الدعاء المعاني والصيغ والأنواع

مؤلف: الدكتور محمد محمود عبّود زوين
تصنيف: متون الأدعية والزيارات
الصفحات: 137
مؤلف: الدكتور محمد محمود عبّود زوين
تصنيف: متون الأدعية والزيارات
الصفحات: 137
والشرب وغيرهما من متطلبات الجسد وقد وضع (جيهاردت) الألماني كتاباً في تقوية الإرادة، جعل أساسه الصوم، وذهب إلى أنّ الصوم هو الوسيلة الفعّالة لسلطان الروح على الجسد، وأنّ الإنسان يعيش مالكاً زمام نفسه وليس أسيراً لميوله المادية.
هذه بعض حكم وفوائد الصوم، وقد أدلى الإمامعليهالسلام بالكثير من فوائده.
قالعليهالسلام : (فإن قال قائل: فلم جعل الصوم في (شهر رمضان) خاصة دون سائر الشهور؟
قيل: لأنّ (شهر رمضان) هو الشهر الذي أنزل الله تعالى فيه القرآن، وفيه فرّق بين الحق والباطل، كما قال الله عزّ وجل:( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ) (1) .
وفيه نبّئ محمدصلىاللهعليهوآله ، وفيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر وفيها يفرق كل أمر حكيم، وهو رأس السنة يقدّر فيها ما يكون في السنة من خير أو شر أو ضر أو منفعة أو رزق أو أجل؛ ولذلك سميت ليلة القدر).
ولهذه الحكم فرض الله تعالى الصوم في هذا الشهر المبارك وميّزهعلى بقية الشهور.
قالعليهالسلام : (فإن قال قائل: فلم أمروا بصوم (شهر رمضان) لا أقل من ذلك ولا أكثر؟
قيل: لأنّه قوة العبادة الذي يعم فيها القوي والضعيف وإنّما أوجب الله الفرايض على أغلب الأشياء وأعم القوي ثم رخص لأهل الضعف ورغب أهل القوّة في الفضل ولو كانوا يصلحون على أقل من ذلك لنقصهم ولو احتاجوا إلى أكثر من ذلك لزادهم).
إنّ حكمة الله تعالى وتدبيره للأشياء اقتضت أن تكون مصلحة العباد صيام
____________________
(1) سورة البقرة آية 185.
ثلاثين يوماً ولو كانت المصلحة أقل من ذلك لنقصهم، كما أنّ المصلحة لو كانت أكثر لزوّدهم عليه.
قالعليهالسلام : (فإن قال قائل: فلم إذا حاضت المرأة لا تصوم ولا تصلّي؟
قيل: لأنّها في حد نجاسة(1) فأحب الله أن لا تعبده إلاّ طاهرة ولأنّه لا صوم لـمَن لا صلاة له).
ولهذه الجهة فقد سقط الصوم والصلاة عن الحائض إلاّ أنّها تقضي الصوم دون الصلاة إذا طهرت من الحيض.
قال عليهالسلام : (فلم صارت تقضي الصوم، ولا تقضي الصلاة؟
قيل لعلل شتّى: فمنها أنّ الصيام لا يمنعها من خدمة نفسها وخدمة زوجها وإصلاح بيتها والقيام بأمرها، والاشتغال بمرمة معيشتها والصلاة تمنعها من ذلك كله لان الصلاة تكون في اليوم والليلة مرارا فلا تقوى على ذلك والصوم ليس كذلك.
ومنها: أنّ الصلاة فيها عناء وتعب واشتغال الأركان وليس في الصوم شيء من ذلك وإنّما هو الإمساك عن الطعام والشراب وليس فيه اشتغال الأركان.
ومنها: أنّه ليس من وقت يجيء إلاّ عليها صلاة جديدة في يومها وليلتها وليس الصوم كذلك؛ لأنّه ليس كلّما حدث يوم وجب عليها الصوم وكلّما حدث وقت الصلاة وجبت عليها الصلاة).
ولهذه العلل الوثيقة فقد أسقط الشارع الصلاة عن الحائض قضاءً؛ لأنّ في الإتيان بها مشقّة وجهداً على المرأة بخلاف الصوم فإنّ قضاءه ليس فيه جهد
وحرج عليها.
____________________
(1) لعلّ الصحيح في حال نجاسة.
قالعليهالسلام : (فإن قال قائل: إذا مرض الرجل أو سافر في شهر رمضان فلم يخرج من سفره، أو لم يفق من مرضه حتى يدخل عليه (شهر رمضان) آخر وجب عليه الفداء للأول وسقط القضاء فإذا أفاق بينهما أو أقام ولم يقضه وجب عليه القضاء والفداء؟
قيل: لأنّ ذلك الصوم إنّما وجب عليه في تلك السنة في ذلك الشهر، فأمّا الذي لم يفق فإنّه لما أن مرت عليه السنة كلها، وقد غلب الله تعالى عليه فلم يجعل له السبيل إلى أدائه، سقط عنه، وكذلك كلما غلب الله عليه مثل المغمى عليه الذي يغمى عليه يوماً وليلة فلا يجب عليه قضاء الصلاة، كما قال الصادقعليهالسلام : كلما غلب الله عليه العبد فهو أعذر له؛ لأنّه دخل الشهر وهو مريض فلا يجب عليه الصوم في شهره ولا سنته للمرض الذي كان فيه ووجب عليه الفداء؛ لأنّه بمنزلة مَن وجب عليه صوم فلم يستطع أداءه فوجب عليه الفداء كما قال الله عزّ وجل:( فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ) (1) ، وكما قال الله عزّ وجل:( فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) (2) فأقام الصدقة مقام الصيام إذا عسر عليه...).
عرض الإمامعليهالسلام إلى المريض إذا استمرّ به المرض من رمضان إلى رمضان الآخر ولم يبرأ فإنّه لا قضاء عليه، وإنّما تجب عليه الفدية والسبب في ذلك أنّه لا تكليف له بالقضاء لمرضه، وأمّا مَن برأ في أثناء السنة ولم يصم ما عليه فإنّه يجب عليه القضاء؛ وذلك لتمكّنه كما تجب عليه الفدية، وعقّب الإمام على ذلك بقوله: (فإن قال قائل: فإن لم يستطع إذ ذاك فهو الآن يستطيع؟
قيل له: إنّه لـمّا دخل عليه شهر رمضان آخر وجب عليه الفداء للماضين؛ لأنّه كان بمنزلة مَن وجب عليه صوم في كفّارة فلم يستطعه فوجب عليه الفداء، وإذا وجب الفداء سقط الصوم والصوم ساقط والفداء لازم، فإن أفاق فيما بينهما ولم يصمه وجب عليه الفداء لتضييعه والصوم لاستطاعته).
____________________
(1) سورة المجادلة: آية 4.
(2) سورة البقرة: آية 196.
قال عليهالسلام : (فلم وجب في الكفّارة على مَن لم يجد تحرير رقبة الصيام دون الحج والصلاة وغيرهما؟
قيل: لأنّ الصلاة والحج وسائر الفرائض مانعة للإنسان من التقلّب في أمر دنياه ومصلحة معيشته مع تلك العلل التي ذكرناها في الحائض التي تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة).
ولهذه العلل فقد جعل الشارع الصيام بدلاً من تحرير الرقبة، ولم يجعل الصلاة والحج وغيرها عوضاً عنها؛ لأنّ لازم ذلك تعطيل الأعمال وعدم استطاعة الإنسان على تحصيل معاشه.
قال عليهالسلام : (فإن قال قائل: فلم وجب عليه صوم شهرين متتابعين دون أن يجب عليه شهراً واحداً أو ثلاثة أشهر؟
قيل: لأنّ الفرض الذي فرض الله على الخلق وهو شهر واحد فضوعف في هذا الشهر في كفارته توكيداً وتغليظاً عليه).
قالعليهالسلام : (فلم جعلا متتابعين؟
قيل: لئلاّ يهون عليه الأداء فيستخف به لأنّه إذا قضاه متفرقاً هان عليه القضاء).
إنّ التتابع في صيام الشهرين إنّما هو عقوبة لـمَن أفطر متعمّداً منتهكاً حرمات الله تعالى فشدّد عليه تعالى بذلك.
وتحدث الإمام عن العلّة في تشريع الحج وعلل بعض الأحكام المتصلة به.
قالعليهالسلام : (فإن قال قائل: فلم أمر بالحج؟
قيل: لعلّة الوفادة إلى الله عزّ وجل وطلب الزيادة والخروج من كل ما اقترف العبد تائباً ممّا مضى مستأنفاً لما يستقبل مع ما فيه من إخراج الأموال، وتعب الأبدان والاشتغال عن الأهل والولد وحظر الأنفس عن اللذات، شاخص في الحر والبرد ثابت ذلك عليه دايم مع الخضوع والاستكانة والتذلّل مع ما في ذلك لجميع الخلق من المنافع في شرق الأرض وغربها ومن في البرد والحر(1) ممّن يحج وممّن لا يحج من بين تاجر وجالب وبائع ومشتري وكاسب ومسكين ومكار وفقير، وقضاء حوائج أهل الأطراف في المواضع الممكن لهم الاجتماع فيها من النفقة ونقل أخبار الأئمةعليهمالسلام إلى كل صقع وناحية كما قال الله تعالى:( فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (2) .
الحج مؤتمر عام يهدف إلى غايات عظيمة ومنافع مهمّة تعود بالخير العميم على العالم الإسلامي، وقد أدلى الإمام الرضاعليهالسلام ببعضها، ولو أردنا أن نستقصي ثمرات الحج وفوائده لضاق بنا المجال وأهم ما فيه تعارف الشعوب الإسلامية بعضها بحاجات البعض منها؛ وذلك للوصول إلى مستوى رفيع بين شعوب العالم وأُمم الأرض، ومضافاً لذلك هي الناحية الاقتصادية فإن لكل شعب من الشعوب الإسلامية صناعات ومنتوجات لا توجد في غيرها وبواسطة الحج يمكن إبرام اتفاقات تجارية فيما بينها لتبادلها.
وعلى أي حال فالحج يرمز إلى رفع مستوى الحياة الفكرية والعملية والاقتصادية للمسلمين، ولا يضاهيه أي مؤتمر من مؤتمرات الدول العالمية.
قالعليهالسلام : (فإن قال قائل: فلم أمروا بحجّة واحدة لا أكثر من ذلك؟
قيل له: لأنّ الله تعالى وضع الفرايض على أدنى القوم مرة كما قال الله عزّ وجل:( فما استيسر من الهدي ) يعني شاة؛ ليسع له القوي والضعيف، وكذلك سائر الفرائض إنّما وضعت على أدنى القوم قوّة فكان من تلك الفرائض الحج
____________________
(1) لعلّ الصحيح: في البر والبحر.
(2) سورة التوبة: آية 122.
المفروض واحداً، ثم رغب بعد أهل القوّة بقدر طاقتهم).
حجّة الإسلام إنّما تجب على المسلم مرة واحدة ولم يفرض فيها التعدد للحكمة التي أدلى بها الإمامعليهالسلام ، وهي أنّ الإسلام قد وضع تكاليفه وأحكامه على أدنى الناس قوّة وأدناهم قوّة في البدن والمال لا يتمكن الحج أكثر من مرة واحدة.
فلذا وجب على الجميع مرة واحدة، نعم قد يجب الحج بالنذر وشبهه وبالإجارة، وغير ذلك ممّا ذكره الفقهاء.
قالعليهالسلام : (فإن قال قائل: فلم أمروا بالإحرام؟
قيل: لأن يخشعوا قبل دخول حرم الله عزّ وجل وأمنه ولئلاّ يلهوا ويشتغلوا بشيء من أمر الدنيا وزينتها، ويكونوا جادين فيما بينهم قاصدين نحوه مقبلين عليه بكليتهم مع ما فيه من التعظيم لله تعالى ولبيته، والتذلّل لأنفسهم عند قصدهم إلى الله تعالى ووفادتهم إليه راجين ثوابه راهبين من عقابه ماضين نحوه مقبلين إليه بالذل والاستكانة والخضوع).
إنّ الحاج إذا أحرم للحج أو للعمرة فيجب عليه أن يبتعد عن شهوات نفسه وملذّاتها، ويخرج عن مألوفاتها فتحرم عليه وسائل الرفاهية والزينة من النساء ولبس المخيط والطيب وحلق شعر رأسه ويجتنب هجر الكلام ومره فلا جدال ولا فسوق في الحج.
إنّ الإحرام رياضة للنفس على احتمال المشاق والمكروه وفيها من التعظيم لله تعالى، وإذلال النفس أمامه، إلى غير ذلك من الحكم التي ذكرها الإمامعليهالسلام .
قالعليهالسلام فيما كتبه لمحمد بن سنان: (وعلّة الطواف بالبيت إن الله تبارك وتعالى قال للملائكة:( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ) فردوا على الله تعالى بهذا الجواب فندموا ولاذوا بالعرش واستغفروا فأحب الله عزّ وجل أن يتعبد بمثل تلك العبادة فوضع في السماء الرابعة
بيتاً بحذاء العرش يسمى الضراح ثم وضع في السماء الدنيا بيتا يسمى (المعمور) بحذاء البيت المعمور، ثم أمر آدم فطاف به فتاب الله عزّ وجل عليه وجرى ذلك في ولده إلى يوم القيامة).
إنّ الطواف حول الكعبة المقدسة فيه من الدروس الرفيعة التي منها: أنّه تخليد لذلك المكان العظيم الذي بناه شيخ الأنبياء إبراهيمعليهالسلام لعبادة الله الواحد القهّار في وقت لم يكن هناك بيت للعبادة سواه، ومنها: أنّ الطواف معراج للمؤمن كالصلاة ففيه سمو للروح واتصال بالخالق العظيم، إلى غير ذلك من الثمرات والفوائد.
قالعليهالسلام : (وعلّة استلام الحجر: أنّ الله تبارك وتعالى لـمّا أخذ ميثاق بني آدم ألقمه الحجر، فمن ثمّ كلف الناس تعاهد ذلك الميثاق، ومن ثمّ يقال: عند الحجر أمانتي أديتها وميثاق تعاهدته لتشهد لي بالموافاة، ومنه قول سلمان ليجيء الحجر يوم القيامة مثل أبي قبيس له لسان وشفتان يشهد لـمَن وافاه بالموافاة).
لقد تحدث الإمامعليهالسلام عن الحكمة في استلام الحجر الأسود الذي هو موضع تقديس وتعظيم عند المسلمين، فقد كرّمه الرسولصلىاللهعليهوآله وقبّله، وممّا لا شبهة أنّ ذلك ينم عن سمو هذا الحجر الذي يشهد لـمَن وافاه يوم القيامة بالموافاة له.
قالعليهالسلام : (فإن قال قائل: فلم جعل وقتها عشر ذي الحجّة؟
قيل: لأنّ الله تعالى أحب أن يعبد بهذه العبادة أيام التشريق، وكان أوّل ما حجّت إليه الملائكة وطافت به في هذا الوقت فجعله سنة ووقتاً إلى يوم القيامة فأمّا النبيون: آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلّى الله عليه وعليهم أجمعين وغيرهم من الأنبياء إنّما حجّوا في هذا الوقت فجعلت سنّة في أولادهم إلى يوم القيامة).
ولهذه الأسباب فقد جعل الحج في هذا الوقت المبارك دون غيره.
ومن الجدير بالذكر أن نختم هذا البحث عن الحج بكلمة للدكتور فيليب حتى قال: (ولا يزال الحج على كرّ العصور نظاماً لا يبارى في تشديد عرى التفاهم الإسلامي والتأليف بين مختلف طبقات المسلمين وبفضله يتسنّى لكل مسلم أن يكون رحّالة مرة في حياته على الأقل، وأن يجتمع مع غيره من المؤمنين اجتماعاً أخويّاً ويوحد شعوره مع شعور مَن سواه من القادمين من أطراف الأرض، وبفضل هذا النظام يتيسّر للزنوج والبربر والصينيين والفرس والترك والعرب وغيرهم - أغنياء كانوا أم فقراء عظماء أم صعاليك - أن يتآلفوا لغةً وإيماناً وعقيدةً، وقد أدرك الإسلام نجاحاً لم يتفق لدين آخر من أديان العالم في القضاء على فوارق الجنس واللون والقومية خاصةً بين أبنائه؛ فهو لا يعترف بفاصل بين أفراد البشر إلاّ الذي يقوم بين المؤمنين وبين غير المؤمنين، ولا شك أن الاجتماع في مواسم الحج أدّى خدمة كبرى في هذا السبيل)(1) .
قالعليهالسلام : فيما كتبه لمحمد بن سنان عن أجوبة مسائله في علل الأحكام قال:
(وعلّة الزكاة من أجل قوت الفقراء وتحصين أموال الأغنياء لأنّ الله تبارك وتعالى كلّف أهل الصحّة القيام بشأن أهل الزمانة - وهم المرضى - والبلوى كما قال الله تعالى:( لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ) (2) في أموالكم بإخراج الزكاة وفي أنفسكم بتوطين الأنفس على الصبر، مع ما في ذلك من أداء شكر نعم الله عزّ وجل، والطمع في الزيادة مع ما فيه من الرأفة والرحمة لأهل الضعف والعطف على أهل المسكنة، والحث لهم على المواساة، وتقوية الفقراء، والمعونة على أمر الدين، وهم عظة لأهل الغنى وعبرة لهم؛ ليستدلوا على فقراء الآخرة بهم، وما لهم من الحث في ذلك على الشكر لله تبارك وتعالى لما خولهم وأعطاهم، والدعاء والتضرّع والخوف من أن يصيروا مثلهم في أمور كثيرة في أداء الزكاة والصدقات، وصلة الأرحام،
____________________
(1) تأريخ العرب 1 / 187 ط 2.
(2) سورة آل عمران: آية 186.
واصطناع المعروف).
الزكاة نظام اجتماعي خلاّق يحفظ التوازن بين طبقات الأُمّة، ويقضى على داء الفقر الذي هو مأوى لكل جريمة ففي البيئات التي يشيع الفقر فيها تروّج المذاهب المتطرفة وتستحل الأعمال الوحشية.
إنّ الزكاة تطهّر النفوس من البخل والقسوة والأثرة والطمع، وغير ذلك من أرجاس الرذائل الاجتماعية التي تبعث على الفتن والكراهية والعدوان... وقد تحدث الإمامعليهالسلام عن ثمراتها ومصالحها التي تعود على المجتمع بالخير العميم.
وأدلى الإمامعليهالسلام بالعلل التي من أجلها حُرّمت بعض الأعمال في الإسلام ذلك فيما كتبه إلى محمد بن سنان عن أجوبة مسائله وهي:
1 - قتل النفس:
قالعليهالسلام : (وحرّم الله قتل النفس لعلّة فساد الخلق في تحليله لو أحل وفنائهم وفساد التدبير).
تعتبر جريمة القتل العمد من أخطر الجرائم وأشدّها إخلالاً بالأمن وقد حرّمه الإسلام وشدّد في العقوبة على الجاني قال تعالى:( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ ) (1) ولو حلّت هذه الجريمة لأوجبت فساد الخلق وفناءهم.
2 - عقوق الوالدين:
قالعليهالسلام : (وحرّم الله عقوق الوالدين لما فيه من الخروج عن التوقير...).
إنّ الله تعالى قرن حقوق الوالدين بحقوقه وطاعتهما بطاعته، وإنّ من أفحش المحرّمات عقوقهما والتنكّر لما أسدياه على الولد من ألوان البر والإحسان.
3 - الزنا:
قالعليهالسلام : (وحرّم الزنا لما فيه من الفساد من قتل الأنفس وذهاب الأنساب وترك التربية للأطفال، وما أشبه ذلك من وجوه الفساد).
____________________
(1) سورة البقرة: آية 179.
الزنا من أفحش ألوان الرذائل ووصفه القرآن بالفاحشة قال تعالى:( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً ) (1) .
والزاني يشكل جريمة على المجتمع الإنساني؛ لأنّه إن نشأ منه طفل فإنّه ينشأ بلا أب يرعاه ويصاب بالعقد النفسية، ويقترف أفظع الجرائم، بالإضافة إلى إضاعة الأنساب، بينما الزواج ناموس طبيعي يفرض على المرء أن يبذل حياته لتربية أطفاله تربية صالحة ليكونوا قرّة عينٍ له.
قالعليهالسلام : (وعلة ضرب الزاني على جسده بأشد الضرب لمباشرته الزنا واستلذاذ كله به فجعل الضرب عقوبة له وعبرة لغيره وهو أعظم الجنايات).
وكان من محاسن التشريع الإسلامي أن شرع العقوبات الصارمة لهذه الرذيلة وهي مائة جلدة لغير المحصن والرجم للمحصن قال تعالى:( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) (2).
قالعليهالسلام : (والعلّة في شهادة أربعة - أي الشهود - في الزنا واثنين في سائر الحقوق لشدة حد المحصن؛ لأنّ فيه القتل فجعلت الشهادة فيه مضاعفة لما فيه من قتل نفسه وذهاب نسب ولده ولفساد الميراث).
إنّ عقوبة الزنا لا تثبت إلاّ بأربعة شهود عدول يرون حقيقة الزنا بالمشاهدة ولا بد أن يشهدوا جميعاً، فإذا تخلّف واحد منهم تعرض الثلاثة الباقون لعقوبة
القذف والحكمة في هذا التشديد لئلاّ يتجرّأ الناس على اتهام بعضهم بعضاً دون مبالاة.
____________________
(1) سورة الإسراء: آية 32.
(2) سورة النور: آية 2.
4 - اللواط والمساحقة:
قالعليهالسلام : (وعلّة تحريم الذكران للذكران والإناث بالإناث لما ركب في الإناث، وما طبع عليه الذكران، ولما في إتيان الذكران الذكران والإناث الإناث من انقطاع النسل وفساد التدبير وخراب الدنيا).
أمّا اللواط فإنّه من الجرائم الخُلُقية، وفيه خروج عن سنن الطبيعة، وقد سمّاه الله تعالى بالفاحشة قال تعالى:( وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ) (1) .
وعقوبة اللواط القتل؛ لأنّ في هذه الجريمة إضاعة الأنساب وخراب الدنيا كما قال الإمامعليهالسلام .
وأمّا المساحقة فإنّها من الرذائل الخلقية، وفيها شذوذ عن سنّة الله تعالى وخروج عن طبيعة الإنسان.
5 - النظر إلى شعور النساء:
قالعليهالسلام : وحرّم النظر إلى شعور النساء المحجوبات بالأزواج والى غيرهن من النساء؛ لما فيه من تهيج الرجال، وما يدعو التهييج إليه من الفساد والدخول فيما لا يحل، ولا يحل، وكذلك ما أشبه الشعور إلاّ الذي قال الله تعالى:( وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ ) (2) .
أي غير الجلباب فلا بأس بالنظر إلى شعور مثلهن.
إنّ النظر إلى شعر المرأة وزينتها يكهرب الرجل ويدفعه إلى اقتراف الحرام، أمّا النظر إلى شعر العجائز الطاعنات في السن فإنّه لا يبعث غراماً ولا يولّد شهوة؛ فلذا أباحه الإسلام.
6 - الربا:
وعرض الإمامعليهالسلام إلى بيان الأسباب والعلل في تحريم الربا؛ وذلك في عدة بيانات وهي:
____________________
(1) سورة العنكبوت: آية 28.
(2) سورة النور: آية 60.
أ - قالعليهالسلام : (وعلّة تحريم الربا: إنّما نهى الله عنه لما فيه من فساد الأموال؛ لأنّ الإنسان إذا اشترى الدرهم بالدرهمين كان ثمن الدرهم درهماً وثمن الآخر باطلاً فبيع الربا وكس على كل حال على المشتري وعلى البايع فحرّم الله تبارك وتعالى الربا لعلة فساد الأموال كما حظر عل السفيه أن يدفع ماله إليه لما يتخوف عليه من إفساده حتى يؤنس منه رشده فلهذه العلّة حرم الله الربا وبيع الدرهمين يداً بيد).
ب - قالعليهالسلام : (وعلّة تحريم الربا بعد البينة لما فيه من الاستخفاف بالحرام المحرم وهي كبيرة بعد البيان، وتحريم الله تعالى لها، ولم يكن ذلك منه - أي من المرابي - إلاّ استخفاف بالتحريم للحرام والاستخفاف بذلك دخول في الكفر).
ج - قالعليهالسلام : (وعلّة تحريم الربا بالنسيئة لعلّة ذهاب المعروف وتلف الأموال، ورغبة الناس في الربح، وتركهم القرض والفرض، وصنايع المعروف، ولما في ذلك من الفساد والظلم وفناء الأموال).
حرّم الإسلام تحريماً شاملاً الربا واعتبره من أفحش أنواع الظلم وهو يتنافى مع تعاليم الإسلام التي تدعو إلى المعونة والمساعدة والرحمة، والربا يسبب العداوة والبغضاء، وينشر البؤس والفقر بين الناس.
إنّ الربا يؤدّي إلى وجود طبقة رأسمالية في المجتمع تتضخم عندها الأموال وهي لا تعمل ولا تبذل جهداً في الحركة الاقتصادية.
وقد ثبت أنّ الربا وسيلة لاستعمار الشعوب واحتلالها، فالحكومات التي تستقرض تتضاعف عليها الفوائد فتعجز عن تسديدها وتقع بذلك تحت شبكة الاستعمار الذي ينهب الثروات ويترك البؤس شائعاً في البلاد.
وجاء تحريم الربا في القرآن تحريماً قاطعاً، قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً ) (1) ، وقال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ) (2) .
____________________
(1) سورة آل عمران: آية 130 - 131.
(2) سورة البقرة: آية 278.
وقد لعن الإسلام صاحب رأس المال والمدين والكاتب والشاهد؛ لأنّهما أعانا على ما نهى الله عنه.
7 - أكل مال اليتيم:
قالعليهالسلام : (وحرم أكل مال اليتيم ظلماً لعلل كثيرة من وجوه الفساد أول ذلك أنّه إذا أكل الإنسان مال اليتيم ظلماً فقد أعان على قتله؛ إذ اليتيم غير مستغن، ولا محتمل لنفسه ولا علم بشأنه، ولا له مَن يقوم عليه ويكفيه كقيام والديه فإذا أكل ماله فكأنّه قد قتله وصيّره إلى الفقر والفاقة مع ما خوف الله عزّ وجل، وجعل من العقوبة في قوله عزّ وجل:( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ ) (1) .
ولقول أبي جعفرعليهالسلام : (إنّ الله عزّ وجل وعد في أكل مال اليتيم عقوبتين: عقوبة في الدنيا، وعقوبة في الآخرة ففي تحريم مال اليتيم استبقاء اليتيم واستقلاله بنفسه والسلامة للعقب أن يصيبه ما أصابه لما وعد الله فيه من العقوبة، مع ما في ذلك من طلب اليتيم بثأره إذا أدرك ووقوع الشحناء والعداوة والبغضاء حتى يتفانوا).
لقد شدّد الإسلام في تحريم أكل مال اليتيم وأمر بصيانة أمواله والمحافظة عليها حتى يبلغ، قال تعالى:( وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ) (2) .
وقد أدلى الإمامعليهالسلام بالأسباب الناجمة عن حرمة أكل مال اليتيم.
8 - السرقة:
قالعليهالسلام : (وحرمة السرقة لما فيه من فساد الأموال، وقتل الأنفس لو كانت مباحة، ولما تأتي في التغاصب من القتل والتنازع والتحاسد، وما يدعو إلى ترك التجارات والصناعات في المكاسب واقتناء الأموال إذا كان الشيء المقتنى لا يكون أحد أحق به من أحد).
____________________
(1) سورة النساء: آية 9.
(2) سورة النساء: آية 6.
أمّا السرقة فهي من أفحش المحرّمات؛ لأنّها أكل لأموال الناس بغير حق فالسارق يأخذ مال الغير الذي أفنى عمره في تحصيله ويترك شبح الفاقة جاثماً عليه، وينعم هو بما سرقه منه وهو من أسوأ ألوان الظلم، وقد جعل الشارع العظيم عقوبة السارق قطع اليد قال تعالى:( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا ) (1).
ويشترط في السرقة التي توجب قطع اليد عدّة شروط ذكرها الفقهاء، فإذا توفّرت فتقطع يد السارق.
قطع يد السارق اليمنى:
قالعليهالسلام : (وعلّة قطع اليمين من السارق، ولأنّه يباشر الأشياء بيمينه، وهي أفضل أعضائه وأنفعها له، فجعل قطعها نكالاً وعبرة للخلق لئلاّ يبغوا أخذ الأموال من غير حلّها، ولأنّه أكثر ما يباشر السرقة بيمينه.
وحرم غصب الأموال وأخذها من غير حلّها لما فيه من أنواع الفساد، والفساد محرم لما فيه من الفناء وغير ذلك من وجوه الفساد).
ولهذه الأسباب الوثيقة التي أدلى بها الإمامعليهالسلام فقد أمر الإسلام بقطع يد السارق اليمنى دون اليسرى.
9 - الخمر:
قالعليهالسلام : (حرّم الله الخمر لما فيها من الفساد، ومن تغييرها عقول شاربيها وحملها إيّاهم على إنكار الله عزّ وجل، والفرية عليه وعلى رسله وساير ما يكون منهم من الفساد والقتل والقذف والزنا وقلّة الاحتجاز من شيء من الحرام؛ فبذلك قضينا على كل مسكر من الأشربة أنّه حرام محرّم لأنّه يأتي من عاقبتها ما يأتي من عاقبة الخمر فليجتنبه مَن يؤمن بالله واليوم الآخر ويتولاّنا وينتحل مودّتنا فإنّه لا عصمة بيننا وبين شاربيها).
أمّا مضار الخمر على الإنسان وعلى المجتمع فهي كثيرة لا تحصى، وقد حرّمها
____________________
(1) سورة المائدة: آية 38.
الإسلام تحريما باتّاً، قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ (1) وَالأَنْصَابُ (2) والأزلام (3) رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ ) (4) .
إنّ الخمر سبب لكل رذيلة ومنشأ لارتكاب كل منكر، وأنّ كثيراً من حوادث الزنا والسرقة وغيرهما من الجرائم تنشأ من الخمر، مضافاً إلى تدميره لصحّة الإنسان فإنّ الكحول التي فيها تتسرب إلى دم الإنسان حتى أنّه لو أخذ مقدار من دم السكران فإنّه يحترق كما يحترق السبيرتو، مضافاً إلى ما يسبّبه من التهاب الجهاز الهضمي وارتفاع الضغط الدموي، وغير ذلك، وقد ذكرنا أضراره الصحيّة في كتابنا(العمل وحقوق العامل في الإسلام) .
10 - الميتة:
قالعليهالسلام : (وحرّمت الميتة لما فيها من فساد الأبدان والآفة الخ...).
أمّا أكل الميتة فهو يسبب كثيراً من الأمراض، وربّما أدّى الأكل منها إلى الوفاة (5) فإنّ الجراثيم لا تزال ملازمة لها، وإن تعقيم لحم الميتة بطريق النار لا يجدي شيئاً، كما نصّ على ذلك الطب الحديث.
11 - الدم:
قالعليهالسلام : (وحرّم الله عزّ وجل الدم كتحريم الميتة لما فيه من فساد الأبدان؛ ولأنّه يورث الماء الأصفر، ويبخر الفم، وينتن الريح، ويسيء الخُلُق، ويورث القسوة للقلب، وقلّة الرأفة والرحمة حتى لا يؤمن أن يقتل والده وصاحبه).
وحرم الإسلام شرب الدم؛ لأنّه يحمل إفرازات وسموماً قاتلة، أمّا إذا أخذ من دم حيوان مريض فإنّ الجراثيم التي فيه تنتقل إلى مَن يتناوله، وبإجماع الأطباء أنّ الدم لا يعتبر غذاءً مطلقاً.
____________________
(1) الميسر: هو القمار.
(2) حجارة أو أصنام كان العرب يذبحون قرابينهم عندها.
(3) الأزلام: قطع من الخشب بهيئة السهام كانوا في الجاهلية يستقسمون بها لأجل التفاؤل والتشاؤم.
(4) سورة المائدة: آية 90.
(5) الإسلام والطب الحديث للدكتور عبد العزيز إسماعيل (ص 17).
12 - الطحال:
قالعليهالسلام : (وحرم الطحال؛ لما فيه من الدم، ولأنّ علته وعلّة الدم والميتة واحدة؛ لأنّه يجرى مجراها في الفساد).
أمّا الطحال فقد حرمه الإسلام واعتبره كالدم والميتة؛ وذلك لما يترتب على تناوله من الأضرار والمفاسد لجسم الإنسان كما أفاد الإمامعليهالسلام .
13 - الخنزير والقرد:
قالعليهالسلام : (وحرم الخنزير؛ لأنّه مشوّه، جعله الله عزّ وجل عظة للخلق وعبرة وتخويفاً ودليلاً على ما مسخ على خلقته، ولأنّ غذاءه أقذر الأقذار مع علل كثيرة.
وكذلك حرم القرد؛ لأنه مسخ مثل الخنزير، وجعل عظة وعبرة للخلق ودليلاً على ما مسخ على خلقته وصورته، وجعل فيه شبهاً من الإنسان ليدل على أنّه من الخلق المغضوب عليهم).
لقد حرم الإسلام لحم الخنزير، وقد أنقذ المسلمين بذلك من شر عظيم يقول بيتي وديسكون: إنّ الإصابة بدودة لحم الخنزير تكاد تكون عامة في جهات خاصة من (فرنسا) و (ألمانيا) و (وإيطاليا) و (بريطانيا)، ولكنّها تكاد تكون نادرة الوجود في البلاد الشرقية؛ لتحريم دين أهلها أكل لحم الخنزير، وينقل لحم الخنزير كذلك مرض (الترنجينا) للإنسان.
وفيما يلي بعض الحقائق عن لحم الخنزير ومدى خطورته:
أ - لا يمكن للطبيب الأخصائي أن يقرّر أنّ خنزيراً غير مصاب بهذه الديدان بل أنّ جميعها مصابة بها.
ب - إنّ الأنثى الواحدة من هذه الديدان تضع (1500 جنين) في الغشاء المخاطي المبطّن لأمعاء المصاب فتوزع الملايين المولودة من الإناث جميعاً بطريق الدورة الدموية وتبثها في جميع أجزاء الجسم وتتجمع الأجنة في العضلات.
فتسبّب آلاماً شديدة والتهابات عضلية مؤلمة جداً، ويصاب بعد ذلك بأورام خبيثة.
ج - أنّه لا يوجد علاج لهذا المرض، ومضافاً لذلك فإنّ لحم الخنزير ينقل للإنسان بعض الجراثيم العفنة (والبارا تيفود) وهي تسبب للإنسان تسمّماً حاداً مصحوباً بالتهابات شديدة في الجهاز الهضمي قد تسبب الوفاة في بضع ساعات(1) .
14 - الأرنب:
قالعليهالسلام : (وحرم الأرنب؛ لأنّها بمنزلة السنور ولها مخالب كمخالب السنّور وسباع الوحش فجرت مجراها مع قذرها في نفسها، وما يكون منها من الدم كما يكون من النساء؛ لأنّها مسخ).
أمّا الأرنب فحرام أكله، وقد ذكر الإمامعليهالسلام علل ذلك، ولكنّ بعض المذاهب الإسلامية لم تستقذره وأباحت أكله.
15 - سباع الطير والوحش:
قالعليهالسلام : (وحرم سباع الطير والوحش كلها لأكلها الجيف ولحوم الناس والعذرة وما أشبه ذلك؛ فجعل الله عزّ وجل دلائل ما يحل من الوحش والطير وما حرم كما قال أبيعليهالسلام : كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير حرام وكل ما كانت له قانصة من الطير فحلال.
وعلّة أخرى يفرق بين ما يحل من الطير وما حرم قولهعليهالسلام : كل ما دفّ ولا تأكل ما صف).
وحرم الإسلام سباع الطير: كالبازي والرخمة، وكذا يحرم من الطيور ما ليس له قانصة ولا حوصلة ولا صيصية وهي الشوكة خلف رجل الطائر خارجة عن الكف ويكفي وجود واحدة منها في حل الطير(2) .
وقد علّل الإمامعليهالسلام الحرمة بأنّها تأكل الجيف ولحوم الناس والعذرة، ويتأثّر لحمها بذلك، فلحومها غير صالحة لمعدة الإنسان.
16 - ما أهل به لغير الله:
قالعليهالسلام : (وحرم ما أُهلّ به لغير الله الذي أوجب الله عزّ وجل
____________________
(1) روح الدين الإسلامي (ص 405) ط الثالثة.
(2) منهاج الصالحين 2 / 274.
على خلقه من الإقرار به وذكر اسمه على الذبائح المحلّلة، ولئلاّ يسوى بين ما تقرب به إليه وبين ما جعل عبادة للشياطين، والأوثان؛ لأنّ في تسمية الله عزّ وجل الإقرار بربوبيته وتوحيده وما في الإهلال لغير الله من الشرك به والتقرّب به إلى غيره؛ ليكون ذكر الله وتسميته على الذبيحة فرقاً بين ما يحل الله وبين ما حرّم الله).
لقد حرّم ما أهل به لغير الله تعالى ممّا يتقرّب به إلى الأصنام والأوثان، وهو ما تعمله الجاهلية الأولى التي لا تملك وعياً ولا فكراً، فهي كالبهائم، وقد حرّم الإسلام ذبائحها استقذاراً لأفكارها وأعمالها وأنّ ذبائحهم غير نظيفة ولا صالحة للأكل.
قالعليهالسلام : (وكره أكل لحوم البغال والحمير الأهلية لحاجة الناس إلى ظهورها واستعمالها، والخوف من قلّتها، لا لقذر خلقتها، ولا لقذر غذائها).
لقد كره الإسلام أكل لحوم البغال والحمير الأهلية؛ وذلك لأنّهما من أهم وسائل النقل في تلك العصور، وذبحها ممّا يوجب الشحّة في وسائل النقل؛ فلذا كره الإسلام ذبحها، أمّا لحمها فهو صالح للأكل وليس فيه شيء ممّا يوجب الضرر بالصحّة العامّة.
قالعليهالسلام : (وعلّة تزويج الرجل أربعة نسوة وتحريم أن تتزوج المرأة أكثر من واحد؟
لأنّ الرجل إذا تزوّج أربع نسوة كان الولد منسوباً إليه، والمرأة لو كان لها زوجان وأكثر من ذلك لم يعرف الولد لـمَن هو؟ إذ هم مشتركون في نكاحها، وفي ذلك فساد الأنساب والمواريث والمعارف).
لقد بيّن الإمامعليهالسلام الحكمة في جواز زواج الرجل بأربع نساء دون المرأة، فليس لها ذلك، فإنّه لو أُبيح لها الزواج بأكثر من زوج واحد في زمان واحد فإنّ مَن يولد منها لـمَن يكون من الزوجين؟ وبذلك تضيع الأنساب وتفسد المواريث.
قالعليهالسلام : (وعلّة الطلاق ثلاثاً لما فيه من المهلة فيما بين الواحدة إلى الثلاث لرغبة تحدث أو سكون غضبه إن كان، وليكون ذلك تخويفاً وتأديباً للنساء وزجراً لهن عن معصية أزواجهن فاستحقّت المرأة الفرقة والمباينة لدخولها
فيما لا ينبغي معصية زوجها).
طلاق العدّة هو أن يطلق الرجل زوجته مع اجتماع الشرائط، ثم يراجع قبل خروجها من العدة فيواقعها، ثم يطلقها في طهر آخر فتحرم عليه حتى تنكح زوجاً آخر، وقد ذكر الإمامعليهالسلام الحكمة في هذا الطلاق وأسبابه.
قالعليهالسلام : (وعلّة تحريم المرأة بعد تسع تطليقات، فلا تحل له أبداً عقوبة لئلاّ يتلاعب بالطلاق، ولا يستضعف المرأة، وليكون ناظراً في أموره متيقظاً معتبراً، وليكون يأسا لهما من الاجتماع بعد تسع تطليقات).
المرأة إذا طُلّقت على النحو المذكور في المسألة السابقة فتزوّجها شخص ثم طلقها فتزوجها زوجها الأول فطلقها ثلاثاً، على النهج السابق، حرمت عليه حتى تنكح زوجاً آخر، فإذا تزوجها آخر وطلقها ثم تزوجها زوجها الأول فطلقها ثلاثاً على النهج السابق حرمت عليه مؤبّداً، وقد علّل الإمامعليهالسلام ذلك بما ذكره، وأمّا إذا كان الطلاق ليس عدياً فإنّها لا تحرم المطلقة مؤبّداً وإن زاد عدد الطلاق على التسع.
أما ميراث المرأة فإنّها ترث نصف ما يرث الرجل وقد عللعليهالسلام ذلك بتعليلين وهما:
الأول: قالعليهالسلام : (وعلّة إعطاء النساء نصف ما يعطي الرجال من الميراث؛ لأنّ المرأة إذا تزوّجت أخذت والرجل يعطي، فلذلك وفر على الرجال).
الثاني: قالعليهالسلام : (وعلّة أخرى في إعطاء الذكر مثلي ما تعطى الأنثى؛ لأنّ الأنثى في عيال الذكر إن احتاجت، وعليه أن يعولها، وعليه نفقتها، وليس على المرأة أن تعول الرجل، ولا يؤخذ بنفقته إن احتاج فوفر الله تعالى على الرجال لذلك، وذلك قول الله عزّ وجل:( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا ) (1) .
بما أنّ الرجل مسؤول عن الإنفاق على المرأة بما تحتاجه من المسكن والطعام
____________________
(1) سورة النساء: آية 234.
واللباس، وغير ذلك ممّا ذكره الفقهاء؛ فلذا كان ميراثها نصف ميراث الرجل كما أفاد الإمامعليهالسلام ، وبهذا ينتهي بنا الحديث عن علل بعض الأحكام التي أُثرت عن الإمامعليهالسلام .
وسُئل الإمامعليهالسلام عن علل أحوال بعض الأنبياء والأمم السالفة فأجاب وفيما يلي بعضها:
روى إبراهيم بن محمد الهمداني قال: قلت لأبي الحسن على بن موسى الرضاعليهالسلام : لأيّ علّة أغرق الله عزّ وجل فرعون، وقد آمن به وأقرّ بتوحيده؟
قالعليهالسلام : (لأنّه آمن عند رؤية البأس، والإيمان عند رؤية البأس غير مقبول؛ وذلك حكم الله تعالى في السلف والخلف، قال الله عزّ وجل: ( فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ) (1) وقال عزّ وجل: ( يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً ) (2) وهكذا فرعون لما أدركه الغرق قال: ( آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) فقيل له: ( آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ) (3) .
وقد كان فرعون من قرنه إلى قدمه في الحديد وقد لبسه على بدنه، فلمّا أغرق ألقاه الله على نجوة من الأرض ببدنه ليكون لـمَن بعده علامة، فيرونه مع ثقله بالحديد على مرتفع من الأرض وسبيل التثقيل أن يرسب ولا يرتفع وكان ذلك آية وعلامة.
ولعلّة أخرى أغرق الله عزّ وجل فرعون وهي أنّه استغاث بموسى لـمّا أدركه الغرق، ولم يستغث بالله، فأوحى الله عزّ وجل إليه: يا موسى لم تغث فرعون؟ لأنّك لم
____________________
(1) سورة المؤمن: آية 84 - 85.
(2) سورة الأنعام: آية 158.
سورة يونس: آية 90 - 92.
بما نسي ولا ترهقني من أمري عسراً ) (١) وقال أيضاً :( قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدنّي عذراً ) (٢) فقوله :( لا تؤاخذني ) ،( ولاترهقني ) ،( بعد ها فلا ) دعاء على صورة النهي ولعل السؤال عن كيفية كون النبي في هذا الموضع داعياً وهو ضمن سياقات الخطب الاعتيادية لا يكون إلاّ عالي الرتبة وتعليل ذلك أن السياق القرآني يبينموسيفي خطابه مع الخضر طالباً التعلّم قا تعالى :( قال له موسى هل أتّبعك على أن تعلّمن ممّا علّمت رشداً ) (٣) فكلام موسى جاء على صيغة السؤال لا الأمر وهو بذلك أفصح « عن الخلق والأدب البارع الحري بالمتعلم المستفيد قبالة الخضر وهوكليم الله الرسول النبي أحد أولي العزم فكلامه موضوع على التواضعمن أوله إلى آخره وقد تأدّب معه أولاً فلم يورد طلبه منه التعليم في صورة الأمر بل في صورة الاستفهام هضماً لنفسه »(٤) ما دام السياق القرآني سياق تعليم وتعلّم فهو أرمز
__________________
جهة أخري فإن البشر متساوون أمام خالقهم وموجدهم تبارك وتعالى ولا يفترقون إلاّ من جهة الاستعلاء داخل الرتبة الواحدة وهي عبادتهم لله سبحانه ومنزلتهم داخل الرتبة الواحدة وهذا بعض مفهوم الأصوليين في تقسيمهم للأمرعلى واجب ومندوب فالواجب ما كان من عالي الرتبة والمندوب ما كان ضمن الرتبة الواحدة وانماز بصفة الاستعلاء , ويمكن أن نتناول ضمن مفهوم دعاء الالتماس الدعاء بين المخلوقين وأقصد بذلك ما دار بين نبي الله موسى والعبد الصالح الخضر وغيرها.
(١) سورة الكهف : ١٨ / ٧٣.
(٢) سورة الكهف : ١٨ / ٧٦.
(٣) سورة الكهف : ١٨ / ٦٦.
(٤) الميزان في تفسير القرآن ٣٤٣ : ١٣.
إلى التواضع والتلطّف في طلب العلم المفروض تخلّق المتعلّم بها على جلالة شأنه وعظيم منزلته وليس بعد منزلته النبي منزلة إلاّ أنّ ذلك لا يمنع أن يكون النبي في موضع المتعلّم دلالة على سمو درجة العلم وفضلاً عن هدف قرآني يقصد من وهو الإبانة عن أخلاق المتعلم وفي هذا السياق لا نجد موسى داعياً فقط بل هو منهي عن السؤال من قبل الخضر كما في قوله تعالى :( قال فإن اتّبعتني فلا تسألني عن شيء حتّى أحدث لك منه ذكراً ) (١)
ولا أدل من ذلك على علو مرتبة الخضر في هذا السياق وهو بالضرورة أعلى حيث المعلم أعلى درجة من المتلم.
لذلك يكون كل ما صدرفي هذا السياق عن موسى دعاء(٢) والله أعلم بالصواب.
وكل`ما جاء من الدعاء ضمن الصورة الثانية ـ صيغة النهي ـ صريح إلاّ في آية واحدة حيث حذفت الأداة (لا) والفعل المضارع معهما لإغناء السياق عنها ولسبقها في الكلام قال تعالى :( ... ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) (٣) فقد أغنى العطف ب (أو) عن تكرار السياق وتقديره ـ والله أعلم ـ (لاتؤاخذنا إن نسيناو لا تؤخذنا إن أخطأنا).
ولا تخفى دلالة الإيجاز في الحذف في سياق الدعاء هنا وقد يأتي النهي
__________________
(١) سورة الكهف : ١٨ / ٧٠.
(٢) من المفيد أن نذكّر أنّ الدعاء بين المخلوقين ـ في صورة النهي ـ جاء في ثمانية مواضع أربعة منها على لسان هارون في الأعراف : ١٥٠ طه : ٩٤ وآية واحدة في سورة التوبة : ٤٩ فضلاً عمّا جاء على لسان موسى.
(٣) سورة البقرة : ٢ / ٢٨٦.
من خلال أسلوب الاستفهام مجازاً(١) ويراد به للدعاء كما في قوله تعالى :( أتهلكنا بما فعل السّفهاء منّا ) (٢) .(٣) فليس هذا باستفهام حقيقي إذ ليس يعقل « أن يظن موسى ـ لأن الكلام على لسانه ـ أنّ الله تعالى يهلك قوماً بذنوب غيرهم »(٤) فهو إذا يذكر الفعل كي يخلص بالنتيجة إلى إنكار وقوعه(٥) ومن ذلك قوله تعالى :( ... أتعجل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّمآء ) (٦) والاستفهام في هذه الآية لم يقصد به طلب الاستخبار من الله تعالى هل يجعل في الأرض من يسفك الدماء أة لا لأنّ الله تعالى قد قدّم في قوله ما يبيّن استخلافه جلّ وعلا للإنسان في الأرض(٧) حين قا :( ... إنّي جاعل في الأرض خليفةً ) (٨) فالنهي جاء عن طريق الاستفهام مجازاً وقصد به الدعاء. وعلى الرغم من أن الدعاء على صورة النهي أسلوب طلبي يجاب عنه بجوابمجزوم ـ كالأمر ـ كما ذكر ذلك
__________________
(١) جاء الاستفهام خارجاً إلى النهي مجازاً في القرآن الكريم في اثنين وثلاثين موضعاً : ظ : صيغ الأمر والنهي في القرآن : ١٩٧ وعد السيوطي في الإتقان أكثر من ثلاثين غرضاً بلاغيّاً يخرج الاستفهام لها٢ : ٧٠ ـ ٨٠.
(٢) سورة الأعراف : ٧ / ١٥٥.
(٣) في المعنى ظ : قوله تعالى :( أفتهلكنا بما فعل المبطلون ) [ سورة الأعراف : ٧ / ١٧٣] أي لا تهلكنا والله أعلم.
(٤) مفاتيح الغيب ١٨ : ١٥ مجمع البيان ٣٥ : ٣.
(٥) أساليب الاستفهام في القرآن الكريم / عبد العليم السيد فوده : ٢٥٨.
(٦) سورة البقرة : ٢ / ٣٠.
(٧) البرهان ٣٤١ : ٢.
(٨) سورة البقرة : ٢ / ٣٠.
النحاة(١) إلاّ أنّه لم يرد الدعاء على هذه الصورة مجاباً في القرآن الكريم(٢) والله أعلم بالصواب.
الصورة الثالثة ـ الدعاء بالخبر :
سبقت الإشارة في بدء هذا الفصل إلى أنّ قسمي الكلام : الخبر والإنشاء يقع كل منهماموقع الآخر فالأمر ـ إنشاء طلبي ـ قد يقع موقع الخبر(٣) والخبر قد يوضع كذلك موضع الإنشاء وما يعنينا من ذلك : الدعاء بالخبر.
ولاريب في إنّ خروج الخبر عن حقيقته ـ إلى الدعاء ـ يخدم أغراضاً ومقاصد يرمز إليها المتكلم ويهدف لها وهو ما اعتنى به البلاغيون بالدرجة الأساس وأجمعوا ـ وهم على حق ـ على أنّ الدعاء بالخبر أبلغ من أخراج الدعاء بصيغة المعهودة السابقة فقولنا : ( غفرالله لك ورحمك الله إعزّك ) إظهار بتيقّن الاستجابة والتفاؤل بحصول الغفران والرحمة والإعزاز فضلاً عن التأكيد والحرص على وقوعها(٤) .
وحدّد القزويني إغراض وقوع الخبر موقع الإنشاء وهي : « إمّا للتفاؤل أو لإظهار الحرص في وقوعه والدعاء بصيغة الماضي من البليغ يتحمّل الوجهين أو للاحتراز عن صورة الأمر كقول العبد للمولي إذا حوّل عنه وجهه : ينظر المولي إليّ ساعة أو لحمل المخاطب على المطلوب »(٥) والناظر في
__________________
(١) ظ : الكتاب٩٣ : ٣.
(٢) ظ : صيغ الأمر والنهي في القرآن : الملحق (٥٨) : ٣٦٤.
(٣) ظ : بدائع الفوائد ١٣٩ : ٢ ـ ١٤٠ معجم المصطلحات البلاغية ٣٢١ : ١.
(٤) ظ : الكشاف ٢٧٠ : ١.
(٥) الإيضاح ٢٤٥ : ١.
دلالة الدعاء على الزمن يجده في دلالة على الاستقبال ـ بخاصة ـ أمثل من دلالته على الحال(١) وبصيغة أخرى إنّ الدعاء وإن دلّ على الحال في شيء من زمنه فهو على الاستقبال أدلّ إذ يصحّ أن نخبر بالفعل المضارع لدلالة على الحال كما في قولة جلّ شأنه :( قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الرّاحمين ) (٢) فقوله :( يغفر ) إخبار عن الحال ولكنّه إذا أريد له الدعاء كان دالّاً على الاستقبال(٣) . والدعاء بالخبر أو بصيغة الفعل الماضي يجد فيه المتكلّم والسامع لطافة في التعبير عن الزمن الواسع بكلّ أوقاته : الماضي والحال والاستقبال معاً أمّا دلالة الماضي فكأنّ استجابة الدعاء واقعة من جهة المتكلّم بشكل من الأشكال بفعل التفاؤل الشديد بها الحرص الأكيد عليها فيكون حين الإخبار بها ماضياً لأنّها بحكم الواقع في الزمن الماضي بالنسبة للداعي. أمّا من جهة الحال والستقبال فه في أنّ وقوع الاستجابة حتماً يعقب الدعاء سواء في ذلك أستجيب للداعي في حال دعائه أم في قابل زمنه ومستقبله وبذلك تكون دلالة الماضي والحال والاستقبال ظاهرة في صيغة الدعاء بالخبر يصح إرجاعه ـ تأويله ـ إلى الأمر والنهي فقولنا :
__________________
(١) ذهبد. تمام حسان إلى أن الدعاء دال على الحال والاستقبال ظ : العربية معناها ومبناها : ٢٥١ وأرى أن دلالة الدعاء لربما تنحصر أكثر في الاستقبال دون الحال والله أعلم.
(٢) سورة يوسف : ١٢ / ٩٢.
(٣) ظ : معاني النحو ٣١٧ : ٣.
غفر الله لأحمد بمعنى اغفر اللّهمّ لأحمد وقولنا : ( يغفرالله لك ) بمعنى ( ليغفر الله لك ) وكذلك قولنا : ( لايرحم الله قاتلك ) بمعنى ( لا يرحمه الله ) بالجزم وكذلك الماضي بعد ( لا ) الطلبية في نحو قولنا : لا غفرالله له بمعنى لا يغفره الله له جزماً فنريد من لفظ الخبر ـ ماضياً ومضارعاً ـ معنى الدعاء الصادر عن الأمر والنهي مجازاً(١) ز وقد يشكل الدعاء بالخبر في وقوع الماضي بعد ( لا ) الطلبية إذ لا يقع بعدها إلاّ المستقبل كي لا تلتبس ب ( لا ) النافية ولكن جاز ذلك في الدعاء ـ أي وقوع الماضي بعد لا الطلبية ـ للأسباب التي ذكرناها وهي التفاءل بالاستجابة والإخبار عنها بلفظ واحد دالّاً على الماضي والحال والاستقبال جاء في البرهان الكشاف : « لا يكاد يقع بعد ( لا ) ـ أي الطلبية ـ الفعل الماضي إلاّ إذا أريد به الدعاء كقوله : ( لا غفرالله لفلان ) ليجمعوا بين التفاؤل بالإجابة حتى كأنّها وقعت وصارت من قبيل ما يخبر عنه بالوقوع والدعاءفي لفظ واحد ليعلم الداعي السامع أنّه مخبر »(٢) وزيادة على ذلك أن عدم التباس ( لا ) الطلبية والفعل الماضي بعدها ب ( لا ) النافية هو ما يوضحه السياق ففي الدعاء « هيبة ترفع الالتباس وذكرالله تعالى مع الفعل ليس بمنزلة ذكرالناس »(٣) وإذا علمنا أن ثمة فرقاً بين عمل الأداتين ( لا الطلبية ) و ( لا النافية ) في الفعل جزماً ونصباً زال الالتباس وانتهي. أمّا النحويون فقد اشترطوا في مجيء الدعاء على لفظ الخبر بعدم اللبس(٤) بمعنة أنّهم يمنعونه
__________________
(١) ظ : المتقضب ٢٧٣ : ٣ ١٧٥ : ٤.
(٢) البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن / ابن الزملكاني : ١٧٣.
(٣) بدائع الفوائد ١٠٣ : ١.
(٤) ظ : الأصول ١٧٧ : ٢ دقائق التصريف : ١٨.
إذا اختلف المعنى والتبس اسياق فإذا قلنا : « ليغفر الله لزيد ويقطع يده لم يجز جزم ( يقطع ) لاختلاف المعنى ولكن يجوز في جميع ذا الرفع فيكون لفظه لفظ الخبر والمعنى دعاء وإذا أسقطت ( اللاّم ) رفعت الفعل المضارع فقلت : يغفر الله لك وغفرالله لك »(١)
وفي القرآن الكريم جاء الدعاء بلقظ الخبر في آيات عدّ’(٢) منها قوله تعالى :( إيّاك نستعين ) (٣) فاللفظ جاء على سبيل الإخبار إلاّ أن معناه الدعاء « أي أعنّا على عبادتك »(٤) و منه قوله تعالى :( ... قاتلهم الله أنّي يؤفكون ) (٥) و معنى قوله : (قاتلهم الله) « خبر أريد به الدعاء عليهم »(٦) و منها قوله تعالى :( والخامسة أنّ غضب الله عليها ) (٧) قوله :( غضب ) خبر بلفظ الماضي خرج إلى الدعاء(٨) ومنها قوله عزّوجلّ :( سلام عليكم ) (٩) اللفظ لفظ الخبر والمقصود الدعاء لهم(١٠) و هذا ينطبق علىجمع الآيات الواردة على هذه
__________________
(١) الأصول ١٧٧ : ٢ ـ ١٧٨.
(٢) ظ : البرهان ٣٢٦ : ٢ صيغ الإتقان ٢٢٧ : ٣ صيغ الأمر والنهي في القرآن الكريم : ٣١٧ أساليب المجاز في القرآن الكريم : ٥١٢ وما بعدها.
(٣) سورة الفاتحة : ١ / ٥.
(٤) البرهان ٣٢١ : ٢.
(٥) سورة التوبة : ٩ / ٣٠ وسورة المنافقون : ٦٣ / ٤.
(٦) الجامع لأحكام القرآن ١١١ : ٨.
(٧) سورة النور : ٢٤ / ٩.
(٨) ظ : نحو الفعل / الجواري : ٣١.
(٩) سورة الرعد : ١٣ / ٢٤.
(١٠) ظ : البرهان ٣٤٧ : ٣.
الصيغة في القرآن ففي( سلام عليكم ) معنى « الإخبار بحصول السلامة والإنشاء للدعاء بها وإرادتها وتمنّيها وكذلك ( ويل ) »(١) ومن ذلك قوله تعالى :( أعوذ بالله ) (٢) وكل استعاذة بالله تعالى تكون بلفظ الخبر والمعنى دعاء فقولنا : أعوذ بالله « لفظه الخبر ومعناه الدعاء والتقدير : اللّهمّ أعذني »(٣) وكذلك يمكن عد آيات الحمد أو دعاء الحمد في القرآن من صيغ الدعاء بلفظ الخبر قال تعالى :( الحمد الله الّذي خلق السّموات ) (٤) أي أنّ الحمد جاء « في لفظ الخبر ومعناه الأمر : أي المحمد الله وإنما جاء على صيغة الخبر وإن كان فيه معنى الأمر لأنه أبلغ في البيان من حيث إنّه يجمع الأمرين »(٥) والمقصود بالأمر الدعاء لأنّ الحمد دعاء. وكذلك قوله تعالى :( ... ربّنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنّك لا تخلف الميعاد ) (٦) فقوله : (إنّك لا تخلف الميعاد) جاء في لفظ الخبر كما نقل الطوسي ذلك عن آخرين فقد خرج الكلام « مخرج المساءلة ومعناه الخبر »(٧) ومن ذلك قوله تعالى :( تبّت يدا أبي لهبٍ وتبَّ ) (٨) فقوله تعالى :( تبّت ) « الأول دعاء والثاني خبر »(٩)
__________________
(١) بدائع الفوائد ١٣٩ : ٢.
(٢) سورة البقرة : ٢ / ٦٧.
(٣) مفاتيح الغيب ٩٦ : ١.
(٤) سورة الأنعام : ٦ / ١.
(٥) مجمع البيان ٧ : ٣.
(٦) سورة آل عمران : ٣ / ١٩٤.
(٧) التبيان / الطوسي ٨٦ : ٣.
(٨) سورة المسد : ١١١ / ١.
(٩) معاني القرآن / الفراء ٢٩٨ : ٣.
في قوله تعالى :( ... حصرت صدورهم ) (١) « قيل هو دعاء عليهم بضيع صدورهم عن قتال أحد »(٢) . وغير ذلك آيات كثيرة جاءت بلفظ الخبر ومعناها الدعاء(٣) .
و لابدّ من الإشارة ـ في نهاية الفصل ـ إلى بعض الظواهر النحوية المتعلّقة بالدعاء منها دخول ( لا ) النافية على الفعل الماضي لإفادة الدعاء(٤) نحو قولنا : ( لا فضّ الله فاك ) إلاّ أنّ هذه الصيغة لم ترد في القرآن الكريم وإنما دخلت ( لا ) النافية على المصادر التي يدعى بها(٥) في موضعين فقط وهي قوله تعالى :( هذا فوج مقتحم معكم لا مرحبأً بهم إنّهم صالوا النّار ٭قالوا بل أنتم لا مرحباً بكم أنتم قدّمتموه لنا فبئس القرار ) (٦) و دخول ( لا ) النافية على المصدر ( مرحباً ) لم تعمل فيه ولم تغيره لأنّه قد عمل فيه فعل مقدّر فنصبه على المصدر لأنّه لا يجوز « أن يعمل في حرف عاملان »(٧) و لعل ورود الدعاء بصيغة الفعل الماضي الذي تسبقه ( لا ) النافية فأكثر ما ورد سماعاً عن العرب ثم اشتهر في أشعارهم وكلامهم على أنّه صيغة من صيغ الدعاء ومن الظواهر الأخرى مجيء ( لن ) للدعاء وتباينت آراء النحاة في ذلك فقد ذهب ابن
__________________
(١) سورة النساء ٤ / ٩٠.
(٢) الإتقان ٣٢٧ : ٣.
(٣) ظ : الآيات التالية في المعنى نفسه : المائدة : ٥ / ٦٤ يوسف : ١٢ / ٩٢ الذاريات : ٥١ / ١٠ المدثّر : ٧٤ / ١٩ و ٢٠ عبس : ٨٠ / ١٧ البروج : ٨٥ / ٤ النمل : ٢٧ / ٨ التوبة : ٩ / ١٢٨ النساء : ٤ / ٩.
(٤) ظ : البرهان ٣٥٤ : ٤.
(٥) ظ : دراسات لأساليب القرآن ٥٤٨ : ٢.
(٦) سورة ص : ٣٨ / ٥٩ و ٦٠.
(٧) المقتضب ٣٨٠ : ٤.
السراج إلى أنّ « الدعاء ب (الن) غي معروف وإنّما الأصل ما ذكرناه أن يجيء على لفظ الأمر والنهي »(١) بينما أجاز الفراء مجيئها للدعاء كما في قوله تعالى :( قال ربّ بما أنعمت عليّ فلن أكون ظهيرًا للمجرمين ) (٢) « فقد تكون ( لن أكون ) على هذا المعنة دعاء من موسى : اللّهمّ لن أكون ظهيراً فيكون دعاء »(٣) والظاهر أنّ ( لن ) قد تأتي للدعاء إذا سبقت بسياق دعائي يحتم خروجها من معنى الإخبار إلى الطلب ـ الدعاء ـ وبالنتيجة : يمكن حملها على الدعاء من هذا الجانب والله وأعلم »(٤) .
و خلاصة القول : أنّ الدعاء يصدر عن أسلوبي الأمر والنهي الحقيقيين وله صيغه التي بها يتمثّل وقد استقصيناها بالتفصيل وسنعرض لما في هذا الأسلوب من نكات بلاغية تنطوي تحت فنون علوم البلاغية : البيان والمعاني والبديع.
__________________
(١) الأصول ١٧٨ : ٢ ظ : تسهيل الفوائد : ٢٢٩ البحر المحيط ١١٠ : ٧.
(٢) سورة القصص : ٢٨ / ١٧.
(٣) معاني القرآن ٣٠٤ : ٢ البرهان ٣٨٨ : ٤.
(٤) ظ : الأصول ١٧٨ : ٢.
الفصل الثالث
معالم الدعاء وأنواعه في القرآن الكريم
المبحث الأوّل
معالم الدعاء في القرآن الكريم
شغل الدعاء مكاناً كبيراً ومهمّاً من كتاب الله العزيز ولعلّك تلحظ تناثر الدعاء من أول سورةٍ فيه مروراً بطوال السور وقصارها مكيّها ومدنيّها حتى إذا النتهينا عند آخر سور الكتاب المجيد وجدناها دعاءً كريماً يجسد صورةً معبرة لاعتراف الإنسان بضعفه ولجوئه إلى خالقه وتعلّقه بحصنه من كلّ ما دار بفكرٍ أو جال بخاطرٍ من أمرٍ عظيمٍ.
وبدء القرآن بالدعاء وانتهاؤه به دافع للتفكّر بأنّ « هناك سرّاً إلهيّاً في أن تكون فاتحة الكتاب كلّها دعاءً وخاتمته دعاءً وما بين الفاتحة والخاتمة عقيدة وعبادة ودعاء »(١) .
والناظر المستقرئ لظاهرة الدعاء في القرآن العظيم يأنس تعدّد صورها
__________________
(١) الدعاء في القرآن الكريم / محمود بن الشريف : ٧.
واختلاف أساليبها وتنوّع مستوياتها فمرّةً يجد حثّناً على الدعاء وثانيةً تعليماً له وثالثةً بياناً متواصلاً لحالات الداعين من المؤمنين حيناً ومن المشركين حيناً آخر. وإذا تابعنا السير في ظلّ هذه الظاهرة الكريمة نرى أنّها عالجت قضايا الإنسان العقائدية في التوحيد والعدل والنبؤة والإمامة والمعاد فضلاً عن حاجاته النفسيّة والاجتماعيّة التي تفتقر قواه والذّرية والنّصرة في مواقف الحرب وإلى غير من قضايا مهمة.
و أول ما تجدر الإشارة إليه في بيان معالم الدّعاء أنّها رسمت لنا منهجاً واضحاً في الاعتقاد ومعرفة الخالق وآداباً في سؤاله وخطابه جلّ وعلا. ولعلّ الذي يظهر ذلك ويوضحه الآيات التي أبرزت نزوع الإنسان الفطري في حالات الضّر والشدّة والخوف والرعب إليه تعالى ونبذ سواه والبراءة منه والاعتراف بكلّ خضوعٍ وذلّةٍ وتمسكنٍ بالضعف والقصور ثمّ ما يلبث الإنسان بعد إجابته أن يعود إلى ما كان عليه من اعتقادٍ باطلٍ. وفي ذلك إقامة للحجّة على صحّة نزوعه وفطرة عقيدته من جهة وبطلان ما كان بضد ذلك من جهة أخرى ولقد صوّرت الآيات الكريمة ذلك في مشهدين :
الأوّل : مشهد الإنسان الذي مسّة الضّرّ فلا يجد سبيلاً غير الله فليوذ به طالباً كشف ضرّه فال الله تعالى :( وإذا مسّ الإنسان الضّرّ دعانا لجنبه أو فاعدًا أو قائماً فلمّا كشفناعنه ضرّة مرّ كان لم يدعنا إلى ضرّ مسّة كذلك زيّن للمسرفين ما كانوا يعملون ) (١) .(٢)
__________________
(١) سورة يونس : ١٠ / ١٢.
(٢) ظ : في السياق عينه : الأنعام : ٦ / ٤٠ ـ ٤١ الروم : ٣٠ / ٣٣ فصلت : ٤١ / ٤٩ ـ ٥٠ الزمر : ٣٩ / ٨ النحل : ١٦ / ٥٣ ـ ٥٤ هود : ١١ / ٩ ـ ١٠.
و ينبئك بيان الحالات الثلاث (الاضطجاع والقعود والقيام) للإنسان الداعي مدى الاجتهاد في الدعاء والتضرّع إليه تعالى لكي يكشف الضّرّ عنه وما أحسن هذا التقسيم المعلن عن لجوء الإنسان إلى خالقه الحقّ في ضرّة وهو في مختلف حالاته المتقدّمة(١) .
الثاني : مشهد الإنسان وسط أهوال البحر في هيجانه يدعوه جلّ وعلا باجتهادٍ وتيضرّع راجياً النجاة قال تعالى :( فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدّين فلمّا نجّاهم إلى البرّ إذا هم يشركون ) (٢) .(٣)
و موقف كهذا يصوّر بدقةٍ متناهيةٍ فطرة الإنسان في صدق توجهه وإخلاص دعوته لله تعالى وهجر ما سبق من اعتقادٍ بالطلٍ في ساعة شدّته وخوفه ثمّ سرعان ما تعود تلك النفوس التي تناقض فطرتها إلى ما اعتادت عليه من الشرك(٤) .
ومن المعالم الدعائيّة في القرآن العزيز هو افتتاح بعض السور بالدّعاء وقد عدّ الزركشي سوراً ثلاثاً استفتحت بالدعاء(٥) و لا يفوتنا أن نذكر أن ثمة سوراًختمت بالدعاء أيضاً(٦) .
__________________
(١) ظ : مجمع البيان / الطبرسي ٢٠ : ٣ الكشاف ٣٢٣ : ٢ مفاتيح الغيب / الرازي ٥١ : ١٧ البرهان / الزركشي ٤٧٢ : ٣ تحرير التحبير / ابن أبي الإصبع المصري ١٧٥ : ١.
(٢) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٦٥.
(٣) ظ : في السياق نفسه : يونس : ١٠ / ٢٢ الإسراء : ١٧ / ٦٦ ـ ٦٧ الأنعام : ٦ / ٦٣ ـ ٦٤ لقمان : ٣١ / ٣١ ـ ٣٢.
(٤) ظ : مفاتيح ٩٢ : ٢٥.
(٥) وهي : المطففين : ٨٣ / ١ الهمزة : ١٠٤ / ١ المسد : ١١١ / ١ ظ : البرهان ١٨٠ : ١.
(٦) ظ : الآيات التالية : الفاتحة : ١ / ٧ البقرة : ٢ / ٢٨٦ الزمر : ٣٩ / ٧٥
و من أجلى معالم الدعاء في القرآن الكريم اقترانه بأمرين مهمّين :
أوّلهما : الحثّ عليه والترغيب فيه.
ثانيهما : استجابته.
أمّا الحثّ عليه : فقد جاء تبياناً لمكانةالدّعاء وتشريفاً إليهاً للداعين في آنٍ واحدٍ قال تعالى :( وقال ربّكم ادعوني أستجب لكم إنّ الّذين يستكبرون عن عبادتي سيد خلون جهنّم داخرين ) (١) .(٢)
و في الحثّ على الدّعاء « في الآية دلالةً على عظيم قدر الدعاء عنه الله تعالى وعلى فضل الانقطاع إليه »(٣) و في الحثّ كذلك بيان لكمال الألطاف الإلهية ومنتهى التكريم منه تعالى وهو الغني المطلق عنٍ خلقه هذا من جهة وإشارة إلى ضعف الإنسان وافتقاره له تعالى فطرةً وطبعأً من جهة ثانية وجمعت الآية بين الحثّ والاستجابة من ناحية وبين حقيقة الدعاء في أنّه العبادة من ناحية أخرى بل إنها « تجعل مطلق العبادة دعاءً حيث إنّها هو على ترك العبادة رأساًلا على ترك بعض أقسامها دون بعض فاضل العبادة دعاء »(٤) و في مجيء الحث بهذه الصورة ـ مقترناً بالإجابة ـ إيناس للداعي وتأييد لا طمئنانه في استجابة دعائه ولايخفى ما في ذلك من تشريفٍ وتكريم.
وفي الحثّ تصريح وتأكيد على التوحيد ونبذ وتسفيه كلّ عقيدةٍ باطلةٍ
__________________
الصافات ٣٧ / ١٨٢ المؤمنون : ٢٣ / ١١٨.
(١) سورة غافر : ٤٠ / ٦٠.
(٢) ظ : الآيات في السياق نفسه : البقرة : ٢ / ١٨٦ الأعراف : ٧ / ٢٩ ، ٥٥ ، ٥٦ ، ١٨٠ الإسراء : ١٧ / ١١٥ غافر : ٤٠ / ١٤ ، ٦٥.
(٣) مجمع البيان ٢٠٩ : ٥.
(٤) الميزان في تفسير القرآن / محمد حسين الطباطبائي ٣٤ : ١.
لأن جوهر الدعاء يمثّل حقيقة التوحيد بل إنّ التوحيد ركن أساس من أركان الدعاء القلبية قال تعالى :( هو الحيّ لا إله إلاّ هو فادعوه مخلصين له الدّين الحمد لله ربّ العالمين ) (١) .
و لا ريب في أنّ الدعاء دون الاعتقاد بإلهٍ واحدٍ قادرٍ على إجابة الدّعاء يفضي إلى القول بتعدّد الآلهة والتعدّد يقتضي التضادّ والتناقض في الإجابة ضمن المشيئة الإلهيّة المتعدّدة وعليه يكون الدعاء إلى عدم الإجابة أقرب منه إلى الإجابة وليس بإله من تعجز قدراته عن إجابة خلقه لذلك خاطب القرآن الكريم بأبلغ صورةٍ من كانت حاله كذلك قال تعالى :( له دعوة الحقّ واللّذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلاّ كباسط كفّية إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلاّ في ضلال ) (٢) .
فليس أبلغ من هذا الاستنكار للذين يدعون من لا يقدرون على نغع أنفسهم أو ضرّها وما دعاء الداعين إلاّ في ضلالٍ وما هم إلاّ ضالّون عن سبيل الحقّ وجادّة الصواب ولنا في بدء هذه الآية ( له دعوة الحقّ ) تأكيد بتقييد وتخصيص دعاء الحقّ به تعالى وليس لأحدٍ سواء غير الباطل والضلال.
ومن جانب آخر امتدح القرآن الكريم الذين انتهجوا نهج الحقّ في الدّعاء ووجّهوا دعاءهم إليه تعالى آملين ـ بخشيةٍ وسرورٍ ـ إجابتهم قال تعالى :( ... إنّهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين ) (٣) .
فضلاً عن ذلك فقد نقل لنا الكتاب العزيز ما سيكون الكفار عليه من
__________________
(١) سورة غافر : ٤٠ / ٦٥.
(٢) سورة الرعد : ١٣ / ١٤.
(٣) سورة الأنبياء : ٢١ / ٩٠.
موقف استهجانٍ وتوبيخٍ من قبل الله تعالى يوم القيامة(١) حين تلقة عليهم الحجّة في سخريتهم من المؤمنين الذين يدعونه ويطلبون منه الغفران والرحمة قال تعالى على لسان أهل النار :( قالوا ربّنا غلبت علينا شقوتنا وكنّا قومًا ضالّين * ربّنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنّا ظالمون * قال اخسئوا فيها ولا تكلّمون * إنّه كان فريق من عبادي يقولون ربّنا آمنا فاغفرلنا وارحمنا وأنت خير الرّاحمين * فاتّخذتموهم سخريّاً حتّى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون * إنّى جزيتهم اليوم بما صبروا أنّهم هم الفائزون ) (٢) . هذا فيما يتعلّق بالحثّ على الدعاء والترغيب فيه وهو أول الأمرين.
استجابة الدعاء :
يقيناً إنّ لكلّ دعاءٍ إجابةً طال وقتها أو قصر وهذا واضح من المنهج الدّعائي في القرآن المجيد حيث تأتي الإجابة عب الدعاء مباشرةً من دون فصلٍ بينهما كما الغالب من آيات الدعاء قال تعالى :( وأيوب إذ نادى ربّه أنّي مسّني الضّرّ وأنت أرحم الرّاحمين * فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضرّ وآتيناه أهله ومثلهم معهم رجمةً من عندنا وذكرى للعابدين ) (٣) .(٤)
و لاشك في أنّ أدعية القرآن بأجمعها مجابةً(٥) بل وحتّى إبليس
__________________
(١) تفسير التبيان / الطوسي ٣٩٩ : ٧.
(٢) سورة المؤمنون : ٢٣ / ١٠٦ ـ ١١١.
(٣) سورة الأنبياء : ٢١ / ٨٣ ، ٨٤.
(٤) ظ : الآت التالية في السياق نفسه : القصص : ٢٨ / ٣٢ ـ ٣٥ يوسف ١٢ / ٣١ ـ ٣٤ طه : ٢٠ / ٢٤ ـ ٣٦ آل عمران : ٣ / ١٩٠ ـ ١٩٥ الشعراء : ٢٦ / ١٠ ـ ١٦.
(٥) ظ : كتاب « لكلّ دعاء واجابة » : ثامر محمود حيث اتّبع منهجاً روائيّا في قصّ حوادث أدعي القرآن الكريم معقّباً عليها بذكر إجابتها في القرآن نفسه.
عليه اللعنة المعروف بعدائه للإنسان ولكلّ ما خلق الله تعالى قد أجيب دعاؤه وليس بعد ذلك دلالة على مدى رحمة الله تعالى في إجابة خلقه وعباده إذ من جاهر الله ـ سبحانه ـ بالعصيان والكفر أجيب طلبه(١) فكيف بمن عرق الله تعالى ورجا رحمة ومغفرته لا يجاب؟ قال تعالى على لسان إبليس :( قال ربّ فأنظرني إلى يوم يبعثون * قال فإنّك من المنظرين ) (٢) .(٣)
و إجابة الدّعاء حتمية لا يساورنا فيها أدني شكّ ولذلك فمن ألهم الدعاء لم يحرم الإجابة ومن تمام عنايته تعالى بالإجابة مجاء قوله تعالى :( وإذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريب أجيب دعوة الدّاع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلّهم يرشدون ) (٤) فما تضمنته الآية من الدلالات والإشارات يبهر العقول فيالعناية بأمر الدّعاء واستجابته وأول ما تلحظ ذلك في طريقة ذكرها للسائلين بلفظ ( عبادي ) حيث جاءت بألطف سلوب وأرقّة في ذكر الداعيين مما يكشف مدي العطف عليهم والترحّم بهم من قبله تعالى(٥) .
فضلاً عن ذلك فالخطاب في الآية الكريمة « قد وضع أساسه على التكلّم وحده دون الغية ونحوها وفي دلالة على كمال العناية بالأمر ثمّ قوله ( عبادي ) ولم يقل الناس أو ما أشبهه يزيد في هذه العناية »(٦) حيث شرّفهم بأن أضافهم
__________________
(١) ظ : إحياء علوم الدين ٣٢٤ : ١.
(٢) سورة الحجر : ١٥ / ٣٦ و ٣٧.
(٣) ظ : الآيات التالية في ضمن هذا السياق : الأعراف : ٧ / ١٢ ـ ١٥ سورة ص : ٣٨ / ٧٩ ـ ٨١.
(٤) سورة البقرة : ٢ / ١٨٦.
(٥) ظ : الطراز / العلوي ١١٧ : ١.
(٦) الميزان ٣٠ : ١.
إليه تعالى بلفظ ( عبادي )(١) .
و من اللطائف الخطابية في هذه الآية أنّها تجاوزت الوساطة بين الخالق وعباده وذلك من خلال اتقراء مواضع السؤال والجواب في الكتاب العزيز حيث نلحط اقتران الجواب في التعبير القرآني بلفظ ( قل ) في جميع الآيات التي يتقدّمها السؤال وذلك أمر منه تعالى لنبيّه الأمين بإجابتهم ومن ذلك قوله تعالى :
( ... ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبيّن الله لكم الآيات ) (٢) .(٣)
أما في هذه الآية فقد تولّى سبحانه وتعالى الإجابة عن السؤال بنفسه ولم يصرح بلفظ ( قل )( وإذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريب أجيب دعوة الدّاع إذا دعان ) (٤) و في هذا غاية التكريم وأرفع درجات التشريف لعباده الداعين يقول الفخر الرازي في تعليقة على هذه الآية : « كأنّه سبحانه وتعالى يقول واسطة بيني وبينك »(٥) .
ومن جمال الآية وسموها أنّه أكّد قربه بـ ( إنّ ) في ( فإنّي )(٦) و لم يقل سبحانه
__________________
(١) ظ : الطراز ٢٦٧ : ٣.
(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢١٩.
(٣) ظ : في هذا المعنى سورة البقرة : ٢١٥ ، ٢١٧ ، ٢١٩ ، ٢٢٠ المائدة : ٤ الأعراف : ١٨٧ الكهف ٨٣ وغيرها.
(٤) سورة البقرة : ٢ / ١٨٦.
(٥) مفاتيح الغيب / الفخر الرازي ١٠٧ : ٥ ظ : البرهان / الزركشي ٥٤ : ٤.
(٦) ظ : الميزان ٣٠ : ١.
وتعالى « فالعبد مني قريب بل قال أنا منه قريب وهذا فيه سرّ نفيس »(١) .
و يزيد من جمال التعبير التأكيد على الأستجابة من خلال استعمال الفعل المضارع الدّالّ على التجدّد والحدوث للإشارة إلى تجدّد الاستجابة وحدوثها(٢) .
والمتدبّر في الآية الشريفة يجد من الدلالات والإشارات بعد ذلك الشيء الكثير منها الحضور الإلهي في هذه الآية الذي أنبأنا به تكرار ضمير المتكلّم الدّالّ عليه في سبعة مواضع (عبادي ، عنّي ، فإنّى ، أجيب ، دعان لي بي) وهذه الآية الوحيدة في القرآن على هذا الوصف(٣) .
وفضلاً عن كلّ ذلك فإن انتظام هذه الآية بين آيات تريع الصوم(٤) دالَ على تأكيد قول من عدها ضمن آيات الأحكام « من أنّه ليس فيها حكم ظاهرة »(٥) و عليه فلا يغيب عن ذهن المتدبّر فائدة توسطها بين آيات الصوم وما ينبغي للصائم من الدعاء وطلب الحوائج فهو في موقف يكون قربه من الإجابة آكد ومنزلته في التشريف أقرب والله أعلم.
ومن كوامن الرحمة في هذه الآية أنّها « تسكب في قلب المؤمن النداوة والحلاوة والودّ المؤنس والرضي المطمئن والثقة واليقين ويعيش فيها المؤمن في جناب رضي وقربي ندية وملاذٍ أمين وقرارٍ مكين »(٦) .
__________________
(١) كفاتيح الغيب ٣٥ : ٢٢.
(٢) ظ : الميزان ٣١ : ١.
(٣) ظ : الميزان ٣١ : ١.
(٤) ظ : مجمع البيان ١٢٥ : ١ مفاتيح ١٠٣ : ٥.
(٥) تفسير آيات الأحكام / حسين اليزدي ٣١١ : ١.
(٦) في ظلال القرآن / سيد قطب مج ١ ج ٢ ص ٨٣.
و لابدّ من التذكير بأن للإجابة شروطاً حدّدثها الأحاديث النبويّة الشيفة والروايات المنقوله عن أهل البيت ولم نرغب في إطالة الكلام بها لأنّ مظانّها كتب الدّعاء التي ألّفت وفقاً لمنهج طلاب الشريعة والعلوم الإسلاميو فمن أراد التزووّد بها فلا بأس من الرجوع إليها والأخذ عنها وإنّما الإشارة لذلك قصداً للإيجاز.
ومهما يكن من أمر الاستجابة فإنّ الداعي لا يعدم الإجابة على الإطلاق فإذا أطأت إجابة فإنّ ذلك لا يعني عدم استجابة دعائه بل يلهمه الله تعالى « سكينةً في نفسه وانشراحاً في صدره وصبراً يسهل معه احتمال البلاء الحاضر وعلى كلّ حالٍ فلا يعدم فائدةً وهو نوع من الاستجابة »(١) .
ونفيد من الحديث عن معالم الدعاء في اقرآن الكريم أن في الحثّ نداءً إلهيّاً يدعو لسدّ ضعف الإنسان وفقره من خلال تعلّقه بخالقه الغنيّ ولجوئه لفيض كرمه وإحسانه وتحصنه بكهفه المنيع.
ونخلص كذلك على أن في الدعاء منهجاً لتعليم الإنسان وتأديبه في كيفية إقباله على بارئه ومخاطبة.
ونلحظ في الإجابة إعظاماً للدّعاء وإكراماً للداعي والتنبيه على أنّهما بيعن الله تعالى وعنايته وإذ جاز لنا اوصف قلنا إنّ الحثّ بذرة والدعاء شجرتها النامية وثمار الشجرة النامية الإجابة فبقدر منزلة الشجرة من النضج تكون ثمارها أكثر وألذّ والله أعلم.
__________________
(١) مفاتيح الغيب١١٠ : ٥.