أحكام القرآن الجزء ١

أحكام القرآن14%

أحكام القرآن مؤلف:
المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 411

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥
  • البداية
  • السابق
  • 411 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 91448 / تحميل: 5983
الحجم الحجم الحجم
أحكام القرآن

أحكام القرآن الجزء ١

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

وَيَعْقُوبَ ) واحتجاج ابن عباس في توريث الجد دون الأخوة وإنزاله منزلة الأب في الميراث عند فقده يقتضى جواز الاحتجاج بظاهر قوله تعالى( وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ) في استحقاقه الثلثين دون الأخوة كما يستحق الأب دونهم إذا كان باقيا ودل ذلك على أن إطلاق اسم الأب يتناول الجد فاقتضى ذلك أن لا يختلف حكمه وحكم الأب في الميراث إذا لم يكن أب وهو مذهب أبى بكر الصديق في آخرين من الصحابة قال عثمان قضى أبو بكر أن الجد أب وأطلق اسم الأبوة عليه وهو قول أبى حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد ومالك والشافعى بقول زيد بن ثابت في الجد أنه بمنزلة الأخوة ما لم تنقصه المقاسمة من الثلث فيعطى الثلث ولم ينقص منه شيئا وقال ابن أبى ليلى بقول على بن أبى طالب عليه السلام في الجد أنه بمنزلة أحد الأخوة ما لم تنقصه المقاسمة من السدس فيعطى السدس ولم ينقص منه شيئا وقد ذكرنا اختلاف الصحابة فيه في شرح مختصر الطحاوي والحجاج للفرق المختلفين فيه إلا أن الحجاج بالآية فيه من وجهين أحدهما ظاهر تسمية الله تعالى إياه أبا والثاني احتجاج ابن عباس بذلك وإطلاقه أن الجد أب وكذلك أبو بكر الصديق لأنهما من أهل اللسان لا يخفى عليهما حكم الأسماء من طريق اللغة وإن كانا أطلقاه من جهة الشرع فحجته ثابتة إذ كانت أسماء الشرع طريقها التوقيف ومن يدفع الاحتجاج بهذا الظاهر يقول إن الله تعالى قد سمى العم أبا في الآية لذكره إسماعيل فيها وهو عمه ولا يقوم مقام الأب وقد قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ردوا على أبى يعنى العباس وهو عمه * قال أبو بكر ويعترض عليه من جهة أن الجد إنما سمى أبا على وجه المجاز لجواز انتفاء اسم الأب عنه لأنك لو قلت للجد إنه ليس بأب لكان ذلك نفيا صحيحا وأسماء الحقائق لا تنتفى عن مسمياتها بحال ومن جهة أخرى أن الجد إنما سمى أبا بتقييد والإطلاق لا يتناوله فلا يصح الاحتجاج فيه بعموم لفظ الأبوين في الآية ومن جهة أخرى أن الأب الأدنى في قوله تعالى( وَوَرِثَهُ أَبَواهُ ) مراد بالآية فلا جائز أن يراد به الجد لأنه مجاز ولا يتناول الإطلاق للحقيقة والمجاز في لفظ واحد* قال أبو بكر فأما دفع الاحتجاج بعموم لفظ الأب في إثبات الجد أبا من حيث سمى العم أبا في الآية مع اتفاق الجميع على أنه لا يقوم مقام الأب بحال فإنه مما لا يعتمد لأن إطلاق اسم الأب إن كان يتناول الجد والعم في اللغة والشرع فجائز اعتبار عمومه في سائر ما أطلق فيه فإن خص العم بحكم

١٠١

دون الجد لا يمنع ذلك بقاء حكم العموم في الجد ويختلفان أيضا في المعنى من قبل أن الأب إنما سمى بهذا الإسم لأن الإبن منسوب إليه بالولاد وهذا المعنى موجود في الجد وإن كانا يختلفان من جهة أخرى أن بينه وبين الجد واسطة وهو الأب ولا واسطة بينه وبين الأب والعم ليست له هذه المنزلة إذ لا نسبة بينه وبينه من طريق الولاد ألا ترى أن الجد وإن بعد في المعنى بمعنى من قرب في إطلاق الإسم وفي الحكم جميعا إذا لم يكن من هو أقرب منه فكان للجد هذا الضرب من الإختصاص فجائز أن يتناوله إطلاق اسم الأب ولما لم يكن للعم هذه المزية لم يسم به مطلقا ولا يعقل منه أيضا إلا بتقيد والجد مساو للأب في معنى الولاد فجائز أن يتناوله اسم الأب وأن يكون حكمه عند فقده حكمه وأما من دفع ذلك من جهة أن تسمية الجد باسم الأب مجاز وأن الأب الأدنى مراد بالآية فغير جائز إرادة الجد به لانتفاء أن يكون اسم واحد مجازا حقيقة فغير واجب من قبل أنه جائز أن يقال إن المعنى الذي من أجله سمى الأب بهذا الإسم وهو النسبة إليه من طريق الولاد موجود في الجد ولم يختلف المعنى الذي من أجله قد سمى كل واحد منهما فجاز إطلاق الإسم عليهما وإن كان أحدهما أخص به من الآخر كالأخوة يتناول جميعهم هذا الاسم لأب كانوا أو لأب وأم ويكون الذي للأب والأم أولى بالميراث وسائر أحكام الأخوة من الذين للأب والاسم فيهما جميعا حقيقة وليس يمتنع أن يكون الاسم حقيقة في معنيين وإن كان الإطلاق إنما يتناول أحدهما دون الآخر ألا ترى أن اسم النجم يقع على كل واحد من نجوم السماء حقيقة والإطلاق عند العرب يتناول النجم الذي هو الثريا يقول القائل منهم فعلت كذا وكذا والنجم على قمة الرأس يعنى الثريا ولا تعقل العرب بقولها طلع النجم عند الإطلاق غير الثريا وقد سموا هذا الإسم لسائر نجوم السماء على الحقيقة فكذلك اسم الأب لا يمتنع عند المحتج بما وصفنا أن يتناول الأب والجد على الحقيقة وإن اختص الأب به في بعض الأحوال ولا يكون في استعمال اسم الأب في الأب الأدنى والجد إيجاب كون لفظة واحدة حقيقة مجازا فإن قيل لو كان اسم الأب مختصا بالنسبة من طريق الولاد للحق الأم هذا الإسم لوجود الولاد فيها فكان الواجب أن تسمى الأم أبا وكانت الأم أولى بذلك من الأب والجد لوجود الولادة حقيقة منها قيل له لا يجب ذلك لأنهم قد خصوا الأم باسم دونه ليفرقوا بينها وبينه وإن كان

١٠٢

الولد منسوبا إلى كل واحد منهما بالولاد وقد سمى الله تعالى الأم أبا حين جمعها مع الأب فقال تعالى( وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ ) ومما يحتج لأبى بكر الصديق وللقائلين بقوله إن الجد يجتمع له الاستحقاق بالنسبة والتعصيب معا ألا ترى أنه لو تركا بنتا وجدا كان للبنت النصف وللجد السدس وما بقي بالنسبة والتعصيب كما لو ترك بنتا وأبا يستحق بالنسبة والتعصيب معا في حال واحدة فوجب أن يكون بمنزلته في استحقاق الميراث دون الأخوة والأخوات ووجه آخر وهو أن الجد يستحق بالتعصيب من طريق الولاد فوجب أن يكون بمنزلة الأب في نفى مشاركة الأخوة إذ كانت الأخوة إنما تستحقه بالتعصيب منفردا عن الولاد ووجه آخر في نفى الشركة بينه وبين الأخوة على وجه المقاسمة وهو أن الجد يستحق السدس مع الابن كما يستحقه الأب معه فلما لم يستحق الأخوة مع الأب بهذه العلة وجب أن لا يجب لهم ذلك مع الجد* فإن قيل الأم تستحق السدس* مع الإبن ولم ينتف بذلك توريث الأخوة معها* قيل له إنما نصف بهذه العلة لنفى الشركة بينه وبين الأخوة على وجه المقاسمة وإذا انتفت الشركة بينهم وبينه في المقاسمة إذا انفردوا معه سقط الميراث لأن كل من ورثهم معه يوجب القسمة بينه وبينهم إذا لم يكن غيرهم على اعتبار منهم في الثلث أو السدس وأما الأم فلا تقع بينها وبين الأخوة مقاسمة بحال ونفى القسمة لا ينفى ميراثهم ونفى مقاسمة الأخوة للجد إذا انفردوا يوجب إسقاط ميراثهم معه إذ كان من يورثهم معه إنما يورثهم بالمقاسمة وإيجاب الشركة بينهم وبينه فلما سقطت المقاسمة ما وصفنا سقط ميراثهم معه إذ ليس فيه إلا قولان قول من يسقط معه ميراثهم رأسا وقول من يوجب المقاسمة فلما بطلت المقاسمة بما وصفنا ثبت سقوط ميراثهم معه فإن قال قائل إن الجد يدلى بابنه وهو أبو الميت والأخ يدلى بأبيه فوجبت الشركة بينهما كمن ترك أباه وابنه قيل له هذا غلط من وجهين أحدهما أنه لو صح هذا الإعتبار لما وجبت المقاسمة بين الجد والأخ بل كان الواجب أن يكون للجد السدس وللأخ ما بقي كمن ترك أبا وابنا للأب السدس والباقي للابن والوجه الآخر أنه يوجب أن يكون الميت إذا ترك جد أب وعما أن يقاسمه العم لأن جد لأب يدلى بالجد الأدنى والعم أيضا يدلى به لأنه ابنه فلما اتفق الجميع على سقوط ميراث العم مع جد الأب مع وجود العلة التي وصفت دل ذلك على انتفاضها وفسادها ويلزمه أيضا على هذا الاعتلال أن ابن

١٠٣

الأخ يشارك الجد في الميراث لأنه يقول أن ابن ابن الأب والجد أب الأب ولو ترك أبا وابن ابن كان للأب السدس وما بقي لابن الإبن* قوله تعالى( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ ) يدل على ثلاثة معان أحدها أن الأبناء لا يثابون على طاعة الآباء ولا يعذبون على ذنوبهم وفيه إبطال مذهب من يجيز تعذيب أولاد المشركين بذنوب الآباء ويبطل مذهب من يزعم من اليهود أن الله تعالى يغفر لهم ذنوبهم بصلاح آبائهم وقد ذكر الله تعالى هذا المعنى في نظائر ذلك من الآيات نحو قوله تعالى( وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) وقال( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ ) وقد بين ذلك النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قال لأبى رمثة ورآه مع ابنه أهو ابنك فقال نعم قال أما أنه لا يجنى عليك ولا تجنى عليه وقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم يا بنى هاشم لا تأتينى الناس بأعمالهم وتأتونى بأنسابكم فأقول لا أغنى عنكم من الله شيا وقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم (من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه) قوله تعالى( فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) إخبار بكفاية الله تعالى لنبيهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر أعدائه فكفاه مع كثرة عددهم وحرصهم فوجد مخبره على ما أخبر به وهو نحو قوله تعالى( وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) فعصمه منهم وحرسه من غوائلهم وكيدهم وهو دلالة على صحة نبوته إذ غير جائز اتفاق وجود مخبره على ما أخبر به في جميع أحواله إلا وهو من عند الله تعالى عالم الغيب والشهادة إذ غير جائز وجود مخبر أخبار المتخرصين والكاذبين على حسب ما يخبرون بل أكثر أخبارهم كذب وزور يظهر بطلانه لسامعيه وإنما يتفق لهم ذلك في الشاذ النادر إن اتفق قوله تعالى( سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها ) قال أبو بكر لم يختلف المسلمون أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلى بمكة إلى بيت المقدس وبعد الهجرة مدة من الزمان فقال ابن عباس والبراء بن عازب كان التحويل إلى الكعبة بعد مقدم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لسبعة عشر شهرا وقال قتادة لستة عشر وروى عن أنس بن مالك أنه تسعة أشهر وعشرة أشهر ثم أمره الله تعالى بالتوجه إلى الكعبة وقد نص الله في هذه الآيات على أن الصلاة كانت إلى غير الكعبة ثم حولها إليها بقوله تعالى( سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها ) الآية وقوله تعالى( وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ ) وقوله تعالى*( قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها ) فهذه الآيات كلها

١٠٤

دالة على أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد كان يصلى إلى غير الكعبة وبعد ذلك حوله إليها وهذا يبطل قول من يقول ليس في شريعة النبي ناسخ ولا منسوخ ثم اختلف في توجه النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بيت المقدس هل كان فرضا لا يجوز غيره أو كان مخيرا في توجهه إليها وإلى غيرها فقال الربيع ابن أنس كان مخيرا في ذلك وقال ابن عباس كان الفرض التوجه إليه بلا تخيير وأى الوجهين كان فقد كان التوجه فرضا لمن يفعله لأن التخيير لا يخرجه من أن يكون فرضا ككفارة اليمين أيها كفر به فهو الفرض وكفعل الصلاة في أول الوقت وأوسطه وآخره وحدثنا جعفر بن محمد اليمان قال حدثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن على بن أبى طلحة عن ابن عباس قال أول ما نسخ من القرآن شأن القبلة وذلك أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لما هاجر إلى المدينة أمره الله تعالى أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود بذلك فاستقبله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بضعة عشر شهرا وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام ويدعو الله تعالى وينظر إلى السماء فأنزل الله( قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ ) الآية وذكر القصة فأخبر ابن عباس أن الفرض كان التوجه إلى بيت المقدس وأنه نسخ بهذه الآية وهذا لا دلالة فيه على قول من يقول إن الفرض كان التوجه إليه بلا تخيير ولأنه جائز أن يكون كان الفرض على وجه التخيير وورد النسخ على التخيير وقصروا على التوجه إلى الكعبة بلا تخيير وقد روى أن النفر الذين قصدوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من المدينة إلى مكة للبيعة قبل الهجرة كان فيهم البراء بن معرور فتوجه بصلاته إلى الكعبة في طريقه وأبى الآخرون وقالوا إن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يتوجه إلى بيت المقدس فلما قدموا مكة سألوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك فقالوا له فقال قد كنت على قبلة يعنى بيت المقدس لو ثبت عليها أجزك ولم يأمره باستئناف الصلاة فدل على أنهم كانوا مخيرين وإن كان اختار التوجه إلى بيت المقدس فإن قيل له جائز أن يكون المراد من القرآن المنسوخ التلاوة وجائز أن يكون قوله( سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها ) وكان نزول ذلك قبل النسخ وفيه أخبار بأنهم على قبلة غيرها وجائز أن يريد أول ما نسخ من القرآن فيكون مراده الناسخ من القرآن دون المنسوخ وروى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال أول ما نسخ من القرآن شأن القبلة قال الله تعالى( وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ

١٠٥

اللهِ ) ثم أنزل الله تعالى( سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها ) إلى قوله( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) وهذا الخبر يدل على معنيين أحدهما أنهم كانوا مخيرين في التوجه إلى حيث شاءوا والثاني أن المنسوخ من القرآن هذا التخيير المذكور في هذه الآية بقوله( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) وقوله تعالى( سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ) قيل فيه أنه أراد بذكر السفهاء هاهنا اليهود وأنهم الذين عابوا تحويل القبلة وروى ذلك عن ابن عباس والبراء بن عازب وأرادوا به إنكار النسخ لأن قوما منهم لا يرون النسخ وقيل أنهم قالوا يا محمد ما ولاك عن قبلتك التي كنت عليها ارجع إليها نتبعك ونؤمن بك وإنما أرادوا فتنته فكان إنكار اليهود لتحويله عن القبلة الأولى إلى الثانية على أحد هذين الوجهين وقال الحسن لما حول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الكعبة من بيت المقدس قال مشركوا العرب يا محمد رغبت من ملة آبائك ثم رجعت إليها آنفا والله لترجعن إلى دينهم وقد بين الله تعالى المعنى الذي من أجله نقلهم الله تعالى عن القبلة الأولى إلى الثانية بقوله تعالى( وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ ) وقيل أنهم كانوا أمروا بمكة أن يتوجهوا إلى بيت المقدس ليتميزوا من المشركين الذين كانوا بحضرتهم يتوجهون إلى الكعبة فلما هاجر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة كانت اليهود المجاورون للمدينة يتوجهون إلى بيت المقدس فنقلوا إلى الكعبة ليتميزوا من هؤلاء كما تميزوا من المشركين بمكة باختلاف القبلتين فاحتج الله تعالى على اليهود في إنكارها النسخ بقوله تعالى( قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) وجه الاحتجاج به أنه إذا كان المشرق والمغرب لله فالتوجه إليهما سواء لا فرق بينهما في العقول والله تعالى يخص بذلك أى الجهات شاء على وجه المصلحة في الدين والهداية إلى الطريق المستقيم ومن جهة أخرى أن اليهود زعمت أن الأرض المقدسة أولى بالتوجه إليها لأنها من مواطن الأنبياء عليهم السلام وقد شرفها تعالى وعظمها فلا وجه للتولى عنها فأبطل الله قولهم ذلك بأن المواطن من المشرق والمغرب لله تعالى يخص منها ما يشاء في كل زمان على حسب ما يعلم من المصلحة فيه للعباد إذ كانت المواطن بأنفسها لا تستحق التفضيل وإنما توصف بذلك على حسب ما يوجب الله تعالى تعظيمها لتفضيل الأعمال فيها قال أبو بكر هذه الآية يحتج بها من يجوز نسخ السنة بالقرآن لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلى إلى بيت المقدس

١٠٦

وليس في القرآن ذكر ذلك ثم نسخ بهذه الآية ومن يأبى ذلك يقول ذكر ابن عباس أنه نسخ قوله تعالى( فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) فكان التوجه إلى حيث كان من الجهات في مضمون الآية ثم نسخ بالتوجه إلى الكعبة* قال أبو بكر وقوله( فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) ليس بمنسوخ عندنا بل هو مستعمل الحكم في المجتهد إذا صلّى إلى غير جهة الكعبة وفي الخائف وفي الصلاة على الراحلة وقد روى ابن عمر وعامر بن ربيعة أنها نزلت في المجتهد إذا تبين أنه صلّى إلى غير جهة الكعبة وعن ابن عمر أيضا أنه فيمن صلّى على راحلته ومتى أمكننا استعمال الآية من غير إيجاب نسخ لها لم يجز لنا الحكم بنسخها وقد تكلمنا في هذه المسألة في الأصول بما يغنى ويكفى* وفي هذه الآية حكم آخر وهو ما روى حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس بن مالك أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلى نحو البيت المقدس فنزلت( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) فنادى منادى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أمرتم أن توجهوا وجوهكم شطر المسجد الحرام فحولت بنو سلمة وجوهها نحو البيت وهم ركوع وقد روى عبد العزيز بن مسلم عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال بينما الناس في صلاة الصبح بقباء إذ جاءهم رجل فقال إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أنزل عليه قرآن وأمر أن يستقبل الكعبة ألا فاستقبلوها فاستداروا كهيئتهم إلى الكعبة وكان وجه الناس إلى الشام وروى إسرائيل عن أبى إسحاق عن البراء قال لما صرف النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الكعبة بعد نزول قوله تعالى( قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ ) مر رجل صلّى مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم على نفر من الأنصار وهم يصلون نحو بيت المقدس فقال إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد صلى إلى الكعبة فانحرفوا قبل أن يركعوا وهم في صلاتهم* قال أبو بكر وهذا خبر صحيح مستفيض في أيدى أهل العلم قد تلقوه بالقبول فصار في حيز التواتر الموجب للعلم وهو أصل في المجتهد إذا تبين له جهة القبلة في الصلاة أنه يتوجه إليها ولا يستقبلها وكذلك الأمة إذا أعتقت في الصلاة أنها تأخذ قناعها وتبنى وهو أصل في قبول خبر الواحد في أمر الدين لأن الأنصار قبلت خبر الواحد المخبر لهم بذلك فاستداروا إلى الكعبة بالنداء في تحويل القبلة ومن جهة أخرى أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم المنادى بالنداء وجه ولا فائدة* فإن قال قائل من أصلكم أن ما يثبت من طريق يوجب العلم لا يجوز قبول خبر الواحد في رفعه وقد كان القوم متوجهين إلى بيت المقدس بتوقيف من النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إياهم عليه ثم تركوه إلى غيره بخبر الواحد* قيل له لأنهم لم يكونوا على يقين

١٠٧

من بقاء الحكم الأول بعد غيبتهم عن حضرته لتجويزهم ورود النسخ فكانوا في بقاء الحكم الأول على غالب الظن دون اليقين فلذلك قبلوا خبر الواحد في رفعه* فإن قال قائل هلا* أجزتم للمتيمم البناء على صلاته إذا وجد الماء كما بنى هؤلاء عليها بعد تحويل القبلة* قيل له هو مفارق لما ذكرت من قبل أن تجويز البناء للمتيمم لا يوجب عليه الوضوء ويجيز له البناء بالتيمم مع وجود الماء والقوم حين بلغهم تحويل القبلة استداروا إليها ولم يبقوا على الجهة التي كانوا متوجهين إليها فنظير القبلة أن يؤمر المتيمم بالوضوء والبناء ولا خلاف أن المتيمم إذا لزمه الوضوء لم يجز البناء عليه ومن جهة أخرى أن أصل الفرض للمتيمم إنما هو الطهارة بالماء والتراب بدل منه فإذا وجد الماء عاد إلى أصل فرضه كالماسح على الخفين إذا خرج وقت مسحه فلا يبنى فكذلك المتيمم ولم يكن أصل فرض المصلين إلى بيت المقدس حين دخلوا فيها الصلاة إلى الكعبة وإنما ذلك فرض لزمهم في الحال وكذلك الأمة إذا أعتقت في الصلاة لم يكن عليها قبل ذلك فرض الستر وإنما هو فرض لزمها في الحال فأشبهت الأنصار حين علمت بتحويل القبلة وكذلك المجتهد فرضه التوجه إلى الجهة التي أداه إليها اجتهاده لا فرض عليه غير ذلك بقوله( فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) فإنما انتقل من فرض إلى فرض ولم ينتقل من بدل إلى أصل الفرض وفي الآية حكم آخر وهو أن فعل الأنصار في ذلك على ما وصفنا أصل في أن الأوامر والزواجر إنما يتعلق أحكامها بالعلم ومن أجل ذلك قال أصحابنا فيمن أسلم في دار الحرب ولم يعلم أن عليه صلاة ثم خرج إلى دار الإسلام أنه لا قضاء عليه فيما ترك لأن ذلك يلزم من طريق السمع وما لم يعلمه لا يتعلق عليه حكمه كما لم يتعلق حكم التحويل على الأنصار قبل بلوغهم الخبر وهو أصل في أن الوكالات والمضاربات ونحوهما من أوامر العباد لا ينسخ شيء منها إذا فسخها من له الفسخ إلا من بعد علم الآخر بها وكذلك لا يتعلق حكم الأمر بها على من لم يبلغه ولذلك قالوا لا يجوز تصرف الوكيل قبل العلم بالقبلة بالوكالة والله أعلم بالصواب.

باب القول في صحة الإجماع

قوله تعالى( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ) قال أهل اللغة الوسط العدل وهو الذي بين المقصر والغالي وقيل هو الخيار والمعنى واحد لأن العدل هو الخيار* قال زهير :

١٠٨

هم وسط يرضى الأنام بحكمهم

إذا طرقت إحدى الليالى بمعظم

وقوله تعالى( لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ) معناه كي تكونوا ولأن تكونوا كذلك وقيل في الشهداء أنهم يشهدون على الناس بأعمالهم التي خالفوا الحق فيها في الدنيا والآخرة كقوله تعالى( وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ ) وقيل فيه أنهم يشهدون للأنبياء عليهم السلام على أممهم المكذبين بأنهم قد بلغوهم لإعلام النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إياهم* وقيل لتكونوا حجة فيما* تشهدون كما أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم شهيد بمعنى حجة دون كل واحد منها* قال أبو بكر وكل هذه المعاني يحتملها اللفظ وجائز أن يكون بأجمعها مراد الله تعالى فيشهدون على الناس بأعمالهم في الدنيا والآخرة ويشهدون للأنبياء عليهم السلام على أممهم بالتكذيب لإخبار الله تعالى إياهم بذلك وهم مع ذلك حجة على من جاء بعدهم في نقل الشريعة وفيما حكموا به واعتقدوه من أحكام الله تعالى وفي هذه الآية دلالة على صحة إجماع الأمة من وجهين أحدهما وصفه إياها بالعدالة وأنها خيار وذلك يقتضى تصديقها والحكم بصحة قولها وناف لإجماعها على الضلال والوجه الآخر قوله( لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ) بمعنى الحجة عليهم كما أن الرسول لما كان حجة عليهم وصفه بأنه شهيد عليهم ولما جعلهم الله تعالى شهداء على غيرهم فقد حكم لهم بالعدالة وقبول القول لأن شهداء الله تعالى لا يكونون كفارا ولا ضلالا فاقتضت الآية أن يكونوا شهداء في الآخرة على من شاهدوا في كل عصر بأعمالهم دون من مات قبل زمنهم كما جعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم شهيدا على من كان في عصره هذا إذا أريد بالشهادة عليهم بأعمالهم في الآخرة فأما إذا أريد بالشهادة الحجة فذلك حجة على من شاهد وهم من أهل العصر الثاني وعلى من جاء بعدهم إلى يوم القيامة كما كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حجة على جميع الأمة أولها وآخرها ولأن حجة الله إذا ثبتت في وقت فهي ثابتة أبدا ويدلك على فرق ما بين الشهادة على الأعمال في الآخرة والشهادة التي هي الحجة قوله تعالى( فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً ) لما أراد الشهادة على أعمالهم خص أهل عصره ومن شاهده بها وكما قال تعالى حاكيا عن عيسى صلوات الله عليه( وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ) فتبين أن الشهادة بالأعمال إنما هي مخصوصة بحال الشهادة وأما الشهادة التي هي الحجة فلا تختص بها أول الأمة وآخرها في كون النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حجة عليهم كذلك أهل كل عصر لما كانوا شهداء الله من

١٠٩

طريق الحجة وجب أن يكونوا حجة على أهل عصرهم الداخلين معهم في إجماعهم وعلى من بعدهم من سائر أهل الأعصار فهو يدل على أن أهل عصر إذا أجمعوا على شيء ثم خرج بعضهم عن إجماعهم أنه محجوج بالإجماع المتقدم لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد شهد لهذه الجماعة بصحة قولها وجعلها حجة ودليلا فالخارج عنها بعد ذلك تارك لحكم دليله وحجته إذ غير جائز وجود دليل الله تعالى عاريا عن مدلوله ويستحيل وجود النسخ بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيترك حكمه من طريق النسخ فدل ذلك على أن الإجماع في أى حال حصل من الأمة فهو حجة الله عز وجل غير سائغ لأحد تركه ولا الخروج عنه ومن حيث دلت الآية على صحة إجماع الصدر الأول فهي دالة على صحة إجماع أهل الأعصار إذ لم يخصص بذلك أهل عصر دون عصر ولو جاز الاقتصار بحكم الآية على إجماع الصدر الأول دون أهل سائر الأعصار لجاز الاقتصار به على إجماع أهل سائر الأعصار دون الصدر الأول* فإن قال قائل لما قال( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ) فوجه الخطاب إلى الموجودين في حال نزوله دل ذلك على أنهم هم المخصوصون به دون غيرهم فلا يدخلون في حكمهم إلا بدلالة* قيل له هذا غلط لأن قوله تعالى( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ) هو خطاب لجميع الأمة أولها وآخرها من كان منهم موجودا في وقت نزول الآية ومن جاء بعدهم إلى قيام الساعة كما أن قوله تعالى( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) وقوله( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ ) ونحو ذلك من الآي خطاب لجميع الأمة كما كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مبعوثا إلى جميعها من كان منهم موجودا في عصره ومن جاء بعده قال الله تعالى( إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً ) وقال تعالى( وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ ) وما أحسب مسلما يستجيز إطلاق القول بأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن مبعوثا إلى جميع الأمة أولها وآخرها وأنه لم يكن حجة عليها وشاهدا وأنه لم يكن رحمة لكافتها فإن قال قائل لما قال الله تعالى( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ) واسم الأمة يتناول الموجودين في عصر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن جاء بعدهم إلى قيام الساعة فإنما حكم لجماعتها بالعدالة وقبول الشهادة وليس فيه حكم لأهل عصر واحد بالعدالة وقبول الشهادة فمن أين حكمت لأهل كل عصر بالعدالة حتى جعلتهم حجة على من بعدهم قيل له لما جعل من حكم له بالعدالة حجة على غيره فيما يخبر به أو يعتقده من أحكام الله تعالى وكان معلوما أن ذلك صفة قد حصلت له في الدنيا وأخبر

١١٠

تعالى بأنهم شهداء على الناس فلو اعتبر أول الأمة وآخرها في كونها حجة له عليهم لعلمنا أن المراد أهل كل عصر لأن أهل كل عصر يجوز أن يسموا أمة إذ كانت الأمة اسما للجماعة التي تؤم جهة واحدة وأهل كل عصر على حيالهم يتناولهم هذا الإسم وليس يمنع إطلاق لفظ الأمة والمراد أهل عصر ألا ترى أنك تقول أجمعت الأمة على تحريم الله تعالى الأمهات والأخوات ونقلت الأمة والقرآن ويكون ذلك إطلاقا صحيحا قيل إن يوجد آخر القوم فثبت بذلك أن مراد الله تعالى بذلك أهل كل عصر وأيضا فإنما قال الله تعالى( جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ) فعبر عنهم بلفظ منكر حين وصفهم بهذه الصفة وجعلهم حجة وهذا يقتضى أهل كل عصر إذ كان قوله جعلناكم خطابا للجميع والصفة لاحقة بكل أمة من المخاطبين ألا ترى إلى قوله( وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِ ) وجميع قوم موسى أمة له وسمى بعضهم على الإنفراد أمة لما وصفهم بما وصفهم به فثبت بذلك أن أهل كل عصر جائز أن يسمو أمة وإن كان الإسم قد يلحق أول الأمة وآخرها وفي الآية دلالة على أن من ظهر كفره نحو المشبهة ومن صرح بالجبر وعرف ذلك منه لا يعتد به في الإجماع وكذلك من ظهر فسقه لا يعتد به في الإجماع من نحو الخوارج والروافض وسواء من فسق من طريق الفعل أو من طريق الإعتقاد لأن الله تعالى إنما جعل الشهداء من وصفهم بالعدالة والخير وهذه الصفة لا تلحق الكفار ولا الفساق ولا يختلف في ذلك حكم من فسق أو كفر بالتأويل أو برد النص إذ الجميع شملهم صفة الذم ولا يلحقهم صفة العدالة بحال والله أعلم.

باب استقبال القبلة

قال الله تعالى( قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها ) قيل أن التقلب هو التحول وأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما كان يقلب وجهه في السماء لأنه كان وعد بالتحويل إلى الكعبة فكان منتظرا لنزول الوحى به وكان يسأل الله ذلك فأذن الله تعالى له فيه لأن الأنبياء صلوات الله عليهم لا يسئلون الله بعد الإذن لأنهم لا يأمنون أن لا يكون فيه صلاح ولا يجيبهم الله فيكون فتنة على قومه فهذا هو معنى تقلب وجهه في السماء* وقد قيل فيه أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يحب أن يحوله الله تعالى إلى الكعبة مخالفة لليهود وتميزا منهم ويروى ذلك عن مجاهد وقال ابن عباس أحب ذلك لأنها قبلة إبراهيم عليه السلام

١١١

وقيل أنه أحب ذلك استدعاء للعرب إلى الإيمان وهو معنى قوله( فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها ) وقوله( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) فإن أهل اللغة قد قالوا إن الشطر اسم مشترك يقع على معنيين أحدهما النصف يقال شطرت الشيء أى جعلته نصفين ويقولون في مثل لهم أحلب حلبا لك شطره أى نصفه والثاني نحوه وتلقاؤه ولا خلاف أن مراد الآية هو المعنى الثاني قاله ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والربيع بن أنس ولا يجوز أن يكون المراد المعنى الأول إذ ليس من قول أحد أن عليه استقبال نصف المسجد الحرام* واتفق المسلمون لو أنه صلى إلى جانب منه أجزأه وفيه دلالة على أنه لو أتى ناحية من البيت فتوجه إليها في صلاته أجزأه لأنه متوجه شطره ونحوه وإنما ذكر الله تعالى التوجه إلى ناحية المسجد الحرام ومراده البيت نفسه لأنه لا خلاف أنه من كان بمكة فتوجه في صلاته نحو المسجد أنه لا يجزيه إذا لم يكن محاذيا للبيت* وقوله تعالى( وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) خطاب لمن كان معاينا للكعبة ولمن كان غائبا عنها والمراد لمن كان حاضرها إصابة عينها ولمن كان غائبا عنها النحو الذي هو عنده أنه نحو الكعبة وجهتها في غالب ظنه لأنه معلوم أنه لم يكلف إصابة العين إذ لا سبيل له إليها وقال تعالى( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ) فمن لم يجد سبيلا إلى إصابة عين الكعبة لم يكلفها فعلمنا أنه إنما هو مكلف ما هو في غالب ظنه أنه جهتها ونحوها دون المغيب عند الله تعالى وهذا أحد الأصول الدالة على تجويز الاجتهاد في أحكام الحوادث وأن كل واحد من المجتهدين فإنما كلف ما يؤديه إليه اجتهاده ويستولى على ظنه ويدل أيضا على أن للمشتبه من الحوادث حقيقة مطلوبة كما أن القبلة حقيقة مطلوبة بالاجتهاد والتحري ولذلك صح تكليف الاجتهاد في طلبها كما صح تكليف طلب القبلة بالاجتهاد لأن لها حقيقة لو لم يكن هناك قبلة رأسا لما صح تكليفنا طلبها* قوله تعالى( وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها ) الوجهة قيل فيها قبلة روى ذلك عن مجاهد وقال الحسن طريقة وهو ما شرع الله تعالى من الإسلام وروى عن ابن عباس ومجاهد والسدى لأهل كل ملة من اليهود والنصارى وجهة وقال الحسن لكل نبي فالوجهة واحدة وهي الإسلام وإن اختلفت الأحكام كقوله تعالى( لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً ) قال قتادة هو صلاتهم إلى البيت المقدس وصلاتهم إلى الكعبة وقيل فيه لكل قوم من المسلمين من أهل سائر الآفاق التي جهات الكعبة وراءها أو قدامها أو عن

١١٢

يمينها أو عن شمالها كأنه أفاد أنه ليس جهة من جهاتها بأولى أن تكون قبلة من غيرها وقد روى أن عبد الله بن عمر كان جالسا بإزاء الميزاب فتلا قوله تعالى( فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها ) قال هذه القبلة فمن الناس من يظن عنى الميزاب وليس كذلك لأنه إنما أشار إلى الكعبة ولم يرد به تخصيص جهة الميزاب دون غيرها وكيف يكون ذلك مع قوله تعالى( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى ) وقوله تعالى( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) مع اتفاق المسلمين على أن سائر جهات الكعبة قبلة لموليها وقوله تعالى( وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها ) يدل على أن الذي كلف به من غاب عن حضرة الكعبة إنما هو التوجه إلى جهتها في غالب ظنه لا إصابة محاذاتها غير زائل عنها إذ لا سبيل له إلى ذلك وإذ غير جائز أن يكون جميع من غاب عن حضرتها محاذيا لها* وقوله تعالى( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ) يعنى والله أعلم المبادرة والمسارعة إلى الطاعات وهذا يحتج به في أن تعجيل الطاعات أفضل من تأخيرها ما لم تقم الدلالة على فضيلة التأخير نحو تعجيل الصلوات في أول أوقاتها وتعجيل الزكاة والحج وسائر الفروض بعد حضور وقتها ووجود سببها ويحتج به بأن الأمر على الفور وأن جواز التأخير يحتاج إلى دلالة وذلك أن الأمر إذا كان غير موقت فلا محالة عند الجميع أن فعله على الفور من الخيرات فوجب بمضمون قوله تعالى( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ) إيجاب تعجيله لأنه أمر يقتضى الوجوب* قوله تعالى( لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ) من الناس من يحتج به في الاستثناء من غير جنسه وقد اختلف أهل اللغة في معناه فقال بعضهم هو استثناء منقطع ومعناه لكن الذين ظلموا منهم يتعلقون بالشبهة ويضعون موضع الحجة وهو كقوله تعالى( ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ ) معناه لكن اتباع الظن* قال النابغة :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب

معناه لكن بسيوفهم فلول وليس بعيب وقيل فيه أنه أراد بالحجة المحاجة والمجادلة فقال لئلا يكون للناس عليكم حجاج إلا الذين ظلموا فإنهم يحاجونكم بالباطل وقال أبو عبيدة إلا هاهنا بمعنى الواو وكأنه قال لئلا يكون للناس عليكم حجة ولا الذين ظلموا وأنكر ذلك الفراء وأكثر أهل اللغة قال الفراء لا تجيء إلا بمعنى الواو إلا إذا تقدم استثناء كقول الشاعر :

١١٣

ما بالمدينة دار غير واحدة

دار الخليفة إلا دار مروان

كأنه قال بالمدينة دار إلا دار الخليفة ودار مروان وقال قطرب معناه لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا على الذين ظلموا وأنكر هذا بعض النجاة.

باب وجوب ذكر الله تعالى

قوله تعالى( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ) قد تضمن الأمر بذكر الله تعالى وذكرنا إياه على وجوه وقد روى فيه أقاويل عن السلف قيل فيه اذكروني بطاعتي أذكركم برحمتي وقيل فيه اذكروني بالثناء بالنعمة أذكركم بالثناء بالطاعة وقيل اذكروني بالشكر أذكركم بالثواب وقيل فيه اذكروني بالدعاء أذكركم بالإجابة واللفظ محتمل لهذه المعاني وجميعها مراد الله تعالى لشمول اللفظ واحتماله إياه* فإن قيل لا يجوز أن يكون الجميع مراد الله* تعالى بلفظ واحد لأنه لفظ مشترك لمعان مختلفة* قيل له ليس كذلك لأن جميع وجوه الذكر على اختلافها راجعة إلى معنى واحد فهو كاسم الإنسان يتناول الأنثى والذكر والأخوة تتناول الأخوة المتفرقين وكذلك الشركة ونحوها وإن وقع على معان مختلفة فإن الوجه الذي سمى به الجميع معنى واحد وكذلك ذكر الله تعالى لما كان المعنى فيه طاعته والطاعة تارة بالذكر باللسان وتارة بالعمل بالجوارح وتارة باعتقاد القلب وتارة بالفكر في دلائله وحججه وتارة في عظمته وتارة بدعائه ومسألته جاز إرادة الجميع بلفظ واحد كلفظ الطاعة نفسها جاز أن يراد بها جميع الطاعات على اختلافها إذا ورد الأمر بها مطلقا نحو قوله تعالى( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) وكالمعصية يجوز أن يتناول جميعها لفظ النهى فقوله فاذكروني قد تضمن الأمر بسائر وجوه الذكر منها سائر وجوه طاعته وهو أعم الذكر ومنها ذكره باللسان على وجه التعظيم والثناء عليه والذكر على وجه الشكر والاعتراف بنعمه ومنها ذكره بدعاء الناس إليه والتنبيه على دلائله وحججه ووحدانيته وحكمته وذكره بالفكر في دلائله وآياته وقدرته وعظمته وهذا أفضل الذكر وسائر وجوه الذكر مبنية عليه وتابعة له وبه يصح معناها لأن اليقين والطمأنينة به تكون قال الله تعالى( أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) يعنى والله أعلم ذكر القلب الذي هو الفكر في دلائل الله تعالى وحججه وآياته وبيناته وكلما ازددت فيها فكرا ازددت طمأنينة وسكونا وهذا هو أفضل الذكر لأن سائر الأذكار إنما يصح ويثبت حكمها بثبوته وقد

١١٤

روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال (خير الذكر الخفى) حدثنا ابن قانع قال حدثنا عبد الملك بن محمد قال حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن أسامة بن زيد عن محمد عن عبد الرحمن عن سعد بن مالك عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال (خير الذكر الخفى وخير الرزق ما يكفى) قوله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ) عقيب قوله( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ) يدل على أن الصبر وفعل الصلاة لطف في التمسك بما في العقول من لزوم ذكر الله تعالى الذي هو الفكر في دلائله وحججه وقدرته وعظمته وهو مثل قوله تعالى( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ) ثم عقبه بقوله( وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ ) والله أعلم أن ذكر الله تعالى بقلوبكم وهو التفكر في دلائله أكبر من فعل الصلاة وإنما هو معونة ولطف في التمسك بهذا الذكر وإدامته* قوله تعالى( وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ ) فيه اخبار بإحياء الله تعالى الشهداء بعد موتهم ولا يجوز أن يكون المراد أنهم سيحيون يوم القيامة لأنه لو كان هذا مراده لما قال ولكن لا تشعرون لأن قوله( وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ ) أخبار بفقد علمنا بحياتهم بعد الموت ولو كان المراد الحياة يوم القيامة لكان المؤمنون قد شعروا به وعرفوه قبل ذلك فثبت أن المراد الحياة الحادثة بعد موتهم قبل يوم القيامة وإذا جاز أن يكون المؤمنون قد أحيوا في قبورهم قبل يوم القيامة وهم منعمون فيها جاز أن يحيا الكفار في قبورهم فليعذبوا وهذا يبطل قول من ينكر عذاب القبر* فإن قيل لما كان المؤمنون كلهم منعمين بعد الموت فكيف خص المقتولين في* سبيل الله* قيل له جائز أن يكون اختصهم بالذكر تشريفا لهم على جهة تقديم البشارة بذكر حالهم ثم بين بعد ذلك ما يختصون به في آية أخرى وهو قوله تعالى( أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) فإن قيل كيف يجوز أن يكونوا أحياء ونحن نراهم رميما في القبور بعد مرور الأزمان عليهم قيل له الناس في هذا على قولين* منهم من يجعل الإنسان هو* الروح وهو جسم لطيف والنعيم والبؤس إنما هما له دون الجثة* ومنهم من يقول إن الإنسان هذا الجسم الكثيف المشاهد فهو يقول إن الله تعالى يلطف أجزاء منه بمقدار ما تقوم به البنية الحيوانية ويوصل النعيم إليه وتكون تلك الأجزاء اللطيفة بحيث يشاء الله تعالى أن تكون تعذب أو تنعم على حسب ما يستحقه ثم يفنيه الله تعالى كما يفنى سائر الخلق قبل يوم القيامة ثم يحيه يوم القيامة للحشر وقد حدثنا أبو القاسم عبد الله بن محمد

١١٥

ابن إسحاق المروزى قال حدثنا الحسن بن يحيى بن أبى الربيع الجرجانى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن الزهري عن كعب بن مالك أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (نسمة المسلم طير تعلق في شجر الجنة حتى يرجعها إلى جسده) قوله تعالى( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ـ إلى قوله تعالى ـوَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) روى عن عطاء والربيع وأنس بن مالك أن المراد بهذه المخاطبة أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد الهجرة* قال أبو بكر جائز والله أعلم أن يكون قدم إليهم ذكر ما علم أنه يصيبهم في الله من هذه البلايا والشدائد المعنيين أحدهما ليوطنوا أنفسهم على الصبر عليها إذا وردت فيكون ذلك أبعد من الجزع وأسهل عليهم بعد الورود والثاني ما يتعجلون به من ثواب توطن النفس قوله تعالى( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ) يعنى والله أعلم على ما قدم ذكره من الشدائد وقوله تعالى( الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ) يعنى إقرارهم في تلك الحال بالعبودية والملك له وأن له أن يبتليهم بما يشاء تعريضا منه لثواب الصبر واستصلاحا لهم لما هو أعلم به إذ هو تعالى غير متهم في فعل الخير والصلاح إذ كانت أفعاله كلها حكمة ففي إقرارهم بالعبودية تفويض الأمر إليه ورضى بقضائه فيما يبتليهم به إذ لا يقضى إلا بالحق كما قال تعالى( وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ ) وقال عبد الله بن مسعود لأن أخر من السماء أحب إلى من أن أقول لشيء قضاه الله تعالى ليته لم يكن* وقوله تعالى( إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ) إقرار بالبعث والنشور واعتراف بأن الله تعالى سيجازى الصابرين على قدر استحقاقهم فلا يضيع عنده أجر المحسنين* ثم أخبر بما لهم عند الله تعالى عند الصبر على هذه الشدائد في طاعة الله تعالى فقال( أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ) يعنى الثناء الجميل والبركات والرحمة وهي النعمة التي لا يعلم مقاديرها إلا الله تعالى كقوله في آية أخرى( إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ ) ومن المصائب والشدائد المذكورة في الآية ما هو من فعل المشركين بهم ومنها ما هو من فعل الله تعالى فأما ما كان من فعل المشركين فهو أن العرب كلها كانت قد اجتمعت على عداوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم غير ما كان بالمدينة من المهاجرين والأنصار وكان خوفهم من قبل هؤلاء لقلة المسلمين وكثرتهم* وأما الجوع فلقلة ذات اليد والفقر الذي نالهم* وجائز أن يكون الفقر تارة من الله تعالى

١١٦

بأن يفقرهم بتلف أموالهم* وجائز أن يكون من قبل العدو بأن يغلبوا عليه فيتلف ونقص من الأموال والأنفس والثمرات يحتمل الوجهين جميعا لأن النقص من الأموال جائز أن يكون سببه العدو* وكذلك الثمرات لشغلهم إياهم بقتالهم عن عمارة أراضيهم* وجائز أن يكون من فعل الله تعالى بالجوانح التي تصيب الأموال والثمار* ونقص الأنفس جائز أن يكون المراد به من يقتل منهم في الحرب وأن يريد به من يميته الله منهم من غير قتل* فأما الصبرا على ما كان من فعل الله فهو التسليم والرضا بما فعله والعلم بأنه لا يفعل إلا الصلاح والحسن وما هو خير لهم وأنه ما منعهم إلا ليعطيهم وأن منعه إياهم إعطاء منه لهم* وأما ما كان من فعل العدو فإن المراد به الصبر على جهادهم وعلى الثبات على دين الله تعالى ولا ينكلون عن الحرب ولا يزولون عن طاعة الله بما يصيبهم من ذلك ولا يجوز أن يريد بالابتلاء ما كان منهم من فعل المشركين لأن الله تعالى لا يبتلى أحدا بالظلم والكفر ولا يريده ولا يوجب الرضا به ولو كان الله تعالى يبتلى بالظلم والكفر لوجب الرضا به كما رضيه بزعمهم حين فعله والله يتعالى عن ذلك* وقد تضمنت الآية مدح الصابرين على شدائد الدنيا وعلى مصائبها على الوجوه التي ذكر والوعد بالثواب والثناء الجميل والنفع العظيم لهم في الدنيا والدين فأما في الدنيا فما يحصل له به من الثناء الجميل والمحل الجليل في نفوس المؤمنين لائتماره لأمر الله تعالى ولأن في الفكر في ذلك تسلية عن الهم ونفى الجزع الذي ربما أدى إلى ضرر في النفس وإلى إتلافها في حال ما يعقبه ذلك في الدنيا من محمود العاقبة وأما في الآخرة فهو الثواب الجزيل الذي لا يعلم مقداره إلا الله قال أبو بكر وقد اشتملت هذه الآية على حكمين فرض ونفل فأما الفرض فهو التسليم لأمر الله والرضا بقضاء الله والصبر على أداء فرائضه لا يثنيه عنها مصائب الدنيا ولا شدائدها وأما النفل فإظهار القول بإنا الله وإنا إليه راجعون فإن في إظهاره فوائد جزيلة منها فعل ما ندب الله إليه ووعده الثواب عليه ومنها أن غيره يقتدى به إذا سمعه ومنها غيظ الكفار وعلمهم بجده واجتهاده في دين الله تعالى والثبات على طاعته ومجاهدة أعدائه ويحكى عن دواد الطائي قال الزاهد في الدنيا لا يحب البقاء فيها وأفضل الأعمال الرضا عن الله ولا ينبغي للمسلم أن يحزن للمصيبة لأنه يعلم أن لكل مصيبة ثوابا والله تعالى أعلم بالصواب.

١١٧

باب السعى بين الصفا والمروة

قال الله تعالى( إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما ) روى عن ابن عيينة عن الزهري عن عروة قال قرأت عند عائشة رضى الله تعالى عنها( إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ ) فقلت لا أبالى أن لا أفعل قالت بئسما قلت يا ابن أختى قد طاف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وطاف المسلمون فكانت سنة إنما كان من أهل لمناة الطاغية لا يطوف بهما فلما جاء الإسلام كرهوا أن يطوفوا بهما حتى نزلت هذه الآية فطاف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فكانت سنة قال فذكرت ذلك لأبى بكر بن عبد الرحمن فقال إن هذا العلم ولقد كان رجال من أهل العلم يقولون إنما سأل عن هذا الرجال الذين كانوا يطوفون بين الصفا والمروة فأحسبها نزلت في الفريقين وروى عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى( إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ ) قال كان على الصفا تماثيل وأصنام وكان المسلمون لا يطوفون عليها لأجل الأصنام والتماثيل فأنزل الله تعالى( فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما ) قال أبو بكر كان السبب في نزول هذه الآية عند عائشة سؤال من كان لا يطوف بهما في الجاهلية لأجل إهلاله لمناة وعلى ما ذكر ابن عباس وأبو بكر بن عبد الرحمن أن ذلك كان لسؤال من كان يطوف بين الصفا والمروة وقد كان عليهما الأصنام فتجنب الناس الطواف بهما بعد الإسلام وجائز أن يكون سبب نزول هذه الآية سؤال الفريقين وقد اختلف في السعى بينهما فروى هشام بن عروة عن أبيه وأيوب عن ابن أبى مليكة جميعا عن عائشة قالت ما أتم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لامرئ حجة ولا عمرة ما لم يطف بين الصفا والمروة وذكر أبو الطفيل عن ابن عباس أن السعى بينهما سنة وأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فعله وروى عاصم الأحول عن أنس قال كنا نكره الطواف بين الصفا والمروة حتى نزلت هذه الآية والطواف بينهما تطوع وروى عن عطاء عن ابن الزبير قال من شاء لم يطف بين الصفا والمروة وروى عن عطاء ومجاهد أن من تركه فلا شيء عليه وقد اختلف فقهاء الأمصار في ذلك فقال أصحابنا والثوري ومالك أنه واجب في الحج والعمرة وتركه يجزى عنه الدم وقال الشافعى لا يجزى عنه الدم إذا تركه وعليه أن يرجع فيطوف قال أبو بكر هو عند أصحابنا من توابع الحج يجزى عنه الدم لمن رجع إلى أهله مثل الوقوف بالمزدلفة ورمى الجمار وطواف الصدر والدليل على أنه ليس من فروضه قوله عليه السلام

١١٨

في حديث الشعبي عن عروة بن مضرس الطائي قال أتيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمزدلفة فقلت يا رسول الله جئت من جبل طي ما تركت جبلا إلا وقفت عليه فهل لي من حج فقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم من صلّى معنا هذه الصلاة ووقف معنا هذا الموقف وقد أدرك عرفة قبل ليلا أو نهارا فقدتم حجه وقضى تفثه فهذا القول منهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ينفى كون السعى بين الصفا والمروة فرضا في الحج من وجهين أحدهما أخباره بتمام حجته وليس فيه السعى بينهما والثاني أن ذلك لو كان من فروضه لبينه للسائل لعلمه بجهله بالحكم* فإن قيل لم يذكر طواف الزيارة مع* كونه من فروضه قيل له ظاهر اللفظ يقتضى ذلك وإنما أثبتناه فرضا بدلالة* فإن قيل فهذا يوجب أن لا يكون مسنونا ويكون تطوعا كما روى عن أنس وابن الزبير قيل له كذلك يقتضى ظاهر اللفظ وإنما أثبتناه مسنونا في توابع الحج بدلالة ومما يحتج به لوجوبه أن فرض الحج مجمل في كتاب الله لأن الحج في اللغة القصد قال الشاعر يحج مأمومة في قعرها لجف يعنى أنه يقصد ثم نقل في الشرع إلى معان أخر لم يكن اسما موضوعا لها في اللغة وهو مجمل مفتقر إلى البيان فمهما ورد من فعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو بيان للمراد بالجملة وفعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا ورد مورد البيان فهو على الوجوب فلما سعى بينهما النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان ذلك دلالة الوجوب حتى تقوم دلالة الندب ومن جهة أخرى أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (خذوا عنى مناسككم) وذلك أمر يقتضى إيجاب الاقتداء به في سائر أفعال المناسك فوجب الاقتداء به في السعى بينهما وقد روى طارق بن شهاب عن أبى موسى قال قدمت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بالبطحاء فقال بم أهللت فقلت أهللت بإهلال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أحسنت طف بالبيت والصفا والمروة ثم أحل فأمره بالسعي بينها وهذا أمر يقتضى الإيجاب وقد روى فيه حديث مضطرب السند والمتن جميعا مجهول الراوي وهو ما رواه معمر عن واصل مولى أبى عيينة عن موسى ابن أبى عبيد عن صفية بنت شيبة عن امرأة سمعت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بين الصفا والمروة(يقول كتب عليكم السعى فاسعوا) فذكرت في هذا الحديث أنها سمعته يقول ذلك بين الصفا والمروة ولم تذكر اسم الرواية وقد روى محمد بن عبد الرحمن بن محيصن عن عطاء بن أبى رباح قال حدثتني صفية بنت شيبة عن امرأة يقال لها حبيبة بنت أبى تجزءة قالت دخلت دار أبى حسين ومعى نسوة من قريش والنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يطوف بالبيت حتى أن ثوبه ليدور به وهو يقول لأصحابه (اسعوا فإن الله تعالى قد كتب عليكم السعى)

١١٩

فذكر في هذا الحديث أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ذلك وهو في الطواف فظاهر ذلك يقتضى أن يكون مراده السعى في الطواف وهو الرمل والطواف نفسه لأن المشي يسمى سعيا قال الله تعالى( فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ ) وليس المراد إسراع المشي وإنما هو المصير إليه والخبر الأول الذي ذكر فيه أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ذلك وهو يسعى بين الصفا والمروة لا دلالة فيه على أنه أراد السعى بينهما إذ جائز أن يكون مراد الطواف بالبيت والرمل فيه وهو سعى لأنه إسراع المشي وأيضا فإن ظاهره يقتضى جواز أى سعى كان وهو إذا رمل فقد سعى ووجوب التكرار لا دلالة عليه فالأخبار الأول التي ذكرناها دالة على وجوب السعى لأنه سنة لا ينبغي تركها ولا دلالة فيها على أن من تركها لا ينوب عنه دم والدليل على أن الدم ينوب عنه لمن تركه حتى يرجع إلى أهله اتفاق السلف على جواز السعى بعد الإحلال من جميع الإحرام كما يصح الرمي وطواف الصدر فوجب أن ينوب عنه الدم كما ناب عن الرمي وطواف الصدر فإن قيل طواف الزيارة يفعل بعد الإحلال ولا ينوب عنه الدم قيل له ليس كذلك لأن بقاء طواف الزيارة يوجب كونه محرما عن النساء وإذا طاف فقد حل له كل شيء بلا خلاف بين الفقهاء وليس لبقاء السعى تأثير في بقاء شيء من الإحرام كالرمى وطواف الصدر فإن قال قائل فإن الشافعى يقول إذا طاف للزيارة لم يحل من النساء وكان حراما حتى يسعى بالصفا والمروة قيل له قد اتفق الصدر الأول من التابعين والسلف بعدهم أنه يحل بالطواف بالبيت لأنهم على ثلاثة أقاويل بعد الحلق فقال قائلون هو محرم من اللباس والصيد والطيب حتى يطوف بالبيت وقال عمر بن الخطاب هو محرم من النساء والطيب وقال ابن عمر وغيره هو محرم من النساء حتى يطوف فقد اتفق السلف على أنه يحل من النساء بالطواف بالبيت دون السعى بين الصفا والمروة وأيضا فإن السعى بينهما لا يفعل إلا تبعا للطواف ألا ترى أن من لا طواف عليه لا سعى عليه وأنه لا يتطوع بالسعي بينهما كما لا يتطوع بالرمي فدل على أنه من توابع الحج والعمرة فإن قيل الوقوف بعرفة لا يفعل إلا بعد الإحرام وطواف الزيارة لا يفعل إلا بعد الوقوف وهما من فروض الحج* قيل له لم نقل أن من لا يفعل إلا بعد غيره فهو تبع فيلزمنا ما ذكرت وإنما قلنا ما لا يفعل إلا على وجه التبع لأفعال الحج أو العمرة فهو تابع ليس بفرض فأما الوقوف بعرفة فإنه غير مفعول على وجه التبع لغيره بل يفعل منفردا

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

النبي والرسول

في القرآن الكريم

٣٤١

في هذا الفصل :

١. الرسول من أُوحي إليه وأُمر بالتبليغ والنبي من أُوحي إليه سواء أُمر بالتبليغ أو لم يؤمر. ونقد هذا الفرق.

٢. الرسول هو الذي أُنزل معه كتاب، والنبي هو الذي ينبئ عن الله وإن لم يكن معه كتاب. ونقد هذا الفرق.

٣. الرسول من جاء بشرع جديد، والنبي أعم منه ومن جاء لتقرير شرع سابق. ونقد هذا الفرق.

٤. الرسول من يعاين الملك ويكلّمه مشافهة أو يلقى في روعه، والنبي من يتلقّى الوحي بغير هذا الطريق. ونقد هذا الفرق.

٥. النبي من يوحى إليه في المنام، والرسول من يشاهد الملك ويكلمه رسول ربه. ونقد هذا الفرق.

٦. النبي والرسول مبعوثان إلى الناس والرسول هو المرسل برسالة خاصة زائدة على أصل نبأ النبوة. ونقد هذا الفرق.

٧. الفرق المختار في المقام وبيان أدلّته.

٨. ما يترتب على هذا الفرق من النتائج.

٩. منصب النبوة أسمى من مقام الرسالة.

١٠. بحث وتنقيب حول الروايات المروية في هذا المجال والقضاء بينها.

١١. المحدَّث في السنّة.

٣٤٢

ما هو الفرق بين الرسول والنبي ؟

لقد وصف الله تعالى في كتابه الكريم أُناساً بالرسالة والنبوة والإمامة، ومدح الذين صدقوهم واقتفوا آثارهم، وذم العصابة الذين كانوا يكذبونهم ويخالفونهم، وأوعدهم بالعذاب الشديد، فيجب ـ والحالة هذه ـ أن نتعرف عليهم بصفاتهم التي يتميزون بها عن غيرهم، وقد اضطربت كلمات المفسّرين وأصحاب المعاجم في تحديد تلكم المفاهيم القرآنية، وجاءوا، بفروق لا يوافق الكثير منها الذكر الحكيم إذ لم يستعينوا في استيضاح المراد بالرجوع إلى نفس القرآن، ونحن نذكر تلكم الفروق ثم نردفها بما أوصلنا إليه التدبر في الآيات، وما ننقله عنهم مذكور في كتب القوم تفسيراً ولغة.

لقد أصفق القوم إلّا من شذ(١) على نفي الترادف بين النبي والرسول، استناداً إلى ظهور كثير من الآيات، وإليك منها ما يدل على مغايرتهما :

١.( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ ) (٢) .

٢.( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) (٣) .

__________________

(١) فروق اللغة، للجزائري: ١٠٧.

(٢) الأعراف: ١٥٧.

(٣) الحج: ٥٢.

٣٤٣

٣( وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ مُوسَىٰ إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً ) (١) .

٤.( وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً ) (٢) .

وهكذا ترى أنّه سبحانه يذكر النبي بعد الرسول، وهو آية اختلافهما في المفاد وتوهم انّه من قبيل عطف المرادف على مثله خلاف الظاهر، لا سيّما في قوله سبحانه:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ ) الآية.

ودونك الفروق المذكورة في كتب القوم(٣) .

الفرق الأوّل

الرسول أخص من النبي، فهو من أُوحي إليه وأُمر بالتبليغ، والنبي من أُوحي إليه، سواء أُمر بتبليغه أو لم يؤمر، وهذا هو المشهور بينهم، نقله واختاره لفيف من المفسّرين(٤) .

ولعل القائلين به، استندوا إلى الوجه التالي :

« النبي » صفة مشبهة على زنة اللازم ـ بمعنى ذي النبأ والمطلع عليه ـ وكون الإنسان صاحب نبأ وخبر، لا يلازم كونه مأموراً بإبلاغه وإعلانه، فيصير عند ذلك أعم من أن يكون مأموراً بتبليغه.

__________________

(١) مريم: ٥١.

(٢) مريم: ٥٤.

(٣) هذه الفروق كلها تشير إلى أمر واحد، وهو جعل الرسول أخصّ من النبي بوجوه مختلفة، غير انّه طبعاً للوضوح بحثنا عن كل واحد مستقلاً.

(٤) التبيان: ٧ / ٣٣١، مجمع البيان: ٧ / ٩١، تفسير الجلالين في تفسير الآية ٥٢ من سورة الحج، تفسير المنار: ٩ / ٢٢٥، وغيرها.

٣٤٤

نعم لو قلنا بأنّ « فعيل » بمعنى « فاعل » والنبي بمعنى المنبئ عن الغيب والمبلغ للخبر الخطير، فربما يكون مشعراً بكونه مأموراً بإعلانه ولكن الأشعار غير الدلالة، إذ لا ملازمة بين الإنباء عن الغيب وبين كونه مبعوثاً إلى هداية الناس وإنّهم ملزمون بإطاعته والانقياد إليه فيما يأمر وينهى.

أمّا « الرسول » فهو عبارة عن من تحمل رسالة من إبلاغ كلام أو تنفيذ عمل من جانب مرسله.

قال الراغب: « الرسول » يقال تارة للقول المتحمل، كقول الشاعر: « ألا أبلغ أبا حفص رسولا » وتارة لمتحمل القول والرسالة(١) وعند ذاك فاللفظ بما له من المعنى، يدل على أنّ الرسول من بعث إلى الغير لتنفيذ رسالة كلف بحملها من قبل مرسله.

هذا غاية ما يمكن أن يوجه به هذا القول ولكن يمكن مناقشته بوجوه :

١. ان أراد أنّ النبي لغة كذلك وانّه لا يلازم كونه مأموراً بالتبليغ فله وجه وإن أراد أنّ المراد من « النبي » أو « النبيين » في القرآن أعم فهو غير ظاهر لأنّه سبحانه وصف النبيين عامة بكونهم مبشرين ومنذرين وقال:( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ ) (٢) .

وظاهر الآية يعطي أنّ كل نبي كان مبشراً ومنذراً، فهل التبليغ إلّا التبشير والإنذار، سواء كان التبشير بشريعته أو بشريعة من سبقه من الأنبياء.

نعم انّ في الآية احتمالاً آخر تسقط معه المناقشة، وهو انّ المراد من النبيين فيها القسم الخاص منهم لا جميعهم، بقرينة قوله سبحانه:( وَأَنزَلَ مَعَهُمُ

__________________

(١) المفردات: ١٩٥.

(٢) البقرة: ٢١٣.

٣٤٥

الكِتَابَ ) إذ من المعلوم انّه لم يكن لكل نبي كتاب، فالكتب السماوية محدودة معدودة، لا تتجاوز مائة وأربعة كتب(١) وعلى هذا فالآية تدل على أنّ كل نبي أُنزل عليه كتاب، يكون مبعوثاً ومأموراً بالتبشير والإنذار لا أنّ كل من كان نبياً وإن لم يكن معه كتاب كان مأموراً بالتبليغ والتبشير والإنذار.

فإن قلت: لو كان المراد من النبيين خصوص من أُنزل معه الكتاب يلزم استعمال العام وإرادة الأفراد النادرة، لأنّ المعروف انّ عدد الأنبياء ١٢٤٠٠٠ نبي، والذين أُنزل معهم الكتاب عن ١٠٤ أنبياء، وعندئذ تكون نسبة من أُنزل معه الكتاب إلى مجموع النبيين نسبة الواحد على ١١٩٢، ومن المعلوم انّ استعمال العام وإرادة الأفراد النادرة مستهجن.

قلت: إنّ الاستهجان إنّما يلزم إذا كان المخصص منفصلاً وأمّا إذا كان متصلاً فلا، فلو قلنا أكرم العلماء العدول وكان نسبة العادل منهم إلى الفاسق نسبة الواحد إلى المائة لما أضر ذلك بالاستعمال ولما عد مستهجناً، والمقام من هذا الباب.

٢. انّ القرآن ينص على أنّ حياة الأنبياء لم تكن خالية من عدوٍ من الإنس والجن، قال سبحانه:( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُوراً ) (٢) ، وقال تعالى:( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ المُجْرِمِينَ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً ) (٣) .

وعلى هذا فكل نبي جاء ذكره في القرآن كان مأموراً بمكافحة الفساد وتطهير المجتمع البشري من كل عمل إجرامي، فلو لم يكن كل نبي مأموراً

__________________

(١) سيوافيك ما يدل على ذلك.

(٢) الأنعام: ١١٢.

(٣) الفرقان: ٣١.

٣٤٦

بالإرشاد والهداية، ومكافحة الشر والفساد، لم يكن للحكم بثبوت عدو لكل نبي على نحو الاستغراق الكلي وجه.

وتوهم أنّ للعداوة عللاً وأسباباً غير الدعوة إلى الحق، إذ أنّ كثيراً من الناس يبغضون من ليس على شاكلتهم وإن لم يكن بينه وبينهم أيّة صلة، والعصابة الضالة الجاهلية أعداء للصلحاء من الناس، ولو فرض الصالح حيادياً تجاه فكرتهم العادية وعقيدتهم، غير متعرض لشيء من أعمالهم وأفعالهم بذم أو تنديد.

مدفوع بأنّ الناس كانوا يبغضون الأنبياء من جهة رسالاتهم ومناهجهم لا من جهة أنّهم ليسوا على شاكلتهم، والمناظرات التي دارت بينهم أوضح شاهد على ذلك.

٣. لو كان الرسول أخص من النبي، لكان أشرف وأمثل منه، وذلك يناسب تقديم لفظ النبي على الرسول عند اجتماعهما في كلام واحد، لأنّ ذكر الخاص بعد العام أوقع وأنسب، والتدرج من الداني إلى العالي أو منه إلى الأعلى، أحسن وأبلغ، مع أنّ الوارد في القرآن هو العكس، قال تعالى:( وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ مُوسَىٰ إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً ) (١) ، وقال سبحانه:( إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً ) (٢) .

وأمّا قوله سبحانه:( وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ ) (٣) فالتدرج فيه من العالي إلى الداني لأجل رعاية فواصل الآيات حيث يقول سبحانه قبله:( إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُؤْمِنِينَ *وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ ) .

ومما يثير العجب، تفسير النبي في الآيتين بمعنى الرفيع شأناً والأعلى منزلة ،

__________________

(١) مريم: ٥١.

(٢) مريم: ٥٤.

(٣) الصافات: ١١٢.

٣٤٧

إذ فيه انّه مشتق من النبأ، لا من النبوة، وعلى فرض صحته فالحمل عليه ضعيف جداً، لكونه منقولاً إلى المعنى المصطلح ولم يستعمل هذا اللفظ وما اشتق منه، وهي النبوة، في القرآن ولا في الأحاديث الشريفة، إلّا في ما استعملت فيه تلك اللفظة في قوله تعالى:( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللهُ الكِتَابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِن دُونِ اللهِ ) (١) .

مضافاً إلى أنّ هذا لا يصح في قوله سبحانه:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) (٢) ، إذ لا يصح تفسير النبي فيه إلّا بالمعنى المصطلح، ثم إنّ صاحب المنار(٣) لما اختار هذا الفرق وجه تقديم الرسول على النبي في قوله سبحانه:( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ ) بكونه أهم وأشرف ولكن لو صح ما ذكره فرضاً في قوله سبحانه:( كَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً ) (٤) ، أي رسولاً عظيم الشأن لا يصح في قوله:( وَلا نَبِيٍّ ) .

٤. انّ ما ذكر من الوجه لا يصح في قوله سبحانه:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) فإذا كان الرسول هو النبي المبعوث إلى الناس يكون المقصود من عديله أعني النبي، غير المبعوث منهم فقط، فإنّ المبعوث منهم إلى الناس داخل في الرسول، وإذا كان المقصود من « النبي » في الآية غير المبعوث إلى الناس لا يستقيم معنى الآية، وينافيه قوله سبحانه:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ ) لظهوره في أنّ الصنفين مرسلان من الله.

__________________

(١) آل عمران: ٧٩.

(٢) الحج: ٥٢.

(٣) المنار: ٩ / ٢٢٥.

(٤) قال العلّامة الطباطبائي في ميزانه: والآيتان في مقام المدح والتعظيم ولا يناسب هذا المقام، التدرج من الخاص إلى العام ( الميزان: ٢ / ١٤٥ ).

٣٤٨

الفرق الثاني

الرسول هو الذي أنزل معه كتاب، والنبي أعم، فهو الذي ينبئ عن الله وإن لم يكن معه كتاب، قال الزمخشري: قوله سبحانه:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ ) دليل بين على تغاير الرسول والنبي، وعن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله انّه سئل عن الأنبياء فقال: « مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، قيل: فكم الرسول منهم ؟ قال: ثلاثمائة وثلاثة عشر جماً غفيراً »(١) .

والفرق بينهما انّ الرسول من الأنبياء من جمع إلى المعجزة، الكتاب المنزل عليه والنبي غير الرسول من لم ينزل عليه كتاب وانّما أُمر أن يدعو الناس إلى شريعة من قبله(٢) .

وقال في تفسير قوله سبحانه:( وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ مُوسَىٰ ) (٣) الرسول الذي معه الكتاب من الأنبياء، والنبي من ينبئ عن الله عز وجل وان لم يكن معه كتاب كيوشع(٤) .

وهذا الوجه لا دليل عليه سوى ما عرفته من تفسير الرسول بكونه ذا رسالة، واستلزامها كون المبعوث ذا كتاب، فينتج كون الرسول من أُنزل معه الكتاب، وهو ضعيف جداً، فإنّ تخصيص الرسالة بالكتاب، مع إمكان تحملها بغيره لا وجه له.

والاستدلال عليه بقوله سبحانه:( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ

__________________

(١) رواه الصدوق أيضاً في معاني الأخبار: ٩٥، والخصال: ٢ / ١٠٤.

(٢) الكشاف: ٢ / ١٦٥، و ٣٥٢، تفسير النيسابوري: ٢ / ٥١٣، ونقله الرازي في: ٢٣ / ٤٩، والبيضاوي: ٤ / ٥٧، والمجلسي في بحاره: ١١ / ٣٢.

(٣) مريم: ٥١.

(٤) الكشاف: ٢ / ٢٨٢.

٣٤٩

الكِتَابَ وَالمِيزَانَ ) (١) بتصور أنّ ظاهر الآية هو إنّ كل رسول بعث من قبل الله سبحانه، قد أُنزل معه كتاب، غير تام.

أما أوّلاً: فلأنّ الآية لا تدل على أنّ لكل نبي كتاباً على وجه العموم الاستغراقي، وإنّما تنظر الآية إلى سلسلة الأنبياء بنظرة واحدة، ويكفي في صدق قوله سبحانه:( وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالمِيزَانَ ) نزول الكتاب على طائفة خاصة منهم لا على كل واحد منهم، وذلك نظير قوله سبحانه في حق بني إسرائيل:( وَجَعَلَكُم مُلُوكاً وَآتَاكُم مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ العَالَمِينَ ) (٢) مع أنّه سبحانه جعل البعض النادر منهم ملكاً، لا كل واحد.

وثانياً: أنّ من المحتمل أنّ المراد من( الكِتَابَ ) هو الكتب التشريعية الخمسة التي هي أساس دعوة جميع الأنبياء والمراد من إنزال الكتب، هو إنزال هذه الكتب سواء نزلت على نفس الرسول، أو لرسول قبله وأمر المتأخر بترويجه وتطبيق العمل عليه.

وثالثاً: لو صح الاستدلال بهذه الآية على أنّ لكل رسول كتاباً، فليصح الاستدلال بقوله:( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ ) (٣) على أنّ لكل نبي كتاباً وهو واضح البطلان. والجواب في كلتا الآيتين واحد.

ورابعاً: أنّه منقوض من جانب الرسول، فهذا هو القرآن، وصف أُناساً بالرسالة مع أنّه لم يكن مع واحد منهم كتاب، قال سبحانه:( وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ

__________________

(١) الحديد: ٢٥.

(٢) المائدة: ٢٠.

(٣) البقرة: ٢١٣.

٣٥٠

إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً ) (١) وقال عز من قائل:( كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ المُرْسَلِينَ *إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ *إنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ) (٢) وقال سبحانه:( إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ *إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ) (٣) .

فهذه العصابة من الرسل لم يكونوا أصحاب كتب سماوية ولم يذكر أحد من الباحثين القدامى والمتأخرين كتاباً لهم، وما عزا إليهم أحد من أصحاب الملل وكتاب السير والتاريخ، كتاباً وما جاء لكتبهم ذكر في الأحاديث الشريفة، وفي مثل هذا المورد، يصح أن يستدل بعدم الوجدان على عدم الوجود.

وقال سبحانه:( أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (٤) فقد بعث الله هوداً إلى عاد، وصالحاً إلى ثمود، وشعيباً إلى مدين، الذين عدتهم الآية من الرسل ولم يثبت لواحد منهم كتاب. نعم نص القرآن على صحف إبراهيم وقال:( صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ ) (٥) كما نصت الروايات على كتاب نوح(٦) .

وبذلك يظهر المقصود من قوله سبحانه:( وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ ) (٧) فالآية

__________________

(١) مريم: ٥٤.

(٢) الشعراء: ١٧٦ ـ ١٧٨.

(٣) الشعراء: ١٦١ ـ ١٦٢.

(٤) التوبة: ٧٠.

(٥) الأعلى: ١٩.

(٦) أخرج الصدوق في عيونه: ٢٣٤ عن أبي الحسن الرضاعليه‌السلام : انّ كل نبي بعد نوح كان على شريعته ومنهاجه وتابعاً لكتابه إلى زمن إبراهيم الخليل »، راجع البحار: ١١ / ٣٤.

(٧) آل عمران: ٨١.

٣٥١

أمّا تنظر إلى الأنبياء بنظرة واحدة وتصف الجميع بقوله:( لَمَا آتَيْتُكُم مِن كِتَابٍ ) أو المراد هو الكتب التشريعية السماوية التي تعد أساس دعوة الأنبياء ويحتمل أن يكون المراد من( النَّبِيِّينَ ) خصوص أصحاب الشرائع فلاحظ.

وخامساً: أنّ هذا القول لا يتلاءم مع ما رواه الفريقان في عدد المرسلين والكتب، فعن أبي ذر انّه قال: قلت يا رسول الله كم النبييون ؟ قال: « مائة ألف، وأربعة وعشرون ألف نبي »، قلت: كم المرسلون منهم ؟ قال: « ثلاثمائة وثلاثة عشر جماً غفيراً » إلى أن قال: قلت: يا رسول الله ! كم أنزل الله من كتاب ؟ قال: « مائة كتاب وأربعة كتب، وأنزل الله تعالى على شيث، خمسين صحيفة، وعلى إدريس ثلاثين صحيفة، وعلى إبراهيم عشرين صحيفة، وأنزل التوراة والأنجيل والزبور والفرقان »(١) .

ولم يذكر فيه كتاب نوح ولعلّه لم يكن في مقام الحصر والعد. روى صاحب الاختصاص تلك الرواية بسنده عن الصادقعليه‌السلام بصورة أُخرى تختلف عن ما تقدم في عدد الأنبياء قال: « يا رسول الله ! كم بعث الله من نبي ؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ثلاثمائة ألف وعشرين ألف نبي، قال: يا رسول الله ! كم المرسلون ؟ فقال: ثلاثمائة وبضعة عشر، قال: يا رسول الله كم أنزل الله من كتاب ؟ فقال: مائة كتاب وأربعة وعشرين كتاباً، أنزل على إدريس خمسين صحيفة، وهو « اُخنوخ » وهو أول من خط بالقلم، وأنزل على نوح(٢) وأنزل على إبراهيم عشراً، وأنزل التوراة على موسى، والزبور على داود، والإنجيل على عيسى، والقرآن على محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله »(٣) .

نعم روى في الاختصاص أيضاً عن ابن عباس أنّه قال: أوّل المرسلين آدم

__________________

(١) معاني الأخبار: ٥٩، الخصال: ٢ / ١٠٤. ولاحظ العقائد النسفية للتفتازاني: ١٦٩.

(٢) كذا في النسخ.

(٣) بحار الأنوار: ١١ / ٦٠.

٣٥٢

وآخرهم محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وكانت الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرين ألف نبي، الرسل منهم ثلاثمائة إلى أن قال: والكتب التي أُنزلت على الأنبياء مائة كتاب وأربعة كتب، منها على آدم خمسون صحيفة، وعلى إدريس ثلاثون، وعلى إبراهيم عشرون، وعلى موسى التوراة، وعلى داود الزبور، وعلى عيسى الإنجيل، وعلى محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله الفرقان(١) .

فالرواية على ما نرى، مع أنّها متفاوتة في حصر عدد الأنبياء والكتب ومن نزلت إليهم هذه الصحف، إلّا أنّها تنص على قلة الكتب عن الرسل، وانّ الرسل كانوا أكثر من الكتب المنزلة بأضعاف، فكيف يمكن القول بأنّ الرسول من أُنزل عليه كتاب ؟!

* الفرق الثالث(٢)

الرسول من جاء بشرع جديد، والنبي يشمل هذا ومن جاء لتقرير شرع سابق(٣) .

قال الرازي: قيل انّ من كان صاحب المعجزة وصاحب الكتاب ونسخ شريعة من قبله، فهو الرسول، ومن لم يكن مستجمعاً لهذه الخصال، فهو النبي، غير الرسول.

قال البيضاوي في تفسير قوله سبحانه:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ ) الرسول من بعثه الله بشريعة مجددة يدعو الناس إليها، والنبي من يعمه ومن بعث لتقرير شرع سابق.

__________________

(١) بحار الأنوار: ١١ / ٤٢، الكشاف: ٢ / ٣٥٢.

(٢) وهذا الفرق كسابقيه داخل تحت عنوان واحد، وهو كون الرسول أخص من النبي.

(٣) تفسير المراغي: ١٧ / ١٢٧.

٣٥٣

ولكن باب المناقشة في هذا القول واسع، فإنّ الظاهر من القرآن ونصوص الأحاديث، انّ عدد الشرائع لا يتجاوز الخمسة، وبينما تعداد الرسل قد تجاوزها بكثير، فكيف يجوز لنا أن نفسر الرسول بأنّه المبتدئ بوضع الشرائع والأحكام أو هو من بعثه الله بشريعة مجددة.

قال سبحانه:( شَرَعَ لَكُم مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) (١) فإنّ الآية في مقام الامتنان على الأمّة الإسلامية، من أنّ شريعتها جامعة لكل ما اشتملت عليه الشرائع السابقة النازلة على السلف من الأنبياء، فلو كان هناك أصحاب شرائع غير ما ذكر في الآية لكان اللازم ذكره ليكون الامتنان آكد، فظاهر الآية انّ الشريعة مختصة بالمذكورين في الآية: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ولكن يمكن القول إنّ قوله سبحانه:( أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) تفسير لما( شَرَعَ لَكُم مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَ ) ومعناه هو الأخذ بالدين بأجمعه والتدين بأحكامه وتشريعاته كافة وعدم الاختلاف فيه بأخذ طائفة ببعض الدين، وطائفة أُخرى ببعضه الآخر، كما فعلته الأمم السابقة، فهذا ما أوصى به سبحانه كل من ذكر اسمه في الآية.

وعلى ذلك فلا تدل الآية على أنّ شريعة الإسلام جامعة للشرائع السابقة وتسقط دلالتها على كون أصحاب الشرائع خمسة، زعماً بأنّها في مقام الامتنان لما عرفت من أنّها ليست إلّا بصدد الحث على الأخذ بالدين بمجموعه، وان هذا هو حكم الله سبحانه في جميع الأجيال والأزمنة، لا بصدد الامتنان على الأمّة الإسلامية بأنّ دينهم جامع لما شرع للأمم السابقة، حتى يستدل بالاكتفاء بذكر

__________________

(١) الشورى: ١٣.

٣٥٤

الأربعة والسكوت عن غيرهم، على عدمها، نعم لا تخلو الآية من إشعار بانحصارها في الخمسة، كما لا يخفى.

نعم يؤيد انحصار الشرائع في الخمسة المذكورة ما أُثر عن أبي الحسن الرضاعليه‌السلام انّه قال: « إنّما سمّي أُولو العزم، أُولي العزم، لأنّهم كانوا أصحاب العزائم والشرائع، وذلك إنّ كل نبي بعد نوح كان على شريعته ومنهاجه، وتابعاً لكتابه إلى زمن إبراهيم الخليل، وكل نبي كان في أيام إبراهيم وبعده، كان على شريعة إبراهيم ومنهاجه، وتابعاً لكتابه إلى زمن موسى، وكل نبي كان في زمن موسى وبعده، كان على شريعة موسى ومنهاجه وتابعاً لكتابه، إلى أيام عيسى، وكل نبي كان في أيام عيسى وبعده، كان على منهاج عيسى وشريعته وتابعاً لكتابه إلى زمن نبينا محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهؤلاء الخمسة أُولو العزم، وهم أفضل الأنبياء والرسل وشريعة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله لا تُنسخ إلى يوم القيامة ولا نبي بعده إلى يوم القيامة، فمن ادّعى بعده نبوة أو أتى بعد القرآن بكتاب، فدمه مباح لكل من سمع ذلك منه »(١) .

وفي الرواية جهات من البحث يجب تنقيحها في محل آخر، وملخصها :

١. انّ تفسير « أُولي العزم » بما ذكر فيها، لا يلائم ظاهر الكتاب، أعني قوله سبحانه:( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) (٢) إذ الظاهر أنّ المقصود من العزم فيه هو الثبات على العهد المأخوذ منهم، بقوله سبحانه:( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِيثَاقاً غَلِيظاً ) (٣) ، وقد أمر سبحانه نبيه الأعظم بالصبر والثبات اقتداء بمن سبق من أُولي العزم من الرسل، حيث قال سبحانه:( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو العَزْمِ مِنَ

__________________

(١) بحار الأنوار: ١١ / ٣٥، عيون الأخبار: ٢٣٤.

(٢) الأحقاف: ٣٥.

(٣) الأحزاب: ٧.

٣٥٥

الرُّسُلِ ) (١) .

وبما أنّ آدمعليه‌السلام لم يعهد منه العزم في بعض المواقف، ونسى العهد المأخوذ منه، لم يعد من أُولي العزم، قال سبحانه:( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) (٢) .

٢. انّ موسىعليه‌السلام وان دعا فرعون وكل قبطي إلى توحيده سبحانه، غير انّ ما جاء به من الشريعة والأحكام كانت مختصة ببني إسرائيل فقط، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه:( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا ) (٣) ولكن المستفاد من الرواية خلافه، وان شريعته كانت عامة لهم ولغيرهم.

٣. انّ المراد من العزائم ما يقابل الرخص، والمراد منها هو الواجبات والمحرمات، فإذا كان الملاك لكونهم من أُولي العزم هو كونهم أصحاب فرائض وذوي واجبات ومحرمات أُوحيت إليهم، فلماذا لم يكن غيرهم كصالح وهود وشعيب ممن أتوا بواجبات ومحرّمات، منهم أيضاً مع كونهم مثلهم.

وروى صاحب المحاسن عن سماعة قال: قلت لأبي عبد الله الصادقعليه‌السلام : قول الله:( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) فقال: « نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله » قلت: كيف صاروا أُولي العزم ؟ قال: « لأنّ نوحاً بعث بكتاب وشريعة، فكل من جاء بعد نوح، أخذ بكتاب نوح وشريعته ومنهاجه، حتى جاء إبراهيم بالصحف، وبعزيمة ترك كتاب نوح لا كفراً به، فكل نبي جاء بعد إبراهيم، جاء بشريعته ومنهاجه وبالصحف، حتى جاء موسى بالتوراة وبعزيمة

__________________

(١) الأحقاف: ٣٥.

(٢) طه: ١١٥.

(٣) المائدة: ٤٤.

٣٥٦

ترك الصحف، فكل نبي جاء بعد موسى أخذ بالتوراة وشريعته ومنهاجه، حتى جاء المسيح بالإنجيل، وبعزيمة ترك شريعة موسى ومنهاجه، فكل نبي جاء بعد المسيح أخذ بشريعته ومنهاجه، حتى جاء محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله بالقرآن وشريعته ومنهاجه، فحلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة، فهؤلاء أُولو العزم من الرسل »(١) .

وعلى ذلك جرى شيخنا الصدوق في « الاعتقادات » وقال :

« إنّ سادة الأنبياء خمسة، الذين دارت عليهم الرحى، وهم أصحاب الشرائع وهم أُولو العزم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله »(٢) .

* ركام من الأوهام والأكاذيب

قد عرفت هذه الفروق المذكورة في كتب التفسير والمعاجم واتضح لك أنّه لا يوافقها الذكر الحكيم، والذي يحصل من الجميع أنّ الرسول أخص من النبي وهم أعم منه، ولكن هناك من الضالين من حرّف الكلم عن مواضعه(٣) فصوّر

__________________

(١) المحاسن: ٢٦٩، بحار الأنوار: ١١ / ٥٦.

لو كان الملاك بعدهم من أُولي العزم، هو ترك كل واحد كتاب من قبله بعزيمة، يلزم أن لا يكون نوح منهم إذ لم يكن شريعة ولا كتاب قبله، حتى يتركها بعزيمة.

أضف إلى ذلك أنّ المسيح لم يترك شريعة موسى، بل بيّن لبني إسرائيل بعض الذي اختلفوا فيه ( الزخرف: ٦٣ ) وأحلّ لهم بعض الذي حرم عليهم ( آل عمران: ٥٠ ) وليس ذلك تركاً للشريعة ورفضاً لها، كما هو ظاهر الرواية، ولأجل هذه الجهات تحتاج هذه الرواية وما تقدم عليها، إلى البحث والإمعان أكثر من هذا، وقد أوضحنا الحال في الجزء الثالث من هذه السلسلة. لاحظ: ١٠٧ ـ ١١٥.

(٢) اعتقادات الصدوق: ٩٢.

(٣) ثاني الفروق وثالثها.

٣٥٧

المعنى بصورة شوهاء، وشتان بين كاتب يكتب بدافع الإيمان والعقيدة طلباً للحقيقة، وكاتب مستأجر لا هدف له إلّا دعم ما نوى واضمر، وتحكيم ما أُستوجر عليه، وذلك يفرض عليه اختلاق الأوهام ونحت الأكاذيب التي يتحير عندها العقل والفكر.

نعم حرّف هؤلاء(١) ما أُثر عن القوم في المقام فقالوا: النبي هو الذي ينبئ عن الله وليس معه كتاب، والرسول هو الذي بُعث إلى الناس وأُنزل معه كتاب، أو أنّ النبي هو الذي يقرّر الشريعة السابقة فقط، والرسول هو الذي يأتي بشريعة مستقلة(٢) ، وعلى هذا تصير النسبة بين المفهومين، هي التباين، يفختص النبي بمن ليس له كتاب أو من يقرر شريعة من قبله.

ومن الواضح أنّ هذا القول باطل تماماً، فهذا هو الذكر الحكيم قد خاطب نبي الإسلام المبعوث بأفصح الكتب وأحكمها وقد تضمن شريعة مستقلة عن غيرها من الشرائع، بقوله:( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ) فهل يمكن لهؤلاء الكتّاب المستأجرين أن ينكروا نزول الكتاب إليه أو مجيئه بشريعة مستقلة. فدونك نص ما خاطبه سبحانه بلفظ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ) :

__________________

(١) البهائية الضّالة.

(٢) الفرائد: ١٣٥، نعم نقل هذا الفرق الجزائري في فروقه: ١٠٦ قولاً ولا يعبأ بهذا النقل تجاه تلكم التصاريح المضادة له، وأضعف منه، ما نقله في تفسير الجلالين في تفسير قوله تعالى:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ ) من أنّ الرسول هو من أُمر بالتبليغ، ولا يخفى شذوذ هذا القول، كسابقه، ومضادتهما مع تصاريح أئمّة الأدب والتفسير.

ومما يثير العجب ما ذكره الطنطاوي بقوله: الرسول هو الذي معه كتاب، والنبي ينبئ عن الله وليس معه كتاب، فمثال الأوّل موسى، والثاني يوشع، فيوشع نبي لا رسول وانّما ينبئ قومه وموسى ينبئ قومه بكتاب معه أُرسل به من الله الجواهر: ١٠ / ٤٠، إذ فيه مع ضعف القول في نفسه أنّ ليوشع كتاباً معروفاً طبع مع كتب العهدين.

٣٥٨

١.( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا ) (١) .

٢.( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ المُؤْمِنِينَ ) (٢) .

٣.( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ) (٣) .

وهكذا فعلم مما أوردناه من الآيات أنّ النبوة غير مقيدة بتقرير الشريعة ولا النبي منحصر في كونه غير ذي كتاب.

والغاية من هذا التحريف للقائل هو نفي دلالة قوله سبحانه:( وَلَٰكِن رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) (٤) على ختم الرسالة والنبوة معاً، مدعياً أنّه إنّما ختمت الثانية، دون الأولى وإنّ كونهصلى‌الله‌عليه‌وآله خاتم النبيين، لا يلازم كونه خاتم الرسل.

وقد عرفت أنّ كلا الفريقين لا يعاضدهما القرآن، فكيف وقد حرفا وخصص النبي بمن يقرر الشريعة، أو لا يأتي بكتاب، إذ أنّه باطل بنص الكتاب العزيز، فقد استعمل النبي في أصحاب الشرائع والكتب وبذلك يظهر سقوط ما نقله الطبرسي عن الجاحظ، انّه قال: إنّ النبي يحفظ شريعة غيره والرسول هو المبتدئ بوضع الشرائع والأحكام(٥) .

الفرق الرابع(٦)

إنّ العلوم والحقائق التي تفاض على الإنسان بواسطة الملك بحيث يعاينه

__________________

(١) الأحزاب: ٢٨.

(٢) الأحزاب: ٥٩.

(٣) الأحزاب: ٤٥.

(٤) الأحزاب: ٤٠.

(٥) مجمع البيان: ٧ / ٩١.

(٦) وهذا الفرق يخصص الرسالة بمعاينة الملك وأخذ الوحي منه مشافهة. وأمّا النبي فهو مقيد بأخذ الوحي بلا توسيط ملك، بل بإحدى الطرق المألوفة من الرؤية في المنام وغيره كما سيصرح، فبينهما تباين في النسبة.

٣٥٩

ويشاهده ويكلّمه مشافهة أو يلقى في روعه تسمّى رسالة، والإنسان الحامل لها رسولاً وباعتبار إنّ مثل هذا الإنسان يتلقّى رسالة الله بواسطة رسل السماء، حيث أدّوا إليه رسالة ربهم، يسمّى رسولاً، أي ذا رسالة.

وأمّا ما يفاض من العلوم بغير هذا الطريق فيسمّى نبوة، والإنسان العالم عن هذا الطريق نبياً، سواء كان بالإلهام مثل ما أوحى الله إلى نبينا ليلة المعراج وما أوحي إلى موسى في طور سيناء، أو بسماع صوت بلا رؤية شخص أو غير ذلك.

وعلى ذلك فالنبوة والرسالة مرتبتان للنفس في أخذ المعارف والحقائق من العلوم العلوية، إحداهما مشروطة بحضور الملك ومعاينته ومشافهته للرسول، والأخرى مقيدة بأخذها من دون توسيط ملك بل بطرق أُخرى.

وهذا الوجه هو مختار بعض الأجلّة(١) ولم أجد هذا الفرق برمته في كلام من تقدم عليه، وما أُثر من النقول في المقام يوافقه في بعض ما ذكره لا كله، بل بعضها يشير إلى خامس الفروق الذي سيوافيك بيانه، وحاصله تخصيص النبوة بالرؤية في المنام.

ودونك بعض كلماتهم :

١. انّ الرسول هو الذي يرى الملك ويسمع منه، والنبي يرى في المنام ولا يعاين(٢) .

وهذه العبارة توافق المذكور في ناحية الرسول فقط، لا في جانب النبي ولا صراحة لها في ما ادّعاه القائل من التعميم في النبي، أعني: من يأخذ الوحي بغير توسيط ملك سواء أكان بالرؤية في المنام أم بغيرها، بل هي تحتمل هذا الوجه من

__________________

(١) العلّامة الشيخ محمد باقر الملكي دام ظله.

(٢) الميزان: ١٥ / ٢٢٢.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411