أحكام القرآن الجزء ٣

أحكام القرآن10%

أحكام القرآن مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 388

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥
  • البداية
  • السابق
  • 388 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 80099 / تحميل: 5633
الحجم الحجم الحجم
أحكام القرآن

أحكام القرآن الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

وترك نقل السبب نحو أن يختصم إليه رجلان أحدهما جار والآخر شريك فيحكم بالشفعة للشريك دون الجار وقال فإذا وقعت الحدود فلا شفعة لصاحب النصيب المقسوم مع الجار كما روى أسامة بن زيد أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لا ربا إلا في النسيئة وهو عند سائر الفقهاء كلام خارج على سبب اقتصر فيه راويه على نقل قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم دون ذكر السبب وهو أن يكون سئل عن النوعين المختلفين من الذهب والفضة إذا بيع أحدهما بالآخر فقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ربا إلا في النسيئة يعنى فيما سئل عنه وكذلك ما ذكرنا وأيضا لو تساوت أخبار إيجاب الشفعة بالجوار وأخبار نفيها لكانت أخبار الإيجاب أولى من أخبار النفي لأن الأصل أنها غير واجبة حتى يرد الشرع بإيجابها فخبر نفى الشفعة وارد على الأصل وخبر إثباتها ناقل عنه وارد بعده فهو أولى* فإن قيل يحتمل أن يريد بالجار الشريك* قيل له هذه الأخبار التي رويناها وأكثرها ينفى هذا التأويل لأن فيها أن جار الدار أحق بشفعة داره والشريك لا يسمى جار الدار وحديث جابر قال فيه ينتظر به وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا وغير جائز أن يكون هذا في الشريك في المبيع وأيضا فإن الشريك لا يسمى جارا لأنه لو استحق اسم الجوار بالشركة لوجب أن يكون كل شريكين في شيء جارين كالشريكين في عبد واحد ودابة واحدة فلما لم يستحق اسم الجار بالشركة في هذه الأشياء دل ذلك على أن الشريك لا يسمى جارا وإنما الجار هو الذي ينفرد حقه ونصيبه من حق الشريك ويتميز ملك كل واحد عن ملك صاحبه وأيضا فإن الشركة إنما تستحق بها الشفعة لأنها تقتضي حصول الجوار بالقسمة والدليل عليه أن الشركة في سائر الأشياء لا توجب الشفعة لعدم حصول الجوار بها عند القسمة فدل ذلك على أن الشركة في العقار إنما تستحق بها الشفعة لما يتعلق بها من الجوار عند القسمة وإن كان الشريك أحق من الجار لمزية حصلت له مع تعلق حق الجوار بالقسمة والدليل عليه أن الشركة في سائر الأشياء لا توجب الشفعة لعدم حصول الجوار بها كما أن الأخ من الأب والأم أولى بالميراث من الأخ من الأب وإن كانت الأخوة من جهة الأب يستحق بها التعصيب والميراث إذا لم يكن أخ لأب وأم ومعلوم أن القرابة من جهة الأم لا يستحق بها التعصيب إذ لم تكن هناك قرابة من جهة الأب إلا أنها أكدت تعصيب القرابة من الأب وكذلك الشريك إنما يستحق الشفعة بالشركة لما تعلق بها من حصول الجوار عند

«١١ ـ أحكام لث»

١٦١

القسمة والشريك أولى من الجار لمزية حصلت له كما وصفنا بالتعصيب ويكون المعنى الذي يتعلق به وجوب الشفعة هو الجوار وأيضا لما كان المعنى الذي به وجبت الشفعة بالشركة هو دوام التأذى بالشريك وكان ذلك موجودا في الجوار لأنه يتأذى به في الإشراف عليه ومطالعة أموره والوقوف على أحواله وجب أن تكون له الشفعة لوجود المعنى الذي من أجله وجبت الشفعة للشريك وهذا المعنى غير موجود في الجار غير الملاصق لأن بينه وبينه طريقا يمنعه التشرف عليه والاطلاع على أموره* وأما قوله تعالى( وَابْنَ السَّبِيلِ ) فإنه روى عن مجاهد والربيع بن أنس أنه المسافر وقال قتادة والضحاك هو الضيف قال أبو بكر ومعناه صاحب الطريق وهذا كما يقال لطير الماء ابن ماء قال الشاعر :

وردت اعتسافا والثريا كأنها

على قمة الرأس ابن ماء محلق

ومن تأوله على الضيف فقوله سائغ أيضا لأن الضيف كالمجتاز غير المقيم فسمى ابن السبيل تشبيها بالمسافر المجتاز وهو كما يقال عابر سبيل وقال الشافعى ابن السبيل هو الذي يريد السفر وليس معه نفقته وهذا غلط لأنه ما لم يصر في الطريق لا يسمى ابن السبيل كما لا يسمى مسافرا ولا عابر سبيل وقوله عز وجل( أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) يعنى الإحسان المأمور به في أول الآية وروى سليمان التيمي عن قتادة عن أنس قال كانت عامة وصية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم الصلاة وما ملكت أيمانكم حتى جعل يغرغر بها في صدره وما يقبض بها لسانه وروته أيضا أم سلمة وروى الأعمش عن طلحة بن مصرف عن أبى عمارة عن عمرو بن شرحبيل قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم الغنم بركة والإبل عز لأهلها والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة والمملوك أخوك فأحسن إليه فإن وجدته مغلوبا فأعنه وروى مرة الطيب(١) عن أبى بكر قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يدخل الجنة سيئ الملكة قيل يا رسول الله أليس قد حدثتنا أن هذه الأمة أكثر الأمم مملوكين وأتباعا قال بلى فأكرموهم ككرامة أولادكم وأطعموهم مما تأكلون وروى الأعمش عن المعرور بن سويد قال مررت على أبى ذر وهو بالربذة فسمعته يقول قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم المماليك

__________________

(١) قوله مرة الطيب : هو مرة بن شراحيل الهمدانى روى عن أبى بكر وعمر وجماعة يضال له مرة الطيب ومرة الخير ، قال الحارث الغنوي : سجد حتى أكل التراب جبهته ، هكذا في خلاصة تهذيب الكمال.

١٦٢

هم إخوانكم ولكن الله تعالى خولكم إياهم فأطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون وقوله تعالى( الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ) قيل في معنى البخل في اللغة أنه مشقة الإعطاء وقيل البخل منع ما لا ينفع منعه ولا يضر بذله وقيل البخل منع الواجب ونظيره الشح ونقيضه الجود وقد عقل من معناه في أسماء الدين أنه منع الواجب ويقال إنه لا يصح إطلاقه في الدين إلا على جهة أن فاعله قد أتى كبيرة بالمنع قال الله تعالى( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) فأطلق الوعيد على من بخل بحق الله الذي أوجبه في ماله وأما قوله تعالى( وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ) فإنه روى عن ابن عباس ومجاهد والسدى أنها نزلت في اليهود إذ بخلوا بما أعطوا من الرزق وكتموا ما أوتوا من العلم بصفة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل هو فيمن كان بهذه الصفة وفيمن كتم نعم الله وأنكرها وذلك كفر بالله تعالى قال أبو بكر الاعتراف بنعم الله تعالى واجب وجاحدها كافر وأصل الكفر إنما هو من تغطية نعم الله تعالى وكتمانها وجحودها وهذا يدل على أنه جائز للإنسان أن يتحدث بنعم الله عنده لا على جهة الفخر بل على جهة الاعتراف بالنعمة والشكر للمنعم وهو كقوله( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنا سيد ولد آدم ولا فخر وأنا أفصح العرب ولا فخر فأخبر بنعم الله عنده وأبان أنه ليس أخباره بها على وجه الافتخار وقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى وقد كانصلى‌الله‌عليه‌وسلم خيرا منه ولكنه نهى أن يقال ذلك على وجه الافتخار وقال تعالى( فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى ) وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سمع رجلا يمدح رجلا فقال لو سمعك لقطعت ظهره ورأى المقداد رجلا يمدح عثمان في وجهه فحثا في وجهه التراب وقال سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب وقد روى إياكم والتمادح فإنه الذبح فهذا إذا كان على وجه الفخر فقد كره وإما أن يتحدث بنعم الله عنده أو يذكرها غيره بحضرته فهذا نرجو أن لا يضر إلا أن أصلح الأشياء لقلب الإنسان أن لا يغتر بمدح الناس له ولا يعتد به* وقوله تعالى( وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ) معناه والله أعلم أنه أعد للذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس عذابا مهينا وفي ذلك دليل

١٦٣

على أن كل ما يفعله العبد لغير وجه الله فإنه لا قربة فيه ولا يستحق عليه الثواب لأن ما يفعل على وجه الرياء فإنما يريد به عوضا من الدنيا كالذكر الجميل والثناء الحسن فصار ذلك أصلا في أن كل ما أريد عوض من أعواض الدنيا أنه ليس بقربة كالاستيجار على الحج وعلى الصلاة وسائر القرب أنه متى استحق عليه عوضا يخرج بذلك عن باب القربة وقد علمنا أن هذه الأشياء سبيلها أن لا تفعل إلا على وجه القربة فثبت بذلك أنه لا يجوز أن يستحق عليها الأجرة وأن الإجارة عليها باطلة قوله تعالى( وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ ) يدل على بطلان مذهب أهل الجبر لأنهم لو لم يكونوا مستطيعين للإيمان بالله والإنفاق لما جاز أن يقال ذلك فيهم لأن عذرهم واضح وهو أنهم غير ممكنين مما دعوا إليه ولا قادرين عليه كما لا يقال للأعمى ماذا عليه لو أبصر ولا يقال للمريض ماذا عليه لو كان صحيحا وفي ذلك أوضح دليل على أن الله قطع عذرهم من فعل ما كلفهم من الإيمان وسائر الطاعات وأنهم ممكنون من فعلها* وقوله تعالى( يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً ) فأخبر الله عنهم أنهم لا يكتمون الله هناك شيئا من أحوالهم وما عملوه لعلمهم بأن الله مطلع عليهم عالم بأسرارهم فيقرون بها ولا يكتمونها وقيل يجوز أن يكون المراد أنهم لا يكتمون أسرارهم هناك كما كانوا يكتمونها في الدنيا فإن قيل قد أخبر الله عنهم أنهم يقولون والله ربنا ما كنا مشركين قيل له فيه وجوه أحدها أن الآخرة مواطن فموطن لا تسمع فيه إلا همسا أى صوتا خفيا وموطن يكذبون فيه فيقولون ما كنا نعمل من سوء والله ربنا ما كنا مشركين وموطن يعترفون فيه بالخطإ ويسئلون الله أن يردهم إلى دار الدنيا وروى ذلك عن الحسن وقال ابن عباس أن قوله تعالى( وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً ) داخل في التمني بعد ما نطقت جوارحهم بفضيحتهم وقيل إن معناه أنه لا يعتد بكتمانهم لأنه ظاهر عند الله لا يخفى عليه شيء فكان تقديره أنهم غير قادرين هناك على الكتمان لأن الله يظهره وقيل أنهم لم يقصدوا الكتمان لأنهم إنما أخبروا على ما توهموا ولا يخرجهم ذلك من أن يكونوا قد كتموا والله تعالى أعلم.

باب الجنب يمر في المسجد

قال الله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا

١٦٤

ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) قال أبو بكر قد اختلف في المراد من السكر بهذه الآية فقال ابن عباس ومجاهد وإبراهيم وقتادة السكر من الشراب وقال مجاهد والحسن نسخها تحريم الخمر وقال الضحاك المراد به سكر النوم خاصة* فإن قيل* كيف يجوز أن ينهى السكران في حال سكره وهو في معنى الصبى في نقص عقله* قيل له يحتمل أن يريد السكران الذي لم يبلغ نقصان عقله إلى حد يزول التكليف معه ويحتمل أن يكونوا نهوا عن التعرض للسكر إذا كان عليهم فرض الصلاة ويجوز أن يكون النهى إنما دل على أن عليهم أن يعيدوها في حال الصحو إذا فعلوها في حال السكر وجائز أن تكون هذه المعاني كلها مرادة بالآية في حال نزولها* فإن قال قائل إذا ساغ تأويل من تأولها على السكران الذي لم يزل عنه التكليف فكيف يجوز أن يكون منهيا عن فعل الصلاة في هذه الحال مع اتفاق المسلمين على أنه مأمور بفعل الصلاة في هذه الحال* قيل له قد روى عن الحسن وقتادة أنه منسوخ ويحتمل إن لم يكن منسوخا أن يكون النهى متوجها إلى فعل الصلاة مع الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم أو في جماعة* قال أبو بكر والصحيح من التأويل في معنى السكر أنه السكر من الشراب من وجهين أحدهما أن النائم ومن خالط عينه النوم لا يسمى سكران ومن سكر من الشراب يسمى سكران حقيقة فوجب حمل اللفظ على الحقيقة ولا يجوز صرفه عنها إلى المجاز إلا بدلالة والثاني ما روى سفيان عن عطاء بن السائب عن أبى عبد الرحمن عن على قال دعا رجل من الأنصار قوما فشربوا من الخمر فتقدم عبد الرحمن ابن عوف لصلاة المغرب فقرأ( قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ ) فالتبس عليه فأنزل الله تعالى( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ) وحدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان المؤدب قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله تعالى( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ ) وقال في سورة النساء( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) ثم نسختها هذه الآية( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ ) الآية* قال أبو عبيد وحدثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن على ابن أبى طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ ) قال وقوله تعالى( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) قال كانوا

١٦٥

لا يشربونها عند الصلاة فإذا صلوا العشاء شربوها* قال أبو عبيد حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن أبى إسحاق عن أبى ميسرة قال قال عمر اللهم بين لنا في الخمر فنزلت( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) وذكر الحديث* قال أبو عبيد وحدثنا هشيم قال أخبرنا مغيرة عن أبى رزين قال شربت الخمر بعد الآية التي في سورة البقرة والتي في سورة النساء وكانوا يشربونها حتى تحضر الصلاة فإذا حضرت الصلاة تركوها ثم حرمت في المائدة* قال أبو بكر فأخبر هؤلاء أن المراد السكر من الشراب وأخبر ابن عباس وأبو رزين إنهم تركوا شربها بعد نزول الآية عند الصلاة وشربوها في غير أوقات الصلوات ففي هذا دلالة على أنهم عقلوا من قوله تعالى( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ) النهى عن شربها في الحال التي يكونون فيها سكارى عند لزوم فرض الصلاة وهذا يدل على أن قوله تعالى( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ) إنما أفاد النهى عن شربها في أوقات الصلوات وكان معناه لا يكن منكم شرب تصيرون به إلى حال السكر عند أوقات الصلوات فتصلوا وأنتم سكارى وذلك أنهم لما كانوا متعبدين بفعل الصلوات في أوقاتها منهيين عن تركها قال تعالى( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ) وقد علمنا أنه لم ينسخ بذلك فرض الصلاة كان في مضمون هذا اللفظ النهى عما يوجب السكر عند أوقات الصلوات كما أنه لما نهينا عن فعل الصلاة مع الحدث لقوله تعالى( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يقبل الله صلاة بغير طهور وكما قال تعالى( وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) كان ذلك نهيا عن ترك الطهارة ولم يكن نهيا عن فعل الصلاة ولم يوجب كون الإنسان جنبا أو محدثا سقوط فرض الصلاة وإنما نهى عن فعلها في هذه الحال وهو مأمور مع ذلك بتقديم الطهارة لها كذلك النهى عن الصلاة في حال السكر إنما دل على حظر شرب يوجب السكر قبل الصلاة وفرض الصلاة قائم عليه فهذا التأويل يدل على ما روى عن ابن عباس وأبى رزين وظاهر الآية وفحواه يقتضى ذلك على الوجه الذي بينا وهذا التأويل لا ينافي ما قدمنا ذكره عن السلف في حظر الصلاة عند السكر لأنه جائز أن يكونوا نهوا عن شرب يقتضى كونه سكران عند حضور الصلاة فيكون ذلك حظرا قائما فإن اتفق أن يشرب حتى أنه كان سكران عند حضور الصلاة كان منهيا عن فعلها مأمورا بإعادتها في حال الصحو أو يكون النهى مقصورا على فعلها مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم

١٦٦

أو في جماعة وهذه المعاني كلها صحيحة جائزة يحتملها لفظ الآية* وقوله تعالى( حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) يدل على أن السكران الذي منع من الصلاة هو الذي قد بلغ به السكر إلى حال لا يدرى ما يقول وأن السكران الذي يدرى ما يقول لم يتناوله النهى عن فعل الصلاة وهذا يشهد للتأويل الذي ذكرنا من النهى إنما انصرف إلى الشرب لا إلى فعل الصلاة لأن السكران الذي لا يدرى ما يقول لا يجوز تكليفه في هذه الحال كالمجنون والنائم والصبى الذي لا يعقل والذي يعقل ما يقول لم يتوجه إليه النهى لأن في الآية إباحة فعل الصلاة إذا علم ما يقول وهذا يدل على أن الآية إنما حظرت عليه الشرب لا فعل الصلاة في حال السكر الذي لا يعلم ما يقول فيه إذ غير جائز تكليف السكران الذي لا يعقل وهي تدل على أن السكر الذي يتعلق به الحكم هو الذي لا يعقل صاحبه ما يقول وهذا يدل على صحة قول أبى حنيفة في السكر الموجب للحد أنه هو الذي لا يعرف فيه الرجل من المرأة ومن لا يعقل ما يقول لا يعرف الرجل من المرأة* وقوله تعالى( حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) يدل على فرض القراءة في الصلاة لأنه منعه من الصلاة لأجل عدم إقامة القراءة فيها فلو لا أنها من أركانها وفروضها لما منع من الصلاة لأجلها* فإن قيل لا دلالة في ذلك على وجوب القراءة فيها وذلك لأن قوله تعالى( حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) قد دل على أنه ممنوع منها في الحال التي لا يعلم ما يقول ولم يذكر القراءة وإنما ذكر نفى العلم بما يقول وهذا على سائر الأقوال والكلام ومن صار بهذه الحال من السكر لم يصح له إحضار نية الصلاة ولا فعل سائر أركانها فإنما منع من الصلاة من كانت هذه حاله لأنه لا تصح منه نية الصلاة ولا سائر أفعالها ومع ذلك فلا يعلم أنه طاهر غير محدث* قيل له هذا على ما ذكرت في أن من كانت هذه حاله فلا يصح منه فعل الصلاة على سائر شرائطها إلا أن اختصاصه القول بالذكر دون غيره من أمور الصلاة وأحوالها يدل على أن المراد به قول مفعول في الصلاة وأنه متى كان من السكر على حال لم يمكنه إقامة القراءة فيها لم يصح له فعلها لأجل عدم القراءة وأن وجود القراءة فيها من فروضها وشرائطها وهذا مثل قوله( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) في إفادته أن في الصلاة قياما مفروضا ومثل قوله( وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ) في دلالته على فرض الركوع في الصلاة* وأما قوله تعالى( وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) فإن أهل العلم قد تنازعوا تأويله فروى المنهال بن عمرو عن زر عن على

١٦٧

رضى الله عنه في قوله( وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ ) إلا أن تكونوا مسافرين ولا تجدون ما تيممون به وتصلون وروى قتادة عن أبى مجلز عن ابن عباس مثله وعن مجاهد مثله وروى عن عبد الله بن مسعود أنه قال هو الممر في المسجد وروى عطاء بن يسار عن ابن عباس مثله في تأويل الآية وكذلك روى عن سعيد بن المسيب وعطاء وعمرو بن دينار في آخرين من التابعين* واختلف السلف في مرور الجنب في المسجد فروى عن جابر قال كان أحدنا يمر في المسجد مجتازا وهو جنب وقال عطاء بن يسار كان رجال من أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم تصيبهم الجنابة فيتوضئون ثم يأتون المسجد فيتحدثون فيه وقال سعيد بن المسيب الجنب لا يجلس في المسجد ويجتاز وكذلك روى عن الحسن وما روى في ذلك عن عبد الله فإن الصحيح فيه ما تأوله شريك عن عبد الكريم الجزري عن أبى عبيدة( وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ ) قال الجنب يمر في المسجد ولا يجلس ورواه معمر عن عبد الكريم عن أبى عبيدة عن عبد الله ويقال إن أحدا لم يرفعه إلى عبد الله غير معمر وسائر الناس وقفوه واختلف فقهاء الأمصار في ذلك فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد لا يدخله إلا طاهرا سواء أراد القعود فيه والاجتياز وهو قول مالك ابن أنس والثوري وقال الليث الجنب لا يجوز له أن يجتاز في المسجد وقال الشافعى يمر ولا يقعد والدليل على أن الجنب لا يجوز له أن يجتاز في المسجد ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مسدد قال حدثنا عبد الواحد بن زياد قال حدثنا أقلت بن خليفة قال حدثتني جسرة بنت دجاجة قالت سمعت عائشة رضى الله عنها تقول جاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد فقال وجهوا هذه البيوت عن المسجد ثم دخل ولم يصنع القوم شيئا رجاء أن تنزل لهم رخصة فخرج إليهم بعد فقال وجهوا هذه البيوت فإنى لا أحل المسجد لحائض ولا جنب وهذا الخبر يدل من وجهين على ما ذكرنا أحدهما قوله لا أحل المسجد لحائض ولا جنب ولم يفرق فيه بين الاجتياز وبين القعود فهو عليهما سواء والثاني أنه أمرهم بتوجيه البيوت الشارعة لئلا يجتازوا في المسجد إذا أصابتهم جنابة لأنه لو أراد القعود لم يكن لقوله وجهوا هذه البيوت فإنى لا أحل المسجد لحائض ولا جنب معنى لأن القعود منهم بعد دخول المسجد لا تعلق له بكون البيوت شارعة إليه فدل على أنه إنما أمر بتوجيه البيوت لئلا يضطروا عند الجنابة

١٦٨

إلى الاجتياز في المسجد إذ لم يكن لبيوتهم أبواب غير ما هي شارعة إلى المسجد* وقد روى سفيان بن حمزة عن كثيرة بن زيد عن المطلب أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن أذن لأحد أن يمر في المسجد ولا يجلس فيه وهو جنب إلا على بن أبى طالب فإنه كان يدخله جنبا ويمر فيه لأن بيته كان في المسجد فأخبر في هذا الحديث بحظر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم الاجتياز كما حظر عليهم العقود* وما ذكر من خصوصية على رضى الله عنه فهو صحيح وقول الراوي لأنه كان بيته في المسجد ظن منه لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أمر في الحديث الأول بتوجيه البيوت الشارعة إلى غيره ولم يبح لهم المرور لأجل كون بيوتهم في المسجد وإنما كانت الخصوصية فيه لعلى رضى الله عنه دون غيره كما خص جعفر بأن له جناحين في الجنة دون سائر الشهداء وكما خص حنظلة بغسل الملائكة له حين قتل جنبا وخص دحية الكلبي بأن جبريل كان ينزل على صورته وخص الزبير بإباحة لبس الحرير لما شكا من أذى القمل فثبت بذلك أن سائر الناس ممنوعون من دخول المسجد مجتازين وغير مجتازين* وأما ما روى جابر كان أحدنا يمر في المسجد مجتازا وهو جنب فلا حجة فيه لأنه لم يخبر أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم علم بذلك فأقره عليه وكذلك ما روى عن عطاء بن يسار كان رجال من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم تصيبهم الجنابة فيتوضئون ثم يأتون المسجد فيتحدثون فيه لا دلالة فيه للمخالف لأنه ليس فيه أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أقرهم عليه بعد علمه بذلك منهم ولأنه جائز أن يكون ذلك في زمان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يحظر عليهم ذلك ولو ثبت جميع ذلك عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم روى ما وصفنا لكان خبر الحظر أولى لأنه طارئ على الإباحة لا محالة فهو متأخر عنها ولما ثبت باتفاق الفقهاء حظر القعود فيه لأجل الجنابة تعظيما لحرمة المسجد وجب أن يكون كذلك حكم الاجتياز تعظيما للمسجد ولأن العلة في حظر القعود فيه هو الكون فيه جنبا وذلك موجود في الاجتياز وكما أنه لما كان محظورا عليه القعود في ملك غيره بغير إذنه كان حكم الاجتياز فيه حكم القعود فكان الاجتياز بمنزلة القعود كذلك القعود في المسجد لما كان محظورا وجب أن يكون كذلك الاجتياز اعتبارا بما ذكرنا والعلة في الجميع حظر الكون فيه وأما قوله تعالى( وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) وتأويل من تأوله على إباحة الاجتياز في المسجد فإن ما روى عن على وابن عباس في تأويله أن المراد المسافر الذي لا يجد الماء فيتيمم أولى من تأويل من تأوله على الاجتياز في المسجد وذلك

١٦٩

لأن قوله تعالى( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ) نهى عن فعل الصلاة في هذه الحال لا عن المسجد لأن ذلك حقيقة اللفظ ومفهوم الخطاب وحمله على المسجد عدول بالكلام عن حقيقته إلى المجاز بأن تجعل الصلاة عبارة عن موضعها كما يسمى الشيء باسم غيره للمجاورة أو لأنه تسبب منه كقوله تعالى( لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ ) يعنى به مواضع الصلوات ومتى أمكننا استعمال اللفظ على حقيقته لم يجز صرفه عنها إلى المجاز إلا بدلالة ولا دلالة توجب صرف ذلك عن الحقيقة وفي نسق التلاوة ما يدل على أن المراد حقيقة الصلاة وهو قوله تعالى( حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) وليس للمسجد قول مشروط يمنع من دخوله لتعذره عليه عند السكر وفي الصلاة قراءة مشروطة فمنع من أجل العذر عن إقامتها عن فعل الصلاة فدل ذلك على أن المراد حقيقة الصلاة فيكون تأويل من تأوله عليها موافقا لظاهرها وحقيقتها* وقوله تعالى( إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) فإن معناه المسافر لأن المسافر يسمى عابر سبيل ولو لا أنه يطلق عليه هذا الاسم لما تأوله عليه على وابن عباس إذ غير جائز لأحد تأويل الآية على ما لا يقع عليه الاسم وإنما سمى المسافر عابر سبيل لأنه على الطريق كما يسمى ابن السبيل فأباح الله تعالى له في حال السفر أن يتيمم ويصلى وإن كان جنبا فدلت الآية على معنيين أحدهما جواز التيمم للجنب إذا لم يجد الماء والصلاة به والثاني أن التيمم لا يرفع الجنابة لأنه سماه جنبا مع كونه متيمما فهذا التأويل أولى من تأويل من حمله على الاجتياز في المسجد* وقوله تعالى( حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) غاية لإباحة الصلاة ولا خلاف أن الغاية في هذا الموضع داخلة في الحظر إلى أن يستوعبها بوجوب الاغتسال وأنه لا تجوز له الصلاة وقد بقي من غسله شيء في حال وجود الماء وإمكان استعماله من غير ضرر يخافه فهذا يدل على أن الغاية قد تدخل في الجملة التي قبلها وقال الله تعالى( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) والغاية خارجة من الجملة لأنه بدخول أول الليل يخرج من الصوم لأن إلى غاية كما أن حتى غاية* وهذا أصل في أن الغاية قد يجوز دخولها في الكلام تارة وخروجها أخرى وحكمها موقوف على الدلالة في دخولها أو خروجها وسنذكر أحكام الجنابة ومعناها وحكم المريض والمسافر في سورة المائدة إذا انتهينا إليها إن شاء الله تعالى قوله تعالى( آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً ) يدل على قول أصحابنا في قول الرجل لامرأته أنت طالق قبل قدوم فلان أنها

١٧٠

تطلق في الحال قدم فلان أو لم يقدم وحكى عن بعضهم أنها لا تطلق حتى يقدم لأنه لا يقال أنه قبل قدوم فلان وما قدم والصحيح ما قال أصحابنا وهذه الآية تدل عليه لأنه قال الله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً ) فكان الأمر بالإيمان صحيحا قبل طمس الوجوه ولم يوجد الطمس أصلا وكان ذلك إيمانا قبل طمس الوجوه وما وجد وهو نظير قوله تعالى( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ) فكان الأمر بالعتق للرقبة أمرا صحيحا وإن لم يوجد المسيس فإن قيل إن هذا وعيد من الله لليهود ولم يسلموا ولم يقع ما توعدوا به قيل له إن قوما من هؤلاء اليهود أسلموا منهم عبد الله بن سلام وثعلبة بن سعية وزيد بن سعنة وأسد بن سعية وأسد بن عبيد ومخيريق في آخرين منهم وإنما كان الوعيد العاجل معلقا بترك جميعهم الإسلام ويحتمل أن يريد به الوعيد في الآخرة إذ لم يذكر في الآية تعجيل العقوبة في الدنيا إن لم يسلموا قوله تعالى( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ ) قال الحسن وقتادة والضحاك هو قول اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى وروى عن عبد الله أنه قال هو تزكية الناس بعضهم بعضا لينال به شيئا من الدنيا* قال أبو بكر وهذا يدل على أن النهى عن التزكية من هذا الوجه وقال الله( فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ) وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب * قوله تعالى( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ) روى عن ابن عباس ومجاهد والضحاك والسدى وعكرمة إن المراد بالناس هاهنا هو النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة وقال قتادة العرب وقال آخرون النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه وهذا أولى لأن أول الخطاب في ذكر اليهود وقد كانوا قبل ذلك يقرؤن في كتبهم مبعث النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وصفته وحال نبوته وكانوا يوعدون العرب بالقتل عند مبعثه لأنهم زعموا أنهم لا يتبعونه وكانوا يظنون أنه يكون من بنى إسرائيل فلما بعثه الله تعالى من ولد إسماعيل حسدوا العرب وأظهروا الكفر به وجحدوا ما عرفوه قال الله تعالى( وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ) وقال الله تعالى( وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ ) فكانت عداوة للعرب ظاهرة بعد مبعث النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حسدا منهم لهم أن يكون النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مبعوثا منهم فالأظهر من معنى الآية حسدهم للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وللعرب

١٧١

والحسد هو تمنى زوال النعمة عن صاحبها ولذلك قيل إن كل أحد تقدر أن ترضيه إلا حاسد نعمة فإنه لا يرضيه إلا زوالها والغبطة غير مذمومة لأنها تمنى مثل النعمة من غير زوالها عن صاحبها بل مع سرور منه ببقائها عليه* قوله تعالى( كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها ) قيل فيه إن الله تعالى يجدد لهم جلودا غير الجلود التي احترقت والقائلون بهذا هم الذين يقولون إن الجلد ليس بعض الإنسان وكذلك اللحم والعظم وأن الإنسان هو الروح اللابس لهذا البدن ومن قال إن الجلد هو بعض الإنسان وأن الإنسان هو هذا الشخص بكماله فإنه يقول إن الجلود تجدد بأن ترد إلى الحال التي كانت عليها غير محترقة كما يقال لخاتم كثر ثم صيغ خاتم آخر هذا الخاتم غير ذاك الخاتم وكما يقال لمن قطع قميصه قباء هذا اللباس غير ذاك اللباس وقال بعضهم التبديل إنما هو للسرابيل التي قد ألبسوها وهو تأويل بعيد لأن السرابيل لا تسمى جلودا والله تعالى أعلم.

باب ما أوجب الله تعالى من أداء الأمانات

قال الله تعالى( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ) اختلف أهل التفسير في المأمورين بأداء الأمانة في هذه الآية من هم فروى عن زيد بن أسلم ومكحول وشهر ابن حوشب أنهم ولاة الأمر وقال ابن جريج أنها نزلت في عثمان بن طلحة أمر بأن ترد عليه مفاتيح الكعبة وقال ابن عباس وأبى بن كعب والحسن وقتادة هو في كل مؤتمن على شيء وهذا أولى لأن قوله تعالى( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ ) خطاب يقتضى عمومه سائر المكلفين فغير جائز الاقتصار به على بعض الناس دون بعض إلا بدلالة وأظن من تأوله على ولاة الأمر ذهبت إلى قوله تعالى( وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) لما كان خطابا لولاة الأمر كان ابتداء الخطاب منصرفا إليهم وليس ذلك كذلك إذ لا يمتنع أن يكون أول الخطاب عموما في سائر الناس وما عطف عليه خاصا في ولاة الأمر على ما ذكرنا في نظائره في القرآن وغيره* قال أبو بكر ما اؤتمن عليه الإنسان فهو أمانة فعلى المؤتمن عليها ردها إلى صاحبها فمن الأمانات الودائع على مودعيها ردها إلى من أودعه إياها ولا خلاف بين فقهاء الأمصار أنه لا ضمان على المودع فيها إن هلكت* وقد روى عن بعض السلف فيه الضمان ذكر الشعبي عن أنس قال استحملنى رجل بضاعة فضاعت من بين ثيابي فضمننى عمر بن الخطاب* وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا حامد بن

١٧٢

محمد قال حدثنا شريح قال حدثنا ابن إدريس عن هشام بن حسان عن أنس بن سيرين عن أنس بن مالك قال استودعت ستة آلاف درهم فذهبت فقال لي عمر ذهب لك معها شيء قلت لا فضمننى* وروى حجاج عن أبى الزبير عن جابر أن رجلا استودع متاعا* فذهب من بين متاعه فلم يضمنه أبو بكر رضى الله عنه وقال هي أمانة* وحدثنا عبد الباقي ابن قانع قال حدثنا إسماعيل بن الفضل قال حدثنا قتيبة قال حدثنا ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال من استودع وديعة فلا ضمان عليه * وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا إبراهيم بن هاشم قال حدثنا محمد بن عون قال حدثنا عبد الله ابن نافع عن محمد بن نبيه الحجبي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ضمان على راع ولا على مؤتمن * قال أبو بكر قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ضمان على مؤتمن يدل على نفى ضمان العارية لأن العارية أمانة في يد المستعير إذ كان المعير قد ائتمنه عليها ولا خلاف بين الفقهاء في نفى ضمان الوديعة إذا لم يتعد فيها المودع ما روى عن عمر في تضمين الوديعة فجائز أن يكون المودع اعترف بفعل يوجب الضمان عنده فلذلك ضمنه* واختلف الفقهاء في ضمان العارية بعد اختلاف من السلف فروى عن عمر وعلى وجابر وشريح وإبراهيم أن العارية غير مضمونة وروى عن ابن عباس وأبى هريرة أنها مضمونة وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد هي غير مضمونة إذا هلكت وهو قول ابن شبرمة والثوري والأوزاعى وقال عثمان البتى المستعير ضامن لما استعاره إلا الحيوان والعقل فإن اشترط عليه في الحيوان والعقل الضمان فهو ضامن وقال مالك لا يضمن الحيوان في العارية ويضمن الحلي والثياب ونحوها وقال الليث لا ضمان في العارية ولكن أبا العباس أمير المؤمنين قد كتب إلى بأن أضمنها فالقضاء اليوم على الضمان وقال الشافعى كل عارية مضمونة* قال أبو بكر والدليل على نفى ضمانها عند الهلاك إذا لم يتعد فيها أن المعير قد ائتمن المستعير عليها حين دفعها إليه وإذا كان أمينا لم يلزمه ضمانها لأنا روينا عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لا ضمان على مؤتمن وذلك عموم في نفى الضمان عن كل مؤتمن وأيضا لما كانت مقبوضة بإذن مالكها لا على شرط الضمان لم يضمنها كالوديعة وأيضا قد اتفق الجميع على نفى ضمان الثوب المستأجر مع شرط بذل المنافع إذا لم يشترط عليه ضمان بدل المقبوض فالعارية أولى أن لا تكون مضمونة إذ ليس فيها ضمان مشروط

١٧٣

بوجه ومن جهة أخرى أن المقبوض على وجه الإجارة مقبوض لاستيفاء المنافع ولم يكن مضمونا فوجب أن لا تضمن العارية إذ كانت مقبوضة لاستيفاء المنافع وأيضا لما كانت الهبة غير مضمونة على الموهوب له لأنها مقبوضة بإذن مالكها لا على شرط ضمان البدل وهي معروف وتبرع وجب أن تكون العارية كذلك إذ هي معروف وتبرع وأيضا قد اتفق الجميع على أن العارية لو نقصت بالاستعمال لم يضمن النقصان فإذا كان الجزء منها غير مضمون مع حصول القبض عليه وجب أن لا يضمن الكل لأن ما تعلق ضمانه بالقبض لا يختلف فيه حكم الكل والبعض كالغصب والمقبوض ببيع فاسد فلما اتفق الجميع على أن الجزء الفائت بالنقصان غير مضمون وجب أن لا يضمن الجميع كالودائع وسائر الأمانات* وقد اختلف في ألفاظ حديث صفوان بن أمية في العارية فذكر بعضهم فيه الضمان ولم يذكره بعضهم وروى شريك عن عبد العزيز بن رفيع عن ابن أبى مليكة عن أمية بن صفوان بن أمية عن أبيه قال استعار النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من صفوان أدراعا من حديد يوم حنين فقال له يا محمد مضمونة فقال مضمونة فضاع بعضها فقال له النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إن شئت غرمناها لك فقال أنا أرغب في الإسلام من ذلك يا رسول الله ورواه إسرائيل عن عبد العزيز بن رفيع عن ابن أبى مليكة عن صفوان بن أمية قال استعار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من صفوان بن أمية أدراعا فضاع بعضها فقال إن شئت غرمناها لك فقال لا يا رسول الله فوصله شريك وذكر فيه الضمان وقطعه إسرائيل ولم يذكر الضمان وروى قتادة عن عطاء أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم استعار من صفوان بن أمية دروعا يوم حنين فقال له أمؤداة يا رسول الله العارية فقال نعم وروى جرير عن عبد العزيز بن رفيع عن أنا؟؟؟ س من آل عبد الله بن صفوان قال أراد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يغزو حنينا وذكر الحديث من غير ذكر ضمان ويقال أنه ليس في رواة هذا الحديث أحفظ ولا اتقن ولا أثبت من جرير بن عبد الحميد ولم يذكر الضمان ولو تكافأت الرواة فيه حصل مضطربا وقد روى في أخبار أخر من طريق أبى أمامة وغيره أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال العارية مؤداة وإن صح ذكر الضمان في حديث صفوان فإن معناه ضمان الأداء كما روى في بعض ألفاظ حديث صفوان أنه قال هي مضمونة حتى أؤديها إليك وكما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا الفريابي قال حدثنا قتيبة قال حدثنا الليث عن يزيد بن أبى حبيب عن سعيد بن أبى هند أن أول ما ضمنت العارية أن رسول

١٧٤

اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لصفوان أعرنا سلاحك وهي علينا ضمان حتى نأتيك بها فثبت بذلك أنه إنما شرط له ضمان الرد وذلك لأن صفوان كان حربيا كافرا في ذلك الوقت فظن أنه يأخذها على جهة استباحة ماله كسائر أموال الحربيين ولذلك قال له أغصبا تأخذها يا محمد فقال لا بل عارية مضمونة حتى أؤديها إليك وعارية مؤداة فأخبره النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه يأخذها على أنها عارية مؤداة وأنه ليس يأخذها على سبيل ما تؤخذ عليه أموال أهل الحرب وهو كقول القائل أنا ضامن لحاجتك يعنى القيام بها والسعى فيها حتى يقضيها قال الشاعر يصف ناقة :

بتلك أسلى حاجة إن ضمنتها

وأبرئ هما كان في الصدر داخلا

قال أهل اللغة في قوله إن ضمنتها يعنى إن هممت وأردتها وأيضا فإنا نسلم للمخالف صحة الخبر بما روى فيه من الضمان ونقول أنه لا دلالة فيه على موضع الخلاف وذلك لأنه قال عارية مضمونة فجعل الأدراع التي قبضها مضمونة وهذا يقتضى ضمان عينها بالرد لا ضمان قيمتها إذ لم يقل أضمن قيمتها وغير جائز صرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز إلا بدلالة وأيضا فيما ادعى المخالف إثبات ضمير في اللفظ لا دلالة عليه وهو ضمان القيمة ولا يجوز إثباته إلا بدلالة ويدل على أنها لم تكن مضمونة ضمان القيمة عند الهلاك أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لما فقد منها أدراعا قال لصفوان إن شئت غرمناها لك فلو كان ضمان القيمة قد حصل عليه لما قال إن شئت غرمناها لك وهو غارم فدل ذلك على أن الغرم لم يجب بالهلاك وأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما أراد أن يغرمها إذا شاء ذلك صفوان متبرعا بالغرم ألا ترى أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لما استقرض عن عبد الله بن ربيعة ثلاثين ألفا في هذه الغزاة أيضا ثم أراد أن يردها إلى عبد الله أبى عبد الله أن يقبلها فقال له خذها فإن جزاء القرض الوفاء والحمد فلو كان الغرم لازما فيما فقد من الأدراع لما قال إن شئت غرمناها لك ويدل على أنه لم يكن ضامنا لقيمة ما فقد أنه قال لا فإن في قلبي اليوم من الإيمان ما لم يكن قبل وفي ذلك دليل على أنها لم تكن مضمونة القيمة لأن ما كان مضمونا لا يختلف حكمه في الإيمان والكفر وقال بعض شيوخنا إن صفوان لما كان حربيا جاز أن يشرط له ذلك إذ قد يجوز فيما بيننا وبين أهل الحرب من الشروط ما لا يجوز فيما بيننا بعضنا لبعض ألا ترى أنه يجوز أن يرتهن منهم الأحرار ولا يجوز مثله فيما بيننا أو كان أبو الحسن الكرخي يأبى هذا التأويل

١٧٥

ويقول لا يصح شرط الضمان لأهل الحرب فيما ليس بمضمون ألا ترى أنا لو شرطنا لهم مان الودائع والمضاربات ونحوها لم يصح* واحتج من قال بضمان العارية بما رواه شعبة وسعيد بن أبى عروبة عن قتادة عن الحسن عن سمرة قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم على اليد ما أخذت حتى تؤديه ولا دلالة في هذا الحديث أيضا على موضع الخلاف لأنه إنما أوجب رد المأخوذ بعينه وليس فيه ذكر ضمان القيمة عند هلاكه ونحن نقول أن عليه رد العارية فهذا لا خلاف فيه ولا تعلق له أيضا بموضع الخلاف والله تعالى أعلم بالصواب.

باب ما أمر الله تعالى به من الحكم بالعدل

قال الله تعالى( وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) وقال تعالى( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ) وقال تعالى( وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى ) وحدثنا عبد الباقي ابن قانع قال حدثنا عبد الله بن موسى بن أبى عثمان قال حدثنا عبيد بن حباب الحلي قال حدثنا عبد الرحمن بن أبى الرجال عن إسحاق بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله قال قال ثابت الأعرج أخبرنى أنس بن مالك عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لا تزال هذه الأمة بخير ما إذا قالت صدقت وإذا حكمت عدلت وإذا استرحمت رحمت وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا عبد الرحمن المقري عن كهمس بن الحسن عن عبد الله الأسلمى قال شتم رجل ابن عباس فقال له ابن عباس إنك لتشتمنى وفي ثلاث خصال إنى لآتى على الآية من كتاب الله تعالى فلوددت بالله أن الناس كلهم يعلمون منها ما أعلم وإنى لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يعدل في حكمه فأفرح به ولعلى لا أقاضى إليه أبدا وإنى لأسمع بالغيث قد أصاب البلد من بلاد المسلمين فأفرح به ومالي من سائمة وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا الحارث بن أبى أسامة قال حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام قال حدثنا عبد الرحمن بن مهدى عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن قال إن الله أخذ على الحكام ثلاثا أن لا يتبعوا الهوى وأن يخشوه ولا يخشوا الناس وأن لا يشتروا بآياته ثمنا قليلا ثم قرأ( يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى ) الآية وقال الله تعالى( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا ـ إلى قوله تعالى ـفَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ) .

١٧٦

باب في طاعة أولى الأمر

قال الله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) قال أبو بكر اختلف في تأويل أولى الأمر فروى عن جابر بن عبد الله وابن عباس رواية والحسن وعطاء ومجاهد أنهم أولوا الفقه والعلم وعن ابن عباس رواية وأبى هريرة أنهم أمراء السرايا ويجوز أن يكونوا جميعا مرادين بالآية لأن الاسم يتناولهم جميعا لأن الأمراء يلون أمر تدبير الجيوش والسرايا وقتال العدو والعلماء يلون حفظ الشريعة وما يجوز مما لا يجوز فأمر الناس بطاعتهم والقبول منهم ما عدل الأمراء والحكام وكان العلماء عدولا مرضيين موثوقا بدينهم وأمانتهم فيما يؤدون وهو نظير قوله تعالى( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) ومن الناس من يقول إن الأظهر من أولى الأمر هاهنا أنهم الأمراء لأنه قدم ذكر الأمر بالعدل وهذا خطاب لمن يملك تنفيذ الأحكام وهم الأمراء والقضاة ثم عطف عليه الأمر بطاعة أولى الأمر وهم ولاة الأمر الذين يحكمون عليهم ماداموا عدولا مرضيين وليس يمتنع أن يكون ذلك أمرا بطاعة الفريقين من أولى الأمر وهم أمراء السرايا والعلماء إذ ليس في تقدم الأمر بالحكم بالعدل ما يوجب الاقتصار بالأمر بطاعة أولى الأمر على الأمراء دون غيرهم وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال من أطاع أميرى فقد أطاعنى وروى الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال قام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالخيف من منى فقال نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها ثم أداها إلى من لم يسمعها فرب حامل فقه لا فقه له ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن إخلاص العمل لله تعالى وقال بعضهم وطاعة ذوى الأمر وقال بعضهم والنصيحة لأولى الأمر ولزوم جماعة المسلمين فإن دعوتهم تحيط من وراءهم والأظهر من هذا الحديث أنه أراد بأولى الأمر الأمراء وقوله تعالى عقيب ذلك( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ ) يدل على أن أولى الأمر هم الفقهاء لأنه أمر سائر الناس بطاعتهم ثم قال( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ ) فأمر أولى الأمر برد المتنازع فيه إلى كتاب الله وسنة نبيهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا كانت العامة ومن ليس من أهل العلم ليست هذه منزلتهم لأنهم لا يعرفون كيفية الرد إلى كتاب الله والسنة ووجوه دلائلهما على أحكام الحوادث فثبت أنه خطاب للعلماء* واستدل بعض أهل العلم على إبطال قول

«١٢ ـ أحكام لث»

١٧٧

الرافضة في الإمامة بقوله تعالى( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) قال فليس يخلو أولو الأمر من أن يكونوا الفقهاء أو الأمراء أو الإمام الذي يدعونه فإن كان المراد الفقهاء والأمراء فقد بطل أن يكون الإمام والفقهاء والأمراء يجوز عليهم الغلط والسهو والتبديل والتغيير وقد أمرنا بطاعتهم وهذا يبطل أصل الإمامة فإن شرط الإمامة عندهم أن يكون معصوما لا يجوز عليه الغلط والخطأ والتبديل والتغيير ولا يجوز أن يكون المراد الإمام لأنه قال في نسق الخطاب( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ ) فلو كان هناك إمام مفروض الطاعة لكان الرد إليه واجبا وكان هو يقطع الخلاف والتنازع فلما أمر برد المتنازع فيه من الحوادث إلى الكتاب والسنة دون الإمام دل ذلك على بطلان قولهم في الإمامة ولو كان هناك إمام تجب طاعته لقال فردوه إلى الإمام لأن الإمام عندهم هو الذي يقضى قوله على تأويل الكتاب والسنة فلما أمر بطاعة أمراء السرايا والفقهاء وأمر برد المتنازع فيه من الحوادث إلى الكتاب والسنة دون الإمام ثبت أن الإمام غير مفروض الطاعة في أحكام الحوادث المتنازع فيها وأن لكل واحد من الفقهاء أن يردها إلى نظائرها من الكتاب والسنة* وزعمت هذه الطائفة أن المراد بقوله تعالى( وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) على بن أبى طالب رضى الله عنه وهذا تأويل فاسد لأن أولى الأمر جماعة وعلى بن أبى طالب رجل واحد وأيضا فقد كان الناس مأمورين بطاعة أولى الأمر في زمان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعلوم أن على بن أبى طالب لم يكن إماما في أيام النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فثبت أن أولى الأمر في زمان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا أمراء وقد كان المولى عليهم طاعتهم ما لم يأمروهم بمعصية. وكذلك حكمهم بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في لزوم اتباعهم وطاعتهم ما لم تكن معصية قوله تعالى( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ ) روى مجاهد وقتادة وميمون بن مهران والسدى إلى كتاب الله تعالى وسنة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال أبو بكر وذلك عموم في وجوب الرد إلى كتاب الله وسنة نبيهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في حياة النبي وبعد وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وسلم * والرد إلى الكتاب والسنة يكون من وجهين أحدهما إلى المنصوص عليه المذكور باسمه ومعناه والثاني الرد إليهما من الدلالة عليه واعتباره به من طريق القياس والنظائر وعموم اللفظ ينتظم الأمرين جميعا فوجب إذا تنازعنا في شيء رده إلى نص الكتاب والسنة إن وجدنا المتنازع فيه منصوصا على حكمه في الكتاب والسنة وإن لم نجد

١٧٨

فيه نصا منهما وجب رده إلى نظيره منهما لأنا مأمورون بالرد في كل حال إذ لم يخصص الله تعالى الأمر بالرد إليهما في حال دون حال وعلى أن الذي يقتضيه فحوى الكلام وظاهره الرد إليهما فيما لا نص فيه وذلك لأن المنصوص عليه الذي لا احتمال فيه لغيره لا يقع التنازع فيه من الصحابة مع علمهم باللغة ومعرفتهم بما فيه احتمال مما لا احتمال فيه فظاهر ذلك يقتضى رد المتنازع فيه إلى نظائره من الكتاب والسنة فإن قيل إنما المراد بذلك ترك التنازع والتسليم لما في كتاب الله وسنة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم * قيل إن ذلك خطاب للمؤمنين لأنه قال تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) فإن كان تأويله ما ذكرت فإن معناه اتبعوا كتاب الله وسنة نبيه وأطيعوا الله ورسوله وقد علمنا أن كل من آمن ففي اعتقاده للإيمان اعتقاد لالتزام حكم الله وسنة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيؤدى ذلك إلى إبطال فائدة قوله تعالى( فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ ) وعلى أن ذلك قد تقدم الأمر به في أول الآية وهو قوله تعالى( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) فغير جائز حمل مغنى قوله تعالى( فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ ) على ما قد أفاده بديا في أول الخطاب ووجب حمله على فائدة محددة وهو رد غير المنصوص عليه وهو الذي وقع فيه التنازع إلى المنصوص عليه وعلى أنا نرد جميع المتنازع فيه إلى الكتاب والسنة بحق العموم ولا نخرج منه شيئا بغير دليل* فإن قيل لما كانت الصحابة مخاطبين بحكم هذه الآية عند التنازع في حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان معلوما أنه لم يكن يجوز لهم استعمال الرأى والقياس في أحكام الحوادث بحضرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بل كان عليهم التسليم له واتباع أمره دون تكلف الرد من طريق القياس ثبت أن المراد استعمال المنصوص وترك تكلف النظر والاجتهاد فيما لا نص فيه* قيل له هذا غلط وذلك لأن استعمال الرأى والاجتهاد ورد الحوادث إلى نظائرها من المنصوص قد كان جائزا في حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فإحداهما في حال غيبتهم عن حضرته كما أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم معاذا حين بعثه إلى اليمن فقال له كيف تقضى إن عرض لك قضاء قال أقضى بكتاب الله قال فإن لم يكن في كتاب الله قال أقضى بسنة نبي الله قال فإن لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله قال اجتهد رأيى لا ألو قال فضرب بيده على صدره وقال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضى رسول الله فهذه إحدى الحالين اللتين كان يجوز الاجتهاد فيهما في حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم والحال الأخرى أن يأمره النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاجتهاد

١٧٩

بحضرته ورد الحادثة إلى نظائرها ليستبرئ حاله في اجتهاده وهل هو موضع لذلك ولكن إن أخطأ وترك طريق النظر أعلمه وسدده وكان يعلمهم وجوب الاجتهاد في أحكام الحوادث بعده فالاجتهاد بحضرته على هذا الوجه سائغ كما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا أسلم بن سهل قال حدثنا محمد بن خالد بن عبد الله قال حدثنا أبى عن حفص بن سليمان عن كثير بن شنظير عن أبى العالية عن عقبة بن عامر قال جاء خصمان إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال اقض بينهما يا عقبة قلت يا رسول الله أقضى بينهما وأنت حاضر قال اقض بينهما فإن أصبت فلك عشر حسنات وأن أخطأت فلك حسنة واحدة فأباح له النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم الاجتهاد بحضرته على الوجه الذي ذكرنا وأمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لمعاذ وعقبة بن عامر بالاجتهاد صدر عندنا عن الآية وهو قوله تعالى( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ ) لأنا متى وجدنا من النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حكما مواطئا لمعنى قد ورد به القرآن حملناه على أنه حكم به عن القرآن وأنه لم يكن حكما مبتدأ من النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كنحو قطعه السارق وجلده الزاني وما جرى مجراهما فقول القائل إن الاجتهاد في أحكام الحوادث لم يكن سائغا في زمن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأن رد المتنازع فيه إلى الكتاب والسنة كان واجبا حينئذ فدل على أن المراد به ترك الاختلاف والتنازع والتسليم للمنصوص عليه في الكتاب والسنة غير صحيح وأما الحال التي لم يكن يسوغ الاجتهاد فيها في حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو أن يجتهد بحضرته على جهة إمضاء الحكم والاستبداد بالرأى لا على الوجه الذي قدمناه فهذا لعمري اجتهاد مطرح لا حكم له ولم يسوغ ذلك لأحد والله أعلم.

باب طاعة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم

قال الله تعالى( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) وقال تعالى( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ ) وقال تعالى( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ) وقال تعالى( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) فأكد جل وعلا بهذه الآيات وجوب طاعة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبان أن طاعته إطاعة الله وأفاد بذلك أن معصيته معصية الله وقال الله تعالى( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) فأوعد على مخالفة أمر الرسول وجعل مخالف أمر الرسول والممتنع من تسليم ما جاء به والشاك فيه خارجا من الإيمان

١٨٠

بقوله تعالى( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) قيل في الحرج هاهنا إنه الشك روى ذلك عن مجاهد وأصل الحرج الضيق وجائز أن يكون المراد التسليم من غير شك في وجوب تسليمه ولا ضيق صدر به بل بانشراح صدر وبصيرة ويقين* وفي هذه الآية دلالة على أن من رد شيئا من أوامر الله تعالى أو أوامر رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو خارج من الإسلام سواء رده من جهة الشك فيه أو من جهة ترك القبول والامتناع من التسليم وذلك يوجب صحة ما ذهب إليه الصحابة في حكمهم بارتداد من امتنع من أداء الزكاة وقتلهم وسبى ذراريهم لأن الله تعالى حكم بأن من لم يسلم للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قضاءه وحكمه فليس من أهل الإيمان* فإن قيل إذا كانت طاعة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم طاعة الله تعالى فهلا كان أمر الرسول أمر الله تعالى قيل له إنما كانت طاعته طاعة الله بموافقتها إرادة كل واحد منهما أوامره وأما الأمر فهو قول القائل افعل ولا يجوز أن يكون أمرا وأحد الآمرين كما لا يكون فيه قول واحد من قائلين ولا فعل واحد من فاعلين* قوله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً ) قيل الثبات الجماعات واحدها ثبة وقيل الثبة عصبة منفردة من عصب فأمرهم الله بأن ينفروا فرقة بعد فرقة في جهة وفرقة في جهة أو ينفروا جميعا من غير تفرق وروى ذلك عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة* وقوله تعالى( خُذُوا حِذْرَكُمْ ) معناه خذوا سلاحكم فسمى السلاح حذرا لأنه يتقى به الحذر ويحتمل أحذروا عدوكم بأخذ سلاحكم كقوله تعالى( وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ ) فانتظمت هذه الآية الأمر بأخذ السلاح لقتال العدو على حال افتراق العصب أو اجتماعها بما هو أولى في التدبير والنفور هو الفزع نفر ينفر نفورا إذا فزع ونفر إليه إذا فزع من أمر إليه والمعنى انفروا إلى قتال عدوكم والنفر جماعة تفزع إلى مثلها والنفير إلى قتال العدو والمنافرة المحاكمة للفزع إليها فيما ينوب من الأمور التي يختلف فيها ويقال إن أصلها أنهم كانوا يسئلون الحاكم أينا أعز نفرا* وقد روى في هذه الآية نسخ روى ابن جريج وعثمان بن عطاء عن ابن عباس في قوله تعالى( فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً ) قال عصبا وفرقا وقال في براءة( انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً ) الآية وقال( إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً ) الآية قال فنسخ هذه الآيات قوله تعالى( وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ ) وتمكث

١٨١

طائفة منهم مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فالماكثون مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم هم الذين يتفقهون في الدين وينذرون إخوانهم إذا رجعوا إليهم من الغزوات لعلهم يحذرون ما نزل من قضاء الله في كتابه وحدوده* قوله تعالى( الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ ) قيل [في سبيل الله] في طاعة الله لأنها تؤدى إلى ثواب الله في جنته التي أعدها لأوليائه وقيل دين الله الذي شرعه ليؤدى إلى ثوابه ورحمته فيكون تقديره في نصرة دين الله تعالى وقيل في الطاغوت أنه الشيطان قاله الحسن والشعبي وقال أبو العالية هو الكاهن وقيل كل ما عبد من دون الله وقوله تعالى( إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً ) الكيد هو السعى في فساد الحال على جهة الاحتيال والقصد لإيقاع الضرر قال الحسن إنما قال( إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً ) لأنه كان أخبرهم أنهم يستظهرون عليهم فلذلك كان ضعيفا وقيل إنما سماه ضعيفا لضعف نصرته لأوليائه إلى نصرة الله للمؤمنين قوله تعالى( وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ) فإن الاختلاف على ثلاثة أوجه اختلاف تناقض بأن يدعو أحد الشيئين إلى فساد الآخر واختلاف تفاوت وهو أن يكون بعضه بليغا وبعضه مرذولا ساقطا وهذان الضربان من الاختلاف منفيان عن القرآن وهو إحدى دلالات إعجازه لأن كلام سائر الفصحاء والبلغاء إذا طال مثل السور الطوال من القرآن لا يخلو من أن يختلف اختلاف التفاوت والثالث اختلاف التلاؤم هو أن يكون الجميع متلائما في الحسن كاختلاف وجوه القراءات ومقادير الآيات واختلاف الأحكام في الناسخ والمنسوخ فقد تضمنت الآية الحض على الاستدلال بالقرآن لما فيه من وجوه الدلالات على الحق الذي يلزم اعتقاده والعمل به* قوله تعالى( وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) قال الحسن وقتادة وابن أبى ليلى هم أهل العلم والفقه وقال السدى الأمراء والولاة* قال أبو بكر يجوز أن يريد به الفريقين من أهل الفقه والولاة لوقوع الاسم* عليهم جميعا* فإن قيل أولو الأمر من يملك الأمر بالولاية على الناس وليست هذه صفة* أهل العلم* قيل له إن الله تعالى لم يقل من يملك الأمر بالولاية على الناس وجائز أن يسمى الفقهاء أولى الأمر لأنهم يعرفون أوامر الله ونواهيه ويلزم غيرهم قبول قولهم فيها فجائز أن يسموا أولى الأمر من هذا الوجه كما قال في آية أخرى( لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) فأوجب الحذر بإنذارهم وألزم

١٨٢

المنذرين قبول قولهم فجاز من أجل ذلك إطلاق اسم أولى الأمر عليهم والأمراء أيضا يسمون بذلك لنفاذ أمورهم على من يلون عليه* وقوله تعالى( لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) فإن الاستنباط هو الاستخراج ومنه استنباط المياه والعيون فهو اسم لكل ما استخرج حتى تقع عليه رؤية العيون أو معرفة القلوب والاستنباط في الشرع نظير الاستدلال والاستعلام* وفي هذه الآية دلالة على وجوب القول بالقياس واجتهاد الرأى في أحكام الحوادث وذلك لأنه أمر برد الحوادث إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم في حياته إذا كانوا بحضرته وإلى العلماء بعد وفاته والغيبة عن حضرتهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذا لا محالة فيما لا نص فيه لأن المنصوص عليه لا يحتاج إلى استنباطه فثبت بذلك أن من أحكام الله ما هو منصوص عليه ومنها ما هو مودع في النص قد كلفنا الوصول إلى الاستدلال عليه واستنباطه فقد حوت هذه الآية معاني منها أن في أحكام الحوادث ما ليس بمنصوص عليه بل مدلول عليه ومنها أن على العلماء استنباطه والتوصل إلى معرفته برده إلى نظائره من المنصوص ومنها أن العامي عليه تقليد العلماء في أحكام الحوادث ومنها أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد كان مكلفا باستنباط الأحكام والاستدلال عليها بدلائلها لأنه تعالى أمر بالرد إلى الرسول وإلى أولى الأمر ثم قال( لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) ولم يخص أولى الأمر بذلك دون الرسول وفي ذلك دليل على أن للجميع الاستنباط والتوصل إلى معرفة الحكم بالاستدلال فإن قيل ليس هذا استنباطا في أحكام الحوادث وإنما هو في الأمن والخوف من العدو لقوله تعالى( وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) فإنما ذلك في شأن الأراجيف التي كان المنافقون يرجفون بها فأمرهم الله بترك العمل بها ورد ذلك إلى الرسول وإلى الأمراء حتى لا يفتوا في أعضاد المسلمين إن كان شيئا يوجب الخوف وإن كان شيئا يوجب الأمن لئلا يأمنوا فيتركوا الاستعداد للجهاد والحذر من الكفار فلا دلالة في ذلك على جواز الاستنباط في أحكام الحوادث قيل له قوله تعالى( وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ ) ليس بمقصور على أمر العدو لأن الأمن والخوف قد يكونان فيما يتعبدون به من أحكام الشرع فيما يباح ويحظر وما يجوز وما لا يجوز ذلك كله من الأمن والخوف فإذا ليس في ذكره الأمن والخوف دلالة على وجوب الاقتصار به على ما يتفق من

١٨٣

الأراجيف بالأمن والخوف في أمر العدو بل جائز أن يكون عاما في الجميع وحظر به على العامي أن يقول في شيء من حوادث الأحكام ما فيه حظر أو إباحة أو إيجاب أو غير ذلك وألزمهم رده إلى الرسول وإلى أولى الأمر منهم ليستنبطوا حكمه بالاستدلال عليه بنظائره من المنصوص وأيضا فلو سلمنا لك أن نزول الآية مقصور على الأمن والخوف من العدو لكانت دلالته قائمة على ما ذكرنا لأنه إذا جاز استنباط تدبير الجهاد ومكايد العدو بأخذ الحذر تارة والإقدام في حال والإحجام في حال أخرى وكان جميع ذلك مما تعبدنا الله به ووكل الأمر فيه إلى آراء أولى الأمر واجتهادهم فقد ثبت وجوب الاجتهاد في أحكام الحوادث من تدبير الحروب ومكايد العدو وقتال الكفار فلا فرق بينه وبين الاجتهاد والاستدلال على النظائر من سائر الحوادث من العبادات وفروع الشريعة إذ كان جميع ذلك من أحكام الله تعالى ويكون المانع من الاجتهاد والاستنباط في مثله كمن أباح الاستنباط في البيوع خاصة ومنعه في المناكحات أو أباحه في الصلاة ومنعه في المناسك وهذا خلف من القول* فإن قيل ليس الاستنباط مقصور على القياس واجتهاد الرأى* دون الاستدلال بالدليل الذي لا يحتمل في اللغة إلا معنى واحدا* قيل له الدليل الذي لا يحتمل في اللغة إلا معنى واحدا لا يقطع بين أهل اللغة فيه تنازع إذ كان أمرا معقولا في اللفظ فهذا ليس باستنباط بل هو في مفهوم الخطاب وذلك عندنا نحو قوله تعالى( فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ ) أنه لا دلالة على النهى عن الضرب والشتم والقتل ونحوه وهذا لا يقع في مثله خلاف فإن أردت بالدليل الذي لا يحتمل إلا معنى واحدا هذا الضرب من دلائل الخطاب فإن هذا لا تنازع فيه ولا يحتاج إلى استنباط وإن أردت بالدليل تخصيص الشيء بالذكر فيكون دلالة على أن ما عداه فحكمه بخلافه فإن هذا ليس بدليل وقد بيناه في أصول الفقه ولو كان هذا ضربا من الدليل لما غفلته الصحابة ولا استدلت به على أحكام الحوادث ولو فعلوا هذا لاستفاض ذلك عنهم وظهر فلما لم ينقل ذلك عنهم دل على سقوط قولك وأيضا لو كان هذا ضربا من الاستدلال لم يمنع ذلك إيجاب الاستنباط فيما لا طريق إليه إلا من جهة الرأى والقياس إذ ليس يوجد في كل حادثة هذا الضرب من الدلالة وقد أمرنا باستنباط سائر ما لا نص فيه فما لم نجد فيه من الحوادث هذا الضرب من الدليل فعلينا استنباط حكمه من طريق القياس والاجتهاد

١٨٤

إذ لا سبيل لنا إليه إلا من هذه الجهة* فإن قيل لما قال تعالى( لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) ولم يكن دليل القياس مفضيا بنا إلى العلم بمدلوله إذ كان القائس يجوز على نفسه الخطأ ولا يجوز القطع بأن ما أداه إليه قياسه واجتهاده هو الحق عند الله علمنا أنه لم يرد الاستنباط من طريق القياس والاجتهاد* قيل له قولك إن القائس لا يقطع بأن قياسه هو الحق عند الله خطأ لا نقول به وذلك أن ما كان طريقه الاجتهاد فإن المجتهد ينبغي له أن يقطع بأن ما أداه إليه اجتهاده هو الحق عند الله وهذا عندنا علم منه بأن هذا حكم الله عليه فاستنباطه حكم الحوادث من طريق الاجتهاد يوجب العلم بصحة موجبه وما أداه إليه اجتهاده وهذه الآية أيضا تدل على بطلان قول القائلين بالإمامة لأنه لو كان كل شيء من أحكام الدين منصوصا عليه لعرفه الإمام ولزال موضع الاستنباط وسقط الرد إلى أولى الأمر بل كان الواجب الرد إلى الإمام الذي يعرف صحة ذلك من باطله من جهة النص* وقوله تعالى( وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها ) قال أهل اللغة التحية الملك ومنه قول الشاعر :

أسير به إلى النعمان حتى

أتيح على تحيته بجند

يعنى عن ملكه ومعنى قولهم حياك الله أى ملكك الله ويسمى السلام تحية أيضا لأنهم كانوا يقولون حياك الله فأبدلوا منه بعد الإسلام بالسلام وأقيم مقام قولهم حياك الله قال أبو ذر كنت أول من حيي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بتحية الإسلام فقلت السلام عليك ورحمة الله وقال النابغة : يحيون بالريحان يوم السباسب(1)

يعنى أنهم يعطون الريحان ويقال لهم حياكم الله والأصل فيه ما ذكرنا من أنه ملكك الله فإذا حملنا قوله تعالى( وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها ) على حقيقته أفاد أن من ملك غيره شيئا بغير بدل فله الرجوع فيه ما لم يثبت منه فهذا يدل على صحة قول أصحابنا فيمن وهب لغيري ذي رحم أن له الرجوع فيها ما لم يثبت منها فإذا أثيب منها فلا رجوع له فيها لأنه أوجب أحد شيئين من ثواب أورد لما جيء به* وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في الرجوع في الهبة ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا سليمان بن

__________________

(1) قوله يوم السباسب : هو عيد للنصارى ويسمونه يوم السعانين ، وفي الحديث إن الله أبدلكم بيوم السباسب يوم بعيد.

١٨٥

داود المهري قال أخبرنا ابن وهب قال أخبرنى أسامة بن زيد أن عمرو بن شعيب حدثه عن أبيه عن جده عبد الله بن عمر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال مثل الذي يسترد ما وهب كمثل الكلب يقيء فيأكل قيئه فإذا استرد الواهب فليوقف وليعرف بما استرد ثم ليدفع إليه ما وهب وقد روى أبو بكر بن أبى شيبة قال حدثنا وكيع عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع عن عمرو بن دينار عن أبى هريرة قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم الرجل أحق بهبته ما لم يثبت منها * وروى ابن عباس وابن عمر أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لا يحل لرجل يعطى عطية أو يهب هبة فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطى ولده ومثل الذي يعطى العطية ثم يرجع فيها كمثل الكلب يأكل فإذا شبع قاء ثم عاد في قيئه وهذا الخبر يدل على معنيين أحدهما صحة الرجوع في الهبة والآخر كراهته وأنه من لؤم الأخلاق ودناءتها في العادات وذلك لأنه شبه الراجع في الهبة بالكلب يعود في قيئه وهو يدل من وجهين على ما ذكرنا أحدهما أنه شبهه بالكلب إذا عاد في قيئه ومعلوم أنه ليس بمحرم على الكلب فما شبه به فهو مثله والثاني أنه لو كان الرجوع في الهبة لا يصح بحال لما شبه الراجع بالكلب العائد في القيء لأنه لا يجوز تشبيه ما لا يقع بحال بما قد صح وجوده وهذا يدل أيضا على صحة الرجوع في الهبة مع استقباح هذا الفعل وكراهته وقد روى الرجوع في الهبة لغير ذي الرحم المحرم عن على وعمر وفضالة بن عبيد من غير خلاف من أحد من الصحابة رضى الله عنهم عليهم* وقد روى عن جماعة من السلف أن ذلك في رد السلام منهم جابر بن عبد الله وقال الحسن السلام تطوع ورده فريضة وذكر الآية* ثم اختلف في أنه خاص في أهل الإسلام أو عام في أهل الإسلام وأهل الكفر فقال عطاء هو في أهل الإسلام خاصة وقال ابن عباس وإبراهيم وقتادة هو عام في الفريقين وقال الحسن تقول للكافر وعليكم ولا تقل ورحمة الله لأنه لا يجوز الاستغفار للكفار وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لا تبدؤا اليهود بالسلام فإن بدؤكم فقولوا وعليكم وقال أصحابنا رد السلام فرض على الكفاية إذا سلم على جماعة فرد واحد منهم أجزأ* وأما قوله تعالى( بِأَحْسَنَ مِنْها ) إذا أريد رد السلام فهو الزيادة في الدعاء وذلك إذا قال السلام عليكم يقول هو وعليكم السلام ورحمة الله وإذا قال السلام عليكم ورحمة الله قال هو وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته* قوله تعالى( فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا ) روى عن ابن عباس أنها نزلت في

١٨٦

قوم أظهروا الإسلام بمكة وكانوا يعينون المشركين على المسلمين وروى مثله عن قتادة وقال الحسن ومجاهد نزلت في قوم قدموا بالمدينة فأظهروا الإسلام ثم رجعوا إلى مكة فأظهروا الشرك وقال زيد بن ثابت نزلت في الذين تخلفوا عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد وقالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم وفي نسق الآية دلالة على خلاف هذا التأويل الأخير وأنهم من أهل مكة وهو قوله تعالى( فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ) وقوله تعالى( أَرْكَسَهُمْ ) قال ابن عباس ردهم وقال قتادة أركسهم أهلكهم وقال غيرهم أركسهم نكسهم قال الكسائي أركسهم وركسهم بمعنى وإنما المعنى ردهم في حكم الكفر من الصغار والذلة وقيل من السبي والقتل لأنهم أظهروا الارتداد بعد ما كانوا على النفاق وإنما وصفوا بالنفاق وقد أظهروا الارتداد عن الإسلام لأنهم نسبوا إلى ما كانوا عليه قبل من إضمار الكفر قاله الحسن وقال النحويون هذا يحسن مع علم التعريف وهو الألف واللام كما تقول هذه العجوز هي الشابة يعنى هي التي كانت شابة ولا يجوز هذه شابة فأبان تعالى للمسلمين بهذه الآية عن أحوال هذه الطائفة من المنافقين إنهم يظهرون لكم الإسلام وإذا رجعوا إلى قومهم أظهروا الكفر والردة ونهى المسلمين عن أن يحسنوا بهم الظن وأن يجادلوا عنهم* قوله تعالى( وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً ) يعنى هذه الطائفة أخبر بذلك عن ضمائرهم واعتقاداتهم لئلا يحسن المؤمنون بهم الظن وليعتقدوا معاداتهم والبراءة منهم* وقوله تعالى( فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ) يعنى والله أعلم حتى يسلموا ويهاجروا لأن الهجرة بعد الإسلام وأنهم وإن أسلموا لم تكن بيننا وبينهم موالاة إلا بعد الهجرة وهو كقوله تعالى( ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا ) وهذا في حال ما كانت الهجرة فرضا وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنا برىء من كل مسلم أقام بين أظهر المشركين وأنا برىء من كل مسلم أقام مع مشرك قيل ولم يا رسول الله قال لا تراءى نارهما فكانت الهجرة فرضا إلى أن فتحت مكة فنسخ فرض الهجرة* حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عثمان بن أبى شيبة قال حدثنا جرير عن منصور عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم فتح مكة لا هجرة ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا * حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مؤمل بن الفضل قال حدثنا الوليد عن الأوزاعى عن الزهري عن عطاء

١٨٧

ابن يزيد عن أبى سعيد الخدري أن أعرابيا سأل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الهجرة فقال ويحك إن شأن الهجرة شديد فهل لك من إبل قال نعم قال فاعمل من وراء البحار فإن الله لن يترك من عملك شيئافأباح النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ترك الهجرة وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن إسماعيل بن أبى خالد قال حدثنا عامر قال أتى رجل عبد الله بن عمرو فقال أخبرنى بشيء سمعته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه وروى عن الحسن أن حكم الآية ثابت في كل من أقام في دار الحرب فرأى فرض الهجرة إلى دار الإسلام قائما* وقوله تعالى( فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ ) فإنه روى عن ابن عباس فإن تولوا* عن الهجرة* قال أبو بكر يعنى والله أعلم فإن تولوا عن الإيمان والهجرة لأن قوله تعالى( حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ) قد انتظم الإيمان والهجرة جميعا وقوله( فَإِنْ تَوَلَّوْا ) راجع إليها ولأن من أسلم حينئذ ولم يهاجر لم يجب قتله في ذلك الوقت فدل على أن المراد فإن تولوا عن الإيمان والهجرة فخذوهم واقتلوهم* وقوله تعالى( إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ ) قال أبو عبيد يصلون بمعنى ينتسبون إليهم كما قال الأعشى :

إذا اتصلت قالت أبكر بن وائل

وبكر سبتها والأنوف رواغم

وقال زيد الخيل :

اتصلت تنادى يال قيس

وخصت بالدعاء بنى كلاب

قال أبو بكر الانتساب يكون بالرحم ويكون بالحلف وبالولاء وجائز أن يدخل فيه أيضا رجل في عهدهم على حسب ما كان بين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين قريش من الموادعة فدخلت خزاعة في عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ودخلت بنو كنانة في عهد قريش وقيل إن الآية منسوخة حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله تعالى( إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ ـ إلى قوله تعالى ـفَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً ) وفي قوله تعالى( لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ) قال ثم نسخت هذه الآيات( بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ـ إلى قوله ـوَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ )

١٨٨

وقال السدى في قوله( إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ ) إلا الذين يدخلون في قوم بينكم وبينهم أمان فلهم منه مثل مالهم وقال الحسن هؤلاء بنو مدلج كان بينهم وبين قريش عهد وبين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين قريش عهد فحرم الله تعالى من بنى مدلج ما حرم من قريش قال أبو بكر إذا عقد الإمام عهدا بينه وبين قوم من الكفار فلا محالة يدخل فيه من كان في حيزهم ممن ينسب إليهم بالرحم أو الحلف أو الولاء بعد أن يكون في حيزهم ومن أهل نصرتهم وأما من كان من قوم آخرين فإنه لا يدخل في العهد ما لم يشرط ومن شرط من أهل قبيلة أخرى دخوله في عهد المعاهدين فهو داخل فيهم إذا عقد العهد على ذلك كما دخلت بنو كنانة في عهد قريش وأما قول من قال إن ذلك منسوخ فإنما أراد أن معاهدة المشركين وموادعتهم منسوخة بقوله( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) فهو كما قال لأن الله أعز الإسلام وأهله فأمروا أن لا يقبلوا من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف لقوله تعالى( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ) فهذا حكم ثابت في مشركي العرب فنسخ به الهدنة والصلح وإقرارهم على الكفر وأمرنا في أهل الكتاب بقتالهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية بقوله تعالى( قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ـ إلى قوله ـحَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ ) فغير جائز للإمام أن يقر أحدا من أهل سائر الأديان على الكفر من غير جزية وأما مشركو العرب فقد كانوا أسلموا في زمن الصحابة ورجع من ارتد منهم إلى الإسلام بعد ما قتل من قتل منهم فهذا وجه صحيح في نسخ معاهدة أهل الكفر على غير جزية والدخول في الذمة على أن تجرى عليهم أحكامنا فكان ذلك حكما ثابتا بعد ما أعز الله الإسلام وأظهر أهله على سائر المشركين فاستغنوا بذلك عن العهد والصلح إلا أنه إن احتيج إلى ذلك في وقت لعجز المسلمين عن مقاومتهم أو خوف منهم على أنفسهم أو ذراريهم جاز لهم مهادنة العدو ومصالحته من غير جزية يؤدونها إليهم لأن حظر المعاهدة والصلح إنما كان بسبب قوتهم على العدو واستعلائهم عليهم وقد كانت الهدنة جائزة مباحة في أول الإسلام وإنما حظرت لحدوث هذا السبب فمتى زال السبب وعاد الأمر إلى الحال التي كان المسلمون عليها من خوفهم العدو على أنفسهم عاد الحكم الذي كان من جواز الهدنة وهذا نظير ما ذكرنا من نسخ

١٨٩

التوارث بالحلف والمعاقدة بذوي الأرحام فمتى لم يترك وارثا عاد التوارث بالمعاقدة* قوله عز وجل( أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ ) قال الحسن والسدى ضاقت صدورهم على أن يقاتلوكم والحصر الضيق ومنه الحصر في القراءة لأنه ضاقت عليه المذاهب فلم يتوجه لقراءته ومنه المحصور في حبس أو نحوه وروى ابن أبى نجيح عن مجاهد قال هلال بن عويمر الأسلمى هو الذي حصر صدره أن يقاتل المسلمين أو يقاتل قومه وبينه وبين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم حلف* قال أبو بكر ظاهره يدل على أن الذين حصرت صدورهم كانوا قوما مشركين مخالفين للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ضاقت صدورهم أن يكونوا مع قومهم على المسلمين لما بينهم وبين النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من العهد وأن يقاتلوا مع المسلمين ذوى أرحامهم وأنسابهم فأمر الله تعالى المسلمين بالكف عن هؤلاء إذا اعتزلوهم فلم يقاتلوا المسلمين وإن لم يقاتلوا المشركين مع المسلمين ومن الناس من يقول إن هؤلاء كانوا قوما مسلمين كرهوا قتال قومهم من المشركين لما بينهم وبينهم من الرحم وظاهر الآية وما روى في تفسيرها يدل على خلاف ذلك لأن المسلمين لم يقاتلوا المسلمين قط في زمان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن قعدوا عن القتال معهم ولا كانوا قط مأمورين بقتال أمثالهم* وقوله تعالى( وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ ) يعنى إن قاتلتموهم ظالمين لهم يدل على أنهم لم يكونوا مسلمين وقوله تعالى( فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً ) يقتضى أن يكونوا مشركين إذ ليس ذلك من صفات أهل الإسلام فدل ذلك على أن هؤلاء كانوا قوما مشركين بينهم وبين النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حلف فأمر الله تعالى نبيه أن يكف عنهم إذا اعتزلوا قتال المسلمين والمشركين وأن لا يكلفهم قتال قومهم من أهل الشرك أيضا والتسليط المذكور في الآية له وجهان أحدهما تقوية قلوبهم ليقاتلوكم والثاني إباحة القتال لهم في الدفع عن أنفسهم* قوله تعالى( سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ ) قال مجاهد نزلت في قوم من أهل مكة كانوا يأتون النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيسلمون ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان يبتغون بذلك أن يأمنوا هاهنا وهاهنا فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا وذكر أسباط عن السدى قال نزلت في نعيم بن مسعود الأشجعى وكان يأمن في المسلمين والمشركين فينقل الحديث بين النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم والمشركين فقال( سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ ) وظاهر الآية يدل على أنهم كانوا يظهرون

١٩٠

الإيمان إذا جاءوا إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنهم إذا رجعوا إلى قومهم أظهروا الكفر لقوله تعالى( كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها ) والفتنة هاهنا الشرك وقوله( أُرْكِسُوا فِيها ) يدل على أنهم قبل ذلك كانوا مظهرين للإسلام فأمر الله تعالى المؤمنين بالكف عن هؤلاء أيضا إذا اعتزلونا وألقوا إلينا السلم وهو الصلح كما أمرنا بالكف عن الذين يصلون إلى قوم بيننا وبينهم ميثاق وعن الذين جاءونا وقد حصرت صدورهم وكما قال في آية أخرى( لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ ) وكما قال( وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ ) فخص الأمر بالقتال لمن يقاتلنا دون من لم يقاتلنا ثم نسخ ذلك بقوله( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) على ما قدمنا من الرواية عن ابن عباس ومن الناس من يقول إن هذه الآيات غير منسوخة وجائز للمسلمين ترك قتال من لا يقاتلهم من الكفار إذ لم يثبت أن حكم هذه الآيات في النهى عن قتال من اعتزلنا وكف عن قتالنا منسوخ وممن حكى عنه أن فرض الجهاد غير ثابت بن شبرمة وسفيان الثوري وسنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى إلا أن هذه الآيات فيها حظر قتال من كف عن قتالنا منسوخ وممن حكى عنه أن فرض الجهاد غير ثابت بن شبرمة وسفيان الثوري وسنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى إلا أن هذه الآيات فيها حظر قتال من كف عن قتالنا من الكفار ولا نعلم أحدا من الفقهاء يحظر قتال من اعتزل قتالنا من المشركين وإنما الخلاف في جواز ترك قتالهم لا في حظره فقد حصل الاتفاق من الجميع على نسخ حظر القتال لمن كان وصفه ما ذكرنا والله الموفق للصواب.

باب قتل الخطأ

قال الله تعالى( وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً ) قال أبو بكر قد اختلف في معنى كان هاهنا فقال قتادة معناه ما كان له ذلك في حكم الله وأمره وقال آخرون ما كان له سبب جواز قتله وقال آخرون ما كان له ذلك فيما سلف كما ليس له الآن واختلف أيضا في معنى إلا فقال قائلون هو استثناء منقطع بمعنى لكن قد يقتله فإذا وقع ذلك فحكمه كيت وكيت وهو كما قال النابغة :

وقفت فيها أصيلا لا أسائلها

عيت جوابا وما بالربع من أحد

إلا الأوارى لأيا ما أبينها

والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد

وقال آخرون هو استثناء صحيح قد أفاد أن له أن يقتله خطأ في بعض الأحوال وهو أن يرى عليه سيما المشركين أو يجده في حيزهم فيظنه مشركا فجائز له قتله وهو خطأ كما

١٩١

روى عن الزهري عن عروة بن الزبير أن حذيفة بن اليمان قاتل مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد فأخطأ المسلمون يومئذ بأبيه يحسبونه من العدو وكروا عليه بأسيافهم فطفق حذيفة يقول إنه أبى فلم يفهموا قوله حتى قتلوه فقال عند ذلك يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين فبلغت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فزادت حذيفة عنده خيرا* ومن الناس من يقول معناه ولا خطأ لأن قتل المؤمن من غير مباح بحال قتال فغير جائز أن يكون الاستثناء محمولا على حقيقته وهذا ليس بشيء من وجهين أحدهما أن إلا لم توجد بمعنى ولا والثاني ما أنكره من امتناع إباحة قتل الخطأ موجود في حظره لأن الخطأ إن كان لا تصح إباحته لأنه غير معلوم عنده أنه خطأ فكذلك لا يصح حظره ولا النهى عنه* وقال آخرون قد تضمن قوله( وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً ) إيجاب العقاب لقاتله لاقتضاء إطلاق النهى لذلك وأفاد بذلك استحقاق المأثم ثم قال( إِلَّا خَطَأً ) فإنه لا مأثم على فاعله وإنما أدخل الاستثناء على ما تضمنه اللفظ من استحقاق المأثم وأخرج منه قاتل الخطأ والاستثناء مستعمل في موضعه على هذا القول غير معدول به عن وجهه وإنما دخل على المأثم المستحق بالقتل وأخرج قاتل الخطأ منه ولم يدخل على فعل القاتل فيكون مبيحا لما حظره بلفظ الجملة* قال أبو بكر وهذا وجه صحيح سائغ وتأويل من تأوله على إباحة قتل الخطأ فيمن يظنه مشركا فإنه معلوم أنه لم يصح له ذلك إلا على الصفة المشروطة إن كان ذلك إباحة وهو أن يكون ذلك خطأ عند القاتل وإذا كان قتل المسلم الذي في حيز العدو قصد بالقتل لا يكون خطأ عند القاتل وإنما عنده أنه قتل عمد مأمور به فغير جائز أن يكون ذلك مراد الآية لأن الإباحة على قول هذا القائل لم يوجد شرطها وهو أن يكون قتل خطأ عند القاتل ألا يرى أنه إذا قال لا تقتله عمدا اقتضى النهى قتلا بهذه الصفة عند القاتل وإذا قال لا تقتله بالسيف فإنما حظر عليه قتلا بهذه الصفة فكذلك قوله( إِلَّا خَطَأً ) إذا كان قد اقتضى إباحة قتل الخطأ فواجب أن يكون شرط الإباحة أن يكون عنده أنه خطأ وذلك محال لا يجوز وقوعه لأن الخطأ هو الذي لا يعلم القاتل أنه مخطئ فيه والحال التي لا يعلمها لا يجوز أن يتعلق بها حظر ولا إباحة* وقال أصحابنا القتل على أنحاء أربعة عمد وخطأ وشبه عمد وما ليس بعمد ولا خطأ ولا شبه عمد فالعمد ما تعمد ضربه بسلاح مع العلم بحال المقصود به* والخطأ على ضربين أحدهما أن يقصد رمى

١٩٢

مشرك أو طائر فيصيب مسلما والثاني أن يظنه مشركا لأنه في حيز أهل الشرك أو عليه لباسهم فالأول خطأ في الفعل والثاني خطأ في القصد* وشبه العمد ما تعمد ضربه بغير سلاح من حجر أو عصا وقد اختلف الفقهاء في ذلك وسنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى* وأما ما ليس بعمد ولا شبه عمد ولا خطأ فهو قتل الساهي والنائم لأن العمد ما قصد إليه بعينه والخطأ أيضا الفعل فيه مقصود إلا أنه يقع الخطأ تارة في الفعل وتارة في القصد وقتل الساهي غير مقصود أصلا فليس هو في حيز الخطأ ولا العمد إلا أن حكمه حكم الخطأ في الدية والكفارة* قال أبو بكر وقد ألحق بحكم القتل في الحقيقة لا عمدا ولا غير عمد وذلك نحو حافر البئر وواضع الحجر في الطريق إذا عطب به إنسان هذا ليس بقاتل في الحقيقة إذ ليس له فعل في قتله لأن الفعل منا إما أن يكون مباشرة أو متولدا وليس من واضع الحجر وحافر البئر فعل في العاثر بالحجر والواقع في البئر لا مباشرة ولا تولدا فلم يكن قاتلا في الحقيقة ولذلك قال أصحابنا إنه لا كفارة عليه وكان القياس أن لا تجب عليه الدية ولكن الفقهاء متفقون على وجوب الدية فيه قال الله تعالى( وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ ) ولم يذكر في الآية من عليه الدية من القاتل أو العاقلة* وقد وردت آثار متواترة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في إيجاب دية الخطأ على العاقلة واتفق الفقهاء عليه منها ما روى الحجاج عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال كتب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كتابا بين المهاجرين والأنصار أن يعقلوا معاقلهم ويفكوا عانيهم بالمعروف والإصلاح بين المسلمين * وروى ابن جريج عن أبى الزبير عن جابر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه* كتب على كل بطن عقوله ثم كتب أنه لا يحل أن يتولى مولى رجل بغير إذنه * وروى مجالد عن الشعبي عن جابر أن امرأتين من هذيل قتلت إحداهما الأخرى ولكل واحدة منهما زوج وولد فجعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم دية المقتولة على عاقلة القاتلة وترك زوجها وولدها فقال عاقلة المقتولة ميراثها لنا فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ميراثها لزوجها وولدها قال وكانت حبلى فألقت جنينا فخاف عاقلة القاتلة أن يضمنهم فقال يا رسول الله لا شرب ولا أكل ولا صاح ولا استهل فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا سجع الجاهلية فقضى في الجنين غرة عبد أو أمة وروى محمد بن عمر عن أبى سلمة عن أبى هريرة أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى في الجنين عبدا أو أمة فقال الذي قضى عليه العقل أنؤدي من لا شرب ولا أكل ولا صاح ولا استهل فمثل

«13 ـ أحكام لث»

١٩٣

ذلك بطل فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إن هذا لقول الشاعر فيه غرة عبد أو أمة * وروى عبد الواحد ابن زياد عن مجالد عن الشعبي عن جابر أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم جعل في الجنين غرة على عاقلة القاتل وروى الأعمش عن إبراهيم أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم جعل العقل على العصبة وعن إبراهيم قال اختصم على والزبير في ولاء موالي صفية إلى عمر فقضى بالميراث للزبير والعقل على على رضى الله عنه وروى عن على وعمر في قوم أجلوا عن قتيل أن الدية على بيت المال وعن عمر في قتيل وجد بين وداعة وحى آخر أنه قضى بالدية على العاقلة فقد تواترت الآثار عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في إيجاب دية الخطأ على العاقلة واتفق السلف وفقهاء الأمصار عليه فإن قيل قال الله تعالى( وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يؤخذ الرجل بحريرة أبيه ولا بجريرة أخيه وقال لأبى رمثة وابنه أنه لا يجنى عليك ولا تجنى عليه والعقول أيضا تمنع أخذ الإنسان بذنب غيره* قيل له أما قوله تعالى( وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) فلا دلالة فيه على نفى وجوب الدية على العاقة لأن الآية إنما نفت أن يؤخذ الإنسان بذنب غيره وليس في إيجاب الدية على العاقلة أخذهم بذنب الجاني إنما الدية عندنا على القاتل وأمر هؤلاء القوم بالدخول معه في تحملها على وجه المواساة له من غير أن يلزمهم ذنب جنايته وقد أوجب الله في أموال الأغنياء حقوقا للفقراء من غير إلزامهم ذنبا لم يذنبوه بل على وجه المواساة وأمر بصلة الأرحام بكل وجه أمكن ذلك وأمر ببر الوالدين وهذه كلها أمور مندوب إليها للمواساة وصلاح ذات البين فكذلك أمرت العاقلة بتحمل الدية عن قاتل الخطأ على جهة المواساة من غير إحجاف بهم به وإنما يلزم كل رجل منهم ثلاثة دراهم أو أربعة دراهم ويجعل ذلك في أعطياتهم إذا كانوا من أهل الديوان ومؤجلة ثلاث سنين فهذا مما ندبوا إليه من مكارم الأخلاق وقد كان تحمل الديات مشهورا في العرب قبل الإسلام وكان ذلك مما يعد من جميل أفعالهم ومكارم أخلاقهم وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بعثت لأتمم مكارم الأخلاق فهذا فعل مستحسن في العقول مقبول في الأخلاق والعادات وكذلك قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه ولا بجريرة أخيه ولا يجنى عليك ولا تجنى عليه لا ينفى وجوب الدية على العاقلة على هذا النحو الذي ذكرناه من معنى الآية من غير أن يلام على فعل الغير أو يطالب بذنب سواه ولوجوب الدية على العاقلة وجوه سائغة

١٩٤

مستحسنة في العقول أحدها أنه جائز أن يتعبد الله تعالى بديا بإيجاب المال عليهم لهذا الرجل من غير قتل كان منه كما أوجب الصدقات في مال الأغنياء للفقراء والثاني أن موضوع الدية على العاقلة إنما هو على النصرة والمعونة ولذلك أوجبها أصحابنا على أهل ديوانه دون أقربائه لأنهم أهل نصرته ألا ترى أنهم يتناصرون على القتال والحماية والذب عن الحريم فلما كانوا متناصرين في القتال والحماية أمروا بالتناصر والتعاون على تحمل الدية ليتساووا في حملها كما تساووا في حماية بعضهم بعضا عند القتال والثالث أن في إيجاب الدية على العاقلة زوال الضغينة والعداوة من بعضهم لبعض إذا كانت قبل ذلك وهو داع إلى الألفة وصلاح ذات البين ألا ترى أن رجلين لو كانت بينهما عداوة فتحمل أحدهما عن صاحبه ما قد لحقه لأدى ذلك إلى زوال العداوة وإلى الألفة وصلاح ذات البين كما لو قصده إنسان بضرر فعاونه وحماه عنه انسلت سخيمة قلبه وعاد إلى سلامة الصدر والموالاة والنصرة* والرابع أنه إذا تحمل عنه جنايته حمل القاتل إذا جنى أيضا فلم يذهب حمله للجناية عنه ضياعا بل كان له أثر محمود يستحق مثله عليه إذا وقعت منه جناية فهذه وجوه كلها مستحسنة في العقول غير مدفوعة وإنما يؤتى الملحد المتعلق بمثله من ضيق عطنه وقلة معرفته وإعراضه عن النظر والكفر والحمد لله على حسن هدايته وتوفيقه ولا خلاف بين الفقهاء في وجوب دية الخطأ في ثلاث سنين قال أصحابنا كل دية وجبت من غير صلح فهي في ثلاث سنين وروى أشعث عن الشعبي والحكم عن إبراهيم قالا أول من فرض العطاء عمر بن الخطاب وفرض فيه الدية كاملة في ثلاث سنين وثلثى الدية في سنتين والنصف في سنتين وما دون ذلك في عامه قال أبو بكر استفاض ذلك عن عمر ولم يخالفه أحد من السلف واتفق فقهاء الأمصار عليه فصار إجماعا لا يسع خلافه واختلف فقهاء الأمصار في العاقلة من هم فقال أبو حنيفة وسائر أصحابنا الدية في قتل الخطأ على العاقلة في ثلاث سنين من يوم يقضى بها والعاقلة هم أهل ديوانه إن كان من أهل الديوان يؤخذ ذلك من أعطياتهم حتى يصيب الرجل منهم من الدية كلها ثلاثة دراهم أو أربعة دراهم فإن أصابه أكثر من ذلك ضم إليهم أقرب القبائل في النسب من أهل الديوان وإن كان القاتل ليس من أهل الديوان فرضت الدية على عاقلته الأقرب فالأقرب في ثلاث سنين من يوم يقضى بها القاضي فيؤخذ في كل سنة ثلث الدية عند رأس كل حول ويضم إليهم

١٩٥

أقرب القبائل منهم في النسب حتى يصيب الرجل منهم الدية ثلاثة دراهم أو أربعة قال محمد بن الحسن ويعقل عن الحليف حلفاؤه ولا يعقل عنه قوله وقال عثمان البتى ليس أهل الديوان أولى بها من سائر العاقلة وقال ابن القاسم عن مالك الدية على القبائل على الغنى على قدره ومن دونه على قدره حتى يصيب الرجل من مائة درهم ونصف وحكى عنه أن ذلك يؤخذ من أعطياتهم وقال الثوري تجعل الدية ثلثا في العام الذي أصيب فيه الرجل ولكن تكون عند الأعطية على الرجال وقال الحسن بن صالح العقل على رؤس الرجال في أعطية المقاتلة وقال الليث العقل على القاتل وعلى القوم الذين يأخذون معهم العطاء ولا يكون على قومه منه شيء وإن لم يكن فيهم من يحمل العقل ضم إلى ذلك أقرب القبائل إليهم وروى المزني في مختصره عن الشافعى أن العقل على ذوى الأنساب دون أهل الديوان والحلفاء على الأقرب فالأقرب من بنى أبيه ثم من بنى جده ثم من بنى جد أبيه فإن عجزوا عن البعض حمل الموالي المعتقون الباقي فإن عجزوا عن بعض ولهم عواقل عقلتهم عواقلهم فإن لم يكن لهم ذو نسب ولا مولى من أعلى حمل على الموالي من أسفل ويحمل من كثر ماله نصف دينار ومن كان دونه ربع دينار ولا يزاد على هذا ولا ينقص منه قال أبو بكر حديث جابر أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كتب على كل بطن عقوله وقال لا يتولى مولى قوم إلا بإذنهم يدل على سقوط اعتبار الأقرب فالأقرب وإن القريب والبعيد من الجاني سواء في ذلك وروى عن عمر أنه قال لسلمة بن نعيم حين قتل مسلما وهو يظنه كافرا أن عليك وعلى قومك الدية ولم يفرق بين القريب والبعيد منهم وهذا يدل على تساوى القريب والبعيد ويدل أيضا على التسوية بينهم فيما يلزم كل واحد منهم من غير اعتبار الغنى والفقير ويدل على أن القاتل يدخل في العقل مع العاقلة لأنه قال عليك وعلى قومك الدية وكان أهل الجاهلية يتعاقلون بالنصرة ثم جاء الإسلام فجرى الأمر فيه كذلك ثم جعل عمر الدواوين فجمع بها الناس وجعل أهل كل راية وجند يدا واحدة وجعل عليهم قتال من يليهم من الأعداء فصاروا يتناصرون بالرايات والدواوين وعليها يتعاقلون وإذا لم يكن من أهل الديوان فعلى القبائل لأن التناصر في هذه الحال بالقبائل فالمعنى الذي تعاقلوا به في الجاهلية والإسلام معنى واحد وهو النصر فإذا كانت في الجاهلية النصرة بالروايات والدواوين تعاقلون بها لأنهم في هذه الحال أخص بالنصرة من القبيلة فإذا فقدت الرايات تناصروا

١٩٦

بالقبائل وبها يتعاقلون أيضا* والدليل على أن العقل تابع للنصرة أن النساء لا يدخلن في العقل لعدم النصرة فيهن فدل ذلك على صحة اعتبار النصرة في العقل وأما العقل بالحلف فإن سعد بن إبراهيم روى عن جبير بن مطعم عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لا حلف في الإسلام وأيما حلف كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة فأثبت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حلف الجاهلية وقد كان الحلف عندهم كالقرابة في النصرة والعقل ثم أكده الإسلام وروى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال مولى القوم من أنفسهم وحليفهم منهم وقد كانت ظهرت خيل للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم على رجل من المشركين فربطه إلى سارية من سوارى المسجد فقال علام أحبس فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بجريرة حلفائك فإن قيل فقد نفى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حلف الإسلام بقوله لا حلف في الإسلام * قيل له معناه نفى التوارث به مع ذوى الأرحام لأنهم كانوا يورثون الحليف دون ذوى الأرحام فأما حكم الحلف في العقل والنصرة فباق ثابت وكذلك الولاء ثابت يعقل به لما روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في الأخبار المتقدمة وإنما ألزم أصحابنا كل واحد ثلاثة دراهم أو أربعة دراهم لاتفاق الجميع على لزومه هذا القدر وما زاد مختلف فيه لم تقم الدلالة عليه فلم يلزمه ويدخل القاتل معهم في العقل وهو قول أصحابنا ومالك وابن شبرمة والليث والشافعى وقال الحسن بن صالح والأوزاعى لا يدخل فيه وروى عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز أنه يعقل معهم وما روى عن أحد من السلف خلافه ومن جهة النظر أن الدية إنما تلزم القاتل والعاقلة تعقل عنه على جهة المواساة والنصرة فواجب أن لا يلزم العاقلة إلا المتيقن وقد اتفقوا على أن ما عدا حصة الواحد منهم لازم العاقلة واختلفوا في المقدار الذي هو نصيب أحدهم هل تحمله العاقلة فواجب أن لا يكون لازما لعدم الدلالة على لزومه العاقلة ومن جهة أخرى أن العاقلة إنما تعقل عنه فعقله عن نفسه أولى فينبغي أن يدخل معهم وأيضا لو كان غيره هو الجاني لدخل مع سائر العاقلة للتخفيف عنهم فإذا كان هو الجاني فهو أولى بالدخول معهم للتخفيف عنهم لأنهم متساوون في التناصر والمواساة* قوله تعالى( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ) قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد والأوزاعى والشافعى يجزى في كفارة القتل الصبى إذا كان أحد أبويه مسلما وهو قول عطاء وروى عن ابن عباس والحسن وإبراهيم والشعبي لا يجزى إلا من صام وصلى ولم يختلفوا في جوازه في رقبة

١٩٧

الظهار ويدل على صحة القول الأول قوله تعالى( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ) وهذه رقبة مؤمنة لقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه فأثبت له حكم الفطرة عند الولادة فوجب جوازه بإطلاق اللفظ ويدل عليه أن قوله تعالى( وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً ) منتظم للصبي كما يتناول الكبير فوجب أن يتناوله عموم قوله تعالى( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ) ولم يشرط الله عليها الصيام والصلاة فلا تجوز الزيادة فيه لأن الزيادة في النص توجب النسخ ولو أن عبدا أسلم فأعتقه مولاه عن كفارته قبل حضور وقت الصلاة والصيام كان مجزيا عن الكفارة لحصول اسم الإيمان فكذلك الصبى إذا كان داخلا في إطلاق اسم الإيمان فإن قيل العبد المعتق بعد إسلامه لا يجزى إلا أن يكون قد صام وصلى قيل له لا يختلف المسلمون في إطلاق اسم الإيمان على العبد الذي أسلم قبل حضور وقت الصلاة أو الصوم فمن أين شرطت مع الإيمان فعل الصلاة والصوم والله سبحانه لم يشرطهما ولم زدت في الآية ما ليس فيها وحظرت ما أباحته من غير نص يوجب ذلك وفيه إيجاب نسخ القرآن وأيضا لما كان حكم الصبى حكم الرجل في باب التوارث والصلاة عليه ووجوب الدية على قاتله وجب أن يكون حكمه حكمه في جوازه عن الكفارة إذ كانت رقبة تامة لها حكم الإيمان فإن قيل قوله تعالى( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ) يقتضى حقيقة رقبة بالغة معتقدة للإيمان لا من لها حكم الإيمان من غير اعتقاد ولا خلاف مع ذلك أيضا أن الرقبة التي هذه صفتها مرادة بالآية فلا يدخل فيها من لا تلحقه هذه السمة إلا على وجه المجاز وهو العقل الذي لا اعتقاد له قيل له لا خلاف بين السلف أن غير البالغ جائز في كفارة الخطأ إذا كان قد صام وصلى ولم يشرط أحد وجود الإيمان منه حقيقة ألا ترى أن من له سبع سنين مأمور بالصلاة على وجه التعليم وليس له اعتقاد صحيح للإيمان فثبت بذلك سقوط اعتبار وجود حقيقة الإيمان الرقبة ولما ثبت ذلك باتفاق السلف علمنا أن الاعتبار فيه بمن لحقته سمة الإيمان على أى وجه سمى والصبى بهذه الصفة إذا كان أحد أبويه مسلما فوجب جوازه عن الكفارة.

قوله تعالى( إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا ) قال أبو بكر يعنى والله أعلم إلا أن يبرئ أولياء القتيل من الدية فسمى الإبراء منها صدقة وفيه دليل على أن من كان له على آخر دين فقال قد تصدقت به عليك أن ذلك براءة صحيحة وأنه لا يحتاج في صحة هذه البراءة إلى

١٩٨

قبول المبرأ منه ولذلك قال أصحابنا إن البراءة واقعة ما لم يردها المبرأ منه وقال زفر لا يبرأ الغريم من الدين إلا أن يقبل البراءة وكذلك الصدقة وجعل بمنزلة هبة الأعيان وظاهر الآية يدل على صحة قول أصحابنا لأنه لم يشرط القبول ولأن الدين حق فيصح إسقاطه كالعفو عن دم العمد والعتق ولا يحتاج إلى قبول وقال أصحابنا إذا رد المبرأ منه البراءة من الدين عاد الدين وقال غيرهم لا يعود وجعلوه كالعنق والعفو عن دم العمد والدليل على صحة قولنا أن البراءة من الدين يلحقها الفسخ ألا ترى أنه لو صالحه على ثوب برىء فإن هلك الثوب قبل القبض بطلت البراءة وعاد الدين والعتق والعفو عن الدم لا ينفسخان بحال ويدل أيضا على وقوع البراءة من الدين بلفظ التمليك أن الصدقة من ألفاظ التمليك وقد حكم بصحة البراءة بها وأنه ليس بمنزلة الأعيان إذا ملكها غيره بلفظ الإبراء فلا يملك مثل أن يقول قد أبرأتك من هذا العبد فلا يملكه وإن قبل البراءة وإذا قال قد تصدقت بمالي عليك من الدين أو قد وهبت لك مالي عليك صحت البراءة ويدل على ذلك أن من له على غيره دين وهو غنى فقال قد تصدقت به عليك برىء منه لأن الله تعالى لم يفرق بين الغنى والفقير في ذلك ويدل على أن الأهل يعبر به عن الأولياء والورثة لأن قوله( فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ ) معناه إلى ورثته وقال محمد ابن الحسن فيمن أوصى لأهل فلان أن القياس أن يكون لزوجاته إلا أنى قد تركت القياس وجعلته لكل من كان في عياله قال أبو بكر الأهل اسم يقع على الزوجة وعلى جميع من يشتمل عليه منزله وعلى أتباع الرجل وأشياعه قال الله تعالى( إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ ) فكان ذلك على جميع أهل منزله من أولاده وغيرهم وقال( فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ) ويقع على من اتبعه في دينه كقوله( وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ) فسمى أتباعه في دينه أهله وقال في ابنه( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ ) فاسم الأهل يقع على معان مختلفة وقد يطلق اسم الأهل ويراد به الآل وهو قراباته من قبل الأب كما يقال آل النبي وأهل بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهما سواء.

باب شبه العمد

قال أبو بكر أصل أبى حنيفة في ذلك أن العمد ما كان بسلاح أو ما يجرى مجراه

١٩٩

مثل الذبح بليطة قصبة أو شقة العصا أو بكل شيء له حد يعمل عمل السلاح أو بحرقه بالنار فهذا كله عنده عمد محض فيه القصاص ولا نعلم في هذه الجملة خلافا بين الفقهاء وقال أبو حنيفة ما سوى ذلك من القتل بالعصا والحجر صغيرا كان أو كبيرا فهو شبه العمد وكذلك التغريق في الماء وفيه الدية مغلظة على العاقلة وعليه الكفارة ولا يكون التغليظ عنده إلا في أسنان الإبل خاصة دون عددها وليس فيما دون النفس شبه عمد بل بأى شيء ضربه فعليه القصاص إذا أمكن وإن لم يكن فعليه أرشه مغلظا إذا كان من الإبل يسقط ما يجب وأصل أبى يوسف ومحمد أن شبه العمد مالا يقتل مثله كاللطمة الواحدة والضربة الواحدة بالسوط ولو كرر ذلك حتى صار جملته مما يقتل كان عمدا وفيه القصاص بالسيف وكذلك إذا غرقه بحيث لا يمكنه الخلاف منه وهو قول عثمان البتى إلا أنه يجعل دية شبه العمد في ماله قال ابن شبرمة وما كان من شبه العمد فهو عليه في ماله يبدأ بماله فيوخذ حتى لا يترك له شيء فإن لم يتم كان ما بقي من الدية على عاقلته وقال ابن وهب عن مالك إذا ضربه بعصا أو رماه بحجر أو ضربه عمدا فهو عمد وفيه القصاص ومن العمد أن يضربه في نائرة تكون بينهما ثم ينصرف عنه وهو حي ثم يموت فتكون فيه القسامة وقال ابن القاسم عن مالك شبه العمد باطل إنما هو عمد أو خطأ وقال الأشجعى عن الثوري شبه العمد أن يضربه بعصا أو بحجر أو بيده فيموت ففيه الدية مغلظة ولا قود فيه والعمد ما كان بسلاح وفيه القود والنفس يكون فيها العمد وشبه العمد والخطأ الجراحة لا يكون فيها إلا خطأ أو عمد وروى الفضل بن دكين عن الثوري قال إذا حدد عودا أو عظما فجرح به بطن حر فهذا شبه عمد ليس فيه قود قال أبو بكر هذا قول شاذ وأهل العلم على خلافه وقال الأوزاعى في شبه العمد الدية في ماله فإن لم يكن تماما فعلى العاقلة وشبه العمد أن يضربه بعصا أو سوط ضربة واحدة فيموت فإن ثنى بالعصا فمات مكانه فهو عمد يقتل به والخطأ على العاقلة وقال الحسن بن صالح إذا ضربه بعصا ثم على فقتله مكانه من الضربة الثانية فعليه القصاص وإن على الثانية فلم يمت منها ثم مات بعدها فهو شبه العمد لا قصاص فيه وفيه الدية على العاقلة والخطأ على العاقلة وقال الليث العمد ما تعمده إنسان فإن ضربه بإصبعه فمات من ذلك دفع إلى ولى المقتول والخطأ فيه على العاقلة وهذا يدل على أن الليث كان لا يرى شبه العمد وإنما يكون

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388