أحكام القرآن الجزء ١

أحكام القرآن9%

أحكام القرآن مؤلف:
المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 411

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥
  • البداية
  • السابق
  • 411 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 91561 / تحميل: 6020
الحجم الحجم الحجم
أحكام القرآن

أحكام القرآن الجزء ١

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

منسوخة بل هي ثابتة الحكم إذا كان المراد بها الشيخ المأيوس منه القضاء العاجز عن الصوم والله الموفق بمنه وكرمه.

ذكر اختلاف الفقهاء في الشيخ الفاني

قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصيام يفطر ويطعم عنه كل يوم نصف صاع من حنطة ولا شيء عليه غير ذلك وقال الثوري يطعم ولم يذكر مقداره وقال المزني عن الشافعى يطعم مدا من حنطة كل يوم وقال ربيعة ومالك لا أرى عليه الإطعام وإن فعل فحسن* قال أبو بكر قد ذكرنا في تأويل الآية ما روى عن ابن عباس في قراءته [وعلى الذين يطوقونه] وإنه الشيخ الكبير فلو لا أن الآية محتملة لذلك لما تأولها ابن عباس ومن ذكر ذلك عنه عليه فوجب استعمال حكمها من إيجاب الفدية في الشيخ الكبير وقد روى عن على أيضا أنه تأول قوله( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ ) على الشيخ الكبير وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم (من مات وعليه صوم فليطعم عنه وليه مكان كل يوم مسكينا) وإذا ثبت ذلك في الميت الذي عليه الصيام فالشيخ أولى بذلك من الميت لعجز الجميع عن الصوم فإن قيل هلا كان الشيخ كالمريض الذي يفطر في رمضان ثم لا يبرأ حتى يموت ولا يلزمه القضاء* قيل له لأن المريض مخاطب بقضائه في أيام أخر فإنما تعلق الفرض عليه في أيام القضاء لقوله( فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) فمتى لم يلحق العدة لم يلزمه شيء كمن لم يلحق رمضان وأما الشيخ فلا يرجى له القضاء في أيام أخر فإنما تعلق عليه حكم الفرض في إيجاب الفدية في الحال فاختلفا من أجل ذلك وقد ذكرنا قول السلف في الشيخ الكبير وإيجاب الفدية عليه في الحال من غير خلاف أحد من نظرائهم فصار ذلك إجماعا لا يسمع خلافه وأما الوجه في إيجاب الفدية نصف صاع من بر فهو ما حدثنا عبد الباقي ابن قانع قال حدثنا أخو خطاف قال حدثنا محمد بن عبد الله بن سعيد المستملي قال حدثنا إسحاق الأزرق عن شريك عن أبى ليلى عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (من مات وعليه رمضان فلم يقضه فليطعم عنه مكان كل يوم نصف صاع لمسكين) وإذا ثبت ذلك في المفطر في رمضان إذا مات ثبت في الشيخ الكبير من وجوه أحدها إنه عموم في الشيخ الكبير وغيره لأن الشيخ الكبير قد تعلق عليه حكم التكليف على ما وصفنا فجائز بعد موته أن يقال أنه قد مات وعليه صيام رمضان فقد تناوله عموم اللفظ ومن جهة

٢٢١

أخرى أنه قد ثبت أن المراد بالفدية المذكورة في الآية هذا المقدار وقد أريد بها الشيخ الكبير فوجب أن يكون ذلك هو المقدار الواجب عليه ومن جهة أخرى أنه إذا ثبت ذلك فيمن مات وعليه قضاء رمضان وجب أن يكون ذلك مقدار فدية الشيخ الكبير لأن أحدا من موجبى الفدية على الشيخ الكبير لم يفرق بينهما وقد روى عن ابن عباس وقيس ابن السائب الذي كان شريك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في الجاهلية وعائشة وأبى هريرة وسعيد ابن المسيب في الشيخ الكبير أنه يطعم عن كل يوم نصف صاع بر وأوجب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم على كعب بن عجرة إطعام ستة مساكين كل مسكين نصف صاع بر وهذا يدل على أن تقدير فدية الصوم بنصف صاع أولى منه بالمد لأن التخيير في الأصل قد تعلق بين الصوم والفدية في كل واحد منهما وقد روى عن ابن عمر وجماعة من التابعين عن كل يوم مد والأول أولى لما رويناه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ولما عضده قول الأكثرين عدادا من الصحابة والتابعين وما دل عليه من النظر وقوله تعالى( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ ) قد اختلف في ضمير كنايته فقال قائلون هو عائد على الصوم وقال آخرون إلى الفدية والأول أصح لأن مظهره قد تقدم والفدية لم يجز لها ذكر والضمير إنما يكون لمظهر متقدم ومن جهة أخرى أن الفدية مؤنثة والضمير في الآية للمذكر في قوله( يُطِيقُونَهُ ) وقد دل ذلك على بطلان قول المجبرة القائلين بأن الله يكلف عباده ما لا يطيقون وأنهم غير قادرين على الفعل قبل وقوعه ولا مطيقين له لأن الله قد نص على أنه مطيق له قبل أن يفعله بقوله( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ ) فوصفه بالإطاقة مع تركه للصوم والعدول عنه إلى الفدية ودلالة اللفظ قائمة على ذلك أيضا إذا كان الضمير هو الفدية لأنه جعله مطيقا لها وإن لم يفعلها وعدل إلى الصوم وقوله عز وجل( شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ ) يدل على بطلان مذهب المجبرة في قولهم إن الله لم يهد الكفار لأنه قد أخبر في هذه الآية إن القرآن هدى لجميع المكلفين كما قال في آية أخرى( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى ـ وقوله تعالى ـفَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ) يجوز أن يكون ابتداء كلام غير متعلق بما قبله لأنه قائم بنفسه في إيجاب الفائدة يصح ابتداء الخطاب به فيكون حثا على التطوع بالطاعات وجائز أن يريد به التطوع بزيادة طعام الفدية لأن المقدار المفروض منه نصف صاع فإن تطوع بصاع أو صاعين فهو خير له

٢٢٢

وقد روى هذا المعنى عن قيس بن السائب أنه كبر فلم يقدر على الصوم فقال يطعم عن كل إنسان لكل يوم مدين فأطعموا عنى ثلاثا وغير جائز أن يكون المراد أحد ما وقع عليه التخيير فيه من الصيام أو الإطعام لأن كل واحد منهما إذا فعله منفردا فهو فرض لا تطوع فيه فلم يجز أن يكون واحد منهما مراد الآية وجائز أن يكون المراد الجمع بين الصيام والطعام فيكون الفرد أحدهما والآخر التطوع وأما قوله تعالى( وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) فإنه يدل على أن أول الآية فيمن يطيق الصوم من الأصحاء المقيمين غير المرضى ولا المسافرين ولا الحامل والمرضع وذلك لأن المريض الذي يباح له الإفطار هو الذي يخاف ضرر الصوم وليس الصوم بخير لمن كان هذا حاله لأنه منهى عن تعريض نفسه للتلف بالصوم والحامل والمرضع لا تخلو ان من أن يضربهما الصوم أو بولديهما وأيهما كان فالإفطار خير لهما والصوم محظور عليهما وإن كان لا يضربهما ولا بولديهما فعليهما الصوم وغير جائز لهما الفطر فعلمنا أنهما غير داخلتين في قوله تعالى( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ ) وقوله( وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) عائد إلى من تقدم ذكره في أول الخطاب وجائز أن يكون قوله( وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) عائدا إلى المسافرين أيضا مع عوده على المقيمين المخيرين بين الصوم والإطعام فيكون الصوم خيرا للجميع إذ كان أكثر المسافرين يمكنهم الصوم في العادة من غير ضرر وإن كان الأغلب فيه المشقة ودلالته واضحة على أن الصوم في السفر أفضل من الإفطار وفيه الدلالة على أن صوم يوم تطوعا أفضل من صدقة نصف صاع لأنه في الفرض كذلك ألا ترى أنه لما خيره في الفرض بين صوم يوم وصدقة نصف صاع جعل الصوم أفضل منها فكذلك يجب أن يكون حكمهما في التطوع والله الموفق.

باب الحامل والمرضع

قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والثوري والحسن بن حي وإذا خافتا على ولديهما أو على أنفسهما فإنهما تفطران وتقضيان ولا كفارة عليهما وقال مالك في المرضع إذا خافت على ولدها ولا يقبل الصبى من غيرها فإنها تفطر وتقضى وتطعم عن كل يوم مدا مسكينا والحامل إذا أفطرت لا إطعام عليها وهو قول الليث بن سعد وقال مالك وإن خافتا على أنفسهما فهما مثل المريض وقال الشافعى إذا خافتا على ولديهما أفطرتا وعليهما

٢٢٣

القضاء والكفارة وإن لم تقدرا على الصوم فهما مثل المريض عليهما القضاء بلا كفارة وروى عنه في البويطى أن الحامل لا إطعام عليها واختلف السلف في ذلك على ثلاثة أوجه فقال على كرم الله وجهه عليهما القضاء إذا أفطرتا ولا فدية عليهما وهو قول إبراهيم والحسن وعطاء وقال ابن عباس عليهما الفدية بلا قضاء وقال ابن عمر ومجاهد عليهما الفدية والقضاء والحجة لأصحابنا ما حدثنا جعفر بن محمد بن أحمد الواسطي قال حدثنا أبو الفضل جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام قال حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب قال حدثني أبو قلابة هذا الحديث ثم قال هل لك في صاحب الحديث الذي حدثني قال فدلني عليه فلقيته فقال حدثني قريب لي يقال له أنس بن مالك قال أتيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في إبل لجار لي أخذت فوافقته وهو يأكل فدعاني إلى طعامه فقلت إنى صائم فقال إذا أخبرك عن ذلك إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة والصوم وعن الحامل والمرضع قال فكان يتلهف بعد ذلك يقول ألا أكون أكلت من طعام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم حين دعاني * قال أبو بكر شطر الصلاة مخصوص به المسافر إذ لا خلاف أن الحمل والرضاع لا يبيحان قصر الصلاة ووجه دلالته على ما ذكرنا أخباره عليه السلام بأن وضع الصوم عن الحامل والمرضع هو كوضعه عن المسافر ألا ترى أن وضع الصوم الذي جعله من حكم المسافر هو بعينه جعله من حكم المرضع والحامل لأنه عطفهما عليه من غير استئناف ذكر شيء غيره فثبت بذلك أن حكم وضع الصوم عن الحامل والمرضع هو في حكم وضعه عن المسافر لا فرق بينهما ومعلوم أن وضع الصوم عن المسافر إنما هو على جهة إيجاب قضائه بالإفطار من غير فدية فوجب أن يكون ذلك حكم الحامل والمرضع وفيه دلالة على أنه لا فرق بين الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أو ولديهما إذ لم يفصل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهما وأيضا لما كانت الحامل والمرضع يرجى لهما القضاء وإنما أبيح لهما الإفطار للخوف على النفس أو الولد مع إمكان القضاء وجب أن تكونا كالمريض والمسافر فإن احتج القائلون بإيجاب القضاء والفدية بظاهر قوله( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ ) لم يصح لهم وجه الدلالة منه على ما ادعوه وذلك لما روينا عن جماعة من الصحابة الذين قدمنا ذكرهم إن ذلك كان فرض المقيم الصحيح وأنه كان مخيرا بين الصيام والفدية وبينا أن ما جرى مجرى ذلك فليس القول فيه من طريق الرأى وإنما يكون

٢٢٤

توقيفا فالحامل والمرضع لم يجر لهما ذكر فيما حكوا فوجب أن يكون تأويلهما محمولا على ما ذكرنا وقد ثبت نسخ ذلك بقوله تعالى( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) ومن جهة أخرى لا يصح الاحتجاج لهم به وهو قوله تعالى في سياق الخطاب( وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) ومعلوم أن ذلك خطاب لمن تضمنه أول الآية وليس ذلك حكم الحامل والمرضع لأنهما إذا خافتا الضرر لم يكن الصوم خيرا لهما بل محظور عليهما فعله وإن لم تخشيا ضررا على أنفسهما أو ولديهما فغير جائز لهما الإفطار وفي ذلك دليل واضح على أنهما لم ترادا بالآية ويدل على بطلان قول من تأول الآية على الحامل والمرضع من القائلين بإيجاب الفدية والقضاء أن الله تعالى سمى هذا الطعام فدية والفدية ما قام مقام الشيء وأجزأ عنه فغير جائز على هذا الوضع اجتماع القضاء والفدية لأن القضاء إذا وجب فقد قام مقام المتروك فلا يكون الإطعام فدية وإن كان فدية صحيحة فلا قضاء لأن الفدية قد أجزأت عنه وقامت مقامه* فإن قيل ما الذي يمنع أن يكون القضاء والإطعام قائمين مقام المتروك قيل له لو كان مجموعهما قائمين مقام المتروك من الصوم لكان الإطعام بعض الفدية ولم يكن جميعها والله تعالى قد سمى ذلك فدية وتأويلك يؤدى إلى خلاف مقتضى الآية وأيضا إذا كان الأصل المبيح للحامل والمرضع الإفطار والموجب عليهما الفدية هو قوله تعالى( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ ) وقد ذكر السلف الذين قدمنا قولهم أن الواجب كان أحد شيئين من فدية أو صيام لا على وجه الجمع فكيف يجوز الاستدلال به على إيجاب الجمع بينهما على الحامل والمرضع ومن جهة أخرى أنه معلوم أن في قوله تعالى( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ ) حذف الإفطار كأنه قال وعلى الذين يطيقونه إذا أفطروا فدية طعام مسكين فإذا كان الله تعالى إنما اقتصر بالإيجاب على ذكر الفدية فغير جائز إيجاب غيرها معها لما فيه من الزيادة في النص وغير جائز الزيادة في المنصوص إلا بنص مثله وليستا كالشيخ الكبير الذي لا يرجى له الصوم لأنه مأيوس من صومه فلا قضاء عليه والإطعام الذي يلزمه فدية له إذ هو بنفسه قائم مقام المتروك من صومه والحامل والمرضع يرجى لهما القضاء فهما كالمريض والمسافر وإنما يسوغ الاحتجاج بظاهر الآية لابن عباس لاقتصاره على إيجاب الفدية دون القضاء ومع ذلك فإن الحامل والمرضع إذا كانتا إنما تخافان على ولديهما دون أنفسهما فهما تطيقان الصوم فيتناولهما ظاهر قوله( وَعَلَى

٢٢٥

الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ ) وكذلك قال ابن عباس حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا إبان قال حدثنا قتادة أن عكرمة حدثه أن ابن عباس حدثه في قوله( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ ) قال أثبتت للحامل والمرضع وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا ابن المثنى قال حدثنا ابن أبى عدى عن سعيد عن قتادة عن عزرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ ) قال كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة وهما يطيقان الصيام أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكينا والحبلى والمرضع إذا خافتا على أولادهما أفطرتا وأطعمتا فاحتج ابن عباس بظاهر الآية وأوجب الفدية دون القضاء عند خوفهما على ولديهما إذ هما تطيقان الصوم فشملهما حكم الآية* قال أبو بكر ومن أبى ذلك من الفقهاء ذهب إلى أن ابن عباس وغيره ذكروا أن ذلك كان حكم سائر المطيقين للصوم في إيجاب التخيير بين الصوم والفدية وهو لا محالة قد يتناول الرجل الصحيح المطيق للصوم فغير جائز أن يتناول الحامل والمرضع لأنهما غير مخيرتين لأنهما إما أن تخافا فعليهما الإفطار بلا تخيير ولا تخافا فعليهما الصيام بلا تخيير وغير جائز أن تتناول الآية فريقين بحكم يقتضى ظاهرها إيجاب الفدية ويكون المراد في أحد الفريقين التخيير بين الإطعام والصيام وفي الفريق الآخر إما الصيام على وجه الإيجاب بلا تخيير أو الفدية بلا تخيير وقد تناولهما لفظ الآية على وجه واحد فثبت بذلك أن الآية لم تتناول الحامل والمرضع ويدل عليه أيضا في نسق التلاوة( وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) وليس ذلك بحكم الحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما لأن الصيام لا يكون خيرا لهما ويدل عليه أيضا ما قدمنا من حديث أنس بن مالك القشيري في تسوية النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بين المريض والمسافر وبين الحامل والمرضع في حكم الصوم وقوله تعالى( شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) الآية* قال أبو بكر قد بينا فيما سلف قول من قال إن الفرض الأول كان صوم ثلاثة أيام من كل شهر بقوله( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ ) وقوله تعالى( أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ ) وأنه نسخ بقوله( شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) وقوله من قال إن شهر رمضان بيان للموجب بقوله( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) وقوله( أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ ) فيصير تقديره أياما معدودات هي شهر رمضان فإن كان صوم الأيام المعدودات منسوخا بقوله( شَهْرُ رَمَضانَ ) إلى قوله

٢٢٦

( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) فقد انتظم قوله( شَهْرُ رَمَضانَ ) نسخ حكمين من الآية الأولى أحدهما الأيام المعدودات التي هي غير شهر رمضان والآخر التخيير بين الصيام والإطعام في قوله( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ ) على نحو ما قدمنا ذكره عن السلف وإن كان قوله( شَهْرُ رَمَضانَ ) بيانا لقوله( أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ ) فقد كان لا محالة بعد نزول فرض رمضان التخيير ثابتا بين الصوم والفدية في أول أحوال إيجابه فكان هذا الحكم مستقرا ثابتا ثم ورد عليه النسخ بقوله( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) إذ غير جائز ورود النسخ قبل وقت الفعل والتمكن منه والصحيح هو القول الثاني لاستفاضة الرواية عن السلف بأن التخيير بين الصوم والفدية كان في شهر رمضان وأنه نسخ بقوله( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) فإن قيل في فحوى الآية دلالة على أن المراد بقوله( أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ ) غير شهر رمضان لأنه لم يرد إلا مقرونا بذكر التخيير بينه وبين الفدية ولو كان قوله( أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ ) فرضا مجملا موقوف الحكم على البيان لما كان لذكر التخيير قبل ثبوت الفرض معنى قيل له لا يمتنع ورود فرض مجملا مضمنا بحكم مفهوم المعنى موقوف على البيان فمتى ورد البيان بما أريد منه كان الحكم المضمن به ثابتا معه فيكون تقديره أياما معدودات حكمها إذا بين وقتها ومقدارها أن يكون المخاطبون به مخيرين بين الصوم والفدية كما قال تعالى( خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ ) فاسم الأموال عموم يصح اعتباره فيما علق به من الحكم والصدقة مجملة مفتقرة إلى البيان فإذا ورد بيان الصدقة كان اعتبار عموم اسم الأموال سائغا فيها ولذلك نظائر كثيرة ويحتمل أن يكون قوله( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ ) متأخرا في التنزيل وإن كان مقدما في التلاوة فيكون تقدير الآيات وترتيب معانيها أياما معدودات هي شهر رمضان( فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ ) فيكون هذا حكما ثابتا مستقرا مدة من الزمان ثم نزل قوله( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) فنسخ به التخيير بين الفدية والصوم على نحو ما ذكرنا في قوله عز وجل( وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ) مؤخرا في اللفظ وكان ذلك يعتوره معنيان أحدهما أنه وإن كان مؤخرا في التلاوة فهو مقدم في التنزيل والثاني أنه معطوف عليه بالواو وهي لا توجب الترتيب فكأن الكل مذكور معا فكذلك قوله( أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ ـ إلى قوله ـشَهْرُ رَمَضانَ )

٢٢٧

يحتمل ما احتملته قصة البقرة وأما قوله( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) ففيه عدة أحكام منها إيجاب الصيام على من شهد الشهر دون من لم يشهد فلو كان اقتصر قوله( كُتِبَ عَلَيْكُمُ ـ إلى قوله ـشَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) لاقتضى ذلك لزوم الصوم سائر الناس المكلفين فلما عقب ذلك بقوله( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) بين أن لزوم صوم الشهر مقصور على بعضهم دون بعض وهو من شهد الشهر دون من لم يشهده وقوله تعالى( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ ) يعتوره معان منها من كان شاهدا يعنى مقيما غير مسافر كما يقال للشاهد والغائب المقيم والمسافر فكان لزوم الصوم مخصوصا به المقيمون دون المسافرين ثم لو اقتصر على هذا لكان المفهوم منه الاقتصار بوجوب الصوم عليهم دون المسافرين ثم لو اقتصر على هذا لكان المفهوم منه الاقتصار بوجوب الصوم عليهم دون المسافرين إذ لم يذكروا فلا شيء عليهم من صوم ولا قضاء فلما قال تعالى( وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) بين حكم المريض والمسافر في إيجاب القضاء عليهم إذا أفطروا هذا إذا كان التأويل في قوله( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ ) الإقامة في الحضر ويحتمل قوله( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) أن يكون بمعنى شاهد الشهر أى علمه ويحتمل قوله( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ ) فمن شهده بالتكليف لأن المجنون ومن ليس بأهل التكليف في حكم من ليس بموجود في انتفاء لزوم الفرض عنه فأطلق اسم شهود الشهر عليهم وأراد به التكليف كما قال تعالى( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ) لما كانوا في عدم الانتفاع بما سمعوا بمنزلة الأصم الذي لا يسمع سماهم بكما عميا وكذلك قوله( إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ ) يعنى عقلا لأن من لم ينتفع بعقله فكأنه لا قلب له إذ كان العقل بالقلب فكذلك جائز أن يكون جعل شهود الشهر عبارة عن كونه من أهل التكليف إذ كان من ليس من أهل التكليف بمنزلة من ليس بموجود في باب سقوط حكمه عنه ومن الأحكام المستفادة بقوله( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) غير ما قدمنا ذكره تعيين فرض رمضان فإن المراد بشهود الشهر كونه فيه من أهل التكليف وأن المجنون ومن ليس من أهل التكليف غير لازم له صوم الشهر والله أعلم بالصواب.

باب ذكر اختلاف الفقهاء فيمن جن رمضان كله أو بعضه

قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والثوري إذا كان مجنونا في رمضان كله فلا قضاء عليه وإن أفاق في شيء منه قضاه كله وقال مالك ابن أنس فيمن بلغ وهو مجنون مطيق

٢٢٨

فمكث سنين ثم أفاق فإنه يقضى صيام تلك السنين ولا يقضى الصلاة وقال عبيد الله بن الحسن في المعتوه يفيق وقد ترك الصلاة والصوم فليس عليه قضاء ذلك وقال في المجنون الذي يجن ثم يفيق أو الذي يصيبه المرة ثم يفيق أرى على هذا أن يقضى وقال الشافعى في البويطى ومن جن في رمضان فلا قضاء عليه وإن صح في يوم من رمضان قبل أن تغيب الشمس كذلك لا قضاء عليه* قال أبو بكر قوله تعالى( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) يمنع وجوب القضاء على المجنون الذي لم يفق في شيء من الشهر إذ لم يكن شاهد الشهر وشهوده الشهر كونه مكلفا فيه وليس المجنون من أهل التكليف لقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (رفع القلم عن ثلاث عن النائم حتى يستيقظ وعن الصغير حتى يحتلم وعن المجنون حتى يفيق) فإن قيل إذا أحتمل قوله( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) شهوده بالإقامة وترك السفر دون ما ذكرته من شهوده بالتكليف فما الذي أوجب حمله على ما ادعيت دون ما ذكرنا من حال الإقامة قيل له لما كان اللفظ محتملا للمعنيين وهما غير متنافيين بل جائز إرادتهما معا وكونهما شرطا في لزوم الصوم وجب حمله عليهما وهو كذلك عندنا لأنه لا يكون مكلفا للصوم غير مرخص له في تركه إلا أن يكون مقيما من أهل التكليف ولا خلاف أن كونه من أهل التكليف شرط في صحة الخطاب به وإذا ثبت ذلك ولم يكن المجنون من أهل التكليف في الشهر لم يتوجه إليه الخطاب بالصوم ولم يلزمه القضاء ويدل عليه ظاهر قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم (رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق وعن الصبى حتى يحتلم) ورفع القلم هو إسقاط التكليف عنه ويدل عليه أيضا أن الجنون معنى يستحق به الولاية عليه إذا دام به فكان بمنزلة الصغير إذا دام به الشهر كله في سقوط فرض الصوم ويفارق الإغماء هذا المعنى بعينه لأنه لا يستحق عليه الولاية بالإغماء وإن طال وفارق المغمى عليه المجنون والصغير وأشبه الإغماء النوم في باب نفى ولاية غيره عليه من أجله* فإن قيل لا يصح خطاب المغمى عليه كما لا يصح خطاب المجنون والتكليف زائل عنهما جميعا* فوجب أن لا يلزمه القضاء بالإغماء* قيل له الإغماء وإن منع الخطاب بالصوم في حال وجوده فإن له أصلا آخر في إيجاب القضاء وهو قوله( وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) وإطلاق اسم المريض على المغمى عليه جائز سائغ فوجب اعتبار عمومه في إيجاب القضاء عليه وإن لم يكن مخاطبا به حال الإغماء وأما المجنون فلا يتناوله اسم المريض

٢٢٩

على الإطلاق فلم يدخل فيمن أوجب الله عليه القضاء وأما من أفاق من جنونه في شيء من الشهر فإنما ألزموه القضاء بقوله( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) وهذا قد شهد الشهر إذ كان من أهل التكليف في جزء منه إذ لا يخلو قوله( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ ) أن يكون المراد به شهود جميع الشهر أو شهود جزء منه وغير جائز أن يكون شرط لزوم الصوم شهود الشهر جميعه من وجهين (أحدهما) تناقض اللفظ به وذلك لأنه لا يكون شاهدا لجميع الشهر إلا بعد مضيه كله ويستحيل أن يكون مضيه شرطا للزوم صومه كله لأن الماضي من الوقت يستحيل فعل الصوم فيه فعلمنا أنه لم يرد شهود الشهر جميعه والوجه الآخر أنه لا خلاف أن من طرئ عليه شهر رمضان وهو من أهل التكليف أن عليه الصوم في أول يوم منه لشهوده جزأ من الشهر فثبت بذلك أن شرط تكليف صوم الشهر كونه من أهل التكليف في شيء منه* فإن قيل فواجب إذا كان ذلك على ما وصفت من أن المراد إدراك جزء من الشهر أن لا يلزمه إلا صوم الجزء الذي أدركه دون غيره إذ قد ثبت أن المراد شهود بعض الشهر شرطا للزوم الصوم فيكون تقديره فمن شهد بعض الشهر فليصم ذلك البعض* قيل له ليس ذلك على ما ظننت من قبل أنه لو لا قيام الدلالة على أن شرط لزوم الصوم شهود بعض الشهر لكان الذي يقتضيه ظاهر اللفظ استغراق الشهر كله في شرط اللزوم فلما قامت الدلالة على أن المراد البعض دون الجميع في شرط اللزوم حملناه عليه وبقي حكم اللفظ في إيجاب الجميع إذ كان الشهر اسما لجميعه فكان تقديره فمن شهد منكم شيئا من الشهر فليصم جميعه* فإن قيل فإذا أفاق وقد بقيت أيام من الشهر يلزمك أن لا توجب عليه قضاء ما مضى لاستحالة تكليفه صوم الماضي من الأيام وينبغي أن يكون الوجوب منصرفا إلى ما بقي من الشهر* قيل له إنما يلزمه قضاء الأيام الماضية لا صومها بعينها وجائز لزوم القضاء مع امتناع خطابه بالصوم فيما أمر به من القضاء ألا ترى أن الناسي والمغمى عليه والنائم كل واحد من هؤلاء يستحيل خطابه بفعل الصوم في هذه الأحوال ولم تكن استحالة تكليفهم فيها مانعة من لزوم القضاء وكذلك ناسى الصلاة والنائم عنها فإن الخطاب بفعل الصوم يتوجه إليه على معنيين أحدهما فعله في وقت التكليف والآخر قضاؤه في وقت غيره وإن لم يتوجه إليه الخطاب بفعله في حال الإغماء والنسيان والله أعلم.

٢٣٠

باب الغلام يبلغ والكافر يسلم ببعض رمضان

قال الله تعالى( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) وقد بينا أن المراد شهود بعضه واختلف الفقهاء في الصبى يبلغ في بعض رمضان أو الكافر يسلم فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك بن أنس في الموطأ وعبيد الله بن الحسن والليث والشافعى يصومان ما بقي وليس عليهما قضاء ما مضى ولا قضاء اليوم الذي كان فيه البلوغ أو الإسلام وقال ابن وهب عن مالك أحب إلى أن يقضيه وقال الأوزاعى في الغلام إذا احتلم في النصف من رمضان أنه يقضى منه فإنه كان يطيق الصوم وقال في الكافر إذا أسلم لا قضاء عليه فيما مضى وقال أصحابنا يستحب لهما الإمساك عما يمسك عنه الصائم في اليوم الذي كان فيه الاحتلام أو الإسلام* قال أبو بكر رحمه الله قال الله تعالى( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) وقد بينا معناه وأن كونه من أهل التكليف شرط في لزومه والصبى لم يكن من أهل التكليف قبل البلوغ فغير جائز إلزامه حكمه وأيضا الصغر ينافي صحة الصوم لأن الصغير لا يصح صومه وإنما يؤمر به على وجه التعليم وليعتاده ويمرن عليه ألا ترى أنه متى بلغ لم يلزمه قضاء الصلاة المتروكة ولا قضاء الصيام المتروك في حال الصغر فدل ذلك على أنه غير جائز إلزامه القضاء فيما تركه في حال الصغر ولو جاز إلزامه قضاء ما مضى من الشهر لجاز إلزامه قضاء الصوم للعام الماضي إذا كان يطيقه فلما اتفق المسلمون على سقوط القضاء للسنة الماضية مع إطاقته للصوم وجب أن يكون ذلك حكمه في الشهر الذي أدرك في بعضه وأما الكافر فهو في حكم الصبى من هذا الوجه لاستحالة تكليفه للصوم إلا على شرط تقديم الإيمان ومنافاة الكفر لصحة الصوم فأشبه الصبى وليسا كالمجنون الذي يفيق في بعض الشهر في إلزامه القضاء لما مضى من الشهر لأن الجنون لا ينافي صحة الصوم بدلالة أن من جن في صيامه لم يبطل صومه وفي هذا دليل على أن الجنون لا ينافي صحة صومه وإن الكفر ينافيها فأشبه الصغير من هذا الوجه وإن اختلفا في باب استحقاق الكافر العقاب على تركه والصغير لا يستحقه ويدل على سقوط القضاء لما مضى عمن أسلم في بعض رمضان قوله تعالى( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ ) وقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (الإسلام يجب ما قبله والإسلام يهدم ما قبله) وإنما قال أصحابنا يمسك المسلم في بعض رمضان والصبى بقية يومهما عن الأكل والشرب من قبل أنه قد طرئ عليهما وهما مفطران

٢٣١

حال لو كانت موجودة في أول النهار كانا مأمورين بالصيام فواجب أن يكونا مأمورين بالإمساك في مثله إذا كانا مفطرين والأصل فيه ما روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه بعث إلى أهل العوالي يوم عاشوراء فقال من أهل فليمسك بقية يومه ومن لم يأكل فليصم وروى أنه أمر الآكلين بالقضاء وأمرهم بالإمساك مع كونهم مفطرين لأنهم لو لم يكونوا قد أكلوا لأمروا بالصيام فاعتبرنا بذلك كل حال تطرأ عليه في بعض النهار وهو مفطر بما لو كانت موجودة في أوله كيف كان يكون حكمه فإن كان مما يلزمه بها الصوم أمر بالإمساك وإن كان مما لا يلزمه لم يؤمر به ومن أجل ذلك قالوا في الحائض إذا طهرت في بعض النهار والمسافر إذا قدم وقد أفطر في سفره أنهما مأموران بالإمساك إذ لو كانت حال الطهر والإقامة موجودة في أول النهار كانا مأمورين بالصيام وقالوا لو حاضت في بعض النهار لم تؤمر بالإمساك إذ الحيض لو كان موجودا في أول النهار لم تؤمر بالصيام فإن قيل فهلا أبحت لمن كان مقيما في أول النهار ثم سافر أن يفطر لأن حال السفر لو كانت موجودة في أول النهار ثم سافر كان مبيحا للإفطار قيل له لم نجعل ما قدمنا علة للإفطار ولا للصوم وإنما جعلناه علة لإمساك المفطر فأما إباحة الإفطار وحظره فله شرط آخر غير ما ذكرنا وقد حوى قوله تعالى( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) أحكاما أخر غير ما ذكرنا* منها دلالته على أن من استبان له بعد ما أصبح أنه من رمضان فعليه أن يبتدئ صومه لأن الآية لم تفرق بين من علمه من الليل أو في بعض النهار وهي عامة في الحالين جميعا فاقتضى ذلك جواز ترك نية صوم رمضان من الليل وكذلك المغمى عليه والمجنون إذا أفاقا في بعض النهار ولم يتقدم لهما نية الصوم من الليل فواجب عليهما أن يبتدئا الصيام في ذلك الوقت لأنهما قد شهدا الشهر وقد جعل الله شهود الشهر شرطا للزوم الصوم وفي الآية حكم آخر تدل أيضا على أن من نوى بصيامه في شهر رمضان تطوعا أو عن فرض آخر أنه مجزئ عن رمضان لأن الأمر بفعل الصوم فيه ورد مطلقا غير مقيد بوصف ولا مخصوص بشرط نية الفرض فعلى أى وجه صام فقد قضى عهدة الآية وليس عليه غيره وفيها حكم آخر تدل أيضا على لزوم صوم أول يوم من رمضان لمن رأى الهلال وحده دون غيره وأنه غير جائز له الإفطار مع كون اليوم محكوما عند سائر الناس أنه من شعبان وقد روى روح بن عبادة عن هشام وأشعث عن الحسن فيمن رأى الهلال

٢٣٢

وحده أنه لا يصوم إلا مع الإمام وروى ابن المبارك عن ابن جريج عن عطاء بن أبى رباح في رجل رأى هلال شهر رمضان قبل الناس بليلة لا يصوم قبل الناس ولا يفطر قبلهم أخشى أن يكون شبه له فأما الحسن فإنه أطلق الجواب في أنه لا يصوم وهذا يدل على أنه وإن تيقن الرؤية من غير شك ولا شبهة أنه لا يصوم وأما عطاء فإنه يشبه أن يكون أباح له الإفطار إذا جوز على نفسه الشبهة في الرؤية وأنه لم يكن رأى حقيقة وإنما تخيل له ما ظنه هلالا وظاهر الآية يوجب الصوم على من رآه إذ لم يفرق بين من رآه وحده ومن رآه مع الناس وفيها حكم آخر ومن الناس من يقول أنه إذا لم يكن عالما بدخول الشهر لم يجزه صومه ويحتج بقوله تعالى( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) قال فإنما ألزم الفرض على من علم به لأن قوله( فَمَنْ شَهِدَ ) بمعنى شاهد وعلم فمن لم يعلم فهو غير مؤد لفرضه وذلك كنحو من يصوم رمضان على شك ثم يصير إلى اليقين ولا اشتباه كالأسير في دار الحرب إذا صام شهرا فإذا هو شهر رمضان فقالوا لا يجزى من كان هذا وصفه ويحكى هذا القول عن جماعة من السلف وعن مالك والشافعى فيه قولان أحدهما أنه يجزى والآخر أنه لا يجزى وقال الأوزاعى في الأسير إذا أصاب عين رمضان اجزأه وكذلك إذا أصاب شهرا بعده وأصحابنا يجيزون صومه بعد أن يصادف عين الشهر أو بعده ولا نعلم خلافا بين الفقهاء أنه إذا تحرى شهر أو غلب على ظنه أنه رمضان ثم صار إلى اليقين ولا اشتباه أنه رمضان أنه يجزيه وكذلك إذا تحرى وقت صلاة في يوم غيم وصلّى على غالب الظن ثم تيقن أنه الوقت يجزيه وقوله تعالى( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) إن احتمل العلم به فغير مانع من جوازه وإن لم يعلم به من قبل أن ذلك إنما هو شرط في لزومه ومنع تأخيره وأما نفى الجواز فلا دلالة فيه عليه ولو كان الأمر على ما قال من منع جوازه لوجب أن لا يجب على من اشتبهت عليه الشهور وهو في دار الحرب ولم يعلم برمضان القضاء لأنه لم يشاهد الشهر ولم يعلم به فلما اتفق المسلمون على لزوم القضاء على من لم يعلم بشهر رمضان دل ذلك على أنه ليس شرط جواز صومه العلم به كما لم يكن شرط وجوب قضائه العلم به ولما كان من وصفنا حاله من فقد علمه بالشهر شاهدا له في باب لزومه قضاءه إذا لم يصم وجب أن يكون شاهدا له في باب جواز صومه متى صادف عينه وأيضا إذا احتمل قوله تعالى( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ ) أن يعنى به كونه من أهل التكليف في الشهر على ما تقدم

٢٣٣

بيانه فواجب أن يجزيه على أى حال شهد الشهر وهذا شاهد للشهر من حيث كان من أهل التكليف فاقتضى ظاهرا الآية جوازه وإن لم يكن عالما بدخوله واحتج أيضا من أبى جوازه عند فقد العلم بقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين) قالوا فإذا كان مأمورا بفعل الصوم لرؤيته متقدمة فإنه متى لم يره أن يحكم به أنه من شعبان فغير جائز له صومه مع الحكم به من شعبان إذ كان صوم شعبان غير مجزئ عن رمضان وهذا أيضا غير مانع جوازه كما لا يمنع وجوب القضاء إذا علم بعد ذلك أنه من رمضان وإنما كان محكوما بأنه من شعبان على شرط فقد العلم فإذا علم بعد ذلك أنه من رمضان فمتى علم أنه من رمضان فهو محكوم له به من الشهر وينتقض ما كنا حكمنا به بديا من أنه من شعبان فكان حكمنا بذلك منتظرا مراعى وكذلك يكون صوم يومه ذلك مراعى فإن استبان أنه من رمضان أجزأه وإن لم يستبن له فهو تطوع* فإن قيل وجوب قضائه إذا أفطر فيه غير دال على جوازه إذا صامه لأن الحائض يلزمها القضاء ولم يدل وجوب القضاء على الجواز* قيل له إذا كان المانع من جواز صومه فقد العلم به فواجب أن يكون هذا المعنى بعينه مانعا من لزوم قضائه إذا أفطر فيه كالمجنون والصبى لأنك زعمت أن المانع من جوازه كونه غير شاهد للشهر وغيره عالم به ومن لم يشهد الشهر فلا قضاء عليه إن كان حكم الوجوب مقصورا على من شهده دون من لم يشهده ولا يختلف على هذا الحد حكم الجواز إذا صام وحكم القضاء إذا أفطر وأما الحائض فلا يتعلق عليها حكم تكليف الصوم من جهة شهودها للشهر وعلمها به لأنها مع علمها به لا يجزيها صومه ولم يتعلق مع ذلك وجوب القضاء بإفطارها إذ ليس لها فعل في الإفطار فلذلك لم يجب سقوط القضاء عنها من حيث لم يجزها صومها* وفيها وجه آخر من الحكم وهو أن من الناس من يقول إذا طرئ عليه شهر رمضان وهو مقيم ثم سافر فغير جائز له الإفطار ويروى ذلك عن على كرم الله وجهه وعن عبيدة وأبى مجلز وقال ابن عباس والحسن وسعيد بن المسيب وإبراهيم والشعبي إن شاء أفطر إذا سافر وهو قول فقهاء الأمصار واحتج الفريق الأول بقوله تعالى( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) وهذا قد شهد الشهر فعليه إكمال صومه بمقتضى ظاهر اللفظ وهذا معناه عند الآخرين إلزام فرض الصوم في حال كونه مقيما لأنه قد بين حكم المسافر عقيب ذلك بقوله( وَمَنْ كانَ

٢٣٤

مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) ولم يفرق بين من كان مقيما في أول الشهر ثم سافر وبين من كان مسافرا في ابتدائه فدل ذلك على أن قوله( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) مقصور الحكم على حال الإقامة دون حال السفر بعدها وأيضا لو كان المعنى فيه ما ذكروا لوجب أن يجوز لمن كان مسافرا في أول الشهر ثم أقام أن يفطر لقوله تعالى( وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) وقد كان هذا مسافرا وكذلك من كان مريضا في أوله ثم برىء وجب أن يجوز له الإفطار بقضية ظاهرة إذ قد حصل له اسم المسافر والمريض فلما لم يكن قوله( وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) مانعا من لزوم صومه إذا أقام أو برىء في بعض الشهر وكان هذا الحكم مقصورا على حال بقاء السفر والمرض كذلك قوله( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ ) مقصور على حال بقاء الإقامة وقد نقل أهل السير وغيرهم إنشاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم السفر في رمضان في عام الفتح وصومه في ذلك السفر وإفطاره بعد صومه وأمره الناس بالإفطار مع آثار مستفيضة وهي مشهورة غير محتاجة إلى ذكر الأسانيد وهذا يدل على أن مراد الله في قوله تعالى( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) مقصور على حال بقاء الإقامة في إلزام الصوم وترك الإفطار قوله تعالى( فَلْيَصُمْهُ ) قال أبو بكر رحمه الله قد تكلمنا في معنى قوله جل وعلا( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ ) وما تضمنه من الأحكام وحواه من المعاني بما حضر ونتكلم الآن بمشيئة الله وعونه في معنى قوله( فَلْيَصُمْهُ ) وما حواه من الأحكام وانتظمه من المعاني فنقول أن الصوم على ضربين صوم لغوى وصوم شرعي فأما الصوم اللغوي فأصله الإمساك ولا يختص بالإمساك عن الأكل والشرب دون غيرهما بل كل إمساك فهو مسمى في اللغة صوما قال الله تعالى( إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً ) والمراد الإمساك عن الكلام يدل عليه قوله عقيبه( فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ) وقال الشاعر :

وخيل صيام يلكن اللجم

وقال النابغة :

خيل صيام وخيل غير صائمة

تحت العجاج وخيل تعلك اللجما

وتقول العرب صام النهار وصامت الشمس عند قيام الظهيرة لأنها كالممسكة عن الحركة وقال امرؤ القيس :

٢٣٥

فدعها وسل الهم عنك بجسرة

ذمول إذا صام النهار وهجرا

فهذا معنى اللفظ في اللغة وهو في الشرع يتناول ضربا من الإمساك على شرائط معلومة لم يكن الاسم يتناوله في اللغة ومعلوم أنه غير جائز أن يكون الصوم الشرعي هو الإمساك عن كل شيء لاستحالة كون ذلك من الإنسان لأن ذلك يوجب خلو الإنسان من المتضادات حتى لا يكون ساكنا ولا متحركا ولا آكلا ولا تاركا ولا قائما ولا قاعدا ولا مضطجعا وهذا محال لا يجوز ورود العبادة به فعلمنا أن الصوم الشرعي ينبغي أن يكون مخصوصا بضرب من الإمساك دون جميع ضروبه فالضرب الذي حصل عليه اتفاق المسلمين هو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع وشرط فيه عامة فقهاء الأمصار مع ذلك الإمساك عن الحقنة والسعوط والاستقاء عمدا إذا ملأ الفم ومن الناس من لا يوجب في الحقنة والسعوط قضاء وهو قول شاذ والجمهور على خلافه وكذلك الاستقاء وروى عن ابن عباس أنه قال الفطر مما دخل وليس مما خرج وهو قول طاوس وعكرمة وفقهاء الأمصار على خلافه لأنهم يوجبون على من استقاء عمدا القضاء واختلفوا فيما وصل إلى الجوف من جراحة جائفة وآمة فقال أبو حنيفة والشافعى عليه القضاء وقال أبو يوسف ومحمد لا قضاء عليه وهو قول الحسن بن صالح وقد اختلف في ترك الحجامة هل هو من الصوم فقال عامة الفقهاء الحجامة لا تفطره وقال الأوزاعى تفطره واختلف أيضا في بلع الحصاة فقال أصحابنا ومالك والشافعى تفطره وقال الحسن بن صالح لا تفطره واختلفوا في الصائم يكون بين أسنانه شيء فيأكله متعمدا فقال أصحابنا ومالك والشافعى لا قضاء عليه وروى الحسن بن زياد عن زفر أنه قال إذا كان بين أسنانه شيء من لحم أو سويق وخبز فجاء على لسانه منه شيء فابتلعه وهو ذاكر فعليه القضاء والكفارة قال وقال أبو يوسف عليه القضاء ولا كفارة عليه وقال الثوري استحب له أن يقضى وقال الحسن اين صالح إذا دخل الذباب جوفه فعليه القضاء وقال أصحابنا ومالك لا قضاء عليه ولا خلاف بين المسلمين أن الحيض يمنع صحة الصوم واختلفوا في الجنب فقال عامة فقهاء الأمصار لا قضاء عليه وصومه تام مع الجنابة وقال الحسن بن حي مستحب له أن يقضى ذلك اليوم وكان يقول يصوم تطوعا وإن أصبح جنبا وقال في الحائض إذا طهرت من الليل ولم تغتسل حتى أصبحت فعليها قضاء ذلك اليوم فهذه أمور منها متفق

٢٣٦

عليه في أن الإمساك عنه صوم ومنها مختلف فيه على ما بينا فالمتفق عليه هو الإمساك عن الجماع والأكل والشرب في المأكول والمشروب والأصل فيه قوله تعالى( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ ـ إلى قوله ـفَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) فأباح الجماع والأكل والشرب في ليالي الصوم من أولها إلى طلوع الفجر ثم أمر بإتمام الصيام إلى الليل وفي فحوى هذا الكلام ومضمونه حظر ما أباحه بالليل مما قدم ذكره من الجماع والأكل والشرب فثبت بحكم الآية أن الإمساك عن هذه الأشياء الثلاثة هو من الصوم الشرعي ولا دلالة فيه على أن الإمساك عن غيرها ليس من الصوم بل هو موقوف على دلالته وقد ثبت بالسنة واتفاق علماء الأمة أن الإمساك عن غير هذه الأشياء من الصوم الشرعي على ما سنبينه إن شاء الله تعالى ومما هو من شرائط لزوم الصوم الشرعي وإن لم يكن هو إمساكا ولا صوما الإسلام والبلوغ إذ لا خلاف أن الصغير غير مخاطب بالصوم في أحكام الدنيا فإن الكافر وإن كانا مخاطبا به معاقبا على تركه فهو في حكم من لم يخاطب به في أحكام الدنيا فإنه لا يجب عليه قضاء المتروك منه في حال الكفر وطهر المرأة عن الحيض من شرائط تكليف صوم الشهر وكذلك العقل والإقامة والصحة وإن وجب القضاء في الثاني والعقل مختلف فيه على ما بينا من أقاويل أهل العلم في المجنون في رمضان والنية من شرائط صحة سائر ضروب الصوم وهو على ثلاثة أنحاء صوم مستحق العين وهو صوم رمضان ونذر يوم بعينه وصوم التطوع وصوم في الذمة فالصوم المستحق العين وصوم التطوع يجوز فيهما ترك النية من الليل إذا نواه قبل الزوال وما كان في الذمة فغير جائز إلا بتقدمة النية من الليل وقال زفر يجوز صوم رمضان بغير نية وقال مالك يكفى للشهر كله نية واحدة وإنما قلنا إن بلع الحصاة ونحوها يوجب الإفطار وإن لم يكن مأكولا في العادة وأنه ليس بغذاء ولا دواء من قبل أن قوله( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) قد انطوى تحته الأكل فهو عموم في جميع ما أكل ولا خلاف أنه لا يجوز له بلع الحصاة مع اختلافهم في إيجاب الإفطار واتفاقهم على أن النهى عن بلع الحصاة صدر عن الآية فيوجب ذلك أن يكون مرادا بها فاقتضى إطلاق الأمر بالصيام عن الأكل والشرب دخول الحصاة فيه كسائر المأكولات فمن حيث دلت الآية على وجوب القضاء

٢٣٧

في سائر المأكولات فهي دالة أيضا على وجوبه في أكل الحصاة* ويدل عليه أيضا قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من أكل أو شرب ناسيا فلا قضاء عليه وهذا يدل على أن حكم سائر ما يأكله لا يختلف في وجوب القضاء إذا أكله عمدا وأما السعوط والدواء الواصل بالجائفة أو الآمة فالأصل فيه حديث لقيط بن صبرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما فأمره بالمبالغة في الاستنشاق ونهاه عنها لأجل الصوم فدل ذلك على أن ما وصل بالاستنشاق إلى الحلق أو إلى الدماغ أنه يفطر لو لا ذلك لما كان لنهيه عنها لأجل الصوم معنى مع أمره بها في غير الصوم وصار ذلك أصلا عند أبى حنيفة في إيجاب القضاء في كل ما وصل إلى الجوف واستقر فيه مما يستطاع الامتناع منه سواء كان وصوله من مجرى الطعام والشراب أو من مخارق البدن التي هي خلقة في بنية الإنسان أو من غيرها لأن المعنى في الجميع وصوله إلى الجوف واستقراره فيه مع إمكان الامتناع منه في العادة ولا يلزم على ذلك الذباب والدخان والغبار يدخل حلقه لأن جميع ذلك لا يستطاع الامتناع منه في العادة ولا يمكن التحفظ منه بإطباق الفم فإن قيل فإن أبا حنيفة لا يوجب بالإفطار في الإحليل القضاء* قيل له إنما لم يوجبه لأنه كان عنده أنه لا يصل إلى المثانة وقد روى ذلك عنه منصوصا وهذا يدل على أن عنده إن وصل إلى المثانة أفطر وأما أبو يوسف ومحمد فإنهما اعتبرا وصوله إلى الجوف من مخارق البدن التي هي خلقة في بنية الإنسان وأما وجه إيجاب القضاء على من استقاء عمدا دون من ذرعه القيء فإن القياس أن لا يفطره الاستقاء عمدا لأن الفطر في الأصل هو من الأكل وما جرى مجراه من الجماع كما قال ابن عباس أنه لا يفطره الاستقاء عمدا لأن الإفطار مما يدخل وليس مما يخرج والوضوء مما يخرج وليس مما يدخل وكسائر الأشياء الخارجة من البدن لا يوجب الإفطار بالاتفاق فكان خروج القيء بمثابتها وإن كان من فعله إلا أنهم تركوا القياس للأثر الثابت عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك ولاحظ للنظر مع الأثر والأثر الثابت هو حديث عيسى بن يونس عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبى هريرة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذرعه القيء لم يفطر ولا قضاء عليه ومن استقاء عمدا فعليه القضاء * فإن قيل خبر هشام بن حسان* عن ابن سيرين في ذلك غير محفوظ وإنما الصحيح من هذا الطريق في الأكل ناسيا* قيل له قد روى عيسى بن يونس لخبرين معا عن هشام بن حسان وعيسى بن يونس هو

٢٣٨

الثقة المأمون المتفق على ثبته وصدقه قد حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال روى أيضا حفص بن غياث عن هشام مثله وروى الأوزاعى عن يعيش بن الوليد أن معدان ابن أبى طلحة حدثه أن أبا الدرداء حدثه أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قاء فأفطر قال فلقيت ثوبان فذكرت له ذلك فقال صدق وأنا صببت له وضوءه وروى وهب ابن جرير قال حدثنا أبى قال سمعت يحيى بن أيوب يحدث عن يزيد بن أبى حبيب عن أبى مرزوق عن حبيش عن فضالة بن عبيد قال كنت عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فشرب ماء فقلت يا رسول الله ألم تك صائما فقال بلى ولكني قئت وإنما تركوا القياس في الاستقاء لهذه الآثار فإن قيل قد روى أن القيء لا يفطر حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن كثير قال حدثنا سفيان عن زيد بن أسلم عن رجل من أصحابه عن رجل من الصحابة أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (لا يفطر من قاء ولا من احتلم ولا من احتجم) قيل له وروى هذا الحديث محمد بن أبان عن زيد ابن أسلم عن أبى عبيد الله الصنابحى قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (من أصبح صائما فذرعه القيء فلم يفطر ومن احتلم فلم يفطر ومن احتجم فلم يفطر) فبين في هذا الحديث القيء الذي لا يوجب الإفطار ولو لم يذكره على هذا البيان لكان الواجب حمله على معناه وأن لا يسقط أحد الحديثين بالآخر وذلك لأنه متى روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم خبران متضادان وأمكن استعمالهما على غير وجه التضاد استعملناهما جميعا ولم يبلغ أحدهما وإنما قالوا أنه إذا استقاء أقل من ملء فيه لم يفطره من قبل أنه لا يتناوله اسم القيء ألا ترى أن من ظهر على لسانه شيء بالجشاء لا يقال أنه قد تقيأ وإنما يتناوله هذا الاسم عند كثرته وخروجه وقد كان أبو الحسن الكرخي رحمه الله تعالى يقول في تقدير ملء الفم هو الذي لا يمكنه إمساكه في الفم لكثرته فيسمى حينئذ قيئا* وأما الحجامة فإنما قالوا إنها لا تفطر الصائم لأن الأصل أن الخارج من البدن لا يوجب الإفطار كالبول والغائط والعرق واللبن ولذلك لو جرح إنسان أو افتصد لم يفطره فكانت الحجامة قياس ذلك ولأنه لما ثبت أن الإمساك عن كل شيء ليس من الصوم الشرعي لم يجزلنا أن نلحق به إلا ما ورد به التوقيف أو اتفقت الأمة عليه وقد ورد بإباحة الحجامة للصائم آثار عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فمن ذلك ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا عبيد بن شريك البزاز قال حدثنا أبو الجماهر قال حدثنا عبد الله بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبى سعيد الخدري أن رسول

٢٣٩

اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (ثلاث لا يفطرن الصائم القيء والاحتلام والحجامة) وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا حفص بن عمر قال حدثنا شعبة عن يزيد بن أبى زيادة عن مقسم عن ابن عباس أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم احتجم صائما محرم وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا حسين بن إسحاق قال حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن سهم قال حدثنا عيسى بن يونس عن أيوب بن محمد اليماني عن المثنى بن عبد الله عن أنس بن مالك قال مر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم صبيحة ثماني عشرة من رمضان برجل وهو يحتجم فقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم (أفطر الحاجم والمحجوم) ثم أتاه رجل بعد ذلك فسأله عن الحجامة في شهر رمضان فقال (إذا تبيغ أحدكم بالدم فليحتجم) وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا محمد بن الحسن بن حبيب أبو حصن الكوفي قال حدثنا إبراهيم بن محمد بن ميمون قال حدثنا أبو مالك عن الحجاج عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال احتجم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو صائم فغشى عليه فلذلك كرهه وحدثنا محمد بن أبى بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا القعنبي قال حدثنا سليمان يعنى ابن المغيرة عن ثابت قال قال أنس ما كنا ندع الحجامة للصائم إلا كراهية الجهد فإن قال قائل قد روى مكحول عن ثوبان عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال أفطر الحاجم والمحجوم وروى أبو قلابة عن أبى الأشعث عن شداد بن أوس أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى على رحل بالبقيع وهو يحتجم وهو آخذ بيدي لثماني عشرة خلت من رمضان فقال أفطر الحاجم والمحجوم * قيل له قد اختلف في صحة هذا الخبر وهو غير صحيح على مذهب أهل النقل لأن بعضهم رواه عن أبى قلابة عن أبى أسماء عن ثوبان وبعضهم رواه عن أبى قلابة عن شداد بن أوس ومثل هذا الاضطراب في السند يوهنه فأما حديث مكحول فإن أصله عن شيخ من الحي مجهول عن ثوبان وعلى أنه ليس في قوله أفطر الحاجم والمحجوم إذا أشار به إلى عين دلالة على وقوع الإفطار بالحجامة لأن ذكر الحجامة في مثله تعريف لهما كقولك أفطر القائم والقاعد وأفطر زيد إذا أشرت به إلى عين فلا دلالة فيه على أن القيام يفطر وعلى أن كونه زيدا يفطره كذلك قوله أفطر الحاجم والمحجوم لما أشار به إلى رجلين بأعينهما فلا دلالة فيه على وقوع الفطر بالحجامة وجائز أن يكون شاهدهما على حال توجب الإفطار من أكل أو غيره فأخبر بالإفطار من غير ذكر علته وجائز أن يكون شاهدهما على غيبة منهما للناس فقال إنهما أفطرا كما روى يزيد بن أبان عن أنس أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (الغيبة تفطر

٢٤٠

الصائم) وليس المعنى فيه عند الفقهاء الخروج منه وإنما المراد منه إبطال ثوابه فاحتمل أن يكون ذكر إفطار الحاجم والمحجوم لهذا المعنى وعلى أن الأخبار التي روينا فيها ذكر تاريخ الرخصة بعد النهى وجائز أيضا أن يكون النهى عن الحجامة كان لما يخاف من الضعف كما نهى عن الصوم في السفر حين رأى رجلا قد ظلل عليه وأما وجه قولهم فيمن بلع شيئا بين أسنانه لم يفطره فهو أن ذلك بمنزلة أجزاء الماء الباقية في فمه بعد غسل فمه للمضمضة ومعلوم وصولها إلى جوفه ولا حكم لها كذلك الأجزاء الباقية في فيه هي بمنزلة ما وصفنا ألا ترى أن من أكل بالليل سويقا أنه لا يخلو إذا أصبح من بقاء شيء من أجزائه بين أسنانه ولم يأمره أحد بتقصى إخراجها بالأخلة والمضمضة فدل ذلك على أن تلك الأجزاء لا حكم لها وأما الذباب الواصل إلى جوفه من غير إرادته فإنما لم يفطره من قبل أن ذلك في العادة غير متحفظ منه ألا ترى أنه لا يؤمر بإطباق الفم وترك الكلام خوفا من وصوله إلى جوفه فأشبه الغبار والدخان يدخل إلى حلقه فلا يفطره وليس هو بمنزلة من أوجر ماء وهو صائم مكرها فيفطر من قبل أنه ليس للعادة في هذا تأثير وإنما بينا حكم وصول الذباب إلى جوفه معلوما على العادة في فتح الفم بالكلام وما كان مبنيا على العادة مما يشق الامتناع عنه فقد خفف الله عن العباد فيه قال الله( وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) * وأما الجنابة فإنها غير مانعة من صحة الصوم لقوله( فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) فأطلق الجماع من أول الليل إلى آخره ومعلوم أن من جامع في آخر الليل فصادف فراغه من الجماع طلوع الفجر أنه يصبح جنبا وقد حكم الله بصحة صيامه بقوله( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) وروت عائشة وأم سلمة أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصبح جنبا من غير احتلام ثم يصوم يومه ذلك وروى أبو سعيد عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال (ثلاث لا يفطرن الصائم القيء والحجامة والاحتلام) وهو يوجب الجنابة وحكم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مع ذلك بصحة صومه فدل على أن الجنابة لا تنافى صحة الصوم وقد روى أبو هريرة خبرا عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال (من أصبح جنبا فلا يصومن يومه ذلك) إلا أنه لما أخبر برواية عائشة وأم سلمة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لا علم لي بهذا أخبرنى به الفضل بن العباس وهذا مما يوهن خبره لأنه قال بديا ما أنا قلت ورب الكعبة من أصبح جنبا فقد أفطر محمد قال

٢٤١

ذلك ورب الكعبة وأفتى السائل عن ذلك بالإفطار فلما أخبر برواية عائشة وأم سلمة تبرأ من عهدته وقال لا علم لي بهذا إنما أخبرنى به الفضل وقد روى عن أبى هريرة الرجوع عن فتياه بذلك حدثنا عبد الباقي قال حدثنا إسماعيل بن الفضل قال حدثنا ابن شبابة قال حدثنا عمرو بن الهيثم قال حدثنا هشام عن قتادة عن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة رجع عن الذي كان يفتي من أصبح جنبا فلا يصوم وعلى أنه لو ثبت خبر أبى هريرة احتمل أن لا يكون معارضا لرواية عائشة وأم سلمة بأن يريد من أصبح على موجب الجنابة بأن يصبح مخالطا لامرأته ومتى أمكننا تصحيح الخبرين واستعمالهما معا استعملناهما على ما أمكن من غير تعارض فإن قيل جائز أن يكون رواية عائشة وأم سلمة مستعملة فيما وردت بأن يكون النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مخصوصا بذلك دون أمته لأنهما أضافتا ذلك إلى فعله وخبر أبى هريرة مستعمل في سائر الناس قيل له قد عقل أبو هريرة من روايته مساواة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لغيره في هذا الحكم لأنه قال حين سمع رواية عائشة وأم سلمة لا علم لي بهذا وإنما أخبرنى به الفضل بن العباس ولم يقل إن رواية هاتين المرأتين غير معارضة لروايتي إذ كانت روايتهما مقصورة على حال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وروايتي إنما هي في غيره من الناس فهذا يبطل تأويلك وأيضا فإنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم مساو للأمة في سائر الأحكام إلا ما خصه الله تعالى به وأفرده من الجملة بتوقيف للأمة عليه بقوله تعالى( فَاتَّبِعُوهُ ) وقوله( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) فهذه الأمور التي ذكرنا مما تعبدنا فيه بالإمساك عنه في نهار رمضان هي من الصوم المراد به في قوله تعالى( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) وقوله تعالى( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) فهي إذا من الصوم اللغوي والشرعي جميعا وأما ما ليس بإمساك مما وصفنا فإنما هو من شرائطه ولا يكون الإمساك على الوجوه التي ذكرنا صوما شرعيا إلا بوجود هذه الشرائط وذلك الإسلام والبلوغ والنية وأن تكون المرأة غير حائض فمتى عدم شيء من هذه الشرائط خرج عن أن يكون صوما شرعيا وأما الإقامة والصحة فهما شرط صحة لزومه ووجود المرض والسفر لا ينافي صحة الصوم وإنما ينافي لزوم الصوم على جهة الوجوب ولو صاما لصح صومهما وإنما قلنا البلوغ شرط في صحة لزومه لقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم (رفع القلم عن ثلاث عن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق وعن الصبى حتى يحتلم) ولا خلاف أنه لا يلزمه سائر العبادات فكذلك الصوم وقد يؤمر به المراهق على

٢٤٢

وجه التعليم ليعتاده وليمرن عليه لقوله تعالى( قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً ) قيل في التفسير أدبوهم وعلموهم وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال (مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر) وليس ذلك على وجه التكليف وإنما هو على وجه التعليم والتأديب وأما الإسلام فإنما كان شرطا في صحة فعله لقوله( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) فلا تصح له قربة إلا على شرط كونه مؤمنا وأما العقل فإن فقدت معه النية والإرادة فإنما ينفى عنه صحة الصوم لعدم النية فإن وجدت منه النية من الليل ثم عزب عقله لم ينف ذلك صحة صومه وإنما قلنا إن النية شرط في صحة الصوم من قبل أنه لا يكون صوما شرعيا إلا بأن يكون فاعله متقربا به إلى الله عز وجل ولا تصح القربة إلا بالنية والقصد لها قال الله تعالى( لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ ) فأخبر عز وجل أن شرط التقوى تحرى موافقة أمره ولما كان الشرط كونه متقيا فعل الصوم من المفروض لم يحصل له ذلك إلا بالنية لأن التقوى لا تحصل له إلا بتحرى موافقة أمر الله والقصد إليه وقال تعالى( وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) ولا يكون إخلاص الدين له إلا بقصده به إليه راغبا عن أن يريد به غيره فهذه أصول في تعلق صحة الفروض بالنيات ولا خلاف بين المسلمين في أن من شرط الصلاة والزكاة والحج والكفارات إيجاد النية لها لأنها فروض مقصوده لأعينها فكان حكم الصوم حكمها لهذه العلة بعينها* فإن قيل جميع ما استدللت به على كون النية شرطا في الصوم وفي سائر الفروض يلزمك شرط النية في الطهارة إذ كانت فرضا من الفروض قيل له ليس ذلك على ما ظننت لأن الطهارة ليست فرضا مقصودا لعينها وإنما المقصود غيرها وهي شرط فيه فقيل لنا لا تصلوا إلا بطهارة كما قيل لا تصلوا إلا بطهارة من بحاسة ولا تصلوا إلا بستر العورة فليست هذه الأشياء مفروضة لأنفسها فلم يلزم إيجاد النية لها ألا ترى أن النية نفسها لما كانت شرطا لغيرها ولم تكن مفروضة لنفسها صحة بغير نية توجد لها فانفصل بما ذكرنا حكم الفروض المقصودة لأعيانها وحكم ما جعل منها شرطا لغيره وليس هو بمفروض لنفسه فلما كانت الطهارة بالماء شرطا لغيرها وليست أيضا ببدل عن سواها لم يلزم فيها النية ولا يلزم على هذا إيجابنا النية في التيمم لأنه بدل عن غيره فلا يكون طهورا إلا بإنضمام النية إليه إذ ليس هو طهورا في نفسه بل هو بدل عن غيره ولم يختلف الأمة في أن كل صوم واجب في الذمة فشرط صحته

٢٤٣

إيجاد النية له فوجب أن يكون كذلك حكم صوم رمضان في كون النية شرطا لصحته وشبه زفر صوم رمضان بالطهارة في إسقاط النية لهما من قبل أن الطهارة مفروضة في أعضاء بعينها فكان الصوم مشبها لها في كونه مفروضا في وقت مستحق العين له وهذا عند سائر الفقهاء ليس كذلك لأن العلة التي ذكرها للطهارة غير موجودة في الصوم إذ جعل علة الطهارة أنها مفروضة في موضع بعينه وهذا المعنى غير موجود في الصوم لأنه غير موضوع في موضع بعينه وإنما هو موضوع في وقت معين لا في موضع معين وعلى أن هذه العلة منتقضة بالطواف لأنه مفروض في موضع معين ولو عدا رجل خلف غريم له يوم النحر حوالى البيت لم يكن طائفا طواف الزيارة وكذلك لو كان يسقى الناس هناك وبين الصفا والمروة لم يجزه ذلك من الواجب فإذا كانت هذه العلة غير موجبة للحكم في معلولها من الطواف والسعى فبأن لا يوجب حكمها فيما ليست فيه موجودة أولى وعلى أن الطهارة مخالفة للصوم لما بينا من أنها غير مفروضة لنفسها وإنما هي شرط لغيرها لا على وجه البدل فلم تجب أن تكون النية شرطا فيها كأنه قيل لا تصل إلا وأنت طاهر من الحدث ومن النجاسة ولا تصل إلا مستور العورة وليس شرط غسل النجاسة وستر العورة النية كذلك الطهارة بالماء وأما الصوم فإنه مفروض مقصود لعينه كسائر الفروض التي ذكرنا فوجب أن يكون شرط صحته إيجاد النية له ومعنى آخر وهو أنا قد علمنا أن الصوم على ضربين منه الصوم اللغوي ومنه الصوم الشرعي وأن أحدهما إنما ينفصل من الآخر بالنية مع ما قدمنا من شرائطه ومتى لم توجد له النية كان صوما لغويا لا حظ فيه للشرع فلذلك وجب اعتبار النية في صوم رمضان ألا ترى أن من أمسك في يوم من غير رمضان عما يمسك عنه الصائم ولم يكن له نية الصوم أن صومه ذلك لا يكون صوم شرع وصوم التطوع مشبه لصوم رمضان في جواز ترك النية له من الليل فلما لم يكن صائما متطوعا بالإمساك دون النية وجب أن يكون صوم رمضان كذلك ويلزم زفر أن يجعل المغمى عليه أياما في رمضان إذا لم يأكل ولم يشرب صائما لوجود الإمساك وهذا إن التزمه قائل كان قائلا قولا مستشنعا وإنما قلنا أنه يحتاج إلى إيجاد النية كل يوم إما من الليل أو قبل الزوال من قبل أنا قد بينا أن صوم رمضان لا يصح إلا بنية ومن حيث افتقر إلى نية في أول الشهر وجب أن يكون اليوم الثاني مثله لأنه يخرج بالليل من الصوم ومتى خرج منه

٢٤٤

احتاج في دخوله فيه إلى نية وقال مالك ما لم يكن وجوبه معينا من الصيام لم يصح إلا بنية من الليل وما كان وجوبه في وقت بعينه كان يعلمه ذلك الوقت صائما واستغنى عن نية الصيام بذلك فإذا قال لله على أن أصوم شهرا متتابعا فصام أول يوم أنه يجزيه باقى الأيام بغير نية وهو قول الليث بن سعد وقال الثوري في صوم التطوع إذا نواه في آخر النهار أجزأه قال وقال إبراهيم النخعي له أجر ما يستقبل وهو مذهب الحسن بن صالح وقال الثوري يحتاج في صوم رمضان أن ينويه من الليل وقال الأوزاعى يجزيه نية صوم رمضان بعد نصف النهار وقال الشافعى لا يجزى كل صوم واجب رمضان وغيره إلا بنية من الليل ويجزى صوم التطوع بنية قبل الزوال فأما الدلالة على بطلان قول من اكتفى بنية واحدة للشهر كله فهو ما قدمنا من افتقار صوم اليوم الثاني إلى الدخول فيه والدخول في الصوم لا يصح إلا بنية فوجب أن يكون شرط اليوم الثاني إيجاد النية كاليوم الأول فإن قيل يكتفى بالنية الأولى وهي نية لجميع الشهر كما يتجزى في الصلاة بنية واحدة في أولها ولا يحتاج إلى تجديد النية لكل ركعة والمعنى الجامع بينهما أن الصلاة الواحدة لا تتخلل ركعاتها صلاة أخرى غيرها كما لا يتخلل صيام شهر رمضان صيام من غيره قيل له لو جاز أن يكتفى بنية واحدة للشهر لجاز أن يكتفى بها لعمره كله فلما بطل هذا واحتاج إلى نية لأول يوم لم يجز أن تكون تلك النية لسائر أيام الشهر كما لا يجوز أن تكون لسائر عمره وأما تشبيهه بالصلاة فلا معنى له لأن الصلاة إنما اكتفى فيها بنية واحدة لأن الجميع مفعول بتحريمة واحدة ألا ترى أنه لا يصح بعضها دون بعض فكانت الركعات كلها مبنية على تلك التحريمة ألا ترى أنه متى ترك ركعة حتى خرج منها بطلت صلاته كلها وأنه لو ترك صوم يوم من رمضان بأن أفطر فيه لم يبطل عليه صوم سائر الشهر ومن جهة أخرى أنه لا يخرج من الصلاة بفعل الركعة الأولى فلم يحتج إلى نية أخرى إذ النية إنما يحتاج إليها للدخول فيها فأما الصوم فإنه إذا دخل الليل خرج من الصوم ولذلك قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم (إذا أقبل الليل من هاهنا وغابت الشمس فقد أفطر الصائم) فاحتاج بعد الخروج من صوم اليوم الأول إلى الدخول في اليوم الثاني فلم يصح له ذلك إلا بالنية المتجددة* وإنما أجاز أصحابنا ترك النية من الليل في كل صوم مستحق العين إذا نواه قبل الزوال لقوله تعالى( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) وهذا قد شهد الشهر فواجب أن يكون مأمورا بصومه

٢٤٥

وواجب أن يجزيه إذا فعل ما أمر به ومن جهة السنة وهو ما روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه بعث إلى أهل العوالي يوم عاشوراء فقال من أكل فليمسك ومن لم يأكل فليصم بقية يومه وقد روى أنه أمر الآكلين بالقضاء * حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا أحمد بن على بن مسلم قال حدثنا محمد بن منهال قال حدثنا يزيد بن ربيع قال حدثنا شعبة عن قتادة عن عبد الرحمن ابن سلمة عن عمه قال أتيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم عاشوراء فقال (أصمتم يومكم هذا قالوا لا قال فأتموا يومكم هذا واقضوا) فدل ذلك على معنيين أحدهما أن صوم يوم عاشوراء كان فرضا ولذلك أمر بالقضاء من أكل والثاني أنه فرق بين الآكلين ومن لم يأكل فأمر الآكلين بالإمساك والقضاء والذين لم يأكلوا بالصوم فدل ذلك على أن من الصوم ما كان مفروضا في وقت بعينه فجائز ترك النية من الليل لأنه لو كان شرط صحته إيجاد النية له من الليل لما أمرهم بالصيام ولكانوا حينئذ بمنزلة الآكلين في باب امتناع صحة صومهم ووجوب القضاء عليهم فثبت بما وصفنا أنه ليس شرط صحة الصوم المستحق العين وجود النية له من الليل وأنه جائز له أن يبتدئ النية له في بعض النهار* فإن قيل إنما جاز ترك النية له من الليل لأن الفرض لم يكن تقدم قبل ذلك الوقت وإنما هو فرض مبتدأ لزمهم في بعض النهار فلذلك أجزى له مع ترك النية من الليل وأما بعد ثبوت فرض الصوم فغير جائز إلا أن يوجد له نية من الليل قيل له لو كان إيجاد النية من الليل من شرائط صحته لوجب أن يكون عدمها مانعا صحته كما أنه لما كان ترك الأكل من شرائط صحة الصوم كان وجوده مانعا منه وأن لا يختلف في ذلك حكم الفرض المبتدأ في بعض النهار وحكم ما تقدم فرضه فلما أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم الآكلين بالإمساك وأمرهم مع ذلك بالقضاء لأن ترك الأكل من شرط صحته ولم يأمر تاركي النية من الليل بالقضاء وحكم لهم بصحة صومهم إذا ابتدءوه في بعض النهار ثبت بذلك أن إيجاد النية من الليل ليس بشرط في الصوم المستحق العين وصار ذلك أصلا في نظائره مما يوجبه الإنسان على نفسه من الصوم في وقت بعينه أنه يصح بنية يحدثها بالنهار قبل الزوال* فإن قيل فرض صوم عاشوراء منسوخ برمضان فكيف* يستدل بالمنسوخ على صوم ثابت الحكم مفروض* قيل له أنه وإن نسخ فرضه فلم ينسخ دلالته فيما دلت عليه من نظائره ألا ترى إن فرض التوجه إلى بيت المقدس قد نسخ ولم ينسخ بذلك سائر أحكام الصلاة وكذلك قد نسخ فرض صلاة الليل ولم ينسخ سائر أحكام

٢٤٦

الصلاة ولم يمنع نسخها من الاستدلال بقوله تعالى( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) في إثبات التخيير في إيجاب القراءة بما شاء منه وإن كان ذلك نزل في شأن صلاة الليل وإنما قالوا إنه يجزى أن ينويه قبل الزوال ولا يجوز بعده لما روى في بعض الأخبار أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث إلى أهل العوالي فقال (من تغدى منكم فيمسك ومن لم يتغد فليصم) والغداء على ما قبل الزوال ثم لا يخلو ذكر الغداء من وجهين إما أن يكون قال ذلك بالغداء قبل الزوال أو بين لهم أن جواز النية متعلق بوجودها قبل الزوال في وقت يسمى غداء وإلا كان اقتصر على ذكر الأكل دون ذكر الغداء لو كان حكم ما قبل الزوال وبعده سواء فلما أوجب أن يكسو هذا اللفظ فائدته لئلا يخلو كلام النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن فائدة وجب أن يختلف حكم نيته قبل الزوال وبعده* وإنما أجازوا ترك النية من الليل في صوم التطوع بما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا إسماعيل بن الفضل بن موسى قال حدثنا مسلم بن عبد الرحمن السلمى البلخي قال حدثنا عمر بن هارون عن يعقوب بن عطاء عن أبيه عن ابن عباس أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصبح ولم يجمع للصوم فيبدو له فيصوم قالت عائشة كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يأتينا فيقول (هل عندكم من طعام فإن كان وإلا قال فإنى إذا صائم) فإن قيل إذا لم يعزم النية من الليل حتى أصبح فقد وجد غير صائم في بعض النهار فكان بمنزلة الآكل فلا يصح له صوم يومه* قيل له قد ثبت عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ابتداء صوم التطوع في بعض النهار واتفق الفقهاء عليه ولم يجعلوا ما مضى من النهار عاريا من نية متقدمة مانعا من صحة صومه ولم يكن ذلك بمنزلة الأكل في أول النهار في منع صحة صوم التطوع فكذلك عدم نية الصوم في المستحق العين من الصيام لا يمنع ابتداء صومه ولا يكون عدم النية في أوله بمنزلة وجود الأكل فيه كما لم يكن ذلك حكمه في التطوع وأيضا فلو نوى الصوم من الليل ثم عزبت نيته لم يكن عزوب نيته مانعا من صحة صومه ولم يكن شرط بقائه استصحاب النية له فلذلك جاز ترك النية في أول النهار لبعض من الصوم على حسب قيام الدلالة عليه ولا يمنع ذلك صحة صومه ولو ترك الأكل في أول النهار ثم أكل في آخره كان ذلك مبطلا لصومه ولم يكن وجود الأكل بمنزلة عزوب النية فاستوى حكم الأكل في الابتداء والبقاء واختلف ذلك في حكم النية فلذلك اختلفا ولم يمتنع أن يكون غير ناو للصوم في أوله ثم ينويه في بعض النهار فيكون ما مضى من اليوم محكوما له بحكم الصوم كما يحكم

٢٤٧

له بحكم الصوم مع عزوب النية* فإن قيل لما لم يصح له الدخول في الصلاة إلا بنية* مقارنة لها كان كذلك حكم الصوم* قيل له هذا غلط لأنه لا خلاف بين المسلمين في جواز صوم من نواه من الليل ثم نام فأصبح نائما وإن صومه تام صحيح من غير مقارنة نية الصوم بحال الدخول ولو نوى الصلاة ثم اشتغل عنها ثم تحرم بالصلاة لم تصح إلا بنية يحدثها عند إرادته الدخول فلما لم يكن شرط الدخول في الصوم مقارنة النية له عند الجميع وكان شرط الدخول في الصلاة مقارنة النية لم يجز أن يحكم له بحكم الصلاة إلا بعد وجود نية الدخول في ابتدائها ولم يجز اعتبار الصوم بالصلاة في حكم النية وأيضا قد ثبت عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يبتدئ صوم التطوع في بعض النهار واتفق الفقهاء على تلقى هذا الخبر بالقبول واستعمالهم له واتفقوا أيضا أنه لا يصح له الدخول في صلاة التطوع إلا بنية تقارنها فعلمنا أن نية الصوم غير معتبرة بنية الصلاة من الوجه الذي ذكرت وأما ما كان من الصوم الواجب في الذمة غير مفروض في وقت معين فإنه لا يجوز ترك النية فيه من الليل والأصل فيه حديث حفصة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال (لا صيام لمن يعزم عليه من الليل) وكان عموم ذلك يقتضى إيجاب النية من الليل لسائر ضروب الصوم إلا أنه لما قامت الدلالة في الصوم المستحق العين وصوم التطوع سلمناه للدلالة وخصصناه من الجملة وبقي حكم اللفظ فيما عداه ولا يختلف على ذلك صوم شهرين متتابعين وقضاء رمضان لأن صوم الشهرين المتتابعين غير مستحق العين وأى وقت ابتدأ فيه فهو وقت فرضه فكان كسائر الصوم الواجب في الذمة* والأحكام المستفادة من قوله( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) إلزام صوم الشهر من كان منهم شاهدا له وشهود الشهر ينقسم إلى أنحاء ثلاثة العلم به من قولهم شاهدت كذا وكذا والإقامة في الحضر من قولك مقيم ومسافر وشاهد وغائب وأن يكون من أهل التكليف على ما بينا ثم أفاد من نسخ فرض أيام معدودات على قول من قال أن صوم الأيام المعدودات كان فرضا غير رمضان ثم نسخ به ونسخ به أيضا التخيير بين الفدية والصوم للصحيح المقيم وأفاد أن من رأى الهلال وحده فعليه صومه وحكم آخر وهو أن من علم بالشهر بعد ما أصبح أو كان مريضا فبرأ ولم يأكل ولم يشرب أو مسافر قدم فعليهم صومه إذ هم شاهدون للشهر وأفاد أن فرض الصيام مخصوص بمن شهد الشهر دون غيره وأن من ليس من أهل التكليف أو ليس بمقيم

٢٤٨

أو لم يعلم به فغير لازم له وأفاد تعيين الشهر لهذا الفرض حتى لا يجوز تقديمه عليه ولا تأخيره عنه لمن شهده وأفاد أن مراده بعض الشهر لا جميعه في شرط لزوم الصوم وإن الكافر إذا أسلم في بعضه والصبى إذا بلغ فعليهما صوم بقية الشهر وأفاد أن من نوى بصيامه تطوعا أجزأه لورود الأمر مطلقا بفعل الصوم غير مخصوص بصفة ولا مقيد بشرط فاقتصر جوازه على أى وجه صامه ويحتج به من يقول أنه إذا صام وهو غير عالم بالشهر لم يجزه ويحتج به أيضا من يقول إذا طرئ عليه شهر رمضان وهو مقيم ثم سافر لم يفطر لقوله تعالى( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) فهذا الذي حضرنا من ذكر فوائد قوله( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ ) ولا ندفع أن يكون فيه عدة فوائد غيرها لم يحط علمنا بها وعسى أن نقف عليها في وقت غيره أو يستنبطها غيرنا وأما ما تضمنه قوله( فَلْيَصُمْهُ ) فهو ما قدمنا ذكره من الأمور التي أمرنا بالإمساك عنها في حال الصوم منها متفق عليه ومنها مختلف فيه وما قدمناه من ذكر شرائطه وإن لم يكن صوما في نفسه وقد تقدم بيان حكم المريض والمسافر بعون الله وكرمه.

باب كيفية شهود الشهر

قال الله تعالى( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) وقال تعالى( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ ) وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا سليمان ابن داود قال حدثنا حماد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (الشهر تسع وعشرون ولا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فأقدروا له) قال وكان ابن عمر إذا كان شعبان تسع وعشرين نظر له فإن رأى فذلك وإن لم يرو لم يحل دون منظره سحاب أو قتره أصبح مفطرا وإن حال دون منظره سحاب أو قترة أصبح صائما قال وكان ابن عمر يفطر مع الناس ولا يأخذ بهذا الحساب* قال أبو بكر قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (صوموا لرؤيته) موافق لقوله تعالى( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ ) واتفق المسلمون على معنى الآية والخبر في اعتبار رؤية الهلال في إيجاب صوم رمضان فدل ذلك على أن رؤية الهلال هي شهود الشهر* وقد دل قوله( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ) على أن الليلة التي يرى فيها الهلال من الشهر المستقبل دون الماضي وقد اختلف في معنى قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم (فإن غم عليكم فأقدروا له) فقال قائلون أراد به اعتبار منازل

٢٤٩

القمر فإن كان في موضع القمر لو لم يحل دونه سحاب وقترة ورؤي يحكم له بحكم الرؤية في الصوم والإفطار وإن كان على غير ذلك لم يحكم له بحكم الرؤية وقال آخرون فعدوا شعبان ثلاثين يوما أما التأويل الأول فساقط الاعتبار لا محالة لإيجابه الرجوع إلى قول المنجمين ومن تعاطى معرفة منازل القمر ومواضعه وهو خلاف قول الله تعالى( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ ) فعلق الحكم فيه برؤية الأهلة ولما كانت هذه عبادة تلزم الكافة لم يجز أن يكون الحكم فيه متعلقا بما لا يعرفه إلا خواص من الناس ممن عسى لا يسكن إلى قولهم والتأويل الثاني هو الصحيح وهو قول عامة الفقهاء وابن عمر راوي الخبر وقد ذكر عنه في الحديث أنه لم يكن يأخذ بهذا الحساب وقد بين في حديث آخر معنى قوله فأقدروا له بنص لا تأويل فيه وهو ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن العباس المؤدب قال حدثنا شريح بن النعمان قال حدثنا فليح بن سليمان عن نافع عن ابن عمر أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر عنده شهر رمضان فقال (لا تصوموا حتى تروا الهلال فإن غم عليكم فأقدروا ثلاثين) فأوضح هذا الخبر معنى قوله فأقدروا بما سقط به تأويل المتأولين ويدل على بطلان تأويلهم أيضا ما رواه حماد بن سلمة عن سماك ابن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن حال بينكم وبين منظره سحاب أو قترة فعدوا ثلاثين) فأمرصلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ثلاثين مع جواز الرؤية لو لم يحل بيننا وبينه سحاب أو قترة ولم يوجب الرجوع إلى قول من يقول لو لم يحل بيننا وبينه حائل من سحاب أو غيره لرأيناه وقد روى في ذلك أيضا ما هو أوضح من هذا وهو ما حدثنا عبد الله بن جعفر بن أحمد بن فارس قال حدثنا يونس بن حبيب قال حدثنا أبو داود الطيالسي قال حدثنا أبو عوانة عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال صوموا رمضان لرؤيته فإن حال بينكم غمامة أو ضبابة فأكملوا عدة شهر شعبان ثلاثين ولا تستقبلوا رمضان بصوم يوم من شعبان فأوجب عد شعبان ثلاثين عند حدوث الحائل بيننا وبين رؤيته من سحاب أو نحوه فالقائل باعتبار منازل القمر وحساب المنجمين خارج عن حكم الشريعة* وليس هذا القول مما يسوغ الاجتهاد فيه لدلالة الكتاب ونص السنة وإجماع الفقهاء بخلافه وقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين) هو أصل في اعتبار الشهر ثلاثين

٢٥٠

ثلاثين إلا أن يرى قبل ذلك الهلال فإن كل شهر غم علينا هلاله فعلينا أن نعده ثلاثين هذا في سائر الشهور التي يتعلق بها الأحكام وإنما يصير إلى أقل من ثلاثين برؤية الهلال ولذلك قال أصحابنا من أجر داره عشرة أشهر وهو في بعض الشهر أنه يكون تسعة أشهر بالأهلة وشهر ثلاثين يوما يكمل الشهر الأول من آخر شهر بمقدار نقصانه لأن الشهر الأول ابتداؤه بغير هلال فاستوفى له ثلاثين يوما وسائر الشهور بالأهلة فلم يعتبر غيرها وقالوا لو أجره في أول الشهر لكانت كلها بالأهلة* وقد اختلف في الشهادة على رؤية الهلال فقال أصحابنا جميعا تقبل في رؤية هلال رمضان شهادة رجل عدل إذا كان في السماء علة وإن لم تكن في السماء علة لم يقبل إلا شهادة الجماعة الكثيرة التي يوجب خبرها العلم وقد حكى عن أبى يوسف أنه حد في ذلك خمسين رجلا وكذلك هلال شوال وذي الحجة إذا لم يكن بالسماء علة فإن كان بالسماء علة لم يقبل فيها إلا شاهد عدلين يقبل مثلهما في الحقوق وقال مالك والثوري والأوزاعى والليث والحسن بن حي وعبيد الله لا يقبل في هلال رمضان وشوال إلا شهادة عدلين وقال المزني عن الشافعى إن شهد على رؤية هلال رمضان عدل واحد رأيت أن أقبله للأثر فيه والاحتياط والقياس في ذلك أن لا يقبل إلا شاهدان ولا أقبل على رؤية هلال الفطر إلا عدلين* قال أبو بكر إنما اعتبر أصحابنا إذا لم يكن بالسماء علة شهادة الجمع الكثير الذين يقع العلم بخبرهم لأن ذلك فرض قد عمت الحاجة إليه والناس مأمورون بطلب الهلال فغير جائز أن يطلبه الجمع الكثير ولا علة بالسماء مع توافي هممهم وحرصهم على رؤيته ثم يراه النفر اليسير منهم ولا يراه الباقون مع صحة أبصارهم وارتفاع الموانع عنهم فإذا أخبر بذلك النفر اليسير منهم دون كافتهم علمنا أنهم غالطون غير مصيبين فإما أن يكونوا رأوا خيالا فظنوه هلالا أو تعمدوا الكذب إذ جواز ذلك عليهم غير ممتنع وهذا أصل صحيح تقتضي العقول بصحته وعليه مبنى أمر الشريعة والخطأ فيه يعظم ضرره ويتوصل به الملحدون إلى إدخال الشبهة على الأغمار والحشو وعلى من لم يتيقن ما ذكرنا من الأصل* ولذلك قال أصحابنا ما كان من أحكام الشريعة بالناس حاجة إلى معرفته فسبيل ثبوته الاستفاضة والخبر الموجب للعلم وغير جائز إثبات مثله بأخبار الآحاد نحو إيجاب الوضوء من مس الذكر ومس المرأة والوضوء مما مست النار والوضوء مع عدم تسمية الله عليه فقالوا لما كانت البلوى

٢٥١

عامة من كافة الناس بهذه الأمور ونظائرها فغير جائز أن يكون فيه حكم الله تعالى من طريق التوقيف إلا وقد بلغ النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك ووقف الكافة عليه وإذا عرفته الكافة فغير جائز عليها ترك النقل والاقتصار على ما ينقله الواحد منهم بعد الواحد لأنهم مأمورون بنقله وهم الحجة على ذلك المنقول إليهم وغير جائز لها تضييع موضع الحجة فعلمنا بذلك أنه لم يكن من النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم توقيف في هذه الأمور ونظائرها وجائز أن يكون كان منه قول يحتمل المعاني فحمله الناقلون الأفراد على الوجه الذي ظنوه دون الوجه الآخر نحو الوضوء من مس الذكر يحتمل غسل اليد على نحو قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (إذا استيقظ أحدكم من منامه فليغسل يده ثلاثا قبل أن يدخلها في الإناء فإنه لا يدرى أين باتت يده) وقد بينا أصل ذلك في أصول الفقه وبتضييع هذا الأصل دخلت الشبهة على قوم في انتحالهم القول بأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم نص على رجل بعينه واستخلفه على الأمة وإن الأمة كتمت ذلك وأخفته فضلوا وأضلوا وردوا معظم شرائع الإسلام وادعوا فيه أشياء ليست لها حقيقة ولا ثبات لا من جهة نقل الجماعات ولا من جهة نقل الآحاد وطرقوا للملحدين أن يدعوا في الشريعة ما ليس منها وسهلوا للإسماعيلية والزنادقة السبيل إلى استدعاء الضعفة والأغمار إلى أمر مكتوم زعموا حين أجابوهم إلى تجويز كتمان الإمامة مع عظمها في النفوس وموقعها من القلوب فحين سمحت نفوسهم بالإجابة إلى ذلك وضعوا لهم شرائع زعموا أنها من المكتوم وتأولوها تأويلات زعموا أن ذلك تأويل الإمام فسلخوهم من الإسلام وأدخلوهم في مذهب الخزمية في حال والصابئين في أخرى على حسب ما صادفوا من قبول المستجيبين لهم وسماحة أنفسهم بالتسليم لهم ما ادعوه وقد علمنا أن مجوز كتمان ذلك لا يمكنه إثبات نبوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا تصحيح معجزاته وكذلك سائر الأنبياء لأن مثلهم مع كثرة عددهم واختلاف هممهم وتباعد أوطانهم إذا جاز عليهم كتمان أمر الإمامة فجائز عليهم أيضا التواطؤ على الكذب إذ كان ما يجوز فيه التواطؤ على الكتمان فجائز فيه التواطؤ على وضع خبر لا أصل له فيوجب ذلك أن لا نأمن أن يكون المخبرون بمعجزات النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا متواطئين على ذلك كاذبين فيه كما تواطؤ على كتمان النص على الإمام ومن جهة أخرى أن الناقلين لمعجزات النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم هم الذين زعمت هذه الفرقة الضالة أنها كفرت وارتدت بعد موت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بكتمانها أمر الإمام وأن الذين لم يرتدوا منهم كانوا خمسة أو ستة

٢٥٢

وخبر هذا القدر من العدد لا يوجب العلم ولا تثبت به معجزة وخبر الجم الغفير والجمهور الكثير منهم غير مقبول عندهم لجواز اجتماعهم عندهم على الكذب فصار صحة النقل مقصورة على العدد اليسير فلزمهم دفع معجزات النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وإبطال نبوته* فإن قيل أمر الأذان والإقامة ورفع اليدين في تكبير الركوع وتكبيرات العيدين وأيام التشريق مما عمت البلوى به وقد اختلفوا فيه فكل من يروى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه شيئا فإنما يرويه من طريق الآحاد فلا يخلو حينئذ ذلك من أحد وجهين إما أن يكون لم يكن من النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم توقيف للكافة مع عموم الحاجة إليه وفي هذا ما يبطل أصلك الذي بنيت عليه من أن كل ما بالناس إليه حاجة عامة فلا بد أن يكون من النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم توقيف الأمة عليه أو أن يكون قد كان من النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم توقيف للكافة على شيء بعينه فلم تنقله حين ورد إلينا من طريق الآحاد وفي ذلك هدم قاعدتك أيضا في اعتبار نقل الكافة فيما عمت به البلوى* قيل له هذا سؤال من لم يضبط الأصل الذي بنينا عليه الكلام في المسألة وذلك أنا قلنا ذلك فيما يلزم الكافة ويكونون متعبدين فيه بفرض لا يجوز لهم تركه ولا مخالفته وذلك مثل الإمامة والفروض التي تلزم العامة وأما ما ليس بفرض فهم مخيرون في أن يفعلوا ما شاءوا منه وإنما الخلاف بين الفقهاء فيه في الأفضل منه وليس على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم توقيفهم على الأفضل مما خيرهم فيه وهذا سبيل ما ذكرت من أمر الأذان والإقامة وتكبير العيدين والتشريق ونحوها من الأمور التي نحن مخيرون فيها وإنما الخلاف بين الفقهاء في الأفضل منها فلذلك جاز ورود بعض الأخبار فيه من طريق الآحاد ويحمل الأمر على أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد كان منه جميع ذلك تعليما منه على وجه التخيير وليس ذلك مثل ما قد وقفوا عليه وحظر عليهم مجاوزته وتركه إلى غيره مع بلواهم به فالذي ذكرناه من الخبر عن رؤية الهلال إذا لم تكن بالسماء علة من الأصل الذي قدمنا أن ما عمت به البلوى فسبيل وروده أخبار التواتر الموجبة للعلم وأما إذا كان بالسماء علة فإن مثله يجوز خفاؤه على الجماعة حتى لا يراه منهم إلا الواحد والاثنان من خلل السحاب إذا انجاب عنه لم يستره قبل أن يتبينه الآخرون فلذلك قبل فيه خبر الواحد والاثنين ولم يشترط فيه ما يوجب العلم* وإنما قبل أصحابنا خبر الواحد في هلال رمضان لما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا حماد بن سلمة عن سماك بن حرب عن

٢٥٣

عكرمة عن ابن عباس أنهم شكوا في هلال رمضان مرة فأرادوا أن لا يقوموا ولا يصوموا فجاء أعرابى من الحرة فشهد أنه رأى الهلال فأتى به النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال (أتشهد أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله قال نعم وشهد أنه رأى الهلال فأمر بلالا أن ينادى في الناس فنادى في الناس أن يقوموا وأن يصوموا) قال أبو داود وأن يقوموا كلمة لم يقلها إلا حماد بن سلمة وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمود بن خالد وعبد الله بن عبد الرحمن السمرقندي وأنا بحديثه اتقن قالا حدثنا مروان بن محمد عن عبد الله ابن وهب عن يحيى بن عبد الله بن سالم عن أبى بكر بن نافع عن أبيه عن ابن عمر قال تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنى رأيته فصام وأمر الناس بصيامه وأيضا فإن صوم رمضان فرض يلزم من طريق الدين فإذا تعذر وجود الاستفاضة فيه وجب قبول أخبار الآحاد كأخبار الآحاد المروية عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في أحكام الشرع الذي ليس من شرطه الاستفاضة ولذلك قبلوا خبر المرأة والعبد والمحدود في القذف إذا كان عدلا كما يقبل في الرواية عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم مع ما عاضد القياس من الآثار المروية فيه وأما هلال شوال وذي الحجة فإنهم لم يقبلوا فيه إلا شهادة رجلين عدلين ممن تقبل شهادتهم في الأحكام لما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن عبد الرحيم أبو يحيى البزاز قال أخبرنا سعيد بن سليمان قال حدثنا عباد عن أبى مالك الأشجعى قال حدثنا حسين بن الحرث الجدلي من جديلة قيس أن أمير مكة خطب ثم قال عهد إلينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ننسك لرؤية الهلال فإن لم نره وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما فسألت الحسين بن الحرث من أمير مكة فقال لا أدرى ثم لقيني بعد ذلك فقال هو الحرث بن حاطب أخو محمد بن حاطب ثم قال الأمير إن فيكم من هو أعلم بالله ورسوله منى وشهد هذا من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأومأ بيده إلى رجل قال الحسين فقلت لشيخ إلى جنبي من هذا الذي أومأ إليه الأمير قال عبد الله بن عمر وصدق كان أعلم بالله منه فقال بذلك أمرنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقوله أمرنا أن ننسك لرؤية الهلال إنما هو على صلاة العيد والذبح يوم النحر لوقوع اسم النسك عليهما دون صوم رمضان لأن الصوم لا يتناوله هذا الاسم مطلقا وقد يتناول الصلاة والذبح ألا ترى إلى قوله تعالى( فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) فجعل النسك غير الصيام والدليل على أن النسك يقع على صلاة العيد حديث البراء بن عازب أن

٢٥٤

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يوم النحر(إن أول نسكنا في يومنا هذا الصلاة ثم الذبح) فسمى الصلاة نسكا وقد سمى الله الذبح نسكا في قوله( إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ ) وفي قوله( أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) فثبت بذلك أن قوله عهد إلينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ننسك بشهادة شاهدي عدل قد انتظم صلاة العيد للفطر والذبح يوم النحر فوجب أن لا يقبل فيه أقل من شاهدين ومن جهة أخرى أن الاستظهار بفعل الفرض أولى من الاستظهار بتركه فاستظهروا للفطر بشهادة رجلين لأن الإمساك فيما لا صوم فيه خير من الأكل في يوم الصوم* فإن قيل في هذا ترك الاستظهار لأنه جائز أن يكون يوم الفطر وقد شهد به شاهد فإذا لم تقبل شهادته واعتبرت الاستظهار برجلين فلست تأمن أن تكون صائما يوم الفطر وفيه مواقعة المحظور وضد الاحتياط* قيل له إنما حظر علينا الصوم فيه إذا علمنا أنه يوم الفطر فأما إذا لم يثبت عندنا أنه يوم الفطر فالصيام فيه غير محظور فإذا لم يثبت يوم الفطر ووقفنا بين فعل الصوم وتركه كان فعله أحوط من تركه لما بينا حتى يثبت أنه يوم الفطر بشهادة من يقطع الحقوق بشهادته* وقوله عز وجل( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) يدل على النهى عن صيام يوم الشك من رمضان لأن الشاك غير شاهد للشهر إذ هو غير عالم به فغير جائز له أن يصومه عن رمضان ويدل عليه أيضا قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا شعبان ثلاثين) فحكم لليوم الذي غم علينا هلاله بأنه من شعبان وغير جائز أن يصام شعبان عن رمضان مستقبل ويدل عليه ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا الفضل بن مخلد المؤدب قال حدثنا محمد بن ناصح قال حدثنا بقية عن على القرشي قال أخبرنى محمد بن عجلان عن صالح مولى التوأمة عن أبى هريرة قال نهى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن صوم يوم الدأدأة وهو اليوم الذي يشك فيه لا يدرى من شعبان هو أم من رمضان حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير قال حدثنا أبو خالد الأحمر عن عمرو بن قيس عن أبى إسحاق عن صلة قال كنا عند عمار في اليوم الذي يشك فيه فأتى بشاة فتنحى بعض القوم فقال عمار من صام هذا اليوم فقد عصى أبا القاسمصلى‌الله‌عليه‌وسلم وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا على بن محمد قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا حماد عن محمد بن عمرو عن أبى سلمة عن أبى هريرة قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) ولا تقدموا بين يديه بصيام يوم

٢٥٥

ولا يومين إلا أن يوافق ذلك صوما كان يصومه أحدكم ومعاني هذه الآثار موافقة لدلالة قوله تعالى( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) ولا يرى أصحابنا بأسا بأن يصومه تطوعا لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لما حكم بأنه من شعبان فقد أباح صومه تطوعا وقد اختلف في الهلال يرى نهارا فقال أبو حنيفة ومحمد ومالك والشافعى إذا رأى الهلال نهارا فهو لليلة المستقبلة ولا فرق عندهم بين رؤيته قبل الزوال وبعده وروى مثله عن على بن أبى طالب وابن عمر وعبد الله بن مسعود وعثمان بن عفان وأنس بن مالك وأبى وائل وسعيد ابن المسيب وعطاء وجابر بن زيد وروى عن عمر بن الخطاب فيه روايتان إحداهما أنه إذا رأى الهلال قبل الزوال فهو لليلة الماضية وإذا رآه بعد الزوال فهو لليلة المستقبلة وبه أخذ أبو يوسف والثوري وروى سفيان الثوري عن الركين بن الربيع عن أبيه قال كنت مع سليمان بن ربيعة ببلنجر فرأيت الهلال ضحى فأخبرته فجاء فقام تحت شجرة فنظر إليه فلما رآه أمر الناس أن يفطروا* قال أبو بكر قال الله تعالى( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) وقد كان هذا الرجل مخاطبا بفعل الصوم في آخر رمضان مرادا بقوله تعالى( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ) فواجب أن يكون داخلا في خطاب قوله( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) لأن الله تعالى لم يخص حالا من حال فهو على سائر الأحوال سواء رأى الهلال بعد ذلك أو لم يره ويدل عليه أيضا اتفاق الجميع على أن رؤيته بعد الزوال لم يزل عنه الخطاب بإتمام الصوم بل كان داخلا في حكم اللفظ فكذلك رؤيته قبل الزوال لدخوله في عموم اللفظ ويدل عليه أيضا قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ومعلوم أن مراده صوم يستقبله بعد الرؤية والدلالة على ذلك من وجهين أحدهما استحالة الأمر بصوم يوم ماض والآخر اتفاق المسلمين على أنه إذا رأى الهلال في أخر ليلة من شعبان كان عليه صيام ما يستقبل من الأيام فثبت أن قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم صوموا لرؤيته إنما هو صوم بعد الرؤية فمن رأى الهلال نهارا قبل الزوال في أخر يوم من شعبان لزمه صوم ما يستقبل دون ما مضى لقصور مراد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم على صوم يفعله بعد الرؤية وأيضا قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين) فأوجب بذلك اعتبار الثلاثين لكل شهر يخفى علينا رؤية الهلال فيه فلو احتمل

٢٥٦

الهلال الذي رأى نهارا الليلة الماضية واحتمل الليلة المستقبلة لكان الاحتمال لذلك جاعله في حكم ما خفى علينا رؤيته فواجب أن يعد الشهر ثلاثين يوما بقضية قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن قيل لما قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأفطروا لرؤيته اقتضى ظاهر الأمر بالإفطار أى وقت رأى الهلال فيه فلما اتفق الجميع على أنه مزجور عن الإفطار لرؤيته بعد الزوال خصصناه منه وبقي حكم العموم في رؤيته قبل الزوال قيل له مرادهصلى‌الله‌عليه‌وسلم رؤيته ليلا بدلالة أن رؤيته بعد الزوال لا توجب له الإفطار لأنه رآه نهارا وكذلك حكمه قبل الزوال لوجود هذا المعنى وأيضا لو كان ذلك محمولا على حقيقته لاقتضى أن يكون ما بعد الرؤية من ذلك اليوم من شوال وما قبله من رمضان لحصول اليقين بأن مراده الإفطار لرؤية متقدمة لا لرؤية متأخرة عنه لاستحالة أمره بالإفطار في وقت قد تقدم الرؤية فيوجب ذلك أن يكون ما بعد الرؤية من هذا اليوم من شوال وما قبلها من رمضان فيكون الشهر تسعة وعشرين يوما وبعض يوم* وقد حكم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم للشهر بأحد عددين من ثلاثين أو تسعة وعشرين لقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم الشهر تسعة وعشرون وقوله الشهر ثلاثون واتفقت الأمة على وجوب اعتقاد معنى هذا الخبر في أن الشهر لا ينفك من أن يكون على أحد العددين اللذين ذكرنا وأن الشهور التي تتعلق بها الأحكام لا تكون إلا على أحد وجهين دون أن يكون تسعا وعشرين وبعض يوم وإنما النقصان والزيادة بالكسور إنما يكون في غير الشهور الإسلامية نحو شهور الروم التي منها ما هو ثمانية وعشرون يوما وربع يوم وهو شباط إلا في السنة الكبيسة فإنه يكون تسعة وعشرين يوما ومنها ما هو واحد وثلاثون ومنها ما هو ثلاثون وليس ذلك في الشهور الإسلامية كذلك فلما امتنع أن يكون الشهر إلا ثلاثين يوما أو تسعة وعشرين يوما علمنا أنه لم يرد بقوله صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته إلا أن يرى ليلا وأنه لا اعتبار برؤيته نهارا لإيجابه كون بعض يوم من هذا الشهر وبعضه من شهر غيره وأيضا فإن الذي قال صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته هو الذي قال فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين ورؤيته نهارا في معنى ما قد غمي علينا لاشتباه الأمر في كونه لليلة الماضية أو المستقبلة وذلك يوجب عده ثلاثين وأيضا قد ثبت عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن حال بينكم وبينه سحاب أو قترة فعدوا ثلاثين رواه ابن عباس وقد تقدم ذكر سنده فحكم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم للهلال الذي قد حال بيننا وبينه حائل

٢٥٧

من سحاب بحكم ما لم ير لو لم يكن سحاب مع العلم بأنه لو لم يكن بيننا وبينه حائل من سحاب لرؤى لو لا ذلك لم يكن لقوله فإن حال بينكم وبينه سحاب أو قترة فعدوا ثلاثين معنى لأنه لو كان يستحيل وقوع العلم لنا بأن بيننا وبينه حائلا من سحاب لما قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن حال بينكم وبينه سحاب فعدوا ثلاثين فيجعل ذلك شرطا لعد ثلاثين مع علمه باليأس من وقوع علمنا بذلك وإذا كان ذلك كذلك فقد اقتضى هذا القول من النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنا متى علمنا أن بيننا وبين الهلال حائلا من سحاب لو لم يكن لرأيناه أن نحكم لهذا اليوم بغير حكم الرؤية فاعتبار عدم الرؤية من الليل فيما رأيناه نهارا أولى فأوجب ذلك أن يكون حكم هذا اليوم حكم ما قبله ويكون من الشهر الماضي دون المستقبل لعدم الرؤية من الليل بل هو أضعف أمرا مما حال بيننا وبين رؤيته سحاب لأن ذلك قد يحيط العلم به وهذا لا يحيط علمنا بأنه من الليلة الماضية بل أحاط العلم بأنا لم نره الليلة الماضية مع عدم الحائل بيننا وبينه من سحاب أو غيره والله الموفق للصواب.

باب قضاء رمضان

قال الله تعالى( وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ ) قال الشيخ أبو بكر قد دل ما تلونا من الآية على جواز قضاء رمضان متفرقا من ثلاثة أوجه أحدها أن قوله( فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) قد أوجب القضاء في أيام منكورة غير معينة وذلك يقتضى جواز قضائه متفرقا إن شاء أو متتابعا ومن شرط فيه التتابع فقد خالف ظاهر الآية من وجهين أحدهما إيجاب صفة زائدة غير مذكورة في اللفظ وغير جائز الزيادة في النص إلا بنص مثله ألا ترى أنه لما أطلق الصوم في ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع لم يلزمه التتابع إذ هو غير مذكور فيه والآخر تخصيصه القضاء في أيام غير معينة وغير جائز تخصيص العموم إلا بدلالة والوجه الثاني قوله تعالى( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) فكل ما كان أيسر عليه فقد اقتضى الظاهر جواز فعله وفي إيجاب التتابع نفى اليسر وإثبات العسر وذلك منتف بظاهر الآية والوجه الثالث قوله تعالى( وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ ) يعنى والله أعلم قضاء عدد الأيام التي أفطر فيها وكذلك روى عن الضحاك وعبد الله بن زيد بن أسلم فأخبر الله أن الذي يريده منا إكمال عدد ما أفطر فغير سائغ لأحد أن يشترط فيه غير هذا المعنى لما فيه من

٢٥٨

الزيادة في حكم الآية وقد بينا بطلان ذلك في مواضع* وقد اختلف السلف في ذلك فروى عن ابن عباس ومعاذ بن جبل وأبى عبيدة بن الجراح وأنس بن مالك وأبى هريرة ومجاهد وطاوس وسعيد بن جبير وعطاء قالوا إن شئت قضيته متفرقا وإن شئت متتابعا وروى شريك عن أبى إسحاق عن الحرث عن على قال اقض رمضان متتابعا فإن فرقته أجزأك وروى الحجاج عن أبى إسحاق عن الحرث عن على في قضاء رمضان قال لا يفرق وجائز أن يكون ذلك على وجه الاستحباب وإنه إن فرق أجزأه كما رواه شريك وروى عن ابن عمر في قضاء رمضان صمه كما أفطرته وروى الأعمش عن إبراهيم قال كانوا يقولون قضاء رمضان متتابع وروى مالك عن حميد بن قيس المكي قال كنت أطوف مع مجاهد فسأله رجل عن صيام من أفطر في رمضان أيتابع قلت لا فضرب مجاهد في صدري وقال إنها في قراءة أبى متتابعات وقال عروة بن الزبير يتابع وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والأوزاعى والشافعى إن شاء تابع وإن شاء فرق وقال مالك والثوري والحسن ابن صالح يقضيه متتابعا أحب إلينا وإن فرق أجزأه فحصل من إجماع فقهاء الأمصار جواز قضائه متفرقا وقد قدمنا ذكر دلالة الآية عليه* وقد روى حماد بن سلمة عن سماك ابن حرب عن هارون بن أم هانئ أو ابن بنت هانئ أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ناولها فضل شرابه فشربت ثم قلت يا رسول الله إنى كنت صائمة وإنى كرهت أن أرد سؤرك فقال إن كان من قضاء رمضان فصومي يوما مكانه وإن كان تطوعا فإن شئت فاقضية وإن شئت فلا تقضيه فأمرها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بقضاء يوم مكانه ولم يأمرها باستئناف الصوم إن كان ذلك منه فدل ذلك على معنيين أحدهما أن التتابع غير واجب والثاني أنه ليس بأفضل من التفريق لأنه لو كان أفضل منه لأرشدها النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إليه وبينه لها ومما يدل على ذلك من طريق النظر أن صوم رمضان نفسه غير متتابع وإنما هو في أيام متجاورة وليس التتابع من شرط صحته بدلالة أنه لو أفطر منه يوما لم يلزمه استقبال الصوم وجاز ما صام منه غير متتابع فإذا لم يكن أصله متتابعا فقضاؤه أحرى بأن لا يكون متتابعا ولو كان صوم رمضان متتابعا لكان إذا أفطر منه يوما لزمه التتابع ألا ترى أنه إذا أفطر يوما من الشهرين المتتابعين لزمه استئنافهما* فإن قيل قد أطلق الله تعالى صيام كفارة اليمين غير معقود* بشرط التتابع وقد شرطتم ذاك فيه وزدتم في نص الكتاب* قيل له لأنه قد ثبت أنه

٢٥٩

كان في حرف عبد الله متتابعات وروى يزيد بن هارون قال أخبرنا ابن عون قال سألت إبراهيم عن الصيام في كفارة اليمين فقال كما في قراءتنا فصيام ثلاثة أيام متتابعات وروى أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبى العالية قال كان أبى يقرأها فصيام ثلاثة أيام متتابعات وقد بينا ذلك مستقصى في أصول الفقه* فإن قيل لما قال الله( فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) وكان الأمر عندنا جميعا على الفور وجب أن يلزمه القضاء في أول أحوال الإمكان من غير تأخير وذلك يقتضى تعجيل قضائه يوما بعد يوم وفي وجوب ذلك إلزام التتابع* قيل له ليس كون الأمر على الفور من لزوم التتابع في شيء ألا ترى أن ذلك إنما يلزم على الفور على حسب الإمكان وأنه لو أمكنه صوم أول يوم فصامه ثم مرض فأفطر لم يلزمه من كون الأمر على الفور التتابع ولا استئناف اليوم الذي أفطر فيه فدل ذلك على أن لزوم التتابع غير متعلق بكون الأمر بالقضاء على الفور دون المهلة وأن التتابع له صفة أخرى غيره والله أعلم.

باب في جواز تأخير قضاء رمضان

قال الله تعالى( فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) فأوجب العدة في أيام غير معينة في الآية فقال أصحابنا جائز له أن يصوم أى وقت شاء ولا يحفظ عنهم رواية في جواز تأخيره إلى انقضاء السنة والذي عندي أنه لا يجوز تأخيره إلى أن يدخل رمضان آخر وهو عندي على مذهبهم وذلك لأن الأمر عندهم إذا كان غير موقت فهو على الفور وقد بينا ذلك في أصول الفقه وإذا كان كذلك فلو لم يكن قضاء رمضان موقتا بالسنة لما جاز له التأخير عن ثانى يوم الفطر إذ غير جائز أن يلحقه التفريط بالتأخير من غير علم منه بآخر وقت وجوب الفرض الذي لا يجوز له تأخيره عنه كما لا يجوز ورود العبادة بفرض مجهول عند المأمور ثم يلحقه التعنيف واللوم بتركه قبل البيان لا فرق بينهما وإذا كان كذلك وقد علمنا أن مذهبهم جواز تأخير قضاء رمضان عن أول أوقات إمكان قضائه ثبت أن تأخيره موقت بمضى السنة فكان ذلك بمنزلة وقت الظهر لما كان أوله وآخره معلومين جاز ورود العبادة بفعلها من أوله إلى آخره وجاز تأخيرها إلى الوقت الذي يخاف فوتها بتركها لأن آخر وقتها الذي يكون مفرطا بتأخيرها معلوم وقد روى جواز تأخيره في السنة عن جماعة من السلف وروى يحيى بن سعيد عن أبى سلمة بن عبد الرحمن قال

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411