أحكام القرآن الجزء ١

أحكام القرآن14%

أحكام القرآن مؤلف:
المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 411

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥
  • البداية
  • السابق
  • 411 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 91323 / تحميل: 5964
الحجم الحجم الحجم
أحكام القرآن

أحكام القرآن الجزء ١

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

وقد نُوقشت قضيّة رأس المال في بحوث مُتعدّدة، نذكر منها بحث البعّاج: (مغزى الحلقات المفرغة) الذي انتهى إلى أنّها وسيلة تضليليّة؛ لتسويغ بقاء تخلّف دول العجز في العالم المعاصر واستمراره (1) .

أمّا تدنّي إنتاجيّة العمل، فهو - كما يظهر مَن ولجَ هذا الموضوع - نتيجة لِما تقدّم من معايير، ولم تصمد التفسيرات السوسيولوجيّة بعَزو التخلّف إلى نمط الثقافة والدين والأنظمة الاجتماعيّة والفروق العنصريّة واللون، وتصنيف البشر إلى مجتمعات راكدة وأُخرى راكدة هجينة، إلاّ بمساسها بالمدخل الفكريّ؛ لتوضيح تصوّر الإسلام للمدخل السليم لتفسير التخلّف، وإلاّ فهي دراسات منحازة تضمّ بين جنباتها أغراضاً غير علميّة، وتحتوي على درجة من التعصّب ورمي شعوب العالم الثالث بعيب (الأدْنَويّة)، وتهدف إلى تقرير آراء عنصريّة تلصق التفوّق الطبيعيّ بعناصر وسلالات بشريّة في العالم (*) ، وهكذا لم تقف معايير المنظومة أمام التفسير الإسلاميّ للتخلّف.

ثانياً: التنمية

1 - التصوّر والإجرائيّة في النُظم الاقتصاديّة الوضعيّة المُعاصرة

لقد تعدّدت الزوايا التي ينظر الباحثون من خلالها إلى التّنمية.

فقد لاحظ بعضهم أنّها (الزيادة المُستمرّة في إنتاج الثروات الماديّة) (2) .

ولاحظ آخرون أنّها عمليّة زيادة الدَخل الفرديّ أو الإنتاج الاجتماعيّ، وقد اعترض على ذلك عونار ميردال (3) .

ويلاحظ هانسن ( Hansen ) ارتباط التنمية بالعلاقات الدوليّة.

ويربطها اسمان بالتحوّلات الحضاريّة للدول الأقلّ تصنيعاً من الاقتصاد الرعويّ أو الزراعيّ إلى التنظيم الصناعيّ للأنشطة الاقتصاديّة.

____________________

(*) وقد تخطّى البحث تفسير التخلّف باستعمال منهجيّة المراحل خشية التطويل، كما جاء عند الألمان والأمريكان، مثل نظريّة والت روستو.

(1) البعّاج، اُنظر كذلك حتى التفسير الماركسي عند ( Nurkse )، أو ( Lebenshtin Ianger ) الذي يركّز على ضرورة التراكم.

(2) س. كوزيتتس.

(3) تحليل بالدوين (مبير)، اُنظر: ميردال في نقد النموّ، ترجمة عيسى عصفور، سوريا، 1980م.

٢١

أمّا (فريد ويكسر)، فيراها عمليّة شموليّة بأبعاد مُختلفة.

وركّز (حجبر) على أنّها إطلاق قوى مُعيّنة خلال مدّة زمنيّة طويلة نسبيّاً تُحدث زيادة في الدخل أكبر من زيادة السكّان.

هذه الرّؤى تدور حول محورين هما: العلاقات المورديّة، وانخفاض متوسّط الدخل الفرديّ.

وقد توصّل عدد من الباحثين إلى وضع اليد على خطأ منهجيّ صاحَب تلك الدراسات على مدى نصف قرن؛ وهو أنّها تفصل بين الجوانب الاقتصاديّة والإطار الاجتماعيّ والدوافع العقائديّة؛ لتحسين هذا الإطار وتكييفه، بلحاظ توزيع إمكانات النموّ وثماره (1) .

كما توصّلوا إلى ضرورة التفريق بين مفاهيم النموّ ( Growth )، ومفهوم التنمية ( Development )، ومفهوم التحديث ( Modernization ). ولوحظ أنّ تلك الدراسات ركّزت على النموّ؛ متأثّرة بالتدرّج التاريخيّ لتطوّره من خلال أفكار مُجتهدي المدرسة الاقتصاديّة الكلاسيكيّة، فقد ظهرت مقولات النموّ عند سمث ( Sm i th ) من أفكاره في تقسيم العمل وتقرير حقّ الفرد المُطلق، بوصفه أساساً لتطوّر ثروة الأُمم، وتأكيداته على التوازن الآلي بين تأثيرات العرْض والطلب على السوق، فأعطاه دور المعيار في ماذا يُنتج؟ ولمَن؟ وافتراضات المدرسة بصيرورة كلّ اقتصاد لدرجة التشغيل وتطويره، ومن ثَمّ تحقّق الكفاءة الإنتاجيّة، وتطوّر المعدّات، وتعظيم الادّخارات؛ لتوسيع حجم السوق الداخليّة والخارجيّة، وتأكيداته على تراكميّة النموّ.

وهكذا تطوّرت مفهومات النموّ عند (ريكاردو) في نظريّته في التوزيع الوظيفيّ على العناصر المساهمة في الإنتاج، بالتركيز على مقولة العمل ونظريّته في الرَيع التفاضليّ، وبظهور (مارشال) ظهرت أفكار ومتغيّرات جديدة دخلت في محاور دراسة النموّ، مثل التطوّرات الفنّية والاندماج، ونظريّة الوفورات وأثرها على تقليل الكُلَف وتطوير المهارات.

____________________

(1) اُنظر: النجفي (سالم)، التنمية الاقتصاديّة الزراعيّة، جامعة الموصل، ص: 16 و17.

٢٢

وبَرز الجانب المذهبي للرأسماليّة في أفكار (شومبيز) في آرائه في النُظم، وأثره في إحداث النموّ، حتى ظهرت الكينزيّة التي انحاز تحت ظلّها العلميّ محرّك النموّ إلى جانب الطلب بما يبرز أثر الركود العالميّ (1930م)، فأدخلت تعديلات هامّة على دراسة النموّ في ظلّ التفكير الليبرالي، فطالبت بإعطاء الدولة دوراً في التطوير، وتعكّزت على التوزيع وإعادة التوزيع؛ لتنشيط أثر الاستهلاك بغية إيجاد الطلب الفعّال بوصفه مطوّراً للإنتاج.

إنّ الخيط الذي يربط هذا العرض السريع لتطوّر دراسات النموّ الاقتصاديّ، خلال قرنين من الزمن، يُمكن وصفه بأنّ التنمية في ظلّ الاتّجاه الفرديّ ظلّت عمليّة إبداعات الأفراد لتحقيق الرخاء المادّي، أي أنّ تصوّر الليبراليّة للمشكلة الاقتصاديّة دعاها إلى تكليف كلّ فرد بحلّ هذه المشكلة بجهده ونشاطه، وعلى النطاق الجزئيّ، وبجمْع هذه الجهود سيصار إلى تذليل آثار المشكلة في مجمل الاقتصاد القوميّ، بينما ظلّت الآثار التي تسهم فيها قوانين التوزيع في إحداث وتائر النموّ أو تسريعه مهملة، ما عدا تعديلات طفيفة ظهرت في الفكر الكينزي، لم تلبث أن تلاشت وسط الإهمال الذي تفرضه النظريّة برمّتها في فرض قيود معيّنة على الفرد حين يتصرّف تصرّفاً مطلقاً بالثروة والدخل.

  لذلك فإنّ المقياس الذي تُقاس به التنمية، والذي ينسجم مع النسيج النظريّ الليبراليّ في تصوّر النموّ، هو حجم الثورة الكليّة المُتحصّلة للمجتمع خلال مدّة زمنيّة مُعيّنة. وعليه، فقد اعتمد حجم الدخل القوميّ، مقدار الدخل الفرديّ الحقيقيّ، أو حجم التراكم الرأسمالي لسنة الأساس وآثاره ونسب ارتفاعاته، مقاييس في تصنيف المجموعـات البشريّـة (1) .

إلاّ أنّ ذلك الفصل المُتعمّد عن الجوانب غير الاقتصاديّة في التصوّر، قد برز بعد التنفيذ في الشطر الغربيّ من الأرض، عبّر عنه صراحة روستو ( Rosstow ) بوصفه لمرحلة الاستهلاك الوفير القائل: إنّ هذه المرحلة جعلت المواطن الأمريكيّ يطرح على ذاته أسئلة لا تمسّ مسألة النموّ، إنّما تشخّص حالة الفراغ

____________________

(1) اُنظر: د. العمادي (محمّد)، التنمية والتخطيط، دمشق، ط2، 1966م، ص: 71 - 77. مقياس جير الدماير، بالدوين.

٢٣

الذي انتاب المجتمع بعد تحقيقه لمرحلة الرفاهية ( Economic Welfare )، وظهرت في تردّد الأمريكي في الإجابة عن أسئلةٍ مثل: هل يزداد الإنجاب؟ هل يرحل إلى الكواكب الأُخرى؟ هل يجعل العطلة الأسبوعيّة ثلاثة أيّام؟ هل يعود إلى القيَم الروحيّة؟ (1) .

نستطيع القول ممّا تقدّم:

أ - إنّ النصّ الذي عبّر فيه روستو عن الإحساسات الجماعيّة، لِما بعد النموّ، يشير بوضوح إلى أنّ التنمية الغربيّة تتوقّف عند غاية الرفاهية، عند تحقيق الجانب المادّي للحياة.

ب - إنّ التنمية الغربيّة قامت على أساس الضغط على الجانب الإنسانيّ، تجلّى ذلك في تحديد الإنجاب، وعلى الجانب الروحيّ للإنسان الغربيّ في إعراضه عن القيم الروحيّة، وفي تكثيف العمل الأسبوعيّ، إذ إنّ إنقاص ساعات العمل بالشكل المطلق يعني، عِبر زيادة إنتاجيّة العمل وحصيلة التقدّم الفنّي والتكنولوجيّ، زيادة في استغلال جهد إنسانيّ أكبر بالمفهوم النسبيّ (*) .

جـ - إنّ القوّة المادّية المُتحصّلة من التنمية دفَعته إلى بواعث عدوانيّة، وسيطرة جنونيّة على الكون.

2 - التنمية في تصوّر المذهبيّة الاشتراكية (الجماعيّة)

إنّ المُتسالم عليه عند الباحثين أنّ مقولات التنمية قد وجدت تنظيرات ونضجاً في ظلّ التفكير الاشتراكيّ للمشكلة الاقتصاديّة، بينما حظي النموّ ( Grwoth ) بالقسط الأوفر في التفكير الاقتصاديّ الليبرالي.

وبصرف النظر عن الأساس النظريّ والواقع التاريخيّ لهذه المُسلّمة، فإنّ النتيجة الحتميّة للتطوّر الاقتصاديّ في العالم الشرقيّ تتمثّل في أنّ الفكر

____________________

(*) ولست أظنّ القارئ يطالب هنا بالدليل أو المصداق، وإن كان الأمر لصيق بالجانب السياسيّ للنموّ الذي يعرض عنه بحثنا؛ لأنّه في صدد تقويم العناصر الفنّية.

(1) روستو (والت)، مراحل النموّ الاقتصاديّ، ترجمة إبراهيم جناتي، القاهرة، 1977م.

٢٤

الذي يقف خلفه حاول جادّاً إحداث تحوّلات هيكليّة من خلال الاستثمارات العامّة، باستخدام التخطيط الشامل ( Centralized Economic Planning )، بما يؤدّي إلى تكوين قاعدة استقطاب للموارد المتاحة كافّة.

وبأُسلوب التوزيع المركزيّ للدخل، وفق قاعدة (كلّ حسب عمله)، دفع النشاط العامّ إلى تحقيق تزايد مُنتظم في متوسّط الإنتاجيّة للفرد، وبالتالي في قدرات المجتمع، مستهدفاً - كما تشير أدبيّات التنمية - إلى توفير الحاجات الأساسيّة وفق مبدأ يتمثّل في (إحداث التغييرات الجذريّة في علاقات وقوى الإنتاج، ومن ثَمّ في البنيان الثقافيّ الملائم معها) (1) .

وعليه، اعتمد ذلك التطبيق مسألة الملكيّة الاجتماعيّة، وخوّل الدولة صلاحية تنظيم الإنتاج وتخطيطه مركزيّاً، وتوزيع عوائده بموازنة صارمة بين الاستهلاك الضروريّ والتراكم المخصّص؛ لتوسيع قاعدة الإنماء عموديّاً وأفقيّاً. وقد اعتمدت السياسة الاقتصاديّة القائمة على أساس ذلك الفكر على المناورة في انخفاض حجم الاستهلاك ورفعه لصالح التراكم؛ تمشّياً مع الأهداف البعيدة والمتوسّطة والقصيرة للتخطيط الاقتصاديّ، مع الأخذ بالحسبان الاعتبارات السياسيّة في المراحل المختلفة. ويلاحظ الباحثون أنّ الفكر الماركسيّ جعل الباعث على إحداث النموّ الاقتصاديّ مواجهة جماعيّة بقيادة الدولة في الغالب للمشكلة الاقتصاديّة، بحيث صارت التنمية بالأساس مسؤوليّة الدولة، وحقّ الفرد عليها لتحقيق ذلك السداد المقبول لحاجاته الأساسيّة، وبسدادها تتجدّد قوى الإنتاج، ويستمرّ النموّ الاقتصاديّ (2) .

وهذا يتيح لنا القول: إنّ مفهوم التنمية - كما يراه أصحاب هذا الاتّجاه - ينزع إلى الربط الجدليّ بين الإنتاج والتوزيع، بعلاقة تأثير متبادلة بينهما، وتسخير الثاني - التوزيع - لمصلحة الإنتاج، وتجديده وتحقيق تراكم مناسب، سواء بالضغط على مستوى الأُجور الفعليّة، أمْ على مستويات الاستهلاك، فضلاً عن تحديد لوسائل الإنتاج.

____________________

(1) اُنظر في هذا الصدد:

د. الكواري (علي)، نحو فهم أفضل للتنمية، مركز دراسات الوحدة العربيّة - بيروت، 1984م، ص: 70.

د. محيي الدين (عمرو)، التخلّف والتنمية، ص: 210.

د. عبد الله (إسماعيل صبري)، نحو نظام عالمي، ص: 220.

د. مرسي (فؤاد)، (م. س.)، ص: 176.

(2) عبد الله (إسماعيل صبري)، (م. س.)، ص: 220.

مرسي (فؤاد)، (م. س.)، ص: 176.

٢٥

3 - مفهوم التّنمية في الفكر الاقتصاديّ الإسلاميّ

إنّ المُنطلق الذي ينطلق منه تحديد مفهوم الإسلام للتنمية هو: كيف يرى الإسلام المشكلة الاقتصاديّة؟ وما هو الحلّ الذي قدّمه لها؟

  إنّ التصوّر الإسلاميّ يُسلّم أوّلاً بأنّ الموارد المبثوثة في الكون هي من الوفرة بحيث تغطّي الحاجات القائمة والمفترض قيامها عموديّاً وأُفقيّاً إلى يوم القيامة. وهذه الحقيقة إحدى مُعطيات القرآن الكريـم، ولـه فيها دلالـة واضحـة (1) :

( وَآتَاكُم مِن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدّوا نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا ) [إبراهيم: 34] (2) . ويقف الإسلام إزاء هذه المُسلّمة موقف المحرّض بالوسائل العقائديّة والأخلاقية، ومستخدماً القانون المحرّض على العمل واستثمار هذه الموارد.

إنّ النّدرة المعترف بها في الإسلام هي ندرة الطيّبات، (أي السِلع والخدمات المبذول عليها عمل يكيّفها لإشباع الحاجات) (3) .

لذلك فإنّ الجُهد الإنسانيّ هو الكفيل والمسؤول في آنٍ واحد في إحداث وفرة الطيّبات، بينما لا توكل التنمية في الفكر الليبرالي، بقولها بندرة الموارد، إلى الجهد الإنسانيّ وحده، وحيث إنّ الإنسان مأمور بسدّ مُتطلّباته للتوصّل إلى تحصيل قدرته على العبادة بالمعنى الأخصّ، ومأمور بعمارة الأرض لقوله تعالى: ( هُوَ أَنشَأَكُم مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيَها ) [هود:61]، وحيثيّات كهذه تشير إلى أنّ العمل والإنتاج ليسا ردود فعل للحاجة الإنسانيّة، أو استجابة لها بقدَر ما هما حُكم شرعيّ ينظّم الاستجابة الإنسانيّة لتحدّي الحاجة.

نخلص من ذلك إلى القول: إنّ الركن الأوّل في مفهوم التنمية في الإسلام هو الضرورة الشرعيّة للإنتاج، واستخدام أقصى الطاقات البشريّة فيه، ولمّا كان الإنسان هو حلقة الوصل أو محلّ الارتباط في تبادل التأثير بين كفاية التوزيع، وتحقّق القدرة على الأداء الإنتاجيّ، فقد احتلّ التوزيع الركنيّة الثانية في مفهوم الإسلام للتنمية؛ ذلك أنّ التوزيع الإسلاميّ للثروة والدخل قائم على معيارَي العمل والحاجة، وهنا يسهم التوزيع في مساعدة القوى الإنتاجيّة على الحركة الفعّالة

____________________

(1) اُنظر: الكُبيسي (أحمد عواد)، الحاجات في مذهب الاقتصاد، ص: 82 و83.

(2) اُنظر آيات الكتاب الكريم: [إبراهيم: 32 - 34].

(3) د. صقر (محمّد أحمد)، الاقتصاد الإسلاميّ مفاهيم ومُرتكزات، دار النهضة العربية - القاهرة، ط1، 1988م، ص: 23 و24.

٢٦

في إعطائها القوّة المادّية، وتسهم المُسلّمات العقائديّة والأحكام التكليفيّة في إعطاء تلك القوى الدفع الروحيّ المعنويّ.

ما يرتّب، في فهْم التصوّر الإسلاميّ للتنمية، أنّ لها ركنين هما: عدالة التوزيع والإمكانات المادّية، وعدالة توزيع ثمار النموّ لأجل إنتاج يتطلّع إلى عمارة الأرض.

لأجل ذلك كلّه فمفهوم الإسلام للتنمية مفهوم شموليّ لا يُؤكّد على جانب العرض (الإنتاج)، كما هو دأب المدرسة الكلاسيكيّة، ولا يتركّز في جانب التوزيع هدفاً، كما في الماركسيّة، إنّما يجمع بينهما في توليفة متوازنة لإنتاج مفهوم شموليّ للتنمية، ينتج عنه أنّ أُسلوب الإسلام في الإنماء لا يصاب بسوء التوزيع، كما هو محور الكُلفة الاجتماعيّة للتنمية الرأسماليّة، ولا بهبوط الإنتاج كمّاً أو نوعاً، كما هو محور الكُلفة في التنمية الماركسيّة، فضلاً من التأثير السلبيّ لكلّ من هذه النقائص على الركن الآخر.

من ذلك كلّه يستطيع الباحث أن يوجز بعض مفاصل الفهْم الإسلاميّ للتنمية، وعلى الوجه الآتي:

أ - إنّ الإنتاج مسؤوليّة شرعيّة يترتّب التخلّي عنها جزاءات قانونيّة في الدنيا والآخرة.

ب - الامتثال لهذه المسؤوليّة بوصفها حُكماً شرعيّاً عينيّاً يجعل مفاصل الإنتاج مُتعدّدة، فيها الفرد والمجتمع والدولة.

جـ - يجعل الإسلام للعمل مكافأة مادّية وروحيّة، المادّية بشرعيّة الملكيّة، والروحيّة بأجر الامتثال للحكم الشرعيّ.

د - إنّ النمط التوزيعيّ يُهيّئ جميع قوّة العمل المُتاحة للإسهام بالإنماء الاقتصاديّ، طالما ضمِن لأفرادها حدّ الكفاية.

هـ - إنّ غاية التنمية في الإسلام تتخطّى مرحلة زيادة الثروة القوميّة، ومرحلة إشباع الحاجات المادّية فقط، إنّها تضمّ هاتين المرحلتين وتُسخّرهما معاً لهدف أسمى، وهو تسهيل أمر العبوديّة لله تعالى (1) .

____________________

(1) اُنظر في تفصيلات هذه الخصائص:

النجّار (عبد الهادي علي)، الإسلام والاقتصاد، سلسلة المعرفة، الكويت، ص: 75.

العلي (أحمد بويهي)، التنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة ومستوى المعيشة، مجلّة البحوث الإدارية - بغداد، العدد الأوّل، ك2، 1978م، ص: 145.

٢٧

4 - أدلّة الوجوب المُستفادة مِن الكتاب الكريم

لقد مرّ بنا الاستدلال بقوله تعالى: ( هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) [هود: 61]. وقد جاء في تفسيرها عن الجصّاص قوله:

((استعمركم): أي أمركم من عمارتها بما تحتاجون إليه، وفيه الدلالة على وجوب عمارة الأرض للزراعة والغراس والأبنية) (1) .

وجاء في الميزان: (المراد بالاستعمار هُنا الطلب الإلهيّ من الإنسان المُستخلَف أن يجعل الأرض عامرة؛ لكي ينتفع بها، بما يطلب من فوائدها) (2) .

وقد يستدلّ أيضاً بقوله تعالى: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) [البقرة: 30]، ومهام خلافة الله في الأرض، كما يرى المفسّرون: (إقامة الحقّ وعمارة الأرض) (3) . وهناك استدلالات أُخرى تُنظر في مظانّها من الكتاب والسنّة والقواعد الفقهيّة وتطبيقات عصر الراشدين (4) .

5 - فلسفة الاستخلاف ومفهوم التنمية في الفِكر الإسلاميّ

ترتكز جميع النُظم الاقتصاديّة في العالم على أساس نظريّ يقرّر نمط التعامل مع طبيعة التصرّف بالثروة والدخل، فيقوم النظام الفرديّ على أساس الحقّ الفرديّ المُطلق للفرد بموجب حصّته من العمل، في أيّ ظروف كانت في الاستحواذ على جزء من الثروة القوميّة، والتصرّف المطلق بالدخل الناتج عن العمل فيها. ويقوم النظام الجماعي على أساس عدم أحقّية الفرد في تملّك وسائل الإنتاج غالباً، ويقرّ التخطيط الشامل للأجر والأسعار طبيعة التصرّف بالدخل، وفق مُتغيّرات ودَوال يعتمدها ذلك التخطيط.

أمّا بالنسبة للتصوّر الإسلامي، فكيف يرسم طبيعة التصرّف بالملكيّة؟

لتوضيح طبيعة التصرّف لا بدّ من عرض القوانين المركزيّة في مذهبيّة الاستخلاف: إنّ الشريعة الإسلاميّة تقرّر ابتداءً أنّ الملكيّة الحقيقيّة لله تعالى، ونمط العلاقة بين الخالق والكون علاقة ملك تامّ وحقيقيّ، فيه أعلى درجات

____________________

(1) الجصّاص، أحكام القرآن: 3/165.

(2) طباطبائي (محمد حسين)، الميزان في تفسير القرآن، مؤسّسة الأعلمي - بيروت، ط 2: 10/310.

اُنظر: الطبرسي (أبو علي الفضل بن الحسن)، مجمع البيان، مطبعة دار الفكر: 12/178.

(3) الطبرسي، (م. س.): 1/ 74.

البيضاوي، أنوار التنزيل وأسرار التأويل، مطبعة مصطفى محمّد: 1/135.

(4) المياحي (عبد الأمير كاظم)، (م. س.)، ص: 75 - 81.

٢٨

الاختصاص، يظهر ذلك من قوله تعالى: ( للّهِ‏ِ مُلْكُ السّموَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ عَلَى‏ كُلّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) [المائدة: 120].

قال المفسّرون: إنّ معنى الآية: (لله ملك السماوات والأرض دون كلّ مَن سواه لقدرته عليه وحده)، وقيل: (إنّ هذا جواب لسؤال مُضمر في الكلام، كأنّه قيل: مَن يُعطيهم ذلك الفوز العظيم؟ فقيل: الذي له ملك السماوات والأرض).

فهو يقدر على المعدومات بأن يوجدها، وعلى الموجودات بأن يعدمها (1) ؛ وبناءً على ذلك، فإنّ مطلق الموارد والطاقات والسلع الحرّة والاقتصاديّة تدخل في طبيعة هذا المِلك.

وأهمّ ثمرة تكمن وراء تقرير هذه الحقيقة انتفاء الملكيّة الحقيقيّة الأصليّة للإنسان، فالإنسان، مِن حيث كونه غير موجِد وغير مُدبّر لديمومة الموارد والطاقات، لا يصحّ اعتباره مالكاً؛ لأنّه ليس سبباً للإيجاد والتدبير، إلاّ أنّ الله تعالى أوكَل للإنسان حقّاً في استثمار الموارد المُتاحة في الكون وإعمار الأرض، والانتفاع بتلك الموارد وفق نيابة مشروطة، واختباراً له في طريقة التعامل مع هذه النيابة، كما حدّدتها الشريعة، ويدلّ على هذا القانون قوله تعالى: ( وَإِذْ قَالَ رَبّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) [البقرة: 30].

وقوله تعالى: ( وَلَقَدْ مَكّنّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ ) [الأعراف: 10]. قال الطبرسي: (التمكين من التصرّف فيها، والمعايش: أنواع الرزق ووجوه النِعم، وقيل: المكاسب والإقدار عليها بالعلم والقدرة والآلات. ومع كلّ هذه النِعم قلّ شكرُكم) (2) ؛ أي بعدم التزامكم بضوابط الاستخلاف...

وأخيراً، فإنّ القانون الثالث للاستخلاف هو أنّ الله القادر جعل هذه الموارد قابلة لتقديم المعطيات للإنسان، وأنّها وضعت مهيّأة للانتفاع بها إذا ما مارس الإنسان عليها جُهداً، فهي ليست عصيّة على مَن استخلفه الله، يدلّ

____________________

(1) اُنظر: الطبرسي، (م. س.) 3/270.

(2) الطبرسي، (م. ن): 4: 400.

٢٩

على ذلك قوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ) [لقمان: 20].

قال الطبرسي: ( مَا فِي السَّمَوَاتِ ) : أي الشمس والقمر والنجوم، الفضاء كلّه مُسخّر للإنسان، وما في الأرض من الحيوان والنبات وغير ذلك، ممّا تنتفعون به وتتصرّفون فيه بحسب ما تريدون.

( وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ) ، يقصد بالظاهرة: ما يُمكّنكم جهدكم من خلْقِه وإحيائه سلعاً نافعاً، خلَق القدرة فيكم على العمل، وخلَق الشهوة فيكم؛ أي خلق الرغبة في العمل.

أمّا الباطنة: فالتي لا يعرفها إلاّ مَن أمعن النظر فيها (1) ؛ أي الموارد المكتشفة باستخدام العلم والمعرفة، والتي تبقى محجوبة عن الإنتاج ما لم يتحرَّها الإنسان بسلطان القدرة العلميّة والعمليّة.

6 - النتائج ذات العلاقة بالتنمية

أ - يترتّب على القانون الأوّل: نفي الملكيّة الحقيقيّة عن الإنسان، إنّما جُلّ الأمر تمكينه بوساطة الحُكم الشرعي للحيازة والانتفاع بالموارد لفرد أو مجموعة، أو للأمّة على اختلاف في الشكل واتّحاد في المُحتوى.

ب - الحيازة بموجب تلكم مفتوحة، فلا تمييز لطبقة النُبلاء؛ لأنّ الوسائل الشرعيّة للحيازة عامّة للجميع، وأهمّ الوسائل ضرورة العَمل، واعتباره الشرعي سبباً للمعاوضة المُنتجة للملكيّة.

وبهذا تشكّل الملكيّة، في منطق هذه القوانين، (حكماً شرعيّاً قدّر وجوده في عينٍ أو منفعة، يقتضي - ذلك الحُكم - تمكين مَن أُضيف إليه انتفاعه بالعين أو المنفعة أو الاعتياض عنها، ما لم يوجد مانع من ذلك) (2) .

جـ - لمّا كان الحُكم الشرعيّ سبباً للملكيّة (حيازةً أو انتفاعاً) دائميّاً، فإنّ انتهاك السبب يعني فساد النتيجة المُترتّبة عليه.

____________________

(1) الطبرسي، (م. ن): 8/320.

(2) القرافي (شهاب الدين أبو العبّاس أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن)، الفروق، دار إحياء الكتب العربيّة: 3/308.

٣٠

د - العلاقة بين الإنسان (المُستخلف) وبين الموارد، ليست علاقة صراع أساسه الندرة، بل علاقة تكامليّة بين الموارد الكافية والمُسخّرة، والتكليف الإلهيّ للإنسان بالعمل وعمارة الأرض.

أي أنّ كلّ جزء من مخلوقات الله يؤدّي دوراً في عمليّة الإعمار، وكلّ هذه الأدوار يكمّل بعضها بعضاً، متّجهة نحو هدف واحد هو إعمار الأرض، وتحسين مستوى الحياة لأغراض تسيير عبادة الله تعالى.

هـ - لمّا كان الإنسان في اعتبار التصوّر الشامل في الإسلام للتنمية هو المستفيد الوحيد من التسخير والاستخلاف، فإنّه يتوجّب عليه ولوج الحياة بكلّ فاعليّة وإيجابيّة، فتعطيل الموارد بعدم الاستخدام أو سوء الاستخدام يُسبّب مناط الحكم أو علّته بسحب الحقّ (1) ، ولأشكال الاستخلاف علاقة خاصّة بالتنمية تشكّل لها حافزاً إيجابيّاً مؤثّراً (2) .

فالأُصول المذهبيّة للاقتصاد الإسلاميّ، إذن، ثلاثة:

1 - الملكيّة: ملكيّة الموارد المادّية والبشريّة، الطبيعة والإنسان، هي لله عزّ وجلّ.

2 - الاستخلاف: هو إنابة المالك لعباده من البشر حيازة تلك الموارد والاختصاص بها.

3 - التسخير: من حيث إنّ الموارد الطبيعيّة، بعوالمها الثلاثة: النباتيّ والحيوانيّ والمعدنيّ، المكتشفة حاليّاً والتي لم تُكتشف بعد، مُسخّرة لهؤلاء البشر.

وتتجسّد وحدة القوانين المركزيّة الثلاثة هذه في مهمّة عمارة الأرض؛ باعتبارها التكليف الشرعيّ للإنسان، الغاية منه إنتاج المستلزمات المادّية الضروريّة له لتأديته مهمّة عبادة الخالق تعالى: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ ) [الذاريات: 56].

____________________

(1) اُنظر: السبهاني (عبد الجبّار عبيد)، الاستخلاف والتركيب الاجتماعي في الإسلام، رسالة ماجستير مقدّمة إلى كلّية الإدارة والاقتصاد، رونيو 88، جامعة بغداد، 1985م.

محمود محمّد بابللي، السوق الإسلاميّة المشتركة، ص: 40.

د. الحسب (فاضل)، في الفكر الاقتصاديّ الإسلاميّ، دار المعرفة، ص: 39.

(2) المياحي (عبد الأمير كاظم)، (م. س)، ص: 101.

٣١

ثالثاً: العمل الإنسانيّ وأقسام الحُكم التكليفي

العمل: هو الجُهد البشريّ المنظّم بمجموعة من الوسائل، بمستوى معيّن من التقنيّة والتكنولوجيا، المُستهدف تحويل الموارد المُتاحة (السلع الحرّة) إلى سلع اقتصاديّة، بأن يضيف إليها قيمة أي كمّية عمل معيّنة.

ونسْب العمل إلى الإنسان؛ باعتباره ينتج من عمليّات عقليّة مستعيناً بالتقنيّة، ولكونه جهداً هادفاً إلى غاية اقتصادية.

ما حكم العمل في الشريعة الإسلاميّة؟ وهل يمكن الاستدلال بالقرآن الكريم، وبخاصّةٍ الآيات الدالّة على العمل، إشارةً إلى العمل الدنيويّ، أو نتوقّف فيه على ما توقّف عليه أغلب المفسّرين مِن أنّ المُراد القرآني، وفقاً للظهور، وهو حجّة عند الأصوليّين على العمل العبادي بالمعنى الأخص بمصاديق ظاهرة، كإقامة الصلاة والصوم والحجّ... إلخ؟ أو نقطع بالقول: إنّه كلّ جهد اقترن بالباعث الذي يتّجه نحو تحصيل مرضاة الله تعالى؟ أي لا يعدّ العمل جهداً شرعيّاً يدخل ضمن موضوع الحُكم التكليفي، إلاّ إذا اقترن بالنيّة.

قبل الإجابة عن هذه التساؤلات، لا بدّ من التفريق بين مقولة العمل في الفكر الوضعيّ وبين مقولته في الفكر الإسلامـيّ.

فهو في الوضعيّ: (الجُهد البدني أو العقليّ الذي ينزل في مجالات النشاط الاقتصاديّ لغرض الكسب) (1) .

أمّا في الفكر الإسلامي: فهناك - إضافة لما تقدّم - قيد يلحق هذا المفهوم، وهو الجهد المبرّر شرعاً، أي المُنسجم مع أحكام الشريعة.

يرى ابن كثير أنّ الحلال مِن الكسب هو عون على العمل الصالح (2) ، بما يشير إلى أنّ الشريعة ترى العمل مقدّمة للكسب الحلال (3) .

____________________

(1) السعيد (صادق مهدي)، اقتصاد وتشريع العمل، بغداد، مطبعة المعارف، ط4، 1969م، ص: 10.

(2) ابن كثير (عماد الدين أبو الفداء إسماعيل)، تفسير القرآن، دار الأندلس - بيروت، ط1، 1385م: 5/22.

(3) على أنّنا هنا لا نحكم على المقدّمة حُكماً أُصوليّاً؛ لأنّ في مقدّمات الوجوب والواجب، خلافاً أُصوليّاً مُتشعّباً. لا يُريد الباحث استعراضه هُنا أو الحُكم باتّخاذ القاعدة طريقاً للاستنباط؛ لأنّ ما تطرّق إليه الخلاف لا يصحّ به الاحتجاج القطعيّ. اُنظر: عليان (رشدي)، العقل عند الشيعة، مطبعة دار السلام - بغداد، ط1، 1973 م، ص: 440.

٣٢

إنّ العمل الذي يعترف به القرآن هو العمل الصالح، وهو الجُهد الاقتصاديّ الذي يبذل في إنتاج السِلع والخدمات المسموح بها شرعاً، ولإشباع الحاجات المعتبرة والمُعترف بها مِن قِبَل الشرع كذلك (1) .

وقد أشارت السنّة إلى ذلك بعدد من الأحاديث نذكر منها:

قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (إنّ مِن الذنوب ما لا تكفّرها الصلاة ولا الصيام ولا الحجّ ولا العمرة)، قالوا: فما يكفّرها يا رسول الله؟ قال: (الهموم في طلب المعيشة).

وقوله: (مَن أمسى كالاًّ مِن عمل يده أمسى مغفوراً له) (2) .

إنّ هذا الحثّ - كما يراه الأُصوليّون - لا يخرج عن الإباحة أو الاستحباب، وكذلك لا يخرج الحثّ عليه في آيات سورة الجمعة (3) عن الإباحة والرُخصة والإذن، وهذا هو الأمر المستعمل فيه (4) .

والأمر منوط هنا بأنّ بعض المسلمين توهّم، في بدء الرسالة، بأنّ العمل أيّام الحجّ محظور، فأزال الله هذا الوهْم بالإباحة التي لا تتنافى مع الإخلاص في أعمال الحجّ، فإذا انتقلنا إلى تعريف الحُكم التكليفي: (الاعتبار الشرعيّ المتعلّق بأفعال العباد تعلّقاً مُباشر) (5) ، سيظهر أنّ لموضوع العمل نظريّتين هما: الكلّية والفرديّة. وقد أجمع جمهور الأُصوليّين من المسلمين - ما عدا أُصوليي الحنفيّة - على تقسيم الحُكم التكليفي إلى: الوجوب، الندب، الإباحة، الكراهية، الحُرمة.

فيُراد بالوجوب: الإلزام بالفعل، مع عدم الترخيص بالترك إلاّ لضرورة مُعتبرة شرعاً، وينطبق على هذا ما كانت الأُمّة بحاجة إليه حاجّة ماسّة.

ويراد بالندب: ما دعا الشارع إلى فعله، ولم يُلزم به، فهو المستحب مِن الأعمال، كالأعمال التي تتوقّف عليها حاجات الأُمّة التحسينيّة.

أمّا الإباحة: فإنّها تشمل الأعمال التي تكمل وتزيد نمط الحياة جمالاً وسعةً، والحاجات الكماليّة المبرّرة الخالية من الإسراف والتبذير.

ويدخل في الكراهة ما كان طريقاً إلى محرّم، أو كانت مفاسده أكثر من

____________________

(1) اُنظر: سيله (عبد الرحمان)، الأسعار في الفكر الاقتصاديّ، رسالة ماجستير، رونيو، ص: 58 و59.

(2) اُنظر: الهيثمي (نور الدين علي)، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: 4/64.

(3) اُنظر الآية 10 من السورة.

(4) اُنظر: الطوسي (أبو جعفر محمّد بن الحسن)، في تفسير التبيان، تحقيق أحمد حبيب القصير، الأعلمي - بيروت، مجلّد 10، ص: 9.

(5) اُنظر: مباحث الحُكم عند الأُصوليين: 1/55، الإحكام في أُصول الأحكام، للآمدي: 1/49.

٣٣

محاسنه مِن الجانب العملي.

  إنّ الذي عليه المسلمون يتمثّل في أنّ الأوامر والنواهي وليدتا المصالح والمفاسد، وحيث أنّ النهي عن الشيء لا يستلزم الأمر بحرمة تركه على الفرد من حيث هو فرد، ولمّا كانت الذمّة الفرديّة مشغولة بتحقّق النتائج، فإنّ الأسباب لا تعدّ من الأحكام التكليفيّة لإمكان اندراجها ضمن الحكم الوضعيّ، كالشرط والسبب. ولقد أنكر صاحب (الكفاية) كون الشرط أو السبب قابلاً للجعل الشرعيّ؛ لأنّه مجعولٌ بالتكوين، وهذا ما تُشير إليه فلسفة الاستخلاف.

إذ ربّما يكون العمل اختياريّاً بالنسبة للإنسان؛ ولذلك تبقى الترغيبات مُتوفّرة على تحسين الفاعليّة بخفض التكاليف، والإتقان، ويربط العمل بالنيّة؛ لقول الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (الساعي على الأرملة والمسكين كالمُجاهد في سبيل الله) (1) . فإنّ مفاصل السياسة الاقتصاديّة التي تتوفّر غالباً على مجال الإباحة قد ترفع العمل إلى مصاف الوجوب أو إلى الكراهة، ونادراً إلى الحرمة، إضافةً إلى العناوين الأوّليّة في حرمة العمل المُنتج لسلعة مُحرّمة (2) .

وهذه هي النقلة الثانية لمُناقشة مقولة العمل على مستوى الاقتصاد الكلّي ( Macro )، ذلك أنّ العمل البشريّ هو التكليف الشرعيّ للإنسان بوصفه المقدّمة العقليّة لتحصيل أسباب ديمومة العيش، فلا يدخل من حيث كونه مفردة منحلة إلى الفرد ضمن الحكم التكليفي، كإقامة الصلاة باعتبارها ليست مقدّمة؛ إذ هي نتيجة العمل وترتّب نتائجه.

إنّ الذي حدّدته الشريعة هو: أنّ العمل الذي يرضى عنه الباري: هو الجُهد الذي يسهم في تحصيل المَنفعة الشاملة للمُستخلف، باتّجاه عمارة الحياة والكون، بوصف هذا التكليف عمليّة شرعيّة كلّية أمَر بها القرآن في غير موضع.

____________________

(1) اُنظر الترمذي، صحيح الترمذي، ط1، 1934م، ص: 146.

(2) مكاسب الشيخ الأنصاري، 1/15.

٣٤

٣٥

المصادر

- القرآن الكريم.

1 - الأنصاري (مرتضى)، المكاسب، منشورات جامعة النجف الدينيّة - النجف.

2 - بانللي (محمود محمّد)، السوق الإسلاميّة المُشتركة، دار الكتاب اللبناني - بيروت، ط1، 1975م.

3 - البيضاوي، أنوار التنزيل وأسرار التأويل، مطبعة مصطفى محمّد - مصر، جـ 1، ب. ن.

4 - الجصّاص، أحكام القرآن، دار الكتاب العربي - بيروت.

5 - الحسب (فاضل عبّاس)، في الفكر الاقتصاديّ الإسلاميّ، عالم المعرفة - بيروت، 1981م.

6 - روستو (والت)، مراحل النموّ الاقتصاديّ، ترجمة إبراهيم جناتي، القاهرة، ب. ن، 1977م.

7 - السبهاني (عبد الجبّار عبيد)، الاستخلاف والتركيب الاجتماعيّ في الإسلام، رسالة ماجستير، كلّية الإدارة والاقتصاد - جامعة بغداد، نيسان 1985م.

8 - صقر (محمّد أحمد)، الاقتصاد الإسلاميّ، مفاهيم ومرتكزات، القاهرة، ب. ن.

٣٦

9 - الطباطبائي (محمّد حسين)، الميزان في تفسير القرآن، الأعلمي - بيروت، 1973م.

10 - الطبرسي (أبو علي الفضل بن الحسن)، مجمع البيان، شركة المعارف الإسلاميّة، 1379هـ.

11 - عبد الله (إسماعيل صبري)، مجمع البيان، شركة المعارف القاهرة.

12 - علي (أحمد بريهي)، بحوث التنمية الاقتصاديّة، مجلّة البحوث الاقتصاديّة والإداريّة - بغداد، مركز البحوث الاقتصاديّة والإدارية، العدد (1)، 1978م.

13 - العمادي (محمّد)، التنمية والتخطيط، دمشق، ط2، 1966م.

14 - غونار (ميردال)، العالم الفقير يتحدّى، ترجمة عصفور، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1975م.

15 - القرافي (أحمد بن إدرسي)، الفروق، دار إحياء الكُتب العربيّة.

16 - كبيسي (أحمد عوّاد)، الحاجات في مذهب الاقتصاد الإسلاميّ، مطبعة العاني - بغداد، 1987م.

17 - الكواري (علي)، نحو فهم أفضل للتنمية، مركز دراسات الوحدة العربيّة - بيروت.

18 - محيي الدين (عمرو)، التخلّف والتنمية، دار النهضة العربيّة - بيروت، 1975م.

19 - مرسي (فؤاد)، التخلّف والتنمية، دار الوحدة للطباعة - ط1، مصر، 1982م.

20 - المياحي (عبد الأمير كاظم)، التنمية في الاقتصاد الإسلاميّ، رسالة ماجستير، كلّية الشريعة، جامعة بغـداد، 1987م.

21 - النجّار (عبد الهادي)، الإسلام والاقتصاد، سلسلة عالم المعرفة - الكويت، 1980م.

22 - النجفي (سالم)، التنمية الاقتصاديّة الزراعيّة، جامعة الموصل.

٣٧

البحث الثاني

الحاجة الاقتصاديّة

في المذهب الاقتصاديّ الإسلاميّ

٣٨

٣٩

مقدّمة

يُمكن مُعالجة مقولة الحاجة في المذهب الإسلامي الاقتصادي، مِن جانب كونها مقولة إنتاجيّة، ومِن خلال تبيّن أثرها في تكييف الفَهم الإسلامي للمشكلة الاقتصاديّة. ويظهره ارتباط جانب العرض في الحاجة نفسها مع جانب الطَلب عند مُعالجتها من حيث هي مقولة توزيعيّة، مِن خلال النَمط الإسلامي في توزيع الثروة والدَخَل. وبطبيعة الحال ينحلّ التبادل إلى ما يخدم جانب العرض في الحاجة نفسها، من حيث هو تسهيل لعنصري القيمة الاستعمالي والتبادلي في السلعة أو إنضاج لهما، فهو يخدم جزءاً مِن التبادل من جانب الطَلب على السِلع التي تشبع تلك الحاجات القائمة فعلاً، أو قوّةً (الحاجة الكامنة).

لذلك يكوّن التبادل الرابطة بين حَجم الحاجات وأنواعها مِن جهة كونها مقولة إنتاجيّة، وبين دورها وأثرها في نمط استهلاك إسلاميّ، من حيث هي مقولة توزيعيّة.

1 - الحاجة في الفِكر الاقتصادي الحديث والمعاصر

تُعدّ الحاجة بما تحمل مِن خصائص الرُكن الثاني الذي يكوّن المشكلة الاقتصاديّة مع ما يُسمّى بنُدْرة الموارد، فالمشكلة التي صلحت دافعاً لتكوين علم الاقتصاد وتطوّره، تقوم على أساس أنّ الموارد المُتاحة لا تكفي لهذا التعدّد غير القابل للحصر من جهة، وعدم كفاية الموارد الطبيعيّة المُتاحة لسدّ هذا التعدّد من جهة أُخرى، فلا بدّ - إذن - مِن استخدام العَقل البشريّ بوصفه المُنظّم والمُرشد للحاجات بما يتلاءم مع المُتاح مِن العرض، مورداً كان أمْ سلعاً مُنتجة.

ويرى أغلب الاقتصاديّين أنّ للحاجة خصائص أهمّها:

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

بنفسه ولكن من شروطه شيئان الإحرام والوقت وما كان شرطه الإحرام أو الوقت فلا دلالة على أنه مفعول على وجه التبع وكذلك ما تعلق جوازه بوقت دون غيره فلا دلالة فيه على أنه تبع فرض غيره وطواف الزيارة إنما يتعلق جوازه بالوقت والوقوف بعرفة إنما يتعلق جوازه بالإحرام والوقت ليس صحته موقوفة على وقوع فعل آخر غير الإحرام فليس هو إذا تبعا لغيره وأما السعى بين الصفا والمروة فإنه مع حضور وقته هو موقوف على فعل آخر غيره وهو الطواف فدل على أنه من توابع الحج والعمرة وأنه ليس بفرض فأشبه طواف الصدر لما كانت صحته موقوفة على طواف الزيارة كان تبعا في الحج ينوب عن تركه دم* وقوله تعالى( إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ ) قد دل على أنه قربة لأن الشعائر هي معالم للطاعات والقرب وهو مأخوذ من الإشعار الذي هو الإعلام ومن ذلك قولك شعرت بكذا وكذا أى علمته ومنه أشعار البدنة أى أعلامها للقربة وشعار الحرب علاماتها التي يتعارفون بها فالشعائر هي المعالم للقرب قال الله تعالى( ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) وشعائر الحج معالم نسكه ومنه المشعر الحرام فقد دلت الآية بفحواها على أن السعى بينهما قربة إلى الله تعالى في قوله( مِنْ شَعائِرِ اللهِ ) ثم قوله( فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما ) فقد أخبرت عائشة وغيرها أنه خرج مخرج الجواب لمن سأل عنهما وأن ظاهر هذا اللفظ لم ينف إرادة الوجوب وإن لم يدل عليه وقد قامت الدلالة من غير الآية على وجوبه وهو ما قدمنا ذكره وقد اختلف أهل العلم في السعى في بطن الوادي وروى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه أخبار مختلفة ومذهب أصحابنا أن السعى فيه مسنون لا ينبغي تركه كالرمل في الطواف وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لما تصوبت قدماه في الوادي سعى حتى خرج منه وروى سفيان بن عيينة عن صدقه قال سئل ابن عمر أرأيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يرمل بين الصفا والمروة قال كان في الناس فرملوا ولا أراهم فعلوا إلا برمله وقال نافع كان ابن عمر يسعى في بطن الوادي وروى مسروق أن عبد الله بن مسعود سعى في بطن الوادي وروى عطاء عن ابن عباس قال من شاء يسعى بمسيل مكة ومن شاء لم يسع وإنما يعنى الرمل في بطن الوادي وروى سعيد بن جبير قال رأيت ابن عمر يمشى بين الصفا والمروة وقال إن مشيت فقد رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يمشى وإن سعيت فقد رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يسعى وروى عمرو عن عطاء عن

١٢١

ابن عباس قال إنما سعى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بين الصفا والمروة ليرى المشركين قوته فأتيت ابن عباس فقال سعى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في بطن الوادي وذكر السبب الذي من أجله فعل ذلك وهو إظهار الجلد والقوة للمشركين وتعلق فعله بهذا السبب لا يمنع كونه سنة مع زواله على نحو ما ذكرنا في الرمل في الطواف فيما تقدم وقد ذكرنا أن السبب في رمى الجمار كان رمى إبراهيم عليه السلام إبليس لما عرض له بمنى وصار سنة بعد ذلك وكذلك كان سبب الرمل في الوادي أن هاجر لما طلبت الماء لابنها إسماعيل وجعلت تتردد بين الصفا والمروة فكانت إذا نزلت الوادي غاب الصبى عن عينها فأسرعت المشي وروى أبو الطفيل عن ابن عباس أن إبراهيم عليه السلام لما علم المناسك عرض له الشيطان عند المسعى فسبقه إبراهيم فكان ذلك سبب سرعة المشي هناك وهو سنة كنظائره مما وصفنا والرمل في بطن الوادي في الطواف بين الصفا والمروة مما قد نقلته الأمة قولا وفعلا ولم يختلف في أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فعله وإنما اختلف في كونه مسنونا بعده وظهور نقله فعلا إلى هذه الغاية دلالة على بقاء حكمه على ما قدمنا من الدلالة والله تعالى أعلم.

باب طواف الراكب

قال أبو بكر قد اختلف في طواف الراكب بينهما فكره أصحابنا ذلك إلا من عذر وذكر أبو الطفيل أنه قال لابن عباس إن قومك يزعمون أن الطواف بين الصفا والمروة على الدابة سنة وأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فعل ذلك فقال صدقوا وكذبوا إنما فعل ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه كان لا يدفع عنه أحد وليست بسنة وروى عروة بن الزبير عن زينب بنت أبى سلمة عن أم سلمة أنها شكت إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إنى أشتكى فقال طوفي من وراء الناس وأنت راكبة وكان عروة إذا رآهم يطوفون على الدواب نهاهم فيتعللون بالمرض فيقول خاب هؤلاء وخسروا وروى ابن أبى مليكة عن عائشة قالت ما منعني من الحج والعمرة إلا السعى بين الصفا والمروة وإنى لأكره الركوب وروى عن يزيد بن أبى زياد عن عكرمة عن ابن عباس أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء وقد اشتكى فطاف على بعير ومعه محجن كلما مر على الحجر استلمه فلما فرغ من طوافه أناخ فصلى ركعتين ولما ثبت من سنة الطواف بهما السعى في بطن الواديعلى ما وصفنا وكان الراكب تاركا للسعي كان فعله خلاف السنة إلا أن يكون معذورا على نحو ما روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم والصحابة فيجوز.

١٢٢

(فصل) روى جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر وذكر حج النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وطوافه بالبيت إلى قوله فاستلم الحجر بعد الركعتين ثم خرج إلى الصفا حتى بدا له البيت فقال نبدأ بما بدأ الله به يدل على أن لفظ الآية لا يقتضى الترتيب إذ لو كان ذلك معقولا من الآية لم يحتج أن يقول نبدأ بما بدأ الله به فإنما بدئ بالصفا قبل المروة لقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم نبدأ بما بدأ الله به ونفعله كذلك مع قوله [خذوا عنى مناسككم] ولا خلاف بين أهل العلم أن المسنون على الترتيب أن يبدأ بالصفا قبل المروة فإن بدأ بالمروة قبل الصفا لم يعتد بذلك في الرواية المشهورة عن أصحابنا وروى عن أبى حنيفة أنه ينبغي له أن يعيد ذلك الشوط فإن لم يفعل فلا شيء عليه وجعله بمنزلة ترك الترتيب في أعضاء الطهارة* قوله تعالى( وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً ) عقيب ذكر الطواف بهما يحتج به من يراه تطوعا وذلك لأنه معلوم رجوع الكلام إلى ما تقدم ذكره من الطواف بهما ومعلوم مع ذلك أن الطواف لا يتطوع به عند من يراه واجبا في الحج والعمرة وعند من لا يراه في غيرهما فوجب أن يكون قوله( وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً ) إخبار بأن من فعله في الحج والعمرة فإنما يفعله تطوعا إذ لم يبق موضع لفعله في غيرهما لا تطوعا ولا غيره وهذا لا دلالة فيه على ما ذكروا لأنه جائز أن يكون المراد من تطوع بالحج والعمرة لتقدم ذكرهما في الخطاب في قوله تعالى( فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ ) .

باب في النهى عن كتمان العلم

قال الله تعالى( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى) الآية وقال في موضع آخر( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) الآية وقال( وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) هذه الآي كلها موجبة لإظهار علوم الدين وتبيينه للناس زاجرة عن كتمانها ومن حيث دلت على لزوم بيان المنصوص عليه فهي موجبة أيضا لبيان المدلول عليه منه وترك كتمانه لقوله تعالى( يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى) وذلك يشتمل على سائر أحكام الله في المنصوص عليه والمستنبط لشمول اسم الهدى للجميع* وقوله تعالى( يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ) يدل على أنه لا فرق في ذلك بين ما علم من جهة النص أو الدليل لأن في الكتاب الدلالة على أحكام الله تعالى كما فيه النص عليها وكذلك قوله تعالى( لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا

١٢٣

تَكْتُمُونَهُ) عام في الجميع وكذلك ما علم من طرق أخبار الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد انطوت تحت الآية لأن في الكتاب الدلالة على قبول أخبار الآحاد عنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فكل ما اقتضى الكتاب إيجاب حكمه من جهة النص أو الدلالة فقد تناولته الآية ولذلك قال أبو هريرة لو لا آية في كتاب الله عز وجل ما حدثتكم ثم تلا( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى ) فأخبر أن الحديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من البينات والهدى الذي أنزله الله تعالى وقال شعبة عن قتادة في قوله تعالى( وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ) الآية فهذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم فمن علم علما فليعلمه وإياكم وكتمان العلم فإن كتمانه هلكة ونظيره في بيان العلم وإن لم يكن فيه ذكر الوعيد لكاتمه قوله تعالى( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) وقد روى حجاج عن عطاء عن أبى هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال من كتم علما يعلمه جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار) فإن قيل روى عن ابن عباس أن الآية نزلت في شأن اليهود حين كتموا ما في كتبهم من صفة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قيل له نزول الآية على على سبب غير مانع من اعتبار عمومها في سائر ما انتظمته لأن الحكم عندنا للفظ لا للسبب إلا أن تقوم الدلالة عندنا على وجوب الاقتصار به على سببه ويحتج بهذه الآيات في قبول الأخبار المقصرة عن مرتبة إيجاب العلم لمخبرها في أمور الدين وذلك لأن قوله تعالى( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ ) وقوله تعالى( وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ) قد اقتضى النهى عن الكتمان ووقوع البيان بالإظهار فلو لم يلزم السامعين قبوله لما كان المخبر عنه مبينا لحكم الله تعالى إذ ما لا يوجب حكما فغير محكوم له بالبيان فثبت بذلك أن المنهيين عن الكتمان متى أظهروا ما كتموا وأخبروا به لزم العمل بمقتضى خبرهم وموجبه ويدل عليه قوله في سياق الخطاب( إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا ) فحكم بوقوع العلم بخبرهم* فإن قال قائل لا دلالة فيه على لزوم العمل به وجائز أن يكون كل واحد منهم كان منهيا عن الكتمان ومأمورا بالبيان ليكثر المخبرون ويتواتر الخبر قيل له هذا غلط لأنهم ما نهوا عن الكتمان إلا وهم ممن يجوز عليهم التواطؤ عليه ومن جاز منهم التوطؤ على الكتمان جاز منهم التواطؤ على التقول فلا يكون خبرهم موجبا للعلم فقد دلت الآثار على قبول الخبر المقصر عن المنزلة الموجبة للعلم بمخبره وعلى أن

١٢٤

ما ادعيته لا برهان عليه فظواهر الآي مقتضية لقبول ما أمروا به لوقوع بيان حكم الله تعالى به وفي الآية حكم آخر وهو أنها من حيث دلت على لزوم إظهار العلم وترك كتمانه فهي دالة على امتناع جواز أخذ الأجرة عليه إذ غير جائز استحقاق الأجر على ما عليه فعله ألا ترى أنه لا يصح استحقاق الأجر على الإسلام وقد روى أن رجلا قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إنى أعطيت قومي مائة شاة على أن يسلموا فقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم المائة شاة رد عليك وإن تركوا الإسلام قاتلناهم ويدل على ذلك من جهة أخرى قوله تعالى( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً ) وظاهر ذلك يمنع أخذ الأجر على الإظهار والكتمان جميعا لأن قوله تعالى( وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً ) مانع أخذ البدل عليه من سائر الوجوه إذ كان الثمن في اللغة هو البدل قال عمر بن أبى ربيعة :

إن كنت حاولت دنيا أو رضيت بها

فما أصبت بترك الحج من ثمن

فثبت بذلك بطلان الإجارة على تعليم القرآن وسائر علوم الدين*

قوله تعالى( إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا ) يدل على أن التوبة من الكتمان إنما يكون بإظهار البيان وأنه لا يكتفى في صحة التوبة بالندم على الكتمان فيما سلف دون البيان فيما استقبل.

باب لعن الكفار

قال الله تعالى( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) فيه دلالة على أن على المسلمين لعن من مات كافرا وأن زوال التكليف عنه بالموت لا يسقط عنه لعنه والبراءة منه لأن قوله( وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) قد اقتضى أمرنا بلعنه بعد موته وهذا يدل على أن الكافر لو جن لم يكن زوال التكليف عنه بالجنون مسقطا للعنه والبراءة منه وكذلك سبيل ما يوجب المدح والموالاة من الإيمان والصلاح أن موت من كان كذلك أو جنونه لا يغير حكمه عما كان عليه قبل حدوث هذه الحادثة* فإن قيل روى عن أبى العالية أن مراد الآية أن الناس يلعنونه يوم القيامة كقوله تعالى( ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) قيل له هذا تخصيص بلا دلالة ولا خلاف أنه يستحق اللعن من الله تعالى والملائكة في الدنيا بالآية فكذلك من الناس وإنما يشتبه ذلك على من يظن أن ذلك إخبار من الله تعالى أن الناس كذلك بل هو إخبار باستحقاقه اللعن من الناس لعنوه أو لم يلعنوه* قوله تعالى( وَإِلهُكُمْ

١٢٥

إِلهٌ واحِدٌ) وصفه تعالى لنفسه بأنه واحد انتظم معاني كلها مرادة بهذا اللفظ منها إنه واحد لا نظير له ولا شبيه ولا مثل ولا مساوي في شيء من الأشياء فاستحق من أجل ذلك أن يوصف بأنه واحد دون غيره ومنها أنه واحد في استحقاق العبادة والوصف له بالألوهية لا يشاركه فيها سواه ومنها أنه واحد ليس بذي أبعاض ولا يجوز عليه التجزى والتقسيم لأن من كان ذا أبعاض وجاز عليه التجزى والتقسيم فليس بواحد على الحقيقة ومنها أنه واحد في الوجود قديما لم يزل منفردا بالقدم لم يكن معه وجود سواه فانتظم وصفه لنفسه بأنه واحد هذه المعاني كلها قوله تعالى( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ) الآية قد انتظمت هذه الآية ضروبا من الدلالات على توحيد الله تعالى وأنه لا شبيه له ولا نظير وفيها أمر لنا بالاستدلال بها وهو قوله( لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) يعنى والله تعالى أعلم أنه نصبها ليستدل بها ويتوصل بها إلى معرفة الله تعالى وتوحيده ونفى الأشباه عنه والأمثال وفيه إبطال لقول من زعم أنه إنما يعرف الله تعالى بالخبر وأنه لا حظ للعقول في الوصول إلى معرفة الله تعالى* فأما دلالة السموات والأرض على الله فهو قيام السماء فوقنا على غير عمد مع عظمها ساكنة غير زائلة وكذلك الأرض تحتنا مع عظمها فقد علمنا أن لكل واحد منهما منتهى من حيث كان حيث كان موجودا في وقت واحد محتملا للزيادة والنقصان وعلمنا أنه لو اجتمع الخلق على إقامة حجر في الهواء من غير علاقة ولا عمد لما قدروا عليه فعلمنا أن مقيما أقام السماء على غير عمد والأرض على غير قرار فدل ذلك على وجود الباري تعالى الخالق لهما ودل أيضا على أنه لا يشبه الأجسام وأنه قادر لا يعجزه شيء إذ كانت الأجسام لا تقدر على مثل ذلك وإذا صح ذلك ثبت أنه قادر على اختراع الأجسام إذ ليس اختراع الأجسام واختراع الأجرام بأبعد في العقول والأوهام من إقامتها مع عظمها وكثافتها على غير قرار وعمد ومن جهة أخرى تدل على حدوث هذه الأجسام وهي امتناع جواز تعريها من الأعراض المتضادة ومعلوم أن هذه الأعراض محدثة لوجود كل واحد منها بعد أن لم يكن وما لم يوجد قبل المحدث فهو محدث فصح بذلك حدوث هذه الأجسام والمحدث يقتضى محدثا كاقتضاء البناء للبانى والكتابة للكاتب والتأثر للمؤثر فثبت بذلك أن السموات والأرض وما بينهما من آيات الله دالة عليه* وأما دلالة اختلاف الليل والنهار على الله تعالى فمن جهة أن كل واحد منهما حادث بعد

١٢٦

الآخر والمحدث يقتضى محدثا فدل ذلك على محدثهما وأنه لا يشبههما إذ كل فاعل فغير مشبه لفعله ألا ترى أن الباني لا يشبه بنائه والكاتب لا يشبه كتابته ومن جهة أخرى أنه لو أشبهه لجرى عليه ما يجرى عليه من دلالة الحدوث فكان لا يكون هو أولى بالحدوث من محدثه ولما صح أن محدث الأجسام والليل والنهار قديم صح أنه لا يشبهها وهي تدل على أن محدثها قادر لاستحالة وجود الفعل إلا من القادر ويدل أن محدثها حي لاستحالة وجود الفعل إلا من قادر حي ويدل أيضا على أنه عالم لاستحالة الفعل المحكم المتقن المتسق إلا من عالم به قبل إحداثه ولما كان اختلاف الليل والنهار جاريا على منهاج واحد لا يختلف في كل صقع في الطول والقصر أزمان السنة على المقدار الذي عرف منهما الزيادة والنقصان دل على أن مخترعهما قادر على ذلك عالم إذ لو لم يكن قادرا لم يوجد منه الفعل ولو لم يكن عالما لم يكن فعله متقنا منتظما* وأما دلالة الفلك التي تجرى في البحر على توحيد الله فمن جهة أنه معلوم أن الأجسام لو اجتمعت على أن تحدث مثل هذا الجسم الرقيق السيال الحامل للفلك وعلى أن تجرى الرياح المجرية للفلك لما قدرت على ذلك ولو سكنت الرياح بقيت راكدة على ظهر الماء لا سبيل لأحد من المخلوقين إلى إجرائها وإزالتها كما قال تعالى في موضع آخر( إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ ) ففي تسخير الله تعالى الماء لحمل السفن وتسخيره الرياح لإجرائها أعظم الدلائل على إثبات توحيد الله تعالى القديم القادر العالم الحي الذي لا شبه له ولا نظير إذ كانت الأجسام لا تقدر عليه فسخر الله الماء لحمل السفن على ظهره وسخر الرياح لإجرائها ونقلها لمنافع خلقه ونبههم على توحيده وعظم نعمته واستدعى منهم النظر فيها ليعلموا أن خالقهم قد أنعم بها فيشكروه على نعمه ويستحقوا به الثواب الدائم في دار السلام* قال أبو بكر وأما دلالة إنزاله الماء على توحيده فمن قبل أنه قد علم كل عاقل أن من شأن الماء النزول والسيلان وأنه غير جائز ارتفاع الماء من سفل إلى علو إلا بجاعل يجعله كذلك فلا يخلو الماء الموجود في السحاب من أحد معنيين إما أن يكون محدث أحدثه هناك في السحاب أو رفعه من معادنه من الأرض والبحار إلى هناك وأيهما كان فدل ذلك على إثبات الواحد القديم الذي لا يعجزه شيء ثم أمساكه في السحاب غير سائل منه حتى ينقله إلى المواضع التي يريدها بالرياح المسخرة لنقله فيه أدل دليل على توحيده وقدرته فجعل السحاب مركبا للماء والرياح مركبا للسحاب

١٢٧

حتى تسوقه من موضع إلى موضع ليعم نفعه لسائر خلقه كما قال تعالى( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ ) ثم أنزل ذلك الماء قطرة قطرة لا تلتقي واحدة مع صاحبتها في الجو مع تحريك الرياح لها حتى تنزل كل قطرة على حيالها إلى موضعها من الأرض ولو لا أن مدبرا حكيما عالما قادرا دبره على هذا النحو وقدره بهذا الضرب من التقدير كيف كان يجوز أن يوجد نزول الماء في السحاب مع كثرته وهو الذي تسيل منه السيول العظام على هذا النظام والترتيب ولو اجتمع القطر في الجو وأتلف لقد كان يكون نزولها مثل السيول المجتمعة منها بعد نزولها إلى الأرض فيؤدى إلى هلاك الحرث والنسل وإبادة جميع ما على الأرض من شجر وحيوان ونبات وكان يكون كما وصف الله تعالى من حال الطوفان في نزول الماء من السماء في قوله تعالى( فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ ) فيقال إنه كان صبا كنحر السيول الجارية في الأرض ففي إنشاء الله تعالى السحاب في الجو وخلق الماء فيه وتصريفه من موضع إلى موضع أدل دليل على توحيده وقدرته وأنه ليس بجسم ولا مشبه الأجسام إذ الأجسام لا يمكنها فعل ذلك ولا ترومه ولا تطمع فيه* وأما دلالة إحياء الله الأرض بعد موتها على توحيده فهي من جهة أن الخلق كلهم لو اجتمعوا على إحياء شيء منها لما قدروا عليه ولما أمكنهم إنبات شيء من النبات فيها فإحياء الله تعالى الأرض بالماء وإنباته أنواع النبات فيها التي قد علمنا يقينا ومشاهدة أنه لم يكن فيها شيء منه ثم كل شيء من النبات لو فكرت فيه على حياله لوجدته دالا على أنه من صنع صانع حكيم قادر عالم بما قدره عليه من ترتيب أجزائه ونظمها على غاية الإحكام من أدل الدليل على أن خالق الجميع واحد وأنه قادر عالم وأنه ليس من فعل الطبيعة على ما يدعيه الملحدون في آيات الله تعالى إذ الماء النازل من السماء على طبيعة واحدة وكذلك أجزاء الأرض والهواء ويخرج منه أنواع النبات والأزهار والأشجار المثمرة والفواكه المختلفة الطعوم والألوان والأشكال فلو كان ذلك من فعل الطبيعة لوجب أن يتفق موجبها إذ المتفق لا يوجب المختلف فدل ذلك على أنه من صنع صانع حكيم قد خلقه وقدره على اختلاف أنواعه وطعومه وألوانه رزقا للعباد ودلالة لهم على صنعه ونعمه* وأما دلالة ما بث فيها من دابة على توحيده فهي كذلك في الدلالة أيضا في اختلاف أنواعه إذ غير جائز أن تكون الحيوانات هي

١٢٨

المحدثة لأنفسها لأنها لا تخلو من أن تكون أحدثتها وهي موجودة أو معدومة فإن كانت موجودة فوجودها قد أغنى عن إحداثها وإن كانت معدومة فإنه يستحيل إيجاد الفعل من المعدوم ومع ذلك فقد علمنا أنها بعد وجودها غير قادرة على اختراع الأجسام وإنشاء الأجرام فهي في حال عدمها أحرى أن لا تكون قادرة عليها وأيضا فإنه لا يقدر أحد من الحيوان على الزيادة في أجزائه فهو بنفي القدرة على إحداث جميعه أولى فثبت أن المحدث لها هو القادر الحكيم الذي لا يشبهه شيء ولو كان محدث هذه الحيوانات مشبها لها من وجه لكان حكمها في امتناع جواز وقوع إحداث الأجسام وأما دلالة تصريف الرياح على توحيده فهي أن الخلق لو اجتمعوا على تصريفها لما قدروا عليه ومعلوم أن تصريفها تارة جنوبا وتارة شمالا وتارة صبا وتارة دبورا محدث فعلمنا أن المحدث لتصريفها هو القادر الذي لا شبه له إذ كان معلوما استحالة إحداث ذلك من المخلوقين فهذه دلائل قد نبه الله تعالى العقلاء عليها وأمرهم بالاستدلال بها وقد كان الله تعالى قادرا على إحداث النبات من غير ماء ولا زراعة وإحداث الحيوانات بلا نتاج ولا زواج ولكنه تعالى أجرى عادته في إنشاء خلقه على هذا تنبيها لهم عند كل حادث من ذلك على قدرته والفكر في عظمته وليشعرهم في كل وقت ما أغفلوه ويزعج خواطرهم للفكر فيما أهملوه فخلق تعالى الأرض والسماء ثابتتين دائمتين لا تزولان ولا تتغيران عن الحال التي جعلهما وخلقهما عليها بديا إلى وقت فنائها ثم أنشأ الحيوان من الناس وغيرهم من الأرض ثم أنشأ للجميع رزقا منها وأقواتا بها تبقى حياتهم ولم يعطهم ذلك الرزق جملة فيظنون أنهم مستغنون بما أعطوا بل جعل لهم قوتا معلوما في كل سنة بمقدار الكفاية لئلا يبطروا ويكونوا مستشعرين للافتقار إليه في كل حال ووكل إليهم في بعض الأسباب التي يتوصلون بها إلى ذلك من الحرث والزراعة ليشعرهم أن للأعمال ثمرات من الخير والشر فيكون ذلك داعيا لهم إلى فعل الخير فيجتنون ثمرته واجتناب الشر ليسلموا من شر مغبته ثم تولى هو لهم من إنزال الماء ما لم يكن في وسعهم وطاقتهم أن ينزلوه لأنفسهم فأنشأ سحابا في الجو وخلق فيه ماء ثم أنزله على الأرض بمقدار الحاجة ثم أنبت لهم به سائر أقواتهم وما يحتاجون إليه لملابسهم ثم لم يقتصر فيما أنزله من السماء على منافعه في وقت منافعه حتى جعل لذلك الماء مخازن وينابيع في الأرض يجتمع فيه ذلك الماء فيجري أولا فأولا

١٢٩

على مقدار الحاجة كما قال تعالى( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ) ولو كان على ما نزل من السماء من غير حبس له في الأرض لوقت الحاجة لسال كله وكان في ذلك تلف سائر الحيوان الذي على ظهرها لعدمه الماء فتبارك الله رب العالمين الذي جعل الأرض بمنزلة البيت الذي يأوى إليه الإنسان وجعل السماء بمنزلة السقف وجعل سائر ما يحدثه من المطر والنبات والحيوان بمنزلة ما ينقله الإنسان إلى بيته لمصالحه ثم سخر هذه الأرض لنا وذللها للمشي عليها وسلوك طرقها ومكننا من الانتفاع بها في بناء البيوت والدور ليسكن من المطر والحر والبرد وتحصنا من الأعداء لم تخرجنا إلى غيرها فأى موضع منها أردنا الانتفاع به في إنشاء الأبنية مما هو موجود فيها من الحجارة والجص والطين ومما يخرج منها من الخشب والحطب أمكننا ذلك وسهل علينا سوى ما أودعهما من الجواهر التي عقد بها منافعنا من الذهب والفضة والحديد والرصاص والنحاس وغير ذلك كما قال تعالى( وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها ) فهذه كلها وما يكثر تعداده ولا يحيط علمنا به من بركات الأرض ومنافعها ثم لما كانت مدة أعمارنا وسائر الحيوان لا بد من أن تكون متناهية جعلها كفاتا لنا بعد الموت كما جعلها في الحياة فقال تعالى( أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً ) وقال تعالى( إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً ) ثم لم يقتصر فيما خلق من النبات والحيوان على الملذ دون المألم ولا على الغذاء دون السم ولا على الحلو دون المر بل مزج ذلك كله ليشعرنا أنه غير مريد منا الركون إلى هذه اللذات ولئلا تطمئن نفوسنا إليها فنشتغل بها عن دار الآخرة التي خلقنا لها فكان النفع والصلاح في الدين في الذوات المؤلمة المؤذية كهو في الملذة السارة وليشعرنا في هذه الدنيا كيفية الآلام ليصح الوعيد بآلام الآخرة ولنزجر عن القبائح فنستحق النعيم الذي لا يشوبه كدر ولا تنغيص فلو اقتصر العاقل من دلائل التوحيد على ما ذكره الله تعالى في هذه الآية الواحدة لكان كافيا شافيا في إثباته وإبطال قول سائر أصناف الملحدين من أصحاب الطبائع ومن الثنوية ومن يقول بالتشبيه ولو بسطت معنى الآية وما تضمنته من ضروب الدلائل لطال وكثر وفيما ذكرنا كفاية في هذا الموضع إذ كان الغرض فيه التنبيه على مقتضى دلالة الآية بوجيز من القول دون الاستقصاء والله نسأل حسن التوفيق للاستدلال بدلائله والاهتداء بهداه وحسبنا الله ونعم الوكيل.

١٣٠

باب إباحة ركوب البحر

وفي قوله تعالى( وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ ) دلالة على إباحة ركوب البحر غازيا وتاجرا ومبتغيا لسائر المنافع إذ لم يخص ضربا من المنافع دون غيره وقال تعالى( هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ) وقال( رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ) وقوله( لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ) قد انتظم التجارة وغيرها كقوله تعالى( فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ ) وقال تعالى( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ ) وقد روى عن جماعة من الصحابة إباحة التجارة في البحر وقد كان عمر بن الخطاب منع الغزو في البحر إشفاقا على المسلمين وروى عن ابن عباس أنه قال لا يركب أحد البحر إلا غازيا أو حاجا أو معتمرا وجائز أن يكون ذلك منه على وجه المشورة والإشفاق على راكبه وقد روى ذلك في حديث عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حدثنا محمد بن بكر البصري قال حدثنا أبو داود قال حدثنا سعيد بن منصور قال حدثنا إسماعيل بن زكريا عن مطرف عن بشر أبى عبيد الله عن بشير بن مسلم عن عبد الله بن عمر قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يركب البحر إلا حاج أو معتمرا أو غاز في سبيل الله فإن تحت البحر نارا وتحت النار بحرا وجائز أن يكون ذلك على وجه الاستحباب لئلا يغرر بنفسه في طلب الدنيا وأجاز ذلك في الغزو والحج والعمرة إذ لا غرر فيه لأنه إن مات في هذا الوجه غرقا كان شهيدا وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود حدثنا سليمان ابن داود العتكي حدثنا حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن أنس ابن مالك قال حدثتني أم حرام بنت ملحان أخت أم سليم أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم نام عندهم فاستيقظ وهو يضحك قالت فقلت يا رسول الله وما أضحكك قال رأيت قوما ممن يركب ظهر هذا البحر كالملوك على الأسرة قالت قلت يا رسول الله أدع الله يجعلني منهم قال فإنك منهم قالت ثم نام فاستيقظ وهو يضحك قالت فقلت يا رسول الله ما أضحكك فقال مثل مقالته قلت يا رسول الله أدع الله أن يجعلني منهم قال أنت من الأولين قال فتزوجها عبادة ابن الصامت فغزا في البحر فحملها معه فلما رجع قربت لها بغلة لتركبها فصرعتها فاندقت عنقها فماتت وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود وحدثنا عبد الوهاب بن عبد الرحيم الجوبرى الدمشقي قال حدثنا مروان قال أخبرنا هلال بن ميمون الرملي عن يعلى بن شداد

١٣١

عن أم حرام عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال (المائد في البحر الذي يصيبه القيء له أجر شهيد والغرق له أجر شهيدين) والله تعالى أعلم.

باب تحريم الميتة

قال الله تعالى( إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ ) قال أبو بكر الميتة في الشرع اسم حيوان الميت غير المذكى وقد يكون ميتة بأن يموت حتف أنفه من غير سبب لآدمى فيه وقد يكون ميتة لسبب فعل آدمي إذا لم يكن فعله فيه على وجه الذكاة المبيحة له وسنبين شرائط الذكاة في موضعها إن شاء الله تعالى والميتة وإن كانت فعلا لله تعالى وقد علق التحريم بها مع علمنا بأن التحريم والتحليل والحظر والإباحة إنما يتناولان أفعالنا ولا يجوز أن يتناولا فعل غيرنا إذ غير جائز أن ينهى الإنسان عن فعل غيره ولا أن يؤمر به فإن معنى ذلك لما كان معقولا عند المخاطبين جاز إطلاق لفظ التحريم والتحليل فيه وإن لم يكن حقيقة وكان ذلك دليلا على تأكيد حكم التحريم فإنه يتناول سائر وجوه المنافع ولذلك قال أصحابنا لا يجوز الانتفاع بالميتة على وجه ولا يطعمها الكلاب والجوارح لأن ذلك ضرب من الانتفاع بها وقد حرم الله الميتة تحريما مطلقا معلقا بعينها مؤكدا به حكم الحظر فلا يجوز الانتفاع بشيء منها إلا أن يخص شيء منها بدليل يجب التسليم له وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم تخصيص ميتة السمك والجراد من هذه الجملة بالإباحة فروى عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (أحلت لنا ميتتان ودمان فأما الميتتان فالجراد والسمك وأما الدمان فالطحال والكبد) وروى عمرو بن دينار عن جابر في قصة جيش الخبط(أن البحر ألقى إليهم حوتا فأكلوا منه نصف شهر ثم لما رجعوا أخبروا النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال هل عندكم منه شيء تطعمونى) ولا خلاف بين المسلمين في إباحة السمك غير الطافي وفي الجراد ومن الناس من استدل على تخصيص عموم آية تحريم الميتة بقوله تعالى( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ ) وبقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث صفوان بن سليم الزرقي عن سعيد بن سلمة عن المغيرة بن أبى بردة عن أبى هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال في البحر (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) وسعيد بن سلمة مجهول غير معروف بالثبت وقد خالفه في سنده يحيى بن سعيد الأنصارى فرواه عن المغيرة بن عبد الله بن أبى بردة عن أبيه عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ومثل هذا الإختلاف

١٣٢

في السند يوجب اضطراب الحديث وغير جائز تخصيص آية محكمة به وقد روى ابن زياد بن عبد الله البكائى قال حدثنا سليمان الأعمش قال حدثنا أصحابنا عن ابن عباس قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (في البحر ذكى صيده طهور ماؤه) وهذا أضعف عند أهل النقل من الأول وقد روى فيه حديث آخر وهو ما رواه يحيى بن أيوب عن جعفر بن ربيعة وعمرو بن الحارث عن بكر بن سوادة عن أبى معاوية العلوي عن مسلم بن مخشى المدلجي عن الفراسى أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (في البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته) وهذا أيضا مما لا يحتج به لجهالة رواية ولا يخص به ظاهر القرآن وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدثنا أحمد بن حنبل قال حدثنا أبو القاسم بن أبى الزناد قال حدثنا إسحاق بن حازم عن عبد الله بن مقسم عن عطاء عن جابر بن عبد الله عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سئل عن البحر فقال (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) قال أبو بكر وقد اختلف في السمك الطافي وهو الذي يموت في الماء حتف أنفه فكرهه أصحابنا والحسن بن حي وقال مالك والشافعى لا بأس به وقد اختلف السلف فيه أيضا فروى عطاء بن السائب عن ميسرة عن على عليه السلام قال (ما طفا من ميتة البحر فلا تأكله) وروى عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله وعبد الله بن أبى الهذيل عن ابن عباس أنهما كرها الطافي فهؤلاء الثلاثة من الصحابة قد روى عنهم كراهته وروى عن جابر بن زيد وعطاء وسعيد ابن المسيب والحسن وابن سيرين وإبراهيم كراهيته وروى عن أبى بكر الصديق وأبى أيوب إباحة أكل الطافي من السمك والذي يدل على حظر أكله ظاهر قوله تعالى( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ) واتفق المسلمون على تخصيص غير الطافي من الجملة فحصصناه واختلفوا في الطافي فوجب استعمال حكم العموم فيه وقد حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد ابن عبدة حدثنا يحيى بن سليم الطائفي قال حدثنا إسماعيل بن أمية عن أبى الزبير عن جابر بن عبد الله قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (ما ألقى البحر أو جزر عنه فكلوه وما مات فيه وطفا فلا تأكلوه) وروى إسماعيل بن عياش قال حدثني عبد العزيز بن عبد الله عن وهب بن كيسان ونعيم بن عبد الله المجمر عن جابر بن عبد الله عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (ما جزر عنه البحر فلا تأكل وما ألقى فكل وما وجدته ميتا طافيا فلا تأكله) وقد روى بن أبى ذيب عن أبى الزبير عن جابر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مثله وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا موسى

١٣٣

ابن زكريا قال حدثنا سهل بن عثمان قال حدثنا حفص عن يحيى بن أبى أنيسة عن أبى الزبير عن جابر بن عبد الله قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (إذا وجدتموه حيا فكلوه وما ألقى البحر حيا فمات فكلوه وما وجدتموه ميتا طافيا فلا تأكلوه) وحدثنا ابن قانع قال حدثنا عبد الله بن موسى بن أبى عثمان الدهقان قال حدثنا الحسين بن يزيد الطحان حدثنا حفص ابن غياث عن ابن أبى ذيب عن أبى الزبير عن جابر بن عبد الله قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (ما صدتموه وهو حي فمات فكلوه وما ألقى البحر ميتا طافيا فلا تأكلوه) فإن قيل قد روى هذا الحديث سفيان الثوري وأيوب وحماد عن أبى الزبير موقوفا على جابر* قيل له هذا لا يفسده عندنا لأنه جائز أن يرويه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم تارة ثم يرسل عنه فيفتى به وفتياه بما رواه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم غير مفسد له بل يؤكده على أن إسماعيل بن أمية فيما يرويه عن أبى الزبير ليس بدون من ذكرت وكذلك ابن أبى ذيب فزيادتهما في الرفع مقبولة على هؤلاء فإن قيل قد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم (أحلت لنا ميتتان ودمان السمك والجراد) وذلك عموم في جميعه قيل له يخصه ما ذكرنا وروينا في النهى عن الطافي ويلزم مخالفنا على أصله في ترتيب الأخبار أن يبنى العام على الخاص فيستعملهما وأن لا يسقط الخاص بالعام وعلى أن هذا خبر في رفعه اختلاف فرواه مرحوم العطار عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر موقوفا عليه ورواه يحيى الحماني عن عبد الرحمن بن زيد مرفوعا فيلزمك فيه مثل ما رمت إلزامنا إياه في خبر الطافي* فإن احتج بما روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال الطهور ماؤه الحل ميتته ولم يخصص الطافي من غيره قيل له نستعملهما جميعا ونجعلهما كأنهما وردا معا نستعمل خبر الطافي في النهى ونستعمل خبر الإباحة فيما عدا الطافي* فإن قيل فإن من أصل أبى حنيفة في الخاص والعام أنه متى اتفق الفقهاء على استعمال أحد الخبرين واختلفوا في استعمال الآخر كان ما اتفق في الاستعمال قاضيا على ما اختلف فيه وقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الحل ميتته وأحلت لنا ميتتان متفق على استعمالهما وخبر الطافي مختلف فيه فينبغي أن يقضى عليه بالخبرين الآخرين قيل له إنما يعرف ذلك من مذهبه وقوله فيما لم يعضده نص الكتاب فأما إذا كان عموم الكتاب معاضدا للخبر المختلف في استعماله فإنا لا نعرف قوله فيه وجائز أن يقال إنه لا يعتبر وقوع الخلاف في استعماله بعد أن يعضده عموم الكتاب فيستعمل حينئذ مع العام المتفق على استعماله ويكون ذلك مخصوصا منه فإن

١٣٤

احتجوا بحديث جابر في قصة جيش الخبط وإباحة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أكل الحوت الذي ألقاه البحر فليس ذلك عندنا بطاف وإنما الطافي ما مات حتف أنفه في الماء من غير سبب حادث ومن الناس من يظن أن كراهة الطافي من أجل بقائه في الماء حتى طفا عليه فيلزموننا عليه الحيوان المذكى إذا ألقى في الماء حتى طفا عليه وهذا جهل منهم بمعنى المقالة وموضع الخلاف لأن السمك لو مات ثم طفا على الماء لأكل ولو مات حتف أنفه ولم يطف على الماء لم يؤكل والمعنى فيه عندنا هو موته في الماء حتف أنفه لا غير وقد روى لنا عبد الباقي حديثا وقال لنا إنه حديث منكر فذكر أنه حدثه به عبيد بن شريك البزاز قال حدثنا أبو الجماهر قال حدثنا سعيد بن بشير عن إبان بن أبى عياش عن أنس بن مالك عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (كل ما طفا على البحر) وإبان بن عياش ليس هو ممن يثبت ذلك بروايته قال شعبة لأن أزنى سبعين زنية أحب إلى من أن أروى عن إبان بن عياش فإن احتج محتج بقوله تعالى( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ ) وأنه عموم في الطافي وغيره* قيل له الجواب عنه من وجهين أحدهما أنه مخصوص بما ذكرنا من تحريم الميتة والأخبار الواردة في النهى عن أكل الطافي والثاني أنه روى في التفسير في قوله تعالى وطعامه أنه ما ألقاه البحر فمات وصيده ما اصطادوا وهو حي والطافي خارج منهما لأنه ليس مما ألقاه البحر ولا مما صيد إذ غير جائز أن يقال اصطاد سمكا ميتا كما لا يقال اصطاد ميتا فالآية لم تنتظم الطافي ولم تتناوله والله أعلم.

باب أكل الجراد

قال أصحابنا والشافعى رضى الله عنهم لا بأس بأكل الجراد كله ما أخذته وما وجدته ميتا وروى ابن وهب عن مالك أنه إذا أخذه حيا ثم قطع رأسه وشواه أكل وما أخذ حيا فغفل عنه حتى مات لم يؤكل وإنما هو بمنزلة ما لو وجده ميتا قبل أن يصطاده فلا يؤكل وهو قول الزهري وربيعة وقال مالك وما قتله مجوسي لم يؤكل وقال الليث بن سعد أكره أكل الجراد ميتا فأما الذي أخذته حيا فلا بأس به* قال أبو بكر قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث ابن عمر(أحلت لنا ميتتان ودمان السمك والجراد) يوجب إباحته جميعه مما وجد ميتا ومما قتله آخذه وقد استعمل الناس جميعهم هذا الخبر في إباحة أكل الجراد فوجب استعماله على عمومه من غير شرط لقتل آخذه إذ لم يشترطه النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حدثنا عبد الباقي قال حدثنا

١٣٥

الحسن بن المثنى قال حدثنا مسلم بن إبراهيم قال حدثنا زكريا بن يحيى بن عمارة الأنصارى قال حدثنا فائد أبو العوام عن أبى عثمان الهندي عن سلمان أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن الجراد قال أكثر جنود الله لا آكله ولا أحرمه وما لم يحرمه النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو مباح وتركه أكله لا يوجب حظره إذ جائز ترك أكل المباح وغير جائز نفى التحريم عما هو محرم ولم يفرق بين ما مات وبين ما قتله آخذه وقال عطاء عن جابر غزونا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فأصبنا جرادا فأكلناه وقال عبد الله بن أبى أوفى غزوت مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم سبع غزوات نأكل الجراد ولا نأكل غيره * قال أبو بكر ولم يفرق بين ميته وبين مقتوله حدثنا عبد الباقي قال حدثنا موسى بن زكريا التستري قال حدثنا أبو الخطاب قال حدثنا أبو عتاب حدثنا النعمان عن عبيدة عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة أنها كانت تأكل الجراد وتقول كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يأكله * قال أبو بكر فهذه الآثار الواردة في الجراد لم يفرق في شيء منها بين ميته* وبين مقتوله* فإن قيل ظاهر قوله تعالى( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ) يقتضى حظر جميعها فلا يخص منها إلا ما أجمعوا عليه وهو ما يقتله آخذه وما عداه فهو محمول على ظاهر الآية في إيجاب تحريمه* قيل له تخصه الأخبار الواردة في إباحته وهي مستعملة عند الجميع في تخصيص الآية ولم تفرق هذه الأخبار بين شيء منها فلم يجز تخصيص شيء منها ولا الاعتراض عليها بالآية لاتفاق الجميع على أنها قاضية على الآية مخصصة لها وليس الجراد عندنا مثل السمك في حظرنا للطافى منه دون غيره لأن الأخبار الواردة في تخصيص السمك بالإباحة من جملة الميتة بإزائها أخبار أخر في حظر الطافي منه فاستعملناها جميعا وقضينا بالخاص منها على العام مع معاضدة الآية لأخبار الحظر وأيضا فإنه لما وافقنا مالك ومن تابعه على إباحة المقتول منه دل ذلك على أنه لا فرق بينه وبين الميت من غير قتل وذلك لأن القتل ليس بذكاة في حقه لأن الذكاة في الأصل على وجهين وهي فيما له دم سائل أحدهما قطع الحلقوم والأوداج في حال إمكانه والآخر إسالة دمه عند تعذر الذبح ألا ترى أن الصيد لا يكون مذكى بإصابته إلا أن يجرحه ويسفح دمه فلما لم يكن للجراد دم سائل كان قتله وموته حتف أنفه سواء كما كان قتل ماله دم سائل من غير سفح دمه وموته حتف أنفه سواء في كونه غير مذكى فكذلك واجب أن يستوي حكم قتل الجراد وموته حتف أنفه إذ ليس هو مما يسفح دمه* فإن قيل قد فرقت بين السمك

١٣٦

الطافي وما قتله آخذه أو مات بسبب حادث فما أنكرت من فرقنا بين ما مات من الجراد وما قتل منه قيل له الجواب عن هذا من وجهين أحدهما أن هذا هو القياس في السمك لما لم يحتج في صحة ذكاته إلى سفح الدم إلا أنا تركنا القياس للآثار التي ذكرنا ومن أصلنا تخصيص القياس بالآثار وليس معك الأثر في تخصيص بعض الجراد بالإباحة دون بعض فوجب استعمال أخبار الإباحة في الكل والوجه الآخر أن السمك له دم سائل فكان له ذكاة من جهة القتل ولم يحتج إلى سفح دمه في شرط الذكاة لأن دمه ظاهر وهو يؤكل بدمه فلذلك شرط فيه موته بسبب حادث يقوم له مقام الذكاة في سائر ماله دم سائل وهذا المعنى غير موجود في الجراد فلذلك اختلفا وقد روى عن ابن عمر أنه قال الجراد كله ذكى وعن عمر وصهيب والمقداد إباحة أكل الجراد ولم يفرقوا بين شيء منه والله أعلم.

باب ذكاة الجنين

قال أبو بكر اختلف أهل العلم في جنين الناقة والبقرة وغيرهما إذا خرج ميتا بعد ذبح الأم فقال أبو حنيفة رضى الله عنه لا يؤكل إلا أن يخرج حيا فيذبح وهو قول حماد وقال أبو يوسف ومحمد والشافعى رحمة الله عليهم يؤكل أشعر أو لم يشعر وهو قول الثوري وقد روى عن على وابن عمر قالا ذكاة الجنين ذكاة أمه وقال مالك إن تم خلقه ونبت شعره أكل وإلا فلا وهو قول سعيد بن المسيب وقال الأوزاعى إذا تم خلقه فذكاة أمه ذكاته قال الله تعالى( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ) وقال في آخرها( إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ ) وقال إنما( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ) فحرم الله الميتة مطلقا واستثنى المذكى منها وبين النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم الذكاة في المقدور على ذكاته في النحر واللبة وفي غير مقدور على ذكاته بسفح دمه بقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم انهر الدم بما شئت وقوله في المعراض إذا خزق فكل وإذا لم يخزق فلا تأكل فلما كانت الذكاة منقسمة إلى هذين الوجهين وحكم الله بتحريم الميتة حكما عاما واستثنى منه المذكى بالصفة التي ذكرنا على لسان نبيه ولم تكن هذه الصفة موجودة في الجنين كان محرما بظاهر الآية* واحتج من أباح ذلك بأخبار رويت من طرق منها عن أبى سعيد الخدري وأبى الدرداء وأبى أمامة وكعب بن مالك وابن عمر وأبى أيوب وأبى هريرة أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ذكاة الجنين ذكاة أمه وهذه الأخبار كلها واهية السند عند أهل النقل كرهت الإطالة بذكر أسانيدها وبيان ضعفها واضطرابها إذ ليس في شيء منها دلالة على موضع الخلاف

١٣٧

وذلك لأن قوله ذكاة الجنين ذكاة أمه يحتمل أن يريد به أن ذكاة أمه ذكاة له ويحتمل أن يريد به إيجاب تذكيته كما تذكى أمه وأنه لا يؤكل بغير ذكاة كقوله تعالى( وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ ) معناه كعرض السموات والأرض وكقول القائل قولي قولك ومذهبي مذهبك والمعنى قولي كقولك ومذهبي كمذهبك* قال الشاعر :

فعيناك عيناها وجيدك جيدها

سوى أن عظم الساق منك دقيق

ومعناه فعيناك كعينيها وجيدك كجيدها وإذا احتمل اللفظ لما وصفنا ولم يجز أن يكون المعنيان جميعا مرادين بالخبر لتنافيهما إذ كان في أحد المعنيين إيجاب تذكيته فإنه لا يؤكل غير مذكى في نفسه والآخر يبيح أكله بذكاة أمه إذ غير معتبر ذكاته في نفسه لم يجز لنا أن تخصص الآية به ووجب أن يقول محمولا على موافقة الآية إذ غير جائز تخصيص الآية بخبر الواحد واهي السند محتمل لموافقتها ويدل على أن مراده إيجاب تذكيته كما تذكى الأم اتفاق الجميع على أنه إذا خرج حيا وجب تذكيته ولم يجز الاقتصار على تذكية الأم فكان ذلك مرادا بالخبر فلم يجز أن يريد به مع ذلك أن ذكاة أمه ذكاة له لتنافيهما وتضادهما إذ كان في أحد المعنيين إيجاب تذكيته وفي الآخر نفيه فإن قال قائل ما أنكرت أن نريد المعنيين في حالين بأن يجب ذكاته إذا خرج حيا ويقتصر على ذكاة أمه إذا خرج ميتا قيل له ليس ذكر الحالين موجودا في الخبر وهو لفظ واحد ولا يجوز أن يريد به الأمرين جميعا لأن في إرادة أحد المعنيين إثبات زيادة حرف وليس في الآخر إثبات زيادة حرف وليس في الجائز أن يكون لفظ واحد فيه حرف وغير حرف فلذلك بطل قول من يقول بإرادتهما فإن قيل إذا كان إرادة أحد المعنيين توجب زيادة حرف وهو الكاف وليس في الآخر زيادة فحمله على المعنى الذي لا يفتقر إلى زيادة أولى لأن حذف الحرف يوجب أن يكون اللفظ مجازا وإذا لم يكن فيه حذف شيء فهو حقيقة وحمل اللفظ على الحقيقة أولى من حمله على المجاز قيل له كون الحرف محذوفا أو غير محذوف لا يزيل عنه الاحتمال لأنه وإن كان مجازا فهو مفهوم اللفظ محتمل له ولا فرق بين الحقيقة والمجاز فيما هو من مقتضى اللفظ فلم يجز من أجل ذلك تخصيص الآية فإن قال قائل ليس في اللفظ احتمال كونه غير مذكى بذكاة الأم لأنه لا يسمى جنينا إلا في حال كونه في بطن أمه ومتى باينها لا يسمى جنينا والنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما أثبت له الذكاة في حال اتصاله بالأم وذلك يوجب أن يكون مذكى

١٣٨

بتلك الحال في ذكاتها قيل له الجواب عن هذا من وجهين أحدهما أنه جائز أن يسمى بعد الانفصال جنينا لقرب عهده من الاجتنان في بطن أمه ولا يمتنع أحد من إطلاق القول بأن الجنين لو خرج حيا ذكى كما تذكى الأم فيطلق عليه اسم الجنين بعد الذكاة والانفصال وقال حمل بن مالك كنت بين جاريتين لي فضربت إحداهما الأخرى بعمود فسطاط فألقت جنينا ميتا فقضى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بغرة عبد أو أمة فسماه جنينا بعد الإلقاء وإذا كان ذلك كذلك جاز أن يكون مراد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكاة الجنين ذكاة أمه أنه يذكى كما تذكى أمه إذا ألقته حيا والوجه الآخر أنه لو كان مراده كونه مذكى وهو جنين لوجب أن يكون مذكى بذكاة الأم وإن خرج حيا وإن موته بعد خروجه لا يكسبه حكم الميتات كموته في بطن أمه فلما اتفق الجميع على أن خروجه حيا يمنع أن يكون ذكاة الأم ذكاته ثبت أنه لم يرد إثبات ذكاة الأم له في حال اتصاله بالأم فإن قال قائل إنما أراد إثبات الحكم بحال خروجه ميتا قيل له هذه دعواك لم يذكرها النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن جاز أن تشترط فيه موته في حال كونه جنينا وإن لم يذكره النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم جاز لنا أن نشترط إيجاب ذكاته خرج حيا أو ميتا فمتى لم يوجد له ذكاة في نفسه لم يجز أكله وعلى أنا متى شرطنا إيجاب ذكاته في نفسه غير معتبر بأمه استعملنا الخبر على عمومه فجعلنا إباحة الأكل معلقة بوجود الذكاة فيه في حال كونه جنينا وبعد خروجه وحمل الخبر على ذلك أولى من الاقتصار به على ما ذكرت وإثبات ضمير فيه لا ذكر له في الخبر ولا دلالة عليه فإن قال قائل حمل الخبر على ما ذكرت في إيجاب ذكاته إذا خرج يسقط فائدته لأن ذلك معلوم قبل وروده قيل له ليس كذلك من قبل أنه أفاد أنه إن خرج حيا فقد وجبت ذكاته سواء مات في حال لم يقدر على ذكاته أو بقي وبطل بذلك قول من يقول أنه إن مات في وقت لا يقدر على ذكاته كان مذكى بذكاة الأم ومن جهة أخرى أنه حكم بإيجاب ذكاته وأنه إن خرج ميتا لم يؤكل إذ هو غير مذكى فإن خرج حيا ذكى فأفاد أنه ميتة لا تؤكل وبطل به قول من يقول أنه لا يحتاج إلى ذكاة إذا خرج ميتا فإن احتج محتج بما ذكره ذكريا بن يحيى الساحى عن بندار وإبراهيم بن محمد التيمي قالا حدثنا يحيى بن سعيد قالا حدثنا مجالد عن أبى الوداك عن أبى سعيد أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن الجنين يخرج ميتا فقال إن شئتم فكلوه فإن ذكاته ذكاة أمه * قيل له قد روى هذا الحديث جماعة من الثقات عن يحيى بن سعيد ولم يذكروا فيه أنه خرج ميتا ورواه جماعة عن مجالد منهم هشيم وأبو

١٣٩

أسامة وعيسى بن يونس ولم يذكروا فيه أنه خرج ميتا وإنما قالوا سئل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الجنين يكون في بطن الجزور أو البقرة أو الشاة فقال كلوه فإن ذكاته ذكاة أمه ورواه أيضا ابن أبى ليلى عن عطية عن أبى سعيد عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذلك قال كل من يروى ذلك عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ممن قدمنا ذكره لم يذكر واحد منهم أنه خرج ميتا ولم تجيء هذه اللفظة إلا في رواية الساجي ويشبه أن تكون هذه الزيادة من عنده فإنه غير مأمون* فإن احتج* بما روى عن ابن عباس في قوله تعالى( أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ ) أنها الأجنة* قيل له أنه قد روى عن ابن عباس أنها جميع الأنعام وأن قوله تعالى( إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ) الخنزير وروى عن الحسن أن بهيمة الأنعام الشاة والبعير والبقر والأولى أن تكون على جميع الأنعام ولا تكون مقصورة على الجنين دون غيره لأنه تخصيص بلا دلالة وأيضا فإن كان المراد الأجنة فهي على إباحتها بالذكاة كسائر الأنعام هي مباحة بشرط ذكاتها وكالجنين إذا خرج حيا هو مباح بشرط الذكاة وأيضا فإن قوله تعالى( أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ) إذا كان المراد ما سيتلى عليكم في المستقبل مما هو محرم في الحال فهو مجمل لا يصح الاحتجاج به لأنه يكون بمنزلة ما لو قال بعض الأنعام مباح وبعضه محظور ولم يبينه فلا يصح اعتبار عموم شيء منه* فإن قال قائل لما كان حكم الجنين حكم أمه فيمن ضرب بطن امرأة فماتت وألقت جنينا ميتا ولم ينفرد بحكم نفسه كان كذلك حكمه في الذكاة إذا مات في بطن أمه بموتها ولو خرج الولد حيا ثم مات انفرد بحكم نفسه دون أمه في إيجاب الغرة فيه فكذلك جنين الحيوان إذا مات بموت أمه وخرج ميتا أكل وإذا خرج حيا لم يؤكل حتى يذكى* قيل له هذا قياس فاسد لأنه قياس حكم على حكم غيره وإنما القياس الصحيح الجمع بين المسألتين في حكم واحد بعلة توجب رد إحداهما إلى الأخرى فأما في قياس مسألة على مسألة في حكمين مختلفين فإن ذلك ليس بقياس وقد علمنا أن المسألة التي استشهدت بها إنما حكمها ضمان الجنين في حال انفصاله منها حيا بعد موتها ومسألتنا إنما هي في إثبات ذكاة الأم له في حال ومنعه في حال أخرى فكيف يصح رد هذه إلى تلك ومع ذلك فلو ضرب بطن شاة أو غيرها فألقت جنينا ميتا لم يجب للجنين أرش ولا قيمة على الضارب وإنما يجب فيه نقصان الأم إن حدث بها نقصان وإذا لم يكن لجنين البهائم بعد الانفصال حكم في حياة الأم وثبت ذلك لجنين

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411