كليات في علم الرجال

كليات في علم الرجال11%

كليات في علم الرجال مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: علم الرجال والطبقات
الصفحات: 530

كليات في علم الرجال
  • البداية
  • السابق
  • 530 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 153726 / تحميل: 5796
الحجم الحجم الحجم
كليات في علم الرجال

كليات في علم الرجال

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

الحاجة إلى علم الرجال

لقد طال الحوار حول الحاجة إلى علم الرجال وعدمها ، فمن قائل بتوقّف الاستنباط عليه وأنّ رحاه تدور على أُمور ، منها العلم بأحوال الرواة ، ولولاه لما تمكّن المستنبط من استخراج كثير من الاحكام عن أدلّتها ، إلى قائل بنفي الحاجة إليه ، محتجّاً بوجوه منها : قطعيّة أخبار الكتب الأربعة صدوراً ، إلى ثالث قائل بلزوم الحاجة إليه في غير ما عمل به المشهور من الروايات ، اليغير ذلك من الأنظار ، وتظهر حقيقة الحال ممّا سيوافيك من أدلّة الأقوال ، والهدف إثبات الحاجة إلى هذا العلم بنحو الايجاب الجزئي ، وأنّه ممّا لا بدَّ منه في استنباط الاحكام في الجملة ، في مقابل السلب الكلّي الّذي يدّعي قائله بأنّه لا حاجة إليه أبداً ، فنقول :

استدلّ العلماء على الحاجة إلى علم الرجال بوجوه نذكر أهمَّها :

الاول : حجية قول الثقة

لا شكَّ أنَّ الأدلَّة الأربعة دلَّت على حرمة العمل بغير العلم قال سبحانه وتعالى :( قُلْ ءَاَللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ ) (١) وقال ـ عزَّ من قائل ـ( وَلاَ

__________________

١ ـ يونس : ٥٩.

٢١

تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (١) وقال أيضاً :( وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ) (٢) .

وأمّا الروايات الناهية عن العمل بغير العلم فكثيرة لا تحصى ، يقف عليها كلّ من راجع الوسائل كتاب القضاء الباب « ١٠ ـ ١١ ـ ١٢ » من أبواب صفات القاضي فيرى فيها أحاديث كثيرة تمنع من العمل بغير العلم غير أنَّه قد دلَّت الأدلّة الشرعيّة على حجيّة بعض الظنون ، كالظَّواهر وخبر الواحد إلى غير ذلك من الظنون المفيدة للاطمئنان في الموضوعات والاحكام ، والسرُّ في ذلك هو أنَّ الكتاب العزيز غير متكفّل ببيان جميع الأحكام الفقهيّة ، هذا من جانب. ومن جانب آخر إنَّ الاجماع الكاشف عن قول المعصوم قليل جدّاً. ومن جهة ثالثة إنَّ العقل قاصر في أن يستكشف به أحكام الله ، لعدم احاطته بالجهات الواقعية الداعية إلى جعل الاحكام الشرعية.

نعم هو حجّة في ما إذا كانت هناك ملازمة بين حكم العقل والشرع ، كما في ادراكه الملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها ، ووجوب الشّيء وحرمة ضدّه ، والملازمة بين حرمة الشّيء وفساده ، إلى غير ذلك من الامور التي بحث عنها الأُصوليون في باب الملازمات العقلية.

فهذه الجهات الثَّلاث أوجبت كون خبر الواحد بشرائطه الخاصّة حجّة قطعيّة ، وعند ذلك صارت الحجج الشرعيّة وافية باستنباط الأحكام الشرعية.

ومن المعلوم أنَّه ليس مطلق الخبر حجّة ، بل الحجّة هو خصوص خبر العدل ، كما مال إليه بعض ، أو خبر الثقة أعني من يثق العقلاء بقوله ، ومن المعلوم أنّ إحراز الصغرى ـ أعني كون الراوي عدلاً أو ثقة ـ يحتاج إلى الرجوع إلى علم الرجال المتكفل ببيان أحوال الرواة من العدالة والوثاقة ، وعند ذلك

__________________

١ ـ الاسراء : ٣٦.

٢ ـ يونس : ٣٦.

٢٢

يقدر المستنبط على تشخيص الثّقة عن غيره ، والصالح للاستدلال عن غير الصالح ، إلى غير ذلك من الأمور التي لا يستغني عنها المستنبط الا بالرجوع إلى الكتب المعدَّة لبيانها.

وهناك رأي ثالث يبدو أنه أقوى الآراء في باب حجّية الخبر ، وهو أنّ الخارج عن تحت الظنون المنهيّة ، هو الخبر الموثوق بصدوره وان لم تحرز وثاقة الراوي ، ومن المعلوم أنّ إحراز هذا الوصف للخبر ، يتوقّف على جمع أمارات وقرائن تثبت كون الخبر ممّا يوثق بصدوره. ومن القرائن الدالّة على كون الخبر موثوق الصدور ، هو العلم بأحوال الرواة الواقعة في اسناد الأخبار.

وهناك قول رابع ، وهو كون الخارج عن تحت الظّنون التي نهي عن العلم بها عبارة عن قول الثّقة المفيد للاطمئنان الّذي يعتمد على مثله العقلاء في أُمورهم ومعاشهم ، ولا شبهة أنَّ إحراز هذين الوصفين ـ أعني كون الراوي ثقة والخبر مفيداً للاطمئنان ـ لا يحصل الا بملاحظة أُمور. منها الوقوف على أحوال الرواة الواقعة في طريق الخبر ، ولأجل ذلك يمكن أن يقال : إنَّه لا منتدح لأيّ فقيه بصير من الرجوع إلى « علم الرجال » والوقوف على أحوال الرواة وخصوصيّاتهم ، إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع في ذلك العلم.

وانما ذهب هذا القائل إلى الجمع بين الوصفين في الراوي والمروي ( أي وثاقة الراوي وكون المرويّ مفيداً للاطمئنان ) ، لأنَّ كون الراوي ثقة لا يكفي في الحجيّة ، بل يحتاج مع ذلك إلى إحراز كون الخبر مفيداً للاطمئنان ، ولا يتحقّق إلا إذا كان الراوي ضابطاً للحديث ناقلاً إيّاه حسب ما ألقاه الإمامعليه‌السلام ، وهذا لا يعرف إلا بالمراجعة إلى أحوال الراوي ، ومن المعلوم أنَّ عدم ضابطيّة بعض الرواة مع كونهم ثقاتاً أوجد اضطراباً في الأحاديث وتعارضاً في الروايات ، حيث حذفوا بعض الكلم والجمل الدخيلة في فهم الحديث ، اونقلوه بالمعنى من غير أن يكون اللّفظ كافياً في إفادة مراد الإمامعليه‌السلام .

٢٣

وبذلك يعلم بطلان دليل نافي الحاجة إلى الرجال ، حيث قال : « إنَّ مصير الأكثر إلى اعتبار الموثَّق ، بل الحسن ، بل الضّعيف المنجبر ، ينفي الحاجة إلى علم الرجال ، لأنَّ عملهم يكشف عن عدم الحاجة إلى التَّعديل ». وفيه : أنَّ ما ذكره إنَّما يرد على القول بانحصار الحجّية في خبر العدل ، وأنَّ الرجوع إلى كتب الرجال لأجل إحراز الوثاقة بمعنى العدالة. وأمّا على القول بحجّية الأعمّ من خبر العدل ، وقول الثّقة ، أو الخبر الموثوق بصدوره أو المجتمع منهما فالرُّجوع إلى الرجال لأجل تحصيل الوثوق بالصدق أو وثاقة الراوي.

ثمَّ إنَّ المحقّق التّستري استظهر أنَّ مسلك ابن داود في رجاله ومسلك القدماء هو العمل بالممدوحين والمهملين الَّذين لم يرد فيهما تضعيف من الأصحاب ، ولأجل ذلك خصّ ابن داود القسم الأوّل من كتابه بالممدوحين ومن لم يضعّفهم الأصحاب ، بخلاف العلاّمة فإنَّه خصَّ القسم الأوَّل من كتابه بالممدوحين ، ثمَّ قال : وهو الحقُّ الحقيق بالاتّباع وعليه عمل الأصحاب فترى القدماء كما يعملون بالخبر الّذي رواته ممدوحون ، يعملون بالخبر الّذي رواته غير مجروحين ، وإنّما يردّون المطعونين ، فاستثنى ابن الوليد وابن بابويه من كتاب « نوادر الحكمة » عدّة أشخاص ، واستثنى المفيد من شرائع عليّ بن إبراهيم حديثاً واحداً في تحريم لحم البعير ، وهذا يدلّ على أنّ الكتب التي لم يطعنوا في طرقها ولم يستثنوا منها شيئاً كانت معتبرة عندهم ، ورواتها مقبولو الرواية ، إن لم يكونوا مطعونين من أئمّة الرجال ولا قرينة ، وإلا فتقبل(١) مع الطعن ثم ذكر عدَّة شواهد على ذلك فمن أراد فليلاحظ(٢) .

وعلى فرض صحّة مااستنتج ، فالحاجة إلى علم الرّجال في معرفة الممدوحين والمهملين والمطعونين قائمة بحالها.

__________________

١ ـ كذا في المطبوع والظاهر « فلا تقبل ».

٢ ـ قاموس الرجال : ١ / ٢٥ ـ ٢٧.

٢٤

هذا هو الوجه الأوّل للزوم المراجعة إلى علم الرجال. واليك الوجوه الباقية.

الثاني : الرجوع إلى صفات الرّاوي في الأخبار العلاجيّة

إنَّ الأخبار العلاجيّة تأمر بالرّجوع إلى صفات الرّاوي ، من الأعدليّة والأفقهيّة ، حتّى يرتفع التعارض بين الخبرين بترجيح أحدهما على الآخر في ضوء هذه الصفات. ومن المعلوم أنّ إحراز هذه الصفات في الرّاوة لا يحصل إلا بالمراجعة إلى « علم الرجال » ، قال الصادقعليه‌السلام في الجواب عن سؤال عمر بن حنظلة عن اختلاف القضاة في الحكم مع استناد اختلافهما إلى الاختلاف في الحديث : « الحكم ماحكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر »(١) .

فإنَّ الحديث وإن كان وارداً في صفات القاضي ، غير أنَّ القضاة في ذلك الوقت كانوا رواة أيضاً ، وبما أنّ الاجتهاد كان في ذلك الزَّمن قليل المؤنة ، بسيط الحقيقة ، لم يكن هناك فرق بين الاستنباط ونقل الحديث إلا قليلاً ، ولأجل ذلك تعدّى الفقهاء من صفات « القاضي » إلى صفات « الراوي ».

أضف إلى ذلك أنّ الروايات العلاجيّة غير منحصرة بمقبولة عمر بن حنظلة ، بل هناك روايات أُخر تأمر بترجيح أحد الخبرين على الآخر بصفات الراوي أيضاً ، يقف عليها من راجع الباب التاسع من أبواب صفات القاضي من الوسائل ( ج ١٨ ، كتاب القضاء ).

الثالث : وجود الوضّاعين والمدلّسين في الرواة

إنَّ من راجع أحوال الرواة يقف على وجود الوضّاعين والمدلّسين

__________________

١ ـ الوسائل : ١٨ / ٧٥ ، كتاب القضاء ، الباب التاسع من أبواب صفات القاضي الحديث الأول الصفحة ٧٥.

٢٥

والمتعمّدين للكذب على الله ورسوله فيهم ، ومع هذا كيف يصحّ للمجتهد الافتاء بمجرّد الوقوف على الخبر من دون التعرّف قبل ذلك على الراوي وصفاته.

قال الصادقعليه‌السلام : « إنَّ المغيرة بن سعيد ، دسَّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدّث بها أبي ، فاتَّقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربِّنا وسنَّة نبيّنا محمَّد »(١) .

وقال أيضاً : « إنّا أهل بيت صادقون لا نخلو من كذّاب يكذب علينا فيسقط صدقنا بكذبه علينا عند الناس »(٢) .

وقال يونس بن عبد الرحمن : وافيت العراق فوجدت جماعة من أصحاب أبي جعفر وأبي عبد اللهعليهما‌السلام متوافرين ، فسمعت منهم ، وأخذت كتبهم ، وعرضتها من بعد على أبي الحسن الرضاعليه‌السلام فأنكر منها أحاديث كثيرة أن تكون من أصحاب أبي عبد الله قال : « إنَّ أبا الخطّاب كذب على أبي عبد الله ، لعن الله أبا الخطّاب وكذلك أصحاب أبي الخطّاب ، يدسُّون من هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبد الله فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن »(٣) .

إنَّ الاستدلال بهذه الرّوايات على فرض تواترها أو استفاضتها سهل ، ولعلَّ المراجع المتتبّع يقف على مدى استفاضتها وتواترها.

ولكنَّ الاستدلال بها يتمّ وإن لم تثبت بإحدى الصُّورتين أيضاً بل يكفي كونها أخبار آحاد مردَّدة بين كونها صحيحة أو مكذوبة ، فلو كانت صحيحة ، لصارت حجَّة على المقصود وهووجود روايات مفتعلة على لسان النّبيّ الأعظم

__________________

١ ـ رجال الكشي : ١٩٥.

٢ ـ رجال الكشي : ٢٥٧.

٣ ـ رجال الكشي : ١٩٥ ـ ترجمة المغيرة الرقم ١٠٣.

٢٦

وآله الأكرمين ، وإن كانت مكذوبة وباطلة ، فيثبت المدّعى أيضاً بنفس وجود تلك الروايات المصنوعة في الكتب الروائيّة.

وهذا القسم من الرّوايات ممّا يثبت بها المدَّعى على كلّ تقدير سواء أصحَّت أم لم تصحّ ، وهذا من لطائف الاستدلال.

ولأجل هذا التخليط من المدلّسين ، أمر الائمةعليهم‌السلام بعرض الأحاديث على الكتاب والسَّنة ، وأنَّ كلَّ حديث لا يوافق كتاب الله ولا سَّنة نبيّه يضرب به عرض الجدار. وقد تواترت الروايات على الترجيح بموافقة الكتاب والسّنة ، يقف عليها القارئ إذا راجع الباب التاسع من أبواب صفات القاضي من الوسائل ( ج ١٨ ، كتاب القضاء ).

ويوقفك على حقيقة الحال ما ذكره الشيخ الطوسي في كتاب « العدَّة » قال : « إنّا وجدنا الطّائفة ميَّزت الرجال الناقلة لهذه الأخبار ، فوثَّقت الثّقات منهم وضعَّفت الضعفاء ، وفرَّقوا بين من يعتمد على حديثه وروايته ومن لا يعتمد على خبره ، ومدحوا الممدوح منهم وذموّا المذموم وقالوا : فلان متَّهم في حديثه ، وفلان كذّاب ، وفلا مخلِّط ، وفلان مخالف في المذهب والاعتقاد ، وفلان واقفيّ وفلان فطحيّ ، وغير ذلك من الطّعون التي ذكروها وصنَّفوا في ذلك الكتب واستثنوا الرجال من جملة ما رووه من التصانيف في فهارستهم »(١) .

وهذه العبارة تنصّ على وجود المدلّسين والوضّاعين والمخلِّطين بين رواة الشيعة ، فكيف يمكن القول بحجيّة كلّ ما في الكتب الأربعة اوغيرها من دون تمييز بين الثقّقة وغيره.

وما ربَّما يقال من أنّ ائمّة الحديث ، قد استخرجوا أحاديث الكتب

__________________

١ ـ عدة الاصول ، للشيخ الطوسي : ١ / ٣٦٦.

٢٧

الأربعة من الأُصول والجوامع الأوّلية بعد تهذيبها عن هؤلاء الأشخاص ، وإن كان صحيحاً في الجملة ، ولكن قصارى جهدهم أنّه حصلت للمشايخ الثلاثة وحضرت عندهم قرائن تفيد الاطمئنان على صدور ما رووه في كتبهم الأربعة أو الثَّلاثة(١) عن الأئمة ، ولكن من أين نعلم أنَّه لو حصلت عندنا تلك القرائن الحاصلة عندهم ، لحصل لنا الاطمئنان أيضاً مثل ما حصل لهم.

أضف إلى ذلك أنّ ادّعاء حصول الاطمئنان للمشايخ في مجموع ما رووه بعيد جدّاً ، لأنَّهم رووا ما نقطع ببطلانه.

هذا مضافاً إلى أنّ ادّعاء حصول الوثوق والاطمئنان للمشايخ بصدور عامّة الروايات حتّى المتعارضين أمر لا يقبله الذَّوق السَّليم.

الرابع : وجود العامي في أسانيد الروايات

إنَّ من سبر روايات الكتب الأربعة وغيرها ، يقف على وجود العامي في أسانيد الروايات ، وكثير منهم قد وقعوا في ذيل السند ، وكان الأئمة يفتونهم بما هومعروف بين أئمّتهم ، وقد روى أئمّة الحديث تلك الأسئلة والأجوبة ، من دون أن يشيروا إلى كون الراوي عامياً يقتفي أثر أئمّته وأنّ الفتوى التي سمعها من الإمامعليه‌السلام صدرت منه تقية ، وعندئذ فالرجوع إلى أحوال الرواة يوجب تمييز الخبر الصادر تقية عن غيره.

الخامس : اجماع العلماء

أجمع علماء الإماميّة ، بل فرق المسلمين جميعاً في الأعصار السابقة ، على العناية بتأليف هذا العلم وتدوينه من عصر الأئمةعليهم‌السلام إلى

__________________

١ ـ الترديد بين الأربعة والثلاثة ، انما هو لاجل الترديد في أن الاستبصار كتاب مستقل أو هو جزء من كتاب التهذيب ، وقد نقل شيخنا الوالد ( قدس الله سره ) عن شيخه شيخ الشريعة الاصفهاني ، أنه كان يذهب إلى أن الاستبصار ذيل لكتاب التهذيب وليس كتاباً مستقلاً. ولكن الظاهر من العدة : ١ / ٣٥٦ أنهما كتابان مستقلان.

٢٨

يومنا هذا ، ولولا دخالته في استنباط الحكم الإلهي ، لما كان لهذه العناية وجه.

والحاصل ؛ أنّ التزام الفقهاء والمجتهدين ، بل المحدّثين في عامَّة العصور ، بنقل اسانيد الروايات ، والبحث عن أوصاف الرواة من حيث العدالة والوثاقة ، والدّقة والضبط ، يدلّ على أنَّ معرفة رجال الروايات من دعائم الاجتهاد.

٢٩
٣٠

٢ ـ أدلة نفاة الحاجة إلى علم الرجال

* حجية أخبار الكتب الأربعة.

* عمل المشهور جابر لضعف السند.

* لا طريق إلى اثبات عدالة الرواة.

* تفضيح الناس والتشهير بهم بهذا العلم وعدم اجتماع شرائط الشهادة.

٣١
٣٢

الفصل الثاني

الحاجة الى علم الرجال

١ ـ أدلّة المثبتين.

٢ ـ أدلّة النافين.

٣٣
٣٤

حجة النافين للحاجة إلى علم الرجال

قد عرفت أدلة القائلين بوجود الحاجة إلى علم الرجال في استنباط الاحكام من أدلتها. بقيت أدلة النافين ، واليك بيان المهم منها :

الأوّل : قطعية روايات الكتب الأربعة

ذهبت الاخبارية إلى القول بقطعيّة روايات الكتب الأربعة وأنَّ أحاديثها مقطوعة الصّدور عن المعصومينعليهم‌السلام وعلى ذلك فالبحث عن حال الرّاوي من حيث الوثاقة وعدمها ، لأجل طلب الاطمئنان بالصدور ، والمفروض أنَّها مقطوعة الصُّدور.

ولكن هذه دعوى بلا دليل ، إذ كيف يمكن ادّعاء القطعيّة لأخبارها ، مع أنَّ مؤلّفيها لم يدَّعوا ذلك ، وأقصى ما يمكن أن ينسب اليهم أنَّهم ادَّعوا صحة الأخبار المودعة فيها ، وهي غير كونها متواترة أو قطعيّة ، والمراد من الصحّة اقترانها بقرائن تفيد الاطمئنان بصدورها عن الأئمةعليهم‌السلام . وهل يكفي الحكم بالصحّة في جواز العمل بأخبارها بلا تفحّص أو لا ، سنعقد فصلا خاصّاً للبحث في ذلك المجال ، فتربّص حتّى حين.

أضف إلى ذلك أنَّ أدلّة الأحكام الشرعيَّة لا تختصّ بالكتب الأربعة ، ولأجل ذلك لا مناص عن الاستفسار عن أحوال الرواة. وقد نقل في الوسائل

٣٥

عن سبعين كتاباً ، أحاديث غير موجودة في الكتب الأربعة وقد وقف المتأخّرون على أُصول وكتب لم تصل إليها يد صاحب الوسائل أيضاً ، فلأجل ذلك قام المحدّث النوري بتأليف كتاب أسماه « مستدرك الوسائل » وفيه من الأحاديث ما لا غنى عنها للمستنبط.

الثاني : عمل المشهور جابر لضعف السند

ذهب بعضهم إلى أنَّ كلَّ خبر عمل به المشهور فهو حجة سواء كان الراوي ثقة أم لا ، وكلّ خبر لم يعمل به المشهور ليس بحجّة وإن كانت رواتها ثقات.

وفيه : أنَّ معرفة المشهور في كلّ المسائل أمر مشكل ، لأنّ بعض المسائل غير معنونة في كتبهم ، وجملة أُخرى منها لا شهرة فيها ، وقسم منها يعدّ من الأشهر والمشهور ، ولأجل ذلك لا مناص من القول بحجيّة قول الثقات وحده وإن لم يكن مشهوراً. نعم يجب أن لا يكون معرضاً عنه كما حقّق في محلّه.

الثالث : لا طريق إلى اثبات العدالة

إنَّ عدالة الراوي لا طريق اليها إلا بالرجوع إلى كتب أهل الرجال الّذين أخذوا عدالة الراوي من كتب غيرهم ، وغيرهم من غيرهم ، ولا يثبت بذلك ، التعديلُ المعتبر ، لعدم العبرة بالقرطاس.

وفيه : أنّ الاعتماد على الكتب الرجالية ، لأجل ثبوت نسبتها إلى مؤلّفيها ، لقراءتهم على تلاميذهم وقراءة هؤلاء على غيرهم وهكذا ، اوبقراءة التّلاميذ عليهم أو بإجازة من المؤلّف على نقل ما في الكتاب ، وعلى ذلك يكون الكتاب مسموعاً على المستنبط أو ثابتة نسبته إلى المؤلف.

والحاصل ؛ أنَّ الكتب إذا ثبتت نسبتها إلى كاتبها عن طريق التواتر والاستفاضة ، أو الاطمئنان العقلائي الّذي يعدّ علماً عرفياً أو الحجّة الشرعيّة ،

٣٦

يصحّ الاعتماد عليها. ولأجل ذلك تقبل الأقارير المكتوبة والوصايا المرقومة بخطوط المُقرّ والموصي أو بخطّ غيرهم ، إذا دلّت القرائن على صحّتها ، كما إذا ختمت بخاتم المُقرّ والموصي أو غير ذلك من القرائن. ومن يرفض الكتابة فإنَّما يرفضها في المشكوك لا في المعلوم والمطمئنّ منها.

أضف إلى ذلك أنَّ تشريع اعتبار العدالة في الراوي ، يجب أن يكون على وجه يسهل تحصيلها ، ولو كان متعسّراً أو متعذّراً ، يكون الاعتبار لغواً والتشريع بلا فائدة.

وعلى هذا فلو كانت العدالة المعتبرة في رواة الأحاديث ، ممكنة التحصيل بالطَّريق الميسور وهو قول الرجاليين فهو ، وإلا فلو لم يكن قولهم حجّة ، يكون اعتبارها فيهم أمراً لغواً لتعسّر تحصيلها بغير هذا الطَّريق.

وللعلاّمة المامقاني جواب آخر وهو : أنَّ التزكية ليست شهادة حتّى يعتبر فيها ما يعتبر في ذلك ، من الأصالة والشفاه وغيرها ، وإلا لما جاز أخذ الأخبار من الأُصول مع أنَّها مأخذوة من الأُصول الأربعمائة ، بل المقصود من الرجوع إلى علم الرجال هو التثبّت وتحصيل الظنّ الاطمئناني الانتظامي الّذي انتظم أُمور العقلاء به فيما يحتاجون إليه وهو يختلف باختلاف الأُمور معاشاً ومعاداً ويختلف في كلّ منهما باعتبار زيادة الاهتمام ونقصانه.(١)

وهذا الجواب انما يتمّ على مذهب من يجعل الرّجوع إلى الكتب الرجالية من باب جمع القرائن والشّواهد لتحصيل الاطمئنان على وثاقة الراوي أو صدور الحديث. وأمّا على مذهب من يعتبر قولهم حجّة من باب الشَّهادة فلا.

فالحقّ في الجواب هو التَّفصيل بين المذهبين. فلو اعتبرنا الرجوع اليهم من باب الشّهادة ، فالجواب ما ذكرناه. ولو اعتبرناه من باب تحصيل القرائن

__________________

١ ـ تنقيح المقال : ١ / ١٧٥ ، من المقدمة.

٣٧

والشواهد على صدق الراوي وصدور الرواية ، فالجواب ما ذكرهقدس‌سره .

ثمَّ إنَّ محلَّ البحث في حجّية قولهم ، إنَّما هو إذا لم يحصل العلم من قولهم أو لم يتحقّق الاطمئنان ، وإلا انحصر الوجه في قبول قولهم من باب التعّبد ، وأما الصورتان الاُوليان ، فخارجتان عن محلّ البحث ، لأنَّ الأوّل علم قطعيّ ، والثاني علم عرفي وحجّة قطعية وإن لم تكن حجّيته ذاتية مثل العلم.

الرابع : الخلاف في معنى العدالة والفسق

إنَّ الخلاف العظيم في معنى العدالة والفسق ، يمنع من الأخذ بتعديل علماء الرجال بعد عدم معلوميّة مختار المعدِّل في معنى العدالة ومخالفته معنا في المبنى ، فإنَّ مختار الشيخ في العدالة ، أنَّها ظهور الإسلام ، بل ظاهره دعوى كونه مشهوراً ، فكيف يعتمد على تعديله ، من يقول بكون العدالة هي الملكة.

وأجاب عنه العلاّمة المامقاني ( مضافاً إلى أنَّ مراجعة علماء الرجال إنَّما هو من باب التبيُن الحاصل على كلّ حال ) ، بقوله : إنّ عدالة مثل الشيخ والتفاته إلى الخلاف في معنى العدالة ، تقتضيان ارادته بالعدالة فيمن أثبت عدالته من الرواة ، العدالة المتّفق عليها ، فإنَّ التأليف والتَّصنيف إذا كان لغيره خصوصاً للعمل به مدى الدَّهر فلايبني على مذهب خاصّ الا بالتّنبيه عليه.(١)

توضيحه : أنَّ المؤلّف لو صرَّح بمذهبه في مجال الجرح والتَّعديل يؤخذ به ، وإن ترك التَّصريح به ، فالظّاهر أنَّه يقتفي أثر المشهور في ذاك المجال وطرق ثبوتهما وغير ذلك ممّا يتعلّق بهما ، إذ لو كان له مذهب خاصّ وراء

__________________

١ ـ تنقيح المقال : ١ / ١٧٦ ، من المقدمة.

٣٨

مذهب المشهور لوجب عليه التنبيه ، حتّى لا يكون غارّاً ، لأنَّ المفروض أنَّ ما قام به من العبء في هذا المضمار ، لم يكن لنفسه واستفادة شخصه ، بل الظّاهر أنَّه ألّفه لاستفادة العموم ومراجعتهم عند الاستنباط ، فلا بدَّ أن يكون متّفق الاصطلاح مع المشهور ، وإلا لوجب التّصريح بالخلاف.

يقول المحقّق القمّي في هذا الصَّدد : والظّاهر أنَّ المصنِّف لمثل هذه الكتب لا يريد اختصاص مجتهدي زمانه به ، حتّى يقال إنَّه صنَّفه للعارفين بطريقته ، سيَّما وطريقة أهل العصر من العلماء عدم الرُّجوع إلى كتب معاصريهم من جهة الاستناد غالباً ، وإنَّما تنفع المصنَّفات بعد موت مصنِّفيها غالباً إذا تباعد الزَّمان. فعمدة مقاصدهم في تأليف هذه الكتب بقاؤها أبد الدهر وانتفاع من سيجيء بعدهم منهم ، فإذا لوحظ هذا المعنى منضمّاً إلى عدالة المصنّفين وورعهم وتقواهم وفطانتهم وحذاقتهم ، يظهر أنَّهم أرادوا بما ذكروا من العدالة المعنى الّذي هو مسلَّم الكلّ حتّى ينتفع الكلّ. واحتمال الغفلة للمؤلّف عن هذا المعنى حين التأليف سيّما مع تمادي زمان التأليف والانتفاع به في حياته في غاية البعد(١) .

وهناك قرينة أُخرى على أنَّهم لا يريدون من الثقة ، مجرَّد الإسلام مع عدم ظهور الفسق ، وإلاَّ يلزم توثيق أكثر المسلمين ، ولا مجرَّد حسن الظّاهر ، لعدم حصول الوثوق به ما لم يحرز الملكة الرادعة.

قال العلاّمة المامقاني : إنَّ هناك قرائن على أنَّهم أرادوا بالعدالة معنى الملكة وهو أنّا وجدنا علماء الرجال قد ذكروا في جملة من الرواة ما يزيد على ظهور الإسلام وعدم ظهور الفسق ، بل على حسن الظاهر بمراتب ومع ذلك لم يصرّحوا فيهم بالتعديل والتوثيق ، ألا ترى أنَّهم ذكروا في إبراهيم بن هاشم ، أنَّه أوّل من نشر أحاديث الكوفيّين بقم ، وهذا يدلّ على ما هو أقوى من حسن

__________________

١ ـ القوانين : ١ / ٤٧٤ الباب السادس في السّنة.

٣٩

الظّاهر بمراتب ، لأنَّ أهل قم كان من شأنهم عدم الوثوق بمن يروي عن الضعفاء ، بل كانوا يخرجونه من بلدهم ، فكيف بمن كان هو في نفسه فاسقاً أو على غير الطَّريقة الحقَّة. فتحقّق نشر الأخبار بينهم يدلّ على كمال جلالته ومع ذلك لم يصرِّح فيه أحد بالتّوثيق والتّعديل(١) .

الخامس : تفضيح الناس في هذا العلم

إنَّ علم الرجال علم منكر يجب التحرّز عنه ، لأنَّ فيه تفضيحاً للنّاس ، وقد نهينا عن التجسّس عن معايبهم وأمرنا بالغضّ والتستّر.

وفيه أوّلاً : النقض بباب المرافعات. حيث إنّ للمنكر جرح شاهد المدَّعي وتكذيبه ، وبالأمر بذكر المعايب في مورد الاستشارة ، إلى غير ذلك ممّا يجوز فيه الاغتياب.

وثانياً : إنَّ الأحكام الالهيَّة أولى بالتحفّظ من الحقوق التي اُشير اليها.

أضف إلى ذلك أنَّه لو كان التفحّص عن الرواة أمراً مرغوباً عنه ، فلماذا أمر الله سبحانه بالتثبّت والتبيّن عند سماع الخبر ، إذ قال سبحانه :( إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإ فَتَبَيَّنُوا ) (٢) .

والأمر به وإن جاء في مورد الفاسق ، لكنَّه يعمُّ المجهول للتّعليل الوارد في ذيل الآية( أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَة فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ) فإنَّ احتمال إصابة القوم بجهالة لا يختصّ بمن علم فسقه ، بل يعمّ محتمله كما لا يخفى.

السادس : قول الرجالي وشرائط الشهادة

لو قلنا باعتبار قول الرجالي من باب الشَّهادة ، يجب أن تجتمع فيه

__________________

١ ـ تنقيح المقال : ١ / ١٧٦ من المقدمة.

٢ ـ الحجرات : ٦.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

ترى أنّه سبحانه عندما رام أن يشير إلى هذه الكتب المعهودة عرفها باللام إشارة إلى معهوديتها.

أضف إليه أنّ الهدف الأسمى للآية من نفي التلاوة والكتابة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله هو قلع جذور الريب والشك من قلوب المبطلين، ولا يتحصل ذلك إلّا بكونه اُمّياً غير قارئ ولاكاتب قط، ولا يحسن القراءة والكتابة أصلاً. ولو صح ما يرتئيه الدكتور لما نهضت الآية إلى رفع آثار الشك وغبار الريب بل كان باب اكتساب الشك في أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله وإلقاء الريب في قلوب ضعفاء الناس بنبوّته مفتوحاً بمصراعيه. إذ كان للجاحد المبطل أن يقول انّهصلى‌الله‌عليه‌وآله بمزاولته صحف والكتب العربية، وقف على أحوال الماضين وأقاصيص الأوّلين، فأودع نتائج أفكاره وما استحصل عليه منها بعد سبره لغورها، في هذه الصحائف وفي ضمنها من هذه السور والآيات التي افتراها على الله، وقد رماه بهذه الفرية الشائنة رؤوس الكفر والعناد فيما حكاه عزّ وجلّ:( وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) ( الفرقان ـ ٥ ).

وفي نفس الآية دليل بارز على أنّ الهدف منها هو نفي مطلق التلاوة والكتابة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله حيث عطف على الجملة الأولى:( وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ ) قوله:( وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ) .

بيانه: لو كان المراد من الآية سلب القدرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في خصوص ما يتعلّق بتلاوة الكتب الدينية النازلة باللغة العبرانية أو غيرها من اللغات غير الدارجة في الجزيرة العربية، لكان له تعالى أن يقتصر عل الجملة الاُولى، ولا يردفها بقوله:( وَلا تَخُطُّهُ ) لوضوح الملازمة بين السلبين. فإذا كان الرجل لا يقدر على قراءة كتاب اُلّف بلغة خاصة، فهو لا يقدر على خطها وترسيمها بتاتاً، فعلى ذلك لماذا جيئ بالمعطوف مع امكان الاستغناء عنه بما تقدم عليها.

ولكن لو كان الغرض هو التنبيه على اُمّية النبي بأوضح العبارات، والاجهار بها بأصح الأساليب، وأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله قبل بعثته لم يكن قارئاً ولا كاتباً بتاتاً، بل كان بعيد عن ذلك

٣٠١

كل البعد، لصح عطفها على ما تقدم عليها، لأنّ العرف إذا حاول توصيف الرجل بالاُمّية يقول في حقه: إنّه لا يعرف القراءة والكتابة، أو أنّه ليست بينه وبين التلاوة والكتابة أية صلة، ولا يقتصر على نفي الاُولى بل يردفها بنفي الاُخرى أيضاً، توضيحاً للمراد. والله سبحانه لـمّا أراد التركيز على اُمّية النبي وأنّه طيلة عمره كان بعيداً عن مجالات العلم والدراسة، أتى بما هو الدارج في لسان العرب، إذا أرادوا توصيف الشخص بالاُمّية.

والشاهد على ما ذكرنا: أنّك لو ألقيت هذه الآية على أي عربي عريق في لغته ولسانه، يقضي بأنّ المقصد الأسنى منها نفي معرفتهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالتلاوة والكتابة على الاطلاق. نعم الآية خاصة بما قبل البعثة، لا تعم ما بعدها ولنا عودة إلى هذا الموضوع في الأبحاث الآتية فانتظر.

وربما يقال(١) : إنّ الآية تنفي مطلق التلاوة والكتابة ولكنّه لا يدل على نفي احسانهما عنه: قلت: سيوافيك جوابه عند البحث عن وضع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد البعثة.

النص الثاني من القرآن على كونه اُمّياً :

يدل على ذلك قوله سبحانه :

( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) .

( فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) ( الأعراف: ١٥٧ ـ ١٥٨ ).

قد وصف سبحانه نبيّه في هذه الآية بخصال عشر وهي: أنّه رسول، نبي، اُمّي ،

__________________

(١) نقله الشيخ الطوسي في تبيانه راجع ج ٨ ص ٢١٦ ط بيروت.

٣٠٢

مكتوب اسمه في التوراة والانجيل، ومنعوت فيهما بأنّه يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، يحل لهم الطيبات، يحرّم عليهم الخبائث، يضع عنهم الإصر، ويرفع عنهم الأغلال.

وهذه الصفات التي تضمّنتها الآية في حق النبي الأكرم واضحة حتى الوصف الذي هو موضوع البحث ( الاُمّي ) إذ الاُمّي حسب تنصيص الكتاب المبين هو من لا يقدر على القراءة ولا يحسن الكتابة كما يقول سبحانه:( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إلّا يَظُنُّونَ ) ( البقرة ـ ٧٨ ).

قوله سبحانه:( لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ ) توضيح لقوله اُمّيون أي منهم اُمّة منقطعون عن كتابهم لا يعلمون منه إلّا أوهاماً وظنوناً يتلوها عليهم علماؤهم، الذين يحرفون كتاب الله وكلماته عن مواضعها، ويحسب هؤلاء السذّج أنّه الكتاب المنزل إليهم من ربّهم. ولذلك قال سبحانه في الآية التالية:( فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ ) ( البقرة ـ ٧٩ ).

فلو كانوا عارفين بالكتاب قادرين على قراءته وتلاوته لما اغتروا بعمل المحرّفين، ولميّزوا الصحيح من الزائف غير أنّ اُمّيتهم وجهلهم به حالت بينهم وبين اُمنيتهم.

قال الرازي: إنّه تعالى وصف محمداً في هذه الآية بصفات تسع(١) إلى أن قال: الصفة الثالثة كونه اُمّياً، قال الزجّاج: معنى الاُمّي الذي هو على صفة اُمّة العرب، قال عليه الصلاة والسلام: إنّا اُمّة اُمّية لا نكتب ولا نحسب(٢) فالعرب أكثرهم ما كانوا يكتبون ولا يقرأون، والنبي كان كذلك فلهذا السبب وصفه بكونه اُمّياً(٣) .

__________________

(١) لا، بل عشر، كما عرفت.

(٢) إيعاز إلى ما رواه البخاري في صحيحه: ج ١ ص ٣٢٧ عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: إنّا اُمّة اُمّية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا أو هكذا، مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين.

(٣) مفاتيح الغيب: ج ٤ ص ٣٠٩.

٣٠٣

وقال البيضاوي: الاُمّي لا يكتب ولا يقرأ، وصفه به تنبيهاً على أنّ كمال علمه مع حاله هذا، إحدى معجزاته(١) .

هذا وقد أصفقت على ما ذكرنا من المعنى للاُمّية معاجم اللغة المؤلّفة في العصور الزاهرة بأيدي الخبراء الأساطين وفي مقدّمهم: أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا المتوفّى عام ٣٩٥ صاحب « مقاييس اللغة »(٢) وغيرها من الكتب الممتعة ودونك كلامه :

« اُم » له أصل واحد يتفرع منه أربعة أبواب وهي الأصل، والمرجع والجماعة والدين، قال الخليل: كل شيء تضم إليه ما سواه مما يليه، فإنّ العرب تسمّي ذلك اُمّاً ومن ذلك اُم الرأس: وهو الدماغ، اُم التنائف: أشدها وأبعدها، اُم القرى: مكة وكل مدينة هي اُم ما حولها من القرى، واُم القرآن: فاتحة الكتاب واُم الكتاب ما في اللوح المحفوظ، واُم الرمح: لواؤه وما لف عليه، وتقول العرب للمرأة التي ينزل عليها: اُم مثوى، واُم كلبة: الحمى، واُم النجوم: السماء، واُم النجوم: المجرّه إلى أن عد كثيراً من هذه التراكيب فقال: الاُمّي في اللغة: المنسوب إلى ما عليه جبلة الناس لا يكتب، فهو في أنّه لا يكتب على ما ولد عليه(٣) .

ومحصل كلامه أنّه ليس للاُم إلّا مادة واحدة وهي الأصل لغيرها ومنه يتفرع غيرها فاُم الانسان اُم لأنّها أصله وعرقه وهكذا

وهذا الزمخشري إمام اللغة والبلاغة فسر قوله تعالى:( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إلّا يَظُنُّونَ ) بأنّهم لا يحسنون الكتاب فيطالعوا التوراة

__________________

(١) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج ٣ ص ٢٣٠ مع شرحه لاسماعيل القنوي.

(٢) بلغ ابن فارس الغاية في الحذق باللغة، وكنه أسرارها وفهم اُصولها، وقد حاول في تأليف هذا المعجم أن يوحّد المعاني المتعددة المفهومة من لفظ واحد وذلك بارجاعها إلى أصل واحد تفرّعت عنه تلك المعاني في الاستعمال ـ وقد إنفرد من بين اللغويين بهذا التأليف ولم يسبقه إلى مثله أحد، ولم يخلفه غيره.

(٣) المقاييس: ج ١ ص ٢١ ـ ٢٨ والكشاف ج ١ ص ٢٢٤.

٣٠٤

ويتحققوا ما فيها(١) .

وقال أمين الإسلام في مجمع البيان: ذكروا للاُمّي معاني :

أوّلها: أنّه الذي لا يكتب ولا يقرأ.

ثانيها: أنّه منسوب للاُمّة والمعنى أنّه على جبلة الاُمّة قبل استفادة الكتاب.

ثالثها: أنّه منسوب إلى الاُم والمعنى أنّه على ما ولدته اُمّه قبل تعلم الكتابة.

قلت: هذه المعاني متقاربة تهدف إلى مفهوم واحد. وإنّما الاختلاف في انتسابه إلى الاُم أو الاُمّة وقد جمع ابن فارس في كلامه كلا الاحتمالين.

هذه نصوص بعض أئمّة اللغة وأساطين التفسير، إذا شئت فلاحظ كلمات الباقين منهم.

الآراء الشاذة في تفسير الاُمي :

ربّما يجد القارئ في طيات بعض التفاسير معاني اُخر للاُمّي لا تتفق مع ما أصفقت عليه أئمّة اللغة والتفسير فلا بأس بذكرها ودحضها :

١. الاُمي منسوب إلى اُم القرى وهي علم من أعلام مكة كما يدل عليه قوله سبحانه:( وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ) ( الشورى ـ ٧ ) وعلى ذلك فالمراد من الاُمي أنّه مكي.

وفيه مواقع للنظر والنقد :

أوّلاً: إنّ اُم القرى ليست من أعلام مكة ـ وإن كان يطلق عليها ـ غير أنّ الإطلاق لا يدل على كونه من أعلامها، بل هو موضوع على معنى كلي وهي إحدى مصاديقه ولا تنس ما ذكره ابن فارس بقوله: « كل مدينة هي اُم ما حولها من القرى » فيعلم من ذلك

__________________

(١) المقاييس: ج ١ ص ٢١ ـ ٢٨ والكشاف: ج ١ ص ٢٢٤.

٣٠٥

أنّ اُم القرى مفهوم كلي يصح اطلاقه على أية بلدة تتصل بها قرى كثيرة بالتبعية، وهذه القرى تعمتد عليها في اُمور حياتها، ويعاضد ما ذكرناه ( كون اُم القرى كلياً ) قوله عزّ وجلّ:( وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً ) ( القصص ـ ٥٩ ) فالآية ( بحكم رجوع الضمير في اُمها إلى القرى ) صريحة في أنّها ليست علماً لموضع خاص، لأنّ مشيئته تعم الاُمم في هذا الأمر ( أهلاك الاُمم وإبادتهم بعد انذارهم ببعث الرسل ) ولا تختص باُمّة دون اُخرى، أو نقطة دون نقطة، وعلى هذا، فمفاد الآية أنّ الله سبحانه يمهل أهل القرى من دون فرق بين قرية وقرية، حتى يبعث في مركزها الذي هو مركز الثقل بالنسبة إليها، والمجتمع لأكثر الناس، وملتقى أفكارهم، رسولاً يبشرّهم وينذرهم، فإذا ضربوا عنه صفحاً وهجروا مناهجه، يبيدهم ويهلكهم بألوان العذاب وهذه مشيئة الله وعادته في الاُمم السالفة البائدة جميعاً، مكية كانت أم غيرها.

وثناياً: لو صح كونه من أعلام مكة فالصحيح عند النسبة إليها هو القروي لا الاُمّي، هذا ابن مالك يقول في ألفيته :

وانسب لصدر جملة وصدر ما

ركب مزجا ولثان تتما

اضافة مبدوة بابن وأب

أو ما له التعريف بالثاني وجب

فيما سوى هذا انسبن للأول

مالم يخف للبس كعبد الأشهل

قال ابن عقيل في شرحه: إذا نسب إلى الإسم المركب فإن كان مركباً تركيب جملة أو تركيب مزج، حذف عجزه واُلحق صدره ياء النسب فتقول في تأبّط شراً: تأبطي، وفي بعلبك: بعلي، وإن كان مركب إضافة، فإن كان صدره ابناً أو أباً أو كان معروفاً بعجزه، حذف صدره واُلحق عجزه ياء النسبة، فنقول في ابن الزبير: زبيري، وفي أبي بكر: بكري، وفي غلام زيد: زيدي، وإن لم يكن كذلك(١) .

والاقتصار على الابن والأب من باب المثال والحكم يعم الاُم والابنة والأخ

__________________

(١) شرح ابن عقيل: ج ٢، ص ٣٩١.

٣٠٦

والاُخت، لاشتراك الجميع معهما في المناط والملاك ـ وهو كونها مركبة تركيب اضافة وحصول الالتباس لو اُلحقت بصدرها.

وثالثاً: إنّ الله وصف نبيّه في الآية بصفات تناسب موضوع النبوّة، فلو كان الاُمّي فيها بالمعنى الذي أوضحناه، لتلاءم الكلام، وتكون تلك الصفة هادفة إلى آية نبوّته وبرهان رسالته، لأنّه مع كونه اُمّياً لا يقرأ ولا يكتب، أتى بشريعة كافلة لسعادة الناس وسيادتهم وجاء بكتاب فيه هدى ونور، وتضمن من الحقائق والمعارف ما لا يقف عليه حتى الأوحدي من الناس فضلاً عمّن لم يقرأ ولم يكتب، وهذا برهان رسالته ودليل صلته بالله وكونه مبعوثاً ومؤيداً منه تعالى.

ولو كان المراد منه ما زعمه القائل من كونه مكياً وأنّه وليد ذلك البلد، لكان الاتيان به في ثنايا تلك الأوصاف والخصال اقحاماً بلا وجه واقتضاباً بلا جهة.

وإن شئت قلت: لو كان المراد من الاُمي ما ذكرناه لكان فيه إشارة إلى أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مع كونه باقياً على الحالة التي ولد عليها، قد أتى بكتاب عجز الناس عن تحدّيه، وكلّ البلغاء عن معارضته، وخرس الفصحاء لديه، مضافاً إلى ما فيه من المعارف الالهية والحقائق العلمية والدساتير والقوانين الاجتماعية والاقتصادية في شؤون الحياة الانسانية ومسائلها المعقدة، وهذا دليل على صدق دعوته، وأنّه مبعوث من عنده تعالى، وهذه النكتة تفوتنا إذا فسرناه بأنّه مكي ووليد الحرم والبلد الأمين إذ ليس في كونه مكّياً أي امتياز حتى ينوّه به.

وإلى ما ذكرنا يشير قوله عزّ وجلّ:( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) ( الجمعة ـ ٢ ).

فإنّ توصيف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّه منهم ( أي من الاُمّيين ) للاشارة إلى أنّه مع كونه اُمّياً مثلهم يعلّمهم الكتاب والحكمة، وما ذلك إلّا لكونه مؤيداً منه تعالى بروح تعاضده وموجهاً بتوجيهه لارتقاء تلكم المدارج، فالآية من قبيل اتيان الشيء ببيّنته وبرهانه.

٣٠٧

نعم ورد في بعض المأثورات حول تفسير الاُمّي انتسابه إلى اُم القرى، وسوف نرجع إلى هذه الروايات بالإيراد والمناقشة في اسنادها ومضامينها.

الرأي الثاني :

٢. ما اختاره الدكتور عبد اللطيف الهندي في مقاله المومى إليه فقال: الاُمّي من لم يعرف المتون العتيقة السامية، ولم ينتحل إلى ملّة أو كتاب من الكتب السماوية والشاهد عليه أنّ الله جعل الاُمّي في الكتاب العزيز، مقابل أهل الكتاب فيستظهر منه أنّ المراد منه هي الاُمّة العربية الجاهلة بما في زبر الأوّلين من التوراة والانجيل غير منتحلة إلى دين أو ملة لا من لا يقدر على التلاوة والكتابة.

أقول: ما ذكره الدكتور زلّة وعثرة لا تستقال فإنّ اطلاق الاُمّيين على العرب المشركين ليس « بسبب جهلهم بالمتون السامية، وإن كانوا عارفين بلسان قومهم قادرين على تلاوته وكتابته » كما حسبه الدكتور، بل بسبب جهلهم بقراءة لغتهم وكتابتها لأنّ الثقافة العربية بمعنى قراءة اللغة العربية وكتابتها، كانت متدهورة في العصر الجاهلي وكانت الاُمّية هي السائدة ولا يسودهم في تلكم الظروف شيء غيرها وكانت القدرة على القراءة والكتابة محصورة في ثلّة قليلة لا يتجاوز أفرادها عدد الأصابع.

فهذا الإمام البلاذري أتى « في فتوح بلدانه » بأسماء الذين كانوا عارفين بالقراءة والكتابة في العهد الجاهلي فما تجاوزت عدتهم عن سبعة عشر رجلاً في « مكة » وعن أحد عشر نفراً في « يثرب » وقال: اجتمع ثلاثة نفر من طي ب‍ « بقة » وهم مرامر بن مرة وأسلم بن سدرة، وعامر بن جدرة فوضعوا الخط وقاسوا هجاء العربية على هجاء السريانية، فتعلّمه منهم قوم من أهل الأنبار ثمّ تعلّمه أهل الحيرة من أهل الأنبار وكان بشر بن عبد الملك أخو أكيدر بن عبد الملك بن عبد الجن الكندي، ثم السكوني صاحب دومة الجندل، يأتي الحيرة فيقيم بها الحين وكان نصرانياً فتعلم « بشر » الخط العربي من أهل الحيرة ثمّ أتى مكة في بعض شأنه فرآه سفيان بن اُمية بن عبد شمس وأبو قيس بن عبد

٣٠٨

مناف بن زهرة بن كلاب يكتب فسألاه أن يعلّمهما الخط فعلّمهما الهجاء، ثمّ أراهما الخط فكتبا، ثمّ إنّ بشراً وسفيان وأبا قيس أتوا الطائف في تجارة فصحبهم غيلان بن سلمة الثقفي فتعلّم الخط منهم وفارقهم بشر، ومضى إلى ديار مضر، فتعلّم الخط منه عمرو بن زرارة بن أعدس فسمّي عمرو الكاتب، ثمّ أتى بشر الشام فتعلّم الخط منه ناس هناك وتعلّم الخط من الثلاثة الطائيين أيضاً رجل من طابخة كلب، فعلّمه رجل من أهل وادي القرى فأتى الوادي يتردد فأقام بها وعلّم الخط قوماً من أهلها ـ إلى أن قال: ـ فدخل الإسلام وفي قريش سبعة عشر رجلاً كلّهم يكتب، عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالبو(١) .

وهذا ابن خلدون يحكي في مقدمته، أنّ عهد قريش بالكتابة والخط العربي لم يكن بعيداً بل كان حديثاً وقريباً بعهد الرسول فقد تعرفوا عليها قبيل ظهور الإسلام حيث قال في الفصل الذي عقده لبيان أنّ الخط والكتابة من عداد الصنايع الانساية :

كان الخط العربي بالغاً مبالغه من الأحكام والاتقان والجودة في دولة التبابعة، لما بلغت من الحضارة والترف وهو المسمّى بالخط الحميري وانتقل منها إلى الحيرة لما كان فيها دولة آل المنذر بسبأ التبابعة إلى أن قال: ومن الحيرة لقّنه أهل الطائف وقريش فيما ذكر، يقال إنّ الذي تعلّم الكتابة من الحيرة هو سفيان بن اُمية ويقال حرب بن اُمية وأخذها من أسلم بن سدرة وهو قول ممكن وأقرب ممن ذهب إلى أنّهم تعلّموها من أياد أهل العراق وهو بعيد، لأنّ اياداً وإن نزلوا ساحة العراق فلم يزالوا على شأنهم من البداوة، والخط من الصنايع الحضرية فالقول بأن أهل الحجاز إنّما لقنوها من الحيرة ولقنها أهل الحيرة من التبابعة وحمير، هو الأليق من الأقوال(٢) .

فإذا كان هذا مبدأ تعرفهم بالكتابة والقراءة وكان هذا مقياس ثقافتهم وتعرفهم عليها في المنطقتين ( مكة والمدينة ) فما ظنك بهم في المناطق الاُخرى، نعم كانت الربوع

__________________

(١) فتوح البلدان: ص ٤٥٧.

(٢) مقدمة ابن خلدون: ص ٤١٨، طبع بيروت، الطبعة الرابعة.

٣٠٩

المختصة باليهود والنصارى، تزدحم بأحبارهم وحفّاظ كتبهم، فكانت القراءة والكتابة رائجتين بينهم، لمسيس حاجتهم إلى معرفة كتابهم وما فيه من الطقوس والسنن.

فإذا ألممت أيها الباحث ولو إلمامة عابرة بروح ذلك العصر، ووقفت على ما كان يسود في تلكم الظروف والبيئات، لقضيت بأنّ المراد من الاُمّي حتى في ما استعمل عند أهل الكتاب هو العاجز عن القراءة والكتابة بقول مطلق كقوله سبحانه:( وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ ءَأَسْلَمْتُمْ ) ( آل عمران ـ ٢٠ ) ويوضح ما ذكرناه قوله سبحانه:( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إلّا يَظُنُّونَ ) ( البقرة ـ ٧٨ )(١) فالآية بحكم رجوع الضمير( وَمِنْهُمْ ) إلى اليهود، تقسم اليهود إلى طائفتين، طائفة يعلمون الكتاب، واُخرى طائفة اُمّية لا تعلم من الكتاب شيئاً بل تتخيله أمانياً فقد أطلق الاُمّي في هذه الآية على بعض أهل الكتاب بملاك جهله بكتابه، قراءة وكتابة، ولكن الجهل بالكتاب الذي نزل بلسانه ولسان قومه يلازم الجهل بسائر اللغات طبعاً.

فهذا الكتابي بما أنّه لا يحسن القراءة والكتابة قط، اُمّي كالعربي الاُمّي بلا تفاوت.

وقصارى ما يمكن أن يقال: إنّه ليس للاُمّي إلّا مفهوم واحد وضع له وضعاً واحداً، غير أنّ مفهومه يختلف حسب اختلاف الظروف والبيئات، حسب اختلاف الاضافات والنسب، فالاُمّي في أجواء الكتابيين عبارة عمّن لا يعرف لغة كتابه فلو قيل: ذلك الكتابي اُمّي فالمقصود منه بقرينة لفظ « الكتابي » كونه اُمّياً بالنسبة إلى كتابه الذي ينتحل إليه، كما أنّ الاُمّي في البيئات العربية عبارة عمّن لا يحسن العربية قراءة وكتابة وهكذا

وبناء على ذلك فالاُمّيون في قوله سبحانه:( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلّا أَمَانِيَّ ) عبارة عن الطائفة الجاهلة بالمتون السامية من أهل الكتاب، لا يحسنون تلاوتها

__________________

(١) هذه الآية بما أنّها تقسّم أهل الكتاب والمنتحلين إليه إلى طائفتين اُمّية وغير اُمّية، تبطل ما ادعاه الدكتور من أنّ الاُمّي عبارة عن من لم ينتحل إلى الدين ولم ينسب إلى ملّة.

٣١٠

ولا كتابتها، إلّا أنّ ذلك الاطلاق لا يثبت كون الاُمّي موضوعاً على من لا يعرف اللغة السامية كما حسبه الدكتور. بل لـمّا كان محور البحث في الآية أهل الكتاب وانقسامهم إلى طائفة عالمة بما في كتابهم، وطائفة جاهلة به، اُمّية لا تعلم من الكتاب شيئاً، صار ذلك كالقرينة على أنّ المقصود من الاُمّيين فيها، هي الطائفة الجاهلة بالمتون السامية واللغة التي اُنزلت بها كتبهم.

وهذا الوجه لا يشمل « الاُمّي » في غير هذه الآية ولا على الموارد العارية عن هذه القرينة ولا يثبت كونه موضوعاً لمن يكون جاهلاً بالمتون السامية، كما ادعاه القائل.

إذا وقفت على ما ذكرناه وقوف المستشف للحقيقة، لأذعنت أنّه ليس للاُمّي إلّا مفاد واحد وهو الباقي على الحالة التي ولد عليها. ولو اطلق في مورد أو موارد على من لا يعرف المتون السامية، فلأجل قرينة دلّت عليه، فهو من باب تطبيق الكلي على فرده الخاص لا أنّه موضوع على ذلك الخاص.

بحث وتنقيب :

لقد بان الحق بأجلى مظاهره بحيث لم تبق لمجادل شبهة في دلالة الذكر الحكيم على أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان اُمّياً لا يقرأ ولا يكتب قبل أن يختاره الله تعالى للتبشير والانذار، وظهر ما هو الحق الصراح في معنى الاُمّي الذي وصف الله به نبيّه الأكرم، نعم روي عن بعض أئمّة أهل البيت في تفسير الاُمّي ما يتراءى منه خلاف ما أوضحناه وحققناه ودونك ما روي عنهم في هذا الباب(١) .

١. أخرج الصدوق في علل الشرائع ومعاني الأخبار عن أبيه عن سعد(٢) عن ابن

__________________

(١) سوف نرجع في آخر البحث إلى تحقيق القول في الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت وغيرهم في المقام والغرض هنا عرض ما يرجع إلى خصوص تفسير لفظ الاُمّي فقط.

(٢) سعد بن عبد الله القمي ترجمه شيخ الطائفة في باب أصحاب العسكريعليه‌السلام .

٣١١

عيسى(١) عن محمد البرقي عن جعفر بن محمد الصوفي قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي بن موسى الرضاعليه‌السلام فقلت: يا بن رسول الله لم سمّي النبي الاُمّي ؟ فقال: ما يقول الناس ؟ قلت: يزعمون أنّه سمّي الاُمّي لأنّه لا يحسن أن يكتب، فقال: كذبوا عليهم لعنة الله في ذلك، والله يقول في محكم كتابه:( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ ) فكيف كان يعلّمهم ما لا يحسن، والله لقد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقرأ ويكتب باثنين وسبعين أو قال: بثلاثة وسبعين لساناً وإنّما سمّي الاُمّي لأنّه كان من أهل مكة، ومكة من اُمّهات القرى وذلك قول الله عزّ وجلّ:( وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ) ( الأنعام ـ ٩٢ )(٢) .

وأخرج الشيخ الأقدم محمد بن الحسن الصفار المتوفّى عام ٢٩٠ في بصائر الدرجات عن أحمد بن محمد بن عيسى عن محمد البرقي عن جعفر بن محمد الصوفي مثله.

ونقله الشيخ المفيد معلّم الاُمّة في « اختصاصه » بهذا السند أيضاً.

والحديث على كل تقدير ينتهي إلى محمد البرقي وهو مختلف فيه جداً لاستناده إلى المراسيل والضعاف، وهو يروي عن جعفر بن محمد الصوفي الذي أهمله أصحاب المعاجم فالحديث ساقط عن الحجية.

أضف إليه ما في متنه من الشذوذ، وفيه جهات من النظر :

أوّلاً: قوله إنّ النبي يقرأ ويكتب باثنين وسبعين لساناً، يعطي أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان مشغولاً بقراءتها والكتابة بها في عامة حياته أو رسالته فقط، وحمله على الإمكان والتعليق وأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان قادراً عليهما باثنين وسبعين لساناً لو شاء وأراد، ولكنّه لم يشأ ويقرأ ولم يكتب بها أصلاً، خلاف الظاهر، وعلى ما استظهرناه فالرواية تخالف ماهو المتواتر من حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

__________________

(١) أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري، ثقة جليل.

(٢) علل الشرائع ص ٥٣، ومعاني الأخبار ص ٢٠.

٣١٢

إذ لو كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على النحو الذي تصفه الرواية لذاع ذكره وطار صيته بهذا الوصف ولا يكاد يخفى على الناس أمره. على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله في البيئة العربية الاُمية كان في منتأى عن سماع الألسنة أو رؤية أصحابها فلم يكن في موطنه ولا دار هجرته من يعرفها أو يتكلم بها فكيف يتكلم بهذه اللغات، وهو لا يجد من يشافهه بها، ولم تكن تحضره صحيفة أو صحائف كتبت بغير اللغة العربية.

ثانياً: إنّ تفسير الاُمّي بكونه منسوباً إلى اُمّ القرى، يخالف ما اتفقت عليه أئمّة الأدب، وجهابذة اللغة، وأعلام التفسير بل يخالف القرآن الكريم حيث فسّر سبحانه بغير ذلك وقال:( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ ) فلا يصح الركون في هذه المسألة إلى حديث ينتهي إلى من اختلف في وثاقته، إلى من أهمله علماء الرجال في كتبهم.

ولسنا من الفئة التي تعرض القرآن والحديث الصحيح على القواعد العربية المدوّنة بعد أجيال من نزول القرآن ونشر الحديث، بيد علماء الأدب، فإنّ تلك الفئة ضالّة مضلّة مستحقة للرد والطعن. إذ الصحيح عرض القواعد على القرآن والحديث دون العكس، فإنّ المقياس الوحيد لتمييز الصحيح عن غيره، إنّما هو كلام أهل اللسان والأساليب الدارجة بينهم، لا القواعد المدوّنة إذا لم ترجع إلى مصدر وثيق.

وعلى هذا فلو وجدنا القاعدة الأدبية المصطادة من تتبع بعض الموارد ومن كلام العرب، مخالفة للقرآن الكريم أو الحديث الثابت عنهم، أو الكلام الصادر عن عربي صميم، وجب علينا هدم القاعدة، ورميها بالخطأ والغلط، لا تأويل الذكر الحكيم والحديث الصحيح، والكلام المنقول عن أهل اللسان إذ القرآن سواء أقلنا إنّه كلام إلهي اُوحي إلى نبيّنا الأكرم أم قلنا إنّه من منشآته ومبدعاته ( وأجل النبي عن هذه الفرية الشائنة ) كلام صحيح، صادر أمّا عن الله سبحانه أو عن عربي صميم شب وترعرع بين الاُمّة العربية وقضى عمره وحياته بين ظهرانيهم.

وعلى أي تقدير فهو الحجة في تدوين القاعدة وتأسيسها دون العكس ومثله الآثار المنقولة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

٣١٣

ونحن مع هذا الاعتراف الصريح لا نقر بما جاء في الحديث حول تفسير الاُمي وأنّه منسوب إلى اُم القرى ولا نرمي أئمّة الأدب بالخطأ والاشتباه، إذ الحديث قاصر سنداً وينتهي إلى من اختلفت فيه كلمة أهل الجرح والتعديل، إلى من لم تتضح حاله ووثاقته، ولو ثبت صدوره عن أئمّة أهل البيت، لهدمنا القاعدة النحوية في باب النسب وأخذنا بما فيه.

ثالثاً: إنّ الحديث لا ينسجم مع مضمون ما سيوافيك من الحديثين(١) ، فإنّ مفادهما هو كون النبي يقرأ ولا يكتب أصلاً، وهذا يثبت له القراءة والكتابة باثنين وسبعين لساناً، فلا مناص في مقام الترجيح عن الأخذ بهما وطرح ذاك، لقوة اسنادهما وصحتهما على ما عرفت.

٢. أخرج الصدوق في معاني الأخبار عن ابن الوليد عن سعد عن الخشاب عن علي بن حسان وعلي بن أسباط وغيره رفعه إلى أبي جعفرعليه‌السلام قال: قلت: إنّ الناس يزعمون أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكتب ولم يقرأ ؟ فقال: كذبوا لعنهم الله أنّى يكون ذلك وقال الله عزّ وجلّ:( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) ، فيكون يعلّمهم الكتاب والحكمة وليس يحسن أن يقرأ أو يكتب به ؟ قال: قلت: فلم سمّي النبي الاُمي ؟ قال: نسب إلى مكة وذلك قول الله عزّ وجلّ:( وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ) فاُم القرى مكة فقيل اُمّي لذلك(٢) .

ونقله صاحب البصائر عن عبد الله بن محمد عن الخشاب عن علي بن حسان وعلي بن أسباط وغيره رفعه إلى أبي جعفر(٣) .

__________________

(١) راجع البحث الآتي تحت عنوان « عرض وتحقيق » والمقصود من الصحيحين ما رواه هشام بن سالم، والحسن الصيقل عن الصادقعليه‌السلام .

(٢) علل الشرائع: ص ٥٤٢.

(٣) بصائر الدرجات: ص ٦٢، بحار الأنوار: ج ١٦ ص ١٣٣.

٣١٤

ويؤسفنا أنّ الحديث مع ما في متنه من العلات، غير موصول السند إلى الإمام، فالرواية مرفوعة وهو نوع من المرسل الذي لا يعتمد عليه.

وفي هذا المقال يلمس القارئ حقيقة ناصعة هي من أجلى الحقائق الدينية ألا وهي مغزى كون النبي لا يحسن القراءة والكتابة قبل أن يختاره الله تعالى للتبشير والانذار.

نعم بقي الكلام في أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد البعثة ولأجل ذلك عقدنا لتحقيقه الفصل التالي :

٣١٥

أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله

بعد بزوغ دعوته

قد اهتدينا بهدى القرآن وساقتنا الأدلّة إلى القول بأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان قبل البعثة اُمياً لا يقرأ ولا يكتب ولم يسجل التاريخ لهصلى‌الله‌عليه‌وآله في ذلك العهد قراءة لوح أو كتباة صحيفة، ولم يكن ذلك اختلافاً تواطأ عليه المسلمون لهدف خاص كما حسبه الدكتور في مقاله(١) بل كان تقريراً للواقع وقد قابلنا التفكير السطحي الخاطئ بالرد والنقد.

غير أنّنا طلباً لوضوح الحقيقة، واكمالاً للبحث، نردف المقال بالبحث عن وضع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد بزوغ دعوته وبعثته إلى الناس، وأنّه هل بقي على ما كان عليه من الاُمية، لنفس المصلحة التي اُوجبت اُميته قبل أن يبعث إلى هداية الناس، أو لم يبق عليه، بل كشف الحجاب عن ضميره الحي وعقله الواعي، وقلبه الواسع، عندما بزغت دعوته وبعث رسولاً إلى الناس ولا يمكن القضاء البات إلّا بعد الوقوف على ما ذكره الفطاحل من رواة الحديث وأعلام التفسير.

وقد اختار ثلة جليلة من المحققين القول الثاني أنّ تمكن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله باذنه سبحانه

__________________

(١) زعم الدكتور في مقاله أنّ اُمية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فكرة حديثة بين المسلمين، لصيانة القرآن عن التحريف وحفظه عن حدوث الزيادة والنقيصة عليه من جانب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّ الاُمي يعكس كل ما اُلقي عليه بلا تغيير وتحريف، ولا يقدر على تحويره بخلاف غيره، فانظر ما أجرأ هذا الرجل على تحريف الكلم عن مواضعه.

٣١٦

من القراءة والكتابة بعد ما نزل عليه الوحي واستدلوا على ذلك بوجوه لا تخلو من مناقشات واشكلات، ونحن نذكر تلكم الوجوه، ثمّ نردفها بما هو المختار عندنا :

١. الوجوه التي اعتمد عليها شيخنا المفيد :

هذا هو الشيخ المفيد استدل بأدلة ووجوه اعتقد أنّها الحجج الكافية لاثبات ما يرتئيه من أنّ النبي كان عارفاً بالقراءة والكتابة بعد بعثته ودونك ما أفاده برمّته :

١. إنّ الله تعالى لما جعل نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله جامعاً لخصال الكمال كلها، وخلال المناقب بأسرها لم تنقصه منزلة بتمامها، ليصح له الكمال، ويجتمع فيه الفضل والكتابة فضيلة من منحها فضل، ومن حرمها نقص.

٢. إنّ الله تعالى جعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حاكماً بين الخلق في جميع ما اختلفوا فيه، فلا بد أن يعلمه الحكم في ذلك، وقد ثبت أنّ اُمور الخلق قد يتعلق أكثرها بالكتابة فتثبت بها الحقوق، وتبرأ بها الذمم، وتقوم بها البيّنات، وتحفظ بها الديون، وتحاط بها الأنساب، وأنّها فضل تشرف المتحلّي به على العاطل منه، وإذا صح أنّ الله جلّ اسمه قد جعل نبيّه بحيث وصفناه من الحكم والفضل ثبت أنّه كان عالماً بالكتابة، محسناً لها.

٣. إنّ النبي لو كان لا يحسن الكتابة ولا يعرفها لكان محتاجاً في فهم ما تضمّنته الكتب من الحقوق وغير ذلك إلى بعض رعيته، ولو جاز أن يحوجه الله في بعض ما كلّفه الحكم فيه إلى بعض رعيته لجاز أن يحوجه في جميع ما كلّفه الحكم فيه إلى سواه، وذلك مناف لصفاته ومضاد لحكمة باعثه، فثبت أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يحسن الكتابة.

٤. إنّ الله سبحانه يقول:( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) ( سورة الجمعة ـ ٢ ) ومحال أن يعلمهم الكتاب وهو لا يحسنه، كما يستحيل يعلمهم الكتاب والحكمة وهو لا يعرفهما، ولا معنى لقول من قال: إنّ الكتاب هو القرآن خاصة، إذ اللفظ عام والعموم لا ينصرف عنه إلّا بدليل، لا سيما على قول المعتزلة وأكثر

٣١٧

أصحاب الحديث.

٥. يدل على ذلك أيضاً قوله تعالى:( وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ ) ( سورة العنكبوت ـ ٤٨ ) فنفى عنه احسان الكتابة وخطه قبل النبوّة خاصة، فأوجب احسانه بذلك لها بعد النبوّة، ولولا أنّ ذلك كذلك لما كان لتخصيصه النفي معنى يعقل، ولو كان حالهصلى‌الله‌عليه‌وآله في فقد العلم بالكتابة بعد النبوّة، كحاله قبلها لوجب إذا أراد نفي ذلك عنه أن ينفيه بلفظ يفيده، لا يتضمن خلافه فيقول له: وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطّه بيمينك إذ ذاك ولا في الحال، أو يقول: لست تحسن الكتابة ولا يتأتى منك على كل حال، كما أنّه لما أعدمه قول الشعر ومنعه منه نفاه بلفظ يعم الأوقات فقال الله تعالى:( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ ) ( يس ـ ٦٩ ) وإذا كان الأمر على ما بيّناه ثبت أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يحسن الكتابة بعد أن نبّأه الله تعالى ما وصفناه، وهذا مذهب جماعة من الإمامية ويخالف فيه باقيهم وسائر أهل المذاهب والفرق يدفعونه وينكرونه(١) .

وفي ما ذكره رحمه الله مناقشات نشير إليها :

أوّلاً: انّ الكتابة وإن كانت من الكمالات « ومن منحها له سبحانه فضل ومن حرمها نقص » غير أنّ ذلك يعد للعاديين الذين ينحصر طريق اكتسابهم للمعارف بها وحدها، وأمّا من لا يحتاج إليها بل له طريق آخر لدرك الحقائق واكتساب المعارف كما هو الحال بالنسبة إلى نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله فلا يعد التمكن من الكتابة والقراءة فضيلة له حتى يكون عدمهما نقصاً في حقه، كيف وهوصلى‌الله‌عليه‌وآله قد عرف الواجب جلّ اسمه وصفاته وأفعاله ووقف على حقائق الكون ودقائقه عن طريق الوحي الذي هو أوثق وأسدّ الطرق الممكنة، لا يخطأ ولا يشتبه وعند ذاك لا حاجة له إلى هذه الطرق العادية غير المصونة عن الخطأ والاشتباه.

أضف إليه لو فرضنا أنّ بقاء النبي على ما كان عليه من الاُمية كان يرفع الشك

__________________

(١) أوائل المقالات: ص ١١١ ـ ١١٣ ط تبريز.

٣١٨

عن قلوب السذج من الناس ويؤكد ايمانهم واذعانهم بنبوّته وبما جاء به من الشريعة والكتاب وجب على المولى سبحانه ابقاءه على ما كان عليه من الصفات والنعوت، طلباً للغاية التي بعثه لأجل احرازها وتحققها، فإذا كان هو الملاك في اُمّيته قبل بزوغ دعوته فليكن هو الملاك في بقائه عليها فلا وجه لعد أحدهما نقصاً في حقهصلى‌الله‌عليه‌وآله دون الآخر.

ثانياً: إنّ ما ذكره « انّ الكتابة فضل تشرف المتحلي به على العاطل منه وإذا صح أنّ الله قد جعل نبيّه بحيث وصفناه من الحكم والفضل ثبت أنّه كان عالماً بالكتابة محسناً لها » صحيح جداً وقد فضّل الله سبحانه نبيّنا على جميع الأنبياء والرسل ومنحه من الفضائل ما لم يمنحه لغيره غير أنّه لما كانت هناك مصلحة أولى وأهم كما صرح الله بها سبحانه في كتابه وهي طرد الريب عن القلوب الضعيفة، صرفه الله سبحانه عن تعلّم القراءة والكتابة طيلة عمره، ولم يمكنه منها طلباً لهذه الغاية المهمة وترك المهم توخّياً للأهم لا يعد نقصاً لو لم يعد كمالاً.

وإلى ذلك يشير الفاضل القنوي في تعليقه على « أنوار التنزيل » بقوله: ولذلك صارت الاُمية شرفاً وفخراً في شأنهصلى‌الله‌عليه‌وآله وصفة نقص في حق غيره.

وبذلك نجيب عن ما أفادهرحمه‌الله :

« لو كان لا يحسن الكتابة ولا يعرفها لكان محتاجاً في فهم ما تضمّنته الكتب من الحقوق وغير ذلك إلى بعض رعيته، ولو جاز أن يحوجه الله في بعض ما كلّفه الحكم فيه إلى بعض رعيته لجاز أن يحوجه في جميع ما كلّفه الحكم فيه إلى سواه وذلك مناف لصفاته ومضاد لحكمته » لأنّه إذا جاز احتياج النبي الأعظم في مورد خاص إلى بعض رعيته توخياً لبعض المصالح المهمة، لا يستلزم جواز احتياجه في الموارد الخالية عنها فإنّ الأوّل لا يعد نقصاً عند العقلاء ولأجل ذلك يرجّحون الأهم على المهم عند التزاحم، بخلاف الثاني.

ثالثاً: إنّ قوله سبحانه:( وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ ) لا يدل على ما رامه أمّا إذا قلنا إنّ المراد من الكتاب هو القرآن كما هو الظاهر المتبادر إلى الذهن فإنّ تلاوة الآية

٣١٩

لا تفتقر إلى معرفة الكتابة إذا تلقى التالي محفوظاته من وحي أو تلقين، ومن الناس من يتعلّم القرآن من الصدور لا السطور ويتلوه كما حفظ بدون توقف على معرفة الخط، وأمّا إذا قلنا إنّ المقصود منه الكتابة وإن كان بعيداً جداً فليس معناه تعليم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لقومه الكتابة مباشرة إذ لم يعهد ولم ير بأسانيد صحيحة أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله جلس مع أفراد اُمّته يعلّمهم نقوش الحروف الهجائية وتراكيبها الأبجدية قطعاً، وإنّما المراد أنّه قام بأمر تعليم الاُمّة مهمة الكتابة، فقد تواتر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله اتّخاذه الأسرى يشترط عليهم أن يعلّموا أهل مدينته الخط والكتابة(١) فكان الأسير إذا علّم الكتابة عشرة من المسلمين أطلق النبي سراحه مكافأة لعمله وبهذه الوسيلة البسيطة عمّم في اتباعه صناعة الخط وأخرجهم من ظلمة الاُمّية وأصبح مقر الاسراء مدرسة يتعلّم فيها صبيان المدينة ما يحتاجون إليه من علوم ذلك العهد.

وأمّا ما تمسك به من مفهوم الآية وأنّ لفظة:( مِن قَبْلِهِ ) يفهم منها أنّه كان قارئاً وكاتباً بعد الوحي إليه فيوافيك نقده في البحث التالي :

ثم إنّ للعلاّمة الشهرستاني كلمة قيمة في المقام يجري مجرى الجواب عن ما ذكره المفيد فلاحظه(٢) .

٢. الاستدلال بمفهوم الآية :

نقل شيخ الطائفة استدلال القوم على اُمّية النبي الأعظم بقوله سبحانه:( وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ ) ( العنكبوت ـ ٤٨ ) ثم اعترض عليهم بما هذا ملخصه :

__________________

(١) قال الاُستاذ عمر أبو النصر في كتابه « العرب ص ٢٣ »: وكان فداء الأسرى الذين يعرفون القراءة والكتابة تلقين عشرة من صبيان المدينة الكتابة، وكذلك أصبح مقر الأسرى مدرسة يتعلّم فيها صبيان المدينة.

(٢) راجع مجلة المرشد البغدادية لسنتها الرابعة ص ٣٢٧ ـ ٤٢٨ ما أفاده العلّامة الحجة السيد هبة الدين الشهرستاني على ما نقله عنها العلّامة المتتبع الجرندابي في تعاليقه على أوائل المقالات.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530