كليات في علم الرجال

كليات في علم الرجال11%

كليات في علم الرجال مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: علم الرجال والطبقات
الصفحات: 530

كليات في علم الرجال
  • البداية
  • السابق
  • 530 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 153753 / تحميل: 5801
الحجم الحجم الحجم
كليات في علم الرجال

كليات في علم الرجال

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

الحاجة إلى علم الرجال

لقد طال الحوار حول الحاجة إلى علم الرجال وعدمها ، فمن قائل بتوقّف الاستنباط عليه وأنّ رحاه تدور على أُمور ، منها العلم بأحوال الرواة ، ولولاه لما تمكّن المستنبط من استخراج كثير من الاحكام عن أدلّتها ، إلى قائل بنفي الحاجة إليه ، محتجّاً بوجوه منها : قطعيّة أخبار الكتب الأربعة صدوراً ، إلى ثالث قائل بلزوم الحاجة إليه في غير ما عمل به المشهور من الروايات ، اليغير ذلك من الأنظار ، وتظهر حقيقة الحال ممّا سيوافيك من أدلّة الأقوال ، والهدف إثبات الحاجة إلى هذا العلم بنحو الايجاب الجزئي ، وأنّه ممّا لا بدَّ منه في استنباط الاحكام في الجملة ، في مقابل السلب الكلّي الّذي يدّعي قائله بأنّه لا حاجة إليه أبداً ، فنقول :

استدلّ العلماء على الحاجة إلى علم الرجال بوجوه نذكر أهمَّها :

الاول : حجية قول الثقة

لا شكَّ أنَّ الأدلَّة الأربعة دلَّت على حرمة العمل بغير العلم قال سبحانه وتعالى :( قُلْ ءَاَللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ ) (١) وقال ـ عزَّ من قائل ـ( وَلاَ

__________________

١ ـ يونس : ٥٩.

٢١

تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (١) وقال أيضاً :( وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ) (٢) .

وأمّا الروايات الناهية عن العمل بغير العلم فكثيرة لا تحصى ، يقف عليها كلّ من راجع الوسائل كتاب القضاء الباب « ١٠ ـ ١١ ـ ١٢ » من أبواب صفات القاضي فيرى فيها أحاديث كثيرة تمنع من العمل بغير العلم غير أنَّه قد دلَّت الأدلّة الشرعيّة على حجيّة بعض الظنون ، كالظَّواهر وخبر الواحد إلى غير ذلك من الظنون المفيدة للاطمئنان في الموضوعات والاحكام ، والسرُّ في ذلك هو أنَّ الكتاب العزيز غير متكفّل ببيان جميع الأحكام الفقهيّة ، هذا من جانب. ومن جانب آخر إنَّ الاجماع الكاشف عن قول المعصوم قليل جدّاً. ومن جهة ثالثة إنَّ العقل قاصر في أن يستكشف به أحكام الله ، لعدم احاطته بالجهات الواقعية الداعية إلى جعل الاحكام الشرعية.

نعم هو حجّة في ما إذا كانت هناك ملازمة بين حكم العقل والشرع ، كما في ادراكه الملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها ، ووجوب الشّيء وحرمة ضدّه ، والملازمة بين حرمة الشّيء وفساده ، إلى غير ذلك من الامور التي بحث عنها الأُصوليون في باب الملازمات العقلية.

فهذه الجهات الثَّلاث أوجبت كون خبر الواحد بشرائطه الخاصّة حجّة قطعيّة ، وعند ذلك صارت الحجج الشرعيّة وافية باستنباط الأحكام الشرعية.

ومن المعلوم أنَّه ليس مطلق الخبر حجّة ، بل الحجّة هو خصوص خبر العدل ، كما مال إليه بعض ، أو خبر الثقة أعني من يثق العقلاء بقوله ، ومن المعلوم أنّ إحراز الصغرى ـ أعني كون الراوي عدلاً أو ثقة ـ يحتاج إلى الرجوع إلى علم الرجال المتكفل ببيان أحوال الرواة من العدالة والوثاقة ، وعند ذلك

__________________

١ ـ الاسراء : ٣٦.

٢ ـ يونس : ٣٦.

٢٢

يقدر المستنبط على تشخيص الثّقة عن غيره ، والصالح للاستدلال عن غير الصالح ، إلى غير ذلك من الأمور التي لا يستغني عنها المستنبط الا بالرجوع إلى الكتب المعدَّة لبيانها.

وهناك رأي ثالث يبدو أنه أقوى الآراء في باب حجّية الخبر ، وهو أنّ الخارج عن تحت الظنون المنهيّة ، هو الخبر الموثوق بصدوره وان لم تحرز وثاقة الراوي ، ومن المعلوم أنّ إحراز هذا الوصف للخبر ، يتوقّف على جمع أمارات وقرائن تثبت كون الخبر ممّا يوثق بصدوره. ومن القرائن الدالّة على كون الخبر موثوق الصدور ، هو العلم بأحوال الرواة الواقعة في اسناد الأخبار.

وهناك قول رابع ، وهو كون الخارج عن تحت الظّنون التي نهي عن العلم بها عبارة عن قول الثّقة المفيد للاطمئنان الّذي يعتمد على مثله العقلاء في أُمورهم ومعاشهم ، ولا شبهة أنَّ إحراز هذين الوصفين ـ أعني كون الراوي ثقة والخبر مفيداً للاطمئنان ـ لا يحصل الا بملاحظة أُمور. منها الوقوف على أحوال الرواة الواقعة في طريق الخبر ، ولأجل ذلك يمكن أن يقال : إنَّه لا منتدح لأيّ فقيه بصير من الرجوع إلى « علم الرجال » والوقوف على أحوال الرواة وخصوصيّاتهم ، إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع في ذلك العلم.

وانما ذهب هذا القائل إلى الجمع بين الوصفين في الراوي والمروي ( أي وثاقة الراوي وكون المرويّ مفيداً للاطمئنان ) ، لأنَّ كون الراوي ثقة لا يكفي في الحجيّة ، بل يحتاج مع ذلك إلى إحراز كون الخبر مفيداً للاطمئنان ، ولا يتحقّق إلا إذا كان الراوي ضابطاً للحديث ناقلاً إيّاه حسب ما ألقاه الإمامعليه‌السلام ، وهذا لا يعرف إلا بالمراجعة إلى أحوال الراوي ، ومن المعلوم أنَّ عدم ضابطيّة بعض الرواة مع كونهم ثقاتاً أوجد اضطراباً في الأحاديث وتعارضاً في الروايات ، حيث حذفوا بعض الكلم والجمل الدخيلة في فهم الحديث ، اونقلوه بالمعنى من غير أن يكون اللّفظ كافياً في إفادة مراد الإمامعليه‌السلام .

٢٣

وبذلك يعلم بطلان دليل نافي الحاجة إلى الرجال ، حيث قال : « إنَّ مصير الأكثر إلى اعتبار الموثَّق ، بل الحسن ، بل الضّعيف المنجبر ، ينفي الحاجة إلى علم الرجال ، لأنَّ عملهم يكشف عن عدم الحاجة إلى التَّعديل ». وفيه : أنَّ ما ذكره إنَّما يرد على القول بانحصار الحجّية في خبر العدل ، وأنَّ الرجوع إلى كتب الرجال لأجل إحراز الوثاقة بمعنى العدالة. وأمّا على القول بحجّية الأعمّ من خبر العدل ، وقول الثّقة ، أو الخبر الموثوق بصدوره أو المجتمع منهما فالرُّجوع إلى الرجال لأجل تحصيل الوثوق بالصدق أو وثاقة الراوي.

ثمَّ إنَّ المحقّق التّستري استظهر أنَّ مسلك ابن داود في رجاله ومسلك القدماء هو العمل بالممدوحين والمهملين الَّذين لم يرد فيهما تضعيف من الأصحاب ، ولأجل ذلك خصّ ابن داود القسم الأوّل من كتابه بالممدوحين ومن لم يضعّفهم الأصحاب ، بخلاف العلاّمة فإنَّه خصَّ القسم الأوَّل من كتابه بالممدوحين ، ثمَّ قال : وهو الحقُّ الحقيق بالاتّباع وعليه عمل الأصحاب فترى القدماء كما يعملون بالخبر الّذي رواته ممدوحون ، يعملون بالخبر الّذي رواته غير مجروحين ، وإنّما يردّون المطعونين ، فاستثنى ابن الوليد وابن بابويه من كتاب « نوادر الحكمة » عدّة أشخاص ، واستثنى المفيد من شرائع عليّ بن إبراهيم حديثاً واحداً في تحريم لحم البعير ، وهذا يدلّ على أنّ الكتب التي لم يطعنوا في طرقها ولم يستثنوا منها شيئاً كانت معتبرة عندهم ، ورواتها مقبولو الرواية ، إن لم يكونوا مطعونين من أئمّة الرجال ولا قرينة ، وإلا فتقبل(١) مع الطعن ثم ذكر عدَّة شواهد على ذلك فمن أراد فليلاحظ(٢) .

وعلى فرض صحّة مااستنتج ، فالحاجة إلى علم الرّجال في معرفة الممدوحين والمهملين والمطعونين قائمة بحالها.

__________________

١ ـ كذا في المطبوع والظاهر « فلا تقبل ».

٢ ـ قاموس الرجال : ١ / ٢٥ ـ ٢٧.

٢٤

هذا هو الوجه الأوّل للزوم المراجعة إلى علم الرجال. واليك الوجوه الباقية.

الثاني : الرجوع إلى صفات الرّاوي في الأخبار العلاجيّة

إنَّ الأخبار العلاجيّة تأمر بالرّجوع إلى صفات الرّاوي ، من الأعدليّة والأفقهيّة ، حتّى يرتفع التعارض بين الخبرين بترجيح أحدهما على الآخر في ضوء هذه الصفات. ومن المعلوم أنّ إحراز هذه الصفات في الرّاوة لا يحصل إلا بالمراجعة إلى « علم الرجال » ، قال الصادقعليه‌السلام في الجواب عن سؤال عمر بن حنظلة عن اختلاف القضاة في الحكم مع استناد اختلافهما إلى الاختلاف في الحديث : « الحكم ماحكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر »(١) .

فإنَّ الحديث وإن كان وارداً في صفات القاضي ، غير أنَّ القضاة في ذلك الوقت كانوا رواة أيضاً ، وبما أنّ الاجتهاد كان في ذلك الزَّمن قليل المؤنة ، بسيط الحقيقة ، لم يكن هناك فرق بين الاستنباط ونقل الحديث إلا قليلاً ، ولأجل ذلك تعدّى الفقهاء من صفات « القاضي » إلى صفات « الراوي ».

أضف إلى ذلك أنّ الروايات العلاجيّة غير منحصرة بمقبولة عمر بن حنظلة ، بل هناك روايات أُخر تأمر بترجيح أحد الخبرين على الآخر بصفات الراوي أيضاً ، يقف عليها من راجع الباب التاسع من أبواب صفات القاضي من الوسائل ( ج ١٨ ، كتاب القضاء ).

الثالث : وجود الوضّاعين والمدلّسين في الرواة

إنَّ من راجع أحوال الرواة يقف على وجود الوضّاعين والمدلّسين

__________________

١ ـ الوسائل : ١٨ / ٧٥ ، كتاب القضاء ، الباب التاسع من أبواب صفات القاضي الحديث الأول الصفحة ٧٥.

٢٥

والمتعمّدين للكذب على الله ورسوله فيهم ، ومع هذا كيف يصحّ للمجتهد الافتاء بمجرّد الوقوف على الخبر من دون التعرّف قبل ذلك على الراوي وصفاته.

قال الصادقعليه‌السلام : « إنَّ المغيرة بن سعيد ، دسَّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدّث بها أبي ، فاتَّقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربِّنا وسنَّة نبيّنا محمَّد »(١) .

وقال أيضاً : « إنّا أهل بيت صادقون لا نخلو من كذّاب يكذب علينا فيسقط صدقنا بكذبه علينا عند الناس »(٢) .

وقال يونس بن عبد الرحمن : وافيت العراق فوجدت جماعة من أصحاب أبي جعفر وأبي عبد اللهعليهما‌السلام متوافرين ، فسمعت منهم ، وأخذت كتبهم ، وعرضتها من بعد على أبي الحسن الرضاعليه‌السلام فأنكر منها أحاديث كثيرة أن تكون من أصحاب أبي عبد الله قال : « إنَّ أبا الخطّاب كذب على أبي عبد الله ، لعن الله أبا الخطّاب وكذلك أصحاب أبي الخطّاب ، يدسُّون من هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبد الله فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن »(٣) .

إنَّ الاستدلال بهذه الرّوايات على فرض تواترها أو استفاضتها سهل ، ولعلَّ المراجع المتتبّع يقف على مدى استفاضتها وتواترها.

ولكنَّ الاستدلال بها يتمّ وإن لم تثبت بإحدى الصُّورتين أيضاً بل يكفي كونها أخبار آحاد مردَّدة بين كونها صحيحة أو مكذوبة ، فلو كانت صحيحة ، لصارت حجَّة على المقصود وهووجود روايات مفتعلة على لسان النّبيّ الأعظم

__________________

١ ـ رجال الكشي : ١٩٥.

٢ ـ رجال الكشي : ٢٥٧.

٣ ـ رجال الكشي : ١٩٥ ـ ترجمة المغيرة الرقم ١٠٣.

٢٦

وآله الأكرمين ، وإن كانت مكذوبة وباطلة ، فيثبت المدّعى أيضاً بنفس وجود تلك الروايات المصنوعة في الكتب الروائيّة.

وهذا القسم من الرّوايات ممّا يثبت بها المدَّعى على كلّ تقدير سواء أصحَّت أم لم تصحّ ، وهذا من لطائف الاستدلال.

ولأجل هذا التخليط من المدلّسين ، أمر الائمةعليهم‌السلام بعرض الأحاديث على الكتاب والسَّنة ، وأنَّ كلَّ حديث لا يوافق كتاب الله ولا سَّنة نبيّه يضرب به عرض الجدار. وقد تواترت الروايات على الترجيح بموافقة الكتاب والسّنة ، يقف عليها القارئ إذا راجع الباب التاسع من أبواب صفات القاضي من الوسائل ( ج ١٨ ، كتاب القضاء ).

ويوقفك على حقيقة الحال ما ذكره الشيخ الطوسي في كتاب « العدَّة » قال : « إنّا وجدنا الطّائفة ميَّزت الرجال الناقلة لهذه الأخبار ، فوثَّقت الثّقات منهم وضعَّفت الضعفاء ، وفرَّقوا بين من يعتمد على حديثه وروايته ومن لا يعتمد على خبره ، ومدحوا الممدوح منهم وذموّا المذموم وقالوا : فلان متَّهم في حديثه ، وفلان كذّاب ، وفلا مخلِّط ، وفلان مخالف في المذهب والاعتقاد ، وفلان واقفيّ وفلان فطحيّ ، وغير ذلك من الطّعون التي ذكروها وصنَّفوا في ذلك الكتب واستثنوا الرجال من جملة ما رووه من التصانيف في فهارستهم »(١) .

وهذه العبارة تنصّ على وجود المدلّسين والوضّاعين والمخلِّطين بين رواة الشيعة ، فكيف يمكن القول بحجيّة كلّ ما في الكتب الأربعة اوغيرها من دون تمييز بين الثقّقة وغيره.

وما ربَّما يقال من أنّ ائمّة الحديث ، قد استخرجوا أحاديث الكتب

__________________

١ ـ عدة الاصول ، للشيخ الطوسي : ١ / ٣٦٦.

٢٧

الأربعة من الأُصول والجوامع الأوّلية بعد تهذيبها عن هؤلاء الأشخاص ، وإن كان صحيحاً في الجملة ، ولكن قصارى جهدهم أنّه حصلت للمشايخ الثلاثة وحضرت عندهم قرائن تفيد الاطمئنان على صدور ما رووه في كتبهم الأربعة أو الثَّلاثة(١) عن الأئمة ، ولكن من أين نعلم أنَّه لو حصلت عندنا تلك القرائن الحاصلة عندهم ، لحصل لنا الاطمئنان أيضاً مثل ما حصل لهم.

أضف إلى ذلك أنّ ادّعاء حصول الاطمئنان للمشايخ في مجموع ما رووه بعيد جدّاً ، لأنَّهم رووا ما نقطع ببطلانه.

هذا مضافاً إلى أنّ ادّعاء حصول الوثوق والاطمئنان للمشايخ بصدور عامّة الروايات حتّى المتعارضين أمر لا يقبله الذَّوق السَّليم.

الرابع : وجود العامي في أسانيد الروايات

إنَّ من سبر روايات الكتب الأربعة وغيرها ، يقف على وجود العامي في أسانيد الروايات ، وكثير منهم قد وقعوا في ذيل السند ، وكان الأئمة يفتونهم بما هومعروف بين أئمّتهم ، وقد روى أئمّة الحديث تلك الأسئلة والأجوبة ، من دون أن يشيروا إلى كون الراوي عامياً يقتفي أثر أئمّته وأنّ الفتوى التي سمعها من الإمامعليه‌السلام صدرت منه تقية ، وعندئذ فالرجوع إلى أحوال الرواة يوجب تمييز الخبر الصادر تقية عن غيره.

الخامس : اجماع العلماء

أجمع علماء الإماميّة ، بل فرق المسلمين جميعاً في الأعصار السابقة ، على العناية بتأليف هذا العلم وتدوينه من عصر الأئمةعليهم‌السلام إلى

__________________

١ ـ الترديد بين الأربعة والثلاثة ، انما هو لاجل الترديد في أن الاستبصار كتاب مستقل أو هو جزء من كتاب التهذيب ، وقد نقل شيخنا الوالد ( قدس الله سره ) عن شيخه شيخ الشريعة الاصفهاني ، أنه كان يذهب إلى أن الاستبصار ذيل لكتاب التهذيب وليس كتاباً مستقلاً. ولكن الظاهر من العدة : ١ / ٣٥٦ أنهما كتابان مستقلان.

٢٨

يومنا هذا ، ولولا دخالته في استنباط الحكم الإلهي ، لما كان لهذه العناية وجه.

والحاصل ؛ أنّ التزام الفقهاء والمجتهدين ، بل المحدّثين في عامَّة العصور ، بنقل اسانيد الروايات ، والبحث عن أوصاف الرواة من حيث العدالة والوثاقة ، والدّقة والضبط ، يدلّ على أنَّ معرفة رجال الروايات من دعائم الاجتهاد.

٢٩
٣٠

٢ ـ أدلة نفاة الحاجة إلى علم الرجال

* حجية أخبار الكتب الأربعة.

* عمل المشهور جابر لضعف السند.

* لا طريق إلى اثبات عدالة الرواة.

* تفضيح الناس والتشهير بهم بهذا العلم وعدم اجتماع شرائط الشهادة.

٣١
٣٢

الفصل الثاني

الحاجة الى علم الرجال

١ ـ أدلّة المثبتين.

٢ ـ أدلّة النافين.

٣٣
٣٤

حجة النافين للحاجة إلى علم الرجال

قد عرفت أدلة القائلين بوجود الحاجة إلى علم الرجال في استنباط الاحكام من أدلتها. بقيت أدلة النافين ، واليك بيان المهم منها :

الأوّل : قطعية روايات الكتب الأربعة

ذهبت الاخبارية إلى القول بقطعيّة روايات الكتب الأربعة وأنَّ أحاديثها مقطوعة الصّدور عن المعصومينعليهم‌السلام وعلى ذلك فالبحث عن حال الرّاوي من حيث الوثاقة وعدمها ، لأجل طلب الاطمئنان بالصدور ، والمفروض أنَّها مقطوعة الصُّدور.

ولكن هذه دعوى بلا دليل ، إذ كيف يمكن ادّعاء القطعيّة لأخبارها ، مع أنَّ مؤلّفيها لم يدَّعوا ذلك ، وأقصى ما يمكن أن ينسب اليهم أنَّهم ادَّعوا صحة الأخبار المودعة فيها ، وهي غير كونها متواترة أو قطعيّة ، والمراد من الصحّة اقترانها بقرائن تفيد الاطمئنان بصدورها عن الأئمةعليهم‌السلام . وهل يكفي الحكم بالصحّة في جواز العمل بأخبارها بلا تفحّص أو لا ، سنعقد فصلا خاصّاً للبحث في ذلك المجال ، فتربّص حتّى حين.

أضف إلى ذلك أنَّ أدلّة الأحكام الشرعيَّة لا تختصّ بالكتب الأربعة ، ولأجل ذلك لا مناص عن الاستفسار عن أحوال الرواة. وقد نقل في الوسائل

٣٥

عن سبعين كتاباً ، أحاديث غير موجودة في الكتب الأربعة وقد وقف المتأخّرون على أُصول وكتب لم تصل إليها يد صاحب الوسائل أيضاً ، فلأجل ذلك قام المحدّث النوري بتأليف كتاب أسماه « مستدرك الوسائل » وفيه من الأحاديث ما لا غنى عنها للمستنبط.

الثاني : عمل المشهور جابر لضعف السند

ذهب بعضهم إلى أنَّ كلَّ خبر عمل به المشهور فهو حجة سواء كان الراوي ثقة أم لا ، وكلّ خبر لم يعمل به المشهور ليس بحجّة وإن كانت رواتها ثقات.

وفيه : أنَّ معرفة المشهور في كلّ المسائل أمر مشكل ، لأنّ بعض المسائل غير معنونة في كتبهم ، وجملة أُخرى منها لا شهرة فيها ، وقسم منها يعدّ من الأشهر والمشهور ، ولأجل ذلك لا مناص من القول بحجيّة قول الثقات وحده وإن لم يكن مشهوراً. نعم يجب أن لا يكون معرضاً عنه كما حقّق في محلّه.

الثالث : لا طريق إلى اثبات العدالة

إنَّ عدالة الراوي لا طريق اليها إلا بالرجوع إلى كتب أهل الرجال الّذين أخذوا عدالة الراوي من كتب غيرهم ، وغيرهم من غيرهم ، ولا يثبت بذلك ، التعديلُ المعتبر ، لعدم العبرة بالقرطاس.

وفيه : أنّ الاعتماد على الكتب الرجالية ، لأجل ثبوت نسبتها إلى مؤلّفيها ، لقراءتهم على تلاميذهم وقراءة هؤلاء على غيرهم وهكذا ، اوبقراءة التّلاميذ عليهم أو بإجازة من المؤلّف على نقل ما في الكتاب ، وعلى ذلك يكون الكتاب مسموعاً على المستنبط أو ثابتة نسبته إلى المؤلف.

والحاصل ؛ أنَّ الكتب إذا ثبتت نسبتها إلى كاتبها عن طريق التواتر والاستفاضة ، أو الاطمئنان العقلائي الّذي يعدّ علماً عرفياً أو الحجّة الشرعيّة ،

٣٦

يصحّ الاعتماد عليها. ولأجل ذلك تقبل الأقارير المكتوبة والوصايا المرقومة بخطوط المُقرّ والموصي أو بخطّ غيرهم ، إذا دلّت القرائن على صحّتها ، كما إذا ختمت بخاتم المُقرّ والموصي أو غير ذلك من القرائن. ومن يرفض الكتابة فإنَّما يرفضها في المشكوك لا في المعلوم والمطمئنّ منها.

أضف إلى ذلك أنَّ تشريع اعتبار العدالة في الراوي ، يجب أن يكون على وجه يسهل تحصيلها ، ولو كان متعسّراً أو متعذّراً ، يكون الاعتبار لغواً والتشريع بلا فائدة.

وعلى هذا فلو كانت العدالة المعتبرة في رواة الأحاديث ، ممكنة التحصيل بالطَّريق الميسور وهو قول الرجاليين فهو ، وإلا فلو لم يكن قولهم حجّة ، يكون اعتبارها فيهم أمراً لغواً لتعسّر تحصيلها بغير هذا الطَّريق.

وللعلاّمة المامقاني جواب آخر وهو : أنَّ التزكية ليست شهادة حتّى يعتبر فيها ما يعتبر في ذلك ، من الأصالة والشفاه وغيرها ، وإلا لما جاز أخذ الأخبار من الأُصول مع أنَّها مأخذوة من الأُصول الأربعمائة ، بل المقصود من الرجوع إلى علم الرجال هو التثبّت وتحصيل الظنّ الاطمئناني الانتظامي الّذي انتظم أُمور العقلاء به فيما يحتاجون إليه وهو يختلف باختلاف الأُمور معاشاً ومعاداً ويختلف في كلّ منهما باعتبار زيادة الاهتمام ونقصانه.(١)

وهذا الجواب انما يتمّ على مذهب من يجعل الرّجوع إلى الكتب الرجالية من باب جمع القرائن والشّواهد لتحصيل الاطمئنان على وثاقة الراوي أو صدور الحديث. وأمّا على مذهب من يعتبر قولهم حجّة من باب الشَّهادة فلا.

فالحقّ في الجواب هو التَّفصيل بين المذهبين. فلو اعتبرنا الرجوع اليهم من باب الشّهادة ، فالجواب ما ذكرناه. ولو اعتبرناه من باب تحصيل القرائن

__________________

١ ـ تنقيح المقال : ١ / ١٧٥ ، من المقدمة.

٣٧

والشواهد على صدق الراوي وصدور الرواية ، فالجواب ما ذكرهقدس‌سره .

ثمَّ إنَّ محلَّ البحث في حجّية قولهم ، إنَّما هو إذا لم يحصل العلم من قولهم أو لم يتحقّق الاطمئنان ، وإلا انحصر الوجه في قبول قولهم من باب التعّبد ، وأما الصورتان الاُوليان ، فخارجتان عن محلّ البحث ، لأنَّ الأوّل علم قطعيّ ، والثاني علم عرفي وحجّة قطعية وإن لم تكن حجّيته ذاتية مثل العلم.

الرابع : الخلاف في معنى العدالة والفسق

إنَّ الخلاف العظيم في معنى العدالة والفسق ، يمنع من الأخذ بتعديل علماء الرجال بعد عدم معلوميّة مختار المعدِّل في معنى العدالة ومخالفته معنا في المبنى ، فإنَّ مختار الشيخ في العدالة ، أنَّها ظهور الإسلام ، بل ظاهره دعوى كونه مشهوراً ، فكيف يعتمد على تعديله ، من يقول بكون العدالة هي الملكة.

وأجاب عنه العلاّمة المامقاني ( مضافاً إلى أنَّ مراجعة علماء الرجال إنَّما هو من باب التبيُن الحاصل على كلّ حال ) ، بقوله : إنّ عدالة مثل الشيخ والتفاته إلى الخلاف في معنى العدالة ، تقتضيان ارادته بالعدالة فيمن أثبت عدالته من الرواة ، العدالة المتّفق عليها ، فإنَّ التأليف والتَّصنيف إذا كان لغيره خصوصاً للعمل به مدى الدَّهر فلايبني على مذهب خاصّ الا بالتّنبيه عليه.(١)

توضيحه : أنَّ المؤلّف لو صرَّح بمذهبه في مجال الجرح والتَّعديل يؤخذ به ، وإن ترك التَّصريح به ، فالظّاهر أنَّه يقتفي أثر المشهور في ذاك المجال وطرق ثبوتهما وغير ذلك ممّا يتعلّق بهما ، إذ لو كان له مذهب خاصّ وراء

__________________

١ ـ تنقيح المقال : ١ / ١٧٦ ، من المقدمة.

٣٨

مذهب المشهور لوجب عليه التنبيه ، حتّى لا يكون غارّاً ، لأنَّ المفروض أنَّ ما قام به من العبء في هذا المضمار ، لم يكن لنفسه واستفادة شخصه ، بل الظّاهر أنَّه ألّفه لاستفادة العموم ومراجعتهم عند الاستنباط ، فلا بدَّ أن يكون متّفق الاصطلاح مع المشهور ، وإلا لوجب التّصريح بالخلاف.

يقول المحقّق القمّي في هذا الصَّدد : والظّاهر أنَّ المصنِّف لمثل هذه الكتب لا يريد اختصاص مجتهدي زمانه به ، حتّى يقال إنَّه صنَّفه للعارفين بطريقته ، سيَّما وطريقة أهل العصر من العلماء عدم الرُّجوع إلى كتب معاصريهم من جهة الاستناد غالباً ، وإنَّما تنفع المصنَّفات بعد موت مصنِّفيها غالباً إذا تباعد الزَّمان. فعمدة مقاصدهم في تأليف هذه الكتب بقاؤها أبد الدهر وانتفاع من سيجيء بعدهم منهم ، فإذا لوحظ هذا المعنى منضمّاً إلى عدالة المصنّفين وورعهم وتقواهم وفطانتهم وحذاقتهم ، يظهر أنَّهم أرادوا بما ذكروا من العدالة المعنى الّذي هو مسلَّم الكلّ حتّى ينتفع الكلّ. واحتمال الغفلة للمؤلّف عن هذا المعنى حين التأليف سيّما مع تمادي زمان التأليف والانتفاع به في حياته في غاية البعد(١) .

وهناك قرينة أُخرى على أنَّهم لا يريدون من الثقة ، مجرَّد الإسلام مع عدم ظهور الفسق ، وإلاَّ يلزم توثيق أكثر المسلمين ، ولا مجرَّد حسن الظّاهر ، لعدم حصول الوثوق به ما لم يحرز الملكة الرادعة.

قال العلاّمة المامقاني : إنَّ هناك قرائن على أنَّهم أرادوا بالعدالة معنى الملكة وهو أنّا وجدنا علماء الرجال قد ذكروا في جملة من الرواة ما يزيد على ظهور الإسلام وعدم ظهور الفسق ، بل على حسن الظاهر بمراتب ومع ذلك لم يصرّحوا فيهم بالتعديل والتوثيق ، ألا ترى أنَّهم ذكروا في إبراهيم بن هاشم ، أنَّه أوّل من نشر أحاديث الكوفيّين بقم ، وهذا يدلّ على ما هو أقوى من حسن

__________________

١ ـ القوانين : ١ / ٤٧٤ الباب السادس في السّنة.

٣٩

الظّاهر بمراتب ، لأنَّ أهل قم كان من شأنهم عدم الوثوق بمن يروي عن الضعفاء ، بل كانوا يخرجونه من بلدهم ، فكيف بمن كان هو في نفسه فاسقاً أو على غير الطَّريقة الحقَّة. فتحقّق نشر الأخبار بينهم يدلّ على كمال جلالته ومع ذلك لم يصرِّح فيه أحد بالتّوثيق والتّعديل(١) .

الخامس : تفضيح الناس في هذا العلم

إنَّ علم الرجال علم منكر يجب التحرّز عنه ، لأنَّ فيه تفضيحاً للنّاس ، وقد نهينا عن التجسّس عن معايبهم وأمرنا بالغضّ والتستّر.

وفيه أوّلاً : النقض بباب المرافعات. حيث إنّ للمنكر جرح شاهد المدَّعي وتكذيبه ، وبالأمر بذكر المعايب في مورد الاستشارة ، إلى غير ذلك ممّا يجوز فيه الاغتياب.

وثانياً : إنَّ الأحكام الالهيَّة أولى بالتحفّظ من الحقوق التي اُشير اليها.

أضف إلى ذلك أنَّه لو كان التفحّص عن الرواة أمراً مرغوباً عنه ، فلماذا أمر الله سبحانه بالتثبّت والتبيّن عند سماع الخبر ، إذ قال سبحانه :( إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإ فَتَبَيَّنُوا ) (٢) .

والأمر به وإن جاء في مورد الفاسق ، لكنَّه يعمُّ المجهول للتّعليل الوارد في ذيل الآية( أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَة فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ) فإنَّ احتمال إصابة القوم بجهالة لا يختصّ بمن علم فسقه ، بل يعمّ محتمله كما لا يخفى.

السادس : قول الرجالي وشرائط الشهادة

لو قلنا باعتبار قول الرجالي من باب الشَّهادة ، يجب أن تجتمع فيه

__________________

١ ـ تنقيح المقال : ١ / ١٧٦ من المقدمة.

٢ ـ الحجرات : ٦.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

وأقول :

ما ذكره من اتّفاق العلماء على أنّ الممكن لا يترجّح أحد طرفيه على الآخر إلّا لمرجّح ، خطأ ظاهر ، فإنّ قومه ـ وهم الأشاعرة ـ لا يوافقون عليه ، ويزعمون أنّ بقاء الممكن الموجود ، وعدم الممكنات الأزلي ، لا يحتاجان إلى مرجّح وسبب.

ولذا قالوا : إنّ المحوج إلى السبب هو الحدوث ، أي خروج الممكن من العدم إلى الوجود ، لا الإمكان(١) .

ولكن غرّ الخصم أنّه رأى في أوّل مباحث الممكن من « المواقف » وشرحها دعوى ضرورية حاجة الممكن إلى السبب بالتقرير الذي ذكره الخصم ، ولم يلتفت إلى أنّهما ذكرا ذلك عن الحكماء القائلين بأنّ المحوج إلى السبب هو الإمكان(٢) ، خلافا للأشاعرة.

ولذا بعدما ذكرا عن الحكماء أنّ الحكم مركوز في طباع البهائم ، ولذا تنفر من صوت الخشب ، أوردا عليه بقولهما : « قلنا ذلك ، أي نفورها لحدوثه لا لإمكانه ، فإنّه لمّا حدث الصوت بعد عدمه ، تخيّلت البهائم أن لا بدّ له من محدث ، لا أنّها تخيّلت تساوي طرفي الصوت ، وأن لا بدّ هناك من مرجّح »(٣) .

ولو سلّم الاتّفاق على حاجة الممكن إلى السبب ، وعلى أنّه يمتنع

__________________

(١) شرح المقاصد ٢ / ١٥.

(٢) انظر : المواقف : ٧١ ، شرح المواقف ٣ / ١٣٥ ـ ١٣٦.

(٣) المواقف : ٧١ ، شرح المواقف ٣ / ١٣٧.

٢٨١

ترجّح أحد طرفيه بدون مرجّح فهو خارج عمّا نحن فيه ؛ لأنّ كلام المصنّف في إمكان ترجيح الفاعل لأحد الطرفين بلا مرجّح كما هو مذهب جماعة ومنهم الأشاعرة.

ولذا قال في « المواقف » في البحث عن أفعال العباد ، بعدما ذكر الدليل المذكور الذي نقله المصنّف عن الأشاعرة : « واعلم أنّ هذا الاستدلال إنّما يصلح إلزاما للمعتزلة ، القائلين بوجوب المرجّح في الفعل الاختياري ؛ وإلّا فعلى رأينا يجوز الترجيح بمجرّد تعلّق الاختيار بأحد طرفي المقدور ، فلا يلزم من كون الفعل بلا مرجّح كونه اتّفاقيا »(١) .

بل يستفاد من هذا ـ لا سيّما قوله : « يجوز الترجيح بمجرّد تعلّق الاختيار » ـ جواز ترجيح المرجوح على الراجح فضلا عن المساوي ، كما يدلّ عليه أيضا تجويزهم تقديم المفضول على الفاضل في مسألة الإمامة(٢) ، وتجويزهم عقلا أن يعذّب الله الأنبياء ويثيب الفراعنة والأبالسة(٣) ، وقولهم : لا يجب على الله شيء ولا يقبح منه شيء(٤) ، وحينئذ فما أجاب به الخصم عن مثال الرغيفين ونحوه غير صحيح عند أصحابه.

وأمّا ما أجاب به عن الوجه الرابع ، فمن الجهل أيضا ؛ لأنّ المصنّف

__________________

(١) المواقف : ٣١٣.

(٢) الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ٢ / ٢٩٦ ، المواقف : ٤١٢ ، شرح المقاصد ٥ / ٢٤٧.

(٣) اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ١١٥ ـ ١١٦ ، تمهيد الأوائل : ٣٨٥ ، الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ١٣٤.

(٤) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٩٥ ، المواقف : ٣٢٨ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٩٤.

٢٨٢

لم ينكر أنّ القول بكون القدرة غير صالحة للضدّين يوجب عدم القدرة على الترك بعد فرض تعلّقها بالفعل ، وإنّما يقول : إنّ القول بهذا القول مناف للاستدلال بذلك الدليل ؛ لأنّ الاستدلال به مبنيّ على جواز تعلّق القدرة بالضدّين ، وهم لا يقولون بتعلّقها بهما.

وأمّا ما ذكره من أنّ قول المصنّف : « إن خالفوا مذهبهم من تعلّقها بالضدّين لزمهم شيء يخترعه من عند نفسه ثمّ يجعله محذورا »

ففيه : إنّ هذا القول من المصنّف جواب عن سؤال مقدّر ، وهو : إنّ ما ذكرته من منافاة الدليل لمذهبهم مبنيّ على التزامهم هنا بقولهم بعدم جواز تعلّق القدرة بالضدّين ، فلعلّهم خالفوا هنا ذلك وأجازوا تعلّقها بهما.

فقال : وإن خالفوا ذلك لزمهم محذور آخر ، وهو اجتماع الضدّين أو تقدّم القدرة على الفعل ، وكلاهما مخالف لمذهبهم.

وهذا ليس من باب اختراع النسبة إليهم ، كما توهّمه الخصم وأبان به وبما قبله عن جهله بمقاصد المصنّف وبمذهبهم ، وعن سرقته لكلام « المواقف » وشرحها من دون معرفة بمخالفته لمذهبهم ، وبعدم انطباقه على المورد!!

* * *

٢٨٣

قال المصنّف ـ رفع الله درجته ـ (١) :

وفي الثاني من وجهين :

الأوّل : العلم بالوقوع تبع الوقوع فلا يؤثّر فيه ، فإنّ التابع إنّما يتبع متبوعه ويتأخّر عنه بالذات ، والمؤثّر متقدّم.

الثاني : إنّ الوجوب اللاحق لا يؤثّر في الإمكان الذاتي ، ويحصل الوجوب باعتبار فرض وقوع الممكن ، فإنّ كلّ ممكن على الإطلاق إذا فرض موجودا ، فإنّه حالة وجوده يمتنع عدمه ، لامتناع اجتماع النقيضين ، وإذا كان ممتنع العدم كان واجبا ، مع أنّه ممكن بالنظر إلى ذاته.

والعلم حكاية عن المعلوم ومطابق له ، إذ لا بدّ في العلم من المطابقة ، فالعلم والمعلوم متطابقان ، والأصل في هيئة التطابق هو المعلوم ، فإنّه لولاه لم يكن علما به.

ولا فرق بين فرض الشيء وفرض ما يطابقه ، بما هو حكاية عنه ، وفرض العلم هو بعينه فرض المعلوم.

وقد عرفت أنّ مع فرض المعلوم يجب ، فكذا مع فرض العلم به.

وكما إنّ ذلك الوجوب لا يؤثّر في الإمكان الذاتي ، كذا هذا الوجوب ، ولا يلزم من تعلّق علم الله تعالى به وجوبه بالنسبة إلى ذاته ، بل بالنسبة إلى العلم.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٢٣.

٢٨٤

وقال الفضل (١) :

قد ذكرنا أنّ هذه الحجّة أوردها الإمام الرازي على سبيل الفرض الإجمالي ، في « مبحث التكليف والبعثة »(٢) ، وهذا صورة تقريره :

« ما علم الله عدمه من أفعال العبد فهو ممتنع الصدور عن العبد ، وإلّا جاز انقلاب العلم جهلا وما علم الله وجوده من أفعاله فهو واجب الصدور عن العبد ، وإلّا جاز الانقلاب.

ولا مخرج عنهما لفعل العبد ، وأنّه يبطل الاختيار ، إذ لا قدرة على الواجب والممتنع ، فيبطل حينئذ التكليف وأخواته ؛ لابتنائها على القدرة والاختيار بالاستقلال كما ذكرتم.

فما لزمنا في مسألة خلق الأعمال ، فقد لزمكم في مسألة علم الله تعالى بالأشياء ».

قال الإمام الرازي : ولو اجتمع جملة العقلاء ، لم يقدروا أن يوردوا على هذا حرفا إلّا بالتزام مذهب هشام ، وهو أنّه تعالى لا يعلم الأشياء قبل وقوعها »(٣) .

وقال شارح « المواقف » : « واعترض عليه بأنّ العلم تابع للمعلوم ، على معنى أنّهما يتطابقان ، والأصل في هذه المطابقة هو المعلوم ، ألا يرى إلى صورة الفرس مثلا على الجدار ، إنّما كانت على الهيئة المخصوصة ؛ لأنّ

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١٠٨.

(٢) تقدّم عن الفخر الرازي وغيره كما في الصفحة ٢٦٧ ه‍ ١.

(٣) الأربعين في أصول الدين ١ / ٣٢٨.

٢٨٥

الفرس في حدّ نفسه هكذا ، ولا يتصوّر أن ينعكس الحال بينهما.

فالعلم بأنّ زيدا سيقوم غدا مثلا ، إنّما يتحقّق إذا كان هو في نفسه بحيث يقوم فيه ، دون العكس ، فلا مدخل للعلم في وجوب الفعل وامتناعه ، وسلب القدرة والاختيار ، وإلّا لزم أن لا يكون تعالى فاعلا مختارا لكونه عالما بأفعاله وجودا وعدما »(١) ، انتهى كلام شارح « المواقف ».

وظهر أنّ الرجل السارق الحلّي سرق هذين الوجهين من كلام أهل السنّة والجماعة وجعلهما حجّة عليهم.

وجواب الأوّل من الوجهين : إنّا لا ندّعي تأثير العلم في الفعل ـ كما ذكرنا ـ حتّى يلزم من تأخّره عن المعلوم عدم تأثيره ، بل ندّعي انقلاب العلم جهلا(٢) ، والتابعيّة لا تدفع هذا المحذور ؛ لما ستعلم.

وجواب الثاني من الوجهين : إنّا نسلّم أنّ الفعل الذي تعلّق به علم الواجب في الأزل ممكن بالذات ، واجب بالغير.

والمراد حصول الوجوب الذي ينفي الاختيار ويصير به الفعل اضطراريا ، وهو حاصل ، سواء كان الوجوب بالذات أو بالغير.

وأمّا جواب شارح « المواقف » فنقول : لا نسلّم أنّ العلم مطلقا تابع للمعلوم ، بل العلم الانفعالي الذي يتحقّق بعد وقوع المعلوم هو تابع للمعلوم.

وإن أراد بالتابعيّة التطابق ، فلا نسلّم أنّ الأصل في المطابقة هو

__________________

(١) شرح المواقف ٨ / ١٥٥ ـ ١٥٦.

(٢) تقدّم في الصفحة ٢٦٥.

٢٨٦

المعلوم في العلم الفعلي ، بل الأمر بالعكس عند التحقيق ، فإنّ علم المهندس الذي يحصل به تقدير بناء البيت ، هو الأصل والعلّة لبناء البيت ، والبيت يتبعه ، فإن خالف شيء من أجزاء البيت ما قدّر المهندس في علمه الفعلي ، لزم انقلاب العلم جهلا.

وأنت تعلم أنّ علم الله تعالى بالموجودات التي ستكون هو علم فعليّ ، كعلم المهندس الذي يحصل من ذاته ثمّ يطابقه البيت.

كذلك علم الله تعالى هو سبب حصول الموجودات على النظام الواقع ، ويتبعه وجود الممكنات ، فإن وقع شيء من الكائنات على خلاف ما قدّره علمه الفعلي في الأزل ، لزم انقلاب العلم جهلا ، وهذا هو التحقيق!

* * *

٢٨٧

وأقول :

تقدّم أنّ إيراد الرازي له على سبيل النقض لا ينافي اتّخاذ الأشاعرة له دليلا ، كما نقله عنهم من هو منهم ، وهو القوشجي كما مرّ(١) .

وأمّا ما ادّعاه من ظهور سرقة المصنّف للجوابين بسبب ما نقله عن شارح « المواقف » ، فمن المضحكات ؛ لأنّ تصنيف « شرح المواقف » متأخّر عن تصنيف المصنّف لهذا الكتاب بنحو من مائة سنة ، فإنّ السلطان محمّد خدابنده تشيّع سنة سبع بعد السبعمائة ، وصنّف له هذا الكتاب(٢) ، وكان تصنيف « شرح المواقف » سنة سبع بعد الثمانمائة ، كما ذكره الشارح في آخر شرحه(٣) .

على أنّ الجواب الثاني من خواصّ هذا الكتاب ، إذ لم يذكر في « شرح المواقف » ولا غيره.

ولو كان واحد من الجوابين من كلام الأشاعرة لما خفي على صاحب « المواقف » ، فإنّ عادته جمع كلامهم وكلام غيرهم ، سوى كثير من كلمات أهل الحقّ! فلمّا لم يطلع عليهما علم أنّهما من خواصّ خصومهم ، كما هي

__________________

(١) تقدّم في الصفحة ٢٦٧ من هذا الجزء.

(٢) انظر : نهج الحقّ : ٣٨ مقدّمة العلّامة الحلّي ؛ وانظر : أعيان الشيعة ٩ / ١٢٠ ، الذريعة ٢٤ / ٤١٦ رقم ٢١٨٣.

(٣) شرح المواقف ٨ / ٤٠١.

وقد كانت وفاة العلّامة الحلّي 1 كانت في سنة ٧٢٦ ه‍ ، وتوفّي الإيجي مؤلّف « المواقف » في سنة ٧٥٦ ه‍ ، فيما كانت وفاة الجرجاني شارح « المواقف » في سنة ٨١٢ ه‍.

٢٨٨

عادتهم في ترك النظر بكلمات الإمامية ، رغبة عن الحقّ ، وتعصّبا لما هم عليه.

لكن لمّا كان لشارح « المواقف » حاشية على « شرح التجريد القديم »(١) ، اطّلع على الجواب الأوّل ، فذكره في « شرح المواقف »(٢) ؛ لأنّ شيخ المتكلّمين نصير الدين1 قد ذكره في « التجريد »(٣) ، فكان هذا الجواب من خواصّ نصير الدين ، والجواب الثاني منخواصّ المصنّف.

ثمّ إنّ ما أجاب به الخصم عن الأوّل بقوله : « بل ندّعي انقلاب العلم جهلا » غير نافع له ؛ لأنّ لزوم الانقلاب ما لم يكن العلم مؤثّرا لا يوجب سلب تأثير قدرة العبد كما هو مدّعاهم ، وإنّما يوجب أن يقع ما علم الله تعالى على الوجه الذي علمه من الاختيار أو الاضطرار ، كما إنّ صدق الصدق في الأخبار إنّما يقتضي ذلك.

وأمّا ما أجاب به عن الثاني

ففيه : إنّ الوجوب بالغير ، الحاصل من فرض وقوع الممكن

__________________

(١) هو الشرح المسمّى « تشييد القواعد » أو « تسديد القواعد في شرح تجريد العقائد » تأليف : شمس الدين محمود بن عبدالرحمن بن أحمد الأصفهاني ، المتوفّى سنة ٧٤٦ ه‍.

وتسميته بالشرح القديم لا لكونه أقدم الشروح ، بل لتقدّمه على « شرح التجريد » المعروف ب‍ « الشرح الجديد » ، للشيخ علاء الدين عليّ بن محمّد القوشجي ، المتوفّى سنة ٨٧٩ ه‍.

وقد كتب شارح « المواقف » السيّد الشريف عليّ بن محمّد الجرجاني ، المتوفّى سنة ٨١٦ ه‍ حاشية على الشرح القديم هذا ، اشتهرت باسم « حاشية التجريد ».

انظر : الذريعة ٣ / ٣٥٤ ، مقدّمة تجريد الاعتقاد : ٨٠ ، كشف الظنون ١ / ٣٤٦.

(٢) شرح المواقف ٨ / ١٥٥.

(٣) تجريد الاعتقاد : ١١٣ ـ ١١٤.

٢٨٩

بالاختيار ـ كما بيّنه المصنّف ـ لا يجعل الفعل اضطراريا ، وإلّا كان خلفا ، بل كثير من الوجوب أو الامتناع بالغير لا يسلب القدرة والاختيار ، كالظلم وفعل القبيح ، فإنّهما ممتنعان على الله تعالى لقبحهما ، وهو قادر مختار في تركهما.

وبالجملة : المدار في القدرة والاختيار على كون الفعل منوطا بإشاءة الفاعل وأفعال العباد كذلك ، غاية الأمر أنّ الله تعالى علم أنّهم يفعلون أفعالا ويتركون أفعالا بإشاءتهم للأمرين ، كما يعلم ذلك في حقّه تعالى ، وهو لا يوجب الخروج عن القدرة والاختيار.

وأمّا ما أورد به على الجواب الذي نقله شارح « المواقف »

ففيه : إنّه إن أراد بقوله : « إنّ علم الله تعالى بالموجودات فعليّ » أنّه سبب حقيقي مؤثّر فيها ، ومنها أفعالنا ، فهو باطل ألبتّة حتّى لو قلنا : إنّه تعالى فاعل لأفعالنا ؛ لأنّ المؤثّر فيها قدرته لا علمه.

وإن أراد به أنّ علمه شرط لها ، فلا يضرّنا تسليمه ، إذ لا يستدعي خروج أفعالنا عن قدرتنا ؛ لأنّ الأثر للفاعل ، لا للشرط.

والقوم يعنون بكون العلم الفعلي سببا لوجود المعلوم في الخارج ، أنّه دخيل في السببية من حيث كونه شرطا ، كعلم المهندس ، بخلاف العلم الانفعالي ، فإنّه ليس بشرط للمعلوم ، بل هو مسبّب ، أي : فرع عن وجود المعلوم ، كعلمنا بما وقع.

وبخلاف الفعلي والانفعالي أيضا الذي يعرّفونه بما ليس سببا لوجود المعلوم في الخارج ، ولا مسبّبا عنه ، كعلم الله سبحانه بذاته ، فإنّه بالاتّفاق عين ذاته ، ويختلفان بالاعتبار.

على أنّ الحقّ أنّ العلم الفعلي ليس شرطا لوجود المعلوم ، ضرورة

٢٩٠

أنّ العلم تابع للمعلوم ؛ لأنّه انكشاف الشيء وحضوره لدى العالم به ، فيكون وجود المعلوم واقعا متقدّما رتبة على العلم ؛ لكونه شرطا له أو بحكمه.

فلو كان العلم الفعلي شرطا أيضا لوجود المعلوم جاء الدور(١) ، فلا بدّ أن يكون العلم الفعلي كغيره ، ليس شرطا في وجود المعلوم.

نعم ، تصوّر الشيء شرط لإقدام العاقل الملتفت على إيجاد الشيء ، وهو أمر آخر ، ومنه تصوّر المهندس ، وهو غير العلم الفعلي المصطلح عليه بالعلم الحضوري

فإذا عرفت هذا ، عرفت ما في كلام الخصم من الخطأ ، فتدبّر!

* * *

__________________

(١) وبه قال الفخر الرازي في الأربعين في أصول الدين ١ / ٢٠٧.

٢٩١

قال المصنّف ـ أعلى الله مقامه ـ (١) :

وأمّا المعارضة في الوجهين ، فإنّهما آتيان في حقّ واجب الوجود تعالى.

فإنّا نقول في الأوّل : لو كان الله تعالى قادرا مختارا فإمّا أن يتمكّن من الترك أو لا ، فإن لم يتمكّن من الترك كان موجبا مجبورا على الفعل ، لا قادرا مختارا.

وإن تمكّن ، فإمّا أن يترجّح أحد الطرفين على الآخر أو لا ، فإن لم يترجّح لزم وجود الممكن المساوي من غير مرجّح ، فإن كان محالا في حقّ العبد ، كان محالا في حقّ الله تعالى ، لعدم الفرق.

وإن ترجّح فإن انتهى إلى الوجوب لزم الجبر ، وإلّا تسلسل أو وقع المتساوي من غير مرجّح ، فكلّ ما تقولونه ها هنا نقوله نحن في حقّ العبد.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٢٤.

٢٩٢

وقال الفضل (١) :

ذكر صاحب « المواقف » هذا الدليل في كتابه ، وأورد عليه أنّ هذا ينفي كون الله تعالى قادرا مختارا ، لإمكان إقامة الدليل بعينه ، فيقال : لو كان الله موجدا لفعله بالقدرة استقلالا ، فلا بدّ أن يتمكّن من فعله وتركه ، وأن يتوقّف فعله على مرجّح ، إلى آخر ما مرّ تقريره.

وأجيب عن ذلك بالفرق بأنّ إرادة العبد محدثة ، أي الفعل يتوقّف على مرجّح هو الإرادة الجازمة ، لكن إرادة العبد محدثة ، فافتقرت إلى أن تنتهي إلى إرادة يخلقها الله تعالى فيه ، بلا إرادة واختيار منه ، دفعا للتسلسل في الإرادات التي تفرض صدورها عنه ، وإرادة الله تعالى قديمة فلا تفتقر إلى إرادة أخرى(٢)

فظهر الفرق واندفع النقض.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١١٣.

(٢) المواقف : ٣١٢ ـ ٣١٣ ، شرح المواقف ٨ / ١٤٩ ـ ١٥١.

٢٩٣

وأقول :

هذا الجواب للرازي في « الأربعين » كما نقل عنه(١) .

وأورد عليه المحقّق الطوسيرحمه‌الله في « التجريد » بما مضمونه : إنّ التقسيم إلى الإرادتين ، والفرق بينهما بالحدوث والقدم ؛ لا يدفع الإشكال ؛ لأنّ الترك إن لم يمكن مع الإرادة القديمة كان الله تعالى موجبا لا قادرا مختارا.

وإن أمكن ، فإن لم يتوقّف فعله تعالى على مرجّح استغنى الجائز عن المرجّح.

وإن توقّف كان الفعل معه موجبا ، فيكون اضطراريا(٢) .

وسيأتي للكلام تتمّة عند القول في المعارضة الآتية.

* * *

__________________

(١) انظر : الأربعين في أصول الدين ١ / ٣٢٣.

(٢) تجريد الاعتقاد : ١٩٢ و ١٩٩.

٢٩٤

قال المصنّف ـ أجزل الله ثوابه ـ (١) :

ونقول في الثاني : إنّ ما علمه تعالى إن وجب ولزم بسبب هذا الوجوب خروج القادر منّا عن قدرته وإدخاله في الموجب ، لزم في حقّ الله تعالى ذلك بعينه ، وإن لم يقتض سقط الاستدلال.

فقد ظهر من هذا أنّ هذين الدليلين آتيان في حقّ الله تعالى ، وهما إن صحّا لزم خروج الواجب عن كونه قادرا ، ويكون موجبا.

وهذا هو الكفر الصريح ، إذ الفارق بين الإسلام والفلسفة هو هذه المسألة.

والحاصل : إنّ هؤلاء إن اعترفوا بصحّة هذين الدليلين لزمهم الكفر ، وإن اعترفوا ببطلانهما سقط احتجاجهم بهما.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٢٤.

٢٩٥

وقال الفضل (١) :

قد عرفت في كلام شارح « المواقف » أنّه ذكر هذا النقض ، وليس هو من خواصّه حتّى يتبختر به ويأخذ في الإرعاد والإبراق والطامّات.

والجواب :

أمّا عمّا يرد على الدليل الأوّل فهو : إنّ فعل الباري محتاج إلى مرجّح قديم يتعلّق في الأزل بالفعل الحادث في وقت معين.

وذلك المرجّح القديم لا يحتاج إلى مرجّح آخر ، فيكون الله تعالى مستقلّا في الفعل.

ولو قال قائل : إذا وجب الفعل مع ذلك المرجّح القديم كان موجبا لا مختارا.

قلنا : إنّ الوجوب المترتّب على الاختيار لا ينافيه بل يحقّقه.

فإن قلت : نحن نقول : اختيار العبد أيضا يوجب فعله ، وهذا الوجوب المترتّب على الاختيار لا ينافي كونه قادرا مختارا.

قلت : لا شكّ أنّ اختياره حادث ، وليس صادرا عنه باختياره ، وإلّا نقلنا الكلام إلى ذلك الاختيار ، وتسلسل ، بل عن غيره ، فلا يكون مستقلّا في فعله باختياره ، بخلاف إرادة الباري ، فإنّها مستندة إلى ذاته ، فوجوب الفعل بها لا ينافي استقلاله في القدرة عليه(٢) .

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١١٧.

(٢) شرح المواقف ٨ / ١٥١.

٢٩٦

وأمّا عمّا يرد على الدليل الثاني فهو : إنّ علم الله تعالى في ذاته مقارن لصفة القدرة والإرادة ، فإذا علم الشيء وتعلّق به علمه ، تعلّق به الإرادة والقدرة وخلق الموجودات.

وكلّ واحد من الصفات الثلاث يتعلّق بمتعلّقه من الأشياء ، وعلى كلّ ما تقتضيه ، فمقتضى العلم التعلّق من حيث الانكشاف ، ومقتضى الإرادة الترجيح ، ومقتضى القدرة صحّة وقوع الفعل والترك فلا يلزم الوجوب ؛ لأنّ صفة العلم لا تصادم صفة القدرة ، لأنّهما قديمتان حاصلتان معا ، بخلاف القدرة الحادثة ، فإنّ العلم القديم يصادمه ، ومقتضى العلم القديم يسلب عنه القدرة ، وهذا جائز في الصفات الحادثة بخلاف الصفات القديمة ، فليس ثمّة إيجاب.

تأمّل ، فإنّ هذا الجواب دقيق ، وبالتأمّل فيه حقيق.

وأمّا ما ذكره من لزوم الكفر ، فمن باب طامّاته وترّهاته ، وهذه مسائل علمية عملية يباحث الناس فيها ، فهو من ضعف رأيه وكثرة تعصّبه ينزله على الكفر والتفسيق ، نعوذ بالله من جهل ذلك الفسّيق.

* * *

٢٩٧

وأقول :

قد بيّنّا أنّ تصنيف المصنّف لهذا الكتاب قبل تصنيف « شرح المواقف » بنحو مائة سنة ، فلا ينافي كون هذا النقض من خواصّ المصنّف ، بل صنّف المصنّف هذا الكتاب سنة سبع بعد السبعمائة أو بعدها بقليل(١) ، والقاضي العضد حينئذ صبي ؛ لأنّه ولد بعد السبعمائة(٢) ، فيكون هذا الكتاب أسبق من « المواقف » فضلا عن شرحها بكثير.

وأمّا التبختر ، فالمصنّف أجلّ منه قدرا ، وإن حقّ له ؛ لأنّه أكثر الناس علما وتصنيفا.

ولا يبعد أنّه صنّف هذا الكتاب بنحو عشرة أيّام ، بحسب ما ذكر العلماء من كثرة تصانيفه وسرعته في تأليفها ، أجزل الله رحمته عليه وضاعف أجره.

وأمّا الإرعاد ، فلا يتوقّف على كون ذلك من خواصّه ، وإن كان قريبا ، بل يكفي فيه أن يكون من إفادات شيخه نصير الملّة والدين ، أو غيره من أصحابنا.

وأمّا ما أجاب به الخصم عن معارضة الدليل الأوّل

ففيه أوّلا : إنّ دعوى عدم صدور اختيار العبد منه بل من الله تعالى باطلة ؛ لما سبق تحقيقه(٣) من أنّ بعض آثار قدرة العبد صادرة عنه

__________________

(١) راجع ما مرّ آنفا في الصفحة ٢٨٨.

(٢) انظر : الدرر الكامنة ٢ / ١٩٦ رقم ٢٢٧٩ ، معجم المؤلّفين ٢ / ٧٦ رقم ٦٧٥٦.

(٣) تقدّم في الصفحة ١٢١ ـ ١٢٢ من هذا الجزء.

٢٩٨

بلا سبق إرادة ، كأكثر أفعال القوى الباطنة ، ومنها : الإرادة ، وبعض أفعال القوى الظاهرة ، كفعل الغافل والنائم ، فلا يتوقّف صدور الإرادة عن العبد بقدرته على إرادة أخرى حتّى يلزم التسلسل.

وثانيا : إنّ كون إرادة الله سبحانه مستندة إلى ذاته لا ينفي الجبر عن فعله على مذهبهم ؛ لأنّها من صفاته ، وصفاته بزعمهم صادرة عنه بالإيجاب ، فيكون فعله المترتّب عليها صادرا عنه بالإيجاب والجبر لا بالقدرة ، كما أشار إليه شارح « المواقف » بعد بيان ما ذكره الخصم في جواب معارضة الدليل الأوّل ، قال :

« لكن يتّجه أن يقال : استناد إرادته القديمة إلى ذاته بطريق الإيجاب دون القدرة ، فإذا وجب الفعل بما ليس اختياريا له ، تطرّق إليه شائبة الإيجاب »(١) .

وقد ترك الخصم ذكر هذا مع أنّ كلامه مأخوذ من « شرح المواقف » بعين لفظه ليروّج منه الباطل! فالله حسيبه.

وأمّا ما أجاب به عن معارضة الدليل الثاني

ففيه : مع أنّ مجرّد القدم لا يرفع دعوى التصادم لو صحّت ، أنّ الذي أوجب عندهم الجبر هو أنّ ما علم الله تعالى وجوده واجب ، وما علم عدمه ممتنع ، وإلّا لزم انقلاب علمه تعالى جهلا ، وهذا جار في أفعال الله تعالى وأفعال العبد بلا فرق ، ولا دخل لحديث التصادم في رفعه أصلا.

هذا كلّه إذا قلنا بقدم إرادة الله تعالى المخالفة للعلم بالمصلحة كما يدّعيه الأشاعرة

__________________

(١) شرح الواقف ٨ / ١٥١.

٢٩٩

وأمّا إذا قلنا بحدوثها كما اختاره جماعة(١) ، ودلّ عليه كثير من الآيات ، كقوله تعالى :( إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً ) (٢) وقوله تعالى :

( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (٣) ونحوهما ، فإنّه حينئذ لا يبقى محلّ لجواب المعارضتين معا كما لا يخفى.

وأمّا ما ذكره من أنّ لزوم الكفر من باب طامّاته

ففيه : إنّه كيف لا يلزمهم الكفر وهي ـ كما قال الخصم ـ مسائل علمية عملية ، فإنّهم إذا التزموا بصحّة الدليلين ، وعملوا واعتقدوا بمقتضاهما ، كان الله تعالى عندهم موجبا لا قادرا مختارا ، وهو عين الكفر ، نعوذ بالله.

* * *

__________________

(١) انظر : المغني ـ للقاضي عبد الجبّار ـ ٦ ق ٢ / ١٣٧ و ١٤٠ ، شرح الأصول الخمسة : ٤٤٠ ، الكشف عن مناهج الأدلّة ـ لابن رشد ـ : ٤٧.

(٢) سورة الإسراء ١٧ : ١٦.

(٣) سورة يس ٣٦ : ٨٢.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530