الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-6632-49-1
الصفحات: 543

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

ISBN: 964-6632-49-1
الصفحات: 543
المشاهدات: 67658
تحميل: 5997


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 543 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 67658 / تحميل: 5997
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 1

مؤلف:
ISBN: 964-6632-49-1
العربية

قضاء الصلاة ـ غير معفوّة عن قضاء الصوم.

والعبارة الأخيرة من الآية تقول :( وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) لتكبروه على ما وفّر لكم من سبل الهداية ، ولتشكروه على ما أنعم عليكم.

الشكر في الآية مسبوق بكلمة «لعلّ» ، لكن التكبير مؤكد بشكل قاطع غير مسبوق بترجّ. وقد يعود الاختلاف في التعبير إلى أن عبادة (الصوم) هي على كل حال تكبير لله وتعظيم له سبحانه ، أما الشكر ـ وهو إنفاق النعم في مواضعها والاستفادة من الآثار العملية للصوم ـ فله شروط أهمها الإخلاص التام ، وفهم حقيقة الصوم ، والاطلاع على أبعاده وأعماقه.

* * *

بحوث

1 ـ الآثار التّربوية والاجتماعية والصحّيّة للصوم

للصوم أبعاد متعددة وآثار غزيرة مادية ومعنوية في وجود الإنسان ، وأهمها البعد الأخلاقي ، التّربوي.

من فوائد الصوم الهامة «تلطيف» روح الإنسان ، و «تقوية» إرادته ، و «تعديل» غرائزه.

على الصائم أن يكف عن الطعام والشراب على الرغم من جوعه وعطشه ، وهكذا عليه أن يكف عن ممارسة العمل الجنسي ، ليثبت عمليا أنه ليس بالحيوان الأسير بين المعلف والمضجع ، وأنه يستطيع أن يسيطر على نفسه الجامحة وعلى أهوائه وشهواته.

الأثر الروحي والمعنوي للصوم يشكل أعظم جانب من فلسفة هذه العبادة.

مثل الإنسان الذي يعيش إلى جوار أنواع الأطعمة والأشربة ، لا يكاد يحس

٥٢١

بجوع أو عطش حتى يمدّ يده إلى ما لذّ وطاب كمثل شجرة تعيش إلى جوار نهر وفير المياه ، ما إن ينقطع عنها الماء يوما حتى تذبل وتصفرّ.

أما الأشجار التي تنبت بين الصخور وفي الصحاري المقفرة ، وتتعرض منذ أوائل إنباتها إلى الرياح العاتية ، وحرارة الشمس المحرقة حينا ، وبرودة الجوّ القارصة حينا آخر ، وتواجه دائما أنواع التحديات ، فإنها أشجار قوية صلبة مقاومة.

والصوم له مثل هذا الأثر في نفس الإنسان ، فبهذه القيود المؤقتة يمنحه القدرة وقوة الإرادة وعزيمة الكفاح ، كما يبعث في نفسه النور والصفاء بعد أن يسيطر على غرائزه الجامحة.

بعبارة موجزة : الصوم يرفع الإنسان من عالم البهيمية إلى عالم الملائكة وعبارة( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) تشير إلى هذه الحقائق.

وهكذا الحديث المعروف : «الصّوم جنّة من النّار»(1) يشير إلى هذه الحقائق.

وعن عليعليه‌السلام عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه سئل عن طريق مجابهة الشيطان ، قال:«الصّوم يسوّد وجهه ، والصّدقة تكسر ظهره ، والحبّ في الله والمواظبة على العمل الصّالح يقطع دابره ، والاستغفار يقطع وتينه»(2) .

وفي نهج البلاغة عرض لفلسفة العبادات ، وفيه يقول أمير المؤمنين عليعليه‌السلام : «والصّيام ابتلاء لإخلاص الخلق»(3) .

وروي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ للجنّة بابا يدّعى الرّيّان ، لا يدخل فيها إلّا الصّائمون».

يقول المرحوم الصدوق في «معاني الأخبار» معلقا على هذا الحديث : إنما سمي هذا الباب بالريّان لأن مشقة الصائم إنما تكون في الأغلب من العطش ،

__________________

(1) بحار الأنوار ، ج 96 ، ص 256.

(2) بحار الأنوار ، ج 96 ، ص 255.

(3) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، رقم 252.

٥٢٢

وعند ما يدخل الصائمون من هذا الباب يرتوون حتى لا يظمأوا بعده أبدا(1) .

الأثر الاجتماعي للصوم لا يخفى على أحد. فالصوم درس المساواة بين أفراد المجتمع. الموسرون يحسّون بما يعانيه الفقراء المعسرون ، وعن طريق الاقتصاد في استهلاك المواد الغذائية يستطيعون أن يهبوا لمساعدتهم.

قد يمكن تحسيس الأغنياء بما يعانيه الفقراء عن طريق الكلام والخطابة ، لكن المسألة حين تتخذ طابعا حسّيّا عينيّا لها التأثير الأقوى والأبلغ. الصوم يمنح هذه المسألة الهامة الاجتماعية لونا حسيا ، لذلك

يقول الإمام الصادقعليه‌السلام في جواب عن سؤال بشأن علّة الصوم : «إنّما فرض الله الصّيام ليستوي به الغنيّ والفقير ، وذلك إنّ الغنيّ لم يكن ليجد مسّ الجوع فيرحم الفقير ، وإنّ الغنيّ كلّما أراد شيئا قدر عليه فأراد الله تعالى أن يسوّي بين خلقه ، وأن يذيق الغنيّ مسّ الجوع والألم ، ليرقّ على الضّعيف ويرحم الجائع»(2) .

ترى ، لو أن الدول الغنية في العالم صامت عدّة أيّام في السنة وذاقت مرارة الجوع ، فهل يبقى في العالم كل هذه الشعوب الجائعة؟!

الآثار الصحية للصوم

أهمية «الإمساك» في علاج أنواع الأمراض ثابتة في الطب القديم والحديث.

البحوث الطبية لا تخلو عادة من الحديث عن هذه المسألة ، لأن العامل في كثير من الأمراض الإسراف في تناول الأطعمة المختلفة. المواد الغذائية الزائدة تتراكم في الجسم على شكل مواد دهنية ، وتدخل هي والمواد السكرية في الدم ، وهذه المواد الزائدة وسط صالح لتكاثر أنواع الميكروبات والأمراض ، وفي هذه الحالة يكون الإمساك أفضل طريق لمكافحة هذه الأمراض ، وللقضاء على هذه المزابل

__________________

(1) بحار الأنوار ، ج 96 ، ص 252.

(2) وسائل الشيعة ، ج 7 ، أول كتاب الصوم ، ص 3.

٥٢٣

المتراكمة في الجسم.

الصوم يحرق الفضلات والقمامات المتراكمة في الجسم ، وهو في الواقع عملية تطهير شاملة للبدن ، إضافة إلى أنه استراحة مناسبة لجهاز الهضم وتنظيف له ، وهذه الاستراحة ضرورية لهذا الجهاز الحساس للغاية ، والمنهمك في العمل طوال أيام السنة.

بديهي أن الصائم ينبغي أن لا يكثر من الطعام عند «الإفطار» و «السّحور» حسب تعاليم الإسلام ، كي تتحقق الآثار الصحية لهذه العبادة ، وإلّا فقد تكون النتيجة معكوسة.

العالم الروسي «الكسي سوفورين» يقول في كتابه : «الصوم سبيل ناجح في علاج أمراض فقر الدم ، وضعف الأمعاء ، والالتهابات البسيطة والمزمنة ، والدمامل الداخلية والخارجية ، والسل ، والاسكليروز ، والروماتيزم ، والنقرس والاستسقاء ، وعرق النساء ، والخراز (تناثر الجلد) ، وأمراض العين ، ومرض السكر ، وأمراض الكلية ، والكبد والأمراض الاخرى.

العلاج عن طريق الإمساك لا يقتصر على الأمراض المذكورة ، بل يشمل الأمراض المرتبطة بأصول جسم الإنسان وخلاياه مثل السرطان والسفليس ، والسل والطاعون أيضا»(1) .

عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «صوموا تصحّوا»(2) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا : «المعدة بيت كلّ داء والحميّة رأس كلّ دواء»(3) .

2 ـ الصوم في الأمم السابقة

يظهر من النصوص الموجودة في التوراة والإنجيل ، أن الصوم كان موجودا

__________________

(1) كتاب «الصوم طريقة حديثة لعلاج الأمراض» ، ص 65 ، الطبعة الاولى.

(2) بحار الأنوار ، ج 96 ، ص 255.

(3) بحار الأنوار ، ج 14 ، من الطبعة القديمة.

٥٢٤

بين اليهود والنصارى ، وكانت الأمم الاخرى تصوم في أحزانها ومآسيها ، فقد ورد في «قاموس الكتاب المقدس» : «الصوم بشكل عام وفي جميع الأوقات كان متداولا في أوقات الأحزان والنوائب بين جميع الطوائف والملل والمذاهب»(1) .

ويظهر من التوراة أن موسىعليه‌السلام صام أربعين يوما ، فقد جاء فيها : «أقمت في الجبل أربعين نهارا وأربعين ليلة لا آكل خبزا ولا أشرب ماء»(2) .

وكان اليهود يصومون لدى التوبة والتضرع إلى الله : «اليهود كانوا يصومون غالبا حينما تتاح لهم الفرصة للإعراب عن عجزهم وتواضعهم أمام الله ، ليعترفوا بذنوبهم عن طريق الصوم والتوبة ، وليحصلوا على رضا حضرة القدس الإلهي»(3) .

«الصوم الأعظم مع الكفارة كان على ما يبدو خاصا بيوم من أيام السنة بين طائفة اليهود ، طبعا كانت هناك أيام اخرى مؤقتة للصوم بمناسبة ذكرى تخريب أورشليم وغيرها»(4) .

السيد المسيحعليه‌السلام صام أيضا أربعين يوما كما يظهر من «الإنجيل» : «ثم اصعد يسوع إلى البرية من الروح ليجرّب من إبليس فبعد ما صام أربعين نهارا وأربعين ليلة جاع أخيرا»(5) .

ويبدو من نصوص إنجيل «لوقا» أن حواريّي السيد المسيح صاموا أيضا(6) .

وجاء في قاموس الكتاب المقدس أيضا : «... من هنا كانت حياة الحوارييّن والمؤمنين مملوءة بالابتعاد عن اللذات وبالأتعاب وبالصوم»(7) .

بهذا نستطيع أن نجد في نصوص الكتب الدينية القديمة (حتى بعد تحريفها) شواهد على ما جاء في القرآن الكريم( كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) .

__________________

(1) قاموس الكتاب المقدس ، ص 427.

(2) التوراة ، سفر التثنية ، الفصل 9 ، الرقم 9.

(3) قاموس الكتاب المقدس ، ص 428.

(4) نفس المصدر.

(5) إنجيل متى ، الإصلاح الرابع ، الرقم 1 و 2.

(6) إنجيل لوقا ، الإصحاح الخامس ، الرقم 35 ـ 33.

(7) قاموس الكتاب المقدس ، ص 428.

٥٢٥

3 ـ امتياز شهر رمضان

هذا الشهر ـ إنما اختير شهرا للصوم ـ لأنه يمتاز عن بقية الشهور. والقرآن الكريم بيّن مزية هذا الشهر في الآية الكريمة بأنه( الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) أي القرآن الذي يفصل الصالح عن الطالح ويضمن سعادة البشرية. وفي الروايات الإسلامية أن كل الكتب السماوية :«التوراة» و «الإنجيل» و «الزبور» و «الصحف» و «القرآن» نزلت في هذا الشهر(1) . فهو إذن شهر تربية وتعليم ، لأن التربية غير ممكنة دون تعليم صحيح ، ومنهج الصوم التربوي يجب أن يكون مرافقا لوعي عميق منطلق من تعاليم السماء لتطهير الإنسان من كل أثم.

في آخر جمعة من شهر شعبان ، ألقى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطبة أعدّ فيها المسلمين لاستقبال شهر رمضان المبارك قال فيها : «أيّها النّاس إنّه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرّحمة والمغفرة ، شهر هو عند الله أفضل الشّهور ، وأيّامه أفضل الأيّام ، ولياليه أفضل اللّيالي ، وساعاته أفضل السّاعات ، هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله ، وجعلتم فيه من أهل كرامة الله. أنفاسكم فيه تسبيح ، ونومكم فيه عبادة ، وعملكم فيه مقبول ، ودعاؤكم فيه مستجاب فاسألوا الله ربّكم بنيّات صادقة ، وقلوب طاهرة أن يوفّقكم لصيامه وتلاوة كتابه ، فإنّ الشّقيّ من حرم غفران الله في هذا الشّهر العظيم ، واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه ، وتصدّقوا على فقرائكم ومساكينكم ، ووقّروا كباركم ، وارحموا صغاركم ، وصلوا أرحامكم ، واحفظوا ألسنتكم ، وغضّوا عمّا لا يحلّ النّظر إليه أبصاركم ، وعمّا لا يحلّ الاستماع إليه أسماعكم ، وتحنّنوا على أيتام النّاس يتحنّن على أيتامكم ...»(2) .

4 ـ قاعدة «لا حرج»

آيات بحثنا فيها إشارة إلى أن الله يريد بالنّاس اليسر ولا يريد بهم العسر ،

__________________

(1) وسائل الشيعة ، ج 7 ، أبواب أحكام شهر رمضان ، الباب 18 ، الحديث 16.

(2) وسائل الشّيعة ، ج 7 ، الباب 18 من أبواب أحكام شهر رمضان ، ح 20.

٥٢٦

وهذه الإشارة تدور طبعا هنا حول موضوع الصوم وفوائده وحكم المسافر والمريض ، لكن أسلوبها العام يجعلها قاعدة تشمل كل الأحكام الإسلامية ، ويصيّر منها سندا لقاعدة «لا حرج» المعروفة.

هذه القاعدة تقول : لا تقوم قوانين الإسلام على المشقة ، وإن أدّى حكم إسلامي إلى حرج ومشقة ، فإنه يرفع عنه مؤقتا ، ولذلك أجاز الفقهاء التيمّم لمن يشق عليه الوضوء، والصلاة جلوسا لمن يشق عليه الوقوف.

وفي موضع آخر من القرآن الكريم ، يقول سبحانه :( هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (1) .

وعن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «بعثت على الشّريعة السّمحة السّهلة».

* * *

__________________

(1) الحج ، 78.

٥٢٧

الآية

( وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) )

سبب النّزول

سأل رجل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الله سبحانه ، أهو قريب ليناجيه بصوت خفي أم بعيد ليدعوه بصوت مرتفع؟ فنزلت الآية(1) .

التّفسير

سلاح اسمه الدعاء

بعد أن ذكرت الآيات السابقة مجموعة هامّة من الأحكام الإسلامية ، تناولت هذه الآية موضوع الدعاء باعتباره أحد وسائل الارتباط بين العباد والمعبود سبحانه. ومجيء هذه الآية في سياق الحديث عن الصوم ، يعطيه مفهوما جديدا ، إذ أن الدعاء والتقرب إلى الله روح كل عبادة.

هذه الآية تخاطب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتقول :( وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ) .

__________________

(1) مجمع البيان ، في تفسير الآية.

٥٢٨

إنه أقرب ممّا تتصورون ، أقرب منكم إليكم ، بل( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيد ) (1) .

ثم تقول الآية :( أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ ) .

إذن( فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي ، وَلْيُؤْمِنُوا بِي ، لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) .

ويلفت النظر في الآية ، أن الله سبحانه أشار إلى ذاته المقدسة سبع مرات ، وأشار إلى عباده سبعا! مجسدا بذلك غاية لطفه وقربه وارتباطه بعباده.

روى عبد الله بن سنان عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال : «الدّعاء يردّ القضاء بعد ما أبرم إبراما فأكثر من الدّعاء فإنّه مفتاح كلّ رحمة ونجاح كلّ حاجة ولا ينال ما عند اللهعزوجل إلّا بالدّعاء وإنّه ليس باب يكثر قرعه إلّا يوشك أن يفتح لصاحبه»(2) .

نعم ، إنه قريب منّا ، وكيف يبتعد وهو سبحانه( يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ) (3) .

* * *

بحوث

1 ـ فلسفة الدعاء

أولئك الجاهلون بحقيقة الدعاء وآثاره التربويّة والنفسية ، يطلقون أنواع التشكيك بشأن الدعاء.

يقولون : الدعاء عامل مخدّر ، لأنه يصرف النّاس عن الفعّالية والنشاط وعن تطوير الحياة ، ويدفعهم بدلا من ذلك إلى التوسّل بعوامل غيبية.

ويقولون : إن الدعاء تدخّل في شؤون الله ، والله يفعل ما يريد ، وفعله منسجم مع مصالحنا ، فما الداعي إلى الطلب منه والتضرّع إليه؟!

__________________

(1) ق ، 16.

(2) أصول الكافي ، ج 2 ، كتاب الدعاء (باب إن الدعاء يرد البلاء) ، الحديث 7.

(3) الأنفال ، 24.

٥٢٩

ويقولون أيضا : إنّ الدعاء يتعارض مع حالة الإنسان الراضي بقضاء الله المستسلم لإرادته سبحانه!

هؤلاء ـ كما ذكرنا ـ يطلقون هذا التشكيك لجهلهم بالآثار التربوية والنفسية والاجتماعية للدعاء ، فالإنسان بحاجة أحيانا إلى الملجأ الذي يلوذ به في الشدائد ، والدعاء يضيء نور الأمل في نفس الإنسان.

من يبتعد عن الدعاء يواجه صدمات عنيفة نفسية واجتماعية. وعلى حد تعبير أحد علماء النفس المعروفين : «ابتعاد الامّة عن الدعاء يعني سقوط تلك الامّة! المجتمع الذي قمع في نفسه روح الحاجة إلى الدعاء سوف لا يبقى مصونا عادة من الفساد والزوال.

ومن نافلة القول أنه من العبث الاكتفاء بالدعاء لدى الصباح وقضاء بقية اليوم كالوحش الكاسر ، لا بدّ من مواصلة الدعاء ، ومن اليقظة المستمرة ، كي لا يزول أثره العميق من نفس الإنسان».(1)

وأولئك الذين يصفون الدعاء بأنه تخديري لم يفهموا معنى الدعاء ، لأن الدعاء لا يعني ترك العلل والوسائل الطبيعية واللجوء بدلها إلى الدعاء ، بل المقصود أن نبذل نهاية جهدنا للاستفادة من كل الوسائل الموجودة ، بعد ذلك إن انسدت أمامنا الطرق ، وأعيتنا الوسيلة ، نلجأ إلى الدعاء ، وبهذا اللجوء إلى الله يحيى في أنفسنا روح الأمل والحركة ، ونستمد من عون المبدأ الكبير سبحانه.

الدعاء إذن لا يحل محل العوامل الطبيعية.

«الدعاء ـ إضافة إلى قدرته في بث الطمأنينة في النفس ـ يؤدي إلى نوع من النشاط الدماغي في الإنسان ، وإلى نوع من الإنشراح والانبساط الباطني وأحيانا إلى تصعيد روح البطولة والشجاعة فيه. الدعاء يتجلى بخصائص مشخصة فريدة

__________________

(1) الدعاء ، الطبيب وعالم النفس الشهير «الكسيس كاريل».

٥٣٠

... صفاء النظرة ، وقوة الشخصية ، والإنشراح والسرور ، والثقة بالنفس ، والاستعداد للهداية ، واستقبال الحوادث بصدر رحب ، كل هذه مظاهر لكنز عظيم دفين في نفوسنا. وانطلاقا من هذه القوّة يستطيع حتى الأفراد المتخلفون أن يستثمروا طاقاتهم العقلية والأخلاقية بشكل أفضل ، وأكثر. لكن الأفراد الذين يفهمون الدعاء حق فهمه قليلون جدا ـ مع الأسف ـ في عالمنا اليوم»(1) .

ممّا تقدم نفهم الرد على من يقول أن الدعاء يخالف روح الرضا والتسليم ، لأن الدعاء ـ ما ذكرنا ـ نوع من كسب القابلية على تحصيل سهم أكبر من فيض الله اللامتناهي.

بعبارة اخرى : الإنسان ينال بالدعاء لياقة أكبر للحصول على فيض الباري تعالى. وواضح أن السعي للتكامل ولكسب مزيد من اللياقة هو عين التسليم أمام قوانين الخليقة ، لا عكس ذلك.

أضف إلى ذلك ، الدعاء نوع من العبادة والخضوع والطاعة ، والإنسان ـ عن طريق الدعاء ـ يزداد ارتباطا بالله تعالى ، وكما أن كلّ العبادات ذات أثر تربوي كذلك الدّعاء له مثل هذا الأثر.

والقائلون أن الدعاء تدخّل في أمر الله وأن الله يفعل ما يشاء ، لا يفهمون أن المواهب الإلهية تغدق على الإنسان حسب استعداده وكفاءته ولياقته ، وكلّما ازداد استعداده ازداد ما يناله من مواهب.

لذلكيقول الإمام الصادقعليه‌السلام : «إنّ عند اللهعزوجل منزلة لا تنال إلّا بمسألة»(2) .

ويقول أحد العلماء : «حينما ندعو فإننا نربط أنفسنا بقوة لا متناهية تربط جميع الكائنات مع بعضها»(3) .

__________________

(1) الدعاء للكسيس كاريل.

(2) أصول الكافي ، ج 2 ، ص 338 ، باب فضل الدعاء والحثّ عليه ، حديث 3.

(3) آئين زندگي (فارسي) ، ص 156.

٥٣١

ويقول : «إنّ أحدث العلوم الإنسانية ـ أعني علم النفس ـ يعلّمنا نفس تعاليم الأنبياء،لماذا؟ لأن أطباء النفسانيين أدركوا أن الدعاء والصلاة والإيمان القوي بالدين يزيل عوامل القلق والاضطراب والخوف والهيجان الباعثة على أكثر أمراضنا»(1) .

2 ـ المفهوم الحقيقي للدعاء

علمنا أنّ الدعاء إنّما يكون فيما خرج عن دائرة قدرتنا ، بعبارة اخرى الدعاء المستجاب هو ما صدر لدى الاضطرار وبعد بذل كل الجهود والطاقات( أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ) (2) . يتضح من ذلك أن مفهوم الدعاء طلب تهيئة الأسباب والعوامل الخارجة عن دائرة قدرة الإنسان ، وهذا الطلب يتجه به الإنسان إلى من قدرته لا متناهية ومن يهون عليه كل أمر.

هذا الطلب طبعا يجب أن لا يصدر من لسان الإنسان فقط ، بل من جميع وجوده ، واللسان ترجمان جميع ذرات وجود الإنسان وأعضائه وجوارحه.

يرتبط القلب والروح بالله عن طريق الدعاء ارتباطا وثيقا ، ويكتسبان القدرة عن طريق اتصالهما المعنوي بالمبدأ الكبير ، كما تتصل القطرة من الماء بالبحر الواسع العظيم.

جدير بالذكر أن هناك نوعا آخر من الدعاء يردّده المؤمن حتى فيما اقتدر عليه من الأمور ، ليعبّر به عن عدم استقلال قدرته عن قدرة الباري تعالى ، وليؤكد أن العلل والعوامل الطبيعية إنما هي منه سبحانه ، وتحت إمرته. فإن بحثنا عن الدواء لشفاء دائنا ، فإنّما نبحث عنه لأنّه سبحانه أودع في الدواء خاصية الشفاء (هذا نوع آخر من الدعاء أشارت إليه الروايات الإسلامية أيضا).

__________________

(1) ن. م. ص 152.

(2) النمل ، 62.

٥٣٢

بعبارة موجزة : الدعاء نوع من التوعية وإيقاظ القلب والعقل ، وارتباط داخلي بمبدإ كل لطف وإحسان ، لذلك نرى أمير المؤمنين علياعليه‌السلام يقول : «لا يقبل اللهعزوجل دعاء قلب لاه»(1) .

وعن الإمام الصادقعليه‌السلام : «إنّ اللهعزوجل لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساه»(2) .

3 ـ شروط استجابة الدعاء

دراسة شروط استجابة الدعاء توضّح لنا كثيرا من الحقائق الغامضة في مسألة الدعاء ، وتبين لنا آثاره البناءة ، والروايات الإسلامية تذكر شروطا لاستجابة الدعاء منها :

1 ـ ينبغي لمن يدعو أن يسعى أولا لتطهير قلبه وروحه ، وأن يتوب من الذنب ، وأن يقتدي بحياة قادة البشرية الإلهيين.

عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «إيّاكم أن يسأل أحدكم ربّه شيئا من حوائج الدّنيا والاخرة حتّى يبدأ بالثّناء على الله ، والمدحة له والصّلاة على النّبّي وآله ، والاعتراف بالذّنب، ثمّ المسألة»(3) .

2 ـ أن يسعى الداعي إلى تطهير أمواله من كل غصب وظلم ، وأن لا يكون طعامه من حرام.

عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من أحبّ أن يستجاب دعاؤه فليطب مطعمه ومكسبه»(4) .

3 ـ أن لا يفترق الدعاء عن الجهاد المستمرّ ضدّ كل ألوان الفساد ، لأنّ الله لا يستجيب ممن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر ، أو ليسلّطنّ الله شراركم على خياركم فيدعو خياركم فلا

__________________

(1) أصول الكافي ، ج 2 ، ص 342 ، باب الإقبال على الدعاء ، الحديث 1.

(2) نفس المصدر.

(3) سفينة البحار ، ج 1 ، ص 448 و 449.

(4) نفس المصدر.

٥٣٣

يستجاب لهم»(1) .

ترك هذه الفريضة الإلهية (فريضة المراقبة الاجتماعية) يؤدي إلى خلوّ الساحة الاجتماعية من الصالحين ، وتركها للمفسدين ، وعند ذاك لا أثر للدعاء ، لأن هذا الوضع الفاسد نتيجة حتمية لأعمال الإنسان نفسه.

4 ـ العمل بالمواثيق الإلهية ، الإيمان والعمل الصالح والأمانة والصلاح من شروط استجابة الدعاء ، فمن لم يف بعهده أمام بارئه لا ينبغي أن يتوقع من الله استجابة دعائه.

جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليعليه‌السلام ، وشكا له عدم استجابة دعائه ، فقال الإمام:«إنّ قلوبكم خانت بثمان خصال :

أوّلها : إنّكم عرفتم الله فلم تؤدّوا حقّه كما أوجب عليكم ، فما أغنت عنكم معرفتكم شيئا.

والثانية : إنّكم آمنتم برسوله ثمّ خالفتم سنّته ، وأمتّم شريعته فأين ثمرة إيمانكم؟! والثّالثة : إنّكم قرأتم كتابه المنزل عليكم فلم تعملوا به ، وقلتم سمعنا وأطعنا ثمّ خالفتم!

والرّابعة : إنّكم قلتم تخافون من النّار ، وأنتم في كلّ وقت تقدمون إليها بمعاصيكم فأين خوفكم؟!

والخامسة : إنّكم قلتم ترغبون في الجنّة ، وأنتم في كلّ وقت تفعلون ما يباعدكم منها فأين رغبتكم فيها؟

والسّادسة : إنّكم أكلتم نعمة المولى فلم تشكروا عليها!

والسّابعة : إنّ الله أمركم بعداوة الشّيطان ، وقال :( إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ) ، فعاديتموه بلا قول ، وواليتموه بلا مخالفة.

والثّامنة : إنّكم جعلتم عيوب النّاس نصب أعينكم وعيوبكم وراء ظهوركم تلومون

__________________

(1) نفس المصدر السابق.

٥٣٤

من أنتم أحقّ باللوم منه فأيّ دعاء يستجاب لكم مع هذا ، وقد سددتم أبوابه وطرقه؟ فاتّقوا الله وأصلحوا أعمالكم وأخلصوا سرائركم وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر فيستجيب الله لكم دعاءكم»(1) .

هذا الحديث يقول بصراحة : إن وعد الله باستجابة الدعاء وعد مشروط لا مطلق. مشروط بتنفيذ المواثيق الإلهية ، وإن عمل الإنسان بهذه المواثيق الثمانية المذكورة فله أن يتوقع استجابة الدعاء ، وإلّا فلا.

العمل بالأمور الثمانية المذكورة باعتبارها شروطا لاستجابة الدعاء كاف لتربية الإنسان ولاستثمار طاقاته على طريق مثمر بنّاء.

5 ـ من الشروط الاخرى لاستجابة الدعاء العمل والسعي ، عن عليعليه‌السلام :«الدّاعي بلا عمل كالرّامي بلا وتر»(2) .

الوتر بحركته يدفع السهم نحو الهدف ، وهكذا دور العمل في الدعاء.

من مجموع شروط الدعاء المذكورة نفهم أن الدعاء لا يغنينا عن التوسل بالعوامل الطبيعية ، بل أكثر من ذلك يدفعنا إلى توفير شروط استجابة الدعاء في أنفسنا ، ويحدث بذلك تغييرا كبيرا في حياة الإنسان وتجديدا لمسيرته ، وإصلاحا لنواقصه.

أليس من الجهل أن يصف شخص الدعاء بهذا المنظار الإسلامي أنه مخدّر؟!

* * *

__________________

(1) نفس المصدر.

(2) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، رقم 337.

٥٣٥

الآيتان

( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) )

سبب النّزول

روي أن الأكل كان محرّما في شهر رمضان بالليل بعد النوم ، وكان النكاح حراما بالليل والنهار في شهر رمضان. وكان رجل من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقال له مطعم بن جبير شيخا ضعيفا ، وكان صائما ، فأبطأت عليه أهله بالطعام فنام قبل أن يفطر ، فلما انتبه قال لأهله : قد حرّم عليّ الأكل في هذه الليلة.

فلما أصبح حضر حفر الخندق فأغمي عليه ، فرآه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرقّ له.

وكان قوم من الشباب ينكحون بالليل سرّا في شهر رمضان ، فأنزل الله هذه

٥٣٦

الآية فأحلّ النّكاح بالليل في شهر رمضان ، والأكل بعد النوم إلى طلوع الفجر(1) .

التّفسير

رخصة في أحكام الصّوم

مرّ بنا في سبب نزول الآية أن النكاح كان محرّما في ليالي شهر رمضان إضافة إلى نهاره، وأن الأكل والشرب كانا محرمين في الليل أيضا بعد النوم ، ولعل ذلك كان اختبارا للجيل الإسلامي الأوّل وإعدادا له كي يتقبل أحكام الصوم الثابتة.

الآية الكريمة تتضمن أربعة أحكام إسلامية في حقل الصوم والاعتكاف.

تقول أولا :( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ ) (2) ( إِلى نِسائِكُمْ ) .

ثم تذكر الآية سبب الحكم فتقول :( هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ ، لَهُنَ ) .

واللباس يحفظ الجسم من الحر والبرد وأنواع الأخطار من جهة ، ويستر عيوب الجسم من جهة اخرى ، أضف إلى أنه زينة للإنسان ، وتشبيه الزوج باللباس يشمل كل هذه الجوانب.

الزوجان يحفظ كل منهما الآخر من الانحراف والعيوب ، ويوفّر كل منهما سبل الراحة والطمأنينة للآخر ، وكل منهما زينة للآخر.

هذا التعبير يوضّح غاية الارتباط المعنوي بين الرجل والمرأة ومساواتهما في هذا المجال ، فالتعبير جاء للرجل كما جاء للمرأة بدون تغيير.

ثم يبين القرآن سبب تغيير هذا القانون الإلهي ويقول :( عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ ) .

فالله سبحانه وسّع عليكم الأمر وخفّفه ، وجعل فيه رخصة بلطفه ورحمته ، كي

__________________

(1) مجمع البيان ، في تفسير الآية.

(2) الرفث : هو الحديث المكشوف عن المسائل الجنسية ، واستعير لمعنى الجماع كما في الآية.

٥٣٧

لا تتلوثوا بالذنوب.

( فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ ) .

وهذا الأمر لا يعني طبعا الوجوب ، بل هو رخصة بعد المنع ، أو هو بتعبير الأصوليين«الأمر عقيب الخطر» ، ويدل على الجواز.

عبارة( وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ ) إشارة إلى أن الاستفادة من هذه الرخصة الكائنة في مسير قوانين الخلقة وحفظ النظام وبقاء النسل لا مانع فيها.

ثمّ تبيّن الآية الحكم الثاني وتقول :( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ) .

للمسلم ـ إذن ـ أن يأكل ويشرب في الليل ، حتى إذا طلع الفجر يمسك.

وتبين الآية الحكم الثالث :( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) .

هذه الجملة تأكيد على حظر الأكل والشرب والنكاح في أيّام شهر رمضان للصائمين، وتشير إلى أن الحظر يبدأ من طلوع الفجر وينتهي عند الليل.

تطرح الآية بعد ذلك الحكم الرّابع وتقول :( وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ ) .

هذا الحكم يرتبط بالاعتكاف ، وهو شبيه بالاستثناء من الحكم السابق ، ففي الاعتكاف الذي لا تقلّ مدّته عن ثلاثة أيّام ، لا يحق للمعتكف الصائم أن يباشر زوجته لا في الليل ولا في النهار.

في ختام الآية عبارة تشير إلى كل ما ورد فيها من أحكام تقول :( تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها ) لأن الاقتراب من الحدود يبعث على الوسوسة ، وقد يدفع الإنسان إلى تجاوز الحدود والوقوع في الذنب.

نعم ،( كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) .

* * *

٥٣٨

بحوث

1 ـ الحدود الإلهية :

بعد أن ذكرت الآية الكريمة بعض أحكام الصوم والاعتكاف ، عبّرت عن هذه الأحكام بالحدود الإلهية ، وهي الحدود بين الحلال والحرام بين الممنوع والمباح. ومن الملفت للنظر أن الآية لم تقل لا تتجاوزوا هذه الحدود ، بل قالت :( فَلا تَقْرَبُوها ) ، لأن الاقتراب منها يؤدي إلى إثارة الوساوس ، وقد يؤدي أحيانا إلى تجاوز هذه الحدود.

لذلك نهى الإسلام عن الولوج في مناطق تؤدي إلى انزلاق الإنسان في المحرمات،كالنهي مثلا عن الاشتراك في مجالس شرب الخمر حتى مع عدم التلوث بالخمرة، أو النهي عن الاختلاء بالمرأة الأجنبية.

هذا النهي ورد في النصوص الإسلامية تحت عنوان «حماية الحمى».

ورد عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ حمى الله محارمه ، فمن يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه»(1) .

من هنا فالمتقون لا يجنّبون أنفسهم الوقوع في المحرمات فحسب ، بل يسعون إلى عدم الاقتراب من حافّة الحرام.

2 ـ الاعتكاف :

العكوف والاعتكاف أصله اللزوم ، يقال : عكفت بالمكان ، أي أقمت به ملازما له ، وهو في الشرع اللبث في المساجد للعبادة ، وأقلّه ثلاثة أيّام يصوم خلالها المعتكف ويكفّ عن بعض المباحات.

هذه العبادة لها الأثر العميق على تصفية الروح والقرب من الله ، وذكرت كتب الفقه آدابها وشروطها ، هذه العبادة مستحبة ، وقد تتخذ أحيانا في ظروف استثنائية

__________________

(1) تفسير الصافي ، فى تفسير الآية المذكورة.

٥٣٩

طابع الوجوب. في الآية التي نبحث فيها ورد ذكر أحد شروط الاعتكاف وهو حظر النكاح ليلا ونهارا ، وهذه الإشارة جاءت لارتباطها بمسألة الصوم.

3 ـ طلوع الفجر :

الفجر في الأصل شقّ الشيء شقا واسعا ، وسمّي الصبح فجرا لأنه فجر الليل.

وعبّرت الآية عن الفجر أيضا بأسلوب( حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ) . ومن الظريف أن «عدي بن حاتم» قال للنبي : إني وضعت خيطين من شعر أبيض وأسود فكنت أنظر فيهما فلا يتبين لي ، فضحك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى رؤيت نواجذه ثم قال : «يا ابن حاتم إنّما ذلك بياض النّهار وسواد اللّيل فابتداء الصّوم من هذا الوقت»(1) .

وهذا التعبير يوضّح أيضا الفرق بين الصبح الصادق والصبح الكاذب : لأنّ الفجر فجران : الفجر الكاذب وهو على شكل عمود من الضوء يظهر في السماء كذنب السرحان (الثعلب) ، وبعده يظهر الفجر الصادق وهو بياض شفّاف أفقي يظهر في أفق السماء كخيط أبيض يظهر إلى جوار الخيط الأسود. وهذا هو الصبح الصادق وبه يتعلق حكم الصوم والصلاة. ولا يشبه الفجر الكاذب.

4 ـ التقوى ، هي الأوّل والآخر : في أوّل آية ترتبط بأحكام الصوم ورد ذكر التقوى على أنها الهدف النهائي للصوم ، وفي آخر آية أيضا وردت عبارة( لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) وهذا يؤكد أن كل مناهج الإسلام وسيلة لتربية الروح والتقوى والفضيلة والإرادة والإحساس بالمسؤولية.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

__________________

(1) مجمع البيان ، في تفسير الآية.

٥٤٠