كليات في علم الرجال

كليات في علم الرجال11%

كليات في علم الرجال مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: علم الرجال والطبقات
الصفحات: 530

كليات في علم الرجال
  • البداية
  • السابق
  • 530 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 153535 / تحميل: 5776
الحجم الحجم الحجم
كليات في علم الرجال

كليات في علم الرجال

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

والحاصل أنه كان يكبِّر كثيراً من الاُمور الصغيرة وكانت له روحية خاصة تحمله على ذلك.

ويشهد على ذلك أن الشيخ والنجاشي ربّما ضعفا رجلاً ، والغضائري أيضاً ضعفه ، لكن بين التعبيرين اختلافاً واضحاً.

مثلاً ذكر الشيخ في عبدالله بن محمد انه كان واعظاً فقيهاً ، وضعفه النجاشي بقوله : « إنه ضعيف » وضعَّفه الغضائري بقوله : « انه كذاب ، وضّاع للحديث لا يلتفت إلى حديثه ولا يعبأ به ».

ومثله علي بن أبي حمزة البطائني الذي ضعفه أهل الرجال ، فعرفه الشيخ بأنه واقفّي ، والعلاّمة بأنه احد عمد الواقفة. وقال الغضائري : « عليّ بن أبي حمزة لعنه الله ، أصل الوقف وأشدّ الخلق عداوة للوليّ من بعد أبي إبراهيم ».

ومثله إسحاق بن أحمد المكنّى بـ « أبي يعقوب أخي الاشتر » قال النجاشي : « معدن التَّخليط وله كتب في التخليط » وقال الغضائري : « فاسد المذهب ، كذّاب في الرواية ، وضّاع للحديث ، لا يلتفت إلى ما رواه »(١) .

وبذلك يعلم ضعف ما استدل به على عدم صحَّة نسبة الكتاب إلى ابن الغضائري من أن النجاشي ذكر في ترجمة الخيبري عن ابن الغضائري ، انه ضعيف في مذهبه ، ولكن في الكتاب المنسوب اليه : « إنه ضعيف الحديث ، غالي المذهب » فلو صحَّ هذا الكتاب ، لذكر النجاشي ما هو الموجود أيضاً(٢) .

وذلك لما عرفت من أن الرجل كان ذا روحيَّة خاصَّة ، وكان إذا رأى

__________________

١ ـ لاحظ سماء المقال : ١ / ١٩ ـ ٢١ بتلخيص منّا.

٢ ـ معجم رجال الحديث : ١ / ١١٤ ، من المقدَّمات طبعة النجف ، والصفحة ١٠٢ طبعة لبنان.

١٠١

مكروهاً ، اشتدَّت عنده بشاعته وكثرت لديه شناعته ، فيأتي بألفاظ لا يصحّ التعبير بها الا عند صاحب هذه الروحية ، ولما كان النجاشي على جهة الاعتدال نقل مرامه من دون غلوّ وإغراق.

وبالجملة الآفة كلّ الآفة في رجاله هو تضعيف الأجلة والموثَّقين مثل « أحمد بن مهران » قال : « أحمد بن مهران روى عنه الكليني ضعيف » ولكن ثقة الاسلام يروي عنه بلا واسطة ، ويترحَّم عليه كما في باب مولد الزهراءعليها‌السلام (١) قال : « أحمد بن مهرانرحمه‌الله رفعه وأحمد بن إدريس عن محمد بن عبد الجبار الشيباني » إلى غير ذلك من الموارد.

ولأجل ذلك لا يمكن الاعتماد على تضعيفاته ، فضلا عن معارضته بتوثيق النجاشي خبير الفنّ والشيخ عماد العلم. نعم ربما يقال توثيقاته في أعلى مراتب الاعتبار ولكنه قليل وقد عرفت من المحقق الداماد من أنه قل أن يسلم أحد من جرحه او ينجو ثقة من قدحه(٢) . وقد عرفت آنفاً وسيأتي أن الاعتماد على توثيقه كالاعتماد على جرحه.

النظرية الخامسة

وفي الختام نشير إلى نظرية خامسة وان لم نوعز اليها في صدر الكلام وهي أنه ربما يقال بعدم اعتبار تضعيفات ابن الغضائري لانه كان جراحا كثير الردّ على الرواة ، وقليل التعديل والتصديق بهم ومثل هذا يعدّ خرقاً للعادة وتجاوزاً عنها ، وانما يعتبر قول الشاهد إذا كان انسانا متعارفاً غير خارق للعادة. ولأجل ذلك لو ادعى رجلان رؤية الهلال مع الغيم الكثيف في السماء وكثرة الناظرين ، لا يقبل قولهما ، لان مثل تلك الشهادة تعدّ على خلاف العادة ، وعلى ذلك فلا يقبل تضعيفه ، ولكن يقبل تعديله.

__________________

١ ـ الكافي : ١ / ٤٥٨ ، الحديث ٣.

٢ ـ لاحظ سماء المقال : ٢٢.

١٠٢

وفيه : أن ذلك إنما يتمّ لو وصل الينا كتاب الممدوحين منه ، فعندئذ لو كان المضعفون أكثر من الممدوحين والموثقين ، لكان لهذا الرأي مجال. ولكن يا للأسف! لم يصل الينا ذلك الكتاب ، حتى نقف على مقدار تعديله وتصديقه ، فمن الممكن أن يكون الممدوحون عنده أكثر من الضعفاء ، ومعه كيف يرمى بالخروج عن المتعارف؟

ولأجل ذلك نجد أن النسبة بين ما ضعفه الشيخ والنجاشي أو وثَّقاه ، وما ضعَّفه ابن الغضائري او وثقه ، عموم من وجه. فربَّ ضعيف عندهما ثقة عنده وبالعكس ، وعلى ذلك فلا يصحّ رد تضعيفاته بحجّة أنه كان خارجاً عن الحدّ المتعارف في مجال الجرح.

بل الحقّ في عدم قبوله هو ما أوعزنا اليه من أن توثيقاته وتضعيفاته لم تكن مستندة الى الحسّ والشهود والسماع عن المشايخ والثقات ، بل كانت مستندة الى الحدس والاستنباط وقراءة المتون والروايات ، ثمَّ القضاء في حقّ الراوي بما نقل من الرواية ، ومثل هذه الشهادة لا تكون حجة لا في التضعيف ولا في التوثيق. نعم ، كلامه حجة في غير هذا المجال ، كما إذا وصف الراوي بأنه كوفيٌّ او بصريٌّ أو واقفيٌّ او فطحيٌّ او له كتب ، والله العالم بالحقائق.

١٠٣
١٠٤

الفصل الرابع

المصادر الثانوية لعلم الرجال

١ ـ الاصول الرجالية الأربعة

٢ ـ الجوامع الرجالية في العصور المتأخرة.

٣ ـ الجوامع الرجالية الدارجة على منهج القدماء.

٤ ـ تطوّر في تأليف الجوامع الرجالية.

١٠٥
١٠٦

١ ـ الأصول الرجالية الاربعة

* فهرس الشيخ منتجب الدين.

* معالم العلماء.

* رجال ابن داود.

* خلاصة الاقوال في علم الرجال.

١٠٧
١٠٨

الاصول الرجالية الاربعة

قد وقفت بفضل الابحاث السابقة ، على الاصول الاولية لعلم الرجال ، التي تعد امهات الكتب المؤلفة في العصور المتأخرة ومؤلفو هذه الاصول يعدون في الرعيل الاول من علماء الرجال ، لا يدرك لهم شأو ولا يشق لهم غبار ، لانهم٥ قد عاصروا أساتذة الحديث وأساطينه ، وكانوا قريبي العهد من رواة الاخبار ونقلة الآثار ، ولاجل ذلك تمكنوا تمكناً تاماً مورثاً للاطمئنان ، من الوقوف على أحوالهم وخصوصيات حياتهم ، اما عن طريق الحس والسماع ـ كما هو التحقيق ـ أو من طريق جمع القرائن والشواهد المورثة للاطمئنان الذي هو علم عرفي ، كما سيوافيك تحقيقه في الابحاث الآتية.

وقد تلت الطبقة الاولى ، طبقة اخرى تعد من اشهر علماء الرجال بعدهم ، كما تعد كتبهم مصادر له بعد الاصول الاولية نأتي بأسمائهم وأسماء كتبهم ، وكلهم كانوا عائشين في القرن السادس.

ان أقدم فهرس عام لكتب الشيعة ، هو فهرس الشيخ أحمد بن الحسين بن عبيدالله الغضائري ، الذي قد تعرفت عليه وما حوله من الاقوال والآراء.

نعم ، ان فهرست أبي الفرج محمد بن اسحاق المعروف بابن النديم

١٠٩

( المتوفّى عام ٣٨٥ هـ ) وان كان أقدم من فهرس ابن الغضائري ، لكنه غير مختص بكتب الشيعة ، وانما يضم بين دفتيه الكتب الاسلامية وغيرها ، وقد أشار الى تصانيف قليلة من كتب الشيعة.

وقد قام الشيخ الطوسي بعد ابن الغضائري ، فألف فهرسه المعروف حول كتب الشيعة ومؤلفاتهم ، وهو من احسن الفهارس المؤلفة ، وقد نقل عنه النجاشي في فهرسه واعتمد عليه ، وان كان النجاسي أقدم منه عصراً وأرسخ منه قدماً في هذا المجال.

وقد قام بعدهم في القرن السادس ، العلاّمتان الجليلان ، الشيخ الحافظ ابو الحسن منتجب الدين الرازي ، والشيخ الحافظ محمَّد بن عليّ بن شهرآشوب السروي المازندراني ، فأكملا عمل الشيخ الطوسي وجهوده إلى عصرهما ، وإليك الكلام فيهما إجمالاً :

١ ـ فهرس الشيخ منتجب الدين

وهو تأليف الحافظ عليّ بن عبيدالله بن الحسن بن الحسين بن الحسن بن الحسين ( أخي الشيخ الصدوققدس‌سره ) بن علي ( والد الصدوق ). عرَّفه صاحب الرياض بقوله : « كان بحراً لا ينزف ، شيخ الاصحاب ، صاحب كتاب الفهرس. يروي عن الشيخ الطبرسي ( المتوفّى عام ٥٤٨ هـ ) وأبي الفتوح الرازي ، وعن جمع كثير من علماء العامة والخاصَّة. ويروي عن الشيخ الطّوسي ( المتوفّى ٤٦٠ هـ ) بواسطة عمّه الشيخ بابويه بن سعد.

وهذا الامام الرّافعي ( وهو الشيخ ابو القاسم عبد الكريم بن محمد الرافعي الشافعي ، المتوفّى عام ٦٢٣ ) يعرفه في تاريخه ( التدوين ) : الشيخ عليّ بن عبيدالله بن الحسن بن الحسين بن بابويه شيخ ريّان من علم الحديث سماعاً وضبطاً وحفظاً وجمعاً ، قلَّ من يدانيه في هذه الاعصار في كثرة الجمع والسماع ، قرأت عليه بالرىّ سنة ٥٨٤ هـ ، وتولد سنة ٥٠٤ هـ ، ومات بعد

١١٠

سنة ٥٨٥ هـ ، ثمَّ قال : ولئن اطلت عند ذكره بعض الاطالة فقد كثر انتفاعي بمكتوباته وتعاليقه فقضيت بعض حقه باشاعة ذكره وأحواله »(١) .

وقال الشيخ الحرّ العاملي في ترجمته : « الشيخ الجليل عليّ بن عبيدالله بن الحسن بن الحسين بن بابويه القمّي ، كان فاضلا عالما ثقة صدوقاً محدّثاً حافظاً راوية علاّمة ، له كتاب الفهرس في ذكر المشايخ المعاصرين للشيخ الطوسي والمتأخرين إلى زمانه »(٢) .

وقد ألَّفه للسيد الجليل أبي القاسم يحيى بن الصدر(٣) السعيد المرتضى باستدعاء منه حيث قال السيد له : « إن شيخنا الموفق السعيد أبا جعفر محمد بن الحسن الطوسي ـ رفع الله منزلته ـ قد صنف كتابا في أسامي مشايخ الشيعة ومصنّفيهم ، ولم يصنف بعده شيء من ذلك » فأجابه الشيخ منتجب الدين بقوله : « لو أخَّر الله أجلي وحقق أملي ، لأضفت اليه ما عندي من أسماء مشايخ الشيعة ومصنّفيهم ، الذين تأخر زمانهم عن زمان الشيخ أبي جعفررحمه‌الله وعاصروه » ثمَّ يقول : « وقد بنيت هذا الكتاب على حروف المعجم اقتداء بالشيخ أبي جعفررحمه‌الله وليكون أسهل مأخذاً ومن الله التوفيق »(٤) .

وكلامه هذا ينبئ عن أنه لم يصل اليه تأليف معاصره الشيخ محمد بن عليّ بن شهرآشوب ، الذي كتب كتابه الموسوم بـ « معالم العلماء » تكملة لفهرس الشيخ ، ولأجل ذلك قام بهذا العمل من غير ذكر لذلك الكتاب.

__________________

١ ـ رياض العلماء : ٤ / ١٤٠ ـ ١٤١ ، ولكن التحقيق انه كان حيّاً الى عام ٦٠٠ هـ. لاحظ مقال المحقق السيد موسى الزنجاني المنشور في مجموعة حول ذكرى العلاّمة الامينيقدس‌سره .

٢ ـ أمل الآمل : ٢ / ١٩٤.

٣ ـ المدفون بـ « ري » المعروف عند الناس بامام زادة يحيى وربما يحتمل تعدد الرجلين.

٤ ـ فهرس الشيخ منتجب الدين : ٥ ـ ٦.

١١١

وقد ألَّف الشيخ الطوسي الفهرس بأمر استاذه المفيد الذي توفي سنة ٤١٣ هـ ، وفي حياته ، كما صرَّح به في أوله.

وقد أورد الشيخ منتجب الدين في فهرسه هذا ، من كان في عصر المفيد إلى عصره المتجاوز عن مائة وخمسين سنة.

وفي الختام ، نقول : « إن الحافظ بن حجر العسقلاني ( المتوفّى عام ٨٥٢ هـ ) قد أكثر النقل عن هذا الفهرس في كتابه المعروف بـ « لسان الميزان » ، معبّراً عنه بـ « رجال الشيعة » أو « رجال الامامية » ولا يريد منهما إلا هذا الفهرس ، ويعلم ذلك بمقارنة ما نقله في لسان الميزان ، مع ما جاء في هذا الفهرس ، كما أن لصاحب هذا الفهرس تأليفاً آخر اسماه تاريخ الريّ ، وينقل منه أيضاً ابن حجر في كتابه المزبور ، والأسف كل الاسف أن هذا الكتاب وغيره مثل « تاريخ ابن ابي طيّ »(١) و « رجال عليّ بن الحكم » و « رجال الصدوق » التي وقف على الجميع ، ابن حجر في عصره ونقل عنها في كتابه « لسان الميزان » لم تصل إلينا ، لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً.

ثم إن الغاية من اقتراح السيد عزّ الدين يحيى ، نقيب السادات ، هو كتابة ذيل لفهرس الشيخ على غراره ، بأن يشتمل على أسامي المؤلفين ، ومؤلفاتهم واحداً بعد واحد ، وقد قبل الشيخ منتجب الدين اقتراح السيّد ، وقام بهذا العمل لكنهقدس‌سره عدل عند الاشتغال بتأليف الفهرس عن هذا النمط ، فجاء بترجمة كثير من شخصيات الشيعة ، يناهز عددهم إلى ٥٤٠ شخصية علمية وحديثية من دون أن يذكر لهم أصلا وتصنيفا ، ومن ذكر لهم كتاباً لا يتجاوز عددهم عن حدود مائة شخص.

نعم ما يوافيك من الفهرس الآخر لمعاصره ـ أعني معالم العلماء ـ فهو على غرار فهرس الشيخ حذو القذّة بالقذّة.

__________________

١ ـ راجع في الوقوف على وصف هذا التاريخ وما كتبه في طبقات الامامية ايضا « الذريعة إلى تصانيف الشيعة » ج ٣ ، ص ٢١٩ ـ ٢٢٠ هذا وتوفي ابن ابي طي سنة ٦٣٠ هـ.

١١٢

٢ ـ معالم العلماء في فهرس كتب الشيعة وأسماء المصنفين

وهو تأليف الحافظ الشهير محمد بن علي بن شهرآشوب المازندراني ، المولود عام ٤٨٨ هـ ، والمتوفّى سنة ٥٨٨ هـ ، وهو اشهر من أن يعرّف ، فقد أطراه أرباب المعاجم من العامة والخاصّة.

قال صلاح الدين الصفدي : « محمد بن علي بن شهرآشوب ابو جعفر السروي المازندراني ، رشيد الدين الشيعي ، احد شيوخ الشيعة. حفظ القرآن وله ثمان سنين ، وبلغ النهاية في أصول الشيعة ، كان يرحل اليه من البلاد ، ثم تقدَّم في علم القرآن والغريب والنحو ، ذكره ابن أبي طيّ في تاريخه ، وأثنى عليه ثناء بليغاً ، وكذلك الفيروزآبادي في كتاب البلغة في تراجم أئمة النَّحو واللغة ، وزاد أنه كان واسع العلم ، كثير العبادة دائم الوضوء ، وعاش مائة سنة الا ثمانية أشهر ، ومات سنة ٥٨٨ هـ »(١) .

وذكره الشيخ الحرّ العاملي في « أمل الآمل » في باب المحمدين ، وذكر كتبه الكثيرة ، التي أعرفها « مناقب آل أبي طالب » وقد طبع في أربعة مجلدات ، و « متشابه القرآن » وهو من محاسن الكتب وقد طبع في مجلد واحد ، و « معالم العلماء » الذي نحن بصدد تعريفه ، وهذا الكتاب يتضمن ١٠٢١ ترجمة وفي آخرها « فصل فيما جهل مصنّفه » و « باب في بعض شعراء أهل البيت » وهذا الفهرس ، كفهرس الشيخ منتجب الدين تكملة لفهرس الشيخ الطوسي ، والمؤلفان متعاصران ، والكتابان متقاربا التأليف ، وقد أصبح معالم العلماء من المدارك المهمة لعلماء الرجال ، كالعلامة الحلي في « الخلاصة » ، ومن بعده.

__________________

١ ـ الوافي بالوفيات : ٤ / ١٦٤.

١١٣

٣ ـ رجال ابن داود

وهو تأليف تقي الدين الحسن بن علي بن داود الحلي المولود سنة ٦٤٧ ، أي قبل تولد العلاّمة بسنة ، والمتوفّى بعد سنة ٧٠٧ هـ ، تتلمذ على السيد جمال الدين أحمد بن طاووس ( المتوفّى سنة ٦٧٣ هـ ) قرأ عليه أكثر كتاب « البشرى » و « الملاذ » حتى قال : « وأكثر فوائد هذا الكتاب من اشاراته وتحقيقاته ، رباني وعلمني وأحسن إلي »(١) .

كما قرأ على الامام نجم الدين جعفر بن الحسن بن يحيى المعروف بالمحقق ، وقال في حقه : « قرأت عليه ورباني صغيراً ، وكان له علي احسان عظيم والتفات ، وأجاز لي جميع ما صنفه وقرأه ورواه »(٢) .

مميزات رجال ابن داود

ومن مزايا ذلك الكتاب ، أنه سلك فيه مسلكاً لم يسبقه أحد من الاصحاب ، لانه رتبه على الحروف ، الاول فالاول ، من الاسماء وأسماء الاباء والاجداد ، وجمع ما وصل اليه من كتب الرجال مع حسن الترتيب وزيادة التهذيب ، فنقل ما في فهرس الشيخ والنجاشي ، ورجال الكشي ، والشيخ وابن الغضائري والبرقي والعقيقي وابن عقدة والفضل بن شاذان وابن عبدون ، وجعل لكل كتاب علامة ولم يذكر المتأخرين عن الشيخ إلا اسماء يسيرة ، وجعل كتابه في جزأين ، الاول يختص بذكر الموثقين والمهملين ، والثاني بالمجروحين والمجهولين.

وذكر في آخر القسم الاول ، تحت عنوان خاص ، جماعة وصفهم النجاشي بقوله « ثقة ثقة » مرتين ، عدتهم أربعة وثلاثون رجلاً مرتبين على

__________________

١ ـ لاحظ رجال ابن داود : ٤٥ ـ ٤٦ طبعة النجف.

٢ ـ رجال ابن داود : ٦٢ طبعة النجف.

١١٤

حروف الهجاء ، ثم أضاف بأن الغضائري جاء في كتاب خمسة رجال زيادة على ما ذكره النجاشي ، ووضف كلا منهم بأنه « ثقة ثقة » مرتين ، ثم ذكر خمسة فصول لا غنى للباحث عنها ، كل فصل معنون بعنوان خاص.

ثم ذكر في آخر القسم الثاني ، سبعة عشر فصلاً لا يستغني عنها الباحثون ، كل فصل معنون بعنوان خاص ثم أورد تنبيهات تسعة مفيدة.

وبما أنه وقع في هذا الكتاب إشتباهات عند النقل عن كتب الرجال ، مثلا نقل عن النجاشي مطلباً وهو للكشّي أو بالعكس ، قام المحقق الكبير السيد محمد صادق آل بحر العلوم في تعليقاته على الكتاب ، باصلاح تلك الهفوات ولعل أكثر تلك الهفوات نشأت من استنساخ النساخ ، وعلى كل تقدير ، فلهذا الكتاب مزية خاصة لا توجد في قرينه الآتي أعني خلاصة العلاّمة ـ أعلى الله مقامه ـ.

قال الافندي في « رياض العلماء » : « وليعلم أن نقل ابن داود في رجاله عن كتب رجال الاصحاب ، ما ليس فيها ، مما ليس فيه طعن عليه ، إذ أكثر هذا نشأ من اختلاف النسخ ، والازدياد والنقصان الحاصلين من جانب المؤلفين أنفسهم بعد اشتهار بعض نسخها وبقي في أيدي الناس على حالته الاولى من غير تغيير ، كما يشاهد في مصنفات معاصرينا أيضاً ولا سيّما في كتب الرجال التي يزيد فيها مؤلفوها ، الأسامي والأحوال يوماً فيوماً وقد رأيت نظير ذلك في كتاب فهرست الشيخ منتجب الدين ، وفهرست الشيخ الطوسي ، وكتاب رجال النجاشي وغيرها ، حتى إني رأيت في بلدة الساري نسخة من خلاصة العلاّمة قد كتبها تلميذه في عصره ، وكان عليها خطه وفيه اختلاف شديد مع النسخ المشهورة بل لم يكن فيها كثير من الأسامي والأحوال المذكورة في النسخ المتداولة منه »(١) .

__________________

١ ـ رياض العلماء : ١ / ٢٥٨.

١١٥

أقول : ويشهد لذلك ان المؤلفات المطبوعة في عصرنا هذا تزيد وتنقص حسب طبعاتها المختلفة ، فيقوم المؤلف في الطبعة اللاحقة بتنقيح ما كتب بإسقاط بعض ما كتبه وإضافة مالم يقف عليه في الطبعة الأولى ، ولأجل ذلك تختلف الكتب للمعاصرين حسب اختلاف الطبعات.

وفي الختام نذكر نصّ اجازة السيّد أحمد بن طاووس ، لتلميذه ابن داود مؤلّف الرجال ، وهي تعرب عن وجود صلة وثيقة بين الاستاذ والمؤلف فإنه بعد ما قرأ ابن داود كتاب « نقض عثمانية جاحظ » على مؤلفه « أحمد بن طاووس » كتب الاستاذ اجازة له وهذه صورتها :

« قرأ عليّ هذا « البناء » من تصنيفي ، الولد العالم الأديب التقي ، حسن بن علي بن داود ـ أحسن الله عاقبته وشرف خاتمته ـ وأذنت له في روايته عنّي.

وكتب العبد الفقير إلى الله تعالى أحمد بن طاووس حامداً لله ومصلّياً على رسوله ، والطاهرين من عترته ، والمهديّين من ذريته ».

وفي آخر الرسالة ما هذه صورته :

« أنجزت الرسالة ، والحمد لله على نعمه ، وصلاته على سيّدنا محمد النبي وآله الطاهرين.

كتبه العبد الفقير إلى الله تعالى ، حسن بن علي بن داود ربيب صدقات مولانا المصّنف ـ ضاعف الله مجده وأمتعه الله بطول حياته ـ وصلاته على سيّدنا محمد النبي وآله وسلامه ».

وكان نسخ الكتاب في شوال من سنة خمس وستين وستمائة(١) .

__________________

١ ـ وقد أسماه المؤلف بـ « بناء المقالة الفاطمية في نفض الرسالة العثمانية للجاحظ » ويقال اختصاراً « البناء ».

١١٦

مشايخه

قال الافندي : ويروي ابن داود عن جماعة من الفضلاء :

منهم : السيد جمال الدين ابو الفضائل أحمد بن طاووس.

ومنهم : الشيخ مفيد الدين محمد بن جهيم الاسدي على ما يظهر من ديباجة رجاله(١) .

أقول : وهو يروي عن جماعة اخرى أيضاً.

منهم : المحقّق نجم الدين جعفر بن الحسن الحلّي ( المتوفّى عام ٦٧٦ هـ ).

ومنهم الشيخ نجيب الدين أبو زكريا يحيى بن سعيد الحّلي ابن عم المحقق المذكور ( المتوفّى عام ٦٨٩ هـ ).

ومنهم الشيخ سديد الدين يوسف بن علي بن المطهر الحلي والد العلاّمة الحلي.

ونقل الافندي في الرياض أنه كان شريك الدرس مع السيد عبد الكريم بن جمال الدين(٢) أحمد بن طاووس الحلي ( المتوفّى عام ٦٩٣ هـ ) عند المحقّق. ولكن العلاّمة الاميني عدّه من مشايخه(٣) ، والظاهر اتقان الاول.

تلاميذه

يروي عنه جماعة كثيرة :

__________________

١ ـ نقض عثمانية جاحظ المطبوع حديثاً بـ « عمان ».

٢ ـ رياض العلماء : ١ / ٢٥٦.

٣ ـ الغدير : ٦ / ٧.

١١٧

منهم : الشيخ رضي الدين علي بن أحمد المزيدي الحلي(١) ، استاذ الشهيد الاول ، المتوفّى عام ٧٥٧ هـ.

ومنهم : الشيخ زين الدين ابو الحسن علي بن طراد المطارآبادي ، المتوفّى بالحلة ٧٥٤ هـ.

تآليفه

للمترجم له تآليف قيّمة تبلغ ثلاثين كتاباً ذكر أسماءها في رجاله.

ومن شعره الرائق قوله في حقّ الوصي :

وإذا نظرت إلى خطاب محمَّد

يوم الغدير إذ استقّر المنزل

من كنت مولاه فهذا حيدر

مولاه لا يرتاب فيه محصِّل

لعرفت نصّ المصطفى بخلافة

مَنْ بعدَه غرّاء لا يتأوّل

وله اُرجوزة في الإمامة ، طويلة ، مستهلها :

وقد جرت لي قصّة غريبة

قد نتجت قضيّة عجيبة(٢)

وفاته

قد عرفت أنه قد فرغ من رجاله عام ٧٠٧ هـ ، ولم يعلم تاريخ وفاته على وجه اليقين ، غير أن العلاّمة الاميني ينقل عن « رياض العلماء » أنه رأى في مشهد الرضا نسخة من « الفصيح » بخط المترجم له ، في آخرها : « كتبه مملوكه حقاً حسن بن علي بن داود غفر له في ثالث عشر شهر رمضان المبارك سنة احدى وأربعين وسبعمائة حامداً مصلّياً مستغفراً ».

__________________

١ ـ وفي رياض العلماء مكان « المزيدي » ، « المرندي » ، وهو تصحيف.

٢ ـ لاحظ الغدير : ٦ / ٣ ـ ٦ ، وذكر شطراً منها السيد الامين في أعيان الشيعة : ٢٢ / ٣٤٣.

١١٨

فيكون له من العمر حينذاك ٩٤ عاماً ، فيكون من المعمرين ، ولم يذكر منهم(١) .

٤ ـ خلاصة الاقوال في علم الرجال

وهي للعلاّمة(٢) على الاطلاق الحسن بن يوسف بن المطهَّر ، المولود عام ٦٤٨ هـ ، والمتوفّى عام ٧٢٦ هـ ، الذي طار صيته في الآفاق ، برع في المعقول والمنقول ، وتقدَّم على الفحول وهو في عصر الصبا. ألَّف في فقه الشريعة مطوَّلات ومتوسّطات ومختصرات ، وكتابه هذا في قسمين : القسم الاول ؛ فيمن اعتمد عليه وفيه سبعة عشر فصلا ، والقسم الثاني ؛ مختصّ بذكر الضعفاء ومن ردَّ قوله أو وقف فيه ، وفيه أيضا سبعة عشر فصلا ، وفي آخر القسم الثاني خاتمة تشتمل على عشر فوائد مهمَّة ، وكتابه هذا خلاصة ما في فهرست الشيخ والنجاشي وقد يزيد عليهما.

قال المحقّق التستري : « إن ما ينقله العلاّمة من رجال الكشي والشيخ ورجال النجاشي مع وجود المنقول في هذه الكتب غير مفيد ، وإنما يفيد في ما لم نقف على مستنده ، كما في ما ينقل من جزء من رجال العقيقي ، وجزء من رجال ابن عقدة ، وجزء من ثقات كتاب ابن الغضائري ، ومن كتاب آخر له في المذمومين لم يصل الينا ، كما يظهر منه في سليمان النخعي ، كما يفيد أيضاً فيما ينقله من النجاشي في ما لم يكن في نسختنا ، فكان عنده النسخة الكاملة من النجاشي واكمل من الموجود من ابن الغضائري ، كما في ليث البختري ، وهشام بن إبراهيم العبّاسي ، ومحمد بن نصير ، ومحمد بن أحمد بن محمد بن سنان ، ومحمد بن أحمد بن قضاعة ، ومحمد بن الوليد الصيرفي ، والمغيرة بن

__________________

١ ـ الغدير : ٦ / ٨ نقلاً عن روضات الجنات : ٣٥٧.

٢ ـ إن العلاّمة غني عن الاطراء ، وترجمته تستدعي تأليف رسالة مفردة ، وقد كفانا ، ما ذكره اصحاب المعاجم والتراجم في حياته وفضله وآثاره.

١١٩

سعيد ، ونقيع بن الحارث ، وكما ينقل في بعضهم اخباراً لم نقف على مأخذها ، كما في اسماعيل بن الفضل الهاشمي ، وفيما أخذه من مطاوي الكتب كمحمد بن أحمد النطنزي »(١) .

وبما أن هذا الكتاب ورجال ابن داود متماثلان في التنسيق وكيفية التأليف ، يمكن أن يقال : إن واحداً منهما اقتبس المنهج عن الآخر ، كما يمكن أن يقال : إن كليهما قد استقلاّ في التنسيق والمنهج ، بلا استلهام من آخر ، غير أن المظنون هو أن المؤلفين ، بما أنهما تتلمذا على السيد جمال الدين أحمد بن طاووس المتوفّى سنة ٦٧٣ هـ ، وقد كان هو رجالي عصره ومحقق زمانه في ذلك الفن ، قد اقتفيا في تنسيق الكتاب ما خطَّه استاذهما في ذلك الموقف ، والله العالم.

الفروق بين رجالي العلاّمة وابن داود

ثم ان هنا فروقاً بين رجالي العلاّمة وابن داود يجب الوقوف عليها واليك بيانها :

١ ـ ان القسم الاول من الخلاصة مختص بمن يعمل بروايته ، والثاني بمن لا يعمل بروايته ، حيث قال : « الاول ؛ في من اعتمد على روايته أو ترجح عندي قبول قوله. الثاني ؛ في مَنْ تركت روايته أو توقفت فيه ».

ولاجل ذلك يذكر في الاول الممدوح ، لعمله بروايته ، كما يذكر فيه فاسد المذهب إذا عمل بروايته كابن بكير وعليّ بن فضال. وأما الموثقون الذين ليسوا كذلك ، فيعنونهم في الجزء الثّاني لعدم عمله بخبرهم ، هذا.

والجزء الأوّل من كتاب ابن داود فيمن ورد فيه أدنى مدح ولو مع ورود ذموم كثيرة أيضا فيه ولم يعمل بخبره والجزء الثاني من كتابه ، فيمن ورد فيه

__________________

١ ـ قاموس الرجال : ١ / ١٥.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

الأدب خير مِن الذهب

يقول علي الإسكافي:

كنت حاجب أمير بغداد، وكنت أؤدِّي وظائف الحجابة وقد ساءت أوضاعي وأخذ الأمير يشكُّ بي، فأصدر أمراً بسجني ومُصادرة أموالي كلِّها، وسُجنت فترةً مِن الزمن وعانيت الذِّلَّ واليأس والألم.

في أحد الأيَّام أخبرني شرطة السجن بمجيء إسحاق بن إبراهيم الطاهري، رئيس شرطة بغداد وذلك لإحضاري، فانتابني القلق كثيراً، وخفت على حياتي فيئستُ مِن الحياة، ثمَّ اقتادوني إليه فسلَّمت عليه باحترام.

ضحك إسحاق وقال: إنَّ أخي عبد الله بن طاهر بعث لي برسالة مِن خراسان يتشفع لك، وقد وافق أمير بغداد على شفاعتي.

أصدر الأمير أمراً بإطلاق سراحي مِن السجن وأرجع جميع أموالي، ثمَّ قال لي: الآن يُمكنك الذهاب إلى بيتك فشكرت الله، ومِن شِدَّة الفرح انهمرت دموعي.

في اليوم الثاني ذهبت لزيارة الأمير إسحاق الطاهري، وشكرته على صنيعه الحسن، ودعوت الله له بالخير وقلت له: إنِّي لم أحضر لزيارة عبد الله وهولا يعرفني، فما هو السبب في عَطفه عليَّ وعنايته بيَّ.

فقال: قبل عِدَّة أيَّام وصلت رسالة مِن أخي وكتب فيها ما يلي: كانت مكاتيب أمير بغداد قبل الآن تُشعر باللُّطف والمُودَّة والمحبَّة، وكان حاجب الأمير يكتب عبارات رائقة، وكانت تلك الرسائل السبب في استحكام العَلاقات الحَسنة وتقوية العواطف والأُلفة فيما بيننا، وبعد مُدَّة تغيَّرت لهجة الرسائل، وبدت فيها الخشونة والسماجة.

ويقول: إنَّ هذه التغيُّرات كانت مِن قِبَل الأمير، حيث عزل الحاجب وسجنه

٣٠١

واستبدل بغيره، ولكن الحاجب السابق كان شخصاً عارفاً بوظيفته، وله أُسلوب خاصٌّ بكتابة الرسائل، وكان يُراعي مراتب الأدب والاحترام؛ فتجب مُساعدته ومعرفة معصيته، فإذا كانت قبالة للعفو فأنا أعفو عنه، وإذا كانت لمال فيُسدَّد مِن حسابي. اطُلب مِن الأمير العفو عنه وإرجاعه إلى عمله السابق.

وأنا قد أدَّيت رسالة أخي إلى الأمير، ولحُسن الحظِّ فقد قُبلت شفاعته عند الأمير.

بعد هذا التفصيل مِن قبل إسحاق الطاهري، أعطاني عشرة آلاف درهم، وقال: هذه هديَّة الأمير لحُبِّه لك، وبعد عِدَّة أيَّام رجعت إلى عملي السابق حاجباً للأمير، ورجعت عِزَّتي مَرَّة أُخرى، وحُلَّت مشاكلي واحدة تلو الأُخرى (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج1.

٣٠٢

.. والعافين عن الناس

والله يُحبُّ المُحسنين

أخبرني أبو محمد الحسن بن محمد، قال: حدَّثني جَدَّي، قال: حدَّثني محمد بن جعفر وغيره، قالوا: وقف على علي بن الحسين (عليه السلام) رجل مِن أهل بيته، فأسمعه وشتمه، فلم يُكلِّمه. فلمَّا انصرف قال لجُلسائه: (قد سمعتم ما قال الرجل، وأنا أُحبُّ أنْ تبلغوا معي إليه حتَّى تسمعوا مِنِّي رَدِّي عليه).

قال: فقالوا له: نفعل، وقد كنَّا نُحبُّ أنْ تقول له وتقول، قال: فأخذ نعليه ومشى وهو يقول: ( ... وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) .

فعلمنا أنَّه لا يقول له شيئاً.

قال: فخرج حتَّى أتى منزل الرجل، فنادى عليه، قال: (قولوا له: هذا علي بن الحسين).

قال: فخرج إلينا مُتوثِّباً للشَّرِّ، وهو لا يشكُّ أنَّه إنَّما جاء مُكافئاً له على ما كان منه: فقال له علي بن الحسين (عليه السلام):

(يا أخي، إنَّك كنت وقفت عليَّ آنفاً وقلت، فإنْ كنتَ قد قلتَ ما فيَّ، فأنا أستغفر الله منه، وإنْ كنتَ قلتَ ما ليس فيَّ، غَفر الله لك).

قال: فقبَّل الرجل ما بين عينيه وقال: بلى، قلت ما ليس فيك، وأنا أحقُّ به.

كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) قادراً على التحدُّث مع ذلك الرجل بخشونة، وعلى معُاقبته بموجب الموازين الشرعيَّة، ولكنَّه - فَضلاً عن كونه لم يشتدَّ في الكلام معه ولم يُعاقبه، فإنَّه - واجهه بكلِّ نُبل وأدب، وقابل عمله السيِّئ بالإحسان، فناداه أوَّلاً بـ: (يا أخي)، فأوجد بذلك جوَّاً مِن المَحبَّة والتفاهُم، ومِن ثمَّ أشار إلى أقواله. وعلى الرغم مِن وضوح الحقيقة، ومِن معرفة كليهما بمَن هو المُذنب، فإنَّ الإمام السّجاد (عليه السلام) لم يتَّهمه بالذنب، بلْ طلب مِن الله المغفرة للمُذنب الحقيقيِّ، بادئاً بنفسه (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج1.

٣٠٣

ما دخلت المسجد إلاَّ لأستغفرنَّ لك

حُكي أنَّ مالكاً الأشتر كان يجتاز سوق الكوفة، وعليه قميص خام وعمامة منه، فرآه بعض السَّوقة فازدرى زيَّه، فرماه ببندقة تهاوناً به.

فمضى ولم يلتفت. فقيل له: ويلك! أتدري مَن رميت؟!

فقال: لا.

قيل له: هذا مالك، صاحب أمير المؤمنين (عليه السلام) فارتعد الرجل ومضى إليه ليعتذر منه، فرآه وقد دخل مسجداً وهو قائم يُصلِّي فلمَّا انفتل، أكبَّ الرجل على قدميه يُقبِّلهما، فقال: ما الأمر؟

قال: أعتذر إليك مِمَّا صنعت.

فقال: لا بأس عليك؛ فوالله، ما دخلت المسجد إلاَّ لأستغفرنَّ لك (1).

____________________

(1) الأخلاق، ج1.

٣٠٤

مَن أنصف مِن نفسه لم يزده الله إلاَّ عِزَّاً

عن أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام) قال:

(كان علي (عليه السلام) إذا صلَّى الفجر لم يزل مُعقبِّاً إلى أنْ تطلع الشمس، فإذا طلعت اجتمع إليه الفُقراء والمساكين وغيرهم مِن الناس فيُعلِّمهم الفقه والقرآن، وكان له وقت يقوم فيه مِن مجلسه ذلك، فقام يوماً فمَرَّ برجل فرماه بكلمةِ هجوٍ - قال: ولم يُسمِّه محمد بن علي (عليه السلام) - فرجع عَوده على بدئه، حتَّى صعد المنبر وأمر فنودي: الصلاة جامعة.

فحمد الله وأثنى عليه ثمَّ قال:

أيُّها الناس، إنَّه ليس شيء أحبُّ إلى الله، ولا أعمَّ نفعاً مِن حِلم إمام وفقهه.

ولا شيء أبغض إلى الله ولا أعمَّ ضرراً مِن جهل إمام وخرقِهِ.

ألاْ وإنَّه مَن لم يكن له في نفسه واعظ لم يكن له مِن الله حافظ.

ألاْ وإنَّه مَن أنصف مِن نفسه لم يزده الله إلاَّ عِزَّاً.

ألا وإنَّ الذِّلَّ في طاعة الله أقرب إلى الله مِن التعزُّز في معصيته.

أما إنِّي لو أشاء لقلت..

فقال رجل: أو تعفو وتصفح فأنت أهلٌ لذلك.

فقال: عفوت وصفحت).

كثيراً ما اتَّفق في حياة الإمام علي (عليه السلام) أنْ تَجرَّأ عليه بعض الجَهلة، وافتروا عليه بعض الأقاويل، فعفا عنهم الإمام وقابل إساءتهم بالإحسان؛ إذ إنَّ العفو عنهم

٣٠٥

والتغاضي عن إساءاتهم لم يكن ليَنتج عنهما أيُّ ضررٍ، بلْ كانا أحياناً يُعتبران نوعاً مِن العقاب لهم على ترك هذه الرذيلة. ولكنْ في مثل هذه الحالات كان العفو مع السكوت يُسبب أضراراً، لأنَّ العفو مِن دون قيد ولا شرط كان كفيلاً بأنْ يُحمل على ضعف الإمام، وربَّما حمل المُسيء على المضيِّ في إساءاته أكثر؛ ولهذا عزم الإمام على تعنيف المُسيء وإخراج فِكرة الأعمال العدوانيَّة مِن رأسه (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج1.

٣٠٦

الإيمان عمل كلُّه والقول بعضه

عن أبي عمرو الزبيري، عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)، قال: قلت له:

أيُّها العالِم، أخبرني أيُّ الأعمال أفضل عند الله؟

قال: (ما لا يقبل الله شيئاً إلاَّ به).

قلت: وما هو؟

قال: (الإيمان بالله الذي لا إله إلاّ هو أعلى الأعمال درجة، وأشرفها منزلة، وأسناها حَظَّاً).

قال: قلت: ألا تُخبرني عن الإيمان، أهو قول وعمل، أم قول بلا عمل؟

فقال: (الإيمان عمل كلُّه، والقول بعض ذلك العمل، بغرض مِن الله بُيِّن في كتابه، واضح نوره، ثابتة حُجَّته، يشهد له به الكتاب ويدعوه إليه).

قال: قلت: صِفه لي، جُعلت فداك! حتَّى أفهمه.

قال: (الإيمان حالات ودرجات وطبقات منازل، فمنه التامُّ المُنتهي تمامه، ومنه الناقص البيِّن نُقصانه، ومنه الراجح الزائد رُجحانه).

قلت: إنَّ الإيمان ليتمُّ وينقص ويزيد؟

قال: (نعم).

قلت: كيف ذلك؟

قال: (لأنَّ الله تبارك وتعالى فرض الإيمان على جوارح (1) ابن آدم وقسَّمه عليها

____________________

(1) الجوارح في اللُّغة: هي الأعضاء التي بها يقوم الجسم بفعاليَّاته الإراديَّة، والتي يكسب بها الخير والشَّرَّ.

٣٠٧

وفرَّقه فيه، فليس مِن جوارحه حاجةً إلاَّ وقد وكِّلت مِن الإيمان بغير ما وكِّلت به أُختها، فمنها قلبه الذي به يعقل ويفقه ويفهم، وهو أمير بدنه الذي لا تَرِد الجوارح ولا تصدر إلاَّ عن رأيه وأمره...) (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج1.

٣٠٨

مَن قاتل لتكون كلمة الله هي العُليا فهو في سبيل الله

إنَّ أعرابيَّاً أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال:

يا رسول الله، الرجل يُقاتل للمَغنم، والرجل يُقاتل ليُذكر، والرجل يُقاتل ليُرى مكانه، فمَن في سبيل الله؟

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (مَن قاتل لتكون كلمة الله هي العُليا فهو في سبيل الله) (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج1.

٣٠٩

الأمر إلى الله يضعه حيثُ يَشاء

كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قبل الهِجرة، يغتنم فرصة تجمع القبائل والعشائر العربيَّة، التي كانت تَفِد على مَكَّة مِن كلِّ حَدبٍ وصوبٍ ليزورهم في مضاربهم يدعوهم إلى عبادة الأحد، وإلى التحرُّر مِن عبوديَّة الأصنام، ويُعلن لهم رسالة نبوَّته.

وذات مَرَّة، عندما كان التجمُّع قد اشتدَّ في مِنى، بدأ بإعلان دعوته، مُتَّجهاً أوَّلاً إلى مضارب بني كلب، ومِن ثمَّ إلى مضارب بني حنيفة، عارضاً على هاتين القبيلتين الدخول في الإسلام، ولكنَّهما رفضتا دعوته وردَّتاه، فاتَّجه إلى بني عامر وعرض عليهم الإسلام.

وكان رجل مِن رؤسائهم اسمه (بحيرة) قد جذبه مظهر الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) ولهجته الرصينة النافذة، فقال: لو أُتيح لي أنْ أستميل هذا الرجل عن قريش إليَّ، لاستطعت وبقُدرته أُسيطر على العرب جميعاً وأستحوذ على طاعتهم.

ثمَّ التفت إلى رسول الله وقال: أرأيت إنْ نحن بايعناك على أمرك، ثمَّ أظهرك الله على مَن خالفك، أيكون لنا الأمر مِن بعدك؟

قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (الأمر إلى الله يضعه حيثُ يَشاء).

فقال له: أفتُهدَفُ نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا؟ لا حاجة لنا بأمرك، فأبوا عليه.

لم يكن بنو عامر يُدركون ما في قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلم يفهموا معنى أنْ يكون الأمر لله يضعه حيثُ يشاء. ولو أنَّ نبيَّ الإسلام قَبِلَ - يومذاك - ما طلبه (بحيرة) لكان يَعد بني عامر مِن بعده، ويُحيي آمالهم بالمُستقبل، ولالتفَّ حوله أبناء تلك

٣١٠

القبيلة، يضعون تحت أمره كلَّ ما كان فيهم مِن قوَّة وسلاح، ولكنَّ الإسلام ينتشر بسُرعة، وكان هذا بذاته يُعدُّ نجاحاً كبيراً، وفائدة عُظمى. وكان قائد الإسلام، المبعوث مِن الله لتربية الإنسان، والقدوة في مكارم الأخلاق، ما كان ليخطو خُطوة لا تَّتفق وشرف الإنسانيَّة، ولا يَعِدُ بما لا حقيقة له (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج1.

٣١١

الماء لا يُمنَع عن أحد

صِفِّين أرض تقع غرب نهر الفرات بين (الرقة) و(بالس)، حيث دارت رحى حربٍ ضَروسٍ بين جيش الإمام علي (عليه السلام) وجيش مُعاوية، أصابت كلا الطرفين بخسائر كبيرة، فقد جاء في بعض الروايات أنَّ جيش علي (عليه السلام) ضَمَّ تسعين ألف جنديٍّ، بينما بلغ جيش مُعاوية مِئة وعشرون ألفاً.

كانت أرض صِفِّين مُرتفعة عن نهر الفرات، فكانوا يستخدمون الدلاء للاستقاء. ولكنْ في المناطق المزدحمة بالقوافل وبالأنعام والأغنام التي ترد الماء، لم يكن للدلاء نفع كبير، فكان الناس قد شقُّوا طريقاً في المناطق المُنخفضة للوصول إلى شريعة الماء بحيواناتهم وإبلهم فيَردِونها ويحملون مِن الماء ما يحتاجونه في رحلتهم.

في صِفِّين كانت الشريعة عريضة تَفي لسقي كلا الجيشين دون عناء، ولوصول الفُرسان إلى الماء، هُمْ وخيولهم، لحمل ما يحتاجون مِن الماء. وقبل اندلاع حرب صِفِّين، عزم مُعاوية بن أبي سفيان على الاستيلاء على شريعة الفرات، ومنع جيش علي (عليه السلام) مِن الوصول إلى الماء، للتضييق عليهم، والانتصار في الحرب. ونفَّذ معاوية عزمه، فوَكَل لحراسة الشريعة جيشاً قوامه أربعون ألف جنديٍّ بإمرة أبي الأعور؛ ليمنعوا جيش علي (عليه السلام) عن الماء.

وإذ حاول نفر مِن جنود الإمام الوصول إلى الماء، منعهم جنود مُعاوية، وتجالدوا ساعة، ثمَّ عاد جنود الإمام إلى مُعسكرهم دون ماء. وانتشر خبر ضرب الحصار على شريعة الفرات، فغضب جنود الإمام، وأرادوا أنْ يبدأوا الهجوم بأسرع ما يُمكن لطرد جيش مُعاوية عن شريعة الماء، ولكنَّ الإمام علي (عليه السلام) لم يكن يُريد أنْ يكون هو البادئ بالحرب، فيحتكم إلى السيف قبل إتمام الحُجَّة على مُعاوية وجيشه.

٣١٢

ولكي يُبيِّن الموقف، استدعى عبد الله بن بديل، وصعصعة بن صوحان وشبث بن ربعي، وطلب إليهم الذهاب إلى مُعاوية ليقولوا له: إنَّه لم يأت بجيشه ليُحارب على الماء، فليأمر مُعاوية جنوده بإخلاء طريقهم إلى الماء.

انطلق أعضاء الوفد إلى مُعاوية وأبلغوه رسالة الإمام (عليه السلام)، وتحدَّثوا بأنفسهم عن الأمر أيضاً، وراحوا يُحذِّرون مُعاوية مِن إراقة الدماء وإشعال الفتنة. كما أنَّ بعضاً مِن حاشية مُعاوية الذين حضروا المجلس أوردوا بعض الكلام، وكان بعضهم شديد المُعارضة لاحتكار الماء، غير أنَّ مُعاوية ظلَّ مُصرَّاً على موقفه وردَّ الوفد خائباً.

رجع أعضاء الوفد وشرحوا للإمام ما جرى في مجلس مُعاوية.

وإذ سمع الجيش بالخبر اشتدَّ به الغضب، وتهيَّأ لخوض معركة دامية. وبعد أنْ أرخى الليل سُدوله وغَطَّى الظلام كلَّ شيء، خرج الإمام علي (عليه السلام) مِن خيمته يتفقَّد العسكر، فسمع الجنود في خيامهم يتحدَّثون عن ظلم مُعاوية، ومُحاصرة شريعة الماء، ومُشكلة العطش. كانوا يترنَّمون بالشعر الحماسيِّ، ويتحاورون في شؤون الحرب وهم ينتظرن صدور الأمر بالحرب.

وعند عودته إلى خيمته، دخل عليه الأشعث بن قيس، ثمَّ مالك الأشتر وأخذا يشرحان ظروف فُقدان الماء واستعداد الجنود للمُباشرة بالحرب، وطلبا مِن الإمام أنْ يُصدِر أمره بالهجوم على جيش مُعاوية لتحرير شريعة الماء، وإنهاء هذه الحالة الشائنة. كان الإمام قد أوفد وفده إلى مُعاوية وأتمَّ الحُجَّة عليه دون أنْ ينصاع مُعاوية للحقِّ، فلم يجد الإمام (عليه السلام) بُدَّاً مِن أنْ يأمر ببدء الحرب، فخاطبهم قائلاً:

(فإن القوم قد بدأوكم بالظلم، وفاتحوكم بالبغي واستقبلوكم بالعُدوان).

عاد مالك والأشعث إلى جنودهما قائلين لهم: مَن لا يخاف الموت فليتهيَّأ لبزوغ الفجر. فتطوَّع لذلك نحو اثني عشر ألف جنديٍّ. وبدأت الحرب عند بزوغ

٣١٣

الشمس. وكانت حرباً شديدة، قُتِل فيها مِن الجانبين خَلق كثير، ولكنَّ قتلى جيش الشام كان أكثر عدداً. وانتصر جيش الإمام (عليه السلام)، ودُحر جيش مُعاوية وانهزم ووقعت شريعة الماء بيد جيش الإمام.

بعد هذه الهزيمة سأل مُعاوية عمرو بن العاص: ما رأيك؟ ألا ترى أنَّ عليَّاً سيمنع الماء عنَّا؟ فردَّ عليه عمرو بن العاص قائلاً: لا أرى عليَّاً يمنع الماء عن مخلوق.

مضى على ذلك يومان مِن دون حادث بشأن الماء. وفي اليوم الثالث أرسل مُعاوية وفداً مؤلَّفاً مِن اثني عشر رجلاً إلى الإمام علي (عليه السلام) يستجيزونه في الاستسقاء، فقال قائلهم في حضرة الإمام (عليه السلام): ملكتَ فامنح، وجُد علينا الماء، وأعفُ عمَّا سلف مِن مُعاوية.

فقال لهم الإمام (عليه السلام): عودوا إلى مُعاوية وأبلغوه أنَّ أحداً لا يمنعهم عن الماء. وأمر أنْ يُنادى بذلك بين الجنود. فاستتبَّ الهدوء على شطِّ الفرات ثلاثة أيَّام، يَرِده كلا الطرفين. ولكنْ عادت إلى مُعاوية فِكرة الاستيلاء على الشطِّ واحتكار الماء، فبادر إلى خدعة يبعد بها جنود الإمام عن مواضعهم عند الشريعة، ليحتلَّ مواضعهم. فأمر أنْ يكتب على شاخص خشبي: يُحذِّركم واحد مِن عباد الله المُحبِّين لأهل العراق مِن أنَّ مُعاوية ينوي كسر سَدِّ الفرات ليَغرق الجنود على الشطَّ، فكونوا على حذر.

وفي الليل وضِع الشاخص في قوس ورُمي به بين جنود العراق. وعند طلوع الفجر لاحظ جنديٌّ الشاخص وقرأ ما عليه، وناوله غيره، حتَّى أوصلوه إلى الإمام (عليه السلام)، فقال: (هذه خدعة مِن مُعاوية، يُريد إرعابكم ليُشتَّتكم).

وعند الصُّبح شاهد العراقيُّون مئتين مِن جنود مُعاوية الأشدَّاء يحملون المعاول والمجارف، يقدمون إلى حيث سدِّ الفرات، وبدأوا التخريب فيه وهُمْ يتصايحون،

٣١٤

فصدَّق العراقيُّون مقولة صاحب الشاخص، وأنَّه قد نصح لهم، فارتأى القادة ورؤساء القبائل أنْ الصلاح في ترك شريعة الماء لينجوا بأنفسهم مِن خطر مُحتمل. ولم يأت المغرب حتَّى كانت الشريعة قد أُخليت مِن الجند ومِمَّا حولها مِن الخيام والمرابض.

وعند مُنتصف الليل أمر مُعاوية جنوده باحتلال الشريعة، وأنْ ينصبوا خيامهم بمكان خيام جند الإمام (عليه السلام). وعند الصُّبح أدرك العراقيُّون أنَّ مُعاوية قد خدعهم، وخجلوا مِن عدم تصديق الإمام، وندموا على ما فرط منهم، وجاء بعض الرؤساء يطلبون العفو مِن الإمام، ووعدوه ببذل كلِّ ما يستطيعون لجبر هذا الكسر الشائن. وتقدَّم مالك والأشعث يخطبان في الجنود، الذين كانوا يشعرون بالخجل وبالغضب، فأثارتهم خُطبهما وأهاجتهم، حتَّى إنَّهم جرَّدوا سيوفهم مِن أغمادها وتعاهدوا على الموت، وانحدروا نحو الميدان كالأسود الهائجة، واشتبكوا مع جُند مُعاوية في حرب ضَروس دمويَّة، فقُتل عدد مِن الجانبين، ولم ينقض النهار حتَّى ضعف جنود مُعاوية على المُقاومة وولُّوا الأدبار حتَّى ثلاثة فراسخ، وانتصر جيش الإمام علي (عليه السلام)، واستعاد سيطرته على شطِّ الفرات.

وتقدَّم الأشعث إلى الإمام علي (عليه السلام) يُهنِّئه بالانتصار ويستأذنه في منع الماء عن جيش مُعاوية، فرفض الإمام ذلك وقال: إنَّ الماء يجب أنْ يكون في مُتناول الجميع. ولكيلا يظنَّ مُعاوية أنَّه ممنوع مِن الماء، لم ينتظر الإمام مجيء وفد مِن مُعاوية، بلْ بادر بإرسال مبعوث يُخبر مُعاوية بأنَّه لا يُقابل عمله القبيح بمثله، وله أنْ يستقي لجنوده كالسابق.

٣١٥

هي حُرَّة لِمَمْشاك

عن جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) قال: (جاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد بلي ثوبه، فحمل إليه اثني عشر درهماً فقال: يا علي خذ هذه الدراهم فاشتر لي ثوباً ألبسه.

قال علي (عليه السلام): فجئت إلى السوق، فاشتريت له قميصاً باثني عشر درهماً، وجئت به إلى رسول الله، فنظر إليه، فقال:

يا عليُّ غَيْرُ هذا أحبُّ إليَّ؛ أترى صاحبه يُقيلنا؟

فقلت: لا أدري.

فقال: انظُر.

فجئت إلى صاحبه، فقلت: إنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد كره هذا، يُريد ثوباً دونه؛ فأقلنا فيه، فردَّ عليَّ الدراهم وجئت بها إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فمشى معي إلى السوق ليبتاع قميصاً، فنظر فإذا جارية تبكي، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما شأنك؟

قالت: يا رسول الله، إنَّ أهل بيتي أعطوني أربعة دراهم لأشتري لهم بها حاجة فضاعت، فلا أجسر أنْ أرجع إليهم.

أعطاها رسول الله أربعة دراهم وقال لها: إرجعي إلى أهلك.

ومضى رسول الله إلى السوق، فاشترى قميصاً بأربعة دراهم ولبسه وحمد الله. وخرج فرأى رجلاً عُرياناً يقول: مَن كساني كساه الله مِن ثياب الجَنَّة، فخلع رسول الله قميصه الذي اشتراه وكسا السائل، ثمَّ رجع إلى السوق فاشترى بالأربعة التي بقيت قميصاً آخر فلبسه وحمد الله.

ورجع إلى منزله فإذا الجارية قاعدة على الطريق.

فقال لها رسول الله: ما لك لا تأتين أهلك؟

٣١٦

قالت: يا رسول الله، إنِّي قد أبطأت عليهم وأخاف أنْ يضربوني.

فقال لها رسول الله: مُرِّي بين يديَّ ودُلِّيني على أهلك.

فجاء رسول الله حتَّى وقف بباب دارهم، ثمَّ قال:السلام عليكم يا أهل الدار. فلم يُجيبوه، فأعاد السلام فلم يُجيبوه، فأعاد السلام، فقالوا: عليك السلام يا رسول الله، ورحمة الله وبركاته، فقال لهم: ما لكم تركتم إجابتي في أوَّل السلام والثاني.

قالوا: يا رسول الله، سمعنا سلامك فأحببنا أنْ نستكثر منه.

فقال رسول الله: إنَّ هذه الجارية أبطأت عليكم فلا تؤاخذوها.

فقالوا: يا رسول الله، هي حُرَّة لممشاك) (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج1.

٣١٧

الآن يدخل كلامي في أُذنك

في القَرن السادس الهِجري وصل (ابن سلاَّر) - وكان ضابطاً في الجيش المصري - إلى مقام الوزارة، وراح يحكم الناس بكلِّ اقتدار.

كان هذا مِن جِهة شجاعاً نشيطاً ذكيَّاً، وكان مِن جِهة أُخرى أنانيَّاً فظَّاً ظالماً، وقد خدم أثناء حُكمه كثيراً، كما ظلم كثيراً.

عندما كان (ابن سلار) ضابطاً في الجيش، حكم عليه بدفع غرامة، فشكا الأمر إلى (أبي الكرم) مُحاسب الديوان وأوضح له الأمر. غير أنَّ أبا الكرم أهمل كلامه بحَقٍّ أو بدون حَقٍّ، وقال له: إنَّ كلامك لا يدخل في أُذني. فغضب ابن سلار منه وحقد عليه، وما أنْ تسلَّم مقام الوزارة حتَّى انتهز الفرصة للانتقام، فألقى القبض عليه، وأمر أنْ يدقَّ في أُذنه مسمار طويلاً، فدقَّ حتَّى خرج مِن أُذنه الأُخرى. ومع كلِّ صرخة مِن صرخات أبي الكرم عند طَرق المسمار في أُذنه، كان ابن سلار يقول له: الآن يدخل كلامي في أُذنك. ثمَّ أمر بشنق جُثَّته الهامدة بتعليقه مِن المسمار الداخل في رأسه.

لقد جرح أبو الكرم خاطر ابن سلار وأصاب قلبه بكلامه. ولو كان ابن سلار مِن ذوي السجايا الإنسانيَّة، سليم الفكر، لبرئ جُرح قلبه بعد بضعة أسابيع أو شهور، ولنَسي تلك الحادثة المُرَّة، ولكنَّه كان مُصاباً في فكره بفساد الأخلاق، فلم يلتئم جُرحه بسبب أنانيَّته وحِقده وحُبِّه للانتقام.

ولهذا، وبعد مرور عِدَّة سنوات ووصوله إلى الوزارة، ونيله فرصة للانتقام، انتقم مِن ذلك الكلام الجارح، وشفى غليله، ولكنَّه في سبيل ذلك ارتكب عملاً وحشيَّاً بعيداً عن الإنسانيَّة، فقتل رجلاً شَرَّ قتلة بسبب ما تفوَّه به (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج1.

٣١٨

لم يُعطَ أحدٌ شيئاً أضرَّ له في آخرته

مِن طلاقة لسانه

أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أعرابيٌّ وقال له:

ألستَ خيرنا أباً وأُمَّاً، وأكرمنا عقباً، ورئيسنا في الجاهليَّة والإسلام؟

فغضب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: (يا أعرابيُّ، كمْ دون لسانك مِن حجاب؟).

قال: اثنان، شَفتان وأسنان.

فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (فما كان في واحد مِن هذين ما يردُّ عنَّا غرب لسانك هذا؟ أما إنَّه لم يُعطَ أحد في دنياه شيئاً هو أضرُّ له في آخرته مِن طلاقة لسانه. يا عليُّ، قُمْ فاقطع لسانه).

فظنَّ النّاس أنَّه يقطع لسانه، فأعطاه دراهم.

لقد كان كلام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بحيث إنَّ الحاضرين حسبوا أنَّ عليَّاً (عليه السلام) سوف يقطع لسانه فعلاً، ولكنَّ قائد الإسلام أعرب بكلماته الشديدة عن عدم استحسانه لما تفوَّه به الأعرابي مِن جِهة، وأفهم الحُضَّار، مِن جِهة أُخرى، أنَّ التملُّق والمُداجاة مِن العيوب الخلقية الكبيرة وأنَّ على المسلمين أنْ يحذروا التخلُّق بمثل هذا الخُلق المُذلِّ الشائن (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج1.

٣١٩

المجالس بالأمانة

قيل لعلي بن الحسين (عليه السلام): إنَّ فلاناً ينسبك إلى أنَّك ضالٌّ مُبتدعٌ.

فقال للقائل: (ما رعيت حَقَّ مُجالسة الرجل حيث نقلت إلينا حديثه، ولا أدَّيت حَقِّي حيث أبلغتني عن أخي ما لستُ أعلمه).

عندما يسمع البعض أحداً يغتاب صاحباً له ينقلون إليه الغيبة، بدلاً مِن أنْ يدافعوا عنه، ظانِّين أنَّهم بهذا يُقدِّمون خِدمة لصاحبهم مِن جِهة بإطلاعه على ما يُقال عنه، ويكشفون له، مِن جِهة أُخرى، مقدار ما يُكنُّونه له مِن حُبٍّ وصداقة، ولكنَّ الإمام السجاد (عليه السلام) اعتبر هذا العمل مُثيراً للفتنة ومِن العيوب المعنويَّة والسيِّئات الأخلاقيَّة، فقبَّح فعل النمَّام وانتقد عمله مِن جِهتين.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530