الدعاء حقيقته وآدابه وآثاره

الدعاء حقيقته وآدابه وآثاره50%

الدعاء حقيقته وآدابه وآثاره مؤلف:
الناشر: مركز الرسالة
تصنيف: متون الأدعية والزيارات
ISBN: 964-8629-83-8
الصفحات: 119

الدعاء حقيقته وآدابه وآثاره
  • البداية
  • السابق
  • 119 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 50497 / تحميل: 5352
الحجم الحجم الحجم
الدعاء حقيقته وآدابه وآثاره

الدعاء حقيقته وآدابه وآثاره

مؤلف:
الناشر: مركز الرسالة
ISBN: ٩٦٤-٨٦٢٩-٨٣-٨
العربية

١

٢

٣

٤

مقدمة المركز

الحمدُ لله ربِّ العالمين ، وصلّىٰ الله علىٰ سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين..

وبعد : « إنّ الدعاء مخُّ العبادة ، ولا يهلك مع الدعاء أحد ».

بهذا البيان الوجيز يجمع الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قيمة الدعاء وأثره في الحياة.. فإذا كان الله تعالىٰ قد قال :( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) فإنّ الدعاء مخُّ العبادة وجوهرها ، الذي جعله القرآن الكريم في نصّ آخر مرادفاً للعبادة :( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) ، فجعل الدعاء هنا ممثلاً للعبادة ومترجماً لها.

قال الإمام الصادقعليه‌السلام : « إنّ الدعاء هو العبادة » ثم تلا هذه الآية الكريمة التي تعبر عن هذا المعنىٰ ، وقال : « هي والله العبادة ، هي والله العبادة » يريد الدعاء..

ومن ناحية اُخرىٰ تعطي هذه الآية الكريمة صورة الدعاء المقابلة لصورة الاستكبار.. صورتان متضادتان ، تعكس الاُولىٰ خصائص العابد العارف بحق ربه تعالىٰ شأنه والعارف بحقيقته عبداً لله ، وبقيمة صلته بخالقه ومولاه ، فيما تعكس الثانية ، ملامح عاصٍ عنيد جافٍ بعيدٍ عن إدراك كل تلك المعاني الاُولىٰ.. ليعود بنا هذا المشهد إلىٰ تصديق دلالة الدعاء علىٰ العبادة ، وكون محلّه منها محل المخّ واللبّ والجوهر والمعنىٰ.

وهذا هو الذي يفسّر لنا النصوص المعصومة التي تفيد بأنّ أفضل العبادة هو الدعاء.. ذلك أن غاية العبادة هي التقرب إلىٰ الله تعالىٰ بمعرفة حقه وسلطانه الذي لا يشركه فيه أحد ، والتذلل إليه المعبر عن يقين المرء بحاجته إلىٰ من بيده ملكوت السماوات والأرض ، الذي لا معطي لما منع ،

٥

ولا مانع لما أعطىٰ ، ولا دافع لما قدّر إلّا هو.

ولا تتجلىٰ هذه المعاني في شيء مثل تجليها في الدعاء ، فهو أفضل وسيلة إذن للتعبير عنها وامتثالها وجداناً وسلوكاً ، حاضراً ومستقبلاً ، إنّها الحالة التي تتجلىٰ فيها العبودية في أروع صورها وأتمّها ، فلا غرابة في أن تكون هي أحب حالات العبد إلىٰ الله تعالىٰ ، ففي حديث أمير المؤمنينعليه‌السلام : « أحبُّ الأعمال إلىٰ الله عزَّ وجلّ في الأرض الدعاء ».

وإذا كانت الشريعة السمحة قد عُنيت بأمر من الاُمور إلىٰ هذا الحدّ ، فلابدّ أن تضع للناس آدابه وشرائطه التي بها يستكمل صورته ويؤتي أُكُلَه ، وهكذا كان شأن هذه الشريعة السمحة والمحجة البيضاء مع الدعاء ، فعرّفت الناس بآدابه ، والتي في مقدمتها الصدق والاخلاص في التوجه إلىٰ الله تعالىٰ ، والثقة به ، واليقين بأنّه سميع مجيب ، وحسن التأدّب بين يديه بأدب العبد الخاضع الذي يرجو نظرة ربه ولطفه ورحمته.. كما عرّفتهم بشروطه التي بها يكون دعاءً صحيحاً ترجىٰ من ورائه أحسن الآثار العاجلة منها والآجلة ، وبدونها سيكون لغواً كسائر ما يهذر به بعض الناس في ساعات التسامح واللامبالاة.

وهذا الكتاب الذي يقدمه مركز الرسالة لقرّائه الكرام ضمن ( سلسلة المعارف الإسلامية ) سينفتح علىٰ كلِّ هذه الآفاق بالتعريف الوافي ، ضمن السياق الروحي والتربوي الذي لا غنىٰ للإنسان عنه.

والله من وراء القصد وهو الهادي إلىٰ سبيل الرشاد

مركز الرسالة

٦

المقدِّمة

الحمدُ لله ربِّ العالمين ، وأفضل الصلاة وأتم التسليم علىٰ خير الأنام ومصباح الظلام محمد المصطفىٰ الأمين وآله الهداة الميامين. وبعد :

قال تعالىٰ :( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) (١) .

الدعاء عبادة يمارسها الإنسان في جميع حالاته ، لأنّه يترجم عمق الصلة بين العبد وبارئه ، ويعكس حالة الافتقار المتأصلة في ذات الإنسان إلىٰ الله سبحانه ، والإحساس العميق بالحاجة إليه والرغبة فبما عنده.

فالدعاء مفتاح الحاجات ووسيلة الرغبات ، وهو الباب الذي خوّله تعالىٰ لعباده كي يلجوا إلىٰ ذخائر رحمته وخزائن مغفرته ، وهو الشفاء من الداء ، والسلاح في مواجهة الاعداء ، ومن أقوىٰ الأسباب التي يستدفع بها البلاء ويُردُّ القضاء.

ولذلك فإنّنا نجد الدعاء من أبرز القيم الرفيعة عند الأنبياء والأوصياء والصالحين ، ومن أهمّ السنن المأثورة عنهم.

ولقد اهتمّ الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعترته المعصومونعليهم‌السلام بالدعاء اهتماماً خاصاً ، وحفلت كتب الدعاء الكثيرة المروية عنهمعليهم‌السلام بتراث فذّ

__________________________

(١) سورة غافر : ٤٠ / ٦٠.

٧

من أدعيتهم ، يُعدُّ صفحة مشرقة من صفحات التراث الإسلامي ، فهو من حيث الفصاحة والبلاغة آية من آيات الأدب الرفيع ، ومن حيث المضمون وسيلة لنشر تعاليم القرآن وآداب الإسلام وتلقين اُصول العقيدة وتهذيب النفوس وصفائها وتنمية نزعاتها الخيرة لتصل إلىٰ درجات الطاعة والفضيلة.

والرسالة التي بين يديك هي إحدىٰ ثمرات ذلك الأدب الرفيع ، فهي دراسة متواضعة تعكس للقارئ الكريم وباسلوب بسيط أهم ما يتعلق بموضوع الدعاء وفقا لما جاء في الكتاب الكريم والسُنّة المطهّرة ، وذلك في أربعة فصول :

الفصل الأول : مفهوم الدعاء وعلاقته بالعبادة.

الفصل الثاني : آداب الدعاء.

الفصل الثالث : استجابة الدعاء ، ويشتمل علىٰ العوامل المؤثرة في استجابة الدعاء ، وأسباب تأخر الاجابة ، والدعوات المستجابة وغير المستجابة.

الفصل الرابع : آثار الدعاء في الدنيا والآخرة.

نرجو من الله تعالىٰ أن ينفع بها الإخوة المؤمنين ، ونسأله سبحانه العون والسداد ، ونستلهمه التوفيق والرشاد.

٨

الفصل الأول

مفهوم الدعاء وعلاقته بالعبادة

الدعاء في اللغة :

الدعاء : هو أن تميل الشيء إليك بصوتٍ وكلامٍ يكون منك.

تقول : دعوت فلانا أدعوه دعاءً ، أي ناديته وطلبت إقباله ، وأصله دُعاوٌ ، إلّا أنّ الواو لمّا جاءت بعد الألف هُمزت.

وللدعاء في الكتاب الكريم وجوه عدّة ، كلّها تدور حول المعنىٰ اللغوي المتقدم ، نذكر منها :

١ ـ النداء ، يقال : دعوت فلاناً ، أي ناديته وصحت به ، قال تعالىٰ :( فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ) (١) أي ، ننادي...

وقد يستعمل كل واحد من النداء والدعاء موضع الآخر ، قال تعالىٰ :( كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ) (٢) .

__________________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٦١.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٧١.

٩

٢ ـ الطلب ، يقال : دعاه ، أي طلبه ، قال تعالىٰ :( وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَىٰ حِمْلِهَا ) (١) ، أي تطلب أن يحمل عنها.

٣ ـ القول ، قال تعالىٰ :( فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا ) (٢) ، أي قولهم إذ جاءهم العذاب.

٤ ـ العبادة ، قال تعالىٰ :( لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَٰهًا ) (٣) ، أي نعبد.

٥ ـ الاستعانة ، قال تعالىٰ :( وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ ) (٤) ، أي استعينوا واستغيثوا بهم.

٦ ـ الحثّ علىٰ الشيء ، قال تعالىٰ :( قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا ) (٥) ، أي حثثتهم علىٰ عبادة الله سبحانه.

٧ ـ النسبة ، قال تعالىٰ :( ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ ) (٦) ، أي انسبوهم واعزوهم.

٨ ـ السؤال ، قال تعالىٰ :( قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ ) (٧) أي سله(٨) .

__________________________

(١) سورة فاطر : ٣٥ / ١٨.

(٢) سورة الاعراف : ٧ / ٥.

(٣) سورة الكهف : ١٨ / ١٤.

(٤) سورة البقرة : ٢ / ٢٣.

(٥) سورة نوح : ٧١ / ٥.

(٦) سورة الاحزاب : ٣٣ / ٥.

(٧) سورة البقرة : ٢ / ٦٩.

(٨) يراجع في معنىٰ الدعاء ، صحاح الجوهري ـ دعا ـ ٦ : ٢٣٣٧. ومعجم مقاييس اللغة ـ دعو ـ ٢ : ٢٧٩. وأساس البلاغة ـ دعو ـ ١٣١. والقاموس المحيط ـ دعا ـ ٤ : ٣٢٩. ولسان العرب

١٠

الدعاء في الاصطلاح :

طلب الأدنىٰ من الأعلىٰ : علىٰ جهة الخضوع والاستكانة(١) .

ودعاء العبد ربه جلَّ جلاله : طلب العناية منه ، واستمداده إياه المعونة(٢) .

ويقال : دعوتُ الله أدعوهُ دعاءً : ابتهلتُ إليه بالسؤال ، ورغبتُ فيما عنده من الخير(٣) .

قال تعالىٰ :( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) (٤) .

ويقول العلّامة المجلسي : الأدعية المأثورة علىٰ نوعين :

١ ـ الأوراد والأذكار الموظفة المقررة في كلِّ يوم وليلة المشتملة علىٰ تجديد العقائد وطلب المقاصد والأرزاق ودفع كيد الأعداء ونحو ذلك ، وينبغي للمرء أن يجتهد في حضور القلب والتوجه والتضرع عند قرائتها ، لكن يلزم أن لا يتركها إن لم يتيسر ذلك.

٢ ـ المناجاة ، وهي الأدعية المشتملة علىٰ صنوف الكلام في التوبة والاستغاثة والاعتذار وإظهار الحب والتذلل والانكسار ، وظني أنه

__________________________

ـ دعا ـ ١٤ : ٢٥٧. ومفردات الراغب : ١٧٠. والأنباء بما في كلمات القرآن من أضواء ٢ : ٢٧٠.

(١) عمدة الداعي : ١٢.

(٢) تفسير الرازي ٥ : ٩٧.

(٣) المصباح المنير ١ : ١٩٤.

(٤) سورة غافر : ٤٠ / ٦٠.

١١

لا ينبغي أن تقرأ إلّا مع البكاء والتضرع والخشوع التام ، وينبغي أن تترصد الأوقات لها.

وهذان القسمان من الدعاء ببركة أهل البيتعليهم‌السلام عندنا كثير.

فأما القسم الأول فأكثرها مذكورة في مصباحي الشيخ الطوسي والكفعمي ، وكتابي التتمات والاقبال لابن طاووس في ضمن التعقيبات وأدعية الاُسبوع وأعمال السنة وغيرها.

والقسم الثاني أيضا منشورة في عرض تلك الكتب وغيرها ، كالأدعية الخمس عشرة ، والمناجاة المعروفة بالانجيلية ، ودعاء كميل النخعي وغيرها ، والصحيفة الكاملة جلّها بل كلّها في المقام الثاني(١) .

علاقة الدعاء بالعبادة :

تقدّم أن العبادة هي أحد الاُمور التي يصدق عليها مفهوم الدعاء اللغوي الواسع ، ويدل علىٰ ذلك آيات قرآنية كثيرة وردت في هذا السياق ، منها قوله تعالىٰ :( لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَٰهًا ) (٢) أي لن نعبد إلهاً دونه ، فهذه الآية وغيرها تترجم الصلة اللغوية الدائمة القائمة بين العبادة والدعاء.

أما الصلة الاصطلاحية بين العبادة والدعاء ، فإنّ الدعاء في نفسه عبادة ؛ لأنّهما يشتركان في حقيقة واحدة ، هي إظهار الخشوع والافتقار إلىٰ الله تعالىٰ ، وهو غاية الخلق وعلّته ، قال تعالىٰ :( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ

__________________________

(١) الاعتقادات / المجلسي : ٤١.

(٢) سورة الكهف: ١٨ / ١٤.

١٢

وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) (١) ، وقال تعالىٰ :( قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ ) (٢) .

فالدعاء والعبادة يعكسان الفقر المتأصل في كيان الإنسان إلىٰ خالقه تعالىٰ مع إحساسه العميق بالحاجة إليه والرغبة فيما عنده.

قال الإمام الصادقعليه‌السلام : «الدعاء هو العبادة التي قال الله : ( إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) »(٣) يعني أنّ الدعاء هو معظم العبادة وأفضلها ، وذلك كقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :« الحج عرفة » أي الوقوف بعرفة هو الركن الأعظم(٤) .

ويؤيد ذلك حديث الإمام الباقرعليه‌السلام :« أفضل العبادة الدعاء » (٥) .

وما رواه سدير عنهعليه‌السلام ، قال : قلت لأبي جعفر الباقرعليه‌السلام : أي العبادة أفضل ؟ فقالعليه‌السلام :« ما من شيء أفضل عند الله عزَّ وجلَّ من أن يسأل ويطلب ممّا عنده » (٦) .

وإذا قيل : إنّ الدعاء لا يصحّ إطلاقه علىٰ العبادة الشرعية التكليفية ، فإنّ الصيام مثلاً لا يسمىٰ دعاءً لغةً ولا شرعاً ، وعليه فليس كلّ عبادة شرعية دعاءً.

__________________________

(١) سورة الذاريات : ٥١ / ٥٦.

(٢) سورة الفرقان : ٢٥ / ٧٧.

(٣) الكافي ٢ : ٣٣٩ / ٧ ، والآية من سورة غافر : ٤٠ / ٦٠.

(٤) تفسير الرازي ٥ : ٩٩.

(٥) الكافي ٢ : ٣٣٨ / ١.

(٦) الكافي ٢ : ٣٣٨ / ٢.

١٣

نقول : ( الدعاء من العبد لربه : هو عطف رحمته وعنايته إلىٰ نفسه بنصب نفسه في مقام العبودية والمملوكية ، ولذا كانت العبادة في الحقيقة دعاءً ، لأنّ العبد ينصب فيها نفسه في مقام المملوكية والاتصال بمولاه بالتبعية والذلّة ليعطفه بمولويته وربوبيته إلىٰ نفسه ، وهو الدعاء )(١) .

وإلى ذلك يشير قوله تعالىٰ :( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) (٢) ، فالآية تدعو إلىٰ الدعاء وتحثّ عليه وتعد بالاجابة ، وتزيد علىٰ ذلك حيث تسمي الدعاء عبادة ، فقد عبّرت أولاً بالدعاء ( ادعوني ) ثمّ عبرت عن الدعاء بالعبادة ( عن عبادتي ) أي عن دعائي ، بل ( إنّ الآية تجعل مطلق العبادة دعاءً ، حيث إنها تشتمل علىٰ الوعيد لترك الدعاء بالنار ، والوعيد بالنار إنّما هو علىٰ ترك العبادة رأساً ، لا علىٰ ترك بعض أقسامها دون بعض ، فأصل العبادة إذن دعاء )(٣) .

وإذا تأملنا في قوله تعالىٰ :( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) (٤) .

نلاحظ أنه ( كما يشتمل علىٰ الحكم وهو إجابة الدعاء ، كذلك يشتمل علىٰ علله ، فكون الداعين عباداً لله تعالىٰ هو الموجب لقربه منهم ، وقربه منهم هو الموجب لاجابته المطلقة لدعائهم )(٥) .

__________________________

(١) تفسير الميزان ١٠ : ٣٨.

(٢) سورة غافر ٤٠ : ٦٠.

(٣) تفسير الميزان ٢ : ٣٣.

(٤) سورة البقرة : ٢ / ١٨٦.

(٥) تفسير الميزان ٢ : ٣٢.

١٤

فاخلاص العبودية لله تعالىٰ هو علّة القرب منه تعالىٰ والارتباط به ، والقرب منه هو مظنّة الإجابة ، وهو يكشف عن الصلة الموضوعية بين حقيقة الدعاء وحقيقة العبادة ، قال الإمام الصادقعليه‌السلام :« عليكم بالدعاء ، فانكم لا تُقرّبون بمثله » (١) .

الدعاء مخُّ العبادة :

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :« الدعاء مخُّ العبادة ، ولا يهلك مع الدعاء أحد » (٢) هذا الحديث المبارك يكشف لنا عن جوهر العبادة وحقيقتها التي تتجلىٰ في إقبال العبد المحتاج علىٰ المعبود الغني( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) (٣) .

وهذا الاقبال هو التعبير الحي عن الصلة الموضوعية بين الخالق والمخلوق ، وعن شعور الإنسان بحاجته الدائمة إلىٰ ربّه تعالىٰ في جميع أموره واعترافه الخاضع بالعبودية له تعالىٰ ، والتي تتجسد في الشعور بالارتباط العميق بالله سبحانه ، فجوهر العبادة إذن هو تحقيق الارتباط والعلاقة بين الخالق والمخلوق ، والدعاء هو أوسع أبواب ذلك الارتباط وتلك العلاقة ، فهو إذن مخ العبادة وحقيقتها وأجلىٰ صورها ، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :« أفضل العبادة الدعاء ، وإذا أذن الله لعبد في الدعاء فتح له أبواب الرحمة ، إنّه لن يهلك مع الدعاء أحد » (٤) .

__________________________

(١) الكافي ٢ : ٣٣٩ / ٦.

(٢) بحار الأنوار ٩٣ : ٣٠٠.

(٣) سورة فاطر : ٣٥ / ١٥.

(٤) عدة الداعي : ٣٥.

١٥

الدعاء في البلاء والرخاء :

الدعاء باعتباره عبادة تسمو بالنفس وتشرق بالروح وتوصل الإنسان بربه بارىء الكون ، يجب أن لا ينحصر في وقت الشدة والاضطرار بل يجب أن يكون في جميع الأحوال ، نابعاً من التسامي النفسي والانفتاح الروحي والكمال الانساني.

الدعاء في البلاء :

إنّ علاقة الإنسان بربه علاقة ذاتية متأصلة في نفس الإنسان ، ولكلِّ امرئ طريق من قلبه إلىٰ خالقه ، وثمة باب في القلوب يفتح إلىٰ من بيده مجريات الأحداث وهو بكلِّ شيء محيط ، فحتىٰ أشقىٰ الأشقياء نجده عند الابتلاء بالمصائب والمحن ، وعندما توصد في وجهه الأبواب ، وتنقطع به العلل والأسباب ، يفزع إلىٰ خالقه وينقطع إليه ضارعاً منكسراً ، وهذا أمر ذاتي يتساوىٰ فيه الناس مهما كانت اتجاهاتهم وميولهم ، قال تعالىٰ :( وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ ) (١) .

وقال تعالىٰ :( وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ) (٢) .

وقال تعالىٰ :( وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنسَانُ كَفُورًا ) (٣) ، والآيات في هذا المعنىٰ

__________________________

(١) سورة يونس : ١٠ / ١٢.

(٢) سورة الروم : ٣٠ / ٣٣.

(٣) سورة الاسراء ١٧ : ٦٧.

١٦

كثيرة ، وكلّها تدلُّ علىٰ أنّ التوجه إلىٰ الله تعالىٰ في حال الشدة والاضطرار أصيل في فطرة الإنسان وطبيعي في وجوده.

قال رجل للإمام الصادقعليه‌السلام : يا بن رسول الله ، دلّني علىٰ الله ما هو ؟ فقد أكثر عليَّ المجادلون وحيّروني ، فقال له :« يا عبد الله ، هل ركبت سفينة قط ؟ قال : نعم. قالعليه‌السلام :فهل كُسر بك حيث لا سفينة تنجيك ، ولا سباحة تغنيك ؟ قال : نعم ، قالعليه‌السلام :فهل تعلّق قلبك هنالك أنّ شيئاً من الأشياء قادرٌ علىٰ أن يخلصك من ورطتك ؟ قال : نعم. قال الإمام الصادقعليه‌السلام :فذلك الشيء هو الله القادر علىٰ الانجاء حيث لا منجي، وعلىٰ الاغاثة حيث لا مغيث » (١) .

لقد جعل الإمام الصادقعليه‌السلام الرجل يعرف الله تعالىٰ عن طريق قلبه ، لقد دلّه الإمامعليه‌السلام علىٰ ذلك الطريق الذي يوصل بين القلب والخالق القادر ، إنّ هذا الاتجاه الفطري الذي يتجلّىٰ عند تقطع الأسباب ويتوجه إلىٰ القدرة القاهرة الغالبة علىٰ الأسباب والعلل الظاهرة ، هو الدليل علىٰ وجود تلك القدرة ، ولولا وجودها لما وجدت تلك الفطرة في قلب الإنسان.

إنّ التوجه إلىٰ الله تعالىٰ في حال الشدّة والاضطرار والتضرع إليه بالدعاء ، أمرٌ غير مرئي بالحواس ، ويمكننا أن نشبّهه بتوجّه غريزي مرئي ومعروف ، ذلك هو ميل الطفل إلىٰ ثدي أُمّه ، هو غريزة تنشأ معه منذ ولادته ، فإذا جاع تحركت فيه هذه الغريزة وهدته إلىٰ البحث عن ثدي أُمّه الذي لم يره ولم يعرفه ولم يتعوّد عليه ، فلولا وجود ثدي ولبن يناسبان

__________________________

(١) بحار الأنوار ٣ : ٤١ / ١٦.

١٧

معدة الطفل لما أرشدته الغريزة إليهما ، وكذلك حال الغرائز الاُخرىٰ في الإنسان ، فلولا وجود تلك القدرة القاهرة لما وجدت تلك الفطرة وذلك التوجّه الغريزي في ذات الإنسان.

إنَّ هذا الأمر الأصيل في وجود الإنسان ، قد تغطّيه حجب الإثم والشقاء بعدما يظهر للعيان بنداء الفطرة ، فيتراءىٰ للإنسان أنّه قد استغنىٰ ، فيطغىٰ ويعرض عن خالقه متعلّقاً بالاسباب التي هي دونه ، قال تعالىٰ :( كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ ) (١) ، وقال تعالىٰ :( فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ ) (٢) ، وقال تعالىٰ :( فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ ) (٣) .

فإذا اقتصر الإنسان علىٰ الدعاء في حال الاضطرار والشدة ، فان ذلك لا يمثل كمالاً إنسانياً ولا إخلاصاً عبادياً ، بل هو جفاء وقسوة وابتعاد عن رحاب الرحمة والمغفرة.

الدعاء في الرخاء :

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم موصياً الفضل بن العباس :« احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده أمامك ، تعرّف إلىٰ الله في الرخاء يعرفك في الشدّة » (٤) يعني أدع الله في الرخاء ولا تنسه حتىٰ يستجيب لدعائك في الشدّة ولاينساك ، ولا تكن من الذين نسوا الله فنسيهم ، وذلك لأنّ من نسي ربه

__________________________

(١) سورة العلق : ٩٦ / ٦ ـ ٧.

(٢) سورة يونس : ١٠ / ١٢.

(٣) سورة الاسراء : ١٧ / ٦٧.

(٤) الفقيه ٤ : ٢٩٦ / ٨٩٦.

١٨

في الرخاء أذعن باستقلال الأسباب في الرخاء ، ثم إذا دعا ربه في الشدّة ، كان معنىٰ عمله أنّه يذعن بالربوبية في حال الشدّة وحسب ، وليس هو تعالىٰ علىٰ هذه الصفة ، بل هو ربّ في كلِّ حال وعلىٰ جميع التقادير.

عندما يكون الإنسان في حال رخاء واطمئنان ، يجب أن يعلم بأنّ ما هو فيه من نعمة مزجاة هي من الله ، وأنه هو القادر علىٰ أن يسلبه إياها كما هو القادر علىٰ أن يزيده منها ، وذلك لأنّه خالق الكون والانسان والحياة ، وأنه اللطيف بعباده الرؤوف بهم.

ولهذا نجد أنّ الأنبياء والأوصياء والصالحين يتوجهون إلىٰ ربهم بنفس متسامية مشرقة حتىٰ عندما يكونون في رخاء وبحبوحة عيش ، يدعون ربهم ويتوسلون به ليديم عليهم نعمته ويزيدهم من فضله :( وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ) (١) .

إنّ الله تعالىٰ يستجيب لهم وينظر إليهم بعين رحمته في حال رخائهم ، ويسرع إلىٰ نجدتهم ورفع البلاء عنهم في حال المحنة والابتلاء كما يسرعون إلىٰ استدعاء رحمة ربهم ، وقد ورد في الروايات ما يدلُّ علىٰ استحباب التقدم بالدعاء في الرخاء قبل نزول البلاء.

فعن الإمام أمير المؤمنين عليعليه‌السلام أنّه كان يقول :« ما من أحد ابتلي وان عظمت بلواه أحقُّ بالدعاء من المعافى الذي لا يأمن البلاء » (٢) .

__________________________

(١) سورة الأنبياء : ٢١ / ٨٩ ـ ٩٠.

(٢) الفقيه ٤ : ٢٨٥ / ٨٥٣. وأمالي الصدوق : ٢١٨ / ٥. ونهج البلاغة ـ الحكمة ٣٠٢.

١٩

وعن الإمام علي بن الحسين زين العابدينعليه‌السلام أنّه كان يقول :« لم أرَ مثل التقدّم في الدعاء ، فان العبد ليس تحضره الاجابة في كلِّ ساعة » (١) .

وعن الإمام أبي الحسنعليه‌السلام :« ان أبا جعفر عليه‌السلام كان يقول : ينبغي للمؤمن أن يكون دعاؤه في الرخاء نحواً من دعائه في الشدة ، ليس إذا اعطي فتر ، فلا تملّ الدعاء ، فانه من الله عزَّ وجل بمكان » (٢) .

فالدعاء الاضطراري الذي يمثل نداء الفطرة والغريزة لا تتخطّاه الاجابة ، لأنّه يقع ضمن دائرة الرحمة الالهية التي وسعت كل شيء ، والدعاء الاختياري الذي يصدر عن منطقة الوعي ونداء العقل وينبض بحركة الروح والشعور في الذات وحركة القلب المنقطع إلىٰ ربه المتخلي عن جميع الأسباب في الشدة والرخاء ، هو الآخر لا تتخطّاه الاجابة ، وهو مخُّ العبادة وجوهرها النقي ، وهو الذي وصف به المتقون :« ذُبُل الشفاه من الدعاء ، صُفُر الألوان من السهر ، علىٰ وجوههم غيرة الخاشعين » (٣) .

والدعاء بالمعنىٰ الأخير عبادة حيّة متحركة لا تخضع للزمان والمكان المعينين ولا للأفعال الخاصة والكلمات المحددة ، بل ينطلق فيها الإنسان حراً في المكان الذي يقف فيه ، والوقت الذي يختاره ، واللغة التي يتحدث بها ، والكلمات التي يعبر بها ، والمضمون الذي يريده.

اقتران الدعاء بمظاهر العبادة :

لقد اهتم الشارع المقدس بالدعاء لأنّه أحب الأعمال إلىٰ الله تعالىٰ في

__________________________

(١) الارشاد : ٢٥٩.

(٢) ٢ : ٣٥٤ / ١. وقرب الاسناد : ١٧١.

(٣) نهج البلاغة : الخطبة ١٢١.

٢٠

وقال الإمام الصادق ـ في جواب السائل عن الكيفية له ـ: لا لأنّ الكيفيّة جهة والاحاطة، ولكن من الخروج من جهة التعطيل والتشبيه(١) .

وهذه الأحاديث تحدّد موقف المعرفة وأنّها بين التعطيل والتشبيه.

فاتضح انّ رائدنا في مجال المعارف الإلهية أمران :

١ ـ الأقيسة العقليّة.

٢ ـ التأمّل في آثار الرب في العوالم المختلفة.

ولأجل ايضاح الحال وانّه يمكن الحصول على المعارف وصفات الواجب عزّ وجلّ عن طريق ترتيب الأقيسة المنطقيّة أوّلاً، والتدبّر في صنعه وخلقه ثانياً، نأتي بالبيان التالي :

١ ـ الاستدلال بالأقيسة العقليّة المنطقيّة

وله صور نشير إليها :

إذا ثبت كونه سبحانه غنيّاً غير محتاج إلى شيء بل الكلّ محتاج إليه فالعقل يتّخذه مبدأً لكثير من أحكامه على الواجب عزّ اسمه، فيصفه بما يناسب غناه وينزّهه عمّا لا يجتمع معه، وقد سلك الفيلسوف الإسلامي الكبير نصير الدين الطوسي هذا السبيل للبرهنة على جملة من الصفات الجلالية قال :

« ووجوب الوجود ( الغني ) يدل على سرمديته، ونفي الزائد، والشريك والمثل، والتركيب بمعانيه، والضد، والتحيّز والحلول، والاتحاد، والجهة، وحلول الحوادث فيه، والألم واللذّة والمعاني والأحوال والصفات الزائدة عيناً والرؤية. ».

__________________

(١) الكافي: ج ١ باب « اطلاق القول بأنّه شيء » الحديث ٢، ٥.

٢١

بل انطلق المحقّق من نفس هذه القاعدة لاثبات سلسلة من الصفات الثبوتيّة حيث قال: « ووجوب الوجود يدل على ثبوت الوجود، والملك والتمام والحقّية والخيرية والحكمة والتجّبر والقهر والقيوميّة »(١) .

فقد سبقه إلى ذلك صاحب كتاب « الياقوت » في علم الكلام إذ قال وهو بصدد تنزيهه سبحانه عن الصفات غير اللائقة بساحة قدسه: « وليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ولا حالاًّ في شيء ولا تقوم الحوادث به وإلّا لكان عرضاً »(٢) .

وإن شئت قلت: إنّ ذاته سبحانه نفس الكمال، وفوق ما يتصوّر من الكمال، وليس للنقص إليه سبيل، فإذا كان كذلك فيجب أن يوصف بكلّ ما يُعدّ كمالاً فينزّه عمّا يعدّ نقصاً، فالصفات الذاتية صفات كمال لا محيص عن الاتّصاف بها، كما أنّ الصفات السلبيّة صفات تنزيهيّة طاردة للنقص عن ساحة ذاته فيجب التنزيه عنها، فإذا كان العلم والقدرة والحياة أوصاف كمال وكانت الجسميّة والتركّب والحالّيّه والمحلّيّة صفات نقص فيجب التوصيف بالاُولى والتنزيه عن الثانية ولأجل ذلك قلنا: إنّ الصفات الثبوتية والسلبية ترجع إلى اثبات أمر واحد وهو الكمال، وسلب أمر واحد وهو النقص.

وبتعبير آخر لاثبات صفاته وهو أنّ الوجودات الامكانية وجودات متدلّية قائمة بوجود الواجب وما لها من صفات كمال كالعلم والقدرة والحياة، فالمالك الحقيقيّ لها هو الله سبحانه، والمعطي لها هو الله سبحانه. قال تعالى:( للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ) فالعلم والقدرة والحياة كلّها تجلّيات لعلمه وقدرته وحياته، فإذا كان كذلك فالعلم الأصيل والقدرة الأصيلة والحياة الحقيقيّة لله سبحانه.

__________________

(١) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: ص ١٧٨ ـ ١٨٥ ( ط صيدا ).

(٢) أنوار الملكوت في شرح الياقوت: ص ٧٦ ـ ٨٠ ـ ٨١ ـ ٩٢.

٢٢

يقول العلّامة الطباطبائي: نحن أوّل ما نفتح أعيننا، يقع ادراكنا على أنفسنا، وعلى أقرب الاُمور منا، وهي صلتنا بالكون الخارج، لكنّا لا نرى أنفسنا إلّا مرتبطة بغيرها ولا قوانا ولا أفعالنا إلّا كذلك، فالحاجة من أقدم ما يشاهده الإنسان، يشاهدها من نفسه ومن كلّ ما يرتبط به من قواه وأعماله والدنيا الخارجة. وعند ذلك يقضي بذات ما يقوم بحاجته ويصد خلّته، وإليه ينتهي كلّ شيء وهو الله سبحانه ويصدقنا في هذا النظر والقضاء قوله سبحانه:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الحَمِيدُ ) ( فاطر / ١٥ ).

ثمّ إنّ أقدم ما نواجهه في البحث عن المعارف الالهيّه إنّا نذعن بانتهاء كلّ شيء إليه، وكينونته ووجوده منه، فهو يملك كلّ شيء لعلمنا أنّه لو لم يملكها لم يمكن أن يفيضها ويفيدها لغيره، على أنّ بعض هذه الأشياء مما ليست حقيقته إلّا مبنيّة على الحاجة وهو تعالى منزّه عن كلّ حاجة ونقيصة لأنّه الذي يرجع إليه كلّ شيء في رفع حاجته ونقيصته.

فله الملك ـ بكسر الميم وضمها ـ على الاطلاق فهو سبحانه يملك ما وجدنا في الوجود من صفة كمال كالحياة والقدرة والعلم والسمع والبصر والرزق والرحمة والعزّة.

فهو سبحانه حيّ، قادر، بصير، حليم، لأنّ في نفيها اثبات النقص ولا سبيل للنقص إليه، ورازق ورحيم وعزيز ومحيي ومميت ومبدع ومعيد وباعث إلى غير ذلك لأنّ الرزق والرحمة والعزّة والاحياء والاماتة والابداع والاعادة والبعث له سبحانه وهو السبّوح، القدّوس، العلي، الكبير، المتعال، إلى غير ذلك، فنعني بها نفي كلّ نعت عدمي، ونفي كلّ صفة نقص عنه(١) .

ترى أنّه ـ قدس الله سره ـ استدل على الصفات الثبوتية بمبدأ واحد وهو أنّ

__________________

(١) الميزان: ج ٨ ص ٣٦٦ ـ ٣٦٧.

٢٣

الملك له لا لغيره، فكلّ ما يملكه الإنسان فهو يملكه، فصار هذا منشأً لاثبات كثير من الصفات الثبوتية.

٢ ـ مطالعة الكون وآيات وجوده

الطريق الثاني التي يمكن التعرّف بها على ما في ذاته سبحانه من الجمال والكمال طريق التدبّر في النفس والكون أي في آياته الأنفسية والافاقية امتثالاً لقوله سبحانه :

( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) ( فصّلت / ٥٣ )(١) .

فمطالعة الكون المحيط بنا وما فيه من بديع النظام وغريب الموجودات يكشف لنا عن علمه الوسيع وقدرته المطلقة فمن خِلال هذه القاعدة وعبر هذا الطريق، يمكن للإنسان أن يهتدي إلى قسم كبير من الصفات الإلهية الجماليّة ( الثبوتية ) والجلالية ( السلبية ) وقد سلك هذا الطريق المحقّق نصير الدين وقال: « والأحكام والتجرّد واستناد كلّ شيء إليه دلائل علمه »(٢) .

وقول شيخنا المحقّق الطوسي ليس فريداً في ذلك الباب بل سبقه شيخنا أبو جعفر الطوسي في بعض كتبه وقال عند البحث عن علمه سبحانه :

« وأمّا الذي يدل على أنّه عالم هو أنّ الإحكام ظاهر في أفعاله كخلق الإنسان وغيره من الحيوان لأنّ فيه من بديع الصنعة ومنافع الأعضاء وتعديل الامزجة وتركيبها على وجه يصحّ معه أن يكون حيّاً لا يقدر عليه إلّا من هو عالم بما يريد فعله ،

__________________

(١) والاستدلال مبني على عود الضمير المنصوب في « انّه الحق » الى الله سبحانه.

(٢) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: ص ١٧٤ ( ط صيدا ) والاستدلال بالتجرّد، استدلال عقلي والاستدلال بالأحكام واستناد كل شيء اليه، استدلال بآيات وجوده على كماله.

٢٤

لأنّه لو لم يكن عالماً لما وقع على هذا الوجه من الإحكام والنظام، والاختلاف في بعض الأحوال ولـمـّا كان ذلك واقعاً على حد واحد، ونظام واحد، واتساق واحد دل على أنّ صانعه عالم »(١) .

وهناك ـ وراء الإستدلال العقلي والنظر في آثار الرب ـ طريقان آخران نشير إليهما.

٣ ـ المعرفة عن طريق الوحي

إنّ الوحي ادراك مصون عن الخطأ والزلل كما أنّ السنّة الصحيحة فرع من فروعه فكلّ ما ورد في الكتاب والسنّة من الإلهيات والمعارف، يصلح الاستدلال به غير أنّ الآيات القرآنية في ذلك المجال على قسمين: فتارة تتخد لنفسها موقف المعلم والمفكّر الذي يريد تعليم اتباعه فيكون موقف المخاطَب عندئذ موقف الاستلهام والاستعلام كما هو الحال في البراهين التي أقامها القرآن في مجال اثبات الصانع ونفي الشريك عنه وكثير من صفاته الثبوتية، فتكون تلك الآيات حجّة عقليّة من دون استلزام الدور، واُخرى يتخذ لنفسه موقف الرسول المتكلّم باسم الوحي المنبئ عن الله سبحانه فعندئذ يكون قوله حجّة تعبديّة ولا يمكن الاعتماد على مثله إلّا بعد ثبوت وجود الصانع وبعض صفاته وثبوت النبوّة العامّة والخاصة، ولكن الغالب على الآيات القرآنيه والسنّة الصحيحة المرويّة عن أئمّة أهل البيت هو الأوّل. يقف على ذلك من خالط القرآن روحه وقلبه وقرأ القرآن متدبّراً متعمّقاً.

٤ ـ المعرفة عن طريق الكشف والشهود

هناك طريق رابع وهو التعرّف على الحقائق من خلال الكشف والشهود، والقائلون به يرون أنّ سبيل الحصول على حقائق المعارف هو السعي إلى صفاء القلب

__________________

(١) الاقتصاد، الهادي الى سبيل الرشاد: ص ٢٨، ولاحظ إرشاد الطالبين للفاضل المقداد: ص ١٩٤.

٢٥

حتى ينعكس ما في ذلك العالم على قلب العارف وضميره، ويدرك ما في ماوراء الطبيعة من الجمال والكمال ادراكاً يقينيّاً لا يخالطه الشك، ولا يمازجه الريب، ولكنه طريق ( قلّ سالكيه ) يختصّ بطائفة خاصّة ولايكون حجّة إلّا لصاحب الكشف.

وعلى كلّ تقدير فليس المدّعى لمن يسلك هذه الطرق الأربعة هو معرفة كنه الذات الإلهية وكنه صفاته وأسمائه، بل المراد التعرّف على ما هناك من الجمال والكمال ونفي النقص والعجز حسب المقدرة الإنسانية.

إلى هنا تبيّن إنّ التفكير الصحيح ممّا دعى إليه الكتاب العزيز والفطرة السليمة، وهناك كلام للعلاّمة الطباطبائي حول التفكّر الذي يدعو إليه القرآن وهو بحث مسهب نقتبس منه ما يلي، قال :

« إنّك لو تتبّعت الكلام الإلهي ثم تدبّرت آياته، وجدت ما لعلّه يزيد على ثلاثمائة آية تتضمّن دعوة الناس إلى التفكّر أو التذكّر أو التعقّل أو تلقّن النبي الحجّة لاثبات حقّ أو ابطال باطل كقوله:( قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ) ( المائدة / ١٧ ).

أو ينقل الحجّة الجارية على لسان أنبيائه وأوليائه كنوح وإبراهيم وموسى وغيرهم من الأنبياء العظام ولقمان ومؤمن آل فرعون كقوله :

( قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) ( إبراهيم / ١٠ ).

وقوله:( وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) ( لقمان / ١٣ ).

وقوله:( وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ ) ( غافر / ٢٨ ).

وقوله حكاية عن سحرة فرعون( قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ

٢٦

وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الحَيَاةَ الدُّنْيَا ) ( طه / ٧٢ ). إلى آخر ما احتجّوا به.

ولم يأمر تعالى عباده في كتابه ولا في آية واحدة أن يؤمنوا به أو بشيء ممّا هو عنده أو يسلكوا سبيلاً على العمياء وهم لا يشعرون حتّى أنّه علّل الشرائع والأحكام التي جعلها لهم ممّا لا سبيل للعقل إلى تفاصيل ملاكاته، - علّل - باُمور تجري مجرى الاحتجاجات كقوله:( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ ) ( العنكبوت / ٤٥ ).

وقوله:( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ( البقرة / ١٨٣ ).

وقوله ( في آية الوضوء ):( مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ( المائدة / ٦ ).

إلى غير ذلك من الآيات الواردة حول تحريم الخمر والميسر.

وهذا الادراك العقلي الذي يدعو إليه القرآن ويبني على تصديقه، ما يدعو إليه من حقّ أو خير أو نفع، ويزجر عنه من باطل أو شرّ أو ضرّ، هو الذي نعرّفه بالخلقة والفطرة ممّا لا يتغيّر ولا يتبّدل ولا يتنازع فيه إنسان وإنسان، والعجب انّ المخالفين للتفكّر المنطقي يعتمدون في اثبات دعاويهم ومقاصدهم على الاُسس المنطقيّة بحيث لو حلّلت مقالهم ودليلهم لعاد على صورة أقيسة منطقية يستدل بها المخالف على بطلان الاستدلال المنطقي(١) .

ونذكر من باب المثال قولهم: « لو كان المنطق طريقاً موصلاً لم يقع الاختلاف بين أهل المنطق، لكنّا نجدهم مختلفين في آرائهم » ترى أنّه استعمل القياس الاستثنائي من حيث لا يشعر وأمّا الجواب: فإنّ المنطق آلة تصون الفكر عن

__________________

(١) الميزان: ج ٥ ص ٢٧٤ ـ ٢٧٥.

٢٧

الخطأ في كيفية الاستدلال ولكن صحّة الاستدلال مبنيّة على دعامتين :

١ ـ صحّة المادّة.

٢ ـ صحّة الهيئة.

والمنطق يصون الإنسان عن الخطأ في الجانب الثاني دون الأوّل وأجاب عنه العلّامة الطباطبائي بوجه آخر وقال :

« إنّ معنى كون المنطق آلة الاعتصام انّ استعماله كما هو حقّه يعصم الإنسان عن الخطأ وأمّا انّ كلّ مستعمل له فإنّما يستعمله صحيحاً فلا يدعيه أحد وهذا كما انّ السيف آلة القطع لكن لايقطع إلّا عن استعمال صحيح »(١) .

القرآن الكريم يهدي العقول إلى استعمال ما فطروا على استعماله بحسب طبعهم وهو ترتيب المعلومات لاستنتاج المجهولات والذي فطرت عليه العقول هو ترتيب مقدمات حقيقيّة يقينيّة لاستنتاج المعلومات التصديقيّة الواقعيّة، وهو البرهان أو استعمال المقدّمات المشهورة أو المسلّمة وهو الجدل، أو استعمال مقدّمات ظنيّة لغاية الارشاد والهداية إلى خير مظنون وشر مثله وهو العظة، قال تعالى:( ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) ( النحل / ١٢٥ ).

والظاهر أنّ المراد بالحكمة هو البرهان كما ترشد إلى ذلك مقابلته بالعظة والجدل.

ثمّ إنّ آخر ما في كنانة القوم هو ادّعاء انّ جميع ما تحتاج إليه النفوس الإنسانيّة مخزونة في الكتاب العزيز، مودعة في الأحاديث فما الحاجة إلى أساليب الكفّار والملاحدة ؟

يلاحظ عليه: إنّ اشتمال الكتاب والسنّة على جميع ما يحتاج إليه لا يلازم

__________________

(١) الميزان: ج ٥ ص ٢٨٨.

٢٨

استغناء البشر عن التفكّر الصحيح الموصل إلى ما في الكتاب والسنّة، فليس فهم الكتاب والسنّة غنيَّا عن التدبّر والامعان، وليس أصحاب الفلسفة والمنطق من الكفّار والملاحدة، والواجب على المسلم الواعي هو استماع القول ـ من أيّ ابن اُنثى صدر ـ ثم اتّباع أحسنه.

وعلى كلّ تقدير فابطال الاستدلال العقلي عن طريق الاستدلال العقلي غريب وعجيب جداً ومن قابَلَ التفكّر والتعقّل واقامة البرهنة فقد عارض إنسانيّته وفطرته التي تدعوه إلى الاعتناء بالتفكر الصحيح والتعقّل الرصين عن طريق اعمال الأقيسة الصحيحة من حيث المادة والهيئة.

وبذلك تقف على قيمة عمل أهل الحديث واسلوب دعوتهم إلى المعارف والحقايق حتى إنّ الأشعري لـمّا تاب عن الإعتزال ولحق بأصحاب أحمد بن حنبل، واستدل على عقيدة أهل الحديث مثل الرؤية وكون أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه، رفضته الحنابلة قائلة: بأنّ الاستدلال ليس طريقاً دينياً، وإنّما الطريق البرهنة بالآية والحديث مكان التعقل.

قال ابن أبي يعلي في طبقات الحنابلة عن طريق الأهوازي قال: قرأت على عليّ القومسي، عن الحسن الاهوازي قال سمعت أبا عبد الله الحمراني يقول :

لـمّا دخل الأشعري بغداد جاء إلى « البربهاري » فجعل يقول رددت على الجبائي وعلى أبي هاشم ونقضت عليهم وعلى اليهود والنصارى والمجوس وقلت وقالوا وأكثر الكلام فلمّا سكت قال البربهاري: وما أدري ممّا قلت لا قليلاً ولا كثيراً، ولا نعرف إلّا ما قاله أبو عبد الله أحمد بن حنبل، فخرج من عنده وصنف كتاب « الابانة » فلم يقبله منه(١) .

هذا وإذا بان لك انّ الاستدلال المنطقي على المعارف العقليّة هو طريق

__________________

(١) تعليقة « تبيين كذب المفتري » ص ٣٩١.

٢٩

الفطرة التي دعا إليها القرآن، ولا يشذ عنها إلّا من احتجبت عنده الفطرة الإنسانيّة.

فيلزم علينا البحث عن أسمائه وصفاته الواردة في الذكر الحكيم وسنّة نبيه وأحاديث عترته صلوات الله عليهم أجمعين على ضوء البرهان والقياس العقلي.

٣٠

أسماؤه وصفاته

في القرآن الكريم

قد احتلّ البحث عن أسمائه وصفاته سبحانه في كتب الكلام والتفسير المكانة العليا، فالقدماء شرحوا معاني أسمائه وصفاته وأفعاله والمتأخّرون اكتفوا من مباحثهابالبحث عن أمرين :

١ ـ مغايرة الاسم للمسمّى.

٢ ـ كون أسمائه توقيفية.

ونحن في هذه الفصول نجمع بين الطريقين فنأتي بما يتعلّق بها من المباحث المفيدة ونعرض عمّا لا يهمّنا جدّاً ثم نفسّر أسماءه وصفاته الواردة في الذكر الحكيم، وبناء عليه سيقع البحث في اُمور :

١ ـ الفرق بين الاسم والصفة

دلّت الآيات الكريمة على أنّ له سبحانه الأسماء الحسنى كما ورد ذلك في الأحاديث أيضاً.

قال سبحانه:( وَللهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ) ( الأعراف / ١٨٠ ).

وقال:( أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَىٰ ) ( الاسراء / ١١٠ ).

وقال:( اللهُ لا إِلَٰهَ إلّا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَىٰ ) ( طه / ٨ ).

٣١

وقال:( هُوَ اللهُ الخَالِقُ الْبَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَىٰ ) ( الحشر / ٢٤ ).

وقال:( وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ) ( الأعراف / ١٨٠ ).

والاسم مشتق إمّا من « السمو » على ما ذهب إليه البصريون، أو من « السمة » على ما اختاره الكوفيون، وعلى كلّ تقدير فلو كان الملاك في تسميه اللفظ اسما هو سموّه على المعنى، وتقدمه عليه أو كونه علامة له، فالكلمه بأقسامها الثلاثه اسم لوجود كلا الملاكين فيها(١) .

ومع ذلك كلّه فالاسم في مصطلح النحويين يطلق على قسم واحد من أقسام الكلمة، وعرّفوه بأنّه ما دلّ على معنى في نفسه غير مقترن بالزمان، فالاسم بهذا المعنى يقابل الفعل والحرف، فالفعل يدل على معنى مستقل مقترن بالزمان، والحرف يدل على معنى في غيره.

وهناك اصطلاح ثالث للاسم وهو كلّ ماهيّة تعتبر من حيث هي هي فهو أسم أو من حيث انّها موصوفة بصفه معينة فهو وصف، فالأوّل كالسماء والأرض والرجل والجدار، والثاني كالخالق والرازق والطويل والقصير. ذكره الرازي وقال: هذا هو الفرق بين الاسم والصفة على قول المتكلّمين(٢) .

يلاحظ عليه: إنّ حاصل كلامه يرجع إلى أنّ الجوامد أسماء، وأسماء الفاعلين ونظائرها صفات مع أنّه لاينطبق على مصطلح المتكلّمين فإنّ الخالق والرازق من أسمائه سبحانه لا من صفاته، فكيف يعده من صفاته ومقابل أسمائه والحق أن يقال :

__________________

(١) اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ اطلاق الاسم على خصوص قسم من الكلمة لأجل كون معناه سامياً ومرتفعاً بين معاني سائر الكلمات أعني الفعل والحرف فعندئذ يختص بالقسم المعروف عند النحويين.

(٢) لوامع البينات للرازي ص ٢٧ ( طبع القاهره ).

٣٢

ما هو المختار في الفرق بين أسماءه وصفاته ؟

« الاسم هو اللفظ المأخوذ إما من الذات بما هي هي، أو بكونها موصوفاً بوصف أو مبدأ الفعل، فالأوّل كلفظ الجلالة له سبحانه والرجل والإنسان لغيره، والثاني كالعالم والقادر، والثالث كالرازق والخالق، وأمّا الصفة فهو الدال على المبدء مجرّداً عن الذات كالعلم والقدرة والرزق والخلقة ولأجل ذلك يصحّ أن يقال الاسم ما يصحّ حمله كما يقال الله عالم وخالق ورحمان ورحيم، والصفة لا يصحّ حملها كالعلم والخلق والرحمة، وهذا هو المشهور بين المتكلّمين بل الحكماء والعرفاء، فالصفات مندكة في الأسماء من غير عكس.

يقول العلّامة الطباطبائى: لا فرق بين الصفة والاسم، غير أنّ الصفة تدلّ على معنى من المعاني تتلبّس به الذات، أعم من العينيّة والغيريّة والاسم هو الدال على الذات مأخوذة بوصف، فالحياة والعلم صفتان، والحي والعالم اسمان(١) .

هذا كلّه على ما هو المشهور ويوافقه ظاهر الكتاب العزيز من أنّ أسماءه سبحانه من قبيل الألفاظ والمعاني فيكون لفظ الجلالة وسائر الأسماء كالرحمان والرحيم، والعالم والقادر أسماء الله الحسنى الحقيقية، ولها معان ومفاهيم فينتقل إليها الذهن عند السماع.

الأسماء والصفات عند أهل المعرفة

إنّ لأهل المعرفة اصطلاحاً خاصّاً فالأسماء والصفات عندهم ليست من قبيل الألفاظ والمفاهيم بل حقيقة الصفه ترجع إلى كمال وجودي قائم بالذات، والاسم عبارة عن تعيّن الذات بنفس ذلك الكمال والأسماء والصفات الملفوظة، أسماء وصفات لتلك الأسماء والصفات الحقيقية التي سنخها سنخ الوجود والكمال ،

__________________

(١) الميزان: ٨ / ٣٦٩.

٣٣

والتحقّق والتعيّن، فلفظ الجلالة ليس اسماً بل اسماً للاسم، ومثله العلم والقدرة والحياة فليست صفات بالحقيقة، بل مرايا لأوصافه الحقيقيّة.

فالقولان متّفقان على أنّ الذات مع التعيّن هو الاسم، والتعيّن بما هو هو، هو الوصف، ويختلفان من كونها من قبيل الألفاظ والمفاهيم أو من قبيل الحقايق والواقعيات. يقول أهل المعرفه: إنّ الذات الأحدية، بما أنّه وجود غير متناه، عار عن المجالي والمظاهر، يسمّى « غيب الغيب » وإذا لوحظ في رتبة متأخّرة، بتعيّن من التعيّنات الكماليّة كالعلم والقدرة، فهو مع هذا التعيّن اسم، ونفس التعيّن بلا ملاحظة الذات، وصف.

يقول الحكيم السبزواري: « فالذات الموجودة مع كلّ منها ( التعيّنات ) يقال لها الاسم في عرفهم، ونفس ذلك المحمول العقلي هي الصفه عندهم »(١) . ويقول في موضع آخر: « والوجود بشرط التعيّن هو الاسم، ونفس التعيّن هو الصفة »(٢) .

ويقول أيضاً: « الاسم عند العرفاء هو حقيقة الوجود مأخوذة بتعيّن من التعيّنات الصفاتية من كمالاته تعالى، أو باعتبار تجلّ خاص من التجليّات الإلهية » فالوجود الحقيقي مأخوذاً بتعين « الظاهرية بالذات » و « المظهرية للغير » اسم « النور » وبتعيّن كونه « ما به الانكشاف لذاته ولغيره » اسم « العليم » وبتعيّن « كونه خيراً محضاً » و « عشقا صرفاً » اسم « المريد » وبتعيّن « الفياضية الذاتية » للنورية عن علم ومشيئة، اسم « القدير » وبتعيّن « الدراكيّة » و « الفعاليّة » اسم « الحي » وبتعيّن « الاعراب عمّا في الضمير » المخفي والمكنون العيني اسم « المتكلّم » وهكذا »(٣) .

__________________

(١) شرح الاسماء الحسنى: ١٩.

(٢) شرح الاسماء الحسنى: ٢١٥.

(٣) شرح الاسماء الحسنى: ٢١٤.

٣٤

٢ ـ هل الاسم نفس المسمّىٰ أو غيره

من المباحث التي شغلت بال القدماء والمتأخّرين، هو مسألة اتحاد الاسم والمسمّى وهو بحث لا يحتاج إلى التفصيل، يقول الرازي: إنّ هذا البحث ممّا لا يمكن النزاع فيه بين العقلاء، فإن كان المراد من الاسم هو اللفظ الدال على الشيء بالوضع، وكان المسمّى عبارة عن نفس ذلك الشيء، فالعلم الضروري حاصل بأنّ الاسم غير المسمّى وإن كان الاسم عبارة عن ذات الشيء ( المدلول ) والمسمّى ايضاً ذات الشيء كان معنى قولنا الاسم نفس المسمّى هو أن ذات الشيء نفس ذات الشيء فثبت أن الخلاف الواقع في هذه المسألة إنّما كان بسبب أنّ التصديق ما كان مسبوقاً بالتصوّر وكان اللائق بالعقلاء أن لا يجعلوا هذا الموضع مسألة خلافية(١) .

هذا وان شيخ مذهبه « أبا الحسن الأشعري » قد زاد في الطين بلّة فعاد يفصّل فيها ويقول: إنّ الاسم ( يريد مدلوله ) عين المسمّى أي ذاته من حيث هي هي نحو الله فإنّه اسم للذات من غير اعتبار معنى فيه، وقد يكون غيره نحو الخالق والرازق ممّا يدل على نسبته إلى غيره، ولا شك انّ تلك النسبة غيره وقد يكون لا هو ولا غيره كالعليم والقدير مما يدل على صفة حقيقية قائمة بذاته(٢) .

ولا يخفى إنّ صحّة كلامه يتوقف على تسليم اصطلاح خاص له.

ففي الشق الأوّل الذي يدعى فيه انّ الاسم عين المسمّى يريد من الاسم المدلول لا اللفظ المتكلّم به وهو اصطلاح جديد لم نسمعه إلّا منه ومن أمثاله.

كما أنّ حكمه بأنّ الخالق والرازق غيره، مبني على كون المشتق بمعنى المبدء أي الخلق والرزق، وانّ معنى المشتق هو نسبة المبدء إلى الذات على نحو خروج الذات عن مدلول المشتق.

__________________

(١) لوامع البينات للرازي: ص ١٨.

(٢) شرح المواقف: ج ٨ ص ٢٠٧.

٣٥

وأمّا الثالث فهو نظرية أخرى بين القول بإتحاد صفاته الذاتية مع الذات ومغايرته، فالمعتزله على الأوّل وأهل الحديث على الثاني، ولـمـّا لم ينجح الشيخ في القضاء الحاسم بين النظريتين إختار قولاً ثالثاً وهو أنّه لا هو ولا غيره، وهو بحسب ظاهره أشبه بارتفاع النقيضين إلّا أن يفسّر بوجه يرفع ذلك الاشكال.

والشيخ الأشعري يصّر في كتاب « الابانة » على أنّ الاسم نفس المسمّى ولا يذكر وجهه(١) .

وما ذكرنا من المبني ( مراده من الاسم المدلول ) لتوجيه كلامه فإنّما ذكره اتباع مذهبه ك‍ « الايجي » في المواقف و « التفتازاني » في المقاصد وشرحه، والسيد الشريف في شرحه على المواقف.

يؤاخذ على الشيخ بأنّه أي حاجة في جعل هذا الاصطلاح أي اطلاق الاسم وارادة المدلول منه حتى نحتاج إلى هذه التوجيهات.

ثمّ إنّ القائلين بالاتحاد استدلّوا بوجوه :

١ ـ قالوا: إنّ الله تعالى أمر بتسبيح اسمه وقال:( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ) ( الاعلى / ١ ). ودلّ العقل على أنّ المسبّح هو الله تعالى لا غيره وهذا يقتضي انّ اسم الله تعالى هو هو لا غيره.

٢ ـ وقالو: إنّه سبحانه أخبر انّ المشركين عبدوا الأسماء وقال:( مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إلّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم ) ( يوسف / ٤٠ ).

والقوم ما عبدوا إلّا تلك الذوات فهذا يدل على أنّ الاسم هو المسمّى.

__________________

(١) وراجع مقالات الاسلاميين: ص ٢٩٠ ـ الطبعة الثالثة الفصل الخاص لبيان عقيدة أهل الحديث والسنّة.

٣٦

٣ ـ قالوا: اسم الشيء لو كان عبارة عن اللفظ الدال عليه لوجب ان لا يكون لله تعالى في الأزل شيء من الأسماء إذ لم يكن هناك لفظ ولا لافظ وذلك باطل.

٤ ـ قالوا: إذا قال القائل: محمد رسول الله فلو كان اسم محمد غير محمد لكان الموصوف بالرسالة غير محمد.

٥ ـ قالوا: إنّ لبيد يقول: « اسم السلام » ويريد نفس السلام حيث قال :

« إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبكِ عاماً كاملاً فقد اعتذر »(١) .

وهذه الحجج التي نقلها الرازي تعرب من أنّ للمستدل كالشيخ الأشعري إصطلاح خاص في الاسم، فهو كلّما يطلق الاسم إنّما يريد المدلول لا اللفظ الدال.

وعلى ضوء ذلك فنقول :

أمّا الدليل الأوّل: فلأنّ الظاهر أنّ الآية تحثّ على تسبيح الإسم وتقديسه وتنزيهه لا على تنزيه المسمّى وذلك لأنّه كما يجب تنزيه المدلول يجب تنزيه الدال، وذلك بأن لا يسمّى به غيره، فيكون ذلك نهياً عن دعاء غير الله تعالى باسم من أسماء الله فإنّ المشركين كانوا يسمّون الصنم باللات وكانوا يسمّون أوثانهم آلهة.

ويمكن أن يكون المراد تفسيره بما لا يليق بساحته ولا يصحّ ثبوته في حقه سبحانه.

وهناك وجه ثالث وهو أن تصان أسماء الله عن الإبتذال والذكر لا على وجه التعظيم.

ووجه رابع وهو أنّه يمكن أن يكون تسبيح الاسم كناية عن تسبيح الذات كما في قولهم سلام على المجلس الشريف والجناب المنيف إلى غير ذلك من الوجوه التي يمكن أن تكون باعثة لتسبيح الاسم نفسه.

__________________

(١) لوامع البينات للرازي: ص ٢١ ـ ٢٢.

٣٧

أمّا الدليل الثاني: فلأنّ المراد من قوله سبحانه:( مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إلّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا ) إنّه ليس لها من الاُلوهية إلّا التسمية وهي أسماء بلامسميات، وهذا كما يقال لمن سمّى نفسه باسم السلطان انّه ليس له من السلطنة إلّا الاسم وكذا هنا وعلى ذلك فالمراد من قوله:( مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إلّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا ) اي إلّا أشخاصاً أنتم سمّيتموها آلهة وليسوا بآلهة.

وأمّا الدليل الثالث: فلا محذور أن لا يكون له اسم ملفوظ في الأزل غير أنّ فقدان هذه الأسماء لا يلازم فقدان المدلولات، فالله سبحانه كان جامعاً لكمالات هذه الأسماء ومداليلها، وإن لم يكن هناك اسم على النحو اللفظي.

وأمّا الدليل الرابع: فساقط جداً لأنّ المبتدأ أعني قولنا: محمد يمثّل طريقاً إلى المدلول، والحكم على ذي الطريق لا على نفس الطريق، وهذا حكم كلّ لفظ موضوع اسما كان أو فعلاً أو حرفاً.

وأمّا الدليل الخامس: فهو تمسّك بشعر شاعر علم بطلانه ببديهة العقل ومن المحتمل جدّا أنّ اقحام لفظة اسم في البيت لأجل الضرورة وإلّا فلا وجه للعدول من « السلام عليكما » إلى « اسم السلام عليكما »(١) .

والرازي مع أنّه جعل المسألة بديهية، أخذ في الاستدلال على أنّ الاسم غير المسمّى لاقناع غيره الذي وقع في الشبهة مقابل البديهية، فقال: الذي يدل على أنّ الاسم غير المسمّى وجوه :

منها: إنّ أسماء الله كثيرة والمسمّى ليس بكثير.

منها قوله تعالى:( وَللهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ) حيث أمرنا أن ندعو الله تعالى بأسمائه، والشيء الذي يدعي مغاير للشيء الذي يدعى به ذلك المدعو.

إلى غير ذلك من الوجوه التي لا تحتاج إلى الذكر والبيان.

__________________

(١) لاحظ لوامع البينات للرازي: ص ٢١ ـ ٢٢، وشرح المواقف: ج ٨ ص ٢٠٧ ـ ٢٠٨، وشرح المقاصد للتفتازاني: ج ٢ ص ٦٩ ـ ٧٠.

٣٨

بيان آخر لوحدة الاسم والمسمّى

نعم هناك بيان آخر لتوحيد الاسم مع المسمّى غير معتمد على اصطلاح الأشعري من تفسير الاسم بالمدلول الذي هو متّحد مع المسمّى، وهذا الوجه هو ما أشار إليه علماء العرفان من أنّ كلاًّ من العالم والقادر والخالق ليس اسماً للذات المقدسة بل اسم للاسم، والاسم للذات المقدسة هو الذات المنكشفة بحقيقة العلم أو القدرة.

توضيح ذلك: إنّه قد يطلق الأسم على اللفظ الدال على الذات المتّصفة بوصف الكمال، دلالة بالجعل والمواضعة وعندئذ يكون الاسم من قبيل الألفاظ والمسمّى من قبيل الأمر الخارجي، وعلى ذلك فلا مسوّغ للبحث عن الاتحاد.

وقد يطلق على الذات المنكشفة، بوصف من صفاته الكمالية وذلك لأنّ ذاته سبحانه مبهمة في غاية الإبهام غير معروفة لأحد من خلقه، وإنّما تعرف عن طريق صفاته الجمالية، ولولا الصفات لما عرف سبحانه بوجه، وعلى ذلك يكون المراد من الاسم هو الحقيقية الخارجية المبهمة غاية الابهام، المنكشفة لنا بواحد من صفاته وعلى هذا يكون المراد من الاسم الذات المنكشفة، والمراد من الوصف نفس الكمال الواقعي، والاسم والوصف بهذا المعنى ليسا من الأمور الملفوظة أو الذهنية بل من الاُمور الواقعيّة الحقيقيّة العينيّة وعندئذ يكون ألفاظ الحي، والقادر، والعالم أسماء للاسم، كما يكون الحياة، والقدرة، والعلم أوصافاً للوصف لا أسماء وصفاتاً لذاته سبحانه، فالاسم نفس المسمّى لكن اسم الاسم غيره، وهذا المعنى الدقيق العرفاني لا يقف عليه إلّا من له قدم راسخ في الأبحاث العرفانية وأين هو من تفسير الشيخ، الاسم بالمدلول والحكم بأنّ المدلول نفس المسمّى ؟

وعلى أيّ تقدير فالظاهر من الروايات أنّ القول بالاتحاد كان ذائعاً في عصر أئمّة أهل البيت وما ذكره الشيخ الأشعري كان توجيهاً لتلك العقيدة الباطلة وإن كان أصحابها غافلين عن ذلك التوجيه، وإليك ما روي عنهم: في

٣٩

ذلك الباب :

١ ـ روى الكليني عن عبد الاعلى، عن أبي عبد الله7 قال: « اسم الله غيره، وكلّ شيء وقع عليه اسم شيء »(١) فهو مخلوق ما خلا الله، فأمّا ما عبّرته الألسن أو ما عملت الأيدي فهو مخلوق ـ إلى أن قال ـ: والله خالق الأشياء لا من شيء كان، والله يسمى بأسمائه وهو غير أسمائه والأسماء غيره(٢) .

٢ ـ روي الكليني عن علي بن رئاب، عن أبي عبد الله7 قال :

« من عبد الله بالتوهّم فقد كفر.

ومن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر.

ومن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك.

ومن عبد المعنى بايقاع الأسماء عليه بصفاته التي وصف بها نفسه فعقد عليه قلبه، ونطق به لسانه في سرائره وعلانيته، فأولئك أصحاب أمير المؤمنين حقّاً »(٣) .

ترى أنّه7 يقسّم العابد حسب اختلاف المعبود إلى أقسام :

الف ـ فمن عابد لله سبحانه لكن بالتوهّم والشك فهو كافر بالله لأنّ الشك كفرٌ به.

ب ـ ومن عابد للاسم أي الحروف أو المفهوم الوضعي معرضاً عن المعنى المعبّر عنه فقد كفر أيضا لأنّه لم يعبد المعبّر عنه بالاسم لأنّ الحروف والمفهوم غير الواجب الخالق للكلّ فإنّما الاسم بلفظه ومفهومه تعبير عن المعنى المقصود.

__________________

(١) أي لفظ « الشيء ».

(٢) الكافي: ج ١ باب حدوث الأسماء ص ١١٢ الحديث ٤، وتوحيد الصدوق باب أسماء الله: ص ١٩٢ الحديث ٥.

(٣) الكافي: ج ١ باب المعبود ص ٨٧ الحديث ١.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119