أحكام القرآن الجزء ٣

أحكام القرآن15%

أحكام القرآن مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 388

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥
  • البداية
  • السابق
  • 388 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 80105 / تحميل: 5633
الحجم الحجم الحجم
أحكام القرآن

أحكام القرآن الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

التي تدور فيها » ١ .

و روي عنه عليه السلام هذا المعنى بلفظ آخر هكذا : « و إنّه و الله ليعلم أنّي أولى بها منّي بقميصي » ٢ .

قال دعبل :

حللت محلاّ يقصر الطرف دونه

و يعجز عنه الطيف أن يتجشّما

و لقد أجاد الناشى‏ء فقال فيه عليه السّلام :

و صارمه كبيعته بخم

مقاصدها من الخلق الرقاب

و لقد أجاد وفائي التستري فيه عليه السلام بالفارسية :

جز بتو آراستن سرير خلافت

نسبت افسر بمستحق فسار است

و روى الكنجي الشافعي في ( مناقبه ) عن سعيد بن المسيب قال : قلت لسعد أبن أبي وقاص : إنّي أريد أن أسألك عن شي‏ء و إنّي أتّقيك . قال : سل عمّا بذالك . فإنّما أنا ابن عمّك . قلت : مقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فيكم يوم الغدير . قال : نعم قام فينا بالظهيرة فأخذ بيد علي بن أبي طالب . فقال : « من كنت مولاه فعلي مولاه . اللهمّ وال من والاه و عاد من عاداه و انصر من نصره » فقال أبو بكر و عمر : أمسيت يا ابن أبي طالب مولى كلّ مؤمن و مؤمنة ٣ .

و روى الجزري في ( اسده ) في وهب بن حمزة مسندا عنه قال : صحبت عليا عليه السّلام من المدينة إلى مكّة . فرأيت منه بعض ما أكره . فقلت : لئن رجعت إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لأشكونك إليه . فلمّا قدمت لقيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقلت : رأيت من عليّ

ــــــــــــــــ

( ١ ) جمهرة اللغة ١ : ٣٠٨ ، مادة ( بطق )

( ٢ ) رواه المفيد في اماليه : ١٥٣ ح ٥ ، المجلس ١٩ ، و لفظه : « قد علم و الله انى اولى الناس بهم مني بقميصي » و رواه غيره أيضا .

( ٣ ) كفاية الطالب : ١٦ .

٢١

كذا و كذا . فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله : لا تقل هذا فهو أولى الناس بعدي ١ .

و في ( مروج المسعودي ) : لمّا صرف عليّ عليه السّلام قيس بن سعد بن عبادة عن مصر وجّه مكانه محمّد بن أبي بكر . فلمّا وصل إليها كتب إلى معاوية « من محمّد بن أبي بكر إلى الغاوي معاوية بن صخر إلى أن قال فكان أوّل من أجاب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و أناب ، و آمن و صدّق ، و أسلم و سلّم أخوه و ابن عمّه عليّ بن أبي طالب صدّقه بالغيب المكتوم ، و آثره على كلّ حميم ، و وقاه بنفسه كلّ هول ، و حارب حربه و سالم سلمه ، فلم يبرح مبتذلا لنفسه في ساعات الليل و النهار ، و الخوف و الجزع حتّى برز سابقا لا نظير له في من اتّبعه ، و لا مقارب له في فعله ، و قد رأيتك تساميه ، و أنت أنت ، و هو هو أصدق الناس نيّة ، و أفضل الناس ذرّية ، و خير الناس زوجة ، و أفضل الناس ابن عم ، و أخوه الشاري بنفسه يوم موته ، و عمّه سيد الشهداء يوم احد ، و أبوه الذابّ عن رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و عن حوزته ، و أنت اللعين أبن اللعين ، لم تزل أنت و أبوك تبغيان لرسول الله صلّى اللّه عليه و آله الغوائل ، و تجهدان في إطفاء نور الله . تجمعان على ذلك الجموع ، و تبذلان فيه المال ، و تؤلّبان عليه القبائل . على ذلك مات أبوك و عليه خلفته ، و الشهيد عليك من تدني ، و يلجأ إليك من بقيّة الأحزاب ، و رؤساء النفاق ،

و الشاهد لعلي مع فضله المبين القديم أنصاره الّذين معه الّذين ذكرهم الله و أثنى عليهم من المهاجرين و الأنصار ، و هم كتائب ، و عصائب يرون الحق في اتباعه ، و الشقاء في خلافه . فكيف يا ويلك تعدل نفسك بعليّ عليه السّلام ، و هو وارث رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و وصيّه ، و أبو ولده أوّل الناس له اتّباعا ، و أقربهم به عهدا يخبره بسره ، و يطلعه على أمره ، و أنت عدّوه و ابن عدّوه . فتمتّع في دنياك بباطلك ، و ليمددك ابن العاص في غوايتك إلى أن قال

ــــــــــــــــ

( ١ ) اسد الغابة ٥ : ٩٤ .

٢٢

فكتب إليه معاوية : « من معاوية بن صخر إلى الزاري على أبيه محمّد بن أبي بكر . أمّا بعد ، فقد أتاني كتابك تذكر فيه ما الله أهله في عظمته و قدرته . و ما اصطفى به رسوله ، مع كلام كثير لك فيه تضعيف ، و لأبيك فيه تعنيف ، ذكرت فيه فضل ابن أبي طالب ، و قديم سوابقه ، و قرابته إلى الرسول ، و مواساته إيّاه في كلّ هول و خوف فكان احتجاجك عليّ و عيبك بفضل غيرك لا بفضلك .

فاحمد ربّا صرف هذا الفضل عنك ، و جعله لغيرك . فقد كنّا و أبوك فينا نعرف فضل ابن أبي طالب و حقّه ، لازما لنا مبروما علينا ، فلمّا اختار الله لنبيّه ما عنده ،

و أتمّ له ما وعده ، و أظهر دعوته و أفلج حجّته ، و قبضه إليه ، كان أبوك و فاروقه أوّل من ابتزه حقّه ، و خالفه على أمره . على ذلك اتفقا و اتّسقا . ثم إنّهما دعواه إلى بيعتهما فأبطا عنهما ، و تلكّأ عليهما ، فهمّا به الهموم ، و أرادا به العظيم ثمّ انّه بايع لهما ، و سلّم لهما ، و أقاما لا يشركانه في أمرهما ، و لا يطلعانه على سرّهما حتّى قبضهما إليه . ثم قام ثالثهما عثمان فهدى بهديهما ، و سار بسيرهما . فعبته أنت ، و صاحبك . حتّى طمع فيه الأقاصي من أهل المعاصي ،

فطلبتما له الغوائل ، و أظهرتما عداوتكما حتى بلغتما فيه مناكما . فخذ حذرك يا ابن أبي بكر ، و قس شبرك بفترك . تقصر أن توازي أو تساوي من يزن الجبال بحلمه ، لايلين لمن قسر قناته ، و لا يدرك ذو مقال أناته ، مهّد أبوك مهاده و بنى ملكه و شاده ، فإن يك ما نحن فيه صوابا ، فأبوك أسسّه و نحن شركاؤه ،

و لو لا ما فعل أبوك من قبل ما خالفنا ابن أبي طالب ، و لسلّمنا إليه ، و لكنّا رأينا أباك فعل ذلك به من قبلنا . فأخذنا بمثله . فعب أباك بما بدالك أو دع ذلك ١ .

و رواه نصر بن مزاحم في ( صفّينه ) ، و فيه : « فإن يكن ما نحن فيه صوابا ، فأبوك أوّله ، و إن يك جورا ، فأبوك اسّسه ، و نحن شركاؤه ، و بهديه

ــــــــــــــــ

( ١ ) مروج الذهب ٣ : ١١ ، و النقل بتصرف يسير .

٢٣

أخذنا ، و بفعله اقتدينا و لو لا ما سبقنا إليه أبوك ، ما خالفنا ابن أبي طالب و أسلمنا له ، و لكنّا رأينا أباك فعل ذلك . فاحتذينا بمثاله ، و اقتدينا بفعاله . فعب أباك ما بدا لك أو دع » ١ .

و من العجب أن الطبري قال : لم أجز نقل هذا الكتاب لعدم احتمال العامّة له ٢ . فيقال له : لا يحتمله إلاّ من انسلخ عن الإنسانية ، و جوّز التناقض و التضاد ،

و إنكار المتواترات ، و عدم بطلان الملزوم مع بطلان اللازم في دين الاسلام ،

و لازم صحّة خلافة أبي بكر و عمر و عثمان كون معاوية على الحق و هو هو و عليّ عليه السلام على الباطل و هو هو . أفّ لهم و لما يعبدون من دون اللّه .

و نقل ( طرائف ابن طاووس ) عن ( أنساب البلاذري ) : انّ الحسين عليه السلام لما قتل كتب عبد الله بن عمر إلى يزيد بن معاوية : أما بعد فقد عظمت الرزيّة ،

و جلّت المصيبة ، و حدث في الإسلام حدث عظيم ، و لا يوم كيوم الحسين .

فكتب إليه يزيد : يا أحمق فانّا جئنا إلى بيوت متخذة ، و فرش ممهّدة ، و وسائد منضّدة . فقاتلنا عليها ، فان يكن الحقّ لنا فعن حقّنا قاتلنا ، و ان يكن الحق لغيرنا فأبوك أوّل من سنّ هذا و آثر و استأثر بالحق على أهله ٣ .

و لازم صحّة خلافة أبي بكر كون قتل يزيد السكّير القمّير للحسين سيّد شباب أهل الجنّة بالتواتر عن النبيّ صلى الله عليه و آله و ابن الرسول صلى الله عليه و آله بقوله جلّ و علا و أبناءنا و أبناءكم ٤ و من أهل بيت العصمة بنصّ القرآن انّما يريد

ــــــــــــــــ

( ١ ) وقعة صفين : ١٢٠ .

( ٢ ) تاريخ الطبري ٣ : ٥٥٧ ، سنة ٣٦ .

( ٣ ) رواه ابن طاووس في الطرائف ١ : ٢٤٨ ح ٣٤٨ ، لكن لم يوجد في ترجمة الامام الحسين عليه السلام و لا يزيد بن معاوية من انساب الاشراف .

( ٤ ) آل عمران : ٦١ .

٢٤

اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهّركم تطهيرا ١ حقّا ، و كفاهم بذلك خزيا .

و في ( الطبري ) : لما كتب عبيد اللّه بن زياد مع مالك بن النسير البديّ الكندي إلى الحرّ « جعجع بالحسين حين يبلغك كتابي » نظر إليه أبو الشعثاء الكندي من أصحاب الحسين عليه السلام و قال له : ثكلتك أمّك ماذا جئت فيه ؟ قال :

أطعت إمامي و وفيت بيعتي . قال له أبو الشعثاء : كسبت العار و النار ، قال الله عزّ و جلّ : و جعلناهم أئمّة يدعون إلى النار و يوم القيامة لا ينصرون ٢ .

و في ( الطبري ) : أن الشيعة الّذين كانوا أصحاب جعفر بن محمّد قالوا لزيد بن عليّ لمّا أراد الخروج : ما قولك في أبي بكر و عمر ؟ قال : إنّ أشدّ ما أقول إنّا كنّا أحقّ بسلطان رسول الله صلى الله عليه و آله من الناس أجمعين ، و إنّ القوم استأثروا علينا ، و دفعونا عنه ، و لم يبلغ ذلك عندنا بهم كفرا قالوا : فلم يظلمك هؤلاء إذا كان اولئك لم يظلموك فلم تدعو إلى قتال قوم ليسوا لك بظالمين ؟ ٣ و قولهم عين الحق . فإنّ المؤسس لبني اميّة هم الثلاثة أليس الثاني أحدث شورى لاختيار الثالث ؟ أليست خلافة الثالث عين سلطنة بني اميّة ؟

ثم الظاهر انّ زيدا اتّقى باقي أصحابه ، فروى عنه أيضا انّه سأله رجل عن الرجلين ، فلم يجبه . فلمّا وقع السهم في جبينه دعا الرجل ، و قال : لم يرمني بهذا السهم إلاّ الرجلان ٤ .

و روى محمّد بن الحسن الصفار في ( بصائره ) عن الباقر عليه السلام في قوله جلّ و علا : انّا عرضنا الأمانة على السموات و الأرض و الجبال فأبين أن

ــــــــــــــــ

( ١ ) الاحزاب : ٣٣ .

( ٢ ) تاريخ الطبري ٤ : ٣٠٨ ، سنة ٦١ ، و النقل بتلخيص . و الآية ٤١ من سورة القصص .

( ٣ ) تاريخ الطبري ١٥ : ٤٩٨ ، سنة ١٢٢ ، و النقل بتلخيص .

( ٤ ) روى هذا المعنى الهمداني في الالفاظ الكتابية : ١٤٣ .

٢٥

يحملنها و أشفقن منها و حملها الإنسان انّه كان ظلوما جهولا ١ : الأمانة :

الولاية حملها أبو فلان ، و أبت السماوات و الأرض و الجبال حملها ٢ .

و قال الزبير بن بكار : روى محمد بن اسحق انّ أبا بكر لمّا بويع افتخرت تيم بن مرّة ، و كان عامّة المهاجرين ، و جلّ الأنصار لا يشكّون أن عليّا عليه السّلام هو صاحب الأمر بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله . فقال الفضل بن العباس : يا معشر قريش ،

و خصوصا يا بنى تيم إنّكم إنّما أخذتم الخلافة بالنبوّة ، و نحن أهلها دونكم إلى أن قال و انّا لنعلم انّ عند صاحبنا عهدا هو ينتهي إليه ٣ .

و روى الواقدي في ( شوراه ) كما نقله ابن أبي الحديد عند قوله عليه السّلام :

« و من كلام له عليه السّلام و قد وقع بينه و بين عثمان مشاجرة » عن ابن عباس قال :

شهدت عتاب عثمان لعليّ عليه السّلام إلى أن قال قال عثمان لعلي عليه السّلام : فإن كنت تزعم انّ هذا الأمر جعله رسول الله صلّى اللّه عليه و آله لك ، فقد رأيناك حين توفي نازعت ثم أقررت إلى أن قال فقال له عليّ عليه السّلام : و امّا عتيق و ابن الخطاب . فإن كانا أخذا ما جعله رسول الله صلّى اللّه عليه و آله لي . فأنت أعلم بذلك و المسلمون ٤ .

و روى الزبير بن بكار في ( موفقياته ) و ( الطبري في تاريخه ) في سيرة عمر ، عن عبد الله بن عمر قال : كنت عند أبي يوما ، و عنده نفر من الناس . فجرى ذكر الشعر فقال : من أشعر العرب ؟ فقالوا : فلان و فلان . فطلع ابن عباس . فقال عمر : جاء الخبير . من أشعر الناس يا عبد الله ؟ قال : زهير ابن أبي سلمى . قال :

فأنشدني مما تستجيده له . فقال : انّه مدح قوما من غطفان يقال لهم بنوسنان .

فقال فيهم :

ــــــــــــــــ

( ١ ) الاحزاب : ٧٢ .

( ٢ ) بصائر الدرجات : ٩٦ ح ٣ ، و النقل بالمعنى .

( ٣ ) رواه عنه ابن أبي الحديد في شرحه ٢ : ٨ ، شرح الخطبة ٦٥ .

( ٤ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٣٧٧ ، شرح الخطبة ١٣٣ .

٢٦

لو كان يقعد فوق الشمس من كرم

قوم بأوّلهم أو مجدهم قعدوا

قوم سنان ابوهم حين تنسبهم

طابوا و طاب من الأولاد ما ولدوا

انس اذا آمنوا جنّ اذا فزعو

مرزؤن بها ليل إذا جهدوا

محسّدون على ما كان من نعم

لا ينزع اللّه عنهم ماله حسدوا

فقال عمر : قاتله اللّه لقد أحسن ، و لا أرى هذا المدح يصلح إلاّ لهذا البيت من هاشم لقرابتهم من رسول اللّه . فقال له ابن عباس : و فّقك اللّه . فلم تزل موفّقا .

قال : يا ابن عباس أتدري ما منع الناس منكم ؟ قال : لا . قال : لكنّي أدري . قال :

ما هو ؟ قال : كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوّة و الخلافة فتجحفوا الناس جحفا ، فنظرت قريش لأنفسها فاختارت ، و وفّقت فأصابت . فقال ابن عباس :

أتميط عنيّ غضبك فأقول ؟ قال : قل ما تشاء . قال : أمّا قولك إن قريشا كرهت فإن الله تعالى قال لقوم ذلك بأنّهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم ١ ،

و اما قولك إنّا كنّا نجحف بالخلافة فلو جحفنا بالقرابة ، و لكنّا قوم أخلاقنا مشتقّة من خلق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الّذي قال تعالى له : و انّك لعلى خلق عظيم ٢ و قال تعالى له صلّى اللّه عليه و آله : و اخفض جناحك لمن اتّبعك من المؤمنين ٣ و اما قولك : انّ قريشا اختارت فإن الله تعالى يقول : و ربّك يخلق ما يشاء و يختار ما كان لهم الخيرة ٤ ، و قد علمت انّ اللّه تعالى اختار من خلقه لذلك من اختار . فلو نظرت قريش لنفسها من حيث نظر الله لها لوفّقت و أصابت . فقال عمر : « على رسلك يا ابن عباس . أبت قلوبكم يا بنى هاشم إلاّ غشّا في أمر قريش لا يزول و حقدا عليها لا يحول » .

ــــــــــــــــ

( ١ ) محمد : ٩ .

( ٢ ) القلم : ٤ .

( ٣ ) الشعراء : ٢١٥ .

( ٤ ) القصص : ٦٨ .

٢٧

فقال ابن عباس : « مهلا ، لا تنسب قلوب بني هاشم إلى الغشّ . فإنّ قلوبهم من قلب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الّذي طهّره اللّه ، و زكّاه ، و هم أهل البيت الّذين قال تعالى فيهم إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهّركم تطهيرا ١ و أما قولك : حقدا ، فكيف لا يحقد من غصب شيئه ، و يراه في يد غيره . فقال عمر : « أما أنت يا ابن عباس فقد بلغني عنك كلام أكره أن أخبرك به فتزول منزلتك عندي » قال : و ما هو ؟ اخبرني . فإن يك باطلا فمثلي يميط الباطل عن نفسه ، و إن يك حقّا فإنّ منزلتي عندك لا تزول به . قال عمر : بلغني أنّك لا تزال تقول اخذ هذا الأمر منّا حسدا و ظلما . قال : أمّا قولك حسدا فقد حسد إبليس آدم فأخرجه من الجنّة . فنحن بنو آدم المحسود ، و امّا قولك ظلما فأنت تعلم صاحب الحقّ من هو . ثم قال : ألم تحتجّ العرب على العجم بحقّ رسول اللّه ، و احتجّت قريش على سائر العرب بحقّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ؟ فنحن أحقّ برسول اللّه من سائر قريش . فقال عمر : قم الآن فارجع إلى منزلك . فقام ، فلمّا ولى هتف به عمر أيّها المنصرف إنّي على ما كان منك لراع حقّك . فالتفت ابن عباس فقال : انّ لي عليك ، و على كلّ المسلمين حقّا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فمن حفظه فحقّ نفسه حفظ ، و من أضاعه فحقّ نفسه أضاع . ثم مضى . فقال عمر لجلسائه : و اها لابن عباس ما رأيته لاحى أحدا قط إلاّ خصمه ٢ .

و أقول : لله در ابن عباس أدّى حقّ الكلام ، و هل ما قاله لعمر إلاّ عين ما تقوله الإمامية للسنّة من أنّ قريشا ، و في رأسهم صدّيقهم و فاروقهم ، كرهوا ما أنزل اللّه تعالى من استخلاف أمير المؤمنين عليه السّلام فأحبط اللّه أعمالهم ، و أنّهم

ــــــــــــــــ

( ١ ) الاحزاب : ٣٣ .

( ٢ ) رواه الزبير بن بكار في الموفقيات ، و عنه شرح ابن أبي الحديد ٣ : ١٠٦ ، شرح الخطبة ٢٢٦ ، و الطبري في تاريخه ٣ : ٢٨٨ ، سنة ٢٣ ، و النقل بتصرف يسير .

٢٨

علموا من اختاره اللّه تعالى فتركوه عمدا ، و أنه ما كان لهم اختيار الإمام بل لله تعالى كاختيار النبيّ ، و أن أمير المؤمنين ، و أهل بيته عليه السّلام هم الّذين أذهب اللّه عنهم الرجس ، و طهّرهم تطهيرا ، و أن أخلاقهم كأخلاق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قلوبهم كقلبه و أنهم حسدوهم ، و ظلموهم .

و أقول لعمر ، زيادة على ما قال ابن عباس : لم لا تقول : « أصابت قريش و وفّقت في اختيارها » و لو لم يكن فعلها لما كنت أنت و صاحبك تؤمّران على العالم .

و يا للّه من عرّ عمر . تارة ينسب إلى بني هاشم و مغزى كلامه و مرماه أمير المؤمنين عليه السّلام الغشّ ، و قد أخذه عنه معاوية ، و اخرى العجب و الجحف ،

و قد أخذ ذلك عنه ابن الزبير ، فكان لا يصلّى على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في صلاته و خطبته و يقول : لئلا يشمخ أهله بآنافهم . و ثالثة الحرص و أخذه عنه ابن عوف يوم الشورى ، و رابعة الدعابة أخذه ابن النابغة . فكان يزعم ذلك لأهل الشام .

و روى الجوهري في ( سقيفته ) عن ابن عباس قال : تفرّق الناس ليلة الجابية عن عمر . فسار كلّ واحد مع إلفه . ثم صادفت عمر تلك الليلة في مسيرنا فحادثته فشكا إليّ تخلّف عليّ عليه السلام عنه إلى أن قال قال عمر : يا ابن عباس أوّل من ريّثكم عن هذا الأمر أبو بكر أنّ قومكم كرهوا أن يجمعوا لكم الخلافة و النبوّة ، قلت : لم ذاك ألم تنلهم خيرا ؟ قال : بلى ، و لكنّهم لو فعلوا لكنتم عليهم جحفا ١ .

قلت : سبحان اللّه إعتقد عمر أنّ خلافة الإسلام بيد جمع أنكروا نبوّة نبي الإسلام حتّى قهرهم بالسيف ، فأسرّوا كفرهم به و أظهروه بعد وفاته .

و روى الزبير بن بكار في ( موفقياته ) عن ابن عباس قال : إني لأماشي

ــــــــــــــــ

( ١ ) السقيفة : ٥٢ ، و النقل بتلخيص .

٢٩

عمر بن الخطاب في سكّة من سكك المدينة إذ قال لي : يا ابن عباس ما أرى صاحبك إلاّ مظلوما . فقلت في نفسي : و اللّه لا يسبقني بها . فقلت : فاردد إليه ظلامته . فانتزع يده من يدي ، و مضى يهمهم ساعة . ثم وقف فلحقته . فقال : يا ابن عباس ما أظنّ منعهم عنه إلاّ انّه استصغره قومه . فقلت في نفسي : هذه شرّ من الاولى . فقلت : و اللّه ما استصغره اللّه و رسوله حين أمراه أن يأخذ براءة من صاحبك . فأعرض عنّي و أسرع . فرجعت عنه ١ .

و في ( فهرست ابن النديم ) : قال هشام بن الحكم : ما رأيت مثل مخالفينا عمدوا إلى من ولاّه اللّه من سمائه فعزلوه ، و إلى من عزله من سمائه فولّوه ٢ .

و روى الزبير بن بكار أيضا في ( الموفّقيات ) : عن ابن عباس قال : كنت عند عمر . فتنفّس نفسا ظننت أنّ أضلاعه قد انفرجت . فقلت له : ما أخرج هذا النفس منك إلاّ هم شديد . فقال أي : و الله يا ابن عباس إنّي افتكرت فلم أدر في من أجعل هذا الأمر من بعدي . ثم قال : لعلّك ترى صاحبك لها أهلا قلت : و ما يمنعه من ذلك مع جهاده و سابقته و قرابته و علمه ، قال : صدقت و لكنّه امرؤ فيه دعابة إلى أن قال قال عمر : من ان وليها يحملهم على كتاب ربّهم و سنّة نبيّهم لصاحبك أما ان ولي أمرهم حملهم على المحجّة البيضاء و الصراط المستقيم ٣ .

قلت : سبحان اللّه مع اعترافه بأنّ أمير المؤمنين عليه السلام لو ولي الأمر يحملهم على كتاب ربّهم و سنّة نبيّهم ، و على المحجّة البيضاء و الصراط المستقيم كيف دبّر الأمر لعثمان الّذي كان يعرف أنّه لو ولي يردّهم إلى

ــــــــــــــــ

( ١ ) رواه عنه ابن أبي الحديد في شرحه ٣ : ١٠٥ ، شرح الخطبة ٢٢٦ .

( ٢ ) تكملة الفهرس : ٢٢٤ .

( ٣ ) رواه ابن أبي الحديد في شرحه ٣ : ١٠٦ ، شرح الخطبة ٢٢٦ ، لكن لا عن الزبير بن بكار بل روى حديثا آخر قبل هذا عن موفقيات الزبير بن بكار و النقل بتصرف يسير .

٣٠

الجاهلية الاولى ؟ و كيف لا و ساعة جلوسه في الخلافة جاهر أبو سفيان في محضره : يا بني اميّة تداولوها تداول الكرة فلا جنّة و لا نار .

و أمّا رميه له عليه السلام بالدعابة ، فإنّما كان لأنّه عليه السلام لم يكن مثله عبوسا بصفة الجبّارين ، بل كان بشره في وجهه الّذي هو صفة المؤمنين .

و روى ابو عمر في ( استيعابه ) عن ابن عمر . قال : قال عمر لأهل الشورى : لله درّهم إن ولّوها الأصيلع كيف يحملهم على الحقّ ، و لو كان السيف على عنقه . فقلت : أتعلم ذلك منه و لا تولّيه . قال : إن لم أستخلف فأتركهم ، فقد تركهم من هو خير منّي ١ .

قلت : يالله للجواب ، و لحمق أتباعه ، لكن لا غرو . قال تعالى في فرعون :

فاستخفّ قومه فأطاعوه ٢ ، و لو كان الأمر كما ذكروا من عدم لزوم تعيين النبي لخليفته و تكون بيعة الناس تجعل انسانا إماما يكون من خالفه خارجيا مباح الدم يلزم أن يصير ولي اللّه عدّوا لله ، و بالعكس لو بايع الناس مخالف الأول مع كون عملهما مع اللّه تعالى بعد ذلك عملهما معه جلّ و علا قبل بلا تغيير و لا تبديل ، و لا زيادة و لا نقصان .

و لمّا حارب المهلب مع الخوارج بسولاف من قبل مصعب بن الزبير ثمانية أشهر ثم قتل مصعب بلغ ذلك الخوارج ، و لم يبلغ المهلّب و أصحابه فناداهم الخوارج ألا تخبروننا ما قولكم في مصعب ؟ قالوا : إمام هدى . قالوا :

فهو وليّكم في الدنيا و الآخرة . قالوا : نعم . قالوا : فما قولكم في عبد الملك بن مروان ؟ قالوا : ذلك اللعين ابن اللعين نحن إلى اللّه منه براء ، و هو عندنا أحلّ دما منكم . قالوا : فأنتم منه براء في الدنيا و الآخرة ، قالوا : نعم . كبراءتنا منكم . قالوا :

ــــــــــــــــ

( ١ ) الاستيعاب ٣ : ٦٤ .

( ٢ ) الزخرف : ٥٤ .

٣١

و أنتم له أعداء أحياء و أمواتا . قالوا : نعم . نحن له أعداء كعداوتنا لكم . قالوا : فإنّ إمامكم مصعبا قد قتله عبد الملك ، و نراكم ستجعلون غدا عبد الملك إمامكم و أنتم لا تتبرّؤون منه و تلعنون أباه . قالوا : كذبتم يا أعداء اللّه . فلّما كان من الغد تبيّن لهم قتل مصعب . فبايع المهلّب الناس لعبد الملك . فأتتهم الخوارج فقالوا :

ما تقولون في مصعب ؟ قالوا : يا أعداء اللّه لا نخبركم ما قولنا فيه ، و كرهوا أن يكذّبوا أنفسهم عندهم قالوا : فقد أخبرتمونا أمس أنّه وليّكم في الدنيا و الآخرة ، و أنّكم أولياؤه أحياء و أمواتا ، فأخبرونا ما قولكم في عبد الملك ؟

قالوا : ذاك إمامنا و خليفتنا و لم يجدوا إذ بايعوه بدّا من أن يقولوا هذا القول .

فقالت لهم الأزارقة : يا أعداء اللّه أنتم أمس تتبرؤون منه في الدنيا و الآخرة ،

و تزعمون أنّكم له أعداء أحياء و أمواتا . و هو اليوم إمامكم و خليفتكم ، و قد قتل إمامكم الّذي كنتم تتولّونه ، فأيهما المحق و أيهما المبطل ؟ و أيّهما المهتدي ،

و أيّهما الضالّ ؟ قالوا لهم : يا أعداء اللّه رضينا بذلك إذ كان وليّ أمورنا ،

و نرضى بهذا كما رضينا بذالك . قالوا لهم : لا و الله ، و لكنّكم إخوان الشياطين ،

و أولياء الظالمين ، و عبيد الدنيا .

و أقول للخوارج : إنّ ذلك يلزم عليكم بعد إقراركم بإمامة صديقكم و فاروقكم ، و خروجكم عن الإلتزام بلازمه لكونه واضح البطلان التزام بالتضاد و التناقض ، و خلاف المعقول . فمن أقرّ بملزوم لابد أن يقرّ بلازمه .

و أقول لفاروقهم قولك : « إن لم أستخلفهم فأتركهم فقد تركهم من هو خير منّي » مضحك للثكى . فكيف تركهم فقد أراد كتابة وصيّة و تعيين وصيّه كتابة حتّى لا يمكنك إنكاره ، و كنت تعرف ذلك كما أقررت به في اعتذارك عن منعه . فقلت : ان الرجل ليهجر حسبنا كتاب الله ، مع عدم معرفتك بشي‏ء منه حتّى سخط و أخرجك من عنده .

٣٢

ثم كيف تركتهم ، و قد استخلفت بني امية الشجرة الملعونة في القرآن ١ .

و في ( إيضاح الفضل بن شاذان ) : روى يزيد بن هارون ، عن العوام بن حوشب عن إبراهيم التيمي قال : قال ابن عباس : لقي رجل من أهل الشام أبي بالجابية فقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ، فقال : لست للمؤمنين بأمير و هو ذاك و أشار إلى عمر و كان بالقرب و انا و اللّه أحقّ بها منه ، فسمعها عمر . فقال له : أحقّ بها منّي و منك رجل خلّفناه في المدينة يعني عليّا عليه السّلام ٢ .

قلت : نقلنا قصصا عن عمر في قوله عليه السّلام : « و إنّه ليعلم أنّ محلي منها محلّ القطب من الرحى » مع كون المراد به أبا بكر لأنّهما كانا كنفس واحدة ،

و لأنّه إنّما كان هو الناصب لأبي بكر كما اعترف به النظام ، نصبه ليردّ الأمر إليه كما صرّح به أمير المؤمنين عليه السلام مع انّه كان أيّام خلافة أبي بكر شريكه في الخلافة أيضا كما لا يخفى عند من كان له إلمام بالتاريخ .

ثم إنّه كما علم أبو بكر أوّل من تقمّص بها بكونه عليه السلام أولى بها من كلّ أحد كذلك كلّ من تصدّى لها إلى الآخر إلاّ أنّهم تبعوا الأول و تظاهروا به لكونه أسّس لهم رياسة و دنيا عظيمة . فخطب داود بن علي لمّا بويع السفّاح ، و قال :

« لم يصعد هذا المنبر بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله حقّا إلاّ عليّ بن أبي طالب و السفّاح » .

و روى الطبري في أحوال المهدي : أنّ أبا عون عبد الملك بن يزيد مرض فعاده المهدي و سأله حاجته . فقال : حاجتي أن ترضى عن عبد الله بن أبي عون و تدعو به . فقد طالت موجدتك عليه . فقال : يا أبا عون إنّه على غير الطريق و على خلاف رأينا و رأيك ، إنّه يقع في الشيخين أبي بكر و عمر و يسيى‏ء القول

ــــــــــــــــ

( ١ ) بالنظر الى قوله تعالى في الاسراء : ٦٠ .

( ٢ ) الايضاح : ٩٠ ، و النقل بتصرف يسير .

٣٣
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد الخامس الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

فيهما . فقال أبو عون : هو و اللّه على الأمر الّذي خرجنا عليه ، و دعونا إليه . فإن كان قد بدا لكم فمروا بما أحببتم حتى نطيعكم ١ .

و في ( الأغاني ) عن أبي سليمان الناجي قال : جلس المهدي يوما يعطي قريشا صلات أمر لهم بها و هو ولي عهد . فبدا ببني هاشم ثم بسائر قريش .

فجاء السيّد الحميري ، و دفع إلى الربيع رقعة مختومة و إذا فيها :

قل لابن عباس سميّ محمّد

لا تعطينّ بني عديّ درهما

و احرم بني تيم بن مرّة إنّهم

شرّ البرية آخرا و مقدما

إن تعطهم لا يشكروا لك نعمة

و يكافئوك بأن تذمّ و تشتما

و لئن منعتهم لقد بدؤوكم

بالمنع إذ ملكوا فكانوا أظلما

منعوا تراث محمّد أعمامه

و بنيه و ابنيه عديلة مريما

و تأمّروا من غير أن يستخلفوا

و كفى بما فعلوا هنالك مأثما

لم يشكروا لمحمّد إنعامه

أفيشكرون لغيره ان أنعما

و اللّه منّ عليهم بمحمّد

و كسا الجنوب و أطعما

ثم انبروا لوصيّه و وليّه

بالمنكرات فجرّعوه العلقما

فرمى بها إلى عبيد اللّه الوزير ثم أمر بقطع العطاء فانصرف الناس و أدخل السيّد عليه . فلمّا رآه ضحك ، و قال : قد قبلنا نصيحتك يا إسماعيل . . .

و يأتي كلام الناصر العباسي ٢ .

و أمّا قول أبي بكر في إظهاره الشكّ في احتضاره . فقد قال كما في ( خلفاء ابن قتيبة ) : « ليتني سألته ( أي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ) لمن هذا الأمر من بعده فلا ينازعه فيه أحد » ٣ فيقال له في قوله « ليتني سألته لمن هذا الأمر من بعده » ليت

ــــــــــــــــ

( ١ ) تاريخ الطبري ٦ : ٤٠٠ ، سنة ١٦٩ ، و النقل بتلخيص .

( ٢ ) الأغاني ٧ : ٢٤٣ ، و النقل بتلخيص .

( ٣ ) رواه ابن قتيبة في الإمامة و السياسة ١ : ١٩ ، و الطبري في تاريخه ٢ : ٦٢٠ ، سنة ١٣ ، و غيرهما .

٣٤

صاحبك خلاّه يقول ذلك ، لكن الرزية كلّ الرزية كما قال ابن عباس و كان كلّما ذكر ذلك قال ذلك و يبكي بكاء الثكلى منع صاحبك له عن ذلك مع أنّه يكفي في خزي اتباعه شكّ متبوعهم في أمر نفسه .

و روى محمّد بن يعقوب الكليني عن الأصبغ قال : قال أمير المؤمنين عليه السّلام : ما بال أقوام غيّروا سنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ، و عدلوا عن وصيّه لا يتخوّفون أن ينزل بهم العذاب ؟ ثم تلا هذه الآية : ألم تر إلى الذين بدّلوا نعمة اللّه كفرا و أحلّوا قومهم دار البوار جهنّم ١ ثم قال : نحن النعمة الّتي أنعم اللّه بها على عباده ، و بنا يفوز من فاز يوم القيامة ٢ .

هذا . و في ( روضة المناظر ) : اتّفق الملك العادل أبو بكر أخو السلطان صلاح الدين ، و الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين على أخذ دمشق من الملك الأفضل علي بن صلاح الدين ، و حاصراه . فدخل أبو بكر من باب توما ،

و عثمان من باب العرج ، فسار علي إلى صرخد ، و كتب إلى الخليفة الناصر العباسي يشكو من عمّه و أخيه :

مولاي إنّ أبا بكر و صاحبه

عثمان قد أخذا بالجور حقّ علي

فانظر إلى حظّ هذا الأسم كيف لقي

من الأواخر ما لقى من الاوّل

فأجابه الخليفة الناصر العباسي :

غصبوا عليّا حقّه إذ لم يكن

بعد النبّي له بيثرب ناصر

فاصبر فإنّ غدا عليه حسابهم

و ابشر فناصرك الإمام الناصر ٣

« ينحدر » أي : ينهبط .

ــــــــــــــــ

( ١ ) إبراهيم : ٢٨ و ٢٩ .

( ٢ ) الكافي ١ : ٢١٧ ح ١ .

( ٣ ) روضة المناظر ٢ : ١٠٦ ، و النقل بتصرف في اللفظ .

٣٥

« عنّي السيل » من سال الماء .

« و لا يرقى » أي : لا يصعد .

« إلى الطير » شبّه عليه السّلام علوه المعنوي بجبل عال لا يقدر الطير من كثرة علوه أن يصعد إليه ، و قال الشاعر

« عال يقصّر دونه اليعقوب »

و اليعقوب ذكر الحجل ، و قال الأعشى :

في مجدل شيّد بنيانه

يزلّ عنه ظفر الطائر

و قال امرؤ القيس :

نيافا تزلّ الطير عن قذفاته

هذا ، و قال كعب الأشقري في فتح يزيد بن المهلّب قلعة نيزك بباد غيس و كانت في غاية الإرتفاع ، و كان نيزك يعظّمها حتّى إذا رآها سجد لها :

نفى نيزكا عن باد غيس و نيزك

بمنزلة أعيى الملوك أغتصابها

محلّقة دون السماء كأنّها

غمامة صيف زلّ عنها سحابها

و لا يبلغ الأروى شماريخها العلى

و لا الطير إلاّ نسرها و عقابها

و ما خوّفت بالذئب ولدان أهلها

و لا نبحت إلاّ النجوم كلابها

نقل الصدوق في ( معاني أخباره ) عن أبي أحمد العسكري قال : معنى قوله عليه السّلام « ينحدر عنّي السيل و لا يرقى إليّ الطير » أنّ الخلافة ممتنعة على غيري ، و لا يتمكّن منها ، و لا تصلح له ١ .

قلت : ما قاله إنّما هو معنى قوله عليه السلام قبل ذلك : « انّ محلي منها محلّ القطب من الرحى » و امّا هذا الكلام فمعناه علوّ مقامه بحيث لا يمكن لأحد أن يناله .

و علو مقامه هو أحد أسباب إعراض الناس عنه عليه السّلام ، قال أبو زيد

ــــــــــــــــ

( ١ ) معانى الاخبار : ٣٦٢ ، و علل الشرائع ١ : ١٥٢ .

٣٦

النحوي : قلت للخليل العروضي : لم هجر الناس عليّا عليه السّلام و قرباه ، من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قرباه ، و موضعه من الإسلام موضعه ؟ فقال : « و اللّه بهر نوره أنوارهم ، و غلبهم على صفو كلّ منهل ، و الناس إلى أشكالهم أميل . أما سمعت قول الأوّل :

و كلّ شكل لشكله ألف

أما ترى الفيل يألف الفيلا ؟ ١

و قال يونس النحوي أيضا قلت للخليل : ما بال أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كأنّهم بنو أمّ واحدة ، و علي كأنّه ابن علّة ؟ قال : تقدّمهم إسلاما ، و بذّهم شرفا و فاقهم علما ، و رجحهم حلما و كثرهم هدى فحسدوه ، و الناس إلى أمثالهم و أشكالهم أميل ٢ .

و في ( عيون المفيد ) : اتفق الناس على النقل عن أمير المؤمنين عليه السّلام رجزه في صفّين :

أنا علي صاحب الصمصامة

و صاحب الحوض لدى القيامة

أخو نبي اللّه ذي العلامة

قد قال إذ عمّمني العمامة

أنت أخي و معدن الكرامة

و من له من بعدي الإمامة ٣

و كيف لا يكون مقامه عليه السلام بذالك الشموخ ، و كتاب اللّه تعالى في تنزيله جعله نفس النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و النبي صلّى اللّه عليه و آله جعل في المتواتر عنه يوم احد لمّا قال جبرئيل عليه السلام له صلّى اللّه عليه و آله تعجبا من حمايته عليه السّلام عنه صلّى اللّه عليه و آله نفسه منه عليه السّلام فقال صلّى اللّه عليه و آله لجبرئيل : « كيف لا يواسيني علي ، و هو منّي و أنا منه » كما جعل جبرئيل نفسه منه عليه السّلام كما جعلها منه صلّى اللّه عليه و آله فقال للنبي صلّى اللّه عليه و آله بعد

ــــــــــــــــ

( ١ ) رواه الصدوق في علل الشرائع ١ : ١٤٥ ح ١ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٢ ) رواه السروي في مناقبه ٣ : ٢١٣ ، و السائل هنا ايضا ابو زيد .

( ٣ ) رواه عنه الشريف المرتضى في الفصول المختاره ٢ : ٢٣٤ .

٣٧

كلامه ذاك « و أنا منكما » ١ .

« فسدلت » أي : أرخيت .

« دونها » أي : دون الخلافة .

« ثوابا » و الكلام كناية عن إعراضه عنها ، كمن يضرب الحجاب بينه و بين من يعرض عنه .

و في ( إيضاح الفضل ) : قال المأمون لفقهاء العامة : قال عليّ عليه السّلام : قبض النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ، و أنا أولى بمجلسه مني بقميصي ، و لكنّي أشفقت أن يرجع الناس كفّارا ٢ .

« و طويت عنها كشحا » قال ابن أبي الحديد : أي : حرمتها قالوا : لأنّ من كان إلى جانبك الأيمن مثلا فطويت كشحك الأيسر فقد ملت عنه و الكشح ما بين الخاصرة و الجنب . و عندي انّهم أرادوا غير ذلك ، و هو أنّ من أجاع نفسه . فقد طوى كشحه كما أنّ من أكل و شبع فقد ملأ كشحه ، فكانّه أراد انّي اجعت نفسي عنها و لم ألتهمها ٣ .

قلت : إنّما يجي‏ء « طوى بطنه » بمعنى الجوع كما في الخبر « و اترك أهل الصفّة تطوى بطونهم » ٤ و أما « طوى كشحه » فلا يجي‏ء إلاّ بمعنى الإعراض إذا عدي بعن كما في كلامه عليه السّلام ، أو بتقديرها كما في قول الشاعر :

أخ قد طوى كشحا

و أبّ ليذهبا

و قال آخر :

و صاحب لي طوى كشحا فقلت له

إنّ انطواءك هذا عنك يطويني

ــــــــــــــــ

( ١ ) رواه جمع كثير منهم ابن هشام في السيرة ٣ : ٤٣ ، و الكليني في الكافي ٨ : ١١٠ ح ٩٠ ، غيرهما .

( ٢ ) لم يوجد في الايضاح ، بل رواه الصدوق في عيون الاخبار ٢ : ١٨٦ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ١ : ٥٠ .

( ٤ ) النهاية ٣ : ١٤٦ ، مادة ( طوي ) .

٣٨

و أمّا إذا عدّي بعلى فبمعنى الإخفاء كما قال زهير في حصين بن ضمضم في حرب داحس و الغبراء .

و كان طوى كشحا على مستكنّة

فلا هو أبداها و لم يتجمجم

و في ( اللسان ) : أراد « بالمستكنّة » عداوة أكنّها في ضميره ١ .

و بالجملة قوله عليه السّلام : « و طويت عنها كشحا » كقوله عليه السّلام : « و سدلت دونها ثوبا » ، كناية عن إعراضه عليه السلام عن الخلافة و تصدّي الأمر ، و ابن أبي الحديد خلط بين طيّ البطن و طيّ الكشح .

ثم طيّ الكشح لا يختصّ بمن كان على أيمنك فطويت أيسرك عنه كما قال ابن أبي الحديد بل يجي‏ء للعكس أيضا بل قوله : فطويت أيسرك عنه غير صحيح . فمن كان على أيمنك تطوى أيمنك أولا عنه إذا أعرضت عنه ، و بطيّ الأيمن يحصل طي الأيسر .

ثم انّه عليه السّلام أعرض عن الخلافة ، و سدل دونها ثوبا ، و طوى عنها كشحا لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أخبره بكيفيّة معاملة الناس معه عليه السّلام بعده فقال له « انّ الامّة ستغدر بك بعدي » ٢ .

و روي انّ الأشعث بن قيس قاله له : ما منعك يا ابن أبي طالب حين بويع أخو بني تيم ، و أخو بني عدي ، و أخو بني أميّة أن تقاتل و تضرب بسيفك ، و أنت لم تخطبنا خطبة مذ كنت قدمت العراق إلاّ قلت فيها قبل أن تنزل عن المنبر « و الله إنّي لأولى الناس ، و ما زلت مظلوما مذ قبض رسول الله » فما يمنعك أن تضرب بسيفك دون مظلمتك ؟

قال : يا ابن قيس إسمع الجواب . لم يمنعني من ذلك الجبن ، و لا كراهة

ــــــــــــــــ

( ١ ) لسان العرب ١٥ : ١٩ ، مادة ( طوي )

( ٢ ) أخرجه الحاكم في المستدرك ٣ : ١٤٠ و ١٤٢ ، و الثقفي ، و عنه تلخيص الشافي ٣ : ٥٠ ٥١ ، و جمع آخر غيرهما .

٣٩

للقاء ربيّ ، و لكن منعني من ذلك أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و عهده إليّ . أخبرني بما الامّة صانعة بعده . فلم أك بما صنعوا حين عاينته بأعلم به ، و لا أشدّ استيقانا منّي به قبل ذلك . فقلت : يا رسول الله ، فما تعهد إليّ إذا كان ذلك ؟ قال : إن وجدت أعوانا فانبذ إليهم و جاهدهم ، و إن لم تجد أعوانا . فكفّ يدك ، و احقن دمك حتى تجد على إقامة الدين و كتاب الله و سنّتي أعوانا ، و أخبرني أنّ الامة ستخذلني و تبايع غيري ، و أخبرني أنّي منه بمنزلة هارون من موسى ، و أنّ الامّة سيصيرون بعده بمنزلة هارون ، و من تبعه ، و العجل و من تبعه إذ قال له موسى : يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلّوا ألاّ تتّبعن أفعصيت أمري قال يا ابن ام لا تأخذ بلحيتي و لا برأسي إنّي خشيت أن تقول فرّقت بين بني إسرائيل و لم ترقب قولي ١ الخبر ٢ .

و لم يحضر عليه السّلام السقيفة كما حضروا لأمرين :

أحدهما : انّه كان مشتغلا بدفن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فكانوا يقولون له عليه السّلام بعد سماع احتجاجه عليهم : « لو سمعت الأنصار كلامك قبل بيعتها لأبي بكر ما اختلفت عليك » فكان عليه السّلام يقول : « أ فكنت أدع رسول الله صلّى اللّه عليه و آله في بيته لم أدفنه ،

و أخرج أنازع الناس بسلطانه » ٣ .

و الثاني : أنّ الإمام بمنزلة الكعبة يجب على الناس أن يأتوها لا أن تأتيهم هي .

« و طفقت » طفق : من أفعال الشروع قال تعالى : و طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنّة ٤ .

ــــــــــــــــ

( ١ ) طه : ٩٢ .

( ٢ ) رواه سليم بن قيس في كتابه : ١٢٦ و ١٢٧ .

( ٣ ) رواه الجوهري في السقيفة : ١ ، و ابن قتيبة في الامامة و السياسة ١ : ١٢ ، و النقل بالمعنى .

( ٤ ) الاعراف : ٢٢ .

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

وترك نقل السبب نحو أن يختصم إليه رجلان أحدهما جار والآخر شريك فيحكم بالشفعة للشريك دون الجار وقال فإذا وقعت الحدود فلا شفعة لصاحب النصيب المقسوم مع الجار كما روى أسامة بن زيد أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لا ربا إلا في النسيئة وهو عند سائر الفقهاء كلام خارج على سبب اقتصر فيه راويه على نقل قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم دون ذكر السبب وهو أن يكون سئل عن النوعين المختلفين من الذهب والفضة إذا بيع أحدهما بالآخر فقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ربا إلا في النسيئة يعنى فيما سئل عنه وكذلك ما ذكرنا وأيضا لو تساوت أخبار إيجاب الشفعة بالجوار وأخبار نفيها لكانت أخبار الإيجاب أولى من أخبار النفي لأن الأصل أنها غير واجبة حتى يرد الشرع بإيجابها فخبر نفى الشفعة وارد على الأصل وخبر إثباتها ناقل عنه وارد بعده فهو أولى* فإن قيل يحتمل أن يريد بالجار الشريك* قيل له هذه الأخبار التي رويناها وأكثرها ينفى هذا التأويل لأن فيها أن جار الدار أحق بشفعة داره والشريك لا يسمى جار الدار وحديث جابر قال فيه ينتظر به وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا وغير جائز أن يكون هذا في الشريك في المبيع وأيضا فإن الشريك لا يسمى جارا لأنه لو استحق اسم الجوار بالشركة لوجب أن يكون كل شريكين في شيء جارين كالشريكين في عبد واحد ودابة واحدة فلما لم يستحق اسم الجار بالشركة في هذه الأشياء دل ذلك على أن الشريك لا يسمى جارا وإنما الجار هو الذي ينفرد حقه ونصيبه من حق الشريك ويتميز ملك كل واحد عن ملك صاحبه وأيضا فإن الشركة إنما تستحق بها الشفعة لأنها تقتضي حصول الجوار بالقسمة والدليل عليه أن الشركة في سائر الأشياء لا توجب الشفعة لعدم حصول الجوار بها عند القسمة فدل ذلك على أن الشركة في العقار إنما تستحق بها الشفعة لما يتعلق بها من الجوار عند القسمة وإن كان الشريك أحق من الجار لمزية حصلت له مع تعلق حق الجوار بالقسمة والدليل عليه أن الشركة في سائر الأشياء لا توجب الشفعة لعدم حصول الجوار بها كما أن الأخ من الأب والأم أولى بالميراث من الأخ من الأب وإن كانت الأخوة من جهة الأب يستحق بها التعصيب والميراث إذا لم يكن أخ لأب وأم ومعلوم أن القرابة من جهة الأم لا يستحق بها التعصيب إذ لم تكن هناك قرابة من جهة الأب إلا أنها أكدت تعصيب القرابة من الأب وكذلك الشريك إنما يستحق الشفعة بالشركة لما تعلق بها من حصول الجوار عند

«١١ ـ أحكام لث»

١٦١

القسمة والشريك أولى من الجار لمزية حصلت له كما وصفنا بالتعصيب ويكون المعنى الذي يتعلق به وجوب الشفعة هو الجوار وأيضا لما كان المعنى الذي به وجبت الشفعة بالشركة هو دوام التأذى بالشريك وكان ذلك موجودا في الجوار لأنه يتأذى به في الإشراف عليه ومطالعة أموره والوقوف على أحواله وجب أن تكون له الشفعة لوجود المعنى الذي من أجله وجبت الشفعة للشريك وهذا المعنى غير موجود في الجار غير الملاصق لأن بينه وبينه طريقا يمنعه التشرف عليه والاطلاع على أموره* وأما قوله تعالى( وَابْنَ السَّبِيلِ ) فإنه روى عن مجاهد والربيع بن أنس أنه المسافر وقال قتادة والضحاك هو الضيف قال أبو بكر ومعناه صاحب الطريق وهذا كما يقال لطير الماء ابن ماء قال الشاعر :

وردت اعتسافا والثريا كأنها

على قمة الرأس ابن ماء محلق

ومن تأوله على الضيف فقوله سائغ أيضا لأن الضيف كالمجتاز غير المقيم فسمى ابن السبيل تشبيها بالمسافر المجتاز وهو كما يقال عابر سبيل وقال الشافعى ابن السبيل هو الذي يريد السفر وليس معه نفقته وهذا غلط لأنه ما لم يصر في الطريق لا يسمى ابن السبيل كما لا يسمى مسافرا ولا عابر سبيل وقوله عز وجل( أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) يعنى الإحسان المأمور به في أول الآية وروى سليمان التيمي عن قتادة عن أنس قال كانت عامة وصية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم الصلاة وما ملكت أيمانكم حتى جعل يغرغر بها في صدره وما يقبض بها لسانه وروته أيضا أم سلمة وروى الأعمش عن طلحة بن مصرف عن أبى عمارة عن عمرو بن شرحبيل قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم الغنم بركة والإبل عز لأهلها والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة والمملوك أخوك فأحسن إليه فإن وجدته مغلوبا فأعنه وروى مرة الطيب(١) عن أبى بكر قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يدخل الجنة سيئ الملكة قيل يا رسول الله أليس قد حدثتنا أن هذه الأمة أكثر الأمم مملوكين وأتباعا قال بلى فأكرموهم ككرامة أولادكم وأطعموهم مما تأكلون وروى الأعمش عن المعرور بن سويد قال مررت على أبى ذر وهو بالربذة فسمعته يقول قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم المماليك

__________________

(١) قوله مرة الطيب : هو مرة بن شراحيل الهمدانى روى عن أبى بكر وعمر وجماعة يضال له مرة الطيب ومرة الخير ، قال الحارث الغنوي : سجد حتى أكل التراب جبهته ، هكذا في خلاصة تهذيب الكمال.

١٦٢

هم إخوانكم ولكن الله تعالى خولكم إياهم فأطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون وقوله تعالى( الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ) قيل في معنى البخل في اللغة أنه مشقة الإعطاء وقيل البخل منع ما لا ينفع منعه ولا يضر بذله وقيل البخل منع الواجب ونظيره الشح ونقيضه الجود وقد عقل من معناه في أسماء الدين أنه منع الواجب ويقال إنه لا يصح إطلاقه في الدين إلا على جهة أن فاعله قد أتى كبيرة بالمنع قال الله تعالى( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) فأطلق الوعيد على من بخل بحق الله الذي أوجبه في ماله وأما قوله تعالى( وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ) فإنه روى عن ابن عباس ومجاهد والسدى أنها نزلت في اليهود إذ بخلوا بما أعطوا من الرزق وكتموا ما أوتوا من العلم بصفة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل هو فيمن كان بهذه الصفة وفيمن كتم نعم الله وأنكرها وذلك كفر بالله تعالى قال أبو بكر الاعتراف بنعم الله تعالى واجب وجاحدها كافر وأصل الكفر إنما هو من تغطية نعم الله تعالى وكتمانها وجحودها وهذا يدل على أنه جائز للإنسان أن يتحدث بنعم الله عنده لا على جهة الفخر بل على جهة الاعتراف بالنعمة والشكر للمنعم وهو كقوله( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنا سيد ولد آدم ولا فخر وأنا أفصح العرب ولا فخر فأخبر بنعم الله عنده وأبان أنه ليس أخباره بها على وجه الافتخار وقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى وقد كانصلى‌الله‌عليه‌وسلم خيرا منه ولكنه نهى أن يقال ذلك على وجه الافتخار وقال تعالى( فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى ) وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سمع رجلا يمدح رجلا فقال لو سمعك لقطعت ظهره ورأى المقداد رجلا يمدح عثمان في وجهه فحثا في وجهه التراب وقال سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب وقد روى إياكم والتمادح فإنه الذبح فهذا إذا كان على وجه الفخر فقد كره وإما أن يتحدث بنعم الله عنده أو يذكرها غيره بحضرته فهذا نرجو أن لا يضر إلا أن أصلح الأشياء لقلب الإنسان أن لا يغتر بمدح الناس له ولا يعتد به* وقوله تعالى( وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ) معناه والله أعلم أنه أعد للذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس عذابا مهينا وفي ذلك دليل

١٦٣

على أن كل ما يفعله العبد لغير وجه الله فإنه لا قربة فيه ولا يستحق عليه الثواب لأن ما يفعل على وجه الرياء فإنما يريد به عوضا من الدنيا كالذكر الجميل والثناء الحسن فصار ذلك أصلا في أن كل ما أريد عوض من أعواض الدنيا أنه ليس بقربة كالاستيجار على الحج وعلى الصلاة وسائر القرب أنه متى استحق عليه عوضا يخرج بذلك عن باب القربة وقد علمنا أن هذه الأشياء سبيلها أن لا تفعل إلا على وجه القربة فثبت بذلك أنه لا يجوز أن يستحق عليها الأجرة وأن الإجارة عليها باطلة قوله تعالى( وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ ) يدل على بطلان مذهب أهل الجبر لأنهم لو لم يكونوا مستطيعين للإيمان بالله والإنفاق لما جاز أن يقال ذلك فيهم لأن عذرهم واضح وهو أنهم غير ممكنين مما دعوا إليه ولا قادرين عليه كما لا يقال للأعمى ماذا عليه لو أبصر ولا يقال للمريض ماذا عليه لو كان صحيحا وفي ذلك أوضح دليل على أن الله قطع عذرهم من فعل ما كلفهم من الإيمان وسائر الطاعات وأنهم ممكنون من فعلها* وقوله تعالى( يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً ) فأخبر الله عنهم أنهم لا يكتمون الله هناك شيئا من أحوالهم وما عملوه لعلمهم بأن الله مطلع عليهم عالم بأسرارهم فيقرون بها ولا يكتمونها وقيل يجوز أن يكون المراد أنهم لا يكتمون أسرارهم هناك كما كانوا يكتمونها في الدنيا فإن قيل قد أخبر الله عنهم أنهم يقولون والله ربنا ما كنا مشركين قيل له فيه وجوه أحدها أن الآخرة مواطن فموطن لا تسمع فيه إلا همسا أى صوتا خفيا وموطن يكذبون فيه فيقولون ما كنا نعمل من سوء والله ربنا ما كنا مشركين وموطن يعترفون فيه بالخطإ ويسئلون الله أن يردهم إلى دار الدنيا وروى ذلك عن الحسن وقال ابن عباس أن قوله تعالى( وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً ) داخل في التمني بعد ما نطقت جوارحهم بفضيحتهم وقيل إن معناه أنه لا يعتد بكتمانهم لأنه ظاهر عند الله لا يخفى عليه شيء فكان تقديره أنهم غير قادرين هناك على الكتمان لأن الله يظهره وقيل أنهم لم يقصدوا الكتمان لأنهم إنما أخبروا على ما توهموا ولا يخرجهم ذلك من أن يكونوا قد كتموا والله تعالى أعلم.

باب الجنب يمر في المسجد

قال الله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا

١٦٤

ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) قال أبو بكر قد اختلف في المراد من السكر بهذه الآية فقال ابن عباس ومجاهد وإبراهيم وقتادة السكر من الشراب وقال مجاهد والحسن نسخها تحريم الخمر وقال الضحاك المراد به سكر النوم خاصة* فإن قيل* كيف يجوز أن ينهى السكران في حال سكره وهو في معنى الصبى في نقص عقله* قيل له يحتمل أن يريد السكران الذي لم يبلغ نقصان عقله إلى حد يزول التكليف معه ويحتمل أن يكونوا نهوا عن التعرض للسكر إذا كان عليهم فرض الصلاة ويجوز أن يكون النهى إنما دل على أن عليهم أن يعيدوها في حال الصحو إذا فعلوها في حال السكر وجائز أن تكون هذه المعاني كلها مرادة بالآية في حال نزولها* فإن قال قائل إذا ساغ تأويل من تأولها على السكران الذي لم يزل عنه التكليف فكيف يجوز أن يكون منهيا عن فعل الصلاة في هذه الحال مع اتفاق المسلمين على أنه مأمور بفعل الصلاة في هذه الحال* قيل له قد روى عن الحسن وقتادة أنه منسوخ ويحتمل إن لم يكن منسوخا أن يكون النهى متوجها إلى فعل الصلاة مع الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم أو في جماعة* قال أبو بكر والصحيح من التأويل في معنى السكر أنه السكر من الشراب من وجهين أحدهما أن النائم ومن خالط عينه النوم لا يسمى سكران ومن سكر من الشراب يسمى سكران حقيقة فوجب حمل اللفظ على الحقيقة ولا يجوز صرفه عنها إلى المجاز إلا بدلالة والثاني ما روى سفيان عن عطاء بن السائب عن أبى عبد الرحمن عن على قال دعا رجل من الأنصار قوما فشربوا من الخمر فتقدم عبد الرحمن ابن عوف لصلاة المغرب فقرأ( قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ ) فالتبس عليه فأنزل الله تعالى( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ) وحدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان المؤدب قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله تعالى( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ ) وقال في سورة النساء( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) ثم نسختها هذه الآية( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ ) الآية* قال أبو عبيد وحدثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن على ابن أبى طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ ) قال وقوله تعالى( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) قال كانوا

١٦٥

لا يشربونها عند الصلاة فإذا صلوا العشاء شربوها* قال أبو عبيد حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن أبى إسحاق عن أبى ميسرة قال قال عمر اللهم بين لنا في الخمر فنزلت( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) وذكر الحديث* قال أبو عبيد وحدثنا هشيم قال أخبرنا مغيرة عن أبى رزين قال شربت الخمر بعد الآية التي في سورة البقرة والتي في سورة النساء وكانوا يشربونها حتى تحضر الصلاة فإذا حضرت الصلاة تركوها ثم حرمت في المائدة* قال أبو بكر فأخبر هؤلاء أن المراد السكر من الشراب وأخبر ابن عباس وأبو رزين إنهم تركوا شربها بعد نزول الآية عند الصلاة وشربوها في غير أوقات الصلوات ففي هذا دلالة على أنهم عقلوا من قوله تعالى( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ) النهى عن شربها في الحال التي يكونون فيها سكارى عند لزوم فرض الصلاة وهذا يدل على أن قوله تعالى( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ) إنما أفاد النهى عن شربها في أوقات الصلوات وكان معناه لا يكن منكم شرب تصيرون به إلى حال السكر عند أوقات الصلوات فتصلوا وأنتم سكارى وذلك أنهم لما كانوا متعبدين بفعل الصلوات في أوقاتها منهيين عن تركها قال تعالى( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ) وقد علمنا أنه لم ينسخ بذلك فرض الصلاة كان في مضمون هذا اللفظ النهى عما يوجب السكر عند أوقات الصلوات كما أنه لما نهينا عن فعل الصلاة مع الحدث لقوله تعالى( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يقبل الله صلاة بغير طهور وكما قال تعالى( وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) كان ذلك نهيا عن ترك الطهارة ولم يكن نهيا عن فعل الصلاة ولم يوجب كون الإنسان جنبا أو محدثا سقوط فرض الصلاة وإنما نهى عن فعلها في هذه الحال وهو مأمور مع ذلك بتقديم الطهارة لها كذلك النهى عن الصلاة في حال السكر إنما دل على حظر شرب يوجب السكر قبل الصلاة وفرض الصلاة قائم عليه فهذا التأويل يدل على ما روى عن ابن عباس وأبى رزين وظاهر الآية وفحواه يقتضى ذلك على الوجه الذي بينا وهذا التأويل لا ينافي ما قدمنا ذكره عن السلف في حظر الصلاة عند السكر لأنه جائز أن يكونوا نهوا عن شرب يقتضى كونه سكران عند حضور الصلاة فيكون ذلك حظرا قائما فإن اتفق أن يشرب حتى أنه كان سكران عند حضور الصلاة كان منهيا عن فعلها مأمورا بإعادتها في حال الصحو أو يكون النهى مقصورا على فعلها مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم

١٦٦

أو في جماعة وهذه المعاني كلها صحيحة جائزة يحتملها لفظ الآية* وقوله تعالى( حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) يدل على أن السكران الذي منع من الصلاة هو الذي قد بلغ به السكر إلى حال لا يدرى ما يقول وأن السكران الذي يدرى ما يقول لم يتناوله النهى عن فعل الصلاة وهذا يشهد للتأويل الذي ذكرنا من النهى إنما انصرف إلى الشرب لا إلى فعل الصلاة لأن السكران الذي لا يدرى ما يقول لا يجوز تكليفه في هذه الحال كالمجنون والنائم والصبى الذي لا يعقل والذي يعقل ما يقول لم يتوجه إليه النهى لأن في الآية إباحة فعل الصلاة إذا علم ما يقول وهذا يدل على أن الآية إنما حظرت عليه الشرب لا فعل الصلاة في حال السكر الذي لا يعلم ما يقول فيه إذ غير جائز تكليف السكران الذي لا يعقل وهي تدل على أن السكر الذي يتعلق به الحكم هو الذي لا يعقل صاحبه ما يقول وهذا يدل على صحة قول أبى حنيفة في السكر الموجب للحد أنه هو الذي لا يعرف فيه الرجل من المرأة ومن لا يعقل ما يقول لا يعرف الرجل من المرأة* وقوله تعالى( حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) يدل على فرض القراءة في الصلاة لأنه منعه من الصلاة لأجل عدم إقامة القراءة فيها فلو لا أنها من أركانها وفروضها لما منع من الصلاة لأجلها* فإن قيل لا دلالة في ذلك على وجوب القراءة فيها وذلك لأن قوله تعالى( حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) قد دل على أنه ممنوع منها في الحال التي لا يعلم ما يقول ولم يذكر القراءة وإنما ذكر نفى العلم بما يقول وهذا على سائر الأقوال والكلام ومن صار بهذه الحال من السكر لم يصح له إحضار نية الصلاة ولا فعل سائر أركانها فإنما منع من الصلاة من كانت هذه حاله لأنه لا تصح منه نية الصلاة ولا سائر أفعالها ومع ذلك فلا يعلم أنه طاهر غير محدث* قيل له هذا على ما ذكرت في أن من كانت هذه حاله فلا يصح منه فعل الصلاة على سائر شرائطها إلا أن اختصاصه القول بالذكر دون غيره من أمور الصلاة وأحوالها يدل على أن المراد به قول مفعول في الصلاة وأنه متى كان من السكر على حال لم يمكنه إقامة القراءة فيها لم يصح له فعلها لأجل عدم القراءة وأن وجود القراءة فيها من فروضها وشرائطها وهذا مثل قوله( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) في إفادته أن في الصلاة قياما مفروضا ومثل قوله( وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ) في دلالته على فرض الركوع في الصلاة* وأما قوله تعالى( وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) فإن أهل العلم قد تنازعوا تأويله فروى المنهال بن عمرو عن زر عن على

١٦٧

رضى الله عنه في قوله( وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ ) إلا أن تكونوا مسافرين ولا تجدون ما تيممون به وتصلون وروى قتادة عن أبى مجلز عن ابن عباس مثله وعن مجاهد مثله وروى عن عبد الله بن مسعود أنه قال هو الممر في المسجد وروى عطاء بن يسار عن ابن عباس مثله في تأويل الآية وكذلك روى عن سعيد بن المسيب وعطاء وعمرو بن دينار في آخرين من التابعين* واختلف السلف في مرور الجنب في المسجد فروى عن جابر قال كان أحدنا يمر في المسجد مجتازا وهو جنب وقال عطاء بن يسار كان رجال من أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم تصيبهم الجنابة فيتوضئون ثم يأتون المسجد فيتحدثون فيه وقال سعيد بن المسيب الجنب لا يجلس في المسجد ويجتاز وكذلك روى عن الحسن وما روى في ذلك عن عبد الله فإن الصحيح فيه ما تأوله شريك عن عبد الكريم الجزري عن أبى عبيدة( وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ ) قال الجنب يمر في المسجد ولا يجلس ورواه معمر عن عبد الكريم عن أبى عبيدة عن عبد الله ويقال إن أحدا لم يرفعه إلى عبد الله غير معمر وسائر الناس وقفوه واختلف فقهاء الأمصار في ذلك فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد لا يدخله إلا طاهرا سواء أراد القعود فيه والاجتياز وهو قول مالك ابن أنس والثوري وقال الليث الجنب لا يجوز له أن يجتاز في المسجد وقال الشافعى يمر ولا يقعد والدليل على أن الجنب لا يجوز له أن يجتاز في المسجد ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مسدد قال حدثنا عبد الواحد بن زياد قال حدثنا أقلت بن خليفة قال حدثتني جسرة بنت دجاجة قالت سمعت عائشة رضى الله عنها تقول جاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد فقال وجهوا هذه البيوت عن المسجد ثم دخل ولم يصنع القوم شيئا رجاء أن تنزل لهم رخصة فخرج إليهم بعد فقال وجهوا هذه البيوت فإنى لا أحل المسجد لحائض ولا جنب وهذا الخبر يدل من وجهين على ما ذكرنا أحدهما قوله لا أحل المسجد لحائض ولا جنب ولم يفرق فيه بين الاجتياز وبين القعود فهو عليهما سواء والثاني أنه أمرهم بتوجيه البيوت الشارعة لئلا يجتازوا في المسجد إذا أصابتهم جنابة لأنه لو أراد القعود لم يكن لقوله وجهوا هذه البيوت فإنى لا أحل المسجد لحائض ولا جنب معنى لأن القعود منهم بعد دخول المسجد لا تعلق له بكون البيوت شارعة إليه فدل على أنه إنما أمر بتوجيه البيوت لئلا يضطروا عند الجنابة

١٦٨

إلى الاجتياز في المسجد إذ لم يكن لبيوتهم أبواب غير ما هي شارعة إلى المسجد* وقد روى سفيان بن حمزة عن كثيرة بن زيد عن المطلب أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن أذن لأحد أن يمر في المسجد ولا يجلس فيه وهو جنب إلا على بن أبى طالب فإنه كان يدخله جنبا ويمر فيه لأن بيته كان في المسجد فأخبر في هذا الحديث بحظر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم الاجتياز كما حظر عليهم العقود* وما ذكر من خصوصية على رضى الله عنه فهو صحيح وقول الراوي لأنه كان بيته في المسجد ظن منه لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أمر في الحديث الأول بتوجيه البيوت الشارعة إلى غيره ولم يبح لهم المرور لأجل كون بيوتهم في المسجد وإنما كانت الخصوصية فيه لعلى رضى الله عنه دون غيره كما خص جعفر بأن له جناحين في الجنة دون سائر الشهداء وكما خص حنظلة بغسل الملائكة له حين قتل جنبا وخص دحية الكلبي بأن جبريل كان ينزل على صورته وخص الزبير بإباحة لبس الحرير لما شكا من أذى القمل فثبت بذلك أن سائر الناس ممنوعون من دخول المسجد مجتازين وغير مجتازين* وأما ما روى جابر كان أحدنا يمر في المسجد مجتازا وهو جنب فلا حجة فيه لأنه لم يخبر أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم علم بذلك فأقره عليه وكذلك ما روى عن عطاء بن يسار كان رجال من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم تصيبهم الجنابة فيتوضئون ثم يأتون المسجد فيتحدثون فيه لا دلالة فيه للمخالف لأنه ليس فيه أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أقرهم عليه بعد علمه بذلك منهم ولأنه جائز أن يكون ذلك في زمان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يحظر عليهم ذلك ولو ثبت جميع ذلك عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم روى ما وصفنا لكان خبر الحظر أولى لأنه طارئ على الإباحة لا محالة فهو متأخر عنها ولما ثبت باتفاق الفقهاء حظر القعود فيه لأجل الجنابة تعظيما لحرمة المسجد وجب أن يكون كذلك حكم الاجتياز تعظيما للمسجد ولأن العلة في حظر القعود فيه هو الكون فيه جنبا وذلك موجود في الاجتياز وكما أنه لما كان محظورا عليه القعود في ملك غيره بغير إذنه كان حكم الاجتياز فيه حكم القعود فكان الاجتياز بمنزلة القعود كذلك القعود في المسجد لما كان محظورا وجب أن يكون كذلك الاجتياز اعتبارا بما ذكرنا والعلة في الجميع حظر الكون فيه وأما قوله تعالى( وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) وتأويل من تأوله على إباحة الاجتياز في المسجد فإن ما روى عن على وابن عباس في تأويله أن المراد المسافر الذي لا يجد الماء فيتيمم أولى من تأويل من تأوله على الاجتياز في المسجد وذلك

١٦٩

لأن قوله تعالى( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ) نهى عن فعل الصلاة في هذه الحال لا عن المسجد لأن ذلك حقيقة اللفظ ومفهوم الخطاب وحمله على المسجد عدول بالكلام عن حقيقته إلى المجاز بأن تجعل الصلاة عبارة عن موضعها كما يسمى الشيء باسم غيره للمجاورة أو لأنه تسبب منه كقوله تعالى( لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ ) يعنى به مواضع الصلوات ومتى أمكننا استعمال اللفظ على حقيقته لم يجز صرفه عنها إلى المجاز إلا بدلالة ولا دلالة توجب صرف ذلك عن الحقيقة وفي نسق التلاوة ما يدل على أن المراد حقيقة الصلاة وهو قوله تعالى( حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) وليس للمسجد قول مشروط يمنع من دخوله لتعذره عليه عند السكر وفي الصلاة قراءة مشروطة فمنع من أجل العذر عن إقامتها عن فعل الصلاة فدل ذلك على أن المراد حقيقة الصلاة فيكون تأويل من تأوله عليها موافقا لظاهرها وحقيقتها* وقوله تعالى( إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) فإن معناه المسافر لأن المسافر يسمى عابر سبيل ولو لا أنه يطلق عليه هذا الاسم لما تأوله عليه على وابن عباس إذ غير جائز لأحد تأويل الآية على ما لا يقع عليه الاسم وإنما سمى المسافر عابر سبيل لأنه على الطريق كما يسمى ابن السبيل فأباح الله تعالى له في حال السفر أن يتيمم ويصلى وإن كان جنبا فدلت الآية على معنيين أحدهما جواز التيمم للجنب إذا لم يجد الماء والصلاة به والثاني أن التيمم لا يرفع الجنابة لأنه سماه جنبا مع كونه متيمما فهذا التأويل أولى من تأويل من حمله على الاجتياز في المسجد* وقوله تعالى( حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) غاية لإباحة الصلاة ولا خلاف أن الغاية في هذا الموضع داخلة في الحظر إلى أن يستوعبها بوجوب الاغتسال وأنه لا تجوز له الصلاة وقد بقي من غسله شيء في حال وجود الماء وإمكان استعماله من غير ضرر يخافه فهذا يدل على أن الغاية قد تدخل في الجملة التي قبلها وقال الله تعالى( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) والغاية خارجة من الجملة لأنه بدخول أول الليل يخرج من الصوم لأن إلى غاية كما أن حتى غاية* وهذا أصل في أن الغاية قد يجوز دخولها في الكلام تارة وخروجها أخرى وحكمها موقوف على الدلالة في دخولها أو خروجها وسنذكر أحكام الجنابة ومعناها وحكم المريض والمسافر في سورة المائدة إذا انتهينا إليها إن شاء الله تعالى قوله تعالى( آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً ) يدل على قول أصحابنا في قول الرجل لامرأته أنت طالق قبل قدوم فلان أنها

١٧٠

تطلق في الحال قدم فلان أو لم يقدم وحكى عن بعضهم أنها لا تطلق حتى يقدم لأنه لا يقال أنه قبل قدوم فلان وما قدم والصحيح ما قال أصحابنا وهذه الآية تدل عليه لأنه قال الله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً ) فكان الأمر بالإيمان صحيحا قبل طمس الوجوه ولم يوجد الطمس أصلا وكان ذلك إيمانا قبل طمس الوجوه وما وجد وهو نظير قوله تعالى( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ) فكان الأمر بالعتق للرقبة أمرا صحيحا وإن لم يوجد المسيس فإن قيل إن هذا وعيد من الله لليهود ولم يسلموا ولم يقع ما توعدوا به قيل له إن قوما من هؤلاء اليهود أسلموا منهم عبد الله بن سلام وثعلبة بن سعية وزيد بن سعنة وأسد بن سعية وأسد بن عبيد ومخيريق في آخرين منهم وإنما كان الوعيد العاجل معلقا بترك جميعهم الإسلام ويحتمل أن يريد به الوعيد في الآخرة إذ لم يذكر في الآية تعجيل العقوبة في الدنيا إن لم يسلموا قوله تعالى( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ ) قال الحسن وقتادة والضحاك هو قول اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى وروى عن عبد الله أنه قال هو تزكية الناس بعضهم بعضا لينال به شيئا من الدنيا* قال أبو بكر وهذا يدل على أن النهى عن التزكية من هذا الوجه وقال الله( فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ) وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب * قوله تعالى( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ) روى عن ابن عباس ومجاهد والضحاك والسدى وعكرمة إن المراد بالناس هاهنا هو النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة وقال قتادة العرب وقال آخرون النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه وهذا أولى لأن أول الخطاب في ذكر اليهود وقد كانوا قبل ذلك يقرؤن في كتبهم مبعث النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وصفته وحال نبوته وكانوا يوعدون العرب بالقتل عند مبعثه لأنهم زعموا أنهم لا يتبعونه وكانوا يظنون أنه يكون من بنى إسرائيل فلما بعثه الله تعالى من ولد إسماعيل حسدوا العرب وأظهروا الكفر به وجحدوا ما عرفوه قال الله تعالى( وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ) وقال الله تعالى( وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ ) فكانت عداوة للعرب ظاهرة بعد مبعث النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حسدا منهم لهم أن يكون النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مبعوثا منهم فالأظهر من معنى الآية حسدهم للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وللعرب

١٧١

والحسد هو تمنى زوال النعمة عن صاحبها ولذلك قيل إن كل أحد تقدر أن ترضيه إلا حاسد نعمة فإنه لا يرضيه إلا زوالها والغبطة غير مذمومة لأنها تمنى مثل النعمة من غير زوالها عن صاحبها بل مع سرور منه ببقائها عليه* قوله تعالى( كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها ) قيل فيه إن الله تعالى يجدد لهم جلودا غير الجلود التي احترقت والقائلون بهذا هم الذين يقولون إن الجلد ليس بعض الإنسان وكذلك اللحم والعظم وأن الإنسان هو الروح اللابس لهذا البدن ومن قال إن الجلد هو بعض الإنسان وأن الإنسان هو هذا الشخص بكماله فإنه يقول إن الجلود تجدد بأن ترد إلى الحال التي كانت عليها غير محترقة كما يقال لخاتم كثر ثم صيغ خاتم آخر هذا الخاتم غير ذاك الخاتم وكما يقال لمن قطع قميصه قباء هذا اللباس غير ذاك اللباس وقال بعضهم التبديل إنما هو للسرابيل التي قد ألبسوها وهو تأويل بعيد لأن السرابيل لا تسمى جلودا والله تعالى أعلم.

باب ما أوجب الله تعالى من أداء الأمانات

قال الله تعالى( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ) اختلف أهل التفسير في المأمورين بأداء الأمانة في هذه الآية من هم فروى عن زيد بن أسلم ومكحول وشهر ابن حوشب أنهم ولاة الأمر وقال ابن جريج أنها نزلت في عثمان بن طلحة أمر بأن ترد عليه مفاتيح الكعبة وقال ابن عباس وأبى بن كعب والحسن وقتادة هو في كل مؤتمن على شيء وهذا أولى لأن قوله تعالى( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ ) خطاب يقتضى عمومه سائر المكلفين فغير جائز الاقتصار به على بعض الناس دون بعض إلا بدلالة وأظن من تأوله على ولاة الأمر ذهبت إلى قوله تعالى( وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) لما كان خطابا لولاة الأمر كان ابتداء الخطاب منصرفا إليهم وليس ذلك كذلك إذ لا يمتنع أن يكون أول الخطاب عموما في سائر الناس وما عطف عليه خاصا في ولاة الأمر على ما ذكرنا في نظائره في القرآن وغيره* قال أبو بكر ما اؤتمن عليه الإنسان فهو أمانة فعلى المؤتمن عليها ردها إلى صاحبها فمن الأمانات الودائع على مودعيها ردها إلى من أودعه إياها ولا خلاف بين فقهاء الأمصار أنه لا ضمان على المودع فيها إن هلكت* وقد روى عن بعض السلف فيه الضمان ذكر الشعبي عن أنس قال استحملنى رجل بضاعة فضاعت من بين ثيابي فضمننى عمر بن الخطاب* وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا حامد بن

١٧٢

محمد قال حدثنا شريح قال حدثنا ابن إدريس عن هشام بن حسان عن أنس بن سيرين عن أنس بن مالك قال استودعت ستة آلاف درهم فذهبت فقال لي عمر ذهب لك معها شيء قلت لا فضمننى* وروى حجاج عن أبى الزبير عن جابر أن رجلا استودع متاعا* فذهب من بين متاعه فلم يضمنه أبو بكر رضى الله عنه وقال هي أمانة* وحدثنا عبد الباقي ابن قانع قال حدثنا إسماعيل بن الفضل قال حدثنا قتيبة قال حدثنا ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال من استودع وديعة فلا ضمان عليه * وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا إبراهيم بن هاشم قال حدثنا محمد بن عون قال حدثنا عبد الله ابن نافع عن محمد بن نبيه الحجبي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ضمان على راع ولا على مؤتمن * قال أبو بكر قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ضمان على مؤتمن يدل على نفى ضمان العارية لأن العارية أمانة في يد المستعير إذ كان المعير قد ائتمنه عليها ولا خلاف بين الفقهاء في نفى ضمان الوديعة إذا لم يتعد فيها المودع ما روى عن عمر في تضمين الوديعة فجائز أن يكون المودع اعترف بفعل يوجب الضمان عنده فلذلك ضمنه* واختلف الفقهاء في ضمان العارية بعد اختلاف من السلف فروى عن عمر وعلى وجابر وشريح وإبراهيم أن العارية غير مضمونة وروى عن ابن عباس وأبى هريرة أنها مضمونة وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد هي غير مضمونة إذا هلكت وهو قول ابن شبرمة والثوري والأوزاعى وقال عثمان البتى المستعير ضامن لما استعاره إلا الحيوان والعقل فإن اشترط عليه في الحيوان والعقل الضمان فهو ضامن وقال مالك لا يضمن الحيوان في العارية ويضمن الحلي والثياب ونحوها وقال الليث لا ضمان في العارية ولكن أبا العباس أمير المؤمنين قد كتب إلى بأن أضمنها فالقضاء اليوم على الضمان وقال الشافعى كل عارية مضمونة* قال أبو بكر والدليل على نفى ضمانها عند الهلاك إذا لم يتعد فيها أن المعير قد ائتمن المستعير عليها حين دفعها إليه وإذا كان أمينا لم يلزمه ضمانها لأنا روينا عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لا ضمان على مؤتمن وذلك عموم في نفى الضمان عن كل مؤتمن وأيضا لما كانت مقبوضة بإذن مالكها لا على شرط الضمان لم يضمنها كالوديعة وأيضا قد اتفق الجميع على نفى ضمان الثوب المستأجر مع شرط بذل المنافع إذا لم يشترط عليه ضمان بدل المقبوض فالعارية أولى أن لا تكون مضمونة إذ ليس فيها ضمان مشروط

١٧٣

بوجه ومن جهة أخرى أن المقبوض على وجه الإجارة مقبوض لاستيفاء المنافع ولم يكن مضمونا فوجب أن لا تضمن العارية إذ كانت مقبوضة لاستيفاء المنافع وأيضا لما كانت الهبة غير مضمونة على الموهوب له لأنها مقبوضة بإذن مالكها لا على شرط ضمان البدل وهي معروف وتبرع وجب أن تكون العارية كذلك إذ هي معروف وتبرع وأيضا قد اتفق الجميع على أن العارية لو نقصت بالاستعمال لم يضمن النقصان فإذا كان الجزء منها غير مضمون مع حصول القبض عليه وجب أن لا يضمن الكل لأن ما تعلق ضمانه بالقبض لا يختلف فيه حكم الكل والبعض كالغصب والمقبوض ببيع فاسد فلما اتفق الجميع على أن الجزء الفائت بالنقصان غير مضمون وجب أن لا يضمن الجميع كالودائع وسائر الأمانات* وقد اختلف في ألفاظ حديث صفوان بن أمية في العارية فذكر بعضهم فيه الضمان ولم يذكره بعضهم وروى شريك عن عبد العزيز بن رفيع عن ابن أبى مليكة عن أمية بن صفوان بن أمية عن أبيه قال استعار النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من صفوان أدراعا من حديد يوم حنين فقال له يا محمد مضمونة فقال مضمونة فضاع بعضها فقال له النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إن شئت غرمناها لك فقال أنا أرغب في الإسلام من ذلك يا رسول الله ورواه إسرائيل عن عبد العزيز بن رفيع عن ابن أبى مليكة عن صفوان بن أمية قال استعار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من صفوان بن أمية أدراعا فضاع بعضها فقال إن شئت غرمناها لك فقال لا يا رسول الله فوصله شريك وذكر فيه الضمان وقطعه إسرائيل ولم يذكر الضمان وروى قتادة عن عطاء أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم استعار من صفوان بن أمية دروعا يوم حنين فقال له أمؤداة يا رسول الله العارية فقال نعم وروى جرير عن عبد العزيز بن رفيع عن أنا؟؟؟ س من آل عبد الله بن صفوان قال أراد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يغزو حنينا وذكر الحديث من غير ذكر ضمان ويقال أنه ليس في رواة هذا الحديث أحفظ ولا اتقن ولا أثبت من جرير بن عبد الحميد ولم يذكر الضمان ولو تكافأت الرواة فيه حصل مضطربا وقد روى في أخبار أخر من طريق أبى أمامة وغيره أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال العارية مؤداة وإن صح ذكر الضمان في حديث صفوان فإن معناه ضمان الأداء كما روى في بعض ألفاظ حديث صفوان أنه قال هي مضمونة حتى أؤديها إليك وكما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا الفريابي قال حدثنا قتيبة قال حدثنا الليث عن يزيد بن أبى حبيب عن سعيد بن أبى هند أن أول ما ضمنت العارية أن رسول

١٧٤

اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لصفوان أعرنا سلاحك وهي علينا ضمان حتى نأتيك بها فثبت بذلك أنه إنما شرط له ضمان الرد وذلك لأن صفوان كان حربيا كافرا في ذلك الوقت فظن أنه يأخذها على جهة استباحة ماله كسائر أموال الحربيين ولذلك قال له أغصبا تأخذها يا محمد فقال لا بل عارية مضمونة حتى أؤديها إليك وعارية مؤداة فأخبره النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه يأخذها على أنها عارية مؤداة وأنه ليس يأخذها على سبيل ما تؤخذ عليه أموال أهل الحرب وهو كقول القائل أنا ضامن لحاجتك يعنى القيام بها والسعى فيها حتى يقضيها قال الشاعر يصف ناقة :

بتلك أسلى حاجة إن ضمنتها

وأبرئ هما كان في الصدر داخلا

قال أهل اللغة في قوله إن ضمنتها يعنى إن هممت وأردتها وأيضا فإنا نسلم للمخالف صحة الخبر بما روى فيه من الضمان ونقول أنه لا دلالة فيه على موضع الخلاف وذلك لأنه قال عارية مضمونة فجعل الأدراع التي قبضها مضمونة وهذا يقتضى ضمان عينها بالرد لا ضمان قيمتها إذ لم يقل أضمن قيمتها وغير جائز صرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز إلا بدلالة وأيضا فيما ادعى المخالف إثبات ضمير في اللفظ لا دلالة عليه وهو ضمان القيمة ولا يجوز إثباته إلا بدلالة ويدل على أنها لم تكن مضمونة ضمان القيمة عند الهلاك أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لما فقد منها أدراعا قال لصفوان إن شئت غرمناها لك فلو كان ضمان القيمة قد حصل عليه لما قال إن شئت غرمناها لك وهو غارم فدل ذلك على أن الغرم لم يجب بالهلاك وأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما أراد أن يغرمها إذا شاء ذلك صفوان متبرعا بالغرم ألا ترى أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لما استقرض عن عبد الله بن ربيعة ثلاثين ألفا في هذه الغزاة أيضا ثم أراد أن يردها إلى عبد الله أبى عبد الله أن يقبلها فقال له خذها فإن جزاء القرض الوفاء والحمد فلو كان الغرم لازما فيما فقد من الأدراع لما قال إن شئت غرمناها لك ويدل على أنه لم يكن ضامنا لقيمة ما فقد أنه قال لا فإن في قلبي اليوم من الإيمان ما لم يكن قبل وفي ذلك دليل على أنها لم تكن مضمونة القيمة لأن ما كان مضمونا لا يختلف حكمه في الإيمان والكفر وقال بعض شيوخنا إن صفوان لما كان حربيا جاز أن يشرط له ذلك إذ قد يجوز فيما بيننا وبين أهل الحرب من الشروط ما لا يجوز فيما بيننا بعضنا لبعض ألا ترى أنه يجوز أن يرتهن منهم الأحرار ولا يجوز مثله فيما بيننا أو كان أبو الحسن الكرخي يأبى هذا التأويل

١٧٥

ويقول لا يصح شرط الضمان لأهل الحرب فيما ليس بمضمون ألا ترى أنا لو شرطنا لهم مان الودائع والمضاربات ونحوها لم يصح* واحتج من قال بضمان العارية بما رواه شعبة وسعيد بن أبى عروبة عن قتادة عن الحسن عن سمرة قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم على اليد ما أخذت حتى تؤديه ولا دلالة في هذا الحديث أيضا على موضع الخلاف لأنه إنما أوجب رد المأخوذ بعينه وليس فيه ذكر ضمان القيمة عند هلاكه ونحن نقول أن عليه رد العارية فهذا لا خلاف فيه ولا تعلق له أيضا بموضع الخلاف والله تعالى أعلم بالصواب.

باب ما أمر الله تعالى به من الحكم بالعدل

قال الله تعالى( وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) وقال تعالى( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ) وقال تعالى( وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى ) وحدثنا عبد الباقي ابن قانع قال حدثنا عبد الله بن موسى بن أبى عثمان قال حدثنا عبيد بن حباب الحلي قال حدثنا عبد الرحمن بن أبى الرجال عن إسحاق بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله قال قال ثابت الأعرج أخبرنى أنس بن مالك عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لا تزال هذه الأمة بخير ما إذا قالت صدقت وإذا حكمت عدلت وإذا استرحمت رحمت وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا عبد الرحمن المقري عن كهمس بن الحسن عن عبد الله الأسلمى قال شتم رجل ابن عباس فقال له ابن عباس إنك لتشتمنى وفي ثلاث خصال إنى لآتى على الآية من كتاب الله تعالى فلوددت بالله أن الناس كلهم يعلمون منها ما أعلم وإنى لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يعدل في حكمه فأفرح به ولعلى لا أقاضى إليه أبدا وإنى لأسمع بالغيث قد أصاب البلد من بلاد المسلمين فأفرح به ومالي من سائمة وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا الحارث بن أبى أسامة قال حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام قال حدثنا عبد الرحمن بن مهدى عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن قال إن الله أخذ على الحكام ثلاثا أن لا يتبعوا الهوى وأن يخشوه ولا يخشوا الناس وأن لا يشتروا بآياته ثمنا قليلا ثم قرأ( يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى ) الآية وقال الله تعالى( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا ـ إلى قوله تعالى ـفَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ) .

١٧٦

باب في طاعة أولى الأمر

قال الله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) قال أبو بكر اختلف في تأويل أولى الأمر فروى عن جابر بن عبد الله وابن عباس رواية والحسن وعطاء ومجاهد أنهم أولوا الفقه والعلم وعن ابن عباس رواية وأبى هريرة أنهم أمراء السرايا ويجوز أن يكونوا جميعا مرادين بالآية لأن الاسم يتناولهم جميعا لأن الأمراء يلون أمر تدبير الجيوش والسرايا وقتال العدو والعلماء يلون حفظ الشريعة وما يجوز مما لا يجوز فأمر الناس بطاعتهم والقبول منهم ما عدل الأمراء والحكام وكان العلماء عدولا مرضيين موثوقا بدينهم وأمانتهم فيما يؤدون وهو نظير قوله تعالى( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) ومن الناس من يقول إن الأظهر من أولى الأمر هاهنا أنهم الأمراء لأنه قدم ذكر الأمر بالعدل وهذا خطاب لمن يملك تنفيذ الأحكام وهم الأمراء والقضاة ثم عطف عليه الأمر بطاعة أولى الأمر وهم ولاة الأمر الذين يحكمون عليهم ماداموا عدولا مرضيين وليس يمتنع أن يكون ذلك أمرا بطاعة الفريقين من أولى الأمر وهم أمراء السرايا والعلماء إذ ليس في تقدم الأمر بالحكم بالعدل ما يوجب الاقتصار بالأمر بطاعة أولى الأمر على الأمراء دون غيرهم وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال من أطاع أميرى فقد أطاعنى وروى الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال قام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالخيف من منى فقال نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها ثم أداها إلى من لم يسمعها فرب حامل فقه لا فقه له ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن إخلاص العمل لله تعالى وقال بعضهم وطاعة ذوى الأمر وقال بعضهم والنصيحة لأولى الأمر ولزوم جماعة المسلمين فإن دعوتهم تحيط من وراءهم والأظهر من هذا الحديث أنه أراد بأولى الأمر الأمراء وقوله تعالى عقيب ذلك( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ ) يدل على أن أولى الأمر هم الفقهاء لأنه أمر سائر الناس بطاعتهم ثم قال( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ ) فأمر أولى الأمر برد المتنازع فيه إلى كتاب الله وسنة نبيهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا كانت العامة ومن ليس من أهل العلم ليست هذه منزلتهم لأنهم لا يعرفون كيفية الرد إلى كتاب الله والسنة ووجوه دلائلهما على أحكام الحوادث فثبت أنه خطاب للعلماء* واستدل بعض أهل العلم على إبطال قول

«١٢ ـ أحكام لث»

١٧٧

الرافضة في الإمامة بقوله تعالى( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) قال فليس يخلو أولو الأمر من أن يكونوا الفقهاء أو الأمراء أو الإمام الذي يدعونه فإن كان المراد الفقهاء والأمراء فقد بطل أن يكون الإمام والفقهاء والأمراء يجوز عليهم الغلط والسهو والتبديل والتغيير وقد أمرنا بطاعتهم وهذا يبطل أصل الإمامة فإن شرط الإمامة عندهم أن يكون معصوما لا يجوز عليه الغلط والخطأ والتبديل والتغيير ولا يجوز أن يكون المراد الإمام لأنه قال في نسق الخطاب( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ ) فلو كان هناك إمام مفروض الطاعة لكان الرد إليه واجبا وكان هو يقطع الخلاف والتنازع فلما أمر برد المتنازع فيه من الحوادث إلى الكتاب والسنة دون الإمام دل ذلك على بطلان قولهم في الإمامة ولو كان هناك إمام تجب طاعته لقال فردوه إلى الإمام لأن الإمام عندهم هو الذي يقضى قوله على تأويل الكتاب والسنة فلما أمر بطاعة أمراء السرايا والفقهاء وأمر برد المتنازع فيه من الحوادث إلى الكتاب والسنة دون الإمام ثبت أن الإمام غير مفروض الطاعة في أحكام الحوادث المتنازع فيها وأن لكل واحد من الفقهاء أن يردها إلى نظائرها من الكتاب والسنة* وزعمت هذه الطائفة أن المراد بقوله تعالى( وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) على بن أبى طالب رضى الله عنه وهذا تأويل فاسد لأن أولى الأمر جماعة وعلى بن أبى طالب رجل واحد وأيضا فقد كان الناس مأمورين بطاعة أولى الأمر في زمان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعلوم أن على بن أبى طالب لم يكن إماما في أيام النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فثبت أن أولى الأمر في زمان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا أمراء وقد كان المولى عليهم طاعتهم ما لم يأمروهم بمعصية. وكذلك حكمهم بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في لزوم اتباعهم وطاعتهم ما لم تكن معصية قوله تعالى( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ ) روى مجاهد وقتادة وميمون بن مهران والسدى إلى كتاب الله تعالى وسنة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال أبو بكر وذلك عموم في وجوب الرد إلى كتاب الله وسنة نبيهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في حياة النبي وبعد وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وسلم * والرد إلى الكتاب والسنة يكون من وجهين أحدهما إلى المنصوص عليه المذكور باسمه ومعناه والثاني الرد إليهما من الدلالة عليه واعتباره به من طريق القياس والنظائر وعموم اللفظ ينتظم الأمرين جميعا فوجب إذا تنازعنا في شيء رده إلى نص الكتاب والسنة إن وجدنا المتنازع فيه منصوصا على حكمه في الكتاب والسنة وإن لم نجد

١٧٨

فيه نصا منهما وجب رده إلى نظيره منهما لأنا مأمورون بالرد في كل حال إذ لم يخصص الله تعالى الأمر بالرد إليهما في حال دون حال وعلى أن الذي يقتضيه فحوى الكلام وظاهره الرد إليهما فيما لا نص فيه وذلك لأن المنصوص عليه الذي لا احتمال فيه لغيره لا يقع التنازع فيه من الصحابة مع علمهم باللغة ومعرفتهم بما فيه احتمال مما لا احتمال فيه فظاهر ذلك يقتضى رد المتنازع فيه إلى نظائره من الكتاب والسنة فإن قيل إنما المراد بذلك ترك التنازع والتسليم لما في كتاب الله وسنة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم * قيل إن ذلك خطاب للمؤمنين لأنه قال تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) فإن كان تأويله ما ذكرت فإن معناه اتبعوا كتاب الله وسنة نبيه وأطيعوا الله ورسوله وقد علمنا أن كل من آمن ففي اعتقاده للإيمان اعتقاد لالتزام حكم الله وسنة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيؤدى ذلك إلى إبطال فائدة قوله تعالى( فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ ) وعلى أن ذلك قد تقدم الأمر به في أول الآية وهو قوله تعالى( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) فغير جائز حمل مغنى قوله تعالى( فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ ) على ما قد أفاده بديا في أول الخطاب ووجب حمله على فائدة محددة وهو رد غير المنصوص عليه وهو الذي وقع فيه التنازع إلى المنصوص عليه وعلى أنا نرد جميع المتنازع فيه إلى الكتاب والسنة بحق العموم ولا نخرج منه شيئا بغير دليل* فإن قيل لما كانت الصحابة مخاطبين بحكم هذه الآية عند التنازع في حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان معلوما أنه لم يكن يجوز لهم استعمال الرأى والقياس في أحكام الحوادث بحضرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بل كان عليهم التسليم له واتباع أمره دون تكلف الرد من طريق القياس ثبت أن المراد استعمال المنصوص وترك تكلف النظر والاجتهاد فيما لا نص فيه* قيل له هذا غلط وذلك لأن استعمال الرأى والاجتهاد ورد الحوادث إلى نظائرها من المنصوص قد كان جائزا في حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فإحداهما في حال غيبتهم عن حضرته كما أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم معاذا حين بعثه إلى اليمن فقال له كيف تقضى إن عرض لك قضاء قال أقضى بكتاب الله قال فإن لم يكن في كتاب الله قال أقضى بسنة نبي الله قال فإن لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله قال اجتهد رأيى لا ألو قال فضرب بيده على صدره وقال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضى رسول الله فهذه إحدى الحالين اللتين كان يجوز الاجتهاد فيهما في حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم والحال الأخرى أن يأمره النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاجتهاد

١٧٩

بحضرته ورد الحادثة إلى نظائرها ليستبرئ حاله في اجتهاده وهل هو موضع لذلك ولكن إن أخطأ وترك طريق النظر أعلمه وسدده وكان يعلمهم وجوب الاجتهاد في أحكام الحوادث بعده فالاجتهاد بحضرته على هذا الوجه سائغ كما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا أسلم بن سهل قال حدثنا محمد بن خالد بن عبد الله قال حدثنا أبى عن حفص بن سليمان عن كثير بن شنظير عن أبى العالية عن عقبة بن عامر قال جاء خصمان إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال اقض بينهما يا عقبة قلت يا رسول الله أقضى بينهما وأنت حاضر قال اقض بينهما فإن أصبت فلك عشر حسنات وأن أخطأت فلك حسنة واحدة فأباح له النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم الاجتهاد بحضرته على الوجه الذي ذكرنا وأمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لمعاذ وعقبة بن عامر بالاجتهاد صدر عندنا عن الآية وهو قوله تعالى( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ ) لأنا متى وجدنا من النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حكما مواطئا لمعنى قد ورد به القرآن حملناه على أنه حكم به عن القرآن وأنه لم يكن حكما مبتدأ من النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كنحو قطعه السارق وجلده الزاني وما جرى مجراهما فقول القائل إن الاجتهاد في أحكام الحوادث لم يكن سائغا في زمن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأن رد المتنازع فيه إلى الكتاب والسنة كان واجبا حينئذ فدل على أن المراد به ترك الاختلاف والتنازع والتسليم للمنصوص عليه في الكتاب والسنة غير صحيح وأما الحال التي لم يكن يسوغ الاجتهاد فيها في حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو أن يجتهد بحضرته على جهة إمضاء الحكم والاستبداد بالرأى لا على الوجه الذي قدمناه فهذا لعمري اجتهاد مطرح لا حكم له ولم يسوغ ذلك لأحد والله أعلم.

باب طاعة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم

قال الله تعالى( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) وقال تعالى( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ ) وقال تعالى( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ) وقال تعالى( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) فأكد جل وعلا بهذه الآيات وجوب طاعة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبان أن طاعته إطاعة الله وأفاد بذلك أن معصيته معصية الله وقال الله تعالى( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) فأوعد على مخالفة أمر الرسول وجعل مخالف أمر الرسول والممتنع من تسليم ما جاء به والشاك فيه خارجا من الإيمان

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388