوا نوعاً آخر من العلم الحصولي غير الحسيّ والعقلي والخيالي ، وهو الوهميّ.

٣٠٢

وغيرها المدركة بالحواسّ الباطنة ، فصورها الذهنيّه مُدرَكة لا بالاتّصال بالخارج. وأيضاً لا تدرك الحواسّ إلاّ الماهيّات العرضيّة ، ولا حسَّ ينال الجوهر بما هو جوهر ، فصورته الذهنيّة مأخوذة لا من طريق الحسّ واتّصاله بالخارج.

قلت : أمّا الصور الذهنيّة المأخوذة بالإحساسات الباطنة ـ كالحبّ والبغض وغيرهما ـ فالنفس تأخذها ممّا تدركه من الصفات المذكورة بوجودها الخارجيّ في النفس ، فالاتّصال بالخارج محفوظ فيها.

وأمّا الجوهر ، فما ذُكِرَ أن لا حسَّ ظاهراً ولا باطناً يعرف الجوهر ويناله ، حقٌّ لا ريب فيه ، لكن للنفس في بادىء أمرها عِلْمٌ حضوريٌّ بنفسها تنال به نفس وجودها الخارجيّ وتشاهده ، فتأخذ من معلومها الحضوريّ صورةً ذهنيّةً ، كما تأخذ سائر الصور الذهنيّة من معلومات حضوريّة على ما تقدّم ، ثمّ تحسّ بالصفات والأعراض القائمة بالنفس وتشاهد حاجتها بالذات إلى النفس الموضوعة لها وقيام النفس بذاتها من غير حاجة إلى شيء تقوم به ، ثمّ تجد صفات عرضيّة تهجم عليها وتطرؤها من خارج فتنفعل عنها ، وهي ترى أنّها أمثال الأعراض المعلولة للنفس القائمة بها وحكم الأمثال واحدٌ ، فتحكم بأنّ لها موضوعاً هي قائمة به ، كما أنّ النفس موضوعة لصفاتها العرضيّة ، فيتحصّل بذلك مفهوم الجوهر ، وهو أنّه ماهيّة إذا وجدَتْ وجدَتْ لا في موضوع.

الثالث : أنّه تبيّن بما تقدّم أنّ الوجود ينقسم من حيث التجرّد عن المادّة وعدمه إلى ثلاثه عوالم كلّيّة : أحدها : عالم المادّة والقوّة.

وثانيها : عالم التجرّد عن المادّة دون آثارها من الشكل والمقدار والوضع وغيرها ، ففيه الصور الجسمانيّة وأعراضها وهيئات الكماليّة من غير مادّة تحمل القوّة ، ويسمّى «عالم المثال» و «عالم البرزخ» ، لتوسُّطِهِ بين عالمَيِ المادّة والتجرّد العقليّ.

وقد قسموا عالم المثال إلى المثال الأعظم القائم بنفسه ، والمثال الأصغر القائم بالنفس الذي تتصرّف فيه النفس كيف تشاء بحسب الدواعي المختلفة ،

٣٠٣

فتنشىء أحياناً صوراً حقّةً صالحةً وأحياناً صوراً جزافيّةً تعبث بها.

وثالثها : عالم التجرّد عن المادّة وآثارها ، ويسمّى «عالم العقل».

والعوالم الثلاثة مترتّبة طولا ، فأعلاها مرتبةً وأقواها ظهوراً وأقدمها وجوداً وأقربها من المبدأ الأوّل (تعالى وتقدّس) عالم العقول المجرّدة ، لتمام فعليّتها وتنزُّهِ وجودها عن شوب المادّة والقوّة ، ويليه عالم المثال المتنزّه عن المادّة دون آثارها ، ويليه عالم المادّة موطن النقص والشرّ والامكان ، ولا يتعلّق بما فيه العلم إلاّ من جهة ما يحاذيه من المثال والعقل على ما تقدّمت الإشارة إليه(1)

الفصل الرابع

ينقسم العلم الحصوليّ إلى كلّيّ وجزئيّ بمعنى آخر

فالكلّيّ هو العلم الذي لا يتغيّر بتغيّر المعلوم الخارجيّ ، كصورة البناء التي يتصوّرها البنّاء فيبني عليها ، فإنّها على حالها قبل البناء ومع البناء وبعد البناء وإن انعدم ، ويسمّى «علم ما قبل الكثرة».

والعلم من طريق العلل كلّيٌّ من هذا القبيل ، كعلم المنجّم بأنّ القمر منخسف يوم كذا ساعة كذا إلى ساعة كذا يرجع فيه الوضع السماويّ بحيث يوجب حيلولة الأرض بين القمر والشمس ، فعلمه بذلك على حاله قبلَ الخسوف ومعه وبعدَه.

والوجه فيه أنّ العلّة التامّة في علّيّتها لا تتغيّر عمّا هي عليه ، ولمّا كان العلم بها مطابقاً للمعلوم فصورتها العلميّة غير متغيّرة ، وكذلك العلم بمعلولها لا يتغيّر ، فهو كلّيٌّ ثابت.

ومن هنا يظهر أنّ العلم الحسّيّ لا يكون كلّيّاً ، لكون المحسوسات متغيّرة.

والجزئيّ هو العلم الذي يتغيّر بتغيّر المعلوم الخارجيّ ، كعِلْمنا من طريق الرؤية بحركة زيد ما دام يتحرّك ، فإذا وقف عن الحركة تغيَّر العلم ، ويسمّى «علم ما بعد الكثرة».

__________________

(1) في السطور السابقة آنفاً.

٣٠٤

فإن قيل : تغيُّر العلم ـ كما اعترفتم به في القسم الثاني ـ دليلُ كونه مادّياً ، فإنّ التغيّر وهو الانتقال من حال إلى حال ـ لازمُهُ القوّة ، ولازِمُها المادّة ، وقد قلتم : «إنّ العلم بجميع أقسامه مجرّد».

قلنا (1) : العلم بالتغيّر غير تغيُّرِ العلم ، والتغيّر ثابت في تغيّره لا متغيّر ، وتعلُّقُ العلم بالمتغيّر ـ أي حضوره عند العالم ـ أنّما هو من حيث ثباته ، لا تغيُّره ، وإلاّ لم يكن حاضراً فلم يكن حضور شيء لشيء ، وهذا خلف.

تنبيهٌ :

يمكن أن يعمّم التقسيم بحيث يشمل العلم الحضوريّ؛ فالعلم الكلّيّ كعلم العلّة بمعلولها من ذاتها الواجدة في ذاتها كمالَ المعلول بنحو أعلى وأشرف ، فإنّه لا يتغيّر بزوال المعلول لو جاز عليه الزوال؛ والعلم الجزئيّ كعلم العلّة بمعلولها الداثر الذي هو عين المعلول ، فإنّه يزول بزوال المعلول.

الفصل الخامس

في أنواع التعقّل

ذكروا أنّ العقل على ثلاثة أنواع(2) :

أحدها : أن يكون عقلا بالقوّة ، أي لا يكون شيئاً من المعقولات بالفعل ولا له شيءٌ من المعقولات بالفعل ، لخلّوه عن عامّة المعقولات.

الثاني : أن يعقل معقولا واحداً أو معقولات كثيرة بالفعل ، مميّزاً بعضها من بعض ، مرتّباً لها ، وهو العقل التفصيليّ.

الثالث : أن يعقل معقولات كثيرة عقلا بالفعل من غير أن يتميّز بعضها من

__________________

(1) ولمزيد التوضيح راجع تعليقة المصنّف (رحمه الله) على الأسفار ج 3 ص 408.

(2) راجع الفصل السادس من المقالة الخامسة من الفن السادس من طبيعيات الشفاء ، والتحصيل ص 812 ـ 814. وتعرّض لها أيضاً الفخر الرازيّ ثمّ ناقش في القسم الأخير ، راجع المباحث المشرقيّة ج 1 ص 335 ـ 337.

٣٠٥

بعض ، وإنمّا هو عقلٌ بسيط إجماليٌّ فيه كلّ التفاصيل. ومثّلوا له بما إذا سألك سائل عن عدّة من المسائل التي لك بها عِلْمٌ فحضرك الجواب في الوقت وأنت في أوّل لحظة تأخذ في الجواب تعلم بها جميعاً علْماً يقينيّاً بالفعل ، لكن لا تميُّزَ لبعضها من بعض ولا تفصيل. وإنّما يحصل التميّز والتفصيل بالجواب ، كأنّ ما عندك من بسيط العلم منبَعٌ تنبع وتجري منه التفاصيل ، ويسمّى «عقلا إجماليّاً».

والذي ذكروه من التقسيم إنّما أوردوه تقسيماً للعلم الحصوليّ.

وإذ قد عرفت فيما تقدّم(1) أنّ كلّ علم حصوليّ ينتهي إلى علم حضوريّ كان من الواجب أن تتلقّي البحث بحيث ينطبق على العلم الحضوريّ ، فلا تغفل.

وكذا فيما يتلو هذا البحث من مباحث العلم الحصوليّ.

الفصل السادس

في مراتب العقل

ذكروا أنّ مراتب العقل أربع(2) :

إحداها : العقل الهيولانيّ ، وهي مرتبةُ كَوْنِ النفس خاليةً عن جميع المعقولات.

وتسمّى «العقل الهيولانيّ» ، لشباهتها الهيولى الأولى في خلوّها عن جميع الفعليّات.

وثانيتها : العقل بالملكة ، وهي مرتبةُ تعقُّلِها للبديهيّات من تصوّر أو تصديق ، فإنّ العلوم البديهيّة أقدم العلوم ، لتوقّف العلوم النظريّة عليها.

وثالثتها : العقل بالفعل ، وهي مرتبةُ تعقُّلِها للنظريّات باستنتاجها من البديهيّات.

ورابعتها : تعقُّلها لجميع ما حصّلَتْه من المعقولات البديهيّة أو النظريّة المطابقة

__________________

(1) راجع الفصل الأوّل من هذه المرحلة.

(2) راجع النجاة ص 165 ـ 166 ، والأسفار ج 3 ص 418 ـ 423 ، والفصل الخامس من المقالة الاُولى من إلهيّات الشفاء ، والتحصيل ص 815 ـ 817 ، وشرح الإشارات ج 2 ص 353 ـ 357.

٣٠٦

لحقايق العالم العلويّ والسفليّ ، باستحضارها الجميعَ وتوجّهها إليها من غير شاغل مادّيّ ، فتكون عالماً علميّاً مضاهياً للعالم العينيّ ، وتسمّى «العقلَ المستفاد».

الفصل السابع

في مفيض هذه الصور العلميّة

مفيض الصور العقليّة الكلّيّة جوهرٌ عقليٌّ مفارقٌ للمادّة ، عنده جميع الصور العقليّة الكلّيّة(1) .

وذلك لما تقدّم(2) أنّ هذه الصور العلميّة مجردّةٌ من المادّة مفاضةٌ للنفس ، فلها مفيضٌ ، ومفيضها إمّا هو النفس تفعلها وتقبلها معاً ، وإمّا أمرٌ خارج مادّيّ أو مجرّد؛ أمّا كون النفس هي المفيضة لها الفاعلة لها فمحالٌ ، لا ستلزامه كونَ الشيء الواحد فاعلا وقابلا معاً ، وقد تقدّم بطلانه(3) ؛ وأمّا كون المفيض أمراً مادّياً فيبطله أنّ الماديّ أضعف وجوداً من المجرّد فيمتنع أن يكون فاعلا لها ، والفاعل أقوى وجوداً من الفعل؛ على أنّ فعل العلل الماديّة مشروطٌ بالوضع ، ولا وضعَ لمجرّد؛ فتعينّ أنّ المفيض لهذه الصور العقليّة جوهرٌ مجرّدٌ عقليٌّ هو أقرب العقول المجرّدة من الجوهر المستفيض فيه جميع الصور العقليّة المعقولة عقلا إجماليّاً تتّحد معه النفس المستعدّة للتعقّل على قدر استعدادها ، فتستفيض منه ما تستعدّ له من الصور العقليّة.

فإنقلت : هب أنّ الصور العلميّة الكلّيّة بإفاضة الجوهر المفارق ـ لما تقدّم من البرهان ـ لكن ما هو السبب لنسبة الجميع إلى عقل واحد شخصيٍّ؟ هلاّ أسندوها إلى عقول كثيرة مختلفة الماهيّات بنسبة كلِّ واحد من الصور إلى جوهر مفارق غير ما ينسب إليه ، أو بنسبة كلّ فريق من الصور إلى عقل غير ما ينسب إليه فريق آخر؟

__________________

(1) فهذا الجوهر العقليّ المفارق أوّلُ ما يصدر من الله تعالى. والمناهج المذكورة لإثباته كثيرةٌ تعرّض لها صدر المتألّهين في الأسفار ج 7 ص 262 ـ 281.

(2) في الفصل الأوّل من هذه المرحلة.

(3) راجع الفصل العاشر من المرحلة الثامنة.

٣٠٧

قلت : الوجه في ذلك ما تقدّم في الأبحاث السابقة(1) أنّ كلَّ نوع مجردٍّ منحصرٌ في فرد؛ ولازِمُ ذلك أنّ سلسلة العقول التي يثبتها البرهان ويثبت إستناد وجود المادّيّات والآثار المادّيّة إليها ، كلُّ واحد من حلقاتها نوعٌ منحصرٌ في فرد ، وأنّ كثرتها كثرةٌ طوليّةٌ مترتّبةٌ منتظمةٌ من عِلَل فاعلة آخذة من أوّل ما صدر منها من المبدأ الأولّ إلى أن ينتهى إلى أقرب العقول من المادّيّات والآثار المادّيّة؛ فتعيّن إستناد المادّيّات والآثار المادّيّة إلى ما هو أقرب العقول إليها ، وهو الذي يسمّيه المشّاؤون بـ «العقل الفعّال»(2) .

نعم ، الإشراقيّون منهم(3) أثبتوا وراءَ العقول الطوليّة ودونُها عقولا عرضيّةً هي أرباب الأنواع المادّيّة ، لكنّهم يرون وجودَ كلّ نوع بأفرادها المادّيّة وكمالاتها مستنداً إلى ربّ ذلك النوع ومثاله(4) .

ونظير البيان السابق الجاري في الصور العلميّة الكلّيّة يجري في الصور العلميّة الجزئيّة ، ويتبيّن به أنّ مفيض الصور العلميّة الجزئيّة جوهرٌ مفارقٌ مثاليٌّ ، فيه(5) جميع الصور الجزئيّة على نحو العلم الإجماليّ ، تتّحد به النفس على قدر ما لها من الإستعداد ، فيفيض عليها الصور المناسبة.

الفصل الثامن

ينقسم العلم الحصولي إلى تصوّر وتصديق

فإنّه إمّا صورة ذهنيّة حاصلة من معلوم واحد من غير إيجاب أو سلب كالعلم

__________________

(1) راجع الفصل السابع من المرحلة الخامسة.

(2) راجع الفصل الخامس من المقالة الخامسة من الفن السادس من طبيعيات الشفاء ، والفصل الرابع والفصل الخامس من المقالة التاسعة من إلهيات الشفاء ، والمباحث المشرقيّة ج 2 ص 501 ـ 515 ، والتعليقات للشيخ الرئيس ص 100 ـ 101 ، والنجاة ص 273 ـ 278 ، والأسفار ج 7 ص 258 ـ 281.

(3) أي الإشراقيّون من الفلاسفة.

(4) راجع المطارحات ص 455 ـ 459 ، وحكمة الإشراق ص 143 ـ 144 ، وشرح حكمة الإشراق ص 251 ـ 254.

(5) أي في هذا الجوهر المفارق المثاليّ.

٣٠٨

بالإنسان ومقدّم الشرطيّة ، ويسمّى «تصورّاً» ؛ وإمّا صورة ذهنيّة من علوم معها إيجاب أو سلب كالقضايا الحمليّة والشرطيّة ، ويسمّى «تصديقاً».

ثمّ إنّ القضيّة بما أنّها تشتمل على إيجاب أو سلب مركّبةٌ من أجزاء فوقَ الواحد.

والمشهور أنّ القضيّة الحمليّة الموجبة مؤلَّفةٌ من الموضوع والمحمول والنسبة الحكميّة التي هي نسبة المحمول إلى الموضوع والحكم بإتّحاد الموضوع مع المحمول. هذا في الهليّات المركّبة التي محمولاتها غير وجود الموضوع ، كقولنا : «الإنسان ضاحك». وأمّا الهليّات البسيطة التي المحمول فيها هو وجود الموضوع ، كقولنا : «الإنسان موجود» ، فهي مركّبة من أجزاء ثلاثة : الموضوع والمحمول والحكم ، إذ لا معنى لتخلّل النسبة ، وهي وجودٌ رابطٌ بين الشيء ووجوده الذي هو نفسه.

وأنّ القضيّه الحمليّة السالبة مؤلَّفةٌ من الموضوع والمحمول والنسبة الحكميّة السلبيّة ، ولا حكم فيها(1) ، لا أنّ فيها حكماً عدميّاً ، لأنّ الحكم جعْلُ شيء شيئاً وسلْبُ الحكم عدم جعْلِهِ ، لا جعْل عدمِهِ.

والحقّ أنّ الحاجة في القضيّة إلى تصوّر النسبة الحكميّة إنّما هي من جهة الحكم بما هو فعل النفس ، لا بما هو جزءٌ للقضيّة. فالنسبة الحكميّة على تقدير تحقّقها خارجةٌ عن القضيّة. وبتعبير آخر : إنّ القضيّة هي الموضوع والمحمول والحكم ، لكنّ النفس تتوصّل إلى الحكم ـ الذي هو جعْلُ الموضوع هو المحمول أوّلا بتصوّر المحمول منتسباً إلى الموضوع ـ ليتأتّى منها الحكم. ويدلّ على ذلك خلوّ الهليّات البسيطة عن النسبة الحكميّة ، وهي قضايا ، كما تقدّم(2) . فالقضيّة بما

__________________

(1) وفيه : أنّ القضيّة لا تتحقّق إلاّ بالحكم ، ولو قلنا بنفي الحكم في القضايا السالبة ، وقلنا أيضاً بأنّ النسبة الحكميّة خارجة عن القضيّة ـ كما قلتم به ـ فيلزم أن تكون القضيّة السالبة مركّبةً من جزئين المحمول والموضوع ، ولم يقل به أحد ، بل هذا حكمٌ بنفي كون القضيّة السالبة قضيّةً.

(2) في السطور السابقة.

٣٠٩

هي قضيّة لا تحتاج في تحقّقها إلى النسبة الحكميّة ، هذا.

وأمّا كون الحكم فعلا نفسانيّاً في ظرف الإدراك الذهنيّ فحقيقته في قولنا : «زيد قائم» ، مثلا ، أنّ النفس تنال من طريق الحسّ أمراً واحداً هو زيد القائم ، ثمّ تنال عمراً قائماً وتنال زيداً غير قائم ، فتستعدّ بذلك لتجزئة زيد القائم إلى مفهومَي : «زيد» و «القائم» ، فتجزىء وتخزنهما عندها. ثمّ إذا أرادتْ حكاية ما وجدَتْه في الخارج أخذَتْ زيداً والقائم المخزونين عندها وهما إثنان ، ثمّ جعلَتْهما واحداً. وهذا هو الحكم الذي ذكرنا أنّه فِعْلٌ ، أي جَعْلٌ وإيجادٌ منها ، تحكي به الخارج.

فالحكم فعْلٌ من النفس ، وهو مع ذلك من الصور الذهنيّة الحاكية لما وراءها. ولو كان تصوّراً مأخوذاً من الخارج لم تكن القضيّة مفيدة لصحّة السكوت ، كما في أحد جزئي الشرطيّة. ولو كان تصوّراً أنشأتْه النفس من عندها من غير استعانة واستمداد من الخارج لم يحك الخارج. وسيوافيك بعض ما يتعلّق بالمقام(1) .

وقد تبيّن بما مرّ أنّ كلّ تصديق يتوقّف على تصوّرات أكثر من واحد ، فلا تصديق إلاّ عن تصوّر.

الفصل التاسع

ينقسم العلم الحصولي إلى بديهيّ ونظري

البديهيّ ـ ويسمّى ضروريّاً أيضاً ـ ما لا يحتاج في حصوله إلى اكتساب ونظر ، كتصوّر مفهوم الوجود والشيء والوحدة ، والتصديق بأنّ الكلّ أعظم من جزئه ، وأنّ الأربعة زوج.

والنظريّ ما يحتاج ـ في تصوّره إن كان علماً تصورّيّاً ، أو في التصديق به إن كان علماً تصديقيّاً ـ إلى اكتساب ونظر ، كتصوّر ماهيّة الإنسان والفرس ، والتصديق بأنّ الزوايا الثلاث من المثلّث مساوية لقائمتيْن ، وأنّ الإنسان ذو نفس مجرّدة.

__________________

(1) راجع الفصل العاشر من هذه المرحلة.

٣١٠

وقد أنهَوا البديهيّات إلى ستّة أقسام ، هي المحسوسات والمتواترات والتجربيّات والفطريّات والوجدانيّات والأوّليّات على ما بيّنوه في المنطق(1) .

وأولى البديهيّات بالقبول الأوّليّات ، وهي القضايا التي يكفي في التصديق بها مجرّد تصوّر الموضوع والمحمول ، كقولنا : «الكلّ أعظم من جزئه» ، و «الشيء ثابت لنفسه».

أو المقدّم والتالي ، كقولنا : «العدد إمّا زوج وإمّا فرد».

وأولى الأوّليّات بالقبول قضيّةُ «إمتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما» التي يفصح عنه قولنا : «إمّا أن يصدق الإيجاب ويكذب السلب أو يصدق السلب ويكذب الإيجاب».

وهي منفصلة حقيقيّة لا تستغني عنها في إفادة العلم قضيّةٌ نظريّةٌ ولا بديهيّةٌ حتّى الأوّليّات ، فإنّ قولنا : «الكلّ أعظم من جزئه» مثلا ، إنّما يفيد العلم إذا منع النقيض وكان نقيضه كاذباً.

فهي أوّل قضيّة يتعلّق بها التصديق وإليها تنتهي جميع العلوم النظريّة والبديهيّة في قياس إستثنائيّ يتمّ به العلم.

فلو فرض فيها شكّ سرى ذلك في جميع القضايا وبطل العلم من أصله.

ويتفرّع على ذلك :

أوّلا : أنّ لنا في كلِّ قضيّة مفروضة قضيّةٌ حقّةٌ ، إمّا هي نفسها أو نقيضها.

وثانياً : أنّ نقيض الواحد واحد ، وأنّ لا واسطة بين النقيضين.

وثالثاً : أنّ التناقض بين التصوّرين مرجعه إلى التناقض بين التصديقين ، كالتناقض بين الإنسان واللاإنسان الراجعين إلى وجود الإنسان وعدمه الراجعين إلى قولنا : «الإنسان موجود ، وليس الإنسان بموجود».

__________________

(1) راجع شرح المنظومة (قسم المنطق) ص 88 ـ 91 ، وشرح حكمة الإشراق ص 118 ـ 123 ، وشرح الإشارات ج 1 ص 213 ـ 214 ، وشرح المطالع ص 333 ـ 334 ، واساس الإقتباس ص 345 ، والتحصيل ص 193 ، والفصل الرابع من المقالة الاُولى والفصل الخامس من المقالة الثالثة من الفن الخامس من منطق الشفاء.

٣١١

تنبيه :

السوفسطيّ ـ وهو المنكر لوجود العلْم مطلقاً ـ لا يسلّم قضيّة أولى الأوائل(1) ، إذ لو سلّمها كان ذلك اعترافاً منه بأنّ كلّ قضيّتَيْن متناقضتَيْن فإنّ إحداهما حقّة صادقة ، وفيه اعتراف بوجود علم مّا.

ثمّ إنّ السوفسطيّ بما يظهر من الشكّ في كلّ عقد ، إمّا أن يعترف بأنّه يعلم أنّه شاكٌّ ، وإمّا أن لا يعترف.

فإن اعترف بعلمه بشكّه فقد اعترف بعلم مّا ، فيضاف إليه تسليمه لقضيّة أولى الأوائل ، ويتبعه العلم بأنّ كلّ قضيّتيّن متناقضتين فانّ إحداهما حقّة صادقة؛ وتعقب ذلك علوم اُخرى.

وإن لم يعترف بعلمه بشكّه ، بل أظهَرَ أنّه شاك في كلّ شيء وشاكّ في شكّه ليس يجزم بشيء ، لغَتْ محاجّته ولم ينجح فيه برهان ، وهذا الإنسان إمّا مصابٌ بآفة اختلّ بها إدراكه فليراجع الطبيب ، وإمّا معاندٌ للحقّ يظهر ما يظهر ليدحض به الحقّ فيتخلّص من لوازمه ، فليضرب وليعذّب وليمنع ممّا يحبّه وليجبر على ما يبغضه ، إذ كلّ شيء ونقيضه عنده سواء.

نعم ، بعض هؤلاء المظهرين للشكّ ممّن راجع العلوم العقليّة وهو غير مسلَّح بالاُصول المنطقيّة ولا متدرَّب في صناعة البرهان ، فشاهَدَ اختلاف الباحثين في المسائل بالإثبات والنفي ورأى الحجج التي أقاموها على طرفَيِ النقيض ولم يقدر لقلّة بضاعته على تمييز الحقّ من الباطل فتسلّم طريق النقيض في المسألة ببُعدِ المسألة ، فأساء الظنّ بالمنطق ، وزعم أنّ لا طريق إلى إصابة الواقع يؤمن معه الخطأ في الفكر ولا سبيل إلى العلم بشيء على ما هو عليه ، وهذا ـ كما ترى ـ قضاءٌ بتّيٌّ منه بأُمور كثيرة ، كتباين أفكار الباحثين وحُجَجِهم من غير أن يترجّح بعضها على بعض ، واستلزام ذلك قصور الحجّة مطلقاً عن إصابة الواقع ، فعسى أن يرجع بالتنبيه عن مزعمته ، فليعالج بإيضاح القوانين المنطقيّة وإرائة قضايا بديهيّة لا تقبل

__________________

(1) وللسوفسطيّين شبهاتٌ تعرّض لها وللإجابة عليها الشيخ الرئيس في الفصل الثامن من المقالة الاُولى من إلهيّات الشفاء. وتبعه على ذلك غيره من المتأخّرين. وأشار إليها وإلى دفعِها المصنّف (رحمه الله) هاهنا.

٣١٢

الشك في حال من الأحوال كضرورة ثبوت الشيء لنفسه وإمتناع سلبه عن نفسه ، وليبالغ في تفهيم معاني أجزاء القضايا ، وليؤمر أن يتعلّم العلوم الرياضيّة.

وهناك طائفتان من الشكّاكين دون مَنْ تقدّم ذكرهم. فطائفة يسلّمون الإنسان وإدراكاته ويظهرون الشكّ في ما وراء ذلك ، وطائفة اُخرى تفطّنوا بما في قولهم : «نحن وإدراكاتنا» من الاعتراف بأنّ للواحد منهم علماً بوجود غيره من الأناسيّ وإدراكاتهم ، ولا فرق بين هذا العلم وبين غيره من الإدراكات في خاصّة الكشف عمّا في الخارج فبدّلوا الكلام من قولهم : «أنا وإدراكاتي».

ويدفعه : أنّ الإنسان ربّما يخطأ في إدراكاته ، كخطأ الباصرة واللامسة وغيرها من أغلاط الفكر ، ولولا أنّ هناك حقائق خارجيّة يطابقها الإدراك أو لا يطابقها لم يستقم ذلك؛ على أنّ كون إدراك النفس وإدراك إدراكاتها إدراكاً علميّاً ، وكون ما وراء ذلك من الإدراكات شكوكاً مجازفةٌ بيّنةٌ.

ومن السفسطة قول القائل : «إنّ الذي يفيده البحث التجربيّ أنّ المحسوسات بما لها من الوجود الخارجيّ ليست تطابق صورها التي في الحسّ ، وإذ كانت العلوم تنتهي إلى الحسّ فلاشيءٌمن المعلوم يطابق الخارج بحيث يكشف عن حقيقة».

ويدفعه : أنّه إذا كان الحسّ لا يكشف عن حقيقة المحسوس على ما هو عليه في الخارج وسائر العلوم منتهيةً إلى الحسّ ، حكمها حكمه ، فمن أين ظهر أنّ الحقائق الخارجيّة على خلاف ما يناله الحسّ؟ والمفروض أنّ كلَّ إدراك حسّيٌّ أو منته إلى الحسّ ، ولا سبيل للحسّ إلى الخارج. فمآل القول إلى السفسطة ، كما أنّ مآل القول بأنّ الصور الذهنيّة أشباح للاُمور الخارجيّة إلى السفسطة.

ومن السفسطة أيضاً قول القائل : «إنّ ما نعدّه علوماً ظنونٌ ليست من العلم المانع من النقيض في شيء».

ويدفعه : أنّ هذا القول : «إنّ ما نعدّه علوماً ظنونٌ» ، بعينه قضيّة علميّة ، ولو كان ظنّيّاً لم يفد أنّ العلوم ظنونٌ ، بل أفاد الظنّ بأنّها ظنونٌ ، فتأمّله واعتبِرْ.

وكذا قول القائل : «إنّ علومنا نسبيّةٌ مختلفةٌ باختلاف شرائط الوجود ، فهناك

٣١٣

بالنسبه إلى كلّ شرط علمٌ ، وليس هناك علْمٌ مطلقٌ ، ولا هناك علْمٌ دائمٌ ، ولا كلّيّ ولا ضروريّ».

وهذه أقوال ناقضة لنفسها. فقولهم : «العلوم نسبيّة» إن كان نفسهُ قولا نسبيّاً ، أثبت أنّ هناك قولا مطلقاً فنقض نفسه ، ولو كان قولا مطلقاً ثبت به قول مطلق فنَقَضَ نفسَهُ. وكذا قولهم : «لا علم مطلقاً» ، وقولهم : «لا علم كليّاً» ، إن كان نفسه كليّاً نَقَضَ نفسَهُ ، وإن لم يكن كلّيّاً ثبت به قولٌ كلّيٌّ فنَقَضَ نفسَهُ. وكذا قوله : «لا علم دائماً» ، وقوله : «لا علم ضروريّاً» ينقضان أنفسهما كيفما فرضا.

نعم ، في العلوم العمليّة شوْبٌ من النسبيّة ، ستأتي الإشارة إليه إن شاء الله تعالى(1) .

الفصل العاشر

ينقسم العلم الحصوليّ إلى حقيقيّ وإعتباريّ

والحقيقيّ هو المفهوم الذي يوجد تارةً في الخارج فتترتّب عليه آثارُهُ ، وتارةً في الذهن فلا تترتّب عليه آثاره الخارجيّة كمفهوم الإنسان. ولازِمُ ذلك أن تتساوى نسبته إلى الوجود والعدم. وهذا هو الماهيّة المقولة على الشيء في جواب ما هو.

والاعتباريّ خلافُ الحقيقيّ ، وهو إمّا من المفاهيم التي حيثيّةُ مصداقها حيثيّةَ أنّه في الخارج مترتّباً عليه آثارُهُ ، فلا يدخل الذهن الذي حيثيّتُهُ حيثيّةَ عدم ترتّب الآثار الخارجيّة ، لاستلزام ذلك إنقلابَهُ عمّا هو عليه ، كالوجود وصفاته الحقيقيّة كالوحدة والوجوب ونحوها ، أو حيثيّةَ أنّه ليس في الخارج ، كالعدم ، فلا يدخل الذهن ، وإلاّ لانقلب إلى ما يقبل الوجود الخارجيّ فلا وجود ذهنيّاً لما لا وجود خارجيّاً له. وإمّا من المفاهيم التي حيثيّةُ مصداقها حيثيّةَ أنّه في الذهن ،

__________________

(1) في الفصل الآتي.

٣١٤

كمفهوم الكلّيّ والجنس والفصل ، فلا يوجد في الخارج ، وإلاّ لانقلب. فهذه مفاهيم ذهنيّة معلومة ، لكنّها مصداقاً إمّا خارجيّةٌ محضةٌ لا تدخل الذهن كالوجود وما يلحق به ، أو بطلان محض كالعدم ، وإمّا ذهنيّةٌ محضةٌ لا سبيل لها إلى الخارج ، فليست بمنتزعة من الخارج ، فليست بماهيّات موجودة تارةً بوجود خارجيٍّ واخرى ذهنيٍّ ، لكنّها منتزعة من مصاديق ، بشهادة كونها علوماً حصوليّة لا تترتّب عليها الآثار فتنتزع من مصاديق في الذهن. أمّا المعاني التي حيثيّةُ مصاديقها حيثيّةَ أنّها في الذهن ، فإنّه كان لأذهاننا أن تأخذ بعض ما تنتزعه من الخارج ـ وهو مفهوم ـ مصداقاً ، تنظر إليه ، فيضطرّ العقل إلى أن يعتبر له خواصّ تناسبه ، كما أن تنتزع مفهوم الإنسان من عدّة من أفراد كزيد وعمرو وبكر وغيرهم فتأخذه وتنصبه مصداقاً وهو مفهوم ، تنظر فيما تحفُّه من الخواصّ فتجده تمام ماهيّة المصاديق وهو النوع ، أو جزء ماهيّتها وهو الجنس أو الفصل ، أو خارجاً مساوياً ، أو أعمّ وهو الخاصّة أو العرض العامّ ، وتجده تَقْبِل الصدق على كثيرين وهو الكلّيّة ، وعلى هذا المنهج.

وأمّا المفاهيم التي حيثيّةُ مصاديقها حيثيّةَ أنّها في الخارج أو ليست فيه ، فيشبه أن تكون منتزعةً من الحكم الذي في القضايا الموجبة وعدمه في السالبة.

بيان ذلك : أنّ النفس عند أوّل ما تنال من طريق الحسّ بعض الماهيّات المحسوسة أخذَتْ ما نالَتْه فاختزنَتْه في الخيال ، وإذا نالَتْه ثانياً أو في الآن الثاني وأخذته للاختزان وجدَتْه عين ما نالَتْه أوّلا ومنطبقاً عليه. وهذا هو الحمل الذي هو إتّحاد المفهومين وجوداً(1) . ثمّ إذا أعادَتْ النفسُ المفهومَ مكرّراً بالاعادة بعد الإعادة ، ثمّ جعلَتْها واحداً كان ذلك حكماً منها وفعلا لها ، وهو مع ذلك مُحاك للخارج ، وفِعْلُهُ هذا نسبةٌ وجوديّة ووجودٌ رابطٌ قائم بالطرفين إعتباراً.

ثمّ للنفس أن تتصوّر الحكمَ الذي هو فِعْلُها ، وتنظر إليه نظراً إستقلاليّاً مضافاً إلى موصوفه بعد ما كان رابطاً ، فتتصوّر وجودَ المفهوم ثمّ تُجرِّده فتتصوّر الوجودَ

__________________

(1) أي الحمل الشائع.

٣١٥

مفرداً من غير إضافة. فبهذا يتحصّل إنتزاع مفهوم الوجود من الحكم ويقع على مصداقه الخارجيّ وإن كانت حيثيّتُهُ حيثيّةَ أنّه في الخارج ، فهي مصاديق له وليست بأفراد مأخوذة فيها مفهومه أخْذَ الماهية في أفرادها ، ثمّ تنتزع من مصاديقه صفاته الخاصّة به ، كالوجوب والوحدة والكثرة والقوّة والفعل وغيرها.

ثمّ إذا نالَت النفسُ شيئاً من الماهيّات المحسوسة فاختزنته ثمّ نالَتْ ماهيّةً اُخرى مباينةً لها ، لم تجد الثانية عين الاُولى ، منطبقةً عليها ، كما كانت تجد ذلك في الصورة السابقة ، فإذا أحضرَتْهما بعد الاختزان لم تفعل فيهما ما كانت تفعله في الصورة السابقه في الماهيّة المكرّرة من الحكم ، لكنّها اعتبرت ذلك فعلا لها وهو سلب الحمل المقابل للحمل ، ثمّ نظرَتْ إليه مستقلاّ مضافاً فتصوّرَتْه سلب المحمول عن الموضوع ، ثمّ مطلقاً فتصوَّرَتْه سلباً وعدماً ، ثمّ اعتبرت له خواصّ إضطراراً ، كعدم الميزْ بين الأعدام وتميُّزِها بالإضافة إلى الموجودات.

وقد تبيّن ممّا تقدّم :

أوّلا : أنّ ما كان من المفاهيم محمولا على الواجب والممكن معاً ـ كالعلم والحياة ـ فهو اعتباريّ ، وإلاّ كان الواجب ذا ماهيّة تعالى عن ذلك.

وثانياً : أنّ ما كان منها محمولا على أزيد من مقولة واحدة ـ كالحركة ـ فهو إعتباريّ ، وإلاّ كان مجنّساً بأزيد من جنس واحد ، وهو محال.

وثالثاً : أنّ المفاهيم الاعتباريّة لا حدَّ لها ولا تؤخذ في حدّ ماهيّة جنساً لها ، وكذلك سائر الصفات الخاصّة بالماهيّات كالكلّيّة إلاّ بنوع من التوسّع.

تنبيهٌ

وللإعتباريّ فيما اصطلحوا عليه معان اُخر غير ما تقدّم خارجةٌ من بحثنا :

أحدها : ما يقابل الأصالة ـ بمعنى منشئيّة الآثار بالذات ـ المبحوث عنه في مبحث أصالة الوجود والماهيّة.

الثاني : الاعتباريّ ـ بمعنى ما ليس له وجود منحاز عن غيره ـ قبالَ الحقيقيّ الذي له وجود منحاز ، كاعتباريّة مقولة الإضافة الموجودة بوجود طرفَيْها على

٣١٦

خلاف الجوهر الموجود في نفسه.

الثالث : المعنى التصوّريّ أو التصديقيّ الذي لا تحقُّقَ له فيما وراء ظرف العمل.

ومآل الاعتبار بهذا المعنى إلى استعارة المفاهيم النفس الأمريّة الحقيقيّة بحدودها لأنواع الأعمال ، التي هي حركات مختلفة ومتعلّقاتها للحصول على غايات حيويّة مطلوبة ، كاعتبارِ الرئاسة لرئيس القوم ليكون من الجماعة بمنزلة الرأس من البدن في تدبير اُموره وهداية أعضائه إلى واجب العمل ، واعتبارِ المالكيّة لزيد مثلا بالنسبة الى ما حازه من المال ليكون له الاختصاص بالتصرّف فيه كيف شاء ، كما هو شأن المالك الحقيقيّ في ملكه ، كالنفس الإنسانيّة المالكة لقواها ، واعتبارِ الزوجيّة بين الرجل والمرأة ليتشرك الزوجان في ما يترتّب على المجموع ، كما هو الشأن في الزوج العدديّ ، وعلى هذا القياس.

ومن هنا يظهر أنّ هذه المعاني الاعتباريّة لا حدّ لها ولا برهان عليها.

أمّا أنّها لا حدّ لها ، فلأنّها لا ماهيّة لها داخلةً في شيء من المقولات ، فلا جنس لها ، فلا فصل لها ، فلا حدّ لها. نعم لها حدود مستعارة من الحقائق التي يستعار لها مفاهيمها(1) .

وأمّا أنّها لا برهان عليها ، فلأنّ من الواجب في البرهان أن تكون مقدّماتها ضروريّة دائمة كلّيّة. وهذه المعاني لا تتحقّق إلاّ في قضايا حقّة تُطابِقُ نفس الأمر ، وأنّى للمقدّمات الاعتباريّة ذلك وهي لا تتعدّى حدّ الدعوى؟!

ويظهر أيضاً أنّ القياس الجاري فيها جدَلٌ مؤلَّف من المشهورات والمسلّمات ، والمقبول منها ما له أثر صالح بحسب الغايات ، والمردود منها اللغو الذي لا أثر له.

__________________

(1) كما أنّ الوجوب المستعمل في هذا الباب مستعار من الوجوب بالغير الذي هو من المعقولات الفلسفيّة. كذا قال المصنّف (رحمه الله) في مبحث الإعتباريّات من كتابه الموسوم بـ : «اُصول فلسفه وروش رئاليسم» ج 2 ص 315 ـ 316 و 361.

٣١٧

الفصل الحادي عشر

في العلم الحضوريّ وأنّه لا يختصّ بعلم الشيء بنفسه

قد تقدّم(1) أنّ كلَّ جوهر مجرّد فهو لتمام ذاته حاضرٌ لنفسه بنفسه وهويّتِهِ الخارجيّة ، فهو عالم بنفسه علماً حضوريّاً.

وهل يختصّ العلم الحضوريّ بعلم الشيء بنفسه أو يعمّه وعلْمَ العلّة بمعلولها وعلْمَ المعلول بعلّته؟ ذهب المشاؤون إلى الأوّل(2) ، والإشراقيّون إلى الثاني(3) وهو الحقّ. وذلك لأنّ وجود المعلول وجودٌ رابطٌ بالنسبة إلى وجود علّته قائمٌ به غيرُ مستقلٍّ عنه بوجه. فهو ـ أعني المعلول ـ حاضرٌ بتمام وجوده لعلّته غيرُ محجوب عنها ، فهو بنفس وجوده معلوم لها علماً حضوريّاً إن كانا مجرّدين. وكذلك العلّة حاضرةٌ بوجودها لمعلولها الرابط لها القائم بها المستقلّ بإستقلالها ، فهي معلومة لمعلولها علْماً حضوريّاً إذا كانا مجرّدين ، وهو المطلوب.

وقد تقدّم(4) أنّ كلَّ علْم حصوليٍّ ينتهي إلى علْم حضوريّ. ومن العلم الحصوليّ ما ليس بين العالم والمعلوم علّيّة ولا معلوليّة ، بل هما معلولا علّة ثالثة.

الفصل الثاني عشر

كلّ مجرّد فإنّه عقل وعاقل ومعقول

أمّا أنّه عقلٌ ، فلأنّه لتمام ذاته وكونِهِ فعليّةٌ محضةٌ لا قوّة معها يمكن أن

__________________

(1) في الفصل الأوّل من هذه المرحلة.

(2) راجع التحصيل ص 574 ـ 575 ، وشرح الإشارات ج 3 ص 304. ونَسَبه إليهم صدر المتألّهين في الأسفار ج 6 ص 180 ، والشواهد الربوبيّة ص 39. ونَسبه إليهم أيضاً الحكيم السبزواريّ في تعليقاته على الأسفار ج 6 ص 164 ، وانحصر نفسُه العلْمَ الحضوريّ في موردين : علم الشيء بنفسه وعلم الشيء بمعلوله ، راجع تعليقاته على الأسفار ج 6 ص 160 وص 230. وامّا انتساب هذا القول إلى أفلاطون أمرٌ خلاف الواقع ، كمافي الشواهدالربوبيّة ص 55 ـ 56.

(3) راجع المطارحات ص 488 ، والتلويحات ص 70 ـ 74 ، وشرح حكمة الإشراق ص 358 ـ 366.

(4) راجع الفصل الأوّل من هذه المرحلة.

٣١٨

يوجد ويحضر لشيء بالإمكان ، وكلّ ما كان للمجرّد بالإمكان فهو له بالفعل فهو معقولٌ بالفعل. وإذ كان العقل متّحداً مع المعقول فهو عقل ، وإذ كانت ذاته موجودةً لذاته فهو عاقل لذاته ، فكلّ مجرّد عقلٌ وعاقلٌ ومعقولٌ. وإن شئت فقل : «إنّ العقل والعاقل والمعقول مفاهيم ثلاثة منتزعة من وجود واحد».

والبرهان المذكور آنفاً كما يجري في كون كلِّ مجرّد عقلا وعاقلا ومعقولا لنفسه يجري في كونه عقلا ومعقولا لغيره.

فإن قيل (1) : لازمُ ذلك أن تكون النفس الإنسانيّة لتجرُّدها عاقلةً لنفسها ولكلّ مجرّد مفروض ، وهو خلاف الضرورة.

قلنا (2) : هو كذلك لو كانت النفس المجرّدة مجرّدةً تجرّداً تامّاً ذاتاًوفعلا ، لكنّها مجرّدةٌ ذاتاً ومادّيةٌ فعلا ، فهي لتجرُّدها ذاتاً تعقل ذاتَها بالفعل.

وأمّا تعقّلها لغيرها فيتوقّف على خروجها من القوّة إلى الفعل تدريجاً بحسب الاستعدادات المختلفة التي تكتسبها. فلو تجرّدت تجرّداً تامّاً ولم يشغلها تدبير البدن حصلت له جميع التعقّلات حصولا بالفعل بالعقل الإجماليّ وصارت عقلا مستفاداً.

وليتنبّه أنّ هذا البيان إنمّا يجري في الذوات المجرّدة التي وجودها في نفسها لنفسها. وأمّا الأعراض التي وجودها في نفسها لغيرها فالعاقل لها الذي يحصل له المعقول موضوعها لا أنفسها. وكذلك الحكم في النسب والروابط التي وجوداتها في غيرها.

__________________

(1) هذا الإشكال أورده بعض مَنْ عاصر الشيخ الرئيس عليه كما نقل في المباحث المشرقيّة ج 1 ص 373 والأسفار ج 3 ص 458.

(2) كما أجاب عنه الشيخ الرئيس على ما في المباحث المشرقيّة ج 1 ص 373 ، والأسفار ج 3 ص 458 ـ 459. وناقش فيه صدر المتألّهين ثمّ أجاب عنه بوجه آخر ، راجع الأسفار ج 3 ص 459 ـ 460.

٣١٩

الفصل الثالث عشر

في أنّ العلم بذي السبب لايحصل إلاّ من طريق العلم بسببه وما يتّصل بذلك السبب

ونعني به العلّة الموجبة للمعلول بخصوصيّة علّيّته ، سواء كانت علّةً بماهيتها كالأربعة التي هي علّة للزوجيّة أو كانت علّةً بوجودها الخارجيّ ، وهي الأمر الذي يستند إليه وجود المعلول ممتنعاً إستناده إلى غيره وإلاّ لكان لمعلول واحد علّتان مستقلّتان. ولمّا كان العلم مطابقاً للمعلوم بعينه كانت النسبة بين العلم بالمعلول والعلم بالعلّة هي النسبة بين نفس المعلول ونفس العلّة. ولازِمُ ذلك توقّف العلم بالمعلول وترتّبه على العلم بعلّته ، ولو ترتّب على شيء آخر غير علّته كان لشيء واحد أكثر من علّة واحدة ، وهو محال.

وظاهرٌ من هذا البيان أنّ هذا حكم العلم بذات المسبّب مع العلم بذات السبب دون العلم بوصفَيِ العليّة والمعلوليّة المتضائفين(1) ، فإنّ ذلك مضافاً إلى أنّه لا جدوى فيه لجريانه في كلّ متضائفين مفروضين من غير اختصاص بالعلم ، إنّما يفيد المعيّة دونَ توقُّفِ العلم بالمعلول على العلم بالعلّة ، لأنّ المتضائفين معان قوّةً وفعلا وذهناً وخارجاً.

فإن قلت : نحن كثيراً مّا ندرك أُموراً من طريق الحسّ ، نقضي بتحقّقها الخارجيّ ونصدّق بوجودها مع الجهل بعلّتها ، فهناك علم حاصل بالمعلول مع الجهل بالعلّة ، نعم يكشف ذلك إجمالا أنّ علّتها موجودة.

قلنا : الذي يناله الحسّ هو صور الأعراض الخارجيّة من غير تصديق بثبوتها أو ثبوت آثارها ، وإنّما التصديق للعقل. فالعقل يرى أنّ الذي يناله الإنسان بالحسّ وله آثار خارجة منه لا صُنْعَ له فيه ، وكلّ ما كان كذلك كان موجوداً في خارج النفس الإنسانيّة. وهذا سلوك علميّ من أحد المتلازمين إلى آخر.

__________________

(1) انّ بين العلّيّة والمعلوليّة مقابله التضائف ، لأنّ كلاّ منهما انّما هو بالقياس إلى الأخر ، ولا يجتمعان في شيء واحد من جهة واحدة وقد يجتمعان في الشيء الواحد بالنسبة إلى أمرين.

٣٢٠