أحكام القرآن الجزء ١

أحكام القرآن14%

أحكام القرآن مؤلف:
المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 411

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥
  • البداية
  • السابق
  • 411 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 91478 / تحميل: 5990
الحجم الحجم الحجم
أحكام القرآن

أحكام القرآن الجزء ١

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

كان بعضه معطوفا على بعض بالواو غير موجب ترتيب المعنى على ترتيب اللفظ وقوله( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ) قد دل على جواز ورود الأمر بذبح البقرة بقرة مجهولة غير معروفة ولا موصوفة ويكون المأمور مخيرا في ذبح أدنى ما يقع الإسم عليه وقد تنازع معناه الفريقان من نفاة العموم ومن مثبتيه واحتج به كل واحد من الفريقين لمذهبه فأما القائلون بالعموم فاحتجوا به من جهة وروده مطلقا فكان ذلك أمرا لازما في كل واحد من آحاد ما تناوله العموم وأنهم لما تعنتوا رسول الله عليه السلام في المراجعة مرة بعد أخرى شدد الله عليهم التكليف وذمهم على مراجعته بقوله( فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ ) وروى الحسن أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (والذي نفس محمد بيده لو اعترضوا أدنى بقرة فذبحوها لأجزت عنهم ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم) وروى نحو ذلك عن ابن عباس وعبيدة وأبى العالية والحسن ومجاهد واحتج من أبى القول بالعموم بأن الله تعالى لم يعنفهم على المراجعة بدأ ولو كان قد لزمهم تنفيذ ذلك على ما ادعيتموه من اقتضاء عموم اللفظ لورد النكير في بدء المراجعة وهذا ليس بشيء لأن النكير ظاهر عليهم في اللفظ من وجهين أحدهما تغليظ المحنة عليهم وهذا ضرب من النكير كما قال الله تعالى( فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ) والثاني قوله( وَما كادُوا يَفْعَلُونَ ) وهذا يدل على أنهم كانوا تاركين للأمر بدا وأنه كان عليهم المسارعة إلى فعله فقد حصلت الآية على معان أحدها وجوب اعتبار عموم اللفظ فيما يمكن استعماله والثاني أن الأمر على الفور وأن على المأمور المسارعة إلى فعله على حسب الإمكان حتى تقوم الدلالة على جواز التأخير والثالث جواز ورود الأمر بشيء مجهول الصفة مع تخيير المأمور في فعل ما يقع الإسم عليه منه والرابع وجوب الأمر وأنه لا يصار إلى الندب إلا بدلالة إذ لم يلحقهم الذم إلا بترك الأمر المطلق من غير ذكر وعيد والخامس جواز النسخ قبل وقوع الفعل بعد التمكن منه وذلك أن زيادة هذه الصفات في البقرة كل منها قد نسخ ما قبلها لأن قوله تعالى إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة اقتضى ذبح بقرة أيها كانت وعلى أى وجه شاءوا وقد كانوا متمكنين من ذلك فلما قالوا( ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ ) فقال( إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ ) نسخ التخيير الذي أوجبه الأمر الأول في ذبح البقرة الموصوفة بهذه الصفة وذبح غيرها وقصروا على ما كان منها بهذه الصفة وقيل

٤١

لهم افعلوا ما تؤمرون فأبان أنه كان عليهم أن يذبحوا من غير تأخير على هذه الصفة أى لون كانت وعلى أى حال كانت من ذلول أو غيرها فلما قالوا( ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها ) نسخ التخيير الذي كان في ذبح أى لون شاءوا منها وبقي التخيير في الصفة الأخرى من أمرها فلما راجعوا نسخ ذلك أيضا وأمروا بذبحها على الصفة التي ذكر واستقر الفرض عليها بعد تغليظ المحنة وتشديد التكليف وهذا الذي ذكرنا في أمر النسخ دل على أن الزيادة في النص بعد استقرار حكمه يوجب نسخه لأن جميع ما ذكرنا من الأوامر الواردة بعد مراجعة القوم إنما كان زيادة في نص كان قد استقر حكمه فأوجب نسخه ومن الناس من يحتج بهذه القصة في جواز نسخ الفرض قبل مجيء وقته لأنه قد كان معلوما أن الفرض عليهم بدأ قد كان بقرة معينة فنسخ ذلك عنهم قبل مجيء وقت الفعل وهذا غلط لأن كل فرض من ذلك قد كان وقت فعله عقيب ورود الأمر في أول أحوال الإمكان واستقر الفرض عليهم وثبت ثم نسخ قبل الفعل فلا دلالة فيه إذا على جواز النسخ قبل مجيء وقت الفعل وقد بينا ذلك في أصول الفقه والسادس دلالة قوله( لافارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ ) على جواز الاجتهاد واستعمال غالب الظن في الأحكام إذ لا يعلم أنها بين البكر والفارض إلا من طريق الاجتهاد والسابع استعمال الظاهر مع تجويز أن يكون في الباطن خلافه بقوله( مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها ) يعنى والله أعلم مسلمة من العيوب بريئة منها وذلك لا نعلمه من طريق الحقيقة وإنما نعلمه من طريق الظاهر مع تجويز أن يكون بها عيب باطن والثامن ما حكى الله عنهم في المراجعة الأخيرة( وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ ) لما قرنوا الخبر بمشيئة الله وفقوا لترك المراجعة بعدها ولوجود ما أمروا به وقد روى أنهم لو لم يقولوا إن شاء الله لما اهتدوا لها أبدا ولدام الشر بينهم وكذلك قوله( وَما كادُوا يَفْعَلُونَ ) فأعلمنا الله ذلك لنطلب نجح الأمور عند الأخبار عنها في المستقبل بذكر الاستثناء الذي هو مشيئة الله وقد نص الله تعالى لنا في غير هذا الموضع على الأمر به في قوله( وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ) ففيه استعانة بالله وتفويض الأمر إليه والاعتراف بقدرته ونفاذ مشيئته وأنه مالكه والمدبر له والتاسع دلالة قوله( أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ ) على أن المستهزئ يستحق سمة الجهل لانتفاء موسى عليه السلام أن يكون من أهل الجهل بنفيه الاستهزاء عن نفسه

٤٢

ويدل أيضا على أن الاستهزاء بأمر الدين من كبائر الذنوب وعظائمها لو لا ذلك لم يبلغ مأثمة النسبة إلى الجهل وذكر محمد بن مسعر أنه تقدم إلى عبيد الله بن الحسن العنبري القاضي قال وعلى جبة صوف وكان عبيد الله كثير المزح قال فقال له أصوف نعجة جبتك أم صوف كبش فقلت له لا تجهل أبقاك الله قال وإنى وجدت المزاح جهلا فتلوت عليه أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين قال فأعرض واشتغل بكلام آخر وفيه دلالة على أن موسى عليه السلام لم يكن متعبدا بقتل من ظهر منه الكفر وإنما كان مأمورا بالنظر بالقول لأن قولهم لنبي الله أتتخذنا هزوا كفر وهو كقولهم لموسى( اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ ) ويدل على أن كفرهم هذا لم يوجب فرقة بين نسائهم وبينهم لأنه لم يأمرهم بفراقهن ولا تقرير نكاح بينهم وبينهن وقوله تعالى( وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) يدل على أن ما يسره العبد من خير وشر ودام ذلك منه إن الله سيظهره وهو كما روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم (أن عبدا لو أطاع الله من وراء سبعين حجابا لأظهر الله له ذلك على ألسنة الناس وكذلك المعصية) وروى أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام قل لبنى إسرائيل يخفوا لي أعمالهم وعلى أن أظهرها وقوله تعالى( وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) عام والمراد خاص لأن كلهم ما علموا بالقاتل بعينه ولذلك اختلفوا وجائز أن يكون قوله( وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) عاما في سائر الناس لأنه كلام مستقل بنفسه وهو عاما فيهم وفي غيرهم وفي هذه القصة سوى ما ذكرنا حرمان ميراث المقتول روى أبو أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة السلماني أن رجلا من بنى إسرائيل كان له ذو قرابة وهو وارثه فقتله ليرثه ثم ذهب فألقاه على باب قوم آخرين وذكر قصة البقرة وذكر بعدها فلم يورث بعدها قاتل* وقد اختلف في ميراث القاتل وروى عن عمر وعلى وابن عباس وسعيد بن المسيب أنه لا ميراث له سواء كان القتل عمدا أو خطأ وأنه لا يرث من ديته ولا من سائر ماله وهو قول أبى حنيفة والثوري وأبى يوسف ومحمد وزفر إلا أن أصحابنا قالوا إن كان القاتل صبيا أو مجنونا ورث وقال عثمان البتى قاتل الخطأ يرث دون قاتل العمد وقال ابن شبرمة لا يرث قاتل الخطأ وقال ابن وهب عن مالك لا يرث القاتل عمدا من دية من قتل شيئا ولا من ماله وإن قتله خطأ ورث من ماله ولم يرث من ديته وروى مثله عن الحسن ومجاهد والزهري وهو قول الأوزاعى وقال المزني عن الشافعى إذا قتل الباغي العادل

٤٣

أو العادل الباغي لا يتوارثان لأنهما قاتلان* قال أبو بكر لم يختلف الفقهاء في أن قاتل العمد لا يرث المقتول إذا كان بالغا غافلا بغير حق واختلف في قاتل الخطأ على الوجوه التي ذكرنا وقد حدثنا عبد الباقي قال حدثنا أحمد بن محمد بن عنبسة بن لقيط الضبي قال حدثنا على بن حجر قال حدثنا إسماعيل بن عياش عن ابن جريج والمثنى ويحيى بن سعيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (ليس للقاتل من الميراث شيء) وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا موسى بن زكريا التستري قال حدثنا سليمان بن داود قال حدثنا حفص بن غياث عن الحجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عمر ابن الخطاب عن النبي عليه السلام قال (ليس للقاتل شيء) وروى الليث عن إسحاق بن عبد الله بن أبى فروة عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبى هريرة قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (القاتل لا يرث) وروى يزيد بن هارون قال حدثنا محمد بن راشد عن مكحول قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (القاتل عمدا لا يرث من أخيه ولا من ذي قرابته شيئا ويرث أقرب الناس إليه نسبا بعد القاتل) وروى حصن بن ميسرة قال حدثني عبد الرحمن بن حرملة عن عدى الجذامي قال قلت يا رسول الله كانت لي امرأتان فاقتتلتا فرميت إحداهما فقال أعقلها ولا ترثها فثبت بهذه الأخبار حرمان القاتل ميراثه من سائر مال المقتول وأنه لا فرق في ذلك بين العامد والمخطئ لعموم لفظ النبي عليه السلام فيه وقد استعمل الفقهاء هذا الخبر وتلقوه بالقبول فجرى مجرى التواتركقوله عليه السلام (لا وصية لوارث) وقوله [لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها] وإذا اختلف البيعان فالقول ما قاله البائع أو يترادان وما جرى مجرى ذلك من الأخبار التي مخرجها من جهة الأفراد وصارت في حيز التواتر لتلقى الفقهاء لها بالقبول من استعمالهم إياها فجاز تخصيص آية المواريث بها ويدل على تسوية حكم العامد والمخطئ في ذلك ما روى عن على وعمر وابن عباس من غير خلاف من أحد من نظرائهم عليهم وغير جائز فيما كان هذا وصفه من قول الصحابة في شيوعه واستفاضته أن يعترض عليه بقول التابعين ولما وافق مالك على أنه لا يرث من ديته وجب أن يكون ذلك حكم سائر ماله من وجوه أحدها أن ديته ماله وميراث عنه بدليل أنه تقتضي منها ديونه وتنفذ منها وصاياه ويرثها سائر ورثته على فرائض الله تعالى كما يرثون سائر أمواله فلما اتفقوا على أنه لا يرث من ديته كان ذلك

٤٤

حكم سائر ماله في الحرمان كما أنه إذا ورث من سائر ماله ورث من ديته فمن حيث كان حكم سائر ماله حكم ديته في الاستحقاق وجب أن يكون حكم سائر ماله حكم ديته في الحرمان إذا كان الجميع مستحقا على سهام ورثته وأنه مبدوء به في الدين على الميراث ومن جهة أخرى أنه لما ثبت أنه لا يرث من ديته لما اقتضاه الأثر وجب أن يكون حكم سائر ماله كذلك لأن الأثر لم يفصل في وروده بين شيء من ذلك وقال مالك إنما ورث قاتل الخطأ من سائر ماله سوى الدية لأنه لا يتهم أن يكون قتله ليرثه وهذه العلة موجودة في ديته لأنها من التهمة أبعد فواجب على مقتضى علته أن يرث من ديته ومن جهة أخرى أنهم لا يختلفون في قاتل العمد وشبه العمد أنه لا يرث سائر ماله كما لا يرث من دينه إذا وجبت فوجب أن يكون ذلك حكم قاتل الخطأ لاتفاقهما في حرمان الميراث من ديته وأيضا إذا كان قتل العمد وشبه العمد إنما حرما الميراث للتهمة في إحراز الميراث بقتله فهذا المعنى موجود في قتل الخطأ لأنه يجوز أن يكون إنما أظهر رمى غيره وهو قاصد به قتله لئلا يقاد منه ولا يحرم الميراث فلما كانت التهمة موجودة من هذا الوجه وجب أن يكون في معنى العمد وشبهه وأيضا توريثه بعض الميراث دون بعض خارج من الأصول لأن فيها أن من ورث بعض تركة ورث جميعها ومن حرم بعضها حرم جميعها وإنما قال أصحابنا إن الصبى والمجنون لا يحرمان الميراث بالقتل من قبل أنهما غير مكلفين وحرمان الميراث على وجه العقوبة في الأموال فأجرى قاتل الخطأ مجراه وإن لم يستحق العقاب بقتل الخطأ تغليظا لأمر الدم ويجوز أن يكون قد قصد القتل برميه أو بضربه وأنه أوهم أنه قاصد لغيره فأجرى في ذلك مجرى من علم منه ذلك والصبى والمجنون على أى وجه كان منهما ذلك لا يستحقان الدم قال النبي عليه السلام (رفع القلم عن ثلاث عن النائم حتى ينتبه وعن المجنون حتى يفيق وعن الصبى حتى يحتلم) * قال أبو بكر رحمه الله فظاهر هذا الخبر يقتضى سقوط حكم قتله رأسا من سائر الوجوه ولو لا قيام الدلالة لما وجبت الدية أيضا* فإن قيل فإنه يحرم النائم الميراث إذا انقلب على صبي فقتله* قيل له هو مثل قاتل الخطأ يجوز أن يكون أظهر أنه نائم ولم يكن نائما في الحقيقة أما قول الشافعى في العادل إذا قتل الباغي حرم الميراث فلا وجه له لأنه قتله بحق وقد كان الباغي مستحقا للقتل فغير جائز أن يحرم الميراث ولا نعلم خلافا أن من وجب له القود على

٤٥

إنسان فقتله قودا إنه لا يحرم الميراث وأيضا فلو كان قتل العادل الباغي يحرمه الميراث لوجب أنه إذا كان محاربا فاستحق القتل حدا أن لا يكون ميراثه لجماعة المسلمين لأن الإمام قام مقام الجماعة في إجراء الحكم عليه فكأنه قتلوه فلما كان المسلمون هم المستحقين لميراث من ذكرنا أمره وإن كان الإمام قام مقامهم في قتله ثبت بذلك أن من قتل بحق لا يحرم قاتله ميراثه وقال أصحابنا في حافر البئر وواضع الحجر في الطريق إذا عطب به إنسان أنه لا يحرم الميراث لأنه غير قاتل في الحقيقة إذ لم يكن فاعلا للقتل ولا لسبب اتصل بالمقتول والدليل على ذلك أن القتل على ثلاثة أوجه عمدا وخطأ وشبه العمد وحافر البئر وواضع الحجر خارج عن ذلك فإن قيل حفر البئر ووضع الحجر سبب للقتل كالرامي والجارح أنهما قاتلان لفعلهما السبب قيل له الرمي وما تولد منه من مرور السهم هو فعله وبه حصل القتل وكذلك الجرح فعله فصار قاتلا به لاتصال فعله للمقتول وعثار الرجل بالحجر ووقوعه في البئر ليس من فعله فلا يجوز أن يكون به قاتلا وقوله تعالى( أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) يدل على أن العالم بالحق المعاند فيه أبعد من الرشد وأقرب إلى اليأس من الصلاح من الجاهل لأن قوله تعالى( أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ ) يفيد زوال الطمع في رشدهم لمكابرتهم الحق بعد العلم به وقوله تعالى( وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً ) قيل في معنى معدودة أنها قليلة كقوله( وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ ) أى قليلة وقال ابن عباس وقتادة في قوله أياما معدودة أنها أربعون يوما مقدار ما عبدوا العجل وقال الحسن ومجاهد سبعة أيام وقال تعالى( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ ) فسمى أيام الصوم في هذه الآية معدودات وأيام الشهر كله وقد احتج شيوخنا لأقل مدة الحيض وأكثره أنها ثلاثة وعشرة بقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم (المستحاضة تدع الصلاة أيام إقرائها) وفي بعض الألفاظ (دعى الصلاة أيام حيضك) واستدلوا بذلك على أن مدة الحيض تسمى أياما وأقلها ثلاثة وأكثرها عشرة لأن ما دون الثلاثة يقال يوم أو يومان وما زاد على العشرة يقال فيه أحد عشر يوما وإنما يتناول هذا الاسم ما بين الثلاثة إلى العشرة فدل ذلك على مقدار أقله وأكثره فمن الناس من يعترض على هذا الاستدلال بقوله( أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ ) وهي أيام الشهر وقوله( إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً ) وقد قيل

٤٦

فيه أربعون يوما وهذا عندنا لا يقدح في استدلالهم لأن قوله تعالى أياما معدودات جائز أن يريد به أياما قليلة كقوله( دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ ) يعنى قليلة ولم يرد به تحديد العدد وتوقيت مقداره وإنما المراد به أنه لم يفرض عليهم من الصوم ما يشتد ويصعب ويحتمل أن يريد به وقتا مبهما كقولهم أيام بنى أمية وأيام الحجاج ولا يراد به تحديد الأيام وإنما المراد به زمان ملكهم وقوله عليه السلام (دعى الصلاة أيام إقرائك) قد أريد به لا محالة تحديد الأيام إذ لا بد من أن يكون للحيض وقت معين مخصوص لا يتجاوزه ولا يقصر عنه فمتى أضيف ذكر الأيام إلى عدد مخصوص يتناول إما بين الثلاثة إلى العشرة* وقوله تعالى( بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) قد عقل منه استحقاق النار بما يكسب من السيئة وإحاطتها به فكان الجزاء مستحقا بوجود الشرطين غير مستحق بوجود أحدهما وهذا يدل على أن من عقد اليمين على شرطين في عتاق أو طلاق أو غيرهما أنه لا يحنث بوجود أحدهما دون وجود الآخر قوله تعالى( وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ) يدل على تأكيد حق الوالدين ووجوب الإحسان إليهما كافرين كانا أو مؤمنين لأنه قرنه إلى الأمر بعبادته تعالى وقوله( وَذِي الْقُرْبى ) يدل على وجوب صلة الرحم والإحسان إلى اليتامى والمساكين( وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً ) روى عن أبى جعفر محمد بن على وقولوا للناس حسنا كلهم * قال أبو بكر وهذا يدل على أنهم كانوا متعبدين بذلك في المسلم والكافر وقد قيل أن ذلك على معنى قوله تعالى( ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) والإحسان المذكور في الآية إنما هو الدعاء إليه والنصح فيه لكل أحد وروى عن ابن عباس وقتادة أنها منسوخة بالأمر بالقتال وقد قال تعالى( لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ ) وقد أمر الله تعالى بلعن الكفار والبراءة منهم والإنكار على أهل المعاصي وهذا مما لا يختلف فيه شرائع الأنبياء عليهم السلام فدل ذلك على أن المأمور به من القول الحسن أحد وجهين إما أن يكون ذلك خاصا في المسلمين ومن لا يستحق اللعن والنكير وإن كان عاما فهو الدعاء إلى الله تعالى والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وذلك كله حسن وأخبرنا الله تعالى أنه كان أخذ الميثاق على بنى إسرائيل بما ذكر والميثاق وهو العقد المؤكد إما بوعيد أو بيمين وهو نحو أمر الله الصحابة بمبايعة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم على

٤٧

شرائطها المذكورة* وقوله تعالى( وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ) يحتمل وجهين أحدهما لا يقتل بعضكم بعضا كقوله تعالى( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) وكذلك أخراهم من ديارهم وكقوله( وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا ) والآخر أن لا يقتل كل واحد نفسه إما بأن يباشر ذلك كما يفعله الهند وكثير ممن يغلب عليه اليأس من الخلاص عند شدة هو فيها أو بأن يقتل غيره فيقتل به فيكون في معنى قتل نفسه واحتمال اللفظ المعنيين يوجب أن يكون عليهما جميعا وهذا الذي أخبر الله به من حكم شريعة التوراة مما كان يكتمه اليهود لما عليهم في ذلك الوكس ويلزمهم في ذلك من الذم فأطلع الله نبيه عليه وجعله دلالة وحجة عليهم في جحدهم نبوته إذ لم يكن عليه السلام ممن قرأ الكتب ولا عرف ما فيها إلا بإعلام الله تعالى إياه وكذلك جميع ما حكى الله بعد هذه الآية عنهم من قوله( وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ) وسائر ما ذمهم هو توقيف منه له على ما كانوا يكتمون وتقريع لهم على ظلمهم وكفرهم وإظهار قبائحهم وجميعه دلالة على نبوته عليه السلام* وقوله تعالى( وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ) دال على أن فداء أساراهم كان واجبا عليهم وكان إخراج فريق منهم من ديارهم محرما عليهم فإذا أسر بعضهم عدوهم كان عليهم أن يفادوهم فكانوا في إخراجهم كافرين ببعض الكتاب لفعلهم ما حظره الله عليهم وفي مفاداتهم مؤمنين ببعض الكتاب بقيامهم بما أوجبه الله عليهم وهذا الحكم من وجوب مفاداة الأسارى ثابت علينا روى الحجاج بن أرطاة عن الحكم عن جده أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كتب كتابا بين المهاجرين والأنصار أن يعقلوا معاقلهم ويفدوا اعانيهم بالمعروف والإصلاح بين المسلمين وروى منصور عن شقيق بن سلمة عن أبى موسى الأشعرى قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (أطعموا الطعام وأفشوا السلام وعودوا المريض وفكوا العاني) فهذان الخبران يدلان على فكاك الأسير لأن العاني هو الأسير وقد روى عمران بن حصين وسلمة بن الأكوع أن النبي عليه السلام فدى أسارى من المسلمين بالمشركين وروى الثوري عن عبد الله بن شريك عن بشر بن غالب قال سئل الحسين بن على عليهما السلام على من فدى الأسيرى قال على الأرض التي يقاتل عنها * قوله تعالى( قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) وى أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم

٤٨

قال لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا أو لرأوا مقاعدهم من النار ولو خرج الذين يباهلون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا وقال ابن عباس لو تمنوا الموت لشرقوا به ولماتوا وقيل في تمنى الموت وجهان أحدهما قول ابن عباس أنهم تحدوا بأن يدعوا بالموت على أن الفريقين كان كاذبا وقال أبو العالية وقتادة والربيع بن أنس لما قالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى وقالوا نحن أبناء الله وأحباؤه قيل لهم فتمنوا الموت فمن كان بهذه الصفة فالموت خير له من الحياة في الدنيا فتضمنت الآية معنيين أحدهما إظهار كذبهم وتبكيتهم به والثاني الدلالة على نبوة النبي عليه السلام وذلك أنه تحداهم بذلك كما أمر الله تعالى بتحدى النصارى بالمباهلة فلو لا علمهم بصدقهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذبهم لسارعوا إلى تمنى الموت ولسارعت النصارى إلى المباهلة لا سيما وقد أخبر الفريقين أنهم لو فعلوا ذلك لنزل الموت والعذاب بهم وكان يكون في إظهارهم التمني والمباهلة تكذيب له ودحض لحجته إذا لم ينزل بهم ما أوعدهم فلما أحجموا عن ذلك مع التحدي والوعيد مع سهولة هذا القول دل ذلك على علمهم بصحة نبوته بما عرفوه من كتبهم من نعته وصفته كما قال تعالى( وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ) فيه دلالة أخرى على صحة نبوته وهو إخبارهم أنهم لا يتمنون الموت مع خفة التمني وسهولته على المتلفظ وسلامة ألسنتهم فكان ذلك بمنزلة لو قال لهم الدلالة على صحة نبوتي أن أحدا منكم لا يمس رأسه مع صحة جوارحه وأنه إن مس أحد منكم رأسه فأنا مبطل فلا يمس أحدا منهم رأسه مع شدة عداوتهم له وحرصهم على تكذيبه ومع سلامة أعضائهم وصحة جوارحهم فيعلم بذلك أنه من عند الله تعالى من وجهين أحدهما أن عاقلا لا يتحدى أعداء بمثله مع علمه بجواز وقوع ذلك منهم والثاني أنه إخبار بالغيب إذ لم يتمن واحد منهم الموت وكون مخبره على ما أخبر به وهذا كقوله حين تحداهم بالقرآن وقرعهم بالإتيان بسورة مثله وإخباره أنهم لا يفعلون بقوله( فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا ) فإن قال قائل أنهم لم يتمنوا لأنهم لو تمنوا لكان ذلك ضميرا مغيبا علمه عن الناس وكان يمكنه أن يقول إنكم قد تمنيتم بقلوبكم* قيل له هذا يبطل من وجهين أحدهما أن للمتمنى صيغة معروفة عند العرب وهو قول القائل ليت الله غفر لي وليت زيدا قدم وما جرى هذا المجرى وهو أحد أقسام الكلام ومتى قال ذلك قائل كان ذلك عندهم متمنيا من غير اعتبار لضميره واعتقاده كقولهم في الخبر والاستخبار والنداء

٤٩

ونحو ذلك من أقسام الكلام والتحدي بتمني الموت إنما توجه إلى العبارة التي في لغتهم إنها تمن والوجه الآخر أنه يستحيل أن يتحداهم عند الحاجة والتكذيب والتوقيف على علمهم بصحة نبوته وبهتهم ومكابرتهم في أمره فيتحداهم بأن يتمنوا ذلك بقلوبهم مع علم الجميع بأن التحدي بالضمير لا يعجز عنه أحد فلا يدل على صحة مقالة ولا فسادها وأن المتحدى بذلك يمكنه أن يقول قد تمنيت بقلبي ذلك ولا يمكن خصمه إقامة الدليل على كذبه وأيضا فلو انصرف ذلك إلى التمني بالقلب دون العبارة باللسان لقالوا قد تمنينا ذلك بقلوبنا فكانوا مساوين له فيه ويسقط بذلك دلالته على كذبهم وعلى صحة نبوته فلما لم يقولوا ذلك لأنهم لو قالوه لنقل كما لو عارضوا القرآن بأى كلام كان لقل فعلم أن التحدي وقع بالتمني باللفظ والعبارة دون الضمير والاعتقاد.

باب السجود وحكم الساحر

قال الله تعالى( وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ ) إلى آخر القصة قال أبو بكر الواجب أن نقدم القول في السحر لخفائه على كثير من أهل العلم فضلا عن العامة ثم نعقبه بالكلام في حكمه في مقتضى الآية في المعاني والأحكام فنقول إن أهل اللغة يذكرون أن أصله في اللغة لما لطف وخفى سببه والسحر عندهم بالفتح هو الغذاء لخفائه ولطف مجاريه قال لبيد :

أرنا موضعين لأمر غيب

ونسحر بالطعام وبالشراب

قيل فيه وجهان نعلل ونخدع كالمسحور والمخدوع والآخر نغذي وأى الوجهين كان فمعناه الخفاء وقال آخر :

فإن تسألينا فيم نحن فإننا

عصافير من هذا الأنام المسحر

وهذا البيت يحتمل من المعنى ما احتمله الأول ويحتمل أيضا أنه أراد بالمسحر أنه ذو سحر والسحر الرئة وما يتعلق بالحلقوم وهذا يرجع إلى معنى الخفاء ومنه قول عائشة توفى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بين سحري ونحرى وقوله تعالى( إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ) يعنى من المخلوق الذي يطعم ويسقى ويدل عليه قوله تعالى( وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا ) وكقوله تعالى( ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ ) ويحتمل أنه ذو سحر مثلنا وإنما يذكر السحر في مثل هذه المواضع لضعف هذه الأجساد ولطافتها ورقتها وبها مع ذلك قوام

٥٠

الإنسان فمن كان بهذه الصفة فهو ضعيف محتاج وهذا هو معنى السحر في اللغة ثم نقل هذا الإسم إلى كل أمر خفى سببه وتخيل على غير حقيقته ويجرى مجرى التمويه والخداع ومتى أطلق ولم يقيد أفاد ذم فاعله وقد أجرى مقيدا فيما يمتدح ويحمد روى (أن من البيان لسحرا) حدثنا عبد الباقي قال حدثنا إبراهيم الحراني قال حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا حماد بن زيد عن محمد بن الزبير قال قدم على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم الزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم وقيس بن عاصم فقال لعمرو خبرني عن الزبرقان فقال مطاع في ناديه شديد العارضة مانع لما وراء ظهره فقال الزبرقان هو والله يعلم أنى أفضل منه فقال عمرو إنه زمر المروءة ضيق العطن أحمق الأب لئيم الخال يا رسول الله صدقت فيهما أرضانى فقلت أحسن ما علمت واسخطنى فقلت أسوأ ما علمت فقال عليه السلام (إن من البيان لسحرا) وحدثنا إبراهيم الحراني قال حدثنا مصعب بن عبد الله قال حدثنا مالك بن أنس عن زيد بن أسلم عن ابن عمر قال قدم رجلان فخطب أحدهما فعجب الناس لذلك فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (إن من البيان لسحرا) قال وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن يحيى بن فارس قال حدثنا سعيد بن محمد قال حدثنا أبو تميلة قال حدثنا أبو جعفر النحوي عبد الله بن ثابت قال حدثني صخر بن عبد الله بن بريدة عن أبيه عن جده قال سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول (إن من البيان لسحرا وإن من العلم جهلا وإن من الشعر حكما وإن من القول عيالا) قال صعصعة بن صوحان صدق نبي الله أما قوله إن من البيان لسحرا فالرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق وأما قوله من العلم جهلا فيتكلف العالم إلى علمه ما لا يعلمه فيجهله ذلك وأما قوله إن من الشعر حكما فهي هذه الأمثال والمواعظ التي يتعظ بها الناس وأما قوله إن من القول عيالا فعرضك كلامك وحديثك على من ليس من شأنه ولا يريده فسمى النبي عليه السلام بعض البيان سحرا لأن صاحبه بين أن ينبئ عن حق فيوضحه ويجليه بحسن بيانه بعد أن كان خفيا فهذا من السحر الحلال الذي أقر النبي عليه السلام عمر بن الأهتم عليه ولم يسخطه منه وروى أن رجلا تكلم بكلام بليغ عند عمر بن عبد العزيز فقال عمر هذا والله السحر الحلال وبين أن يصور الباطل في صورة الحق ببيانه ويخدع السامعين بتمويهه ومتى أطلق فهو اسم لكل أمر مموه باطل لا حقيقة له ولا ثبات

٥١

قال الله تعالى( سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ ) يعنى موهوا عليهم حتى ظنوا أن حبالهم وعصيهم تسعى وقال( يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى ) فأخبر أن ما ظنوه سعيا منها لم يكن سعيا وإنما كان تخييلا وقد قيل إنها كانت عصيا مجوفة قد ملئت زئبقا وكذلك الحبال كانت معمولة من أدم محشوة زئبقا وقد حفروا قبل ذلك تحت المواضع أسرابا وجعلوا آزاجا وملؤها نارا فلما طرحت عليه وحمى الزئبق حركها لأن من شأن الزئبق إذا أصابته النار أن يطير فأخبر الله أن ذلك كان مموها على غير حقيقة والعرب تقول لضرب من الحلي مسحور أى مموه على من رآه مسحور به عينه فما كان من البيان على حق ويوضحه فهو من السحر الحلال وما كان منه مقصودا به إلى تمويه وخديعة وتصوير باطل في صورة الحق فهو من السحر المذموم فإن قيل إذا كان موضوع السحر التمويه والإخفاء فكيف يجوز أن يسمى ما يوضح الحق وينبئ عنه سحرا وهو إنما أظهر بذلك ما خفى ولم يقصد به إلى إخفاء ما ظهر وإظهاره غير حقيقة قيل له سمى ذلك سحرا من حيث كان الأغلب في ظن السامع أنه لو ورد عليه المعنى بلفظ مستنكر غير مبين لما صادف منه قبولا ولا أصغى إليه ومتى سمع المعنى بعبارة مقبولة عذبة لا فساد فيها ولا استنكار وقد تأتى لها بلفظه وحسن بيانه بما لا يتأتى له الغبي الذي لا بيان له أصغى إليه وسمعه وقبله فسمى استمالته للقلوب بهذا الضرب من البيان سحرا كما يستميل الساحر قلوب الحاضرين إلى ما موه به ولبسه فمن هذا الوجه سمى البيان سحرا لا من الوجه الذي ظننت ويجوز أن يكون إنما سمى البيان سحرا لأن المقتدر على البيان ربما قبح ببيانه بعض ما هو حسن وحسن عنده بعض ما هو قبيح فسماه لذلك سحرا كما سمى ما موه به صاحبه وأظهر على غير حقيقة سحرا قال أبو بكر رحمه الله واسم السحر إنما أطلق على البيان مجازا لا حقيقة والحقيقة ما وصفنا ولذلك صار عند الإطلاق إنما يتناول كل أمر مموه قد قصد به الخديعة والتلبيس وإظهار ما لا حقيقة له ولا ثبات وإذ قد بينا أصل السحر في اللغة وحكمه عند الإطلاق والتقييد فلنقل في معناه في التعارف والضروب الذي يشتمل عليها هذا الاسم وما يقصد به كل فريق من منتحليه والغرض الذي يجرى إليه مدعوه فنقول وبالله التوفيق إن ذلك ينقسم إلى أنحاء مختلفة فمنها سحر أهل بابل الذين ذكرهم الله تعالى في قوله( يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ ) وكانوا قوما صابئين يعبدون الكواكب

٥٢

السبعة ويسمونها آلهة ويعتقدون أن حوادث العالم كلها من أفعالها وهم معطلة لا يعترفون بالصانع الواحد المبدع للكواكب وجميع أجرام العالم وهم الذين بعث الله تعالى إليهم إبراهيم خليله صلوات الله عليه فدعاهم إلى الله تعالى وحاجهم بالحجاج الذي بهرهم به وأقام عليهم به الحجة من حيث لم يمكنهم دفعه ثم ألقوه في النار فجعلها الله تعالى بردا وسلاما ثم أمره الله تعالى بالهجرة إلى الشام وكان أهل بابل وإقليم العراق والشام ومصر والروم على هذه المقالة إلى أيام بيوراسب الذي تسمه العرب الضحاك وأن أفريدون وكان من أهل دنباوند استجاش عليه بلاده وكاتب سائر من يطيعه وله قصص طويلة حتى أزال ملكه وأسره وجهال العامة والنساء عندنا يزعمون أن أفريدون حبس بيوراسب في جبل دنباوند العالي على الجبال وأنه حي هناك مقيد وأن السحرة يأتونه هناك فيأخذون عنه السحر وأنه سيخرج فيغلب على الأرض وأنه هو الدجال الذي أخبر به النبي عليه السلام وحذرنا به وأحسبهم أخذوا ذلك عن المجوس وصارت مملكة إقليم بابل للفرس فانتقل بعض ملوكهم إليها في بعض الأزمان فاستوطنوها ولم يكونوا عبدة أوثان بل كانوا موحدين مقرين بالله وحده إلا أنهم مع ذلك يعظمون العناصر الأربعة الماء والنار والأرض والهواء لما فيها من منافع الخلق وأن بها قوام الحيوان وإنما حدثت المجوسية فيهم بعد ذلك في زمان كشتاسب حين دعاه زرادشت فاستجاب له على شرائط وأمور يطول شرحها وإنما غرضنا في هذا الموضع الإبانة عما كانت عليه سحرة بابل ولما ظهرت الفرس على هذا الإقليم كانت تتدين بقتل السحرة وإبادتها ولم يزل ذلك فيهم ومن دينهم بعد حدوث المجوسية فيهم وقبله إلى أن زال عنهم الملك وكانت علوم أهل بابل قبل ظهور الفرس عليهم الحيل والنيرنجيات وأحكام النجوم وكانوا يعبدون أوثانا قد عملوها على أسماء الكواكب السبعة وجعلوا لكل واحد منها هيكلا فيه صنمه ويتقربون إليها بضروب من الأفعال على حسب اعتقاداتهم من موافقة ذلك للكوكب الذي يطلبون منه بزعمهم فعل خير أو شر فمن أراد شيئا من الخير والصلاح بزعمه يتقرب إليه بما يوافق المشترى من الدخن الرقى والعقد والنفث عليها ومن طلب شيئا من الشر والحرب والموت والبوار لغيره تقرب بزعمه إلى زحل بما يوافقه من ذلك ومن أراد البرق والحرق والطاعون تقرب بزعمه إلى المريخ بما يوافقه من ذلك من ذبح

٥٣

بعض الحيوانات وجميع تلك الرقى بالنبطية تشتمل على تعظيم تلك الكواكب إلى ما يريدون من خير أو شر ومحبة وبغض فيعطيهم ما شاءوا من ذلك فيزعمون أنهم عند ذلك يفعلون ما شاءوا في غيرهم من غير مماسة ولا ملامسة سوى ما قدموه من القربات للكوكب الذي طلبوا ذلك منه فمن العامة من يزعم أنه يقلب الإنسان حمارا أو كلبا ثم إذا شاء أعاده ويركب البيضة والمكنسة والخابية ويطير في الهواء فيمضى من العراق إلى الهند وإلى ما شاء من البلدان ثم يرجع من ليلته وكانت عوامهم تعتقد ذلك لأنهم كانوا يعبدون الكواكب وكل ما دعا إلى تعظيمها اعتقدوه وكانت الساحرة تحتال في خلال ذلك بحيل تموه بها على العامة إلى اعتقاد صحته بأن يزعم أن ذلك لا ينفذ ولا ينتفع به أحد ولا يبلغ ما يريد إلا من اعتقد صحة قولهم وتصديقهم فيما يقولون ولم تكن ملوكهم تعترض عليهم في ذلك بل كانت السحرة عندها بالمحل الأجل لما كان لها في نفوس العامة من محل التعظيم والإجلال ولأن الملوك في ذلك الوقت كانت تعتقد ما تدعيه السحرة للكواكب إلى أن زالت تلك الممالك ألا ترى أن الناس في زمن فرعون كانوا يتبارون بالعلم والسحر والحبل والمحاريق ولذلك بعث إليهم موسى عليه السلام بالعصا والآيات التي علمت السحرة أنها ليست من السحر في شيء وأنها لا يقدر عليها غير الله تعالى فلما زالت تلك الممالك وكان من ملكهم بعد ذلك من الموحدين يطلبونهم ويتقربون إلى الله تعالى بقتلهم وكانوا يدعون عوام الناس وجهالهم سرا كما يفعله الساعة كثير ممن يدعى ذلك مع النساء والأحداث الأغمار والجهال الحشو وكانوا يدعون من يعملون له ذلك إلى تصديق قولهم والاعتراف بصحته والمصدق لهم بذلك يكفر من وجوه أحدها التصديق بوجوب تعظيم الكواكب وتسميتها آلهة والثاني اعترافه بأن الكواكب تقدر على ضره ونفعه والثالث أن السحرة تقدر على مثل معجزات الأنبياء عليهم السلام فبعث الله إليهم ملكين يبينان للناس حقيقة ما يدعون وبطلان ما يذكرون ويكشفان لهم ما به يموهون ويخبرانهم بمعاني تلك الرقى وأنها شرك وكفر وبحيلهم التي كانوا يتوصلون بها إلى التمويه على العامة ويظهرون لهم حقائقها وينهونهم عن قبولها والعمل بها بقوله( إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ ) فهذا أصل سحر بابل ومع ذلك فقد كانوا يستعملون سائر وجوه السحر والحيل التي نذكرها ويموهون بها على العامة ويعزونها إلى فعل الكواكب لئلا يبحث

٥٤

عنها ويسلمها لهم فمن ضروب السحر كثير من التخييلات التي مظهرها على خلاف حقائقها فمنها ما يعرفه الناس بجريان العادة بها وظهورها ومنها ما يخفى ويلطف ولا يعرف حقيقته ومعنى باطنه إلا من تعاطى معرفة ذلك لأن كل علم لا بد أن يشتمل على جلى وخفى وظاهر وغامض فالجلي منه يعرفه كل من رآه وسمعه من العقلاء والغامض الخفى لا يعرفه إلا أهله ومن تعاطى معرفته وتكلف فعله البحث عنه وذلك نحو ما يتخيل راكب السفينة إذا سارت في النهر فيرى أن الشط بما عليه من النخل والبنيان سائر معه وكما يرى القمر في مهب الشمال يسير للغيم في مهب الجنوب وكدوران الدوامة فيها الشامة فيراها كالطوق المستدير في أرجائها وكذلك يرى هذا في الرحى إذا كانت سريعة الدوران وكالعود في طرفه الجمرة إذا أداره مديره رأى إذا تلك النار التي في طرفه كالطوق المستدير وكالعنبة التي يراها في قدح فيه ماء كالخوخة والإجاصة عظما وكالشخص الصغير يراه في الضباب عظيما جسيما وكبخار الأرض الذي يريك قرص الشمس عند طلوعها عظيما فإذا فارقته وارتفعت صغرت وكما يرى المردى في الماء منكسرا أو معوجا وكما يرى الخاتم إذا قربته من عينك في سعة حلقة السوار ونظائر ذلك كثيرة من الأشياء التي تتخيل على غير حقائقها فيعرفها عامة الناس ومنها ما يلطف فلا يعرفه إلا من تعاطاه وتأمله كخيط السحارة الذي يخرج مرة أحمر ومرة أصفر ومرة أسود ومن لطيف ذلك ودقيقه ما يفعله المشعوذون من جهة الحركات وإظهار التخيلات التي تخرج على غير حقائقها حتى يريك عصفورا معه أنه قد ذبحه ثم يريكه وقد طار بعد ذبحه وإبانة رأسه وذلك لخفة حركته والمذبوح غير الذي طار لأنه يكون معه اثنان قد خبأ أحدهما وأظهر الآخر ويخبأ لخفة الحركة المذبوح ويظهر الذي نظيره ويظهر أنه قد ذبح إنسانا وأنه قد بلع سيفا معه وأدخله في جوفه وليس لشيء منه حقيقة ومن نحو ذلك ما يفعله أصحاب الحركات للصور المعمولة من صفر أو غيره فيرى فارسين يقتتلان فيقتل أحدهما الآخر وينصرف بحيل قد أعدت لذلك وكفارس من صفر على فرس في يده بوق كلما مضت ساعة من النهار ضرب بالبوق من غير أن يمسه أحد ولا يتقدم إليه وقد ذكر الكلبي أن رجلا من الجند خرج ببعض نواحي الشام متصيدا ومعه كلب له وغلام فرأى ثعلبا فأغرى به الكلب فدخل الثعلب ثقبا في تل هناك ودخل الكلب خلفه فلم يخرج فأمر الغلام أن يدخل فدخل وانتظره

٥٥

صاحبه فلم يخرج فوقف متهيئا للدخول فمر به رجل فأخبره بشأن الثعلب والكلب والغلام وأن واحدا منهم لم يخرج وأنه متأهب للدخول فأخذ الرجل بيده فأدخله إلى هناك فمضيا إلى سرب طويل حتى أفضى بهما إلى بيت قد فتح له ضوء من موضع ينزل إليه بمرقاتين فوقف به على المرقاة الأولى حتى أضاء البيت حينا ثم قال له أنظر فنظر فإذا الكلب والرجل والثعلب قتلى وإذا في صدر البيت رجل واقف مقنع في الحديد وفي يده سيف فقال له الرجل أترى هذا لو دخل إليه هذا المدخل ألف رجل لقتلهم كلهم فقال وكيف قال لأنه قد رتب وهندم على هيئة متى وضع الإنسان رجله على المرقاة الثانية للنزول تقدم الرجل المعمول في الصدر فضربه بالسيف الذي في يده فإياك أن تنزل إليه فقال فكيف الحيلة في هذا قال ينبغي أن تحفر من خلفه سربا يفضى بك إليه فإن وصلت إليه من تلك الناحية لم يتحرك فاستأجر الجندي أجراء وصناعا حتى حفروا سربا من خلف التل فأفضوا إليه فلم يتحرك وإذا رجل معمول من صفر أو غيره قد ألبس السلاح وأعطى السيف فقلعه ورأى بابا آخر في ذلك البيت ففتحه فإذا هو قبر لبعض الملوك ميت على سرير هناك وأمثال ذلك كثيرة جدا ومنها الصور التي يصورها مصوروا الروم والهند حتى لا يفرق الناظر بين الإنسان وبينها ومن لم يتقدم له علم أنها صورة لا يشك في أنها إنسان وحتى تصورها ضاحكة أو باكية وحتى يفرق فيها بين الضحك من الخجل والسرور وضحك الشامت فهذه الوجوه من لطيف أمور التخاييل وخفيها وما ذكرناه قبل من جليها وكان سحر سحرة فرعون من هذا الضرب على النحو الذي بينا من حيلهم في العصى والحبال والذي ذكرناه من مذاهب أهل بابل في القديم وسحرهم ووجوه حيلهم بعضه سمعناه من أهل المعرفة بذلك وبعضه وجدناه في الكتب قد نقلت حديثا من النبطية إلى العربية منها كتاب في ذكر سحرهم وأصنافه ووجوهه وكلها مبنية على الأصل الذي ذكرناه من قربانات الكواكب وتعظيمها وخرافات معها لا تساوى ذكرها ولا فائدة فيها وضرب آخر من السحر وهو ما يدعونه من حديث الجن والشياطين وطاعتهم لهم بالرقى والعزائم ويتوصلون إلى ما يريدون من ذلك بتقدمه أمور ومواطأة قوم قد أعدوهم لذلك وعلى ذلك كان يجرى أمر الكهان من العرب في الجاهلية وكانت أكثر مخارق الحلاج من باب الموطآت ولو لا أن هذا الكتاب لا يحتمل استقصاء ذلك لذكرت منها

٥٦

ما يوقف على كثير من مخاريقه ومخاريق أمثاله وضرر أصحاب العزائم وفتنتهم على الناس غير يسير وذلك أنهم يدخلون على الناس من باب أن الجن إنما تطيعهم بالرقى التي هي أسماء الله تعالى فإنهم يجيبون بذلك من شاءوا ويخرجون الجن لمن شاءوا فتصدقهم العامة على اغترار بما يظهرون من انقياد الجن لهم بأسماء الله تعالى التي كانت تطيع بها سليمان بن داود عليه السلام وأنهم يخبرونهم بالخبايا وبالسرق وقد كان المعتضد بالله مع جلالته وشهامته ووفور عقله اغتر بقول هؤلاء وقد ذكره أصحاب التواريخ وذلك أنه كان يظهر في داره التي كان يخلو فيها بنسائه وأهله شخص في يده سيف في أوقات مختلفة وأكثره وقت الظهر فإذا طلب لم يوجد ولم يقدر عليه ولم يوقف له على أثر مع كثرة التفتيش وقد رآه هو بعينه مرارا فأهمته نفسه ودعا بالمعزمين فحضروا وأحضروا معهم رجالا ونساء وزعموا أن فيهم مجانين وأصحاء فأمر بعض رؤسائهم بالعزيمة فعزم على رجل منهم زعم أنه كان صحيحا فجن وتخبط وهو ينظر إليه وذكروا له أن هذا غاية الحذق بهذه الصناعة إذ أطاعته الجن في تخبيط الصحيح وإنما كان ذلك من العزم بمواطأة منه لذلك الصحيح على أنه متى عزم عليه جنن نفسه وخبط فجاز ذلك على المتعضد فقامت نفسه منه وكرهه إلا أنه سألهم عن أمر الشخص الذي يظهر في داره فمخرقوا عليه بأشياء علقوا قلبه بها من غير تحصيل لشيء من أمر ما سألهم عنه فأمرهم بالانصراف وأمر لكل واحد منهم ممن حضر بخمسة دراهم ثم تحرز المعتضد بغاية ما أمكنه وأمر بالاستيثاق من سور الدار حيث لا يمكن فيه حيلة من تسلق ونحوه وبطحت في أعلى السور خواب لئلا يحتال بإلقاء المعاليق التي يحتال بها اللصوص ثم لم يوقف لذلك الشخص على خبر إلا ظهوره له الوقت بعد الوقت إلى أن توفى المعتضد وهذه الخوابي المبطوحة على السور وقد رأيتها على سور الثريا التي بناها المعتضد فسألت صديقا لي كان قد حجب للمقتدر بالله عن أمر هذا الشخص وهل تبين أمره فذكر لي أنه لم يوقف على حقيقة هذا الأمر إلا في أيام المقتدر وأن ذلك الشخص كان خادما أبيض يسمى يقق وكان يميل إلى بعض الجواري اللاتي في داخل دور الحرم وكان قد اتخذ لحى على ألوان مختلفة وكان إذا لبس بعض تلك اللحى لا يشك من رآه أنها لحيته وكان يلبس في الوقت الذي يريده لحية منها ويظهر في ذلك الموضع وفي يده سيف أو غيره من السلاح حيث يقع نظر المعتضد فإذا طلب دخل بين

٥٧

الشجر الذي في البستان أو في بعض تلك الممرات أو العطفات فإذا غاب عن أبصار طالبيه نزع اللحية وجعلها في كمه أو حزته ويبقى السلاح معه كأنه بعض الخدم الطالبين للشخص ولا يرتابون به ويسألونه هل رأيت في هذه الناحية أحدا فإنا قد رأيناه صار إليها فيقول ما رأيت أحدا وكان إذا وقع مثل هذا الفزع في الدار خرجت الجواري من داخل الدور إلى هذا الموضع فيرى هو تلك الجارية ويخاطبها بما يريد وإنما كان غرضه مشاهدة الجارية وكلامها فلم يزل دأبه إلى أيام المقتدر ثم خرج إلى البلدان وصار إلى طرسوس وأقام بها إلى أن مات وتحدثت الجارية بعد ذلك بحديثه ووقف على احتياله فهذا خادم قد احتال بمثل هذه الحيلة الخفية التي لم يهتد لها أحد مع شدة عناية المعتضد به وأعياه معرفتها والوقوف عليها ولم تكن صناعته الحيل والمخاريق فما ظنك بمن قد جعل هذا صناعة ومعاشا وضرب آخر من السحر وهو السعى بالنميمة والوشاية بها والبلاغات والإفساد والتضريب من وجوه خفية لطيفة وذلك عام شائع في كثير من الناس وقد حكى أن امرأة أرادت إفساد ما بين زوجين فصارت إلى الزوجة فقالت لها إن زوجك معرض وقد سحر وهو مأخوذ عنك وسأسحره لك حتى لا يريد غيرك ولا ينظر إلى سواك ولكن لا بد أن تأخذى من شعر حلقه بالموسى ثلاث شعرات إذا نام وتعطينيها فإن بها يتم الأمر فاغترت المرأة بقولها وصدقتها ثم ذهبت إلى الرجل وقالت له إن امرأتك قد علقت رجلا وقد عزمت على قتلك وقد وقفت على ذلك من أمرها فأشفقت عليك ولزمني نصحك فتيقظ ولا تغتر فإنها عزمت على ذلك بالموسى وستعرف ذلك منها فما في أمرها شك فتناوم الرجل في بيته فلما ظنت امرأته أنه قد نام عمدت إلى موسى حاد وهوت به لتحلق من حلقه ثلاث شعرات ففتح الرجل عينه فرآها وقد أهوت بالموسى إلى حلقه فلم يشك في أنها أرادت قتله فقام إليها فقتلها وقتل وهذا كثير لا يحصى وضرب آخر من السحر وهو الاحتيال في إطعامه بعض الأدوية المبلدة المؤثرة في العقل والدخن المسدرة المسكرة نحو دماغ الحمار إذا طعمه إنسان تبلد عقله وقلت فطنته مع أدوية كثيرة هي مذكورة في كتب الطب ويتوصلون إلى أن يجعلوه في طعام حتى يأكله فتذهب فطنته ويجوز عليه أشياء مما لو كان نام الفطنة لأنكرها فيقول الناس إنه مسحور وحكمة كافية تبين لك أن هذا كله مخاريق وحيل لا حقيقة لما يدعون لها أن

٥٨

الساحر والمعزم لو قدرا على ما أدعيا من النفع والضرر من الوجوه التي يدعون وأمكنهما الطيران والعلم بالغيوب وأخبار البلدان النائية والخبيئات والسرق والإضرار بالناس من غير الوجوه التي ذكرنا لقدروا على إزالة الممالك واستخراج الكنوز والغلبة على البلدان بقتل الملوك بحيث لا يبدأهم مكروه ولما مسهم السوء ولا امتنعوا عمن قصدهم بمكروه ولاستغنوا عن الطلب لما في أيدى الناس فإذا لم يكن كذلك وكان المدعون لذلك أسوأ الناس حالا وأكثرهم طمعا واحتيالا وتوصلا لأخذ دراهم الناس وأظهرهم فقرا وإملاقا علمت أنهم لا يقدرون على شيء من ذلك ورؤساء الحشو والجهال من العامة من أسرع الناس إلى التصديق بدعاوى السحرة والمعزمين وأشدهم نكيرا على من جحدها ويروون في ذلك أخبارا مفتعلة متخرصة يعتقدون صحتها كالحديث الذي يروون أن امرأة أتت عائشة فقالت إنى ساحرة فهل لي توبة فقالت وما سحرك قالت سرت إلى الموضع الذي فيه هاروت وماروت ببابل لطلب علم السحر فقالا لي يا أمة الله لا تختاري عذاب الآخرة بأمر الدنيا فأبيت فقالا لي اذهبي فبولي على ذلك الرماد فذهبت لأبول عليه ففكرت في نفسي فقلت لا فعلت وجئت إليهما فقلت قد فعلت فقالا ما رأيت فقلت ما رأيت شيئا فقالا ما فعلت اذهبي فبولي عليه فذهبت وفعلت فرأيت كأن فارسا قد خرج من فرجي مقنعا بالحديد حتى صعد إلى السماء فجئتهما فأخبرتهما فقالا ذلك إيمانك خرج عنك وقد أحسنت السحر فقلت وما هو فقالا لا تريدين شيئا فتصورينه وهمك إلا كان فصورت في نفسي حبا من حنطة فإذا أنا بالحب فقلت له انزرع فانزرع وخرج من ساعته سنبلا فقلت له انطحن وانخبز إلى آخر الأمر حتى صار خبزا وإنى كنت لا أصور في نفسي شيئا إلا كان فقالت لها عائشة ليست لك توبة فيروى القصاص والمحدثون الجهال مثل هذا للعامة فتصدقه وتستعيده وتسأله أن يحدثها بحديث ساحرة ابن هبيرة فيقول لها إن ابن هبيرة أخذ ساحرة فأقرت له بالسحر فدعا الفقهاء فسألهم عن حكمها فقالوا القتل فقال ابن هبيرة لست اقتلها إلا تغريقا قال فأخذ رحى البزر فشدها في رجلها وقذفها في الفرات فقامت فوق الماء مع الحجر فجعلت تنحدر مع الماء فخافوا أن نفوتهم فقال ابن هبيرة من يمسكها وله كذا وكذا فرغب رجل من السحرة كان حاضرا فيما بذله فقال أعطوني قدح زجاج فيه ماء فجاؤه به فقعد على القدح ومضى إلى الحجر فشق الحجر

٥٩

بالقدح فتقطع الحجر قطعة قطعة فغرقت الساحرة فيصدقونه ومن صدق هذا فليس يعرف النبوة ولا يأمن أن تكون معجزات الأنبياء عليهم السلام من هذا النوع وأنهم كانوا سحرة وقال الله تعالى( وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى ) وقد أجازوا من فعل الساحر ما هو أطم من هذا وأفظع وذلك أنهم زعموا أن النبي عليه السلام سحر وأن السحر عمل فيه حتى قال فيه أنه يتخيل لي أنى أقول الشيء وأفعله ولم أقله ولم أفعله وأن امرأة يهودية سحرته في جف طلعة ومشط ومشاقة حتى أتاه جبريل عليه السلام فأخبره أنها سحرته في جف طلعة وهو تحت راعوفة البئر فاستخرج وزال عن النبي عليه السلام ذلك العارض وقد قال الله تعالى مكذبا للكفار فيما أدعوه من ذلك النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال جل من قائل( وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً ) ومثل هذه الأخبار من وضع الملحدين تعليا بالحشوا الطغام واستجرارا لهم إلى القول بإبطال معجزات الأنبياء عليهم السلام والقدح فيها وأنه لا فرق بين معجزات الأنبياء وفعل السحرة وأن جميعه من نوع واحد والعجب ممن يجمع بين تصديق الأنبياء عليهم السلام وإثبات معجزاتهم وبين التصديق بمثل هذا من فعل السحرة مع قوله تعالى( وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى ) فصدق هؤلاء من كذبه الله وأخبر ببطلان دعواه وانتحاله وجائز أن تكون المرأة اليهودية بجهلها فعلت ذلك ظنا منها بأن ذلك يعمل في الأجساد وقصدت به النبي عليه السلام فأطلع الله نبيه على موضع سرها وأظهر جهلها فيما ارتكبت وظنت ليكون ذلك من دلائل نبوته لا أن ذلك ضره وخلط عليه أمره ولم يقل كل الرواة أنه اختلط عليه أمره وإنما هذا اللفظ زيد في الحديث ولا أصل له* والفرق بين معجزات الأنبياء وبين ما ذكرنا من وجوه التخييلات أن معجزات الأنبياء عليهم السلام هي على حقائقها وبواطنها كظواهرها وكلما تأملتها ازددت بصيرة في صحتها ولو جهد الخلق كلهم على مضاهاتها ومقابلتها بأمثالها ظهر عجزهم عنها ومخاريق السحرة وتخييلاتهم إنما هي ضرب من الحيلة والتلطف لإظهار أمور لا حقيقة لها وما يظهر منها على غير حقيقتها يعرف ذلك بالتأمل والبحث ومتى شاء شاء أن يتعلم ذلك بلغ فيه مبلغ غيره ويأتى بمثل ما أظهره سواه* قال أبو بكر قد ذكرنا في معنى السحر وحقيقته ما يقف الناظر على جملته وطريقته ولو استقصينا ذلك من وجوه الحيل لطال واحتجنا إلى استئناف كتاب لذلك وإنما الغرض

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

كان موقف سيد الشهداء الامام الحسين (ع) من قضية الصلح كموقف أخيه الحسن (ع) ، فكان يرى ضرورة المهادنة ، ولزوم المسالمة ، وانه ليس من الحكمة ، ولا من الصالح فتح باب الحرب مع معاوية ، فانه يعود بالمضاعفات السيئة على الإسلام ، ويجر الويلات والخطوب للمسلمين وذلك لتفلل الجيش الذي نزح معهم ، فقد ذكرنا فى البحوث السابقة الخيانات المفضوحة التي ظهرت من أغلب الأمراء والوجوه ، والتحاقهم بمعسكر معاوية ، وضمانهم له الفتك بالامام الحسن ، أو تسليمه أسيرا له ، فكيف يحاربه بهذه القوى الغادرة التي تبغي له الغوائل ، وتتربص به الفرص للفتك به؟

إن الإمام الحسين (ع) كان من رأيه أن يستجيب أخوه للصلح ، ولا يناجز معاوية نظرا للعوامل المريرة التي أحاطت به حتى جعلت من المستحيل التغلب على معاوية ، والانتصار عليه ، فما عمله الامام الحسن من الصلح كان أمرا متعينا ، ولا سبيل لغيره ـ كما أوضحنا ذلك في أسباب الصلح ـ ، فكيف يخالف الإمام الحسين أخاه في ذلك ، ولا يقره عليه.

وزعم بعض المؤرخين ان الإمام الحسين (ع) كان كارها لما فعله أخوه ، وانه قال له :

« أنشدك الله أن تصدق احدوثة معاوية ، وتكذب احدوثة أبيك!! » فأجابه الحسن :

« أنا أعلم بهذا الأمر منك »(1) .

ورووا أيضا : « ان الحسن (ع) قال لابن عمه عبد الله بن جعفر :

« إني رأيت رأيا أحب أن تتابعني عليه » فانبرى إليه ابن جعفر قائلا :

__________________

(1) أسد الغابة وغيره.

٢٤١

« ما هو »؟

« رأيت أن أعمد الى المدينة فأنزلها ، وأخلي بين معاوية ، وبين هذا الحديث ، فقد طالت الفتنة ، وسفكت فيها الدماء ، وقطعت الأرحام ، وعطلت الفروج »(1) .

فأيد ابن جعفر رأيه قائلا :

« جزاك الله عن أمّة محمد خيرا ، وأنا معك ».

ثم بعث نحو الحسين ، فلما مثل بين يديه قال له :

« إني رأيت رأيا ، وأحب أن تتابعني عليه ».

« ما هو؟ »

فذكر له رأيه في ذلك.

فانبرى الحسين وهو غضبان قائلا :

« أعيذك بالله أن تكذب عليا في قبره ، وتصدق معاوية ».

فتأثر الحسن من كلامه ، وقال له :

« والله ما أردت أمرا إلا خالفتني عليه الى غيره ، والله لقد هممت أن أقذفك فى بيت فأطينه عليك ، حتى أقضى أمري ».

فلما رأى الحسين غضب أخيه وجدّه في الأمر انسحب عن فكرته وتنازل عن رأيه وقال له بصوت خافت : « أنت أكبر ولد عليّ ، وأنت خليفتي ، وأمرنا لأمرك متبع ، فافعل ما بدا لك »(2) .

لا شك في افتعال ذلك كله وانه من الموضوعات لأن الامام الحسينعليه‌السلام كان عالما بالعلل والأسباب التي الجأت أخاه الى الصلح والزمته

__________________

(1) الفروج : الثغور.

(2) تأريخ ابن عساكر الكبير 4 / 21.

٢٤٢

بالمسالمة ، فان رأيه في الصلح كان موافقا لرأي أخيه لا يخالفه ولا يختلف عنه ، ويدل على ذلك ان الإمام الحسن لما أبرم الصلح أقبلت الى الامام الحسين طائفة من الزعماء والوجوه يطلبون منه أن ينقض ما أبرمه أخوه ويناجز معاوية فأبى (ع) وامتنع ، ولو كان رأيه مخالفا لرأي أخيه لأجابهم الى ذلك ، ولما انتقل الإمام الحسن (ع) الى حظيرة القدس رفعت إليه طوائف من زعماء العراق عدة رسائل يطلبون منه اعلان الثورة على معاوية فامتنع من اجابتهم وقال لهم :

« ما دام معاوية في قيد الحياة فلا اتحرك بكل شيء ، وإذا مات نظرت في الأمر »(1) .

إن امتناعه من القيام بالأمر ما دام معاوية حيا يدل بصراحة أنه كان يرى ضرورة المهادنة والمسالمة المؤقتة ، فان الثورة لا تنتج ولا التضحية تجدي شيئا مع وجود معاوية لأنه يلبسها ثوبا يخرجها عن اطار الإصلاح كما أوضحنا ذلك فيما تقدم ، نعم لا شك ان الصلح قد ترك في نفس الحسين أسى مريرا وحزنا مرهقا كما ترك في نفس الحسن أيضا لوعة وحزنا ، ولكنهما سلام الله عليهما ما ذا يصنعان والظروف لم تكن مواتية لهما حتى يقوما بمناجزة معاوية.

ومما يدل على وضع ذلك وعدم صحته انه جاء في الرواية الثانية ان الإمام قال لأخيه الحسين.

« ما أردت أمرا إلا خالفتني عليه ».

ان هذا الكلام شاهد على الافتعال والوضع لأن الإمام الحسينعليه‌السلام تصده مثله العليا عن مخالفة أخيه وعدم طاعته له فقد تربيا معا

__________________

(1) الارشاد ص 206 وغيره.

٢٤٣

في حجر المشرع الأعظم ، وأفاض عليهما مثله وتهذيبه وهديه حتى صارا صورة صادقة عنه ، فكيف يخالف أوامر أخيه ولا يطيعه فى أمر يعود بالصالح العام لجميع المسلمين ، إن الامام الحسين كان يكبر أخاه ويجله ولا يخالف له أمرا. فقد روى حفيده الإمام الباقر (ع) عن مدى اجلاله وتعظيمه له قال :

« ما تكلم الحسين بين يدي الحسن اعظاما له »(1) .

وبعد هذا التقدير والإكبار هل يصح أن يقول الحسن لأخيه ما أردت أمرا إلا خالفتني عليه.

وانجرف الدكتور طه حسين بهذه الرواية المفتعلة فقال :

« كره صلح أخيه وهمّ أن يعارض ، فأنذره أخوه بأن يشدّه في الحديد حتى يتم الصلح ».

وقال : « وكان الحسين يعيب الصلح لأنه إنكار لسيرة أبيه ».

وقال أيضا : « رأى الوفاء لأخيه حقا فوفى له ، وأطاعه كما أطاع أباه من قبله. وما أشك في أنه أثناء هذه السنين التي قضاها فى المدينة بعد صلح أخيه كان يتحرق تشوقا الى الفرصة التي تتيح له استئناف الجهاد حيث تركه أبوه »(2) .

أما قوله : « كره صلح أخيه وهمّ بالمعارضة ، فأنذره أخوه بأن يوثقه في الحديد ، وانه كان يعيب عليه لأنه إنكار لسيرة أبيه » ، فيرده انه لو كان كارها لذلك لأجاب الكوفيين الى مناجزة معاوية بعد ما جرى

__________________

(1) مناقب ابن شهر اشوب 2 / 143.

(2) الفتنة الكبرى 2 / 213 وعول على الروايات المصطنعة الاستاذ محمود العقاد في أبي الشهداء.

٢٤٤

الصلح ، ولأعلن الثورة عليه بعد موت أخيه ، مضافا الى انه لو كان الصلح مخالفا لسيرة أمير المؤمنين (ع) لما سكت الحسين لحظة واحدة لأن السكوت عن الحق جبن ومعصية ، ولو كان مخالفا لسيرة أمير المؤمنين التي هي سيرة رسول الله (ص) لما أبرم الحسن (ع) الصلح ونفذه ، نعم كان الحسين يتحرق شوقا الى الجهاد تحرق الظمان الى الماء ، قد انطوى قلبه على شجى مكتوم وحزن مرهق ولكنه لم ينفرد بذلك ، فقد شاركه أخوه في جميع محنه وأشجانه ، وكانا معا يترقبان بفارغ الصبر الفرصة السانحة للثورة على حكومة أميّة ، ولكن الفرصة التي يؤمل بها النصر والفتح كانت معدومة ما دام معاوية حيا ، فان فتح باب الحرب معه يعود بالضرر البالغ على الإسلام والمسلمين.

بقي هنا شيء لم نذكره في أسباب الصلح ، وهو انه لما ذا لم يفتح الإمام الحسن باب الحرب مع معاوية ، وإن عدم الناصر والمعين فيستشهد كما استشهد أخوه سيد الشهداء الإمام الحسينعليه‌السلام ، وهذه الشبهة قد ذهب إليها بعض الناقدين للصلح ، ولندع الجواب الى إمام من أئمة المسلمين وهو آية الله المغفور له السيد عبد الحسين شرف الدين فقد كشف الغطاء عنها في مقال عنوانه ( ثورة الحسين صدى لصلح الحسن ) وقد نشر في أغلب الصحف المحلية ، نذكره بأسره لما فيه من مزيد الفائدة قالرحمه‌الله :

« كان بنفسي من قديم أن أعني ببحث هذه المسألة بحثا يدفع هذه الشبهة عن أبي محمد ، فى نفوس غير المتمكنين فى فهم التأريخ فهما صحيحا وكثير من هؤلاء لا يرجعون الى مصدر علمي في وزن هؤلاء النفر من أهل البيت ، واخضاع حركاتهم في حالتي مدها وجزرها للمبدإ الأسمى ،

٢٤٥

الذي طوعهم لخدمته ، وأفنى ذواتهم في ذاته ، فكانوا ينقبضون حين يشاء لهم الانقباض ، وينبسطون حين يشاء لهم الانبساط كذلك ...

كان بنفسي أن أرد هذه الشبهة عن أبي محمد السبط باقامة هذا الميزان العلمي الذي يجلو هذه الحقيقة ، ويكشف خدرها ، غير أن واردا ثقيلا من المشاغل التي تنتهي كان يصرفني عما بنفسي من ذلك ، فها أنا الآن أوجز الإشارة الى هذه الشبهة ودفعها ، وعسى أن تعود هذه النواة غرسا أتعهده أنا بما ينميه إن سنحت الفرصة أولا فينميه قلم من هذه الأقلام الصقيلة ، المغموسة بقلوب الأحرار ، وعقول العلماء من خدام الحقائق.

أما الشبهة فقديمة كقدم النظر القاصر فيمن يأخذون من الأشياء بالظاهر والملمون بتأريخ الحسن (ع) يعرفون أن قوما من صحابته أخذوا عليه قعوده عن حرب معاوية ، ومناجزته إياه القتال ، حتى لأوشك أن يذهب يومئذ ضحية هذه الفتنة ، وحتى دخل عليه خاصته بسلام غليظ يقولون فيه : « السلام عليك يا مذل المؤمنين » ..!

وقد يكون لهؤلاء عذر بحماستهم التي نعرفها لذوي النجدة من فتيان الايمان الذين تغلب فيهم عاطفة الحماسة ، واستقرار الروية وبعد النظر.

وقد يكون ذلك ولكنا لا نقصد الآن الى الاعتذار لهم بل نريد أن نثبت طرف هذه الشبهة عن الأول لنراها تتسلسل منه فتظهر بين حين وآخر طورا على لسان أوليائه ، وتارة على لسان أعدائه ، وهي هنا وهناك لا تظهر إلا لتدل على جهل هؤلاء وأولئك.

فنحن حين نزن صلحهعليه‌السلام وحربه ترجح كفة الصلح من حيث اعتبرت المعايير المرعية ، وكن إن شئت ( ماديا ) ، أو كن ( روحيا )

٢٤٦

تتجاوز بايمانك وفهمك مدى المحسوسات المرئية.

كن أول الأمر ماديا وناقش حرب الحسن في جيش حكم على نفسه بالهزيمة ، قبل أن يخوض المعركة ، وغزاه معاوية الذي ثبت لعلي من قبل ولعلي معنوية عسكرية ترجف الأرض من خيفتها ، مضافا الى معنوياته الأخرى التي لم يكن الحس يتمتع بمثلها فى نفوس معاصريه ، بحكم انضوائه الى لواء أبيه.

نعم لك أن تقول كان على الحسن أن يستشهد فيموت عزيزا ، ولكن أعد النظر في تاريخ هذه الفترة لترى أن الاستشهاد فيها ينمسخ الى معنى من معاني ( الخروج ) فلم تكن يومئذ حقيقة وطنية ثابتة ، ولا روح مبدئية مستقرة لتكون التضحية تضحية مقررة القواعد وليس أتفه ـ فى هذه الحال ـ من الموت يعين على صاحبه ويميته مرة أخرى فى معناه.

كانت الحياة الإسلامية تنتكس حقا ، وتتحول الى ملك عضوض وكانت المطامع تتجند في ركاب الملك هاربة من حواشي الخلافة ولكنها كانت ما تزال تحتفظ بوسيلة الإسلام وظاهر مبادئه في ( وصولية ) صاغها معاوية بدهائه ، وكان هذا وحده عذرا للحسن من ناحيتين.

1 ـ كان عذره في الصلح لأن ( الدنيا ) كانت تظاهر معاوية فتستلب منه ابن عمه وقائد عسكره.

2 ـ ثم كان عذره في القعود عن الشهادة لأن ذلك بعينه ليس ظرف الشهادة ، لأنه كان قادرا على مسخها.

فأي ربح مادي في الموت لو اختاره الحسن كما يريد هؤلاء ، غير انه يعين معاوية على نفسه حيا وميتا.

إننى لا أرى شيئا أدل على عظمة الحسن من هذه السياسة المادية التي

٢٤٧

حددت موقفه على هذا النحو في أخطر دور مرّ به الإسلام. فكانت نواة لقلب الحكم الأموي ، وفضح ، كما كانت مادة ذلك البارود الجبار الذي انفجر في مصرع الحسين (ع) ذلك الانفجار ، ولو لم يكن موقف الحسن هذا لأتيح لمعاوية سلطان لا يعرف الناس منطوياته ، ولما اتيح للحسين أن يكون الفداء الخالد للمبدإ الخالد.

وبعد إن كنت ماديا فكن ( روحيا ) وناقش حرب الحسن لتجتمع لك الاعتبارات كلها على رجحان كفة الصلح.

الحسن (ع) ليس من طلاب ( الامرة ) لذات الامرة ، بل هو ممن يريدون الخلافة وسيلة للإصلاح ، وإقامة العدل والسلام بين الناس ، وما أظن هذه العقيدة الروحية تعدم دليلها المادي ، فأبوه وجده أثبتا فى الإسلام انهما كذلك ، وله قبل الإسلام إرث ينهض دليلا على انه من معدن مصلح لا يطلب النفوذ إذا استغنى عن فعل الخير.

ومن هنا كان سهلا عليه أن يتنازل عن الخلافة لأنه في فترة لا تقدر هي على ابداء الخير في ظل ذلك الجيل المكبوت المشتاق الى الشهوات يصيب منها فوق كفايته على موائد معاوية ، بل لقد كان الواجب عليه أن يتنازل مع عدم القدرة على تذليل العقبة من اخضاع ( الأموية ) المندفعة ، لأن تنازله يأتي وفق الخطة التي رسمتها له مبادئه.

وليس عائبو تنازله أشد احساسا منه بالام التنازل وهو المجروح ، ولكنها التضحية الضخمة فرضت عليه أن يتحمل آلام القعود التي كتبتها عليه مثله العليا ، ومبادئه الحسنى.

وهي تضحية لا تقل قدرا ـ إن لم تزد ـ عن تضحية الحسين (ع) وكن الآن ما شئت ، كن ماديا ، أو كن روحيا فستنتهي آخر الأمر

٢٤٨

الى نتيجة رائعة ، وهي ان صلح الحسن مصدر من أكبر مصادر ثورة الحسين التحريرية ، والى أن جوهر التضحية واحد عند الاماميين وإن اختلف مظهرهما.

والحق ان يوم الطف كان صدى ليوم المدائن صلى الله على سيدي شباب أهل الجنة ، ونفع المسلمين بذكرياتهما المجددة المتجددة ، ووفق العرب والمسلمين الى الاهتداء بهديهما فى مرحلتهم الصعبة هذه »(1) .

ورأي سماحة الامام شرف الدين رأي وثيق تعضده الأدلة ويسنده المنطق العلمي من جميع جهاته ، والحق إنه (ع) لو ضحّى بنفسه لذهبت تضحيته معدومة الأثر ، لا تقيم حقا ، ولا تغير باطلا ، لأن معاوية بمكره وخداعه ، يلقي المسئولية على الحسن ، ويبرئ نفسه عن ارتكاب الجريمة ، فيقول للناس : « إني دعوت الحسن للصلح ، ولكن الحسن أبى إلا الحرب وكنت اريد له الحياة ، ولكنه أراد لي القتل ، وأردت حقن الدماء ، ولكنه أراد هلاك الناس بينى وبينه » ومعاوية له هذه القابليات التي يظهر بها نفسه مظهر العادل المنصف ، وبذلك تكون التضحية مسلوبة الأثر معدومة الفائدة.

وأما الحسين (ع) فقد جاءت تضحيته الخالدة موافقة لظرفها الملائم ومنسجمة مع مقتضيات الزمن ، لأن الأثيم يزيد ليس معه من يدير شئونه ويردعه عن طيشه وغروره ، فقد هلكت تلك العصابة التي كان يعتمد عليها معاوية في تدبير شئونه كابن العاص ، والمغيرة وأمثالهما من دهاة العرب ،

__________________

(1) جريدة الساعة الغراء عددها الخاص بسيد الشهداء (ع) من السنة 4 بعدد 908 ، ونشرتها مجلة الغرى الزاهرة بعددها الخاص بالامام الحسين (ع) من السنة 9 العدد 11.

٢٤٩

ولم يبق منهم معه أحد ، فلذا نهض الامام الحسينعليه‌السلام بتلك النهضة الموفقة التي جاءت بالنهاية المحتومة لدولة أميّة.

وبالجملة إن مهادنة الحسن وشهادة الحسينعليهما‌السلام قائمتان على فكرة عميقة منبعثة من وحي جدهما الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولو لا صلح الامام الحسن ، وشهادة أخيه سيد الشهداء لما بقي للإسلام اسم ولا رسم ، وقد صرّح بهذا الامام كاشف الغطاء في مقدمته للجزء الأول من هذا الكتاب ، قالرحمه‌الله :

« إنه كما كان الواجب والمتعين الذي لا محيص عنه في الظروف التي ثار بها الحسين سلام الله عليه على طاغوت زمانه أن يحارب ويقاتل حتى يقتل هو وأصحابه ، وتسبى عياله ودائع رسول الله (ص) كما كان هذا هو المتعين فى فن السياسة ، وقوانين الغلبة والكياسة مع قطع النظر عن الأوامر الالهية ، والمشيئة الأزلية ، كذلك كان المتعين والواجب الذي لا محيص عنه في ظروف الحسن (ع) وملابساته هو الصلح مع فرعون زمانه ، ولو لا صلح الحسن ، وشهادة الحسينعليهما‌السلام لما بقي للإسلام اسم ، ولا رسم ، ولضاعت كل جهود محمد (ص) وما جاء به للناس من خير وبركة ورحمة ».

نعم : لو لا صلح الحسن ، وشهادة الحسين لقضي على الاسلام ولف لواؤه ، فإن الحسنعليه‌السلام بصلحه فضح معاوية وأظهر عداءه السافر للإسلام والمسلمين ، والحسينعليه‌السلام بتضحيته وشهادته فتك بدولة أميّة وقضى عليها وعلى كل ظالم مستبد ، وأعطى الدروس الخلاقة لكل مصلح يريد أن يثور على الظلم والطغيان والاستغلال.

٢٥٠

اجتماع الإمام بمعاوية

٢٥١
٢٥٢

لعل أقسى محنة اجتازتها نفس أي انسان كان هي التي ألمّت بالامام الحسن (ع) حينما اجتمع بابن أبي سفيان ، فقد أودع ذلك الاجتماع ألما مرهقا ، وأسى مرّا ، استوعب نفسه الشريفة ، ذلك لأنه رأى باطل معاوية قد استحكم وجوره قد انتصر ، وزاد في أساه ما ستعانيه الأمّة في دور هذا الطاغية من الماسي والشجون ، فترك ذلك أعمق الألم والحزن في نفسه.

لقد اجتمع الامام ـ على كره ـ بمعاوية ، وكان الاجتماع بالنخيلة(1) وقيل بالكوفة(2) ، وقد حضرته جموع حاشدة من المسلمين ، تنتظر بفارغ الصبر ما يفوه به الملك الظافر من الأمن والرفاهية وما يبسطه على الناس من العدل ، وما عسى معاوية أن يفعل في هذه الساعة الرهيبة ، إنه اعتلى المنبر فأظهر خبث ذاته ، وسوء سريرته ، واعلن ما يضمره للمسلمين من الشر والارهاق ، كما أظهر لهم السر في الحرب التي أثارها على أمير المؤمنين وولده الحسن قائلا :

« أيها الناس ، ما اختلف أمر أمّة بعد نبيها إلا وظهر أهل باطلها على أهل حقها ».

ولما افتتح خطابه بهذا القول الذي حكى فيه الواقع التفت الى أنه قد عنى به نفسه فندم على ذلك فاستدرك قائلا :

« إلا هذه الأمّة ».

ثم وجه خطابه القاسي الى العراقيين معربا لهم عن حقيقة الحرب التي أثارها عليهم ، وإن الهدف الأقصى الذي ينشده من وراء ذلك إنما هو

__________________

(1) ابن أبي الحديد 4 / 16 وذكر ان خطبة معاوية الآتية القاها في النخيلة

(2) اليعقوبي 2 / 192 الارشاد 170.

٢٥٣

الملك ، لا الطلب بدم عثمان قائلا :

« والله إني ما قاتلتكم لتصلوا ، ولا لتصوموا ، ولا لتحجوا ، ولا لتزكوا ، إنكم لتفعلون ذلك ، وإنما قاتلتكم لأتأمّر عليكم ، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم له كارهون ».

ثم صرح بعد ذلك بعدم التزامه ووفائه بالشروط التي أعطاها للإمام فقال :

« ألا إن كل دم أصيب في هذه الفتنة مطلول ، وكل شرط شرطته فتحت قدمي هاتين(1) ولا يصلح الناس إلا ثلاث : اخراج العطاء عند محله ، وإقفال الجنود لوقتها ، وغزو العدو في داره ، فان لم تغزوهم غزوكم ».

حقا ان هذا هو التمادي في الإثم ، وكان عبد الرحمن بن شريك(2) إذا حدّث بذلك يقول : « والله هذا هو التهتك ». ويقول أبو اسحاق السبيعي ، وهو ممن روى خطاب معاوية : « كان والله غدارا ».

وأخذ معاوية يكيل السب والشتم الى أمير المؤمنين (ع) وولده الحسن غير مستأثم من ذلك ولا متحرج ، وقد خرق بذلك أبرز بنود المعاهدة التي وقع عليها.

__________________

(1) وفى رواية أبي اسحاق السبيعي : « ألا وإن كل شيء اعطيت الحسن ابن علي تحت قدمي هاتين لا أفي به » ، ذكر ذلك ابن أبي الحديد فى النهج ، وقريب منه ذكره المفيد في الارشاد.

(2) عبد الرحمن بن شريك النخعي الكوفي ، روى عن أبيه ، وروى عنه البخاري فى كتاب الأدب ، عدّه ابن حبان فى الثقات ، وقال : ربما أخطأ ، توفى سنة 227 ه‍ جاء ذلك في تهذيب التهذيب 6 / 194.

٢٥٤

خطاب الامام الحسن :

وطلب معاوية من الإمام أن يعتلي منصة الخطابة ليبين للناس تنازله عن الأمر. وقيل ان ابن العاص أشار عليه بذلك ليظهر للناس ـ بحسب زعمه ـ عي الإمام وعدم مقدرته على الخطاب ، وقد أخطأ في ذلك ، فان الإمام قد خطب الناس غير مرة في حياة أبيه ، وبعد وفاته ولم يعرف عنه العي والحصر ، لأنه من أهل بيت كانوا معدن الفصاحة والبلاغة ، وفصل الخطاب ، وانبرى الإمام الى أعواد المنبر والناس كلهم أذن صاغية وهم ما بين راغب وراغم ، فخطبهم خطبة طويلة كانت فى منتهى الروعة والبلاغة ، وعظ فيها الناس ، ودعاهم الى الالفة والمحبة ، وصوّر فيها الأحداث الرهيبة التي جرت على أهل البيت بعد وفاة النبيّ (ص) وعزى ما جرى عليهم من المحن والخطوب الى الصدر الأول الذين نزعوا الخلافة منهم ، وردّ في آخر خطابه على معاوية ، وهذا نص خطابه :

« الحمد لله كلما حمده حامد ، وأشهد أن لا إله إلا الله كلما شهد له شاهد ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ، وائتمنه على الوحيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

أما بعد : فو الله إني لأرجو أن أكون قد أصبحت بحمد الله ومنّه وأنا أنصح خلق الله لخلقه ، وما أصبحت محتملا على مسلم ضغينة ، ولا مريدا له سوءا ، ولا غائلة. ألا وإن ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة ألا وإني ناظر لكم خير من نظركم لأنفسكم ، فلا تخالفوا أمري ، ولا تردوا عليّ رأي غفر الله لي ولكم ، وأرشدني وإياكم لما فيه

٢٥٥

المحبة والرضا. »(1)

ثم التفت الى الجماهير فقال لها :

« أيها الناس ، إن أكيس الكيس التقى ، وأحمق الحمق الفجور ، والله لو طلبتم ما بين جابلق(2) وجابرس(3) رجلا جده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ما وجدتموه غيري وغير أخي الحسين ، وقد علمتم أن الله هداكم بجدي محمد (ص) فأنقذكم به من الضلالة ، ورفعكم به من الجهالة ، وأعزكم به بعد الذلة ، وكثركم به بعد القلة ، إن معاوية نازعني حقا هو لي دونه ، فنظرت لصلاح الأمّة ، وقطع الفتنة ، وقد كنتم بايعتموني على أن تسالمون من سالمت ، وتحاربون من حاربت ، فرأيت أن أسالم معاوية ، واضع الحرب بيني وبينه ، وقد بايعته ، وقد رأيت أن حقن الدماء خير من سفكها ، ولم أرد بذلك إلا صلاحكم وبقاءكم ، وإن أدرى لعله فتنة لكم ومتاع الى حين »(4) .

__________________

(1) الارشاد ص 169.

(2) جابلق : بالباء الموحدة المفتوحة واللام المسكنة ، روي عن ابن عباس أنها بأقصى المغرب واهلها من ولد عاد ، جاء ذلك في المعجم 3 / 32.

(3) جابرس : مدينة بأقصى المشرق ، زعم اليهود أن أولاد نبيهم موسىعليه‌السلام هربوا اما فى حرب طالوت أو في حرب بخت نصر ، فسيرهم الله وأنزلهم فى هذا الموضع فلا يصل إليهم أحد ، وقد طويت لهم الأرض وجعل عليهم الليل والنهار سواء حتى انتهوا الى ( جابرس ) فسكنوا فيها ، ولا يحصي عددهم إلا الله ، فاذا قصدهم أحد من اليهود قتلوه وقالوا : ( لم تصل إلينا حتى أفسدت سنتك ) ، وبهذا الاعتبار يستحلون دمه جاء ذلك في المعجم 3 / 33.

(4) كشف الغمة ص 170.

٢٥٦

وأخذ (ع) يبين ظلامة أهل البيت فقال :

« وإن معاوية زعم لكم أني رأيته للخلافة أهلا ولم أر نفسي لها أهلا ، فكذب معاوية. نحن أولى الناس بالناس في كتاب الله عز وجل وعلى لسان نبيه ، ولم نزل ـ أهل البيت ـ مظلومين منذ قبض الله نبيه ، فالله بيننا وبين من ظلمنا ، وتوثب على رقابنا ، وحمل الناس علينا ، ومنعنا سهمنا من الفيء ، ومنع أمّنا ما جعل لها رسول الله ، واقسم بالله لو أن الناس بايعوا أبي حين فارقهم رسول الله لأعطتهم السماء قطرها ، والأرض بركتها ، ولما طمعت فيها يا معاوية ، فلما خرجت من معدنها تنازعتها قريش بينها ، فطمع فيها الطلقاء وأبناء الطلقاء ، أنت وأصحابك. وقد قال رسول الله : ما ولت أمّة أمرها رجلا وفيهم من هو أعلم منه إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالا حتى يرجعوا الى ما تركوا. فقد ترك بنو اسرائيل هارون وهم يعلمون أنه خليفة موسى فيهم واتبعوا السامري ، وتركت هذه الأمّة أبي وبايعوا غيره ، وقد سمعوا رسول الله يقول له : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا النبوة ، وقد رأوا رسول الله نصب أبي يوم غدير خم ، وأمرهم أن يبلغ أمره الشاهد الغائب ، وهرب رسول الله من قومه وهو يدعوهم الى الله حتى دخل الغار ، ولو انه وجد أعوانا لما هرب ، كفّ أبي يده حين ناشدهم ، واستغاث فلم يغث. فجعل الله هارون في سعة حين استضعفوه ، وكادوا يقتلونه ، وجعل الله النبي في سعة حين دخل الغار ولم يجد أعوانا. وكذلك أبي وأنا في سعة من الله حين خذلتنا هذه الأمّة. وإنما هي السنن والأمثال يتبع بعضها بعضا. »(1)

والتفت الى حضار الحفل فقال لهم.

__________________

(1) البحار 10 / 114.

٢٥٧

« فو الذي بعث محمدا بالحق ، لا ينقص من حقنا ـ أهل البيت ـ أحد إلا نقصه الله من عمله ، ولا تكون علينا دولة إلا وتكون لنا العاقبة ولتعلمن نبأه بعد حين. »

والتفت (ع) الى معاوية فردّ عليه سبه لأبيه فقال له :

« أيها الذاكر عليا أنا الحسن وأبي علي ، وأنت معاوية وأبوك صخر وأمىّ فاطمة ، وأمك هند ، وجدي رسول الله ، وجدك عتبة بن ربيعة ، وجدتي خديجة ، وجدتك فتيلة ، فلعن الله أخملنا ذكرا ، وألأمنا حسبا ، وشرنا قديما وحديثا ، وأقدمنا كفرا ونفاقا!! »

وارتفعت الأصوات من جميع جنبات الحفل بقول :

« آمين آمين ».

وما سمع أحد هذا الخطاب إلا شاركهم بقول : آمين ونحن نقول : آمين آمين.

وهذه الخطبة أبلغ خطبة عرفها التأريخ ، فقد وضع الإمام فيها النقاط على الحروف ـ كما يقولون ـ وصوّر الموقف الدقيق الذي هو فيه ، وربط بين الأحداث التي واجهها ، وبين الأحداث التي جرت على أبيه وانها جميعا تستند الى من تقمص الخلافة بعد وفاة النبي (ص) ، فلولاهم لما طمع معاوية في الخلافة ونازعه فيها.

موقف الزعيم قيس :

ولما سمع الزعيم الحديدي قيس بن سعد بالنبإ المؤلم جمد دمه واستولت عليه موجة من الهموم ، وغشيته سحب من الأحزان حتى تمنى مفارقة الحياة وجعل يردد في دخيلة نفسه :

كيف سالم أمير الحق أمير الباطل؟!!!

٢٥٨

ووقف وهو حائر اللب ، خائر القوى يريد أن ينقل قدمه من الأرض فلم يتمكن ، قد مشت الرعدة بأوصاله ، والحيرة بصدره ، وسرى الألم العاصف في محيّاه ، ثم انفجر باكيا وهو ينظم ذوب الحشا قائلا :

أتاني بأرض العال من أرض مسكن

بأن إمام الحق أضحى مسالما

فما زلت مذ بينته متلددا

أراعي نجوما خاشع القلب واجما(1)

والتفت الى الجيش وقد علاه الانكسار واستولى عليه الجزع والذهول قائلا بصوت خافت حزين النبرات :

« اختاروا إحدى اثنتين ، اما قتال بغير إمام ، واما أن تبايعوا بيعة ضلال؟!! »

فأجابوه وقد علاهم الذل والهوان قائلين :

« بل نقاتل بغير إمام ».

وزحفوا الى جموع أهل الشام فضربوهم حتى أرجعوهم الى مصافهم واضطرب معاوية من ذلك أشد الاضطراب ، فراسل قيسا يمنّيه ويتوعّده

فأجابه قيس :

« لا والله ، لا تلقاني إلا وبيني وبينك السيف أو الرمح ».

ولما يئس منه معاوية أرسل إليه رسالة يشتمه فيها ويتوعّده وهذا نصها :

« أما بعد : فإنك يهودي تشقى نفسك ، وتقتلها فيما ليس لك ، فإن ظهر أحب الفريقين إليك نبذك وغدرك ، وإن ظهر أبغضهم إليك ، نكّل بك وقتلك ، وقد كان أبوك أوتر غير قوسه ، ورمى غير غرضه ، فأكثر الجذ ، وأخطأ المفصل ، فخذله قومه ، وأدركه يومه ، فمات بحوران غريبا والسلام ».

فاجابه قيس :

__________________

(1) المناقب 2 / 167.

٢٥٩

« أما بعد : فإنما أنت وثن ابن وثن ، دخلت في الإسلام كرها ، واقمت فيه فرقا ، وخرجت منه طوعا ، ولم يجعل الله لك فيه نصيبا ، لم يقدم إسلامك ، ولم يحدث نفاقك ، ولم تزل حربا لله ولرسوله ، وحزبا من أحزاب المشركين ، وعدوّا لله ولنبيه وللمؤمنين من عباده. وذكرت أبي فلعمري ما أوتر إلا قوسه ، ولا رمى إلا غرضه ، فشغب عليه من لا تشق غباره ، ولا تبلغ كعبه ، وزعمت أني يهودي ابن يهودي وقد علمت وعلم الناس أني وأبي أعداء الدين الذي خرجت منه ، وانصار الدين الذي دخلت فيه وصرت إليه والسلام ».

وحكت هذه الرسالة حقيقة معاوية وواقعه ، ولمّا قرأها انتفخت أوداجه ، وورم أنفه ، فأراد أن يجيبه ، ولكن الداهية الماكر وزيره ابن العاص نهاه عن ذلك قائلا له :

«!! فإنك إن كاتبته أجابك بأشد من هذا ، وإن تركته دخل فيما دخل فيه الناس ».

واستصوب معاوية رأي ابن العاص فأعرض عن الشدة والعنف(1) وبعث إليه رسالة جاء فيها :

« على طاعة من تقاتل؟ وقد بايعني الذي أعطيته طاعتك ».

ولم يقتنع قيس بذلك وبقي مصرا على رأيه ، ولكن معاوية خاف من الفتنة ومن تطور الأحداث فبعث إليه طومارا ختم في أسفله ، وقال للرسول قل له فليكتب فيه ما شاء وغاظ ذلك ابن العاص ، لأن فيه نوعا

__________________

(1) شرح ابن أبي الحديد 4 / 15 ، وذكر المسعودي في مروج الذهب 2 / 319 ، إن هذا الحديث دار بين معاوية وقيس في حياة أمير المؤمنين (ع) حينما كان قيس عاملا له على مصر.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411