شرح زيارة آل ياسين

شرح زيارة آل ياسين42%

شرح زيارة آل ياسين مؤلف:
تصنيف: متون الأدعية والزيارات
الصفحات: 136

شرح زيارة آل ياسين
  • البداية
  • السابق
  • 136 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 62317 / تحميل: 5811
الحجم الحجم الحجم
شرح زيارة آل ياسين

شرح زيارة آل ياسين

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

نصوص الإمام الصادقعليه‌السلام على إمامة موسى الكاظمعليه‌السلام

١ ـ عن يعقوب السراج قال: دخلت على أبي عبد اللهعليه‌السلام وهو واقف على رأس أبي الحسن موسى وهو في المهد، فجعل يسارّه طويلاً، فجلست حتى فرغ، فقمت إليه فقال لي:(ادن من مولاك فسلّم، فدنوت فسلمت عليه فردّ عليّ السلام بلسان فصيح، ثم قال لي: اذهب فغيّر اسم ابنتك التي سميتها أمس، فإنه اسم يبغضه الله، وكان ولدت لي ابنة سمّيتها بالحميراء. فقال أبو عبد الله: انته إلى أمره ترشد، فغيّرت اسمها) (١) .

٢ ـ عن سليمان بن خالد قال: دعا أبو عبد اللهعليه‌السلام أبا الحسنعليه‌السلام يوماً ونحن عنده فقال لنا:(عليكم بهذا، فهو والله صاحبكم بعدي) (٢) .

٣ ـ عن فيض بن المختار قال: (إني لعند أبي عبد اللهعليه‌السلام إذ أقبل أبو الحسن موسىعليه‌السلام ـ وهو غلام ـ فالتزمته وقبّلته فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام :أنتم السفينة وهذا ملاّحها ، قال: فحججت من قابل ومعي ألفا دينار فبعثت بألف إلى أبي عبد اللهعليه‌السلام وألف إليه، فلمّا دخلت على أبي عبد اللهعليه‌السلام قال:يا فيض عدلته بي ؟ قلت: إنما فعلت ذلك لقولك، فقال:أما والله ما أنا فعلت ذلك. بل الله عَزَّ وجَلَّ

ــــــــــــ

(١) أصول الكافي: ١ / ٣١٠، ح ١١.

(٢) أصول الكافي: ١ / ٣١٠، ح ١٢.

٤١

فعله به) (١) .

٤ ـ عن الفيض بن المختار قال: قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : خذ بيدي من النار من لنا بعدك؟ فدخل عليه أبو إبراهيمعليه‌السلام ، وهو يومئذ غلام، فقال:(هذا صاحبكم، فتمسك به) (٢) .

٥ ـ عن معاذ بن كثير، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: قلت له: اسأل الله الذي رزق أباك منك هذه المنزلة أن يرزقك من عقبك قبل الممات مثلها، فقال:(قد فعل الله ذلك) . قال: قلت من هو جعلتُ فداك ؟ فأشار إلى العبد الصالح وهو راقد فقالعليه‌السلام :(هذا الراقد وهو غلام) (٣) .

٦ ـ عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: سألت عبد الرحمن في السنة التي أخذ فيها أبو الحسن الماضيعليه‌السلام فقلت له: إنّ هذا الرجل قد صار في يد هذا وما ندري إلى ما يصير؟ فهل بلغك عنه في أحد من ولده شيء ؟ فقال لي:ما ظننت أن أحداً يسألني عن هذه المسألة ، دخلت على جعفر بن محمد في منزله فإذا هو في بيت كذا في داره في مسجد له وهو يدعو، وعلى يمينه موسى بن جعفرعليه‌السلام يؤمّن على دعائه، فقلت له: جعلني الله فداك قد عرفت انقطاعي إليك وخدمتي لك، فمن وليّ الناس بعدك ؟ فقال:(إنّ موسى قد لبس الدرع وساوى عليه) فقلت له: لا أحتاج بعد هذا إلى شيء(٤) .

٧ ـ عن يعقوب بن جعفر الجعفري قال: حدّثني إسحاق بن جعفر قال: كنت عند أبي يوماً، فسأله علي بن عمر بن علي فقال: جعلت فداك إلى من

ــــــــــــ

(١) أصول الكافي: ١ / ٣١١، ح ١٦.

(٢) أصول الكافي: ١ / ٣٠٧، ح ١، والإرشاد: ٢/٢١٧.

(٣) أصول الكافي ١: ٣٠٨، ح٢، والإرشاد: ٢/٢١٧.

(٤) أصول الكافي: ١/٣٠٨، ح ٣، والإرشاد: ٢/٢١٧.

٤٢

نفزع ويفزع الناس بعدك؟ فقال:(إلى صاحب الثوبين الأصفرين والغديرين ـ يعني الذؤابتين ـ وهو الطالع عليك من هذا الباب، يفتح البابين بيده جميعاً) ، فما لبثنا أن طلعت علينا كفّان آخذة بالبابين ففتحهما ثم دخل علينا أبو إبراهيم(١) .

٨ ـ عن صفوان الجمّال، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: قال له منصور بن حازم: بأبي أنت وأمي إنّ الأنفس يُغدا عليها ويراح، فإذا كان ذلك، فمن؟ فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام :(إذا كان ذلك فهو صاحبكم) ، وضرب بيده على منكب أبي الحسنعليه‌السلام الأيمن ـ في ما أعلم ـ وهو يومئذ خماسي وعبد الله بن جعفر جالس معنا(٢) .

٩ ـ عن المفضل بن عمر قال: ذكر أبو عبد اللهعليه‌السلام أبا الحسنعليه‌السلام ـ وهو يومئذ غلام ـ فقال:(هذا المولود الذي لم يولد فينا مولود أعظم بركة على شيعتنا منه) ثم قال لي:(لا تجفوا إسماعيل) (٣) .

١٠ ـ عن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: قلت له: (إن كان كون ـ ولا أراني الله ذلك ـ فبمن أئتم؟ قال: فأومأ إلى ابنه موسىعليه‌السلام . قلت : فإن حدث بموسى حدث فبمن أئتم؟ قال:بولده . قلت: فإن حدث وترك أخاً كبيراً وابناً صغيراً فبمن أئتم؟ قال:بولده ، ثم قال:هكذا أبداً ، قلت: فإن لم أعرفه ولا أعرف موضعه ؟ قال: تقول:(اللهم إني أتولى من بقي من حججك من ولد الإمام الماضي، فانّ ذلك يجزيك إن شاء الله) (٤) .

ــــــــــــ

(١) أصول الكافي: ١/٣٠٨، ح ٥، والإرشاد: ٢/٢٢٠.

(٢) أصول الكافي: ١ / ٣٠٩، ح ٦، والإرشاد: ٢/٢١٨.

(٣) أصول الكافي: ١ / ٣٠٩، ح ٨.

(٤) أصول الكافي: ١/٣٠٩، ح ٧، والإرشاد: ٢/٢١٨.

٤٣

١١ ـ عن فيض بن المختار في حديث طويل في أمر أبي الحسنعليه‌السلام حتى قال له أبو عبد اللهعليه‌السلام :(هو صاحبك الذي سألت عنه ، فقم إليه فأقرّ له بحقه) ، فقمت حتى قبّلت رأسه ويده ودعوت الله عزّ وجلّ له، فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام :(أما أنه لم يؤذن لنا في أوّل منك) ، قال: قلت: جعلت فداك فأخبر به أحداً ؟ فقال:(نعم أهلك وولدك) ، وكان معي أهلي وولدي ورفقائي وكان يونس بن ظبيان من رفقائي، فلمّا أخبرتهم حمدوا الله عزّ وجلّ وقال يونس: لا والله حتى أسمع ذلك منه وكانت به عجلة، فخرج فاتبعته، فلما انتهيت إلى الباب، سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول له ـ وقد سبقني إليه ـ :(يا يونس الأمر كما قال لك فيض) . قال: فقال: سمعت وأطعت، فقال لي أبو عبد اللهعليه‌السلام :(خذه إليك يا فيض) (١) .

١٢ ـ عن صفوان الجمال قال: سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن صاحب هذا الأمر فقال:(إنّ صاحب هذا الأمر لا يلهو ولا يلعب) ، وأقبل أبو الحسن موسى وهو صغير ومعه عناق مكّية وهو يقول لها:(اسجدي لربك) ، فأخذه أبو عبد اللهعليه‌السلام وضّمه إليه وقال:(بأبي وأمي من لا يلهو ولا يلعب) (٢) .

١٣ ـ روى زيد النرسي، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام أنّه قال:(إني ناجيت الله ونازلته في إسماعيل ابني أن يكون بعدي فأبى ربي إلاّ أن يكون موسى ابني) (٣) .

١٤ ـ عن يزيد بن أسباط قال: دخلت على أبي عبد اللهعليه‌السلام في مرضته التي مات فيها، قالعليه‌السلام :(يا يزيد أترى هذا الصبي؟) وأشار لولده موسى :إذا رأيت الناس قد اختلفوا

ــــــــــــ

(١) أصول الكافي: ١ / ٣٠٩، ح ٩.

(٢) أصول الكافي: ١ / ٣١١، ح ١٥، والإرشاد: ٢/٢١٩.

(٣) أصل زيد النرسي: ق ٣٩.

٤٤

فيه، فاشهد عليَّ بأني أخبرتك أن يوسف إنّما كان ذنبه عند إخوته حتى طرحوه في الجب، الحسد له، حين أخبرهم أنه رأى أحد عشر كوكباً والشمس والقمر وهم له ساجدين، وكذا لا بد لهذا الغلام من أن يحسد) ، ثم دعا موسى وعبد الله وإسحاق ومحمد والعباس، وقال لهم:(هذا وصيُّ الأوصياء وعالم علم العلماء وشهيدٌ على الأموات والأحياء) ، ثمّ قال: يا يزيد ( سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ) (١)(٢) .

الباب الثالث: وفيه فصول:

الفصل الأول: ملامح عصر الإمام الكاظمعليه‌السلام .

الفصل الثاني: مواقف الإمام الكاظمعليه‌السلام في عهد المنصور.

الفصل الثالث: الإمام الكاظمعليه‌السلام وحكومة المهدي العبّاسي.

الفصل الأوّل: ملامح عصر الإمام الكاظمعليه‌السلام

لم يغيّر المنصور من سياسته ضد العلويين بعد قتله للإمام الصادقعليه‌السلام ، وبعد قضائه على الثورات العلوية في زمانه، بل بقي هاجس الخوف والقلق يلاحقه، ولم تهدأ ذاته المليئة بالحقد عليهم، فاستمر في اضطهادهم، فزجّ الأبرياء في السجون المظلمة وهدمها عليهم، ودفن البعض وهم أحياء في اسطوانات البناء، وبثّ الجواسيس، لأجل أن يحيط علماً بكل نشاطهم، وأخذت عيونه ترصد كل حركة بعد تحويرها وتحريفها بالكذب لتنسجم مع رغبات الخليفة فكانوا يرفعونها له مكتوبة كما سمح للتيّارات الإلحادية كالغلاة والزنادقة في أن تأخذ طريقها بين عامة الناس لإضلالهم. كما استعمل بعض العلماء واستغلّهم لتأييد سياسته وإسباغ الطابع الشرعي على حكمه.

ــــــــــــ

(١) الزخرف (٤٣): ١٩.

(٢) بحار الأنوار: ٤٨/٢٠، ح ٣١، نقلاً عن مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب.

٤٥

ويمكن استجلاء هذا الوضع ضمن عدة نقاط:

النقطة الأولى:

إنّ وصية الإمام الصادقعليه‌السلام التي عهد بها أمام الناس لخمسة أشخاص، هم أبو جعفر المنصور، محمد بن سليمان، وعبد الله، وموسى، وحميدة، مع كتابة المنصور لعامله في المدينة بأن يقتل وصيّ الإمام الصادقعليه‌السلام إن كان معيناً، يتضح ـ من هذه الوصية مع أوامر المنصور بقتل الوصيّ ـ نوع الطريقة التي كان يتحرك بها المنصور تجاه الإمام موسىعليه‌السلام ثم يتضح أيضاً حجم النشاط وحجم الاهتمام الذي كان يعطيه المنصور للإمامعليه‌السلام لمراقبة حركته.

ولكن الإمام الصادقعليه‌السلام كان يستشف من وراء الغيب ما تحمله الأيّام المقبلة من أخطار لابنه موسىعليه‌السلام ومن هنا فقد خاطب شيعته بلغة خاصة ضمّنها الحقيقة التي أراد إيصالها إليهم وإن كان ذلك يستلزم الالتباس عند بعض ، والتحيّر في معرفة ولي الأمر من بعده لفترة تقصر أو تطول ; لأن حفظ الوصي وولي عهده والإمام المفترض الطاعة في تلك الظروف العصيبة كان أمراً ضرورياً بلا ريب لأن استمرار الخط لا يمكن ضمانه إلاّ بحفظ الإمام المعصوم بما يتناسب مع طبيعة تلك الظروف. ولكن الواعين والنابهين من صحابة الإمام الصادقعليه‌السلام لم تلتبس عليهم حقيقة وصية الإمامعليه‌السلام التي تضمّنت الوصية للإمام الكاظمعليه‌السلام .

قال داود بن كثير الرقي: وفد من خراسان وافد يكنّى أبا جعفر، اجتمع إليه جماعة من أهل خراسان، فسألوه أن يحمل لهم أموالاً ومتاعاً ومسائلهم في الفتاوى والمشاورة، فورد الكوفة ونزل وزار قبر أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ورأى في ناحية المسجد رجلاً حوله جماعة.

فلما فرغ من زيارته قصدهم فوجدهم شيعة فقهاء يسمعون من الشيخ، فقالوا: هو أبو حمزة الثمالي.

قال: فبينما نحن جلوس إذ أقبل أعرابي، فقال: جئت من المدينة، وقد مات جعفر بن محمدعليه‌السلام فشهق أبو حمزة ثم ضرب بيده الأرض، ثم سأل الأعرابي: هل سمعت له بوصية ؟

٤٦

قال: أوصى إلى ابنه عبد الله وإلى ابنه موسى، وإلى المنصور. فقال: الحمد لله الذي لم يُضلّنا، دلّ على الصغير وبيّن على الكبير، وستر الأمر العظيم. ووثب إلى قبر أمير المؤمنينعليه‌السلام فصلَّى وصلّينا. ثم أقبلت عليه وقلت له: فسّر لي ما قلته ؟ قال: بيّن أن الكبير ذو عاهة ودلّ على الصغير أن أدخل يده مع الكبير، وستر الأمر العظيم بالمنصور حتى إذا سأل المنصور: من وصيّه؟ قيل : أنت. قال الخراساني: فلم أفهم جواب ما قاله(١) . فذهب بعد ذلك إلى المدينة ليطّلع بنفسه على الوصي من بعد الإمام جعفر بن محمدعليه‌السلام .

النقطة الثانية:

لقد شدّدت السلطات في المراقبة على الشيعة بعد استشهاد الإمام الصادقعليه‌السلام وعمّ الارتباك أوساطهم وشحنت الأجواء بالحذر والتحسّب.

وعن هذه الفترة الزمنية المهمة في التاريخ الشيعي يحدّثنا هشام بن سالم أحد رموز الشيعة قائلاً:

كنا في المدينة بعد وفاة أبي عبد اللهعليه‌السلام أنا ومؤمن الطاق (أبو جعفر) والناس مجتمعون على أنّ عبد الله (الأفطح) صاحب (الإمام) بعد أبيه، فدخلنا عليه أنا وصاحب الطاق، والناس مجتمعون عند عبد الله وذلك أنهم رووا عن أبي عبد اللهعليه‌السلام :(أن الأمر في الكبير ما لم يكن به عاهة) فدخلنا نسأله عمّا كنا نسأل عنه أباه، فسألناه عن الزكاة في كم تجب ؟ قال: في مئتين خمسة، قلنا:

ــــــــــــ

(١) عوالم العلوم ، الإمام الكاظم: ١٧٥.

٤٧

ففي مئة ؟ قال: درهمان ونصف درهم(١) .

قلنا له: والله ما تقول المرجئة هذا فرفع (الأفطح) يده إلى السماء، فقال: لا ، والله ما أدرى ما تقول المرجئة !

قال: فخرجنا من عنده ضُلاّلاً، لا ندري إلى أين نتوجه أنا وأبو جعفر الأحول(٢) ، فقعدنا في بعض أزقّة المدينة باكين حيارى لا ندري إلى من نقصد وإلى أين نتوجّه ؟! نقول: (نذهب) إلى المرجئة ؟ إلى القدرية؟ إلى الزيدية؟ إلى المعتزلة؟ إلى الخوارج(٣) ؟ قال: فنحن كذلك إذ رأيت رجلاً شيخاً لا أعرفه يومئ إليَّ بيده، فخفت أن يكون عيناً (جاسوساً) من عيون أبي جعفر (المنصور الدوانيقي). وذلك أنه كان له بالمدينة جواسيس ينظرون على من اتفق شيعة جعفر (الصادق) فيضربون عنقه، فخفت أن يكون (الرجل الشيخ) منهم. فقلت لأبي جعفر (مؤمن الطاق): تنح فإني خائف على نفسي وعليك، وإنما يريدني (الشيخ) ليس يريدك، فتنحّ عنّي ، لا تهلك وتعين على نفسك. فتنحّى غير بعيد، وتبعت الشيخ، وذلك أني ظننت أني لا أقدر على التخلص منه، فما زلت أتبعه حتى ورد بي على باب أبي الحسن موسى (الكاظم)عليه‌السلام ثم خلاّني ومضى، فإذا خادم بالباب فقال لي: أُدخل، رحمك الله. قال: فدخلت فإذا أبو الحسن (الكاظم)عليه‌السلام فقال لي ابتداءً:لا إلى المرجئة ، ولا إلى القدرية، ولا إلى الزيدية، (ولا إلى المعتزلة )، ولا إلى الخوارج، إليَّ إليَّ إليَّ .

قال (هشام): فقلت له: جعلت فداك مضى أبوك ؟ قال:نعم .

قلت: جعلت فداك مضى في موت؟ قال:نعم ، قلت: جعلت فداك فمن لنا بعده؟ فقال:إن شاء الله يهديك هداك .

قلت: جعلت فداك، إنّ عبد الله (الأفطح) يزعم أنه (إمام) من بعد أبيه فقال:يريد عبد الله الأفطح أن لا يعبد الله .

قال: قلت له: جعلت فداك، فمن لنا بعده؟ فقال:إن شاء الله أن يهديك هداك أيضاً .

قلت: جعلت فداك، أنت هو (الإمام) ؟ قال:ما أقول ذلك .

ــــــــــــ

(١) من الثابت عند المسلمين أن لا زكاة في أقل من مائتي درهم، ولكن الأفطح كان يجهل هذا الحكم.

(٢) مؤمن الطاق، أبو جعفر، صاحب الطاق والأحول، كلها ألقاب لرجل واحد (محمد بن علي بن النعمان)، اختيار معرفة الرجال: ٢/٤٢٥.

(٣) الإرشاد للمفيد: ٢/٢٢١ ، مدينة المعاجز: ٦/٢٠٨.

٤٨

قلت ـ في نفسي ـ لم أُصب طريق المسألة (أي أخطأت في كيفية السؤال).

قال (هشام): قلت: جعلت فداك، عليك إمام ؟ قال:لا . فدخلني (دخل قلبي) شيء لا يعلمه إلاّ الله إعظاماً له وهيبة، أكثر ما كان يحلّ بي من (هيبة) أبيه (الإمام الصادق) إذا دخلت عليه.

قلت: جعلت فداك، أسألك عمّا كان يُسأل أبوك؟ قال:سل تُخبر، ولا تُذِع (أي لا تنشر الخبر)فإن أذعت فهو الذبح .

قال (هشام): فسألته فإذا هو بحر !.

قال (هشام): قلت جعلت فداك، شيعتك وشيعة أبيك ضُلاّل، فالقي إليهم (أخبرهم) وأدعوهم إليك؟ فقد أخذت عليّ بالكتمان.

فقال (الإمام):(من آنست منهم رشداً، فألق عليهم (أخبرهم)وخذ عليهم

بالكتمان ،فإن أذاعوا فهو الذبح) وأشار بيده إلى حلقه)(١) .

إنّ هذا الحديث الذي أدلى به هشام يكشف لنا عدة حقائق:

١ ـ كثرة انتشار الجواسيس، وجو الرعب، والحذر، والخوف، وفقدان الأمن الذي عمّ أبناء الأمة وأخيارها خصوصاً سكان المدينة.

٢ ـ كما يكشف لنا عن أنّ إعلان الإمامة لموسىعليه‌السلام وإخبار الشيعة بإمامته، لم يكن ظاهراً لعامة الناس بل كان محدوداً ببعض الخواص من الشيعة(٢) بحيث تجد حتى مثل هشام لا يعلم أن الأمر لمن إلاّ بعد حين، وقد حصل عليه بالطرق الشرعية والعقلية، وهذه الممارسات وغيرها جعلت الشيعة تتدرب وتتمرّس على الأساليب التي تقيها من سيف الظالمين مثل السرّية والتقية، لذا نجد الرواة عند نقلهم لأخبار الإمام موسىعليه‌السلام لا يصرّحون باسمه الصريح بل كانوا يقولون: (قال العبد الصالح) ، أو (قال السيد)، أو (قال العالم) ونحو ذلك.

ــــــــــــ

(١) اختيار معرفة الرجال: ٢ / ٥٦٥ ، ح٥٠٢ ، والإرشاد: ٢/٢٢١ ـ ٢٢٢ وعنه في إعلام الورى: ٢/١٦ ـ ١٧، وكشف الغمة: ٣/١٢ و ١٣، وبحار الأنوار: ٤٨ / ٥٠.

(٢) منهم زرارة وداود بن كثير الرقي، وحمران، وأبي بصير، والمفضل بن عمر وغيرهم.

٤٩

٣ ـ إنّ الخنق الظالم والممنوعات السلطانية والحبس الفكري وملاحقة من يخالف، وبثّ الإشاعات المضادّة والكاذبة، كل هذه الأمور خلقت مناخاً يتنفّس فيه الأدعياء وهواة الرذيلة والذين زاد نشاطهم وشاع صيتهم وتعددت فرقهم في هذه الفترة فطرحوا أنفسهم قادة للأمة في الفكر والفقه والحديث بتشجيع من الخليفة. لذا نجد هشام بن سالم في حديثه يعدد لنا الفرق في زمانه حيث يقول: نذهب إلى المرجئة؟ إلى القدرية؟ إلى الزيدية؟ إلى المعتزلة؟ إلى الخوارج؟

٤ ـ مارس الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام أسلوباً في هذا الحديث يُميزه عن غيره من مدّعي الإمامة (مثل عبد الله الأفطح) وذلك بإخباره عن الكلام الذي دار بين هشام ومؤمن الطاق في أحد أزقّة المدينة المنورة حيث قال الإمام لهما:(لا إلى المرجئة ولا إلى القدرية.... إليَّ إليَّ إليَّ) .

النقطة الثالثة:

من الحقائق التاريخية التي تكشف سياسة المنصور القائمة على الخنق والإبادة والقتل للعلويين هو حديث الخزانة.

حيث يكشف لنا هذا الحديث التاريخي عن سياسة المنصور الخشنة مع العلويين، والتي أراد بها الإيحاء لابنه المهدي بأن الخلافة لا تستقيم إلا بهذه الطريقة، ثم تكشف لنا هذه الرواية عن معاناة الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام لأنه كان بالتأكيد على علم بهذه الأعداد المؤمنة الخيّرة من أبناء الشيعة وهي تساق إلى السجون لتقتل بعد ذلك صبراً، وهذا الحديث مليء بالشجون والأسى فقد ملأ خزانة برؤوس العلويين شيوخاً وشباباً وأطفالاً وأوصى ريطة زوج المهدي أن لا تفتحها للمهدي ولا يطلع عليها إلاّ بعد هلاكه، وقد دوّنها الطبري في تاريخه وهذا نصها :

(لمّا عزم المنصور على الحج دعا ريطة بنت أبي العباس امرأة المهدي وكان المهدي بالري قبل شخوص أبي جعفر فأوصاها بما أراد)، وعهد إليها ودفع إليها مفاتيح الخزائن، وتقدّم إليها وأحلفها ووكّد الإيمان أن لا تفتح بعض تلك الخزائن، ولا تطلع عليها أحداً إلاّ المهدي، ولا هي إلاّ أن يصح عندها موته، فإذا صح ذلك اجتمعت هي والمهدي وليس معهما ثالث حتى

٥٠

يفتحا الخزانة، فلمّا قدم المهدي من الري إلى مدينة السلام دفعت إليه المفاتيح وأخبرته أنه تقدم إليها أن لا تفتحه ولا تُطلع عليه أحداً حتى يصح عندها موته فلما انتهى إلى المهدي موت المنصور وولي الخلافة فتح الباب ومعه ريطة، فإذا أزج كبير فيه جماعة من قتلى الطالبيين، وفي آذانهم رقاع فيها أنسابهم وإذا فيهم أطفال، ورجال شباب، ومشايخ عدة كثيرة، فلما رأى ذلك المهدي ارتاع لما رأى وأمر فحفرت لهم حفيرة فدفنوا فيها، وعمل عليهم دكاناً)(١) .

النقطة الرابعة:

ومن المشاكل التي أثيرت في مطلع تسلّم الإمام موسىعليه‌السلام لمسؤولية الإمامة ، والتي كانت تهدف لتمزيق الطائفة الشيعية وإثارة البلبلة والتخريب في صفوفها، هي التشكيك في مسألة القيادة فإنها لمن تكون بعد الإمام الصادقعليه‌السلام بسبب ما ادّعاه (عبد الله الأفطح) أخو الإمام موسى الأكبر بعد إسماعيل، وهذا بطبيعة الحال يُضيف معاناة أُخرى للإمام ؛ لأن أجهزة المنصور العدوانيّة كانت تعدّ عليه الأنفاس وتشك في أيّ حركة تصدر منه(٢) .

النقطة الخامسة:

ومن الأساليب التي استخدمتها السلطات العبّاسية عامة والمنصور بشكل خاص، سياسة اتّخاذ (وعّاظ السلاطين) بعد أن غيّب الإمام

ــــــــــــ

(١) الطبري: ٦ / ٣٤٣ و ٣٤٤ مؤسسة الأعلمي للمطبوعات.

(٢) سيرة الأئمة الاثني عشر: ٢/٣٢٥ فصل حياة الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليهما‌السلام ط دار التعارف للمطبوعات ـ بيروت، والإرشاد: ٢/٢٠٩ ذكر أولاد أبي عبد الله عليه‌السلام وعددهم وأسمائهم وطرف من أخبارهم، ط مؤسسة آل البيت لإحياء التراث ـ قم المقدسة.

٥١

موسى الكاظمعليه‌السلام عن المسرح السياسي والفكري ، وظاهرة وعّاظ السلاطين هي بديل يرعاه الخليفة ويدعمه بما أوتي من قوة ليغطّي له الفراغ من جانب وتؤيد له سياسته من جانب آخر إذ يوحي للأمة بأنه مع الخط الإسلامي السائر على نهج السنة النبويّة، ووجد من (مالك بن أنس) وأمثاله ممن تناغم معه في الاختيار العقائدي الذي لا يصطدم مع سياسته، ووجد من تجاوب مع رغبته وكال له ولأسرته المديح والثناء، الأمر الذي دفع بالمنصور أن يفرض (الموطأ) على الناس بالسيف ثم جعل لمالك السلطة في الحجاز على الولاة وجميع موظّفي الدولة فازدحم الناس على بابه وهابته الولاة والحكّام وحينما وفد الشافعي عليه فشفّع بالوالي لكي يسهّل له أمر الدخول عليه فقال له الوالي: إني أمشي من المدينة إلى مكة حافياً راجلاً أهون عليّ من أن أمشي إلى باب مالك. ولست أرى الذل حتى أقف على باب داره(١) .

النقطة السادسة:

انتشرت في هذه المرحلة عقائد خاطئة وتأسّست فرق منحرفة من الإلحاد والزندقة والغلوّ والجبرية والإرجاء ، عقائد خاطئة ذات أصحاب تدافع عنها ، ولم تكن كل هذه الاعتقادات وليدة هذا الظرف بالذات، وإنما نشطت في هذا الجوّ المساعد لنموها، حيث كان بعض الخلفاء يتبنى بعضاً منها ويسمح لانتشار البعض الآخر.

فالغلاة يعتقدون بنبوّة الأئمة، وبعده بإلهية جعفر بن محمد الصادق وإلهية آبائه، وهؤلاء قد تبرّأ منهم الإمام الصادق ولعنهم لعناً مشدداً.

لكن السلطات شجعت من جانب ، وألصقت التهمة بهم من جانب آخر بهدف التشويه لحقيقة الشيعة، كما استخدموا هذه التهمة فيما بعد ذريعة ومادّة حكم تبرر لهم اضطهاد الشيعة تحت هذا الاسم فأطلقوا على الشيعة اسم زنادقة ويحق للدولة أن تطاردهم.

ــــــــــــ

(١) الأئمة الأربعة لمصطفى الشكعة: ٢/١٠٠، حياة مالك بن أنس، الفصل الخامس، باب ٦ مهابة مالك، سيرة الأئمة الاثني عشر، هاشم معروف الحسني: ٢/٣٢٦، حياة الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليهما‌السلام .

٥٢

لقد عاصر الإمام الكاظمعليه‌السلام تيّاراً آخر كان خطيراً على الأمة حاضراً ومستقبلاً وكان قد وقف بوجهه الإمام الصادقعليه‌السلام وحذّر منه الشباب خاصة ألا وهم المرجئة الذين يقولون بتأخير وارجاء صاحب المعصية الكبيرة إلى يوم القيامة فلا يحكمون عليه بحكم ما في الدنيا من كونه من أهل الجنة أو من أهل النار.

ويحاول أصحاب هذا الاعتقاد أن يخلطوا الأوراق ويدمجوا بين سلوك الخير وسلوك الشر فلا يفرّق بين سلوك الإمام عليعليه‌السلام وسلوك معاوية ولا بين موقف الحسينعليه‌السلام وموقف يزيد; لأن الحكم عليهم في الدنيا ليس من شؤوننا وإنما يترك الأمر ليوم القيامة.

ثم تبنّت هذه الفرقة اعتقاداً آخر لا يقلّ خطورة عن سابقه إذ تكمن خطورته على الشباب خاصة لأن هذا الاعتقاد يفسّر معنى الإيمان المراد عند الله بأنه الإيمان القلبي لا السلوك الخارجي، لأن السلوك الخارجي قد يخادع به الإنسان فالإيمان الذي ينظر إليه الله تعالى هو الإيمان القلبي أمّا الممارسات الخارجية فلا اعتبار لها، فإذا زنا الإنسان أو شرب الخمر أو قتل نفساً فهذه تصرفات خارجية والمهم أن الإنسان يعتقد قلبياً بالله تعالى.

كما روّج في هذه الفترة لفكرة الجبر والتي نشأت في زمن معاوية واستفاد منها بنو العبّاس حيث تقول بأنا لسنا مخيّرين في أفعالنا فإذا شاء الله أن نصلّي صلّينا وإذا شاء أن نشرب الخمر شربنا وهكذا.

الملاحظ في كل هذه العقائد والأفكار وأصحابها أنّها تخدم السلطة كل واحدة بطريقتها حيث تبرّر للحكّام تصرفاتهم البعيدة عن الإسلام بأفكار وأحكام اعتقادية وتهدّئ الجمهور الإسلامي حين توجّهه بهذه الأفكار.

من هنا ندرك السبب الذي جعل من الحكام أن يسمحوا بالانتشار لهذه التيّارات الناشئة من أفكار منحرفة جاء بها اليهود وغيرهم إلى العالم الإسلامي.

هذا هو عرض مختصر للظواهر والأحداث السياسية والثقافية والفكرية، التي برزت في عصر المنصور وكان الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام معاصراً لها.

أمّا ما هو منهج الإمام وأساليبه ومواقفه في خضم هذه الأجواء المملؤة بالشبهات والتهم والتضييق ؟ ! هذا ما سوف نتناوله في الفصل الثاني إن شاء الله تعالى.

٥٣

الفصل الثّاني: مواقف الإمام الكاظمعليه‌السلام في عهد المنصور

إنّ حركة الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام ونشاطه إزاء هذه الظروف التي تحدثنا عنها لم يسعفنا التاريخ بتفاصيلها ولم يحدّد لنا بالأرقام بشكل واضح حركة الإمام فيها، إلاّ أنّ بعض الروايات التاريخية تشير إلى أن الإمامعليه‌السلام قد مارس أُموراً في سنوات حكم المنصور العشرة بعد استشهاد الإمام الصادقعليه‌السلام .

وقد انتقينا بعض ممارسات الإمامعليه‌السلام التي لا تتعارض مع هذه الفترة وتنسجم مع ظروفها. ثم حاولنا بعد ذلك التركيز على الخط الذي سلكه الإمام بشكل عام تاركين التعرض للتفاصيل.

كما أنّ الخط العام والنهج الذي اتّخذه الإمام في هذه الفترة يتضمّن ما كان يهدف إليه من أسلوب علاجي لبعض الظواهر الانحرافية، كما يتضمّن ما كان يريد أن يؤسّس فيه لثوابت مستقبلية. من هنا يقع الكلام في هذا البحث ضمن عدّة اتجاهات:

الاتّجاه الأوّل: الإمام الكاظمعليه‌السلام وإحكام المواقع

ونتناول في هذا الاتجاه دور الإمامعليه‌السلام في إبرازه للقدرات الغيبية التي تميّز الإمام عن غيره من الأدعياء وزعماء الفرق والطوائف الضالّة في زمانه، وبهذا قد لفت أنظار الأمة وأعطاها حسّاً تقارن وتحاكم به هذه التيّارات وتفرز بين الحق والباطل بما أمتلكته من مقاييس مستلهمة من مشاهد مثيرة حسية كان قد حققها الإمامعليه‌السلام .

٥٤

وهذا ينبئ عن محاولات إسقاط الحيرة الفكرية السائدة في هذه الفترة. والنشاطات التي قام بها الإمامعليه‌السلام في هذا الاتجاه هي كما يلي:

النشاط الأول: إخبار الإمام موسىعليه‌السلام لعامة الناس ببعض الغيبيات التي لا يمكن للإنسان العادي أن يتوصّل إليها، والروايات التي تتضمّن هذا النوع من الإخبار كثيرة جداً ننقل بعضاً منها:

المثال الأول: عن إسحاق بن عمار قال: (سمعت العبد الصالحعليه‌السلام ينعى إلى رجل من شيعته نفسه، فقلت في نفسي: وإنه ليعلم متى يموت الرجل من شيعته ! فالتفت إلي شبه المغضَب فقال:يا إسحاق قد كان رشيد الهجري يعلم علم المنايا والبلايا والإمام أولى بعلم ذلك ، ثم قال: يا إسحاق اصنع ما أنت صانع فإنّ عمرك قد فنى وقد بقي منه دون سنتين ... فلم يلبث إسحاق بعد هذا المجلس إلاّ يسيراً حتى مات)(١) .

المثال الثاني: قال خالد بن نجيح: قلت لموسىعليه‌السلام إنّ أصحابنا قدموا من الكوفة وذكروا أن المفضّل شديد الوجع، فادع الله له. فقالعليه‌السلام :(قد استراح) ،

ــــــــــــ

(١) أصول الكافي: ١/٤٨٤، ح ٧، وفي الخرائج والجرائح: ١/٣١٠، ح ٣: إسحاق بن منصور، وفي إثبات الهداة: ٥/٥٤١، ح ٧٨: إسماعيل بن منصور عن أبيه. وفي بحار الأنوار: ٤٨/٦٨، ح ٩٠ ـ ٩١ عن الكافي والخرائج.

٥٥

وكان هذا الكلام بعد موته بثلاثة أيّام(١) .

المثال الثالث: قال ابن نافع التفليسي: خلّفت والدي مع الحرم في الموسم وقصدت موسى بن جعفرعليه‌السلام فلما أن قربت منه هممت بالسلام عليه فأقبل عليّ بوجهه وقال:(برّ حجك يا ابن نافع، آجرك الله في أبيك فإنّه قد قبضه إليه في هذه الساعة، فارجع فخذ في جهازه) ، فبقيت متحيراً عند قوله، وقد كنت خلّفته وما به علّة، فقال:يا ابن نافع أفلا تؤمن؟ فرجعت فإذا أنا بالجواري يلطمن خدودهنّ فقلت: ما وراكنّ؟ قلن: أبوك فارق الدنيا، قال ابن نافع: فجئت إليه أسأله عمّا أخفاه ورائي فقال لي:أبداً ما أخفاه وراءك ، ثم قال:يا ابن نافع إن كان في أمنيتك كذا وكذا أن تسأل عنه فأنا جنب الله وكلمته الباقية وحجته البالغة )(٢) .

النشاط الثاني: ومن قدرات الإمامعليه‌السلام الخارقة للعادة والتي تميّزه أيضاً عن غيره هي تكلّمه بعدّة لغات من غير أن يتعلّمها بالطرق الطبيعية للتعلّم، وإنّما بالإلهام. وفي هذا المجال تطالعنا مجموعة من الشواهد:

الشاهد الأول: عن أبي بصير قال: دخلت على أبي الحسن الماضيعليه‌السلام ، ما لبثت أن دخل علينا رجل من أهل خراسان فتكلّم الخراساني بالعربية، فأجابه هو بالفارسية. فقال له الخراساني: أصلحك الله ما منعني أن أكلمك بكلامي إلاّ أني ظننت أنك لا تحسن ، فقال:(سبحان الله! إذا كنت لا أحسن أن أجيبك فما فضلي عليك؟!) ، ثم قال:(يا أبا محمد ، إنّ الإمام لا يخفى عليه كلام أحد من الناس ولا طير ولا بهيمة

ــــــــــــ

(١) بصائر الدرجات: ٢٦٤ ح ١٠، واخبار معرفة الرجال: ٣٢٩ ح ٥٩٧، والخرائج والجرائح: ٢/٧١٥ ح ١٣، وعنه في بحار الأنوار: ٤٨ / ٧٢.

(٢) مناقب آل أبي طالب: ٤/٣١١ وعنه في بحار الأنوار: ٤٨/٧٢.

٥٦

ولا شيء فيه روح بهذا يعرف الإمام ، فإذا لم تكن فيه هذه الخصال فليس هو بإمام) (١) .

الشاهد الثاني: روي عن أبي حمزة أنه قال: كنت عند أبي الحسن موسىعليه‌السلام إذ دخل عليه ثلاثون مملوكاً من الحبشة اُشتروا له، فتكلم غلام منهم ـ وكان جميلاً ـ بكلام فأجابه موسىعليه‌السلام بلغته فتعجّب الغلام وتعجّبوا جميعاً وظنوا أنه لا يفهم كلامهم. فقال له موسىعليه‌السلام :(إني أدفع إليك مالاً، فادفع إلى كل (واحد )منهم ثلاثين درهماً) . فخرجوا وبعضهم يقول لبعض: (إنّه أفصح منا بلغتنا، وهذه نعمة من الله علينا. قال علي بن أبي حمزة: فلما خرجوا قلت: يا ابن رسول الله! رأيتك تكلم هؤلاء الحبشيين بلغاتهم ! قال:نعم. وأمرت ذلك الغلام من بينهم بشيء دونهم؟ قال:نعم أمرته أن يستوصي بأصحابه خيراً وأن يُعطي كل واحد منهم في كل شهر ثلاثين درهماً، لأنّه لمّا تكلم كان أعلمهم، فإنه من أبناء ملوكهم، فجعلته عليهم، وأوصيته بما يحتاجون إليه، وهو مع هذا غلام صدق . ثم قال:لعلك عجبت من كلامي إياهم الحبشية ؟ قلت: إي والله. قالعليه‌السلام :(لا تعجب فما خفي عليك من أمري أعجب وأعجب) (٢) .

الشاهد الثالث: قال بدر ـ مولى الإمام الرضاعليه‌السلام ـ: (إنّ إسحاق بن عمار دخل على موسى بن جعفرعليه‌السلام فجلس عنده إذ استأذن عليه رجل خراساني

ــــــــــــ

(١) قرب الإسناد: ٢٦٥، ح ١٢٦٣ وعنه في بحار الأنوار: ٢٥/١٣٣، ح ٥، واثبات الهداة: ٥/٥٣٥ ح ٧٢.

(٢) قرب الإسناد: ٢٦٢، ح ١٢٥٧ وعنه في بحار الأنوار: ٢٦/١٩٠ و ٤٨ / ١٠٠، ودلائل الإمامة: ١٦٩، والخرائج والجرائح: ١/٣١٢، ح ٥ وعنه في بحار الأنوار: ٤٨ / ٧٠.

٥٧

يكلّمه بكلام لم يسمع مثله قطّ كأنه كلام الطير.

قال إسحاق: فأجابه موسىعليه‌السلام بمثله وبلغته إلى أن قضى وطره في مساءلته، فخرج من عنده، فقلت: ما سمعت بمثل هذا الكلام.

قال:هذا كلام قوم من أهل الصين وليس كل كلام أهل الصين مثله .

ثم قال:أتعجب من كلامي بلغته ؟ قلت: هو موضع التعجب.

قالعليه‌السلام :أُخبرك بما هو أعجب منه إن الإمام يعلم منطق الطير، ومنطق كلّ ذي روح، وما يخفى على الإمام شيء (١) .

الاتّجاه الثاني: الإمام الكاظمعليه‌السلام ومعالجة الانهيار الأخلاقي

لقد أصاب القيم الإسلامية ـ بفعل الأسباب التي ذكرناها ـ اهتزاز كبير وتعرّضت الأمة إلى هبوط معنوي وتميّع مشهود، تغذّيه وتحركه أيد سلطانية هادفة، هنا سلك الإمام الكاظمعليه‌السلام سبيلين من أجل أن يحدّ من هذا الانهيار الذي تعرّضت له الأمة.

الأول عام. والثاني يختص بالجماعة الصالحة.

وقد اتّخذ الإمامعليه‌السلام أساليب عديدة للموعظة والإرشاد ومعالجة الانهيار الأخلاقي الذي أخذ ينتشر ويستحكم في أعظم الحواضر الإسلامية التي كان الإمامعليه‌السلام يتواجد فيها.

واستطاع الإمامعليه‌السلام من خلال توجيهه لمجموعة من طلاّب الحقيقة وتأثيره عليهم أن يربّي في المجتمع الإسلامي نماذج حيّة تكون قدوة للناس في كبح جماح الشهوات الهائجة وإطفاء نيران الهوى المشتعلة بسبب

ــــــــــــ

(١) دلائل الإمامة: ١٧١ وعنه في مدينة المعاجز: ٤٣٨ ح ٣٨، والخرائج والجرائح: ١ / ٣١٣، ح ٦ وعنه في كشف الغمة: ٢/٢٤٧ وبحار الأنوار: ٤٨/٧٠، ح ٩٤.

٥٨

المغريات المتنوّعة والتي كان يؤججها انسياب الحكّام في وادي الهوى نتيجة للثروات التي كانوا يحرصون على جمعها ويقتّرون في إنفاقها إلاّ على شهواتهم إلى جانب اقتدارهم السياسي والعسكري.

وممّن تأثّر بالإمام الكاظمعليه‌السلام ولمع اسمه في حواضر المجتمع الإسلامي ; أبو نصر بشر بن الحارث بن عبد الرحمن المروزي الأصل البغدادي المسكن والذي أصبح من العرفاء الزهّاد بعد أن كان من أهل المعازف والملاهي، حيث تاب على يدي الإمام الكاظمعليه‌السلام (١) .

وقد ذكر المؤرخون في سبب توبته أن الإمامعليه‌السلام حين اجتاز على داره ببغداد سمع الملاهي وأصوات الغناء والقصب تعلو من داره، وخرجت منها جارية وبيدها قمامة فرمت بها في الطريق، فالتفت الإمام إليها قائلاً:(يا جارية: صاحب هذه الدار حر أم عبد؟) فأجابت: (حر). فقالعليه‌السلام :صدقت، لو كان عبداً لخاف من مولاه . ودخلت الجارية الدار، وكان بشر على مائدة السكر، فقال لها: ما أبطأك؟ فنقلت له ما دار بينها وبين الإمامعليه‌السلام فخرج بشر مسرعاً حتى لحق الإمامعليه‌السلام فتاب على يده، واعتذر منه وبكى(٢) وبعد ذلك أخذ في تهذيب نفسه واتصل بالله عن معرفة وإيمان حتى فاق أهل عصره في الورع والزهد).

وقال فيه إبراهيم الحربي: ما أخرجت بغداد أتمّ عقلاً، ولا أحفظ لساناً، من بشر بن الحارث كان في كل شعرة منه عقل(٣) .

ــــــــــــ

(١) الكنى والألقاب: ٢/٦٧.

(٢) الكنى والألقاب: ٢ / ١٦٧.

(٣) تأريخ بغداد: ٧ / ٧٣.

٥٩

نعم، لقد أعرض بشر ببركة توجيه الإمام الكاظمعليه‌السلام له وتنبيهه عن غفلته حتى أعرض عن زينة الحياة الدنيا ورضي بالقناعة وقال فيها:لو لم يكن في القناعة شيء إلاّ التمتع بعز الغناء (الغنى)لكان ذلك يجزي .

وقال:(مروءة القناعة أشرف من مروءة البذل والعطاء) (١) .

وممّا رواه الخطيب البغدادي عنه أنه جعل يبكي يوماً ويضطرب ويقول:(اللهم إن كنت شهرتني في الدنيا ونوّهت باسمي ورفعتني فوق قدري على أن تفضحني في القيامة، الآن فعجّل عقوبتي وخذ منّي بقدر ما يقوى عليه بدني) (٢) .

وروى عن حجّاج بن الشاعرأ نّه كان يقول لسليمان اللؤلؤي: رؤي بشر بن الحارث في النوم فقيل له: ما فعل الله بك يا أبا نصر؟ قال: غفر لي، وقال: يا بشر: ما عبدتني على قدر ما نوّهت باسمك(٣) .

وإذا تتبّعنا ما أثر عن الإمام الكاظمعليه‌السلام من كلمات وجدنا نصوصاً تشير إلى اهتمامه بمعالجة الفساد الأخلاقي بشتّى نواحيه، فضلاً عن سيرته العطرة وسلوكه السويّ الذي كان قبلة للعارفين وأسوة للمتقين وشمساً مضيئة للمؤمنين وقمراً متلألئاً للمسلمين.

ونختار ممّا قاله الإمامعليه‌السلام بصدد معالجة الانهيار الأخلاقي ما يلي:

١ ـ(إنّ العاقل: الذي لا يشغل الحلال شكره ولا يغلب الحرام صبره) .

٢ ـ(من سلّط ثلاثاً على ثلاث فكأنّما أعان هواه على هدم عقله) .

(من أظلم نور فكره بطول أمله، ومحا طرائف حكمته بفضول كلامه وأطفأ

ــــــــــــ

(١) تاريخ بغداد: ٧/٧٩.

(٢) تاريخ بغداد: ٧/٨١.

(٣) تاريخ بغداد: ٧/٨٣.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

فالميثاق هو العهد الذي يعطيه الطرف ويثق به صاحب الحق ، وصاحب الحق الأكبر هو الله تعالى ، وقد أخذ الميثاق على بني آدم قبل أن يخلقهم في الأرض ، وجعله أمانة عند ملك من ملائكته ، ثم حول هذا الملك الى جوهرة وجعلها في ركن الكعبة ، فلمسها الناس فاسودَّت!

روى أحمد « ١ / ٣٠٧ » : « أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال الحجر الأسود من الجنة وكان أشد بياضاً من الثلج ، حتى سودته خطايا أهل الشرك ».

وروينا في الكافي « ٤ / ١٨٤ » : « إن الله عز وجل حيث أخذ ميثاق بني آدم دعا الحجر من الجنة ، فأمره فالتقم الميثاق ، فهو يشهد لمن وافاه بالموافاة.

وقال الإمام الصادق عليه‌السلام : إن الله تبارك وتعالى وضع الحجر الأسود ، وهي جوهرة أخرجت من الجنة إلى آدمعليه‌السلام فوضعت في ذلك الركن لعلة الميثاق ، وذلك أنه لما أخذ من بني آدم من ظهورهم ذريتهم حين أخذ الله عليهم الميثاق في ذلك المكان ، وفي ذلك المكان تراءى لهم ، ومن ذلك المكان يهبط الطير على القائمعليه‌السلام فأول من يبايعه ذلك الطائر وهو والله جبرئيلعليه‌السلام ، وإلى ذلك المقام يسند القائم ظهره. وهو الحجة والدليل على القائم ، وهو الشاهد لمن وافاه في ذلك المكان ، والشاهد على من أدى إليه الميثاق والعهد الذي أخذ الله عز وجل على

٨١

العباد. وأما القُبلة والإستلام فلعلة العهد ألا ترى أنك تقول : أمانتي أديتها وميثاقي تعاهدته ، لتشهد لي بالموافاة ».

كل ما نفعله هنا اخترناه في عالم الذر والميثاق

في الكافي « ١ / ٤٢٨ » عن الإمام الصاق عليه‌السلام : « في قول الله عز وجل :لايَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ، يعني في الميثاق. أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً ، قال : الإقرار بالأنبياء والأوصياءعليهم‌السلام وأمير المؤمنين خاصة ، قال : لاينفع إيمانهالأنها سُلبته ».

ومعنى ذلك : أن الأصل في الأعمال والجزاء ، امتحاننا في عالم الذر والميثاق ، وحتى لو آمن الإنسان في الدنيا وأقر بالأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام ولم يكن آمن بهم في عالم الذر ، فلا ينفعه ذلك ، لأنه يُسلب منه قبل موته!

كل مقادير الإنسان اختارها في عالم الميثاق

في الكافي « ٥ / ٥٠٤ » : « عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال : كان علي بن الحسينعليه‌السلام لا يرى بالعزل بأساً ، فقرأ هذه الآية :وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى . فكل شئ أخذ الله منه الميثاق فهو خارج ، وإن كان على صخرة صماء ».

٨٢

وفي الكافي « ٦ / ١٢ » : « عن سلام بن المستنير قال : سألت أبا جعفرعليه‌السلام عن قول الله عز وجل :مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ، فقال : المخلقة هم الذر الذين خلقهم الله في صلب آدمعليه‌السلام أخذ عليهم الميثاق ثم أجراهم في أصلاب الرجال وأرحام النساء ، وهم الذين يخرجون إلى الدنيا حتى يسألوا عن الميثاق. وأما قوله : وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ، فهم كل نسمة لم يخلقهم الله في صلب آدمعليه‌السلام حين خلق الذر وأخذ عليهم الميثاق. وهم النطف من العزل ، والسقط قبل أن ينفخ فيه الروح والحياة والبقاء ».

أول من أجاب من المخلوقات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله

في الكافي « ١ / ٤٤١ » عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : « إن بعض قريش قال لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : بأي شئ سبقت الأنبياء وأنت بعثت آخرهم وخاتمهم؟ قال : إني كنت أول من آمن بربي ، وأول من أجاب حين أخذ الله ميثاق النبيين وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ، فكنت أنا أول نبي قال بلى ، فسبقتهم بالإقرار بالله ».

٨٣

وأول من أجاب من الملائكة مَلك الميثاقعليه‌السلام

كما ورد أن أول من أجاب من الملائكة كان الملك الذي حوله الله الى الحجر الأسود ، ففي الكافي « ١ / ١٨٥ » عن الإمام الصادق عليه‌السلام : « كان ملكاً من عظماء الملائكة عند الله فلما أخذ الله من الملائكة الميثاق ، كان أول من آمن به وأقر ذلك الملك ، فاتخذه الله أميناً على جميع خلقه ، فألقمه الميثاق وأودعه عنده ، واستعبد الخلق أن يجددوا عنده في كل سنة الإقرار بالميثاق والعهد الذي أخذ الله عز وجل عليهم ».

أخذ الله ميثاق النبيين على الإقرار بنبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله

ذكر القرآن أنواعاً من المواثيق التي أخذها الله على عباده.

منها على الأنبياء بالطاعة :وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَامَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ . « آل عمران : ٨١ ».

وروت أحاديثنا كيف أخذ الله ميثاق الأنبياء عليهم‌السلام لسيد الرسل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله . ففي الكافي « ٨ / ١٢١ » أن نافعاً القسيس كان مع الخليفة هشام بن عبد الملك في مكة فسأل الإمام الباقر عن المدة بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبين عيسى عليه‌السلام فقال له :

٨٤

« بقولكم ست مئة سنة ، وبقولنا خمس مئة. فقال : أخبرني عن قول الله عز وجل لنبيه :وَاسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ . من الذي سأل محمد وكان بينه وبين عيسى خمس مائة سنة؟ قال : فتلا أبو جعفرعليه‌السلام هذه الآية :سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ . فكان من الآيات التي أراها الله تبارك وتعالى محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله حيث أسرى به إلى بيت المقدس أن حشر الله عز ذكره الأولين والآخرين من النبيين والمرسلينعليهم‌السلام ، ثم أمر جبرئيلعليه‌السلام فأذن شفعاً وأقام شفعاً وقال في أذانه حي على خير العمل ، ثم تقدم محمد فصلى بالقوم فلما انصرف قال لهم : على مَ تشهدون وما كنتم تعبدون؟ قالوا : نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنك رسول الله ، أخذ على ذلك عهودنا ومواثيقنا ، فقال نافع : صدقت يا أبا جعفر ».

وأخذ الله ميثاق النبيين على نصرة نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله في الرجعة

ومن أعجب المواثيق أن الله تعالى أخذ ميثاق الأنبياءعليهم‌السلام على نصرة النبي وآلهصلى‌الله‌عليه‌وآله في الرجعة ، التي ستكون في المستقبل!

٨٥

روى في مختصر بصائر الدرجات للحسن بن سليمان / ١٦٨ ، بسنده عن الإمامين الباقر والصادق عليه‌السلام في قوله تعالى :وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ : قال : ما بعث الله نبياً من لدن آدم فهلم جراً ، إلا ويرجع إلى الدنيا فيقاتل وينصر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنينعليه‌السلام ».

فالله يعلم كيف ستكون تلك الرجعة وكيف يكون مجتمعها ، ولكن أحاديثها العديدة تدل على أن أمرها يحتاج الى إحياء الأنبياء كلهمعليهم‌السلام ورجوعهم الى الدنيا ، وجهاد أعدائهم من جديد ، ويكون الرسول نبينا محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحامل رايته عليعليه‌السلام !

وفي مختصر بصائر الدرجات / ٣٢ ، عن أبي حمزة الثمالي عن الإمام الباقر عليه‌السلام قال : قال قال أمير المؤمنين عليه‌السلام ، من حديث :

قد نصرت محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله وجاهدت بين يديه وقتلت عدوه ، ووفيت لله بما أخذ عليَّ من الميثاق والعهد والنصرة لمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وإن لي الكرة بعد الكرة والرجعة بعد الرجعة ، وأنا صاحب الرجعات والكرات ، وصاحب الصولات والنقمات ، والدولات العجيبات ، وأنا قرن من حديد ، وأنا عبد الله وأخو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ».

٨٦

وأخذ الله ميثاق المؤمنين على البلايا والتحمل والصمت

قال الإمام الصادق عليه‌السلام : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن الله أخذ ميثاق المؤمن على بلايا أربع ، أيسرها عليه مؤمنٌ يقول بقوله يحسده ، أو منافقٌ يقفو أثره ، أو شيطانٌ يغويه أو كافرٌ يرى جهاده ، فما بقاء المؤمن بعد هذا » « الكافي « ٢ / ٢٤٩ ».

وفي رسائل الشهيد الثاني / ٣٣١ ، عن علي عليه‌السلام : « أخذ الله ميثاق المؤمن أن لا يصدق في مقالته ولا ينتصف له من عدوه ، وعلى أن لا يَشفى غيظَه إلا بفضيحة نفسه ، لأن كل مؤمن ملجم ، وذلك لغاية قصيرة وراحة طويلة ».

وميثاق المؤمنين على محبة بعضهم

في علل الشرائع « ١ / ٨٤ » عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : « إن الله تبارك وتعالى أخذ ميثاق العباد وهم أظلة قبل الميلاد ، فما تعارف من الأرواح ائتلف ، وما تناكر منها اختلف ».

وميثاق المؤمنين على محبة عليعليه‌السلام

في كتاب الغارات للثقفي « ٢ / ٥٢٠ » : « عن حبة العرني عن عليعليه‌السلام قال : إن الله أخذ ميثاق كل مؤمن على حبي ، وأخذ ميثاق كل منافق على بغضي ، فلو ضربت وجه المؤمن بالسيف ما أبغضني ، ولو صببت الدنيا على المنافق ما أحبني ».

٨٧

وميثاق الخلق على الإقرار بنبينا وآلهصلى‌الله‌عليه‌وآله

وفي الكافي « ٢ / ٨ » عن الإمام محمد الباقر عليه‌السلام قال : « إن الله تبارك وتعالى حيث خلق الخلق خلق ماء عذباً وماء مالحاً أجاجاً ، فامتزج الماءان ، فأخذ طيناً من أديم الأرض فعركه عركاً شديداً ، فقال لأصحاب اليمين وهم كالذر يدبون : إلى الجنة بسلام ، وقال لأصحاب الشمال : إلى النار ولا أبالي ، ثم قال :أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ . ثم أخذ الميثاق على النبيين ، فقال : ألست بربكم وأن هذا محمد رسولي ، وأن هذا علي أمير المؤمنين؟ قالوا : بلى. فثبتت لهم النبوة. وأخذ الميثاق على أولي العزم أنني ربكم ومحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله رسولي ، وعلي أمير المؤمنين ، وأوصياؤه من بعده ولاة أمري وخزان علمي ، وأن المهدي أنتصر به لديني وأظهر به دولتي وأنتقم به من أعدائي ، وأُعبد به طوعاً وكرهاً؟ قالوا : أقررنا يا رب وشهدنا ».فالإيمان بالمهدي عليه‌السلام من ميثاق الله تعالى.

٨٨

أما ميثاق المواثيق فهو : ولاية أهل البيتعليهم‌السلام

كل ميثاق أخذه الله فهو ميثاق الله وله حرمته ، لكن ولاية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيتهعليهم‌السلام ميثاق المواثيق ، لأنها مفتاح الإقرار بالتوحيد والنبوة والمعاد ، ومفتاح العبادة الصحيحة التي يريدها الله تعالى ، فهي الميثاق الأهم عملياً ، ولذلك استحقت أن تكون ميثاق الله على الإطلاق ، وصح أن نقول للإمام المهديعليه‌السلام : السلام عليك يا ميثاقَ الله.

قال الإمام الباقر عليه‌السلام كما في الكافي « ٢ / ١٨ » : « بني الإسلام على خمسة أشياء : على الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية ، قال زرارة : فقلت وأي شئ من ذلك أفضل؟ فقال : الولاية أفضل لأنها مفتاحهن والوالي هو الدليل عليهن. قلت : ثم الذي يلي ذلك في الفضل؟

فقال : الصلاة ، إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : الصلاة عمود دينكم.

قال قلت : ثم الذي يليها في الفضل؟ قال : الزكاة ، لأنه قرنها بها وبدأ بالصلاة قبلها ، وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : الزكاة تذهب الذنوب.

قلت : والذي يليها في الفضل؟ قال : الحج ، قال الله عز وجل :وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ . وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : لحَجَةَّ ٌمقبولة خير من عشرين صلاة

٨٩

نافلة ، ومن طاف بهذا البيت طوافاً أحصى فيه أسبوعه وأحسن ركعتيه غفر الله له. وقال في يوم عرفة ويوم المزدلفة ما قال.

قلت : فماذا يتبعه؟ قال : الصوم. قلت : وما بال الصوم صار آخر ذلك أجمع؟ قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : الصوم جنة من النار.

قال ثم قال : إن أفضل الأشياء ما إذا فاتك لم تكن منه توبة دون أن ترجع إليه فتؤديه بعينه ، إن الصلاة والزكاة والحج والولاية ليس يقع شئ مكانها دون أدائها ، وإن الصوم إذا فاتك أو قصرت أو سافرت فيه أديت مكانه أياماً غيرها ، وجزيت ذلك الذنب بصدقة ولا قضاء عليك ، وليس من تلك الأربعة شئ يجزيك مكانه غيره.

قال ثم قال : ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه ، وباب الأشياء ورضا الرحمن : الطاعة للإمام بعد معرفته ، إن الله عز وجل يقول :مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً . أما لو أن رجلاً قام ليله وصام نهاره وتصدق بجميع ماله وحج جميع دهره ، ولم يعرف ولاية ولي الله فيواليه ، ويكون جميع أعماله بدلالته إليه ، ما كان له على الله عز وجل حق في ثوابه ، ولا كان من أهل الإيمان. ثم قال : أولئك المحسن منهم يدخله الله الجنة بفضل رحمته ».

٩٠

المواثيق العامة والمواثيق المؤكدة

الميثاق بنفسه عهد مؤكد ، والميثاق المؤكد هو المشدد ، وقد ذكر القرآن نوعين منه ، أحدهما في حقوق الزوجة فعقد الزواج ميثاق غليظ ، قال تعالى : وَكَيْفَ تَأخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظاً .

ووصف العهد الذي أخذه الله على الأنبياء لنصرة نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال :وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ اقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِى قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ . « آل عمران : ٨١ ».

قال في الفروق اللغوية / ٥٢٥ : « قال بعضهم : العهد يكون حالاً من المتعاهدين ، والميثاق يكون من أحدهما ».

معنى : السلام عليك يا ميثاق الله

معناه : أنت ياسيدي الحلقة الأخيرة والحاسمة في الميثاق الذي أخذه الله لجدك محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله على الأنبياء والعباد ، وأكد عليهم العمل به.

وهو ميثاق ثقيل يوجب على الجميع الإقرار والطاعة.

وهذا الميثاق ياسيدي متجسد فيك ، فأنت ميثاق الله تعالى.

وأنا يا سيدي وفيٌّ لميثاقي في الإقرار بكم ، ونفسي وأهلي ومالي فداءٌ لكم ، ونصرتي لكم معدة ، وأنا رهن أمرك.

٩١

« ٩ » السلام عليك يا وعدَ الله الذي ضَمِنَه

الوعد الإلهي بدولة العدل

في القرآن الكريم بضع آيات تؤكد على الوعد بدولة العدل الإلهي في الأرض ، كقوله تعالى :هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً .

وقال تعالى :وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصَّالِحُونَ . « الأنبياء : ١٠٥ » وهي مطلقة ، تشمل الوراثة في الدنيا والآخرة.

وقال تعالى :وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ . « البقرة : ٣٠ ».

فلم ينفِ الله عز وجل إفساد بني آدم في الأرض وسفكهم الدماء ، لكنه قال للملائكة إني أعلم ما لاتعلمون ، أي أن ذلك سيكون الى وقت معين ، ثم أنهيه وأقيم دولة العدل في الأرض!

وقال تعالى : وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى

٩٢

لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِى لا يُشْرِكُونَ بِى شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ. « النور : ٥٥ ».

وهو وعدٌ للمؤمنين من أمة نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله بأن ينصرهم بعد خوفهم ، ويمكِّن لهم دولة العدل ، فلا يكفر بعدها إلا قلة شاذة.

وقال تعالى :مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الآنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا . « الفتح : ٢٨ ـ ٢٩ ».

فالذين معه هم لا بد أن يكونوا منظومة الأئمة من عترته ، وهم غير الصحابة الذين آمنوا معه ، وهم شطأ شجرته أي أولادها ، وهم الرحماء بينهم ، والصحابة أشداء بينهم.

وقد وعد الله تعالى أن يغيظ بهم الكفار ، وهو الى الآن لم يحصل.

وقال تعالى :وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَاكَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ . « هود : ٨ ».

٩٣

والآية تدل على أن هذا العذاب حتمي على فجار هذه الأمة ، وأنه لم يرفع ولكنه أُخر الى وقته ، وسيكون على يد أمة معدودة من الناس.

وقد ورد تفسير الأمة المعدودة بأنهم أصحاب المهديعليه‌السلام .

وفسر بعضهم الأمة بالمدة ، ولا يصح لأنها لم ترد بمعنى المدة.

الى غير ذلك من آيات الوعد الإلهي بدولة العدل ، والتي لم يَدَّعِ أحد أنها تكون إلا على يد المهدي عليه‌السلام ، وأيدت ذلك الأحاديث المفسرة لها.

تأكيد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة عليهم‌السلام على حتمية الوعد الإلهي

عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « سيكون من بعدي خلفاء ومن بعد الخلفاء أمراء ومن بعد الأمراء ملوك ومن بعد الملوك جبابرة ، ثم يخرج رجل من أهل بيتي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً ». « الكبير للطبراني : ٢٢ / ٣٧٥ ».

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ويحُ هذه الأمة من ملوك جبابرة ، كيف يقتلون ويخيفون المطيعين إلا من أظهر طاعتهم ، فالمؤمن التقي يصانعهم بلسانه ويفر منهم بقلبه. فإذا أراد الله عز وجل أن يعيد الإسلام عزيزاً ، قصم كل جبار ، وهو القادر على ما يشاء أن يصلح أمةً بعد فسادها.

٩٤

فقالعليه‌السلام : يا حذيفة لو لم يبق من الدنيا إلايوم واحد لطوَّلَ الله ذلك اليوم حتى يملك رجل من أهل بيتي ، تجري الملاحم على يديه ويظهر الإسلام ، لايخلف وعده وهو سريع الحساب ». « مسند أحمد : ١ / ٩٩ ».

وفي مسند البزار « ٢ / ١٣٤ » : « لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملأها عدلاً كما ملئت جوراً ».

وبشر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فاطمة عليها‌السلام فقال لها : « نبينا خير الأنبياء وهو أبوك ، وشهيدنا خير الشهداء وهو عم أبيك حمزة ، ومنا من له جناحان يطير بهما في الجنة حيث يشاء ، وهو ابن عم أبيك جعفر ، ومنَّا سبطا هذه الأمة الحسن والحسين ، وهما إبناك ، ومنا المهدي ». « الطبراني الصغير : ١ / ٣٧ ».

وفي أمالي الطوسي : ١ / ٣٦١ ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى من حديث جاء فيه : « معاشر المؤمنين أبشروا بالفرج ، فإن وعد الله لا يخلف ، وقضاءه لا يرد ، وهو الحكيم الخبير ، فإن فتح الله قريب. اللهم إنهم أهلي ، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. اللهم أكلأهم وارعهم وكن لهم ، وانصرهم وأعنهم وأعزهم ولا تذلهم ، واخلفني فيهم. إنك على كل شئ قدير ».

هذا ، وقد عقدنا فصلاً في معجم أحاديث الإمام المهديعليه‌السلام / ١٧٥ ، لبشارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة من أهل بيته عليهم‌السلام ، بالمهدي عليه‌السلام .

٩٥

الوعد الإلهي فوق المحتوم

في غيبة النعماني / ٣١٥ ، عن الإمام الجواد عليه‌السلام قال : « قلنا له : فنخاف أن يبدو لله في القائم. فقال : إن القائم من الميعاد ، والله لايخلف الميعاد ».

وقد تسأل عن وصف الوعد بالمضمون مع أن كل وعد إلهي مضمون.

والجواب : أن وصفه بالمضمون ليس لوجود وعد غير مضمون ، بل لبيان أن ضمان الوعد بدولة العدل أمر كبير معقد ، لكنه على الله تعالى هَيِّنٌ ، فهو سبحانه يملك كل الأوراق ، وسيدير حياة الإنسان ومجتمعه حتى تخضع لدوله المهديعليه‌السلام وينهي الظلم ويقيم دولة العدل.

* *

٩٦

« ١٠ » السلام عليك أيُّهَا العَلَمُ المَنْصُوب

والعِلْمُ المَصْبُوب ، والغَوْثُ والرحمةُ الواسعة ، وعداً غيرَ مكذوب

معنى العَلَمُ المنصوب

العَلَم المنصوب : الإمام الذي نصبه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لأمته عَلَماً ، تهتدي به في طريقها ، فهو وصيه وخليفته في أمته ، تتلقى منه معالم دينها وتطيعه.

قال حذيفة في حديثه : « فخرجنا إلى مكة مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في حجة الوداع فنزل جبرئيل فقال : يا محمد إن ربك يقرؤك السلام ويقول : أنصب علياً عَلَماً للناس ، فبكى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حتى اخضلت لحيته ، وقال : يا جبرئيل إن قومي حديثوا عهد بالجاهلية ، ضربتهم على الدين طوعاً وكرهاً حتى انقادوا لي ، فكيف إذا حملت على رقابهم غيري ، قال : فصعد جبرئيل الى آخر الحديث ». « إقبال الأعمال : ٢ / ٢٤٠ ».

وفي الحديث القدسي في المعراج : « فانصب علياً علماً لعبادي ، يهديهم إلى ديني ». « الجواهر السنية / ٥٨٧ ».

٩٧

والإمام المهديعليه‌السلام منصوب من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إماماً نصباً مباشراً بنصه عليه ، ونصباً غير مباشر لأنه منصوب من أبيه وأجداده حتى يصل الى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله . فالمعنى :السلام عليك يا من نصبه رسول الله إماماً وَعَلَماً .

معنى : العِلْمُ المَصْبُوب

قال الله تعالى :فَلْيَنظُرِ الاِْنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ. أنَّا صَبَبْنَا الْمَآءَ صَبًّا. ثُمَّ شَقَقْنَا الاَْرْضَ شَقًّا. فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا. وَعِنَبًا وَقَضْبًا . « عبس : ٢٤ ـ ٢٨ ».

وقد فسر اللغويون صب الماء بالسكب ليكون مهيأً للشرب أو الإستفادة ، فيكون معنى أن الإمامعليه‌السلام هو العِلْمُ المصبوب : أنه صاحب عِلْمٍ رباني وافر متنوع ، مسكوب للناس ومهيأ لاستفادتهم ، في المكان المناسب ، والقدر اللازم لحاجتهم.

فالتعبير بالصب يشير الى أن مصدر العلم هو الله تعالى ، ويشير الى الحكمة في تيسيره. والتعبير بأن الإمام هو العلم يشير الى كثرة علمه ودوامه كما تقول : زيدٌ عدلٌ ، أي شديد العدالة دائمها.

كما أن العلم المصبوب يقابل العلم المخزون أوالمكتوم ، ويدل على أن المهدي يتميز عن المعصومين الذين أمروا أن يكتموا بعض علمهم.

٩٨

الإمام المهدي غوث الأمة والعالم

عرَّفوا الغوث بأنه : نصرة المضطر عند الشدة. « مقاييس اللغة : ٤ / ٤٠٠ ». ومعناه أن الله تعالى يُغيث العباد بالإمام المهديعليه‌السلام ، فيخلصهم من شدائدهم التي تورطوا فيها.

وفي حديث عقد الددر للسلمي / ٩٠ ، عن عليعليه‌السلام قال : « فيأمر الله عز وجل جبريلعليه‌السلام فيصيح على سور مسجد دمشق : ألا قد جاءكم الغوث يا أمة محمد ، قد جاءكم الغوث يا أمة محمد ، قد جاءكم الفرج ، وهو المهدي ، خارجٌ من مكة فأجيبوه ».

وقد وردت الإستغاثة به بعد زيارتهعليه‌السلام : « يا مولاي يا صاحب الزمان ، الغوثَ الغوثَ الغوث ، أدركني أدركني أدركني ». « مزار المشهدي / ٥٩١ ».

وفي نسخة : الأَمَانَ الأَمَانَ الأَمَانَ. السَّاعَةَ السَّاعَةَ السَّاعَةَ ، الْعَجَلَ الْعَجَلَ الْعَجَلَ.

أما المتصوفة فقد صادروا لقب الغوث ، وسموا به رئيسهم!

ففي تهذيب ابن عساكر « ١ / ٦٢ » : « النقباء ثلاث مائة والنجباء سبعون ، والبدلاء أربعون ، والأخيار سبعة ، والعمد أربعة ، والغوث واحد ، فمسكن النقباء المغرب ، ومسكن النجباء مصر ، ومسكن الأبدال الشام ، والأخيار سياحون في الأرض ، والعُمُد في زوايا الأرض. ومسكن الغوث

٩٩

مكة ، فإذا عرضت الحاجة من أمر العامة ابتهل فيها النقباء ، ثم النجباء ، ثم الأبدال ثم الأخيار ، ثم العُمُد ، فإن أجيبوا وإلا ابتهل الغوث ، فلا تتم مسألته حتى تجاب دعوته ».

أقول : هذه المناصب افتراضية منهم ، وكذلك ما زعموه للغوث ، وقد يسمونه القطب ، وقولهم إنه لا ترد له دعوة تعني أنه معصوم!

الإمام المهدي : الرحمة الواسعة

قد يقال كيف يوصف الإمام المهديعليه‌السلام بأنه الرحمة الواسعة ، وهو النقمة الإلهية من الظالمين والعصاة؟

ففي الكافي « ٨ / ٢٣٣ » عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : « إذا تمنى أحدكم القائم فليتمنه في عافية ، فإن الله بعث محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله ويبعث القائم نقمة ».

وفي البحار « ٦٠ / ٢١٣ » عن تاريخ قم ، عن الإمام الصادق عليه‌السلام : « ثم يظهر القائم ويصير سبباً لنقمة الله وسخطه على العباد ، لأن الله لا ينتقم من العباد إلا بعد إنكارهم حجة »

فهو الغضب الرباني والنقمة ، فكيف يكون الرحمة الواسعة؟

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136