أحكام القرآن الجزء ٣

أحكام القرآن15%

أحكام القرآن مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 388

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥
  • البداية
  • السابق
  • 388 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 80061 / تحميل: 5631
الحجم الحجم الحجم
أحكام القرآن

أحكام القرآن الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

المروية عن عليّ (عليه السلام) وأبنائه الأئمّة الهُداة، حقيقة التوحيد في كلماتهم كما أوردها الكتّاب والمؤلّفون في الفِرَق عن المعتزلة بدون تفاوت إلاّ في بعض النقاط التي سنُنبه عليها في المباحث الآتية:

فقد روى محمّد بن بابويه المعروف بالصدوق، في كتابه التوحيد، عن الهيثم بن عبد الله الرماني، عن عليّ بن موسى الرضا، عن أبيه موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمّد، عن أبيه محمّد بن عليّ، عن أبيه عليّ بن الحسين، عن الحسين بن عليّ (عليه السلام)، أنّ عليّاً (عليه السلام) خطَب الناس في مسجد الكوفة، فقال: (الحمد لله الذي لا مِن شيءٍ كان، ولا مِن شيءٍ كوّن ما قد كان، مستشهد بحدوث الأشياء على أزليّته، وبما وسَمَها من العجز على قدرته، وبما اضطرّها إليه من الفناء على دوامه، لم يخلُ منه مكان فيُدرك بأنّيته، ولا له شبيه مثالٍ فيوصف بكيفيّته، ولم يغِب عن علمه شيءٌ فيعلم بحيثيّته، مباينٌ لجميع ما أحدث في الصفات، وممتنعٌ عن الإدراك بما ابتدع من تصريف الذوات، لا تحويه الأماكن لعظمته، واحدٌ لا بعدد، ودائمٌ لا بأمَد، وقائم لا بعمَد، ليس بجنسٍ فتعادله الأجناس، ولا بشبحٍ فتضارعه الأشباح، ولا كالأشياء فتقَع عليه الصفات) (1).

وجاء في توحيد الصدوق أنّ رجلاً سأله في البصرة عن حقيقة التوحيد فقال: (إنّ القول بالوحدانية يصحّ على أربعة أوجه: اثنان منها لا تجوز عليه سبحانه، واثنان ثابتان له. فأمّا ما لا يجوز منها عليه، فقول القائل: واحد يلاحظ العدَد؛ لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد، ولذا كفَر من قال: إنّ الله ثالث ثلاثة، وكذا إطلاق الواحد عليه يلاحظ أنّه واحد من الناس، ويُراد بذلك النوع من الجنس، وهذا لا يجوز عليه سبحانه؛ لأنّه تشبيه، وجلّ ربنا عن ذلك وتعالى علوّاً كبيراً، وأمّا اللذان يجوَّزان عليه سبحانه فهما الواحد بمعنى نفي الشبيه له، وبمعنى أنّه لا ينقسم في وجودٍ ولا عقلٍ ولا وهمٍ، كذلك ربّنا عزّ وجل) (2).

وبهذا التحديد القصير لحقيقة التوحيد جمَع كل ما ذكره المعتزلة في

____________________

(1) انظر توحيد الصدوق ص 52 تجد الخطبة بكاملها حول صفات الله سبحانه وبيان حقيقة التوحيد كما يليق بذاته تعالى.

(2) انظر المصدر السابق ص 67.

١٤١

معنى الوحدانية؛ لأنّ ما لا شبيه له في الأشياء، لا يكون جسماً، ولا يوصَف بصفات الأجسام، ولا يُحدّ بشيء من الأشياء، وليس له أبعاض وأجزاء، ولا يجري عليه زمان ولا تحيط به الحواس، إلى غير ذلك من الأوصاف التي أوردها المعتزلة لبيان حقيقة التوحيد، كما وأنّ ما لا ينقسم في وجودٍ أو عقلٍ أو وهم، لا يشبه شيئاً من مخلوقاته، ولا يكون محلاًّ للأعراض والحوادث، لأنّ انقسام الشيء ولو في عالم الذهن لا يُمكن أنْ يكون إلاّ باعتبار أجزائه، وعوارضه، وإذا لم يصحّ فيه الانقسام، لابدّ وأنْ يكون مجرّداً عن جميع الحالات والكيفيّات.

وجاء عنه أنّه قال: (إنّ الله ليس بشبح فيرى، ولا بجسمٍ فيجرى، ولا بذي غايةٍ فيتناهى، ولا بمحدِث فيبصر، ولا بمستتر فيكشف، كلمّ موسى تكليماً بلا جوارح وأدوات، ومَن زعَم أنّ إله الخلق محدود فقد جهل الخالق المعبود) (1) .

وجاء عن الفتح بن يزيد الجرجاني أنّه سأل الإمام الرضا (عليه السلام): هل يعلم الله الشيء الذي لم يكن أنْ لو كان كيف يكون؟ فقال: (أمّا سمعت إليه يقول: ( لو كان فيهما آلهةً إلاّ الله لفسدتا ) ، وقوله: ( وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ) ، وقال، عن أهل النار: ( أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا ) ، وقال: ( وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ) ، فقد أثبت سبحانه لنفسه أنّه يعلم الشيء الذي لم يكن لو كان كيف يكون) (2).

وقد أورد الإمام (عليه السلام) هذه الآيات التي أثبتت له العِلم بما لم يكن، إلزاماً للقائلين بأنّ العلم لا يتعلّق بالمعدوم حيث شاع القول بذلك في عصره على أحد زعماء المعتزلة (3).

وأورد الصدوق في كتابه التوحيد جملة أُخرى من الأحاديث عن الأئمّة (عليهم السلام)، في تحديد معنى التوحيد تتضمّن تنزيه الله سبحانه عمّا أثبته له المشبّهة والمحدّثون من أهل السنّة، كما أورد السيّد الرضي في نهج البلاغة مجموعة من خطَب أمير المؤمنين (عليه السلام) حول هذا المعنى، وهو

____________________

(1) نفس المصدر ص 61.

(2) نفس المصدر ص 48.

(3) وتنسب هذه المقالة إلى الجهم بن صفوان أوّل المتكلّمين في القدر، وإلى هشام بن محمّد الغوطي أحد زعماء المعتزلة في عصر الإمام الرضا (عليه السلام).

١٤٢

أوّل مَن تطرّق لهذه المواضيع من المسلمين وذلك قبل وجود المعتزلة بعشرات السنين.

أمّا التوحيد عند الأشاعرة الذين يمثّلون رأي المحدّثين والفقهاء، وعامّة أهل السنّة، فقد قال أبو الحسن الأشعري في كتابه (مقالات الإسلاميّين) في وصفه: (إنّ الله واحدٌ أحد لم يتّخذ صاحبةً ولا ولداً، وهو على عرشه كما تنصّ الآية: ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) ، وأنّ له يدَين بلا كيف لقوله: ( خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) ، ولقوله: ( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ) ، وله عينان، لقوله: ( تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا ) ، وله وجه لقوله: ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالإِكْرَامِ ) ، وأنّ أسماء الله لا يُقال أنّها غير الله كما يدّعي المعتزلة والخوارج، وله علم لقوله: ( أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ) ، ولقوله: ( وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلاّ بِعِلْمِهِ ) ، وأثبتوا له القوّة لقوله تعالى: ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ) .

وأضافوا إلى ذلك أنّ سيّئات العباد يخلقها الله، وجميع الأعمال مخلوقةٌ له سبحانه، ولا يقدر العباد أنْ يخلقوا منها شيئاً، وأنّه يقدر أنْ يصلح الكافرين ويلطف بهم ليكونوا مؤمنين، ولكنّه أراد أنْ لا يصلحهم ولا يلطف بهم، وأرادهم كافرين، وأنّ الله يُرى بالأبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة تمامه، يراه المؤمنون دون الكافرين؛ لأنّهم عنه محجوبون، وأنّه ينزل إلى السماء الدنيا فيقول: هل مِن مستقر (1).

وقد أورد الأسفراييني في كتابه التبصير عن معتقدات أهل السنّة (2) والجماعة ما هو قريب من ذلك، والأشاعرة كغيرهم من المذاهب الإسلامية، يثبتون له بعض الصفات وينفون عنه غيرها، ولكنّهم يختلفون اختلافاً واقعياً في كيفية اتصافه بتلك الصفات، ومع أنّهم ينفون عنه الجسمية والمكان والحلول يثبتون له ما لا ينفكّ عن هذه الأُمور، ويبدو ممّا ذكرناه من مجمل عقيدة الأشاعرة وأتباعهم المحدّثين أنْ بين رأيهم في حقيقة التوحيد من جهة، ورأي الإمامية والمعتزلة من جهة أُخرى تفاوتاً موجباً لتغايره بلحاظ كل من الرأيين.

____________________

(1) انظر مقالات الإسلاميّين لأبي الحسن الأشعري ص 330 وما بعدها إلى صفحة 333.

(2) انظر التبصير في الدين ص 149 وما بعدها.

١٤٣

وقد اتفقت الفِرَق الثلاث على أنّ صفاته منها ما هو ذاتي ثابت لذاته: كالعلم والقدرة والحياة، والإرادة والسميع، والبصير، ومنها ما هو إضافي يثبت لذاته بعد وجود المنشأ لانتزاعها: كالرازق، والخالق، والمالك، والمميت، وغير ذلك ممّا تتّصف به الذات بعد وجود منشأ لانتزاعها؛ لأنّ صدق الخالق والمالك والرازق والمُميت عليه سبحانه، إنّما صحّ باعتبار وجود المخلوق والمملوك، والإماتة، ولا شكّ بحدوث هذه الصفات تبَعاً لمنشأ انتزاعها أمّا الصفات الذاتية، فالأشاعرة وبعض المعتزلة يدّعون أنّها قديمة مغايرة لذاته، فهو عالمٌ بعلم، وقادرٌ بقدرة، وسميعٌ بسمع وهكذا الحال في بقية الصفات، وأمّا الإمامية فقد اتفقوا على أنّ صفاته ليست أُموراً زائدة على ذاته، وإلاّ لزِم تعدد القديم، أو حدوث الصفات ولا يُمكن الالتزام بكلٍّ منهما (1).

ولقد قسّم المتكلّمون الصفات إلى قسمين سلبية وثبوتية، فالسلبية هي نفي ما لا يليق بذاته عنه، ككونه جسماً آو جوهراً وعرضاً وغير ذلك، والثبوتية، فهي التي تليق بذاته كالعلم والقدرة والسمع والبصر والمُحيي والرازق وغيرها من الصفات التي أثبتها له المتكلّمون والفلاسفة الإسلاميّون.

وقد اتفق الإمامية والمعتزلة على عدم كونه جسماً؛ لأنّ كونه جسماً يلزمه أنْ يكون متحيّزاً، وأنْ يكون جوهراً لو كان متحيّزاً، وإذا كان جوهراً، فإمّا أنْ لا ينقسم أصلاً أو ينقسم، وكلاهما لا يجوز عليه سبحانه.

أمّا الأوّل: فلأنّ الجوهر الذي لا ينقسم هو الجزء الذي لا يتجزّأ، والجزء الذي لا يتجزّأ أصغر الأشياء، وتعالى الله عن ذلك.

وأمّا الثاني: فلو انقسم كان جسماً مركّباً، والتركيب الخارجي يتنافى مع الوجوب الذاتي، هذا بالإضافة إلى أنّه لو كان متحيّزاً، لكان مساوياً لسائر المتحيّزات في الماهية، واللازم من ذلك، إمّا القِدَم أو الحدوث؛ لأنّ المتماثلات لابدّ من توافقها في الأحكام (2).

____________________

(1) انظر المواقف للإيجي ص 45 وما بعدها من الجزء الثامن.

(2) انظر المواقف للإيجي الجزء الثامن من المجلّد الرابع ص 20 و21 وما بعدهما تجد عرضاً وافياً لبقية الأدلّة على نفي الجسمية ولوازمها من التحيّز وخلافه.

١٤٤

ولم يخالف بذلك سوى المشبّهة، وهم الحنابلة والكرامية، فقد ذهبوا إلى إنّه متحيّز بجهة العلو، ويظهر من الأشعري أنّ عقيدة أهل السنّة بأجمعهم على ذلك (1)، وعلى أيّ الأحوال فالمشبّهة من الحنابلة والمحدّثين، يدّعون أنّه متحيّز كبقية الأجسام بنحوٍ يصحّ الإشارة إليه، وهو مماس للصفحة العليا من العرش على حد تعبيرهم، ويجوز عليه التحوّل من مكانٍ إلى آخر، وأنّ العرش يئط من تحته أطيط الرحل الجديد تحت الركب الثقيل، ويزيد عن العرش من كلّ جهة أربعة أصابع وأضافوا إلى ذلك أنّ المؤمنين المخلصين يعانقونه في الآخرة.

وادعى بعض الحشوية من المحدّثين أنّه جسمٌ مركّب من لحمٍ ودم، وقال آخرون: إنّه نور يتلألأ كالسبيكة البيضاء، ويبلغ طوله سبعة أشبار بشبر نفسه، وقال آخرون: أنّه شيخٌ أشمط الرأس واللحية، إلى غير ذلك من الانحرافات والخرافات التي لا يقرّها العقل ولا المنطق، ولا مصدر لها من كتاب أو سنّة، وليس في القرآن سِوى بعض الآيات التي قد يتراءى لأوّل نظرة فيها أنّه جسم كبقية الأجسام، ولكنّها محاطة بآيات أُخرى، ونصوص من السنّة، وقرائن في تلك الآيات الموهمة لكونه جسماً، تؤكّد أنّ المعنى الموهوم من ظاهرها غير مراد منها.

وقال بعضهم، في تفسير قوله تعالى ( فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ) : إنه يقعد معه على سريره، وادعى معاذ العنبري - أحد الحشوية من السنّة - أنّ الله على صورة إنسان، وله كلّ ما للإنسان حتى الفرج، وأضاف بعضهم انّه رأى صورة آدم فخلق نفسه على مثالها، وأنّه يضحك حتى تبدو نواجذه، وفي رجليه نعلان من ذهب في روضةٍ خضراء تحمله الملائكة، وأنّ الملائكة مخلوقة من زغَب ذراعيه.

وجاء عن داود الظاهري أنّ الملائكة عادته حينما اشتكى من وجَع في عينيه، وينزل إلى السماء الدنيا في النصف من شعبان في كلّ عام، وفي الآخرة لا يعرفه الناس إلاّ بعد أنْ يظهر لهم العلامة التي امتاز بها في ساقه، فإذا كشف لهم عن ساقه سجدوا له، ورووا أنّ فاطمة بنت محمّد (صلّى الله عليه وآله) تأتي يوم القيامة وعليها قميص الحسين (عليه السلام) لتخاصم يزيد بن معاوية إلى الله؛ لأنّه قتل ولدها الحسين، وسبى عياله وأطفاله، فإذا رآها الله

____________________

(1) انظر ص 323 من مقالات الإسلاميّين في الفصل الذي عقده لبيان عقيدة أهل السنّة.

١٤٥

سبحانه دعا يزيد بن معاوية إليه وادخله تحت قوائم عرشه، كي لا تظفر به فاطمة (عليه السلام)، فيدخل يزيد ويختبئ منها، ثمّ تتظلّم فاطمة وتبكي، فيخرج الله سبحانه لها قدمه، وبها جرح من سهم نمرود، على حدّ زعمهم، فيقول لها: انظري إلى جرح قدمي، هذا من آثار سهم نمرود وقد عفوت عنه.

وفي شرح النهج لابن أبي الحديد إنّهم رووا في الصحاح أنّ آدم مخلوق على صورته تعالى، وأنّ النار عندما تتغيّظ وتزفر لا تسكن حتى يضع رجله فيها، ويُنسب إلى حمّاد بن أبي سلَمة الأُستاذ الأوّل لأبي حنيفة وأحد فقهاء الرأي، إنّ الله ينزل ليلة عرَفة من السماء إلى الأرض على جملٍ أحمر في هودجٍ من ذهب (1) .

والقول بالتجسيم لازم لكلّ من يلتزم بظواهر الآيات كالحنابلة وأتباعهم، أمّا الأشاعرة فمع أنّهم يلتزمون بظواهر الآيات بدون تصرّف فيها، فقد التزموا بأنّ لله وجهاً ويدين وعيناً، ولكنّهم اعتبروها أوصافاً قائمة بذاته تهرّباً من التجسيم الذي يدّعيه بعض الحنابة والحشوية تمشّياً مع العقل الذي يرى التجسيم منافياً للوحدانية (2).

وجاء عن عليّ (عليه السلام) حول المشبّهة والمُجسّمة: (كذب العادلون بك إذ شبّهوك بأصنامهم، ونحلوك حلية المخلوقين بأوهامهم، وجزّأوك تجزئة المجسّمات بخواطرهم، وأشهد أنّ مَن ساواك بشيء مِن خلقك فقد عدل بك، والعادل بك كافرٌ بما نزلت به محكمات آياتك، ونطقت به شواهد حُجج بيّناتك) (3).

وقد بالغ الكتّاب والمؤلّفون في الفِرَق والمذاهب في نسبة التجسيم إلى هشام بن الحكم، ونسبوا إليه بعض المقالات المنافية لأُصول الاسلام، والتي لا يقرّها العقل، ولا تنسجم مع سيرة هشام وعلمه وصلته بالأئمّة من أهل البيت (عليه السلام)، فقد جاء في التبصير للأسفراييني، أنّه كان يقيس

____________________

(1) انظر ما ذكرنا من أقوال المجسّمة وأدلّتهم الجزء الثامن من المواقف ص 26، وشرح النهج لابن أبي الحديد طبع مصر ج 1 ص 294 و295 وما بعدها.

(2) انظر شرح النهج 296.

(3) شرح النهج لابن أبي الحديد ج 2 ص 144.

١٤٦

معبوده على الناس، وأنّه سبعة أشبار بشبره وأنّه يتلألأ نوراً، وحكى عنه أبو الهذيل العلاّف أحد زعماء المعتزلة وقد سأله: أيّهما أكبر معبوده أم جبل أبي قبيس؟ فقال: إنّ الجبل لا يرقى عليه تعالى، وحكى عنه أبو الحسن الأشعري في مقالات الإسلاميّين، أنّه قال: إنّ الله جسمٌ محدودٌ عريضٌ عميق طويل، طوله مثل عرضه وعمقه مثل طوله، وأنّه ذو لونٍ وطعمٍ ورائحة ومجسة إلى غير ذلك من المقالات التي ينسبها إليه كتّاب الفِرَق وغيرهم، وقد وصفه المعتزلة بالخروج عن الاسلام، وهاجمه الجبائي وغيره منهم، وقال فيه بعضهم:

ما بال مَن ينتحل الاسلام

متّخذاً إمامه هشاما (1)

ويبدو من ذلك أنّ الحملات العنيفة التي واجهها هشام، من أخصامه المعتزلة والمحدّثين والفقهاء من السنّة كانت بدافع التشنيع عليه؛ لأنّه كان يُخاصم الفريقين ويناظرهم ولا يثبتون له في جميع مواقفهم معه، كما تؤكّد ذلك المرويّات في ترجمته، وليس في كلماته ما يشير إلى التجسيم المنسوب إليه، وكلّ ما ورد عنه أنّه قال: إنّ الله جسم لا كالأجسام، قال ذلك على سبيل المعارضة والجدَل لأخصامه المعتزلة القائلين بأنّه شيء لا كالأشياء، وهذا النوع من الجدَل لا يدلّ على أنّه اتخذه رأياً له، ولا مذهباً يدين به كما يدّعي كتّاب الفِرَق والمذاهب.

ولو افترضنا أنّه كان يدين بذلك، فليس في هذا الرأي ما يوجب الكفر والإلحاد كما وصفه بذلك النظّام والجبائي وغيرهما من المعتزلة والمحدّثين، وليس في كلماته ما يشير إلى حديث الأشبار السبعة من قريب أو بعيد التي نسبها إليه الجاحظ والنظّام، هذا بالإضافة إلى أنّ هشام بن الحكم كان من تلامذة الأئمّة من أهل البيت (عليه السلام) الذين أعلنوا حرباً لا هوادة فيها على المجسّمة وأصحاب المقالات التي لا تتّفق مع قداسة الخالق وتنزيهه عن صفات مخلوقاته، وكان على صلةٍ أكيدة بهم، ومفضّلاً على الأجلّة من شيوخ أصحابهم.

وقال فيه الإمام الصادق (عليه السلام): (لا تزال مؤيّداً بروح القدس يا

____________________

(1) انظر التبصير في الدين ص 106 ومقالات الإسلاميّين ج 1 ص 257 والشافي للسيّد المرتضى ص 11.

١٤٧

هشام، ما نصرتنا بلسانك)، وجاء عنه أيضاً أنّه دخل على الإمام الصادق وكان شابّاً قبل أنْ يختطّ عارضاه بالشعر، وفي مجلسه أجلاّء الشيوخ من شيعته وتلاميذه، فوسّع له في مجلسه، وأدناه منه ثمّ قال: (هذا ناصرنا بقلبه ويده ولسانه)، وقال فيه مّرة أُخرى: (هشام بن الحكم رائد حقّنا، والمؤيّد لصِدقنا، والدافع لباطل أعدائنا، مَن تبعه وتبِع أمره تبعنا، ومَن خالفه وألحَد فيه فقد خالفنا وألحد فينا)، إلى غير ذلك من المرويّات الكثيرة في فضله وسلامة عقيدته، والتي تؤكّد بصراحة أنّه كان يُطبّق مبدأ الأئمّة من أهل البيت وتعاليمهم في أقواله وأفعاله وآرائه.

وكيف تصحّ في حقّه تلك التهم والمقالات الفاسدة المنافية لأُصول الإسلام ونصوص القرآن، مع تعظيم الأئمّة له، وتقديرهم لجهوده وجهاده؟ إنّ نسبة هذه المقالات إلى هشام بن الحكَم وجوازها عليه لا ينفكّ عن جوازها على الأئمّة أنفسهم الذين رفعوا شأنه، وفضّلوه على الأجلّة من أصحابهم.

وممّا يؤكّد عدم صحّة تلك المرويّات عنه أنّها لم ترِد عن غير أعداء الشيعة وأعدائه بصورة خاصة؛ لأنّه وقف لهم ولغيرهم من الملحدين وأهل البِدَع والمنحرفين بالمرصاد، وله مواقف حاسمة مع عمرو بن عبيد أحد زعماء المعتزلة، وإبراهيم بن سيار النظّام وغيرهما في الإمامة وغيرها من الأصول الإسلاميّة، وجاء فيما رواه أبو عمر الكشّي في رجاله، أنّ إبراهيم النظام كان ينكر بقاء أهل الجنّة إلى الأبد، مدّعياً أنّ البقاء الأبدي لا يكون لغير الله، وقد جرى حوار بينه وبين هشام بن الحكَم حول هذا الموضوع، قال فيه هشام: إنّ بقاء الله لا يحتاج إلى سبب وعلّة، وبقاؤهم لا يكون إلاّ بسبب، هو إرادة الله ومشيئته، فلا يلزم من بقائهم مشاركتهم لله سبحانه.

ولمّا أصرّ النظّام على أنّهم بعد استيفاء نصيبهم من النعيم يجمدون على الحالة التي كانوا عليها، قال هشام: أوَلَيس في الجنّة كلّ ما تشتهي الأنفس؟ ومِن الجائز أنْ يشتهوا البقاء فيها إلى الأبد، قال النظّام: نعم ولكنّهم لا يلهمون إلى ذلك، وإنْ سألوه أعطاهم ما يريدون.

قال هشام: فلو أنّ رجلاً من أهل الجنّة نظر إلى ثمرة من ثمارها، فتدلّت إليه الشجرة ليقطف منها تلك الثمرة، ثمّ حانت منه لفتة أُخرى، فنظر إلى ثمرةٍ أُخرى منها فمدّ يده ليأخذها فأدركه الجمود الذي تدّعيه،

١٤٨

ويداه معلقتان بشجرتين فارتفعت الأشجار يصبح والحالة هذه مصلوباً، أَفبلغك أنّ في الجنّة مصلوباً؟ قال النظّام: إنّ ذلك محال، فقال هشام: إنّ ما أتيت به أمحل منه يا جاهل.

ومهما كان الحال، فالخصومة الشديدة التي كانت بينه وبين أصحاب المقالات والآراء المخالفة لأُصول الاسلام، ولا سيّما خصومته لأقطاب المعتزلة كعمرو بن عبيد، والنظّام والجاحظ وأمثالهم، هذه الخصومة هي التي دفَعت أعداءه إلى الكذِب والتشويش عليه، ولو افترضنا أنّه كان من القائلين بالتجسيم، وأنّه كان دَيصانياً في بداية أمره، ثمّ أصبح جهمياً، وأخيراً أصبح إمامياً متحمّساً لفكرة الإمامية، ولو افترضنا أنّه كان ديصانياً وجهمياً قبل تشيّعه لأهل البيت (عليه السلام)، فلابدّ وأنْ يكون قد رجَع عن القول بالتجسيم بعد المرحلة الأخيرة التي استقرّ عليها، كما يبدو ذلك من سيرته، ومعاملة الأئمّة الهداة (عليه السلام) له.

وجاء في بعض المرويّات أنّ الإمام جعفر بن محمّد (عليه السلام) قد منعه من الدخول عليه؛ لأنّه يقول بالتجسيم، واعتذر عن ذلك بأنّه لم يعلم بأنّه يتخطى رأي إمامه بذلك، أمّا بعد أنْ علم بذلك، فهو تائب إلى الله (1)، على أنّ ذلك كلّه مجرّد افتراض، والرواية المذكورة لا تؤيّدها الدراسة لتاريخ هشام بن الحكم وتتبّع آثاره، والذي تؤيّده الشواهد المتعدّدة أنّ هشاماً منذ نشأته لم ينحرف عن التشيّع، وقضى مدّة حياته صلباً في تشيعه، وخصماً عنيداً لكلّ مَن يُحاول التشويش عليه من أيّ فرقةٍ كان.

والرواية الحاكية لخصومته مع عمرو بن عبيد في البصرة حول الإمامة، تنصّ على أنّه كان يوم ذاك في مطلع شبابه، لم يختط عارضاه بالشعر كما جاء فيها، وقد جاء في الشافي للسيّد المرتضى، أنّ الإمام الصادق كان يرفعه على شيوخ أصحابه مع حداثة سنّه، وأنّه وهو في ريعان شبابه كان يُدافع ويناضل عن التشيّع وأُصوله (2).

ومن ذلك نستفيد أنّه لم يعتنق غير التشيّع مذهباً، ولم يتبنّ غير أُصوله وفروعه، وكيف يجوز في حقّه أنْ يكون ديصانياً تارة، وجهمياً أُخرى، مع كونه خصماً عنيداً لأعداء التشيّع قبل أنْ يختطّ عارضاه

____________________

(1) انظر هشام بن الحكم للشيخ عبد الله نعمة.

(2) انظر الشافي للسيّد المرتضى ص 12 و13.

١٤٩

بالشعر أي في مطلع شبابه وهذا السنّ لا يُساعد عادة على استعراض المذاهب ودراستها والتنقّل من مذهب إلى مذهب، على أنّ هذه النسبة جاءته مِن قِبل أخصامه المعتزلة الذين كانوا يرونه من أنكد أخصامهم الأقوياء، ونسَج المتأخّرون منهم على منوالهم، وما زال الكتّاب يلصقون به وبغيره من أعلام الشيعة، كلّ ما يُسيء إلى سمعتهم ويُوهن من أُمورهم، ويجترون أقوال المتقدّمين بدون تحقيق أو تمحيص.

وجاء في تاريخ الفِرَق الإسلامية أنّ أصل التشبيه يرجع إلى طائفتين: طائفة الروافض من الشيعة، وطائفة الحشوية من المحدّثين، ويمثّل الطائفة الأُولى هشام بن الحكم (1)، وقد ذكرنا أنّ مصدر إلصاق هذه التهمة به هو الكلمة المنسوبة إليه وهي، (إنّه جسمٌ لا كالأجسام)، وهي على تقدير صدورها منه صورة ثانية عن مقالة المعتزلة، (إنّه شيءٌ لا كالأشياء)، والمقصود منها أنّه لا يشبه شيئاً من مخلوقاته، ولا تدلّ على أكثر من ذلك، ومع ذلك فقد استباحوا إلصاق هذه المقالات الباطلة به، ولم ينسبوا إلى الأشعري والمحدّثين القول بالتشبيه والتجسيم، مع أنّ كلماتهم أدلّ على التجسيم المطلق من هذه الكلمة.

قال أبو الحسن الأشعري، في شرح معتقدات أهل السنّة: (إنّ الله يُرى بالأبصار يوم القيامة، كما يُرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون ولا يراه الكافرون، وأنّه ينزل إلى السماء الدنيا، فيقول: هل من مستغفر؟ وله يدان وعينان ووجه وغير ذلك من الأعضاء، وعقّب ذلك بقوله: وبكلّ ما ذكرنا من قولِهم نقول وإليه نذهب (2)، وذكر في التبصير نحواً من ذلك، واستدلّ على رؤية الله سُبحانه بأنّ ما لا تصحّ رؤيته لم يتقرّر وجوده، هذا بالإضافة إلى ما ذكرناه سابقاً عن الحنابلة الذين أنزلوه إلى مستوى البشر، ومع ذلك فالشيعة عند عليّ الغرابي، هُم المشبّهة والمجسّمة بزعامة هشام بن الحكَم.

أمّا القائلون بأنّ له يداً وعيناً ووجهاً وأنّه يُرى بالأبصار، وينزل إلى السماء الدنيا وغير ذلك ما هو ثابت عن أهل السنّة الأشاعرة وغيرهم،

____________________

(1) انظر تاريخ الفِرَق الإسلامية لعلي الغرابي.

(2) انظر صفحة320 وما بعدها إلى ص325 الجزء الأول من مقالات الإسلاميّين، وانظر التبصير في الدين ص138.

١٥٠

هؤلاء هم الموحّدون الحقيقيّون عند الغرابي وغيره من كتّاب السنّة.

ومن صفاته السلبية، أنّه ليس بجوهر ولا عرض؛ إذ لو كان جوهراً لكان متحيّزاً، والتحيز يلزمه التجسيم وكونه محتاجاً إلى غيره، هذا بالإضافة إلى أنّ الجوهر وجوده غير ماهيته، والواجب متّحد وجوداً وماهية، ولو كان عرضاً احتاج إلى محل يعرض عليه؛ لأنّ الأعراض إنّما تتقوّم بغيرها.

ومنها أنّه ليس زمانياً بمعنى أنّ وجوده لا يحتاج إلى الزمان، ولو كان زمانياً لزِم كون الزمان قديماً، وكونه مفتقراً إلى غيره كما هو الحال في كلّ زماني، مضافاً إلى أنّ الزمان يتجدّد، والحال في المتجدّد لابدّ وأنْ يكون متجدّداً، وتعالى الله عن ذلك، وليس معنى كونه قديماً هو التقدّم الزماني، كما وأنّ بقاءه لا يعني وجوده في زمانين أو أكثر، وإلاّ لزِم كونه زمانياً.

ومنها أنّه لا يتّحد بغيره لامتناع صيرورة الشيئين شيئاً واحداً، وينسب القول بذلك إلى الصوفية؛ لأنّهم يدّعون بأنّه متّحد بأبدان العارفين، وأنّه نفس الوجود، وكلّ موجود هو الله على حدّ زعمهم.

ومنها أنّه لا يحلّ بغيره؛ لأنّ الحال مفتقر إلى المحل، وكلّ مفتقر إلى غيره ممكن، مضافاً إلى أنّ الحلول يستدعي التبعية، والغني بذاته لا يكون تابعاً لغيره، ولو افترضنا ذلك لزِم كون المحل قديماً فيتعدّد القديم، والقول بالحلول منسوبٌ إلى المتصوّفة القائلين بأنّ الله يحل في أبدان العارفين، وأنّ الإنسان متى وصل إلى أعلى مراتب المعرفة فقد اتحد مع الإله، فتسقط عنه جميع التكاليف.

وفكرة الحلول والاتحاد لازمة لقول النصارى في المسيح، لأنّه تعالى إمّا حالٌّ في المسيح أو متّحدٌ معه، أو أنّ صفته قد حلّت فيه، وعلى جميع التقادير إمّا أنْ يكون الحلول ببدن المسيح أو بنفسه، وقد بيّنا أنّ الاتّحاد محال عقلاً مع فرض الاثنينية، والحلول يؤدّي إلى النتائج التي ذكرناها (1).

ومنها أنّه لا يتّصف بشيء من الأعراض المحسوسة بالحسّ الظاهر أو الباطن كالطعم واللون والرائحة والألم، والحقد، والحزن، والخوف وغير ذلك؛ لأنّ هذه كلّها من توابع المزاج والأجسام المركّبة من عناصر

____________________

(1) انظر المواقف جزء 8 ص 29 و30 وكشف الحق ونهج الصدق للعلاّمة الحلّي ص 17.

١٥١

مختلفة، وأجزاء متباينة لكلّ واحد منها آثار وخواص تخصّه، وقد أثبتنا أنّه تعالى ليس بجسمٍ لتكون له هذه الآثار والخصائص الثابتة للأجسام.

الصفات الوجودية

لقد ذكرنا سابقاً أنّ المتكلّمين قسّموا الصفات إلى قسمين ثبوتية وسلبية، وقد ذكرنا قسماً من الصفات السلبية، أمّا الصفات الوجودية فهي إمّا راجعة للذات ابتداءً وبلا توسّط شيءٍ آخر، وأمّا أنْ تكون صفة للذات باعتبار الأفعال الصادرة عنها، قال الشيخ المفيد: (صفات الله على ضربين، أحدهما منسوبٌ إلى الذات، فيقال عنها أنّها صفاتٌ للذات، وثانيهما منسوبٌ إلى الأفعال فتكون صفة لها، والمراد من صفات الذات هو كونها مستحقّة لها استحقاقاً لازماً، لا لشيء سِواها، ومعنى صفات الأفعال، هو أنّها تجب بوجود الفعل ولا تجب قبل وجوده.

فصفات الذات له تعالى، هي وصْفَه بأنّه حيٌّ عالمٌ قادر، ألا ترى أنّه لم يَزل مستحقّاً لهذه الصفات ولا يزال، ووصْفُنا له بصفات الأفعال معناه أنّه قبل صدور الفعل لا يصحّ وصفه سبحانه بتلك الصفة، فقبل خلقه الخلْق لا يُوصف بأنّه خالق، وقبل إماتته الخلق لا يقال عنه مميت، إلى غير ذلك مّن الصفات التي لا يصحّ حملها على الذات إلاّ بعد وقوع الفعل منه سبحانه.

وأضاف إلى ذلك أنّ صفات الذات لا يوصف صاحبها بأضدادها، ولا يخلو منها، أمّا صفات الأفعال فيوصف مستحقّها بضدّها كما يصحّ خلوّه عنها، فلا يوصف بالموت ولا بالعجز ولا بالجهل، كما لا يوصف بخلوّه عن الحياة والعلم والقدرة؛ لأنّ هذه الصفات ثابتة لذاته تعالى، ويصحّ أنْ يقال فيه أنّه غير خالق اليوم ولا رازق لزيد، ولا محيي للميّت الفلاني،  ولا مُبدِئ لشيء في هذه الحالة) (1).

____________________

(1) انظر تصحيح اعتقادات الصدوق للشيخ المفيد ص 11.

١٥٢

والمتحصّل من ذلك أنّ نسبة الصفات إليه تعالى ليست على نهجٍ واحد؛ لأنّ منها ما يُنسب إلى ذاته ابتداءً ولا توسّط لشيء، ومنها ما ينسب لذاته بلحاظ ما يصدر عنه من الأفعال، والظاهر أنّ القسم الثاني من الصفات ليس داخلاً في النزاع القائم بين الأشاعرة وغيرهم، في أنّ صفاته عين ذاته أم غيرها؟ لأنّ هذه الصفات إنّما تجري عليه سبحانه بلحاظ ما يصدر عنه، فهي تابعة لمنشأ انتزاعها، كما وأنّ القسم الأوّل من الصفات لا إشكال في أنّه الموضوع للنزاع القائم بين الطرفين الأشاعرة وغيرهم، وقبل الإشارة إلى وجهة نظر الفريقين في هذه المسألة، لابدّ من البحث في الصفات وبيان المراد منها مع الإشارة إلى رأي الفلاسفة والمتكلّمين منها على ضوء ما جاء في كلماتهم حول هذه المواضيع.

القُدرة

وقد عدّوا من جملة صفات الذات القدرة، ومعناها عند المتكلّمين، أنّه لا شيء من الفعل والترك ضروري بالنسبة إليه سبحانه؛ لأنّه قد أوجد هذا الكون بنظامه حسب مشيئته، ولو لم يشأ لم يكن، وقال الفلاسفة: إنّ القدرة بهذا المعنى نقصان لا يليق بذاته سبحانه، وإيجاده للكون هو من لوازم ذاته، فيمتنع خلوّه منه، فالقدرة لازمة له كلزوم العلم وسائر الصفات الكمالية، فكما يستحيل انفكاكها عنه، يستحيل انفكاك القدرة عنه، وفي جواب ذلك قال المتكلّمون: أنّه لو لم تكن القدرة بمعنى إنْ شاء فعل وإنْ شاء ترَك بحيث لم يكن الفعل والترك ضروريّين، يلزم أحد أُمور أربعة، إمّا نفي الحادث، أو عدَم استناده إلى المؤثّر، أو التسلسل، أو تخلّف الأثر عن المؤثّر.

بيان الملازمة، أنّه لو كان موجباً بذاته، إمّا أنْ لا يوجد حادث أو يوجد، فإنْ لم يوجد لزِم نفي الحادث، وهو مُخالف للضرورة والوجدان، وإنْ وجِد حادث، فإمّا أنْ لا يستند الحادث الموجود إلى مؤثّر موجد، أو

١٥٣

يستند، فإنْ لم يستند الى مؤثّر، لزِم عدم استناد الحادث إلى مؤثّر، وإنْ استند الحادث الموجود إلى مؤثّر، فإمّا أنْ يكون المؤثّر قديماً أو حادثاً، فإنْ لم يكن قديماً ولا منتهياً إلى القديم، لابدّ له من مؤثّر، وذلك المؤثّر إذا لم يكن قديماً أو منتهياً إلى القديم، لابدّ له من مؤثّر آخر، فيلزم التسلسل، وإنْ كان المؤثّر منتهياً إلى القديم لزِم تخلّف الأثر عن المؤثّر؛ لأنّا قد فرضناه حادثاً منتهياً إلى القديم الموجب بذاته، ولازم ذلك كون الأثر مقارناً للموجب، ولو كان مقارناً خرَج عن كونه حادثاً، ولزم تعدد القديم، وهو خلاف المفروض (1).

والقدرة الثابتة لذاته تعالى تشمل جميع الأشياء، حسنة كانت أم قبيحة، لأنّ المقتضى للقدرة على جميع الممكنات، هو ذاته، ونسبتها إلى جميع الممكنات متساوية، وإذا ثبتت على بعضها ثبتت على البعض الآخر، ولم يُخالف بذلك إلاّ الفلاسفة وبعض المعتزلة. أما الفلاسفة، فقالوا: إنّ الله واحد والواحد لا يصدر عنه أكثر من واحد، فلا يقدر على جميع الممكنات، ولذا التزموا بأنّ الله أوجد العقل الأوّل، وبقية المُمكنات تصدر عنه بالوسائط.

وذهب المجوس إلى أنّ الله لا يقدر إلاّ على الخير، أمّا الشرّ فليس من مقدوره، وإنّما هو من فعل الشيطان، كما ذهب النظام وأتباعه من المعتزلة إلى أنّ الله لا يقدر على القبيح، لأنّه مع العلم بقبحه يكون فعله سفَهاً، وإنْ كان جاهلاً بقبحه يكون ناقصاً، وتعالى الله عن ذلك.

وذهب أبو القاسم البلخي وجماعة منهم إلى أنْ الله لا يقدر على ما أقدر عليه عباده؛ لأنّه أمّا أنْ يكون طاعة مشتملة على المصلحة أو معصية فيه المفسدة، أو مجرّداً عنهما، والجميع لا يجوز عليه تعالى لأن أفعاله لا تكون لهذه الاعتبارات (2) .

وذهب الجبائيان إلى أنّ الله لا يقدر على عين فعل العبد؛ لأنّه لو أراد الله فعلاً من أفعال العبد، وأراد العبد عدمه فإنّ وقعا اجتمع النقيضان، وإنْ لم يقعا، ارتفع النقيضان، وإنْ وقع أحدهما لا يكون الثاني مقدوراً.

____________________

(1) انظر المواقف ج 8 ص 50 وشرح التجريد للعلامة الحلّي.

(2) انظر مقالات الإسلاميّين ص 251، المواقف ص 63.

١٥٤

والجواب، إمّا عن شبهة المجوس، فإنّ القدرة على الشرّ، لا تستلزم فعله، لوجود الصارف عنه أحياناً.

وأمّا عن دعوى النظام وأتباعه، فعلى مبدأ الأشاعرة المنكرين للقبح والحُسن الذاتيّين، لا يلزم أيّ محذور من قدرته على القبيح؛ لأنّ تعلّق القدرة به يكشف عن عدم قبحه، وأمّا على مبدأ الإمامية، فالمراد من قدرته على الحسن والقبيح، أنّه يدعو إلى الحسن بدون أنْ يكون له صارف عنه، أمّا القبيح فمع أنّه داخل تحت قدرته كغيره من الممكنات لا داعي له إلى فعله، بالإضافة إلى وجود الصارف عنه، وعدم صدوره عنه لا يدلّ على نفي القدرة عنه، فهو مقدور باعتبار ذاته، وممتنع عليه عرَضاً لوجود الصارف عنه.

وأمّا عن دعوى البلخي، فالطاعة والعبث وغيرهما من الاعتبارات إنّما تَعرِض للأفعال الصادرة من العبد، ولا تؤثّر في ذاتيّة الفعل، فكونه طاعة أو معصية وصْفان يعرضان للفعل من حيث قصد الفاعل، والدواعي القائمة بنفسه وما يُرافق الفعل من آثار سيّئة أو طيّبة، وبالنسبة إليه تعالى لا تجري فيه جميع هذه الاعتبارات.

وأمّا عن دعوى الجبائيّين وأتباعهما، فلو تعلّقت إرادة الله سُبحانه بالفعل لا يمكن أنْ تؤثّر إرادة العبد المتعلّقة بالترك؛ لأنّها أقوى منها، وهذا لا يمنع من كون الترك مقدوراً للعبد في هذه الحالة ذاتاً، وإنْ امتنع في حقّه عرَضاً لوجود المزاحم الأقوى منها تأثيراً.

العلم

ومنها أنّه عالمٌ بالكون وما فيه، من غير فَرقٍ بين الكلّيات والجزئيّات، والأعدام الممكنة والممتنعة، والجواهر والأعراض، وكلّ ما كان وما يكون في الخارج أو الذهن، ويؤيّد هذه الدعوى على عمومها ما جاء في الآية من سورة الأنبياء: ( عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) والآية من سورة الإنعام:

١٥٥

( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) .

وممّا يدل على ذلك أنّه أوجد الموجودات على أكمل الوجوه، وأتقن صنعها، وغير العالم يستحيل أنْ يصدر منه الفعل المتقن مرّة بعد أُخرى، هذا بالإضافة إلى أنّ كلّ شيءٍ سِواه ممكن، والممكن لابدّ في وجوده من علّة تقتضي إيجاده، وذاته تعالى هي العلّة في إيجاد جميع الموجودات والممكنات، وهو عالم بذاته، والعلم بالعلّة يستتبع العلم بالمعلول الصادر عنها من غير فَرقٍ بين أقسام الممكنات وأنواعها، وقد ادعى بعض المتكلّمين، أنّ الله لا يعلم ذاته؛ لأنّ العلم إضافة بين العالم والمعلوم، ولابدّ من المغايرة بينهما، فلو قلنا بأنّه يعلم ذاته يلزم مغايرة علمه لذاته.

والجواب عن هذه الدعوى، إنّ المغايرة بين العلم والمعلوم يكفي فيها أنْ تكون اعتبارية، وهي موجودة في المقام، فذاته من حيث إنّها عالمة، مغايرة لها من حيث إنّها معلومة، ويكفي هذا النوع من المغايرة بالنسبة إليه سبحانه.

وادّعى آخرون بأنّ الله لا يعلم الجزئيات ولا الشيء قبل وجوده، أمّا أنّه لا يعلم الجزئيات فلأنّها تتغيّر وتتبدّل وإذا تغيّر المعلوم وتبدّل لابدّ من تغيّر العلم، وقد ثبت أنّ علمه عين ذاته فيلزم الذات تغيّرها، وأمّا عدم علمه بالأشياء قبل وجودها، فلأنّه لو تعلّق بها العلم، كان وجودها واجباً فيلزم انقلاب الممكن واجباً، إذ لو لم توجد لزم انقلاب علمه جهلاً.

والجواب عن الدعوى الأُولى، إنّ العلم بالجزئيات لا يتغيّر حتى ولو تغيّر الجزئي المعلوم؛ لأنّ المتغيّر هو الإضافة المتعلّقة بالمعلوم، فزيد إذا وجد ينسب وجوده إلى علم الله وإذا انعدم تنتفي نسبة وجوده إلى علمه، أمّا العلم فهو على حاله لم يتغيّر ولم يتبدّل، فالتغير في الإضافات، لا في الذات ولا في الصفات الحقيقية الثابتة للذات، وهذا نظير قولنا: زيد يقدر على عمرو فلو مات عمرو لا تنتفي قدرة زيد عليه، ولكنّ هذه الإضافة الخاصّة قد انتفت بموت عمرو؛ ولأنّها أمرٌ اعتباري لا وجود له خارجاً.

والجواب عن الدعوى الثانية، بأنّ تعلّق علمه بالمتجدّدات لا يُخرجها عن كونها ممكنة ذاتاً؛ لأنّ علمه تعلّق بها على هذه الصفة، فإذا وجب وجودها بعد ذلك لوجود سببه، لا تخرج عن إمكانها الذاتي؛ لأنّ وجوبها

١٥٦

لحصول سببه، وكلّ ممكن قد يُصبح واجباً بالعرض ولا مانع من اجتماعهما (1) .

____________________

(1) شرح التجريد للعلاّمة الحلّي ص176 والمواقف ص71 وما بعدها ومعالم الفلسفة للشيخ محمّد جواد مغنية ص139.

١٥٧

الحياة والإرادة

ومنها أنّه حيّ مُريد لأنّه عالمٌ قادر، وكلّ عالمٍ قادر لابدّ وأنْ يكون حيّاً، وليست الحياة بالنسبة إليه كالحياة بالنسبة لغيره، فحياة غيره هي عبارة عن اعتدال المزاج والحركة والحس، وغير ذلك من المقوّمات أمّا بالنسبة إليه سُبحانه، فعند الإمامية القائلين بوحدة الذات والصفات عبارة عن معنى سلبي، أي لا يستحيل عليه أنْ يعلم ويقدر؛ لأنّ ثبوت الصفة فرع عن عدم استحالتها، وعند الأشاعرة وبعض المعتزلة القائلين بتغاير الصفات مع الذات، أنّها صفة توجب صحّة العلم الكامل والقدرة الشاملة، إذ لولا اختصاصه بصفة توجب صحّة العلم والقدرة، لكان اختصاصه بصحّة العلم والقدرة ترجيحاً بدون مرجح (2).

وأمّا كونه مريداً فقد اتّفق الجميع على ذلك بدليل أنّه سبحانه أوجد بعض الممكنات دون بعض، مع أنّ قدرته تعمّ جميع الممكنات وعلمه محيطٌ بجميع الكائنات، ولا سبب لذلك إلاّ تعلّق إرادته ببعضها دون البعض الآخر، وقد اختلفوا في معنى إرادته سبحانه، فأبو الحسين الصالحي والنظّام والجاحظ والعلاّف، وأبو القاسم البلخي وغيرهم، ذهبوا إلى أنّها عبارة عن علمه بما في الفعل من المصالح والمنافع، وتسمّى عندهم (بالداعي إلى إيجاد الفعل).

وقال النجّار: إنّها معنىً سلبي، بمعنى أنّه غير مستكره ولا مغلوب.

____________________

(2) انظر شرح التجريد ص 177 والمواقف ص 81.

١٥٨

وقال الكعبي: إنّ إرادته بالنسبة لأفعال نفسه علمه بالمصلحة، ولأفعال غيره أمَره بها. وقال الحكماء: إنّها العلم بالنظام على الوجه الأكمل، ويسمّونها (العناية)، وقال ابن سينا: (العناية هي إحاطة علم الأوّل تعالى بالكل، وبما يجب أنْ يكون عليه الكل، حتى يكون على أحسن النظام).

وقال الأشاعرة والحنابلة والجبائيان من رؤساء المعتزلة، إنّها صفة زائدة على العِلم، وفي شرح التجريد أنّها عبارة عن الداعي إلى الفعل، وليست أمراً زائداً على الذات كما يدّعي الأشاعرة؛ للزوم تعدّد القدماء وليست أمراً حادثاً في ذاته، كما يدّعي الكراميّة، أو لا في محل كما يدّعي أبو علي وأبو هاشم من المعتزلة، إذ لو كانت حادثة في ذاته أو لا في محل لزِم التسلسل، لاحتياج الحادث إلى موجد بإرادة، والكلام بعينه يجري في الإرادة الثانية (1).

وقال الشيخ المفيد في أوائل المقالات: أنّ إرادته لأفعاله هي نفس أفعاله، وإرادته لأفعال خلقه أمره بالأفعال، وبذلك جاءت الآثار عن أئمة الهدى مَن آل محمّد (عليه السلام) وهو مذهب الإمامية إلا من شذّ منهم (2).

ومن صفاته تعالى، أنّه سميعٌ بصير، قال الإيجي في المواقف، والعلاّمة الحلّي في شرح التجريد ما حاصله أنّ ذلك ممّا علم بالضرورة من دين محمّد (صلّى الله عليه وآله)، واتّفق عليه جميع المسلمين، ودلّ عليه القرآن الكريم واستدل جماعة على ثبوت هذين الوصفين له، بأنّه قد ثبت اتصافه بالحياة وكل حيّ لابدّ وأن يتّصف بالسمع والبصر، إذ لو لم يتّصف بهما لاتّصف بضدّهما، واتّصافه بضدّهما نقصٌ لا يجوز عليه سبحانه، والمراد منهما علمه بالمسموعات، والمبصرات؛ لأنّ السمع والبصر الثابتان له، لو كانا بآلة تشبه الآلات الموجودة لدى سائر مخلوقاته، لزم كونه جسماً مركباً من أجزاء متباينة، لكلّ جزء منها وظيفة تختصّ به، وذلك ممتنع بالنسبة إليه تعالى كما ذكرنا سابقاً، فلابدّ وأنْ يكون المراد منهما غير السمع والبصر

____________________

(1) انظر شرح التجريد ص 177 والمواقف ص 81.

(2) انظر أوائل المقالات للشيخ المفيد ص 19.

١٥٩

الثابتين لغيره من المخلوقات (1).

قال الشيخ المفيد: إنّ استحقاق القديم سُبحانه لهذه الصفات كلّها من جهة السمع دون القياس ودلائل العقول، وأنّ المعنى في جميعها العلم، فالمراد من كونه سميعاً وبصيراً، علمه بالمسموعات والمبصرات وأضاف قائلاً: ولست أعلم من متكلّمي الإمامية خلافاً في هذا الباب وهو مذهب البغداديين من المعتزلة، وقد خالف فيه المشبهة من أصحاب الصفات، والبصريّون من أصحاب الاعتزال (2)، وهو مذهب الفلاسفة والكعبي، وأبي الحسين البصري.

وذهب الأشاعرة وجمهور المعتزلة إنّهما صفتان زائدتان على العلم (3) .

____________________

(1) انظر المواقف ص 88 الجزء الثامن، فإنّه بعد أنْ أورد هذا الاستدلال أبطله، وانتهى أخيراً إلى القول بأنّ العمدة في إثبات هذين الوصفين له تعالى ظواهر الآيات الدالّة على ذلك.

(2) انظر أوائل المقالات ص 21.

(3) انظر المواقف ص 89، والظاهر أنّهم يعتمدون على ظواهر النصوص في ذلك وعبارة المواقف تنصّ على أنّ الأكثرية الغالبة من المعتزلة متّفقون مع الأشاعرة في هذه المسألة.

١٦٠

وترك نقل السبب نحو أن يختصم إليه رجلان أحدهما جار والآخر شريك فيحكم بالشفعة للشريك دون الجار وقال فإذا وقعت الحدود فلا شفعة لصاحب النصيب المقسوم مع الجار كما روى أسامة بن زيد أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لا ربا إلا في النسيئة وهو عند سائر الفقهاء كلام خارج على سبب اقتصر فيه راويه على نقل قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم دون ذكر السبب وهو أن يكون سئل عن النوعين المختلفين من الذهب والفضة إذا بيع أحدهما بالآخر فقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ربا إلا في النسيئة يعنى فيما سئل عنه وكذلك ما ذكرنا وأيضا لو تساوت أخبار إيجاب الشفعة بالجوار وأخبار نفيها لكانت أخبار الإيجاب أولى من أخبار النفي لأن الأصل أنها غير واجبة حتى يرد الشرع بإيجابها فخبر نفى الشفعة وارد على الأصل وخبر إثباتها ناقل عنه وارد بعده فهو أولى* فإن قيل يحتمل أن يريد بالجار الشريك* قيل له هذه الأخبار التي رويناها وأكثرها ينفى هذا التأويل لأن فيها أن جار الدار أحق بشفعة داره والشريك لا يسمى جار الدار وحديث جابر قال فيه ينتظر به وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا وغير جائز أن يكون هذا في الشريك في المبيع وأيضا فإن الشريك لا يسمى جارا لأنه لو استحق اسم الجوار بالشركة لوجب أن يكون كل شريكين في شيء جارين كالشريكين في عبد واحد ودابة واحدة فلما لم يستحق اسم الجار بالشركة في هذه الأشياء دل ذلك على أن الشريك لا يسمى جارا وإنما الجار هو الذي ينفرد حقه ونصيبه من حق الشريك ويتميز ملك كل واحد عن ملك صاحبه وأيضا فإن الشركة إنما تستحق بها الشفعة لأنها تقتضي حصول الجوار بالقسمة والدليل عليه أن الشركة في سائر الأشياء لا توجب الشفعة لعدم حصول الجوار بها عند القسمة فدل ذلك على أن الشركة في العقار إنما تستحق بها الشفعة لما يتعلق بها من الجوار عند القسمة وإن كان الشريك أحق من الجار لمزية حصلت له مع تعلق حق الجوار بالقسمة والدليل عليه أن الشركة في سائر الأشياء لا توجب الشفعة لعدم حصول الجوار بها كما أن الأخ من الأب والأم أولى بالميراث من الأخ من الأب وإن كانت الأخوة من جهة الأب يستحق بها التعصيب والميراث إذا لم يكن أخ لأب وأم ومعلوم أن القرابة من جهة الأم لا يستحق بها التعصيب إذ لم تكن هناك قرابة من جهة الأب إلا أنها أكدت تعصيب القرابة من الأب وكذلك الشريك إنما يستحق الشفعة بالشركة لما تعلق بها من حصول الجوار عند

«١١ ـ أحكام لث»

١٦١

القسمة والشريك أولى من الجار لمزية حصلت له كما وصفنا بالتعصيب ويكون المعنى الذي يتعلق به وجوب الشفعة هو الجوار وأيضا لما كان المعنى الذي به وجبت الشفعة بالشركة هو دوام التأذى بالشريك وكان ذلك موجودا في الجوار لأنه يتأذى به في الإشراف عليه ومطالعة أموره والوقوف على أحواله وجب أن تكون له الشفعة لوجود المعنى الذي من أجله وجبت الشفعة للشريك وهذا المعنى غير موجود في الجار غير الملاصق لأن بينه وبينه طريقا يمنعه التشرف عليه والاطلاع على أموره* وأما قوله تعالى( وَابْنَ السَّبِيلِ ) فإنه روى عن مجاهد والربيع بن أنس أنه المسافر وقال قتادة والضحاك هو الضيف قال أبو بكر ومعناه صاحب الطريق وهذا كما يقال لطير الماء ابن ماء قال الشاعر :

وردت اعتسافا والثريا كأنها

على قمة الرأس ابن ماء محلق

ومن تأوله على الضيف فقوله سائغ أيضا لأن الضيف كالمجتاز غير المقيم فسمى ابن السبيل تشبيها بالمسافر المجتاز وهو كما يقال عابر سبيل وقال الشافعى ابن السبيل هو الذي يريد السفر وليس معه نفقته وهذا غلط لأنه ما لم يصر في الطريق لا يسمى ابن السبيل كما لا يسمى مسافرا ولا عابر سبيل وقوله عز وجل( أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) يعنى الإحسان المأمور به في أول الآية وروى سليمان التيمي عن قتادة عن أنس قال كانت عامة وصية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم الصلاة وما ملكت أيمانكم حتى جعل يغرغر بها في صدره وما يقبض بها لسانه وروته أيضا أم سلمة وروى الأعمش عن طلحة بن مصرف عن أبى عمارة عن عمرو بن شرحبيل قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم الغنم بركة والإبل عز لأهلها والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة والمملوك أخوك فأحسن إليه فإن وجدته مغلوبا فأعنه وروى مرة الطيب(١) عن أبى بكر قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يدخل الجنة سيئ الملكة قيل يا رسول الله أليس قد حدثتنا أن هذه الأمة أكثر الأمم مملوكين وأتباعا قال بلى فأكرموهم ككرامة أولادكم وأطعموهم مما تأكلون وروى الأعمش عن المعرور بن سويد قال مررت على أبى ذر وهو بالربذة فسمعته يقول قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم المماليك

__________________

(١) قوله مرة الطيب : هو مرة بن شراحيل الهمدانى روى عن أبى بكر وعمر وجماعة يضال له مرة الطيب ومرة الخير ، قال الحارث الغنوي : سجد حتى أكل التراب جبهته ، هكذا في خلاصة تهذيب الكمال.

١٦٢

هم إخوانكم ولكن الله تعالى خولكم إياهم فأطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون وقوله تعالى( الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ) قيل في معنى البخل في اللغة أنه مشقة الإعطاء وقيل البخل منع ما لا ينفع منعه ولا يضر بذله وقيل البخل منع الواجب ونظيره الشح ونقيضه الجود وقد عقل من معناه في أسماء الدين أنه منع الواجب ويقال إنه لا يصح إطلاقه في الدين إلا على جهة أن فاعله قد أتى كبيرة بالمنع قال الله تعالى( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) فأطلق الوعيد على من بخل بحق الله الذي أوجبه في ماله وأما قوله تعالى( وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ) فإنه روى عن ابن عباس ومجاهد والسدى أنها نزلت في اليهود إذ بخلوا بما أعطوا من الرزق وكتموا ما أوتوا من العلم بصفة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل هو فيمن كان بهذه الصفة وفيمن كتم نعم الله وأنكرها وذلك كفر بالله تعالى قال أبو بكر الاعتراف بنعم الله تعالى واجب وجاحدها كافر وأصل الكفر إنما هو من تغطية نعم الله تعالى وكتمانها وجحودها وهذا يدل على أنه جائز للإنسان أن يتحدث بنعم الله عنده لا على جهة الفخر بل على جهة الاعتراف بالنعمة والشكر للمنعم وهو كقوله( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنا سيد ولد آدم ولا فخر وأنا أفصح العرب ولا فخر فأخبر بنعم الله عنده وأبان أنه ليس أخباره بها على وجه الافتخار وقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى وقد كانصلى‌الله‌عليه‌وسلم خيرا منه ولكنه نهى أن يقال ذلك على وجه الافتخار وقال تعالى( فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى ) وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سمع رجلا يمدح رجلا فقال لو سمعك لقطعت ظهره ورأى المقداد رجلا يمدح عثمان في وجهه فحثا في وجهه التراب وقال سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب وقد روى إياكم والتمادح فإنه الذبح فهذا إذا كان على وجه الفخر فقد كره وإما أن يتحدث بنعم الله عنده أو يذكرها غيره بحضرته فهذا نرجو أن لا يضر إلا أن أصلح الأشياء لقلب الإنسان أن لا يغتر بمدح الناس له ولا يعتد به* وقوله تعالى( وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ) معناه والله أعلم أنه أعد للذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس عذابا مهينا وفي ذلك دليل

١٦٣

على أن كل ما يفعله العبد لغير وجه الله فإنه لا قربة فيه ولا يستحق عليه الثواب لأن ما يفعل على وجه الرياء فإنما يريد به عوضا من الدنيا كالذكر الجميل والثناء الحسن فصار ذلك أصلا في أن كل ما أريد عوض من أعواض الدنيا أنه ليس بقربة كالاستيجار على الحج وعلى الصلاة وسائر القرب أنه متى استحق عليه عوضا يخرج بذلك عن باب القربة وقد علمنا أن هذه الأشياء سبيلها أن لا تفعل إلا على وجه القربة فثبت بذلك أنه لا يجوز أن يستحق عليها الأجرة وأن الإجارة عليها باطلة قوله تعالى( وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ ) يدل على بطلان مذهب أهل الجبر لأنهم لو لم يكونوا مستطيعين للإيمان بالله والإنفاق لما جاز أن يقال ذلك فيهم لأن عذرهم واضح وهو أنهم غير ممكنين مما دعوا إليه ولا قادرين عليه كما لا يقال للأعمى ماذا عليه لو أبصر ولا يقال للمريض ماذا عليه لو كان صحيحا وفي ذلك أوضح دليل على أن الله قطع عذرهم من فعل ما كلفهم من الإيمان وسائر الطاعات وأنهم ممكنون من فعلها* وقوله تعالى( يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً ) فأخبر الله عنهم أنهم لا يكتمون الله هناك شيئا من أحوالهم وما عملوه لعلمهم بأن الله مطلع عليهم عالم بأسرارهم فيقرون بها ولا يكتمونها وقيل يجوز أن يكون المراد أنهم لا يكتمون أسرارهم هناك كما كانوا يكتمونها في الدنيا فإن قيل قد أخبر الله عنهم أنهم يقولون والله ربنا ما كنا مشركين قيل له فيه وجوه أحدها أن الآخرة مواطن فموطن لا تسمع فيه إلا همسا أى صوتا خفيا وموطن يكذبون فيه فيقولون ما كنا نعمل من سوء والله ربنا ما كنا مشركين وموطن يعترفون فيه بالخطإ ويسئلون الله أن يردهم إلى دار الدنيا وروى ذلك عن الحسن وقال ابن عباس أن قوله تعالى( وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً ) داخل في التمني بعد ما نطقت جوارحهم بفضيحتهم وقيل إن معناه أنه لا يعتد بكتمانهم لأنه ظاهر عند الله لا يخفى عليه شيء فكان تقديره أنهم غير قادرين هناك على الكتمان لأن الله يظهره وقيل أنهم لم يقصدوا الكتمان لأنهم إنما أخبروا على ما توهموا ولا يخرجهم ذلك من أن يكونوا قد كتموا والله تعالى أعلم.

باب الجنب يمر في المسجد

قال الله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا

١٦٤

ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) قال أبو بكر قد اختلف في المراد من السكر بهذه الآية فقال ابن عباس ومجاهد وإبراهيم وقتادة السكر من الشراب وقال مجاهد والحسن نسخها تحريم الخمر وقال الضحاك المراد به سكر النوم خاصة* فإن قيل* كيف يجوز أن ينهى السكران في حال سكره وهو في معنى الصبى في نقص عقله* قيل له يحتمل أن يريد السكران الذي لم يبلغ نقصان عقله إلى حد يزول التكليف معه ويحتمل أن يكونوا نهوا عن التعرض للسكر إذا كان عليهم فرض الصلاة ويجوز أن يكون النهى إنما دل على أن عليهم أن يعيدوها في حال الصحو إذا فعلوها في حال السكر وجائز أن تكون هذه المعاني كلها مرادة بالآية في حال نزولها* فإن قال قائل إذا ساغ تأويل من تأولها على السكران الذي لم يزل عنه التكليف فكيف يجوز أن يكون منهيا عن فعل الصلاة في هذه الحال مع اتفاق المسلمين على أنه مأمور بفعل الصلاة في هذه الحال* قيل له قد روى عن الحسن وقتادة أنه منسوخ ويحتمل إن لم يكن منسوخا أن يكون النهى متوجها إلى فعل الصلاة مع الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم أو في جماعة* قال أبو بكر والصحيح من التأويل في معنى السكر أنه السكر من الشراب من وجهين أحدهما أن النائم ومن خالط عينه النوم لا يسمى سكران ومن سكر من الشراب يسمى سكران حقيقة فوجب حمل اللفظ على الحقيقة ولا يجوز صرفه عنها إلى المجاز إلا بدلالة والثاني ما روى سفيان عن عطاء بن السائب عن أبى عبد الرحمن عن على قال دعا رجل من الأنصار قوما فشربوا من الخمر فتقدم عبد الرحمن ابن عوف لصلاة المغرب فقرأ( قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ ) فالتبس عليه فأنزل الله تعالى( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ) وحدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان المؤدب قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله تعالى( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ ) وقال في سورة النساء( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) ثم نسختها هذه الآية( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ ) الآية* قال أبو عبيد وحدثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن على ابن أبى طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ ) قال وقوله تعالى( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) قال كانوا

١٦٥

لا يشربونها عند الصلاة فإذا صلوا العشاء شربوها* قال أبو عبيد حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن أبى إسحاق عن أبى ميسرة قال قال عمر اللهم بين لنا في الخمر فنزلت( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) وذكر الحديث* قال أبو عبيد وحدثنا هشيم قال أخبرنا مغيرة عن أبى رزين قال شربت الخمر بعد الآية التي في سورة البقرة والتي في سورة النساء وكانوا يشربونها حتى تحضر الصلاة فإذا حضرت الصلاة تركوها ثم حرمت في المائدة* قال أبو بكر فأخبر هؤلاء أن المراد السكر من الشراب وأخبر ابن عباس وأبو رزين إنهم تركوا شربها بعد نزول الآية عند الصلاة وشربوها في غير أوقات الصلوات ففي هذا دلالة على أنهم عقلوا من قوله تعالى( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ) النهى عن شربها في الحال التي يكونون فيها سكارى عند لزوم فرض الصلاة وهذا يدل على أن قوله تعالى( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ) إنما أفاد النهى عن شربها في أوقات الصلوات وكان معناه لا يكن منكم شرب تصيرون به إلى حال السكر عند أوقات الصلوات فتصلوا وأنتم سكارى وذلك أنهم لما كانوا متعبدين بفعل الصلوات في أوقاتها منهيين عن تركها قال تعالى( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ) وقد علمنا أنه لم ينسخ بذلك فرض الصلاة كان في مضمون هذا اللفظ النهى عما يوجب السكر عند أوقات الصلوات كما أنه لما نهينا عن فعل الصلاة مع الحدث لقوله تعالى( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يقبل الله صلاة بغير طهور وكما قال تعالى( وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) كان ذلك نهيا عن ترك الطهارة ولم يكن نهيا عن فعل الصلاة ولم يوجب كون الإنسان جنبا أو محدثا سقوط فرض الصلاة وإنما نهى عن فعلها في هذه الحال وهو مأمور مع ذلك بتقديم الطهارة لها كذلك النهى عن الصلاة في حال السكر إنما دل على حظر شرب يوجب السكر قبل الصلاة وفرض الصلاة قائم عليه فهذا التأويل يدل على ما روى عن ابن عباس وأبى رزين وظاهر الآية وفحواه يقتضى ذلك على الوجه الذي بينا وهذا التأويل لا ينافي ما قدمنا ذكره عن السلف في حظر الصلاة عند السكر لأنه جائز أن يكونوا نهوا عن شرب يقتضى كونه سكران عند حضور الصلاة فيكون ذلك حظرا قائما فإن اتفق أن يشرب حتى أنه كان سكران عند حضور الصلاة كان منهيا عن فعلها مأمورا بإعادتها في حال الصحو أو يكون النهى مقصورا على فعلها مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم

١٦٦

أو في جماعة وهذه المعاني كلها صحيحة جائزة يحتملها لفظ الآية* وقوله تعالى( حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) يدل على أن السكران الذي منع من الصلاة هو الذي قد بلغ به السكر إلى حال لا يدرى ما يقول وأن السكران الذي يدرى ما يقول لم يتناوله النهى عن فعل الصلاة وهذا يشهد للتأويل الذي ذكرنا من النهى إنما انصرف إلى الشرب لا إلى فعل الصلاة لأن السكران الذي لا يدرى ما يقول لا يجوز تكليفه في هذه الحال كالمجنون والنائم والصبى الذي لا يعقل والذي يعقل ما يقول لم يتوجه إليه النهى لأن في الآية إباحة فعل الصلاة إذا علم ما يقول وهذا يدل على أن الآية إنما حظرت عليه الشرب لا فعل الصلاة في حال السكر الذي لا يعلم ما يقول فيه إذ غير جائز تكليف السكران الذي لا يعقل وهي تدل على أن السكر الذي يتعلق به الحكم هو الذي لا يعقل صاحبه ما يقول وهذا يدل على صحة قول أبى حنيفة في السكر الموجب للحد أنه هو الذي لا يعرف فيه الرجل من المرأة ومن لا يعقل ما يقول لا يعرف الرجل من المرأة* وقوله تعالى( حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) يدل على فرض القراءة في الصلاة لأنه منعه من الصلاة لأجل عدم إقامة القراءة فيها فلو لا أنها من أركانها وفروضها لما منع من الصلاة لأجلها* فإن قيل لا دلالة في ذلك على وجوب القراءة فيها وذلك لأن قوله تعالى( حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) قد دل على أنه ممنوع منها في الحال التي لا يعلم ما يقول ولم يذكر القراءة وإنما ذكر نفى العلم بما يقول وهذا على سائر الأقوال والكلام ومن صار بهذه الحال من السكر لم يصح له إحضار نية الصلاة ولا فعل سائر أركانها فإنما منع من الصلاة من كانت هذه حاله لأنه لا تصح منه نية الصلاة ولا سائر أفعالها ومع ذلك فلا يعلم أنه طاهر غير محدث* قيل له هذا على ما ذكرت في أن من كانت هذه حاله فلا يصح منه فعل الصلاة على سائر شرائطها إلا أن اختصاصه القول بالذكر دون غيره من أمور الصلاة وأحوالها يدل على أن المراد به قول مفعول في الصلاة وأنه متى كان من السكر على حال لم يمكنه إقامة القراءة فيها لم يصح له فعلها لأجل عدم القراءة وأن وجود القراءة فيها من فروضها وشرائطها وهذا مثل قوله( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) في إفادته أن في الصلاة قياما مفروضا ومثل قوله( وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ) في دلالته على فرض الركوع في الصلاة* وأما قوله تعالى( وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) فإن أهل العلم قد تنازعوا تأويله فروى المنهال بن عمرو عن زر عن على

١٦٧

رضى الله عنه في قوله( وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ ) إلا أن تكونوا مسافرين ولا تجدون ما تيممون به وتصلون وروى قتادة عن أبى مجلز عن ابن عباس مثله وعن مجاهد مثله وروى عن عبد الله بن مسعود أنه قال هو الممر في المسجد وروى عطاء بن يسار عن ابن عباس مثله في تأويل الآية وكذلك روى عن سعيد بن المسيب وعطاء وعمرو بن دينار في آخرين من التابعين* واختلف السلف في مرور الجنب في المسجد فروى عن جابر قال كان أحدنا يمر في المسجد مجتازا وهو جنب وقال عطاء بن يسار كان رجال من أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم تصيبهم الجنابة فيتوضئون ثم يأتون المسجد فيتحدثون فيه وقال سعيد بن المسيب الجنب لا يجلس في المسجد ويجتاز وكذلك روى عن الحسن وما روى في ذلك عن عبد الله فإن الصحيح فيه ما تأوله شريك عن عبد الكريم الجزري عن أبى عبيدة( وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ ) قال الجنب يمر في المسجد ولا يجلس ورواه معمر عن عبد الكريم عن أبى عبيدة عن عبد الله ويقال إن أحدا لم يرفعه إلى عبد الله غير معمر وسائر الناس وقفوه واختلف فقهاء الأمصار في ذلك فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد لا يدخله إلا طاهرا سواء أراد القعود فيه والاجتياز وهو قول مالك ابن أنس والثوري وقال الليث الجنب لا يجوز له أن يجتاز في المسجد وقال الشافعى يمر ولا يقعد والدليل على أن الجنب لا يجوز له أن يجتاز في المسجد ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مسدد قال حدثنا عبد الواحد بن زياد قال حدثنا أقلت بن خليفة قال حدثتني جسرة بنت دجاجة قالت سمعت عائشة رضى الله عنها تقول جاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد فقال وجهوا هذه البيوت عن المسجد ثم دخل ولم يصنع القوم شيئا رجاء أن تنزل لهم رخصة فخرج إليهم بعد فقال وجهوا هذه البيوت فإنى لا أحل المسجد لحائض ولا جنب وهذا الخبر يدل من وجهين على ما ذكرنا أحدهما قوله لا أحل المسجد لحائض ولا جنب ولم يفرق فيه بين الاجتياز وبين القعود فهو عليهما سواء والثاني أنه أمرهم بتوجيه البيوت الشارعة لئلا يجتازوا في المسجد إذا أصابتهم جنابة لأنه لو أراد القعود لم يكن لقوله وجهوا هذه البيوت فإنى لا أحل المسجد لحائض ولا جنب معنى لأن القعود منهم بعد دخول المسجد لا تعلق له بكون البيوت شارعة إليه فدل على أنه إنما أمر بتوجيه البيوت لئلا يضطروا عند الجنابة

١٦٨

إلى الاجتياز في المسجد إذ لم يكن لبيوتهم أبواب غير ما هي شارعة إلى المسجد* وقد روى سفيان بن حمزة عن كثيرة بن زيد عن المطلب أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن أذن لأحد أن يمر في المسجد ولا يجلس فيه وهو جنب إلا على بن أبى طالب فإنه كان يدخله جنبا ويمر فيه لأن بيته كان في المسجد فأخبر في هذا الحديث بحظر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم الاجتياز كما حظر عليهم العقود* وما ذكر من خصوصية على رضى الله عنه فهو صحيح وقول الراوي لأنه كان بيته في المسجد ظن منه لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أمر في الحديث الأول بتوجيه البيوت الشارعة إلى غيره ولم يبح لهم المرور لأجل كون بيوتهم في المسجد وإنما كانت الخصوصية فيه لعلى رضى الله عنه دون غيره كما خص جعفر بأن له جناحين في الجنة دون سائر الشهداء وكما خص حنظلة بغسل الملائكة له حين قتل جنبا وخص دحية الكلبي بأن جبريل كان ينزل على صورته وخص الزبير بإباحة لبس الحرير لما شكا من أذى القمل فثبت بذلك أن سائر الناس ممنوعون من دخول المسجد مجتازين وغير مجتازين* وأما ما روى جابر كان أحدنا يمر في المسجد مجتازا وهو جنب فلا حجة فيه لأنه لم يخبر أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم علم بذلك فأقره عليه وكذلك ما روى عن عطاء بن يسار كان رجال من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم تصيبهم الجنابة فيتوضئون ثم يأتون المسجد فيتحدثون فيه لا دلالة فيه للمخالف لأنه ليس فيه أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أقرهم عليه بعد علمه بذلك منهم ولأنه جائز أن يكون ذلك في زمان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يحظر عليهم ذلك ولو ثبت جميع ذلك عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم روى ما وصفنا لكان خبر الحظر أولى لأنه طارئ على الإباحة لا محالة فهو متأخر عنها ولما ثبت باتفاق الفقهاء حظر القعود فيه لأجل الجنابة تعظيما لحرمة المسجد وجب أن يكون كذلك حكم الاجتياز تعظيما للمسجد ولأن العلة في حظر القعود فيه هو الكون فيه جنبا وذلك موجود في الاجتياز وكما أنه لما كان محظورا عليه القعود في ملك غيره بغير إذنه كان حكم الاجتياز فيه حكم القعود فكان الاجتياز بمنزلة القعود كذلك القعود في المسجد لما كان محظورا وجب أن يكون كذلك الاجتياز اعتبارا بما ذكرنا والعلة في الجميع حظر الكون فيه وأما قوله تعالى( وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) وتأويل من تأوله على إباحة الاجتياز في المسجد فإن ما روى عن على وابن عباس في تأويله أن المراد المسافر الذي لا يجد الماء فيتيمم أولى من تأويل من تأوله على الاجتياز في المسجد وذلك

١٦٩

لأن قوله تعالى( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ) نهى عن فعل الصلاة في هذه الحال لا عن المسجد لأن ذلك حقيقة اللفظ ومفهوم الخطاب وحمله على المسجد عدول بالكلام عن حقيقته إلى المجاز بأن تجعل الصلاة عبارة عن موضعها كما يسمى الشيء باسم غيره للمجاورة أو لأنه تسبب منه كقوله تعالى( لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ ) يعنى به مواضع الصلوات ومتى أمكننا استعمال اللفظ على حقيقته لم يجز صرفه عنها إلى المجاز إلا بدلالة ولا دلالة توجب صرف ذلك عن الحقيقة وفي نسق التلاوة ما يدل على أن المراد حقيقة الصلاة وهو قوله تعالى( حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) وليس للمسجد قول مشروط يمنع من دخوله لتعذره عليه عند السكر وفي الصلاة قراءة مشروطة فمنع من أجل العذر عن إقامتها عن فعل الصلاة فدل ذلك على أن المراد حقيقة الصلاة فيكون تأويل من تأوله عليها موافقا لظاهرها وحقيقتها* وقوله تعالى( إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) فإن معناه المسافر لأن المسافر يسمى عابر سبيل ولو لا أنه يطلق عليه هذا الاسم لما تأوله عليه على وابن عباس إذ غير جائز لأحد تأويل الآية على ما لا يقع عليه الاسم وإنما سمى المسافر عابر سبيل لأنه على الطريق كما يسمى ابن السبيل فأباح الله تعالى له في حال السفر أن يتيمم ويصلى وإن كان جنبا فدلت الآية على معنيين أحدهما جواز التيمم للجنب إذا لم يجد الماء والصلاة به والثاني أن التيمم لا يرفع الجنابة لأنه سماه جنبا مع كونه متيمما فهذا التأويل أولى من تأويل من حمله على الاجتياز في المسجد* وقوله تعالى( حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) غاية لإباحة الصلاة ولا خلاف أن الغاية في هذا الموضع داخلة في الحظر إلى أن يستوعبها بوجوب الاغتسال وأنه لا تجوز له الصلاة وقد بقي من غسله شيء في حال وجود الماء وإمكان استعماله من غير ضرر يخافه فهذا يدل على أن الغاية قد تدخل في الجملة التي قبلها وقال الله تعالى( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) والغاية خارجة من الجملة لأنه بدخول أول الليل يخرج من الصوم لأن إلى غاية كما أن حتى غاية* وهذا أصل في أن الغاية قد يجوز دخولها في الكلام تارة وخروجها أخرى وحكمها موقوف على الدلالة في دخولها أو خروجها وسنذكر أحكام الجنابة ومعناها وحكم المريض والمسافر في سورة المائدة إذا انتهينا إليها إن شاء الله تعالى قوله تعالى( آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً ) يدل على قول أصحابنا في قول الرجل لامرأته أنت طالق قبل قدوم فلان أنها

١٧٠

تطلق في الحال قدم فلان أو لم يقدم وحكى عن بعضهم أنها لا تطلق حتى يقدم لأنه لا يقال أنه قبل قدوم فلان وما قدم والصحيح ما قال أصحابنا وهذه الآية تدل عليه لأنه قال الله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً ) فكان الأمر بالإيمان صحيحا قبل طمس الوجوه ولم يوجد الطمس أصلا وكان ذلك إيمانا قبل طمس الوجوه وما وجد وهو نظير قوله تعالى( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ) فكان الأمر بالعتق للرقبة أمرا صحيحا وإن لم يوجد المسيس فإن قيل إن هذا وعيد من الله لليهود ولم يسلموا ولم يقع ما توعدوا به قيل له إن قوما من هؤلاء اليهود أسلموا منهم عبد الله بن سلام وثعلبة بن سعية وزيد بن سعنة وأسد بن سعية وأسد بن عبيد ومخيريق في آخرين منهم وإنما كان الوعيد العاجل معلقا بترك جميعهم الإسلام ويحتمل أن يريد به الوعيد في الآخرة إذ لم يذكر في الآية تعجيل العقوبة في الدنيا إن لم يسلموا قوله تعالى( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ ) قال الحسن وقتادة والضحاك هو قول اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى وروى عن عبد الله أنه قال هو تزكية الناس بعضهم بعضا لينال به شيئا من الدنيا* قال أبو بكر وهذا يدل على أن النهى عن التزكية من هذا الوجه وقال الله( فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ) وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب * قوله تعالى( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ) روى عن ابن عباس ومجاهد والضحاك والسدى وعكرمة إن المراد بالناس هاهنا هو النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة وقال قتادة العرب وقال آخرون النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه وهذا أولى لأن أول الخطاب في ذكر اليهود وقد كانوا قبل ذلك يقرؤن في كتبهم مبعث النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وصفته وحال نبوته وكانوا يوعدون العرب بالقتل عند مبعثه لأنهم زعموا أنهم لا يتبعونه وكانوا يظنون أنه يكون من بنى إسرائيل فلما بعثه الله تعالى من ولد إسماعيل حسدوا العرب وأظهروا الكفر به وجحدوا ما عرفوه قال الله تعالى( وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ) وقال الله تعالى( وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ ) فكانت عداوة للعرب ظاهرة بعد مبعث النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حسدا منهم لهم أن يكون النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مبعوثا منهم فالأظهر من معنى الآية حسدهم للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وللعرب

١٧١

والحسد هو تمنى زوال النعمة عن صاحبها ولذلك قيل إن كل أحد تقدر أن ترضيه إلا حاسد نعمة فإنه لا يرضيه إلا زوالها والغبطة غير مذمومة لأنها تمنى مثل النعمة من غير زوالها عن صاحبها بل مع سرور منه ببقائها عليه* قوله تعالى( كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها ) قيل فيه إن الله تعالى يجدد لهم جلودا غير الجلود التي احترقت والقائلون بهذا هم الذين يقولون إن الجلد ليس بعض الإنسان وكذلك اللحم والعظم وأن الإنسان هو الروح اللابس لهذا البدن ومن قال إن الجلد هو بعض الإنسان وأن الإنسان هو هذا الشخص بكماله فإنه يقول إن الجلود تجدد بأن ترد إلى الحال التي كانت عليها غير محترقة كما يقال لخاتم كثر ثم صيغ خاتم آخر هذا الخاتم غير ذاك الخاتم وكما يقال لمن قطع قميصه قباء هذا اللباس غير ذاك اللباس وقال بعضهم التبديل إنما هو للسرابيل التي قد ألبسوها وهو تأويل بعيد لأن السرابيل لا تسمى جلودا والله تعالى أعلم.

باب ما أوجب الله تعالى من أداء الأمانات

قال الله تعالى( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ) اختلف أهل التفسير في المأمورين بأداء الأمانة في هذه الآية من هم فروى عن زيد بن أسلم ومكحول وشهر ابن حوشب أنهم ولاة الأمر وقال ابن جريج أنها نزلت في عثمان بن طلحة أمر بأن ترد عليه مفاتيح الكعبة وقال ابن عباس وأبى بن كعب والحسن وقتادة هو في كل مؤتمن على شيء وهذا أولى لأن قوله تعالى( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ ) خطاب يقتضى عمومه سائر المكلفين فغير جائز الاقتصار به على بعض الناس دون بعض إلا بدلالة وأظن من تأوله على ولاة الأمر ذهبت إلى قوله تعالى( وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) لما كان خطابا لولاة الأمر كان ابتداء الخطاب منصرفا إليهم وليس ذلك كذلك إذ لا يمتنع أن يكون أول الخطاب عموما في سائر الناس وما عطف عليه خاصا في ولاة الأمر على ما ذكرنا في نظائره في القرآن وغيره* قال أبو بكر ما اؤتمن عليه الإنسان فهو أمانة فعلى المؤتمن عليها ردها إلى صاحبها فمن الأمانات الودائع على مودعيها ردها إلى من أودعه إياها ولا خلاف بين فقهاء الأمصار أنه لا ضمان على المودع فيها إن هلكت* وقد روى عن بعض السلف فيه الضمان ذكر الشعبي عن أنس قال استحملنى رجل بضاعة فضاعت من بين ثيابي فضمننى عمر بن الخطاب* وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا حامد بن

١٧٢

محمد قال حدثنا شريح قال حدثنا ابن إدريس عن هشام بن حسان عن أنس بن سيرين عن أنس بن مالك قال استودعت ستة آلاف درهم فذهبت فقال لي عمر ذهب لك معها شيء قلت لا فضمننى* وروى حجاج عن أبى الزبير عن جابر أن رجلا استودع متاعا* فذهب من بين متاعه فلم يضمنه أبو بكر رضى الله عنه وقال هي أمانة* وحدثنا عبد الباقي ابن قانع قال حدثنا إسماعيل بن الفضل قال حدثنا قتيبة قال حدثنا ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال من استودع وديعة فلا ضمان عليه * وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا إبراهيم بن هاشم قال حدثنا محمد بن عون قال حدثنا عبد الله ابن نافع عن محمد بن نبيه الحجبي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ضمان على راع ولا على مؤتمن * قال أبو بكر قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ضمان على مؤتمن يدل على نفى ضمان العارية لأن العارية أمانة في يد المستعير إذ كان المعير قد ائتمنه عليها ولا خلاف بين الفقهاء في نفى ضمان الوديعة إذا لم يتعد فيها المودع ما روى عن عمر في تضمين الوديعة فجائز أن يكون المودع اعترف بفعل يوجب الضمان عنده فلذلك ضمنه* واختلف الفقهاء في ضمان العارية بعد اختلاف من السلف فروى عن عمر وعلى وجابر وشريح وإبراهيم أن العارية غير مضمونة وروى عن ابن عباس وأبى هريرة أنها مضمونة وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد هي غير مضمونة إذا هلكت وهو قول ابن شبرمة والثوري والأوزاعى وقال عثمان البتى المستعير ضامن لما استعاره إلا الحيوان والعقل فإن اشترط عليه في الحيوان والعقل الضمان فهو ضامن وقال مالك لا يضمن الحيوان في العارية ويضمن الحلي والثياب ونحوها وقال الليث لا ضمان في العارية ولكن أبا العباس أمير المؤمنين قد كتب إلى بأن أضمنها فالقضاء اليوم على الضمان وقال الشافعى كل عارية مضمونة* قال أبو بكر والدليل على نفى ضمانها عند الهلاك إذا لم يتعد فيها أن المعير قد ائتمن المستعير عليها حين دفعها إليه وإذا كان أمينا لم يلزمه ضمانها لأنا روينا عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لا ضمان على مؤتمن وذلك عموم في نفى الضمان عن كل مؤتمن وأيضا لما كانت مقبوضة بإذن مالكها لا على شرط الضمان لم يضمنها كالوديعة وأيضا قد اتفق الجميع على نفى ضمان الثوب المستأجر مع شرط بذل المنافع إذا لم يشترط عليه ضمان بدل المقبوض فالعارية أولى أن لا تكون مضمونة إذ ليس فيها ضمان مشروط

١٧٣

بوجه ومن جهة أخرى أن المقبوض على وجه الإجارة مقبوض لاستيفاء المنافع ولم يكن مضمونا فوجب أن لا تضمن العارية إذ كانت مقبوضة لاستيفاء المنافع وأيضا لما كانت الهبة غير مضمونة على الموهوب له لأنها مقبوضة بإذن مالكها لا على شرط ضمان البدل وهي معروف وتبرع وجب أن تكون العارية كذلك إذ هي معروف وتبرع وأيضا قد اتفق الجميع على أن العارية لو نقصت بالاستعمال لم يضمن النقصان فإذا كان الجزء منها غير مضمون مع حصول القبض عليه وجب أن لا يضمن الكل لأن ما تعلق ضمانه بالقبض لا يختلف فيه حكم الكل والبعض كالغصب والمقبوض ببيع فاسد فلما اتفق الجميع على أن الجزء الفائت بالنقصان غير مضمون وجب أن لا يضمن الجميع كالودائع وسائر الأمانات* وقد اختلف في ألفاظ حديث صفوان بن أمية في العارية فذكر بعضهم فيه الضمان ولم يذكره بعضهم وروى شريك عن عبد العزيز بن رفيع عن ابن أبى مليكة عن أمية بن صفوان بن أمية عن أبيه قال استعار النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من صفوان أدراعا من حديد يوم حنين فقال له يا محمد مضمونة فقال مضمونة فضاع بعضها فقال له النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إن شئت غرمناها لك فقال أنا أرغب في الإسلام من ذلك يا رسول الله ورواه إسرائيل عن عبد العزيز بن رفيع عن ابن أبى مليكة عن صفوان بن أمية قال استعار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من صفوان بن أمية أدراعا فضاع بعضها فقال إن شئت غرمناها لك فقال لا يا رسول الله فوصله شريك وذكر فيه الضمان وقطعه إسرائيل ولم يذكر الضمان وروى قتادة عن عطاء أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم استعار من صفوان بن أمية دروعا يوم حنين فقال له أمؤداة يا رسول الله العارية فقال نعم وروى جرير عن عبد العزيز بن رفيع عن أنا؟؟؟ س من آل عبد الله بن صفوان قال أراد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يغزو حنينا وذكر الحديث من غير ذكر ضمان ويقال أنه ليس في رواة هذا الحديث أحفظ ولا اتقن ولا أثبت من جرير بن عبد الحميد ولم يذكر الضمان ولو تكافأت الرواة فيه حصل مضطربا وقد روى في أخبار أخر من طريق أبى أمامة وغيره أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال العارية مؤداة وإن صح ذكر الضمان في حديث صفوان فإن معناه ضمان الأداء كما روى في بعض ألفاظ حديث صفوان أنه قال هي مضمونة حتى أؤديها إليك وكما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا الفريابي قال حدثنا قتيبة قال حدثنا الليث عن يزيد بن أبى حبيب عن سعيد بن أبى هند أن أول ما ضمنت العارية أن رسول

١٧٤

اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لصفوان أعرنا سلاحك وهي علينا ضمان حتى نأتيك بها فثبت بذلك أنه إنما شرط له ضمان الرد وذلك لأن صفوان كان حربيا كافرا في ذلك الوقت فظن أنه يأخذها على جهة استباحة ماله كسائر أموال الحربيين ولذلك قال له أغصبا تأخذها يا محمد فقال لا بل عارية مضمونة حتى أؤديها إليك وعارية مؤداة فأخبره النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه يأخذها على أنها عارية مؤداة وأنه ليس يأخذها على سبيل ما تؤخذ عليه أموال أهل الحرب وهو كقول القائل أنا ضامن لحاجتك يعنى القيام بها والسعى فيها حتى يقضيها قال الشاعر يصف ناقة :

بتلك أسلى حاجة إن ضمنتها

وأبرئ هما كان في الصدر داخلا

قال أهل اللغة في قوله إن ضمنتها يعنى إن هممت وأردتها وأيضا فإنا نسلم للمخالف صحة الخبر بما روى فيه من الضمان ونقول أنه لا دلالة فيه على موضع الخلاف وذلك لأنه قال عارية مضمونة فجعل الأدراع التي قبضها مضمونة وهذا يقتضى ضمان عينها بالرد لا ضمان قيمتها إذ لم يقل أضمن قيمتها وغير جائز صرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز إلا بدلالة وأيضا فيما ادعى المخالف إثبات ضمير في اللفظ لا دلالة عليه وهو ضمان القيمة ولا يجوز إثباته إلا بدلالة ويدل على أنها لم تكن مضمونة ضمان القيمة عند الهلاك أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لما فقد منها أدراعا قال لصفوان إن شئت غرمناها لك فلو كان ضمان القيمة قد حصل عليه لما قال إن شئت غرمناها لك وهو غارم فدل ذلك على أن الغرم لم يجب بالهلاك وأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما أراد أن يغرمها إذا شاء ذلك صفوان متبرعا بالغرم ألا ترى أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لما استقرض عن عبد الله بن ربيعة ثلاثين ألفا في هذه الغزاة أيضا ثم أراد أن يردها إلى عبد الله أبى عبد الله أن يقبلها فقال له خذها فإن جزاء القرض الوفاء والحمد فلو كان الغرم لازما فيما فقد من الأدراع لما قال إن شئت غرمناها لك ويدل على أنه لم يكن ضامنا لقيمة ما فقد أنه قال لا فإن في قلبي اليوم من الإيمان ما لم يكن قبل وفي ذلك دليل على أنها لم تكن مضمونة القيمة لأن ما كان مضمونا لا يختلف حكمه في الإيمان والكفر وقال بعض شيوخنا إن صفوان لما كان حربيا جاز أن يشرط له ذلك إذ قد يجوز فيما بيننا وبين أهل الحرب من الشروط ما لا يجوز فيما بيننا بعضنا لبعض ألا ترى أنه يجوز أن يرتهن منهم الأحرار ولا يجوز مثله فيما بيننا أو كان أبو الحسن الكرخي يأبى هذا التأويل

١٧٥

ويقول لا يصح شرط الضمان لأهل الحرب فيما ليس بمضمون ألا ترى أنا لو شرطنا لهم مان الودائع والمضاربات ونحوها لم يصح* واحتج من قال بضمان العارية بما رواه شعبة وسعيد بن أبى عروبة عن قتادة عن الحسن عن سمرة قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم على اليد ما أخذت حتى تؤديه ولا دلالة في هذا الحديث أيضا على موضع الخلاف لأنه إنما أوجب رد المأخوذ بعينه وليس فيه ذكر ضمان القيمة عند هلاكه ونحن نقول أن عليه رد العارية فهذا لا خلاف فيه ولا تعلق له أيضا بموضع الخلاف والله تعالى أعلم بالصواب.

باب ما أمر الله تعالى به من الحكم بالعدل

قال الله تعالى( وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) وقال تعالى( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ) وقال تعالى( وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى ) وحدثنا عبد الباقي ابن قانع قال حدثنا عبد الله بن موسى بن أبى عثمان قال حدثنا عبيد بن حباب الحلي قال حدثنا عبد الرحمن بن أبى الرجال عن إسحاق بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله قال قال ثابت الأعرج أخبرنى أنس بن مالك عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لا تزال هذه الأمة بخير ما إذا قالت صدقت وإذا حكمت عدلت وإذا استرحمت رحمت وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا عبد الرحمن المقري عن كهمس بن الحسن عن عبد الله الأسلمى قال شتم رجل ابن عباس فقال له ابن عباس إنك لتشتمنى وفي ثلاث خصال إنى لآتى على الآية من كتاب الله تعالى فلوددت بالله أن الناس كلهم يعلمون منها ما أعلم وإنى لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يعدل في حكمه فأفرح به ولعلى لا أقاضى إليه أبدا وإنى لأسمع بالغيث قد أصاب البلد من بلاد المسلمين فأفرح به ومالي من سائمة وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا الحارث بن أبى أسامة قال حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام قال حدثنا عبد الرحمن بن مهدى عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن قال إن الله أخذ على الحكام ثلاثا أن لا يتبعوا الهوى وأن يخشوه ولا يخشوا الناس وأن لا يشتروا بآياته ثمنا قليلا ثم قرأ( يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى ) الآية وقال الله تعالى( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا ـ إلى قوله تعالى ـفَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ) .

١٧٦

باب في طاعة أولى الأمر

قال الله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) قال أبو بكر اختلف في تأويل أولى الأمر فروى عن جابر بن عبد الله وابن عباس رواية والحسن وعطاء ومجاهد أنهم أولوا الفقه والعلم وعن ابن عباس رواية وأبى هريرة أنهم أمراء السرايا ويجوز أن يكونوا جميعا مرادين بالآية لأن الاسم يتناولهم جميعا لأن الأمراء يلون أمر تدبير الجيوش والسرايا وقتال العدو والعلماء يلون حفظ الشريعة وما يجوز مما لا يجوز فأمر الناس بطاعتهم والقبول منهم ما عدل الأمراء والحكام وكان العلماء عدولا مرضيين موثوقا بدينهم وأمانتهم فيما يؤدون وهو نظير قوله تعالى( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) ومن الناس من يقول إن الأظهر من أولى الأمر هاهنا أنهم الأمراء لأنه قدم ذكر الأمر بالعدل وهذا خطاب لمن يملك تنفيذ الأحكام وهم الأمراء والقضاة ثم عطف عليه الأمر بطاعة أولى الأمر وهم ولاة الأمر الذين يحكمون عليهم ماداموا عدولا مرضيين وليس يمتنع أن يكون ذلك أمرا بطاعة الفريقين من أولى الأمر وهم أمراء السرايا والعلماء إذ ليس في تقدم الأمر بالحكم بالعدل ما يوجب الاقتصار بالأمر بطاعة أولى الأمر على الأمراء دون غيرهم وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال من أطاع أميرى فقد أطاعنى وروى الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال قام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالخيف من منى فقال نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها ثم أداها إلى من لم يسمعها فرب حامل فقه لا فقه له ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن إخلاص العمل لله تعالى وقال بعضهم وطاعة ذوى الأمر وقال بعضهم والنصيحة لأولى الأمر ولزوم جماعة المسلمين فإن دعوتهم تحيط من وراءهم والأظهر من هذا الحديث أنه أراد بأولى الأمر الأمراء وقوله تعالى عقيب ذلك( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ ) يدل على أن أولى الأمر هم الفقهاء لأنه أمر سائر الناس بطاعتهم ثم قال( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ ) فأمر أولى الأمر برد المتنازع فيه إلى كتاب الله وسنة نبيهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا كانت العامة ومن ليس من أهل العلم ليست هذه منزلتهم لأنهم لا يعرفون كيفية الرد إلى كتاب الله والسنة ووجوه دلائلهما على أحكام الحوادث فثبت أنه خطاب للعلماء* واستدل بعض أهل العلم على إبطال قول

«١٢ ـ أحكام لث»

١٧٧

الرافضة في الإمامة بقوله تعالى( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) قال فليس يخلو أولو الأمر من أن يكونوا الفقهاء أو الأمراء أو الإمام الذي يدعونه فإن كان المراد الفقهاء والأمراء فقد بطل أن يكون الإمام والفقهاء والأمراء يجوز عليهم الغلط والسهو والتبديل والتغيير وقد أمرنا بطاعتهم وهذا يبطل أصل الإمامة فإن شرط الإمامة عندهم أن يكون معصوما لا يجوز عليه الغلط والخطأ والتبديل والتغيير ولا يجوز أن يكون المراد الإمام لأنه قال في نسق الخطاب( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ ) فلو كان هناك إمام مفروض الطاعة لكان الرد إليه واجبا وكان هو يقطع الخلاف والتنازع فلما أمر برد المتنازع فيه من الحوادث إلى الكتاب والسنة دون الإمام دل ذلك على بطلان قولهم في الإمامة ولو كان هناك إمام تجب طاعته لقال فردوه إلى الإمام لأن الإمام عندهم هو الذي يقضى قوله على تأويل الكتاب والسنة فلما أمر بطاعة أمراء السرايا والفقهاء وأمر برد المتنازع فيه من الحوادث إلى الكتاب والسنة دون الإمام ثبت أن الإمام غير مفروض الطاعة في أحكام الحوادث المتنازع فيها وأن لكل واحد من الفقهاء أن يردها إلى نظائرها من الكتاب والسنة* وزعمت هذه الطائفة أن المراد بقوله تعالى( وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) على بن أبى طالب رضى الله عنه وهذا تأويل فاسد لأن أولى الأمر جماعة وعلى بن أبى طالب رجل واحد وأيضا فقد كان الناس مأمورين بطاعة أولى الأمر في زمان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعلوم أن على بن أبى طالب لم يكن إماما في أيام النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فثبت أن أولى الأمر في زمان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا أمراء وقد كان المولى عليهم طاعتهم ما لم يأمروهم بمعصية. وكذلك حكمهم بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في لزوم اتباعهم وطاعتهم ما لم تكن معصية قوله تعالى( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ ) روى مجاهد وقتادة وميمون بن مهران والسدى إلى كتاب الله تعالى وسنة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال أبو بكر وذلك عموم في وجوب الرد إلى كتاب الله وسنة نبيهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في حياة النبي وبعد وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وسلم * والرد إلى الكتاب والسنة يكون من وجهين أحدهما إلى المنصوص عليه المذكور باسمه ومعناه والثاني الرد إليهما من الدلالة عليه واعتباره به من طريق القياس والنظائر وعموم اللفظ ينتظم الأمرين جميعا فوجب إذا تنازعنا في شيء رده إلى نص الكتاب والسنة إن وجدنا المتنازع فيه منصوصا على حكمه في الكتاب والسنة وإن لم نجد

١٧٨

فيه نصا منهما وجب رده إلى نظيره منهما لأنا مأمورون بالرد في كل حال إذ لم يخصص الله تعالى الأمر بالرد إليهما في حال دون حال وعلى أن الذي يقتضيه فحوى الكلام وظاهره الرد إليهما فيما لا نص فيه وذلك لأن المنصوص عليه الذي لا احتمال فيه لغيره لا يقع التنازع فيه من الصحابة مع علمهم باللغة ومعرفتهم بما فيه احتمال مما لا احتمال فيه فظاهر ذلك يقتضى رد المتنازع فيه إلى نظائره من الكتاب والسنة فإن قيل إنما المراد بذلك ترك التنازع والتسليم لما في كتاب الله وسنة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم * قيل إن ذلك خطاب للمؤمنين لأنه قال تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) فإن كان تأويله ما ذكرت فإن معناه اتبعوا كتاب الله وسنة نبيه وأطيعوا الله ورسوله وقد علمنا أن كل من آمن ففي اعتقاده للإيمان اعتقاد لالتزام حكم الله وسنة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيؤدى ذلك إلى إبطال فائدة قوله تعالى( فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ ) وعلى أن ذلك قد تقدم الأمر به في أول الآية وهو قوله تعالى( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) فغير جائز حمل مغنى قوله تعالى( فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ ) على ما قد أفاده بديا في أول الخطاب ووجب حمله على فائدة محددة وهو رد غير المنصوص عليه وهو الذي وقع فيه التنازع إلى المنصوص عليه وعلى أنا نرد جميع المتنازع فيه إلى الكتاب والسنة بحق العموم ولا نخرج منه شيئا بغير دليل* فإن قيل لما كانت الصحابة مخاطبين بحكم هذه الآية عند التنازع في حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان معلوما أنه لم يكن يجوز لهم استعمال الرأى والقياس في أحكام الحوادث بحضرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بل كان عليهم التسليم له واتباع أمره دون تكلف الرد من طريق القياس ثبت أن المراد استعمال المنصوص وترك تكلف النظر والاجتهاد فيما لا نص فيه* قيل له هذا غلط وذلك لأن استعمال الرأى والاجتهاد ورد الحوادث إلى نظائرها من المنصوص قد كان جائزا في حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فإحداهما في حال غيبتهم عن حضرته كما أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم معاذا حين بعثه إلى اليمن فقال له كيف تقضى إن عرض لك قضاء قال أقضى بكتاب الله قال فإن لم يكن في كتاب الله قال أقضى بسنة نبي الله قال فإن لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله قال اجتهد رأيى لا ألو قال فضرب بيده على صدره وقال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضى رسول الله فهذه إحدى الحالين اللتين كان يجوز الاجتهاد فيهما في حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم والحال الأخرى أن يأمره النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاجتهاد

١٧٩

بحضرته ورد الحادثة إلى نظائرها ليستبرئ حاله في اجتهاده وهل هو موضع لذلك ولكن إن أخطأ وترك طريق النظر أعلمه وسدده وكان يعلمهم وجوب الاجتهاد في أحكام الحوادث بعده فالاجتهاد بحضرته على هذا الوجه سائغ كما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا أسلم بن سهل قال حدثنا محمد بن خالد بن عبد الله قال حدثنا أبى عن حفص بن سليمان عن كثير بن شنظير عن أبى العالية عن عقبة بن عامر قال جاء خصمان إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال اقض بينهما يا عقبة قلت يا رسول الله أقضى بينهما وأنت حاضر قال اقض بينهما فإن أصبت فلك عشر حسنات وأن أخطأت فلك حسنة واحدة فأباح له النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم الاجتهاد بحضرته على الوجه الذي ذكرنا وأمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لمعاذ وعقبة بن عامر بالاجتهاد صدر عندنا عن الآية وهو قوله تعالى( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ ) لأنا متى وجدنا من النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حكما مواطئا لمعنى قد ورد به القرآن حملناه على أنه حكم به عن القرآن وأنه لم يكن حكما مبتدأ من النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كنحو قطعه السارق وجلده الزاني وما جرى مجراهما فقول القائل إن الاجتهاد في أحكام الحوادث لم يكن سائغا في زمن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأن رد المتنازع فيه إلى الكتاب والسنة كان واجبا حينئذ فدل على أن المراد به ترك الاختلاف والتنازع والتسليم للمنصوص عليه في الكتاب والسنة غير صحيح وأما الحال التي لم يكن يسوغ الاجتهاد فيها في حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو أن يجتهد بحضرته على جهة إمضاء الحكم والاستبداد بالرأى لا على الوجه الذي قدمناه فهذا لعمري اجتهاد مطرح لا حكم له ولم يسوغ ذلك لأحد والله أعلم.

باب طاعة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم

قال الله تعالى( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) وقال تعالى( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ ) وقال تعالى( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ) وقال تعالى( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) فأكد جل وعلا بهذه الآيات وجوب طاعة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبان أن طاعته إطاعة الله وأفاد بذلك أن معصيته معصية الله وقال الله تعالى( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) فأوعد على مخالفة أمر الرسول وجعل مخالف أمر الرسول والممتنع من تسليم ما جاء به والشاك فيه خارجا من الإيمان

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388