الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل8%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 710

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 710 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 179079 / تحميل: 6434
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

جسمي نسبي».

ثمّ بعد أن يأمر الله سبحانه ـ بصراحة ـ في مطلع الآية بأن تعطى للنساء مهورهن كاملة ودون نقصان حفظا لحقوقهنّ ، يعمد في ذيل هذه الآية إلى بيان ما من شأنه احترام مشاعر كلا الطرفين ، ومن شأنه تقوية أواصر الودّ والمحبّة والعلاقة القلبية ، وكسب العواطف إذ يقول :( فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً ) أي لو تنازلت الزوجة عن شيء من المهر ووهبته للزوج عن طيب نفسها جاز للزوج أكل الموهوب له ، وإنّما أقرّ الإسلام هذا المبدأ لكيلا تكون البيئه العائلية والحياة الزوجية ميدانا لسلسلة من القوانين والمقررات الجافة ، بل يكون مسرحا للتلاقي العاطفي الإنساني ، وتسود في هذه الحياة المحبّة جنبا إلى جنب مع المقررات والأحكام الحقوقية المذكورة.

الصّداق دعامة اجتماعية للمرأة :

لمّا كانت المرأة ـ في العصر الجاهلي ـ لم تحظ بأية قيمة أو مكانة كان الرجل إذا تزوج امرأة ترك أمر صداقها ـ الذي هو حقها المسلّم ـ إلى أوليائها ، فكان أولياؤها يأخذون صداقها ، ويعتبرونه حقّا مسلّما لهم لا لها ، وربّما جعلوا التزوج بامرأة صداقا لامرأةأخرى ، مثل أن يزوج الرجل أخته بشخص على أن يزوج ذلك الشخص أخته بذلك الرجل ، وكان هذا هو صداق الزوجتين.

ولقد أبطل الإسلام كل هذه التقاليد والأعراف الظالمة ، واعتبر الصداق حقّا مسلّما خاصا بالمرأة ، وأوصى الرجال مرّات عديدة وفي آيات الكتاب العزيز برعاية هذا الحق للمرأة.

على أنه ليس للصداق حدّ معين في الإسلام ، فهو أمر يتبع اتفاق الزوجين ، وإن تأكد في روايات كثيرة على التخفيف في المهور ، ولكن هذا لا يكون حكما إلزاميا ، بل هو أمر مستحب.

١٠١

وهاهنا ينطرح هذا السؤال ، وهو إذا كان الرجل والمرأة يستفيدان من الزواج بشكل متساو ، وكانت رابطة الزوجية قائمة على أساس مصالح الطرفين فلما ذا يجب على الرجل أن يدفع مبلغا ـ قليلا أو كثيرا ـ إلى المرأة بعنوان الصداق والمهر؟ ثمّ ألا ينطوي هذا الأمر على إساءة إلى شخصية المرأة ، ألا يسبغ هذا الأمر صبغة البيع والشراء على مشروع الزواج؟

إنّ هذه الأمور هي التي تدفع بالبعض إلى أن يعارضوا بشدّة مبدأ المهر ومسألة الصداق ، ويقوى هذا الاتجاه لدى المتغربين خاصّة ما يجدونه من عدم الأخذ بهذا المبدأ في الزيجات الغربية ، في حين أن حذف الصداق والمهر من مشروع الزواج ليس من شأنه رفع شخصية المرأة فقط ، بل يعرض وضعها للخطر.

وتوضيح ذلك هو ، أنّه صحيح أنّ المرأة والرجل يستفيدان من مشروع الزواج ، وإقامة الحياة الزوجية على قدم المساواة ، ولكن لا يمكن إنكار أنّ الأكثر تضررا لدى افتراق الزوج عن زوجته هي المرأة ، وذلك :

أوّلا : إنّ الرجل ـ بحكم قابلياته الجسدية الخاصّة ـ يمتلك ـ عادة ـ سلطانا ونفوذا وفرصا أكثر في المجتمع ، وهذه هي حقيقة ساطعة مهما حاول البعض إنكارها عند الحديث حول المرأة ، ولكن الوضع الاجتماعي وحياة البشر ـ حتى في المجتمعات الغربية والأوروبية التي تحظى فيها النساء بما يسمّى بالحرّية الكاملة ترينا بوضوح ـ وكما هو مشهود للجميع ـ إنّ الفرص وأزمة الأعمال المربحة جدّا هي في الأغلب في أيدي الرجال.

هذا مضافا إلى أنّ أمام الرجال إمكانيات أكثر لاختيار الزوجات ، وإقامة حياة عائلية جديدة بينما لا تتوفر مثل هذه الإمكانيات للمرأة ، فإن النساء الثيبات ـ خاصّة تلك التي يصبن بهذه الحالة بعد مضي شطر من أعمارهنّ ،

١٠٢

وفقدان شبابهنّ وجمالهنّ ـ يمتلكن فرصا أقل للحصول على أزواج لهنّ.

بملاحظة هذه النقاط يتضح أنّ الإمكانات التي تخسرها المرأة بالزواج أكثر من الإمكانات التي يفقدها الرجل بذلك ، ويكون الصداق والمهر ـ في الحقيقة ـ بمثابة التعويض عن الخسارة التي تلحق بالمرأة ، ووسيلة لضمان حياتها المستقبلية ، هذا مضافا إلى أنّ المهر والصداق خير وسيلة رادعة تردع الرجل عن التفكير في الطلاق والإفتراق.

صحيح أنّ المهر ـ في نظر القوانين الإسلامية يتعلق بذمّة الرجل من لحظة انعقاد الرابطة الزوجية وقيامها بين الرجل والمرأة ، ويحق للمرأة المطالبة به فورا ، ولكن حيث أن الغالب هو أن يتخذ الصداق صفة الدّين المتعلق في الذمّة يكون لذلك بمثابة توفير للمرأة تستفيد منه في مستقبلها ، كما يعتبر خير دعامة لحفظ حقوقها ، إلى جانب أنه يساعد على حفظ الرابطة الزوجية من التبعثر والتمزق (طبعا هناك استثناءات لهذا الموضوع ، ولكن ما ذكرناه صادق في أغلب الموارد).

وأمّا تفسير البعض لمسألة المهر بنحو خاطئ ، واعتبار الصداق أنّه من قبيل ثمن المرأة فلا يرتبط بالقوانين الإسلامية ، لأن الإسلام لا يعطي للصداق الذي يقدمه الرجل إلى المرأة صفة الثمن كما لا يعطي المرأة صفة البضاعة القابلة للبيع والشراء ، وأفضل دليل على ذلك هو صيغة عقد الزواج الذي يعتبر فيه الرجل والمرأة كركنين أساسيين في الرابطة الزوجية ، في حين يقع الصداق والمهر على هامش هذا العقد ، ويعتبر أمرا إضافيا ، بدليل صحّة العقد إذا لم يرد في صيغة البيع والشراء وغير ذلك من المعاملات المالية إذ بدونه تبطل هذه المعاملات (طبعا لا بدّ من الانتباه إلى أن على الزوج ـ إذا لم يذكر الصداق ضمن عقد الزواج ـ أن يدفع إلى المرأة مهر المثل في صورة الدخول بها).

١٠٣

من كلّ ما قيل نستنتج أنّ المهر بمثابة جبران للخسارة اللاحقة بالمرأة ، وبمثابة الدعامة القوية التي تساعد على احترام حقوق المرأة ، لا أنّه ثمن المرأة ، ولعل التعبير بالنّحلة التي هي بمعنى العطية في الآية إشارة إلى هذه النقطة.

* * *

١٠٤

الآيتان

( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٥) وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٦) )

التّفسير

الآيات الحاضرة تكملة للأبحاث المرتبطة باليتامى ، التي مرّت في الآيات السّابقة.

يقول الله سبحانه :( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ ) بل انتظروا رشدهم ، ونضجهم في المسائل الاقتصادية لكي لا تتعرض أموالكم للتلف والفناء.

من هو السّفيه؟ :

قال الرّاغب في المفردات : «السّفه خفّة في البدن (يحصل بسببها عدم التعادل في المشي) ومنه قيل زمام سفيه أي كثير الاضطراب ، واستعمل في خفّة

١٠٥

النفس لنقصان العقل في الأمور الدّنيوية ، والأخروية».

ولكنّ من الواضح أنّ المراد من السّفه في الآية الحاضرة هو عدم الرشد اللازم في الأمور الاقتصادية بحيث لا يستطيع الشخص من تدبير شؤونه الاقتصادية وإصلاح ماله على الوجه الصحيح ، ولا يتمكن من ضمان منافعه في المبادلات والمعاملات المالية ، أي أنّه عرضة للغبن والضرّر ، ويدل على هذا المعنى ما جاء في الآية الثانية إذ يقول سبحانه :( فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ) .

وعلى هذا الأساس فإنّ الآية الحاضرة وإن كانت تبحث حول اليتامى ، لكنّها تتضمّن حكما كليا وقانونا عامّا لجميع الموارد ، وهو أنّه لا يجوز لأحد مطلقا أن يعطي أموال من يتولى أمره ، أو ترتبط به حياته بنوع من الارتباط ، إليه إذا كان سفيها غير رشيد ، ولا فرق في هذا الحكم بين الأموال الخاصّة والأموال العامّة (وهي أموال الحكومة الإسلامية) ويشهد على هذا الموضوع ـ مضافا إلى سعة مفهوم الآية ـ وخاصّة كلمة «السّفيه» روايات منقولة عن أئمّة الدين في هذا الصدد.

ففي رواية عن الإمام الصّادقعليه‌السلام نقرأ أنّ شخصا يدعى إبراهيم بن عبد الحميد يقول : سألت أبا عبد الله عن قول الله :( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ ) قال : «كلّ من يشرب المسكر فهو سفيه(١) فلا تعطوهم أموالكم».

وفي رواية أخرى نجد النهي عن اختيار شارب الخمر لجعله أمينا على الأموال.

وخلاصة القول أنّنا نجد توصيف شارب الخمر بالسفه في أحاديث كثيرة وموارد متعددة ، وهذا التعبير إنّما هو لأن شارب الخمر فقد رأس ماله المادي ورأس ماله المعنوي ، وأي سفيه أشدّ من أن يعطي الإنسان ماله ، وعقله أيضا ،

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ١ ، في ذيل هذه الآية.

١٠٦

ويبتاع الجنون ويضحي في هذا السبيل بكل طاقاته البدنية والروحية ، ويتسبب في أضرار اجتماعية كثيرة وكبيرة.

ثمّ أنّنا نلاحظ أن رواية أخرى تصف كلّ من لا يوثق به بالسفيه ، وتنهي من تسليم الأموال الخاصّة والعامّة إليه ، فعن يونس بن يعقوب قال : سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن قوله:( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ ) قال : «من لا تثق به(١) ».

ومن هذه الرّوايات يتبيّن أنّ للفظة السفيه معنى واسعا ، وأن النهي يشمل تسليم الأموال الخاصّة والعامّة إليهم ، غاية ما في الأمر أن هذا النهي يكون في بعض الموارد نهي تحريم ، وفي بعض الموارد الاخرى التي لا تشتد فيها درجة السفه يكون نهي كراهة.

وهنا ينطرح سؤال وهو ، إذا كانت هذه الآية في مورد أموال اليتامى فلما ذا قال تعالى:( أَمْوالَكُمُ ) ولم يقل «أموالهم»؟

يمكن أن تكون النكتة والسرّ في هذا التعبير هو بيان مسألة اجتماعية واقتصادية مهمّة في المقام وهي أن الإسلام يعتبر الأفراد في المجتمع بمثابة فرد واحد بحيث لا يمكن أن تنفصل مصالح فرد عن مصالح الآخرين ، وهكذا تكون خسارة فرد عين خسارة الآخرين ، ولهذا السبب أتى القرآن في هذا المقام بضمير المخاطب بدل ضمير الغائب إذ قال : «أموالكم» ولم يقل «أموالهم» ، يعني أنّ هذه الأموال ـ في الحقيقة ـ ليست مرتبطة باليتامى فقط،بل هي مرتبطة بكم أيضا ، فإذا لحق بها ضرّر ، يكون ذلك الضرّر قد لحق بكم بصورة غير مباشرة أيضا ، ولهذا يجب أن تحرصوا في حفظها كل الحرص.

ثمّ إنّ هناك تفسيرا آخر لهذا التعبير وهو أن المقصود من «أموالكم» ، هو أموال نفس الأولياء لا أموال اليتامى ، فيكون المعنى إذا أردتم مساعدة الأيتام الذين لم يرشدوا ربّما أعطيتهم شيئا من أموالكم ـ تحت تأثير العاطفة والإشفاق

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ١ ، ذيل الآية المبحوثة وهكذا في تفسير نور الثقلين.

١٠٧

ـ إليهم ، واخترتموهم لبعض الأعمال التي لا يقدرون عليها فلا تفعلوا ذلك ، بل عليكم أن تعملوا شيئا آخر مكان هذا العمل الغير العقلائي ، وهو أن تقوموا بالإنفاق على مأكلهم وملبسهم ومسكنهم حتى يبلغوا سن الرشد ، فإذا بلغوا هذه المرتبة ، وحصلت لديهم البصيرة الكافية أعطوهم ما شئتم ، وانتخبوهم لما تريدون من الأعمال.

وهذا في الواقع درس اجتماعي كبير يعلمه القرآن لنا حيث ينهانا عن تشغيل من لا يقدر على بعض الأعمال فيها ، وذلك بدافع مساعدتهم وتحت تأثير الإشفاق والعاطفة،لأن هذه الأعمال وإن كانت تنطوي على بعض الأرباح القليلة ، ولكنّها من الممكن أن تجرّ على المجتمع أضرارا وويلات كبيرة ، فلا بدّ إذن من إدارة أمور هذه الطائفة من المجتمع عن طريق تقديم المساعدات الغير المعوضة إليهم أو تشغيلهم في أمور سهلة وصغيرة.

من هنا يتّضح أنّ بعض قاصري النظر يختارون الضعفاء والقصر لبعض المسؤوليات التبليغية والدينية إرفاقا بهم وإشفاقا عليهم وهذا لا شك من أضرّ الأعمال ، وأكثرها بعدا عن العقل والمنطق الصحيح.

أموالكم قوام لكم :

ثمّ أنّ القرآن الكريم يصف الأموال المذكورة في مطلع الآية الحاضرة بقوله :( الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً ) هو تعبير جميل ورائع جدا عن الأموال والثّروات ، فهي قوام الحياة الناس والمجتمع ، وبدونها لا يمكن للمجتمع الوقوف على قدميه ، فلا يصحّ إعطاؤها إلى السفهاء والمسرفين الذين لا يعرفون إصلاحها ، بل ربّما أفسدوها وأتلفوها وألحقوا بسبب ذلك أضرارا كبيرة بالمجتمع.

ومن هذا التعبير نعرف جيدا ما يوليه الإسلام من الاهتمام بالأمور والشؤون الاقتصادية والمالية ، وعلى العكس نقرأ في الإنجيل الحاضر : «فقال يسوع

١٠٨

لتلاميذه : الحق أقول لكم أنّه يعسر أن يدخل غني إلى ملكوت السماوات»(١) في حين يرى الإسلام أنّ الأمّة الفقيرة لا تستطيع أبدا الوقوف على قدميها. وأنّه لعجيب أن نرى تلك الطائفة بلغت إلى ما بلغت من المراتب في عالمنا الراهن في حقول التقدم الاقتصادي مع ما هم عليه من التعاليم الخاطئة ، في حين نعاني من هذا الوضع المأسوي مع ما نملك من التعاليم الحيوية العظيمة.

غير أنّه لا داعي للعجب ، فهم تركوا تلك الخرافات والأضاليل ـ في الحقيقة ـ فوصلوا إلى ما وصلوا ، بينما تركنا نحن هذه التعاليم الراقية فوقعنا في هذه الحيرة ، والتخلف.

تعليمان في شأن اليتامى :

ثمّ أن الله سبحانه يأمر ـ في شأن اليتامى ـ بأمرين مهمين هما :

أوّلا : رزق اليتامى وإكسائهم من أموالهم حتى يبلغوا سن الرشد إذ يقول :( وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً ) .

والجدير بالنظر هو أنّ الله تعالى عبّر في هذه الآية بلفظة «فيها» أي في أموال اليتامى لا «منها» أي من أموالهم إذ المفهوم من هذا التعبير هو أن تدبير شؤون اليتامى والإنفاق عليهم يجب أن يتمّ من أرباح أموالهم ، إذ لو قال سبحانه : وارزقوهم منها لفهم من ذلك أنّ على الولي أن يقتطع من أصل أموالهم شيئا فشيئا ، وهذا يعنى أن يفقد اليتامى شيئا كبيرا من أموالهم حينما يبلغون ويصلون إلى سن الرشد ، ولكن القرآن الكريم باستبداله لفظة «منها» بلفظة «فيها» يكون قد أوصى أولياء اليتامى بأن يحرصوا كلّ الحرص على أموال اليتامى ، ويحاولوا الإنفاق من أرباح رؤوس أموالهم وذلك باسترباح هذه الأموال واستثمارها ولو بقدر نفقات اليتامى كيما تبقى هذه الأموال على حالها حين بلوغهم سن الرشد.

__________________

(١) إنجيل متى الإصحاح ، ١٩ ـ ٢٣.

١٠٩

ثانيا : مخاطبة اليتامى والتكلم معهم بقول طيب ورقيق إذ قال سبحانه :( وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً ) كيما يزيلوا بمثل هذا القول المعروف ما يشعر به اليتامى من نقصان روحي وعقد نفسية ، كما يساعدوا بذلك على ترشيدهم وبلوغهم حدّ الرشد العقلي ، حتى يتمتعوا عند البلوغ بالرشد العقلي اللازم ، وبهذا الطريق يكون بناء شخصية اليتيم وترشيده عقليا من وظائف الأولياء ومسئولياتهم أيضا.

تعليم آخر في شأن اليتامى وأموالهم :

هاهنا تعليم آخر في شأن اليتامى وأموالهم ، إذ يقول سبحانه :( وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ ) فإذا بلغوا سن الرشد الذي آنستم فيه قدرتهم على إدارة أموالهم والتصرف فيها بنحو معقول فأعطوهم أموالهم :( فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ) وها هنا نقاط لا بدّ من الالتفات إليها.

١ ـ إنّه يستفاد من التعبير بـ «حتى» أنّه يجب اختبار اليتامى قبل بلوغ سنّ النكاح ، وأن يتمّ هذا الأمر بصورة مستمرة ومتكررة حتى يعرف بلوغهم حدّ النكاح ويتبيّن أنّهم بلغوا الحدّ اللازم من الرشد العقلي اللازم لإدارة الأمور المالية على الوجه الصحيح.

كما أنّه يستفاد ـ ضمنا ـ أنّ المراد من الاختبار والابتلاء هو التربية التدريجية والمستمرة لليتامى ، وهذا يعني أن لا تتركوا اليتامى وتهملوهم حتى يبلغوا سن الرشد ثمّ تعمدوا إلى إعطائهم أموالهم ، بل لا بدّ أن تهيئوهم ـ قبل البلوغ ـ للحياة المستقلة وذلك بالبرامج التربوية العملية.

وأمّا أنّه كيف يمكن اختبار اليتيم فطريقه هو أن يعطى مقدارا من المال ، فيتّجر به ويشتري ويبيع مع نظارة الولي بنحو لا يسلب اليتيم استقلاله فإذا تبيّن أنّه قادر على الاتجار والتعامل كما ينبغي ومن دون أن يغبن ، وجب تسليم أمواله

١١٠

إليه وإلّا فلا بدّ أن تستمر تربيته وإعداده حتى يبلغ تلك الدرجة التي يستطيع فيها أن يستقل بإدارة شؤونه وتدبير معيشته ، وأخذ زمام حياته المستقبلية بيده.

٢ ـ إنّ التعبير بجملة( إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ ) إشارة إلى أن الرشد المطلوب هو أن يبلغ اليتيم إلى درجة القدرة على الزواج ، وواضح أن الذي يقدر على الزواج لا بدّ أنّه يقدر على تشكيل عائلة ، ولا شك أنّ الإنسان بدون امتلاكه لرأس مال لا يتوصل إلى أهدافه ، ولهذا فإن بداية الحياة العائلية تتزامن مع بداية الحياة الاقتصادية المستقلة.

وبعبارة أخرى أنّ الثروة لا تعطى إليهم إلّا عند ما يصلون إلى البلوغ الجسمي، فيحتاجون إلى المال بشدّة ويصلون إلى البلوغ الفكري ، ويتمكنون من المحافظة على أموالهم في وقت واحد.

٣ ـ إنّ التعبير بجملة( آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً ) إشارة إلى أنّه يجب أن يتأكد من رشدهم ، لأنّ الإيناس بمعنى المشاهدة والرؤية وهذه المادة مشتقة من مادة «الإنسان» الذي في معانيه ناظر العين وعدستها التي بها تبصر (والرؤية إنّما تتمّ بالاستعانة من إنسان العين ـ في الحقيقة ـ ولهذا عبر عن المشاهدة بالإيناس).

ثمّ أنّه سبحانه قال :( وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا ) وهو تأكيد آخر للأولياء بأن لا يسلموا الأموال إلى اليتامى قبل أن يكبروا بأن يحافظوا على أموال اليتامى ولا يتلفوها أبدا.

ثمّ أنه تعالى يردف هذا التأكيد بقوله :( وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) وبهذا أذن الله تعالى للأولياء بأن يأخذوا لأنفسهم من أموال اليتامى لقاء ما يتحملون من أتعاب في حفظها ، وحراستها ، على أن يراعوا جانب العدل والإنصاف فيما يأخذونه بعنوان الأجرة ، هذا إذا كان الولي فقيرا ، أما إذا كان غنيّا فلا يأخذ من مال اليتيم شيئا أبدا.

وقد وردت في هذا الصدد كذلك روايات توضح وتبيّن ما أشير إليه من

١١١

مضمون الآية.

ومن هذه الأحاديث ما روي عن الإمام الصّادقعليه‌السلام إذ قال : «فذلك رجل يحبس نفسه عن المعيشة ، فلا بأس أن يأكل بالمعروف إذا كان يصلح لهم فإن كان المال قليلا (ولا يستغرق ذلك وقتا كبيرا) طبعا فلا يأكل منه شيئا».(١)

ثمّ يقول سبحانه :( فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ ) لكي لا يبقى أي مجال للاتهام والتنازع ، وهذا هو آخر حكم في شأن الأولياء واليتامى جاء ذكره في هذه الآية.

واعلموا أنّ الحسيب الواقعي هو الله تعالى ، والأهم من ذلك هو أن حسابكم جميعا عنده لا يخفى عليه شيء أبدا ولا يفوته صغير ولا كبير فإذا بدرت منكم خيانة خفيت على الشهود فإنّه سبحانه سيحصيها عليكم ، وسوف يحاسبكم عليها ويؤاخذكم بها :( وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً ) .

* * *

__________________

(١) البرهان ، ج ١ ، ص ٣٤٤ ، الحديث ٩.

١١٢

الآية

( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (٧) )

سبب النّزول

كانت العرب في الجاهلية تورث الذكور دون الإناث ، وكانوا يعتقدون أنّه لا يرث من لا يطاعن بالرماح ولا يقدر على حمل السلاح ، ولا يذود عن الحريم والمال ، ولهذا كانوا يحرمون النساء والأطفال عن الإرث ، ويورثون الرجال الأباعد ، ولو كان من الورثة من هو أقرب منهم.

حتى إذا مات أنصاري يدعى «أوس بن ثابت» وقد ترك صغارا من بنات وأولاد ، فاقتسم أبناء عمومته «خالد» و «عرفجة» أمواله بينهم ولم يورثوا زوجته وأولاده الصغار من تركته أبدا ، فشكت زوجته إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم يكن في ذلك حكم إلى ذلك الحين ، فنزلت هذه الآية فاستدعى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذينك الشخصين ، وأمرهما بأن لا يتصرفا في أموال الأنصاري ، وأن يتركا تلك الأموال إلى ورثة الميت من الطبقة الأولى وهم زوجته وأولاده ، بانتظار أن تنزل آيات أخرى توضح كيفية تقسيمها بين هؤلاء الورثة.

١١٣

التّفسير

خطوة أخرى لحفظ حقوق المرأة :

هذه الآية ـ في الحقيقة ـ خطوة أخرى على طريق مكافحة العادات والأعراف الخاطئة التي تؤدي إلى حرمان الأطفال والنساء من حقوقهم المسلّمة الطبيعية ، وعلى هذا الأساس تكون هذه الآية مكملة للأبحاث التي مرّت في الآيات السابقة ، لأن العرب الجاهليين كانوا ـ حسب تقاليدهم وأعرافهم الظالمة ـ يمنعون النساء والصغار من حق الإرث ، ولا يسهمون لهم من المواريث ، فأبطلت هذه الآية هذا التقليد الخاطئ الظالم إذ قال سبحانه :( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ، وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ ) .

ثمّ قال سبحانه في ختام هذه الآية بغية التأكيد على الموضوع( نَصِيباً مَفْرُوضاً ) حتى يقطع الطريق على كل تشكيك أو ترديد في هذا المجال.

ثمّ أنّ الآية الحاضرة ـ كما هو ملاحظ ـ تذكر حكما عامّا ، وشاملا لجميع الموارد،ولهذا فإن ما يتصوره البعض من أنّ الأنبياء لا يورثون ، أي أنّهم إذا تركوا شيئا من ثروة ومال لم يرثهم أقرباؤهم ، خلاف الآية (طبعا المقصود من الأموال التي يتركها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي تلك الأموال الخاصّة به ، وأمّا الأموال المتعلقة ببيت المال الذي هو من حق المسلمين عامّة ، فالحكم الإسلامي فيها هو صرفها في مواردها.

كما أنّه يتبيّن من إطلاق الآية الحاضرة والآيات الاخرى التي تأتي في ما بعد حول الإرث أنّ القول بالتعصيب (وهو إعطاء شيء من التركة إلى عصبة الميت وهم من ينتسبون إليه من طرف الأب ، وذلك في بعض الموارد كما يذهب إليه علماء السنة) يخالف هو أيضا ما جاء به القرآن الكريم من تعاليم في مجال

١١٤

الإرث ، لأن ذلك يستلزم حرمان النساء من الميراث في بعض الموارد ، وهذا ضرب من التمييز الجاهلي الذي رفضه الإسلام وأبطله بالآية الحاضرة والآيات المشابهة لها.

* * *

١١٥

الآية

( وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨) )

التّفسير

حكم أخلاقي :

نزلت الآية الحاضرة بعد قانون تقسيم الإرث حتما إذ تقول :( وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ ) .

وعلى هذا الأساس يتضمّن محتوى هذه الآية حكما أخلاقيا استحبابيا في شأن طبقات محجوبة عن الإرث بسبب وجود طبقات أقرب منها إلى المورث ، فالآية تقول : إذا حضر مجلس تقسيم الإرث جماعة من الأقرباء من الطبقة الثانية والثالثة ، وكذا بعض اليتامى والمساكين فارزقوهم من الإرث ، وبهذا تكونون قد منعتم من تحرك شعور الحسد والبغضاء لدى من يمكن أن يثور لديهم ذلك الشعور بسبب حرمانهم من الإرث ، ولا شك أنّ هذا العمل من شأنه أن يقوي أواصر القرابة الإنسانية بينكم.

إنّ كلمتي «اليتامى» و «المساكين» وإن ذكرتا بنحو مطلق في هذه الآية ، غير أن الظاهر هو أنّ المراد منهما هم اليتامى والمساكين من قربى الميت ، لأنّ الأقرب

١١٦

يحجب ـ في قانون الإرث ـ الأبعد من الإرث ، وعلى هذا فلو حضر أحد من هذه الطبقات قسمة الميراث فإنّه ينبغي أن يعطي الورثة له شيئا من الميراث هدية (يتوقف مقدارها على إرادة الوراث على أن يكون ذلك من مال الورثة الكبار دون الصغار).

هذا ويحتمل جماعة من المفسرين أن يكون المراد من اليتامى والمساكين في هذه الآية هو مطلق اليتامى والمساكين سواء كانوا من قرابة الميت أم لا ، ولكن هذا الاحتمال يبدو بعيدا في النظر ، لأن الأجانب ليس لهم طريق إلى المجالس العائلية غالبا.

كما أنّه يعتقد بعض المفسّرين أن الآية تتضمن حكما وجوبيا لا استحبابيا ، بيد أن هذا الأمر فيها على نحو الوجوب ، وجب تعيين وتحديد ما يلزم إعطاؤه لهاتين الطائفتين ، في حين ترك الأمر فيه إلى إرادة الورثة.

ثمّ أنّه سبحانه يختم هذه الآية بدستور أخلاقي إذ يقول :( وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً ) يعني أنّه مضافا إلى تقديم مساعدة مادية إلى هؤلاء أشفعوا ذلك بموقف أخلاقي واستفيدوا من المعين الإنساني لكسب مودّتهم ، وحتى لا يبقى في قلوبهم أي شعور عدائي تجاهكم ، وهذا الدستور علامة أخرى ودليل آخر على أن الأمر بإعطاء شيء من الميراث إلى اليتامى والمساكين إنما هو على نحو الندب لا الوجوب.

من كل ما ذكرناه اتّضح أنّه لا مبرر أبدا لأن يقال أن الحكم المذكور في هذه الآية منسوخ بالآيات التي تعين السهام في الإرث ، لعدم وجود أية منافاة وتعارض بين هذه الآية وتلك الآيات المحددة للأسهم.

* * *

١١٧

الآية

( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٩) )

التّفسير

دعوة إلى العطف على اليتامى :

يشير القرآن الكريم ـ بهدف إثارة مشاعر العطف والإشفاق لدى الناس بالنسبة إلى اليتامى ـ إلى حقيقة يغفل عنها الناس أحيانا ، وتلك الحقيقة هي : إن على الإنسان أن يعامل يتامى الآخرين كما يحبّ أن يعامل الناس يتاماه.

تصوروا مشهد أطفال فقدوا آباءهم وأمهاتهم يعيشون تحت كفالة شخص قاسي القلب خائن لا يرعى مشاعرهم ، كما لا يراعي جانب العدالة في حقّهم.

أجل تصوروا هذا المشهد المؤلم ، كم يؤلمكم ويحزنكم ذلك؟ هل تحبّون مثل ذلك لأبنائكم الصغار من بعدكم؟ كلا حتما ، فكما تحبّون ورثتكم فأحبّوا ورثة غيركم ويتاماهم ، وأحزنوا لما يحزنهم.

وعلى هذا يكون مفهوم قوله سبحانه :( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ ) هو أنّ الذين يخافون على مستقبل أولادهم الصغار عليهم أن يخافوا مغبة الخيانة في شؤون اليتامى ويخافوا مغبة إيذائهم.

١١٨

وأساسا : إنّ القضايا الاجتماعية تنتقل في شكل سنة من السنن ـ من اليوم إلى الغد، ومن الغد إلى المستقبل البعيد ، فالذين يروّجون في المجامع سنة ظالمة مثل إيذاء اليتامى فإن ذلك سيكون سببا لسريان هذه السنة على أولادهم وأبنائهم أيضا ، وعلى هذا لا يكون مثل هذا الشخص قد أذى يتامى الآخرين وورثتهم فقط ، بل فتح باب الظلم على أولاده ويتاماه أيضا.

لهذا وجب أن يتجنب أولياء اليتامى مخالفة الأحكام الإلهية ، ويتقوا الله في اليتامى ويقولوا لهم قولا عدلا موافقا للشرع والحق ، قولا ممزوجا بالعواطف الإنسانية والمشاعر الأخوية، لكي يندمل بذلك ما في قلوب أولئك من الجراح ، وينجبر ما في أفئدتهم من الكسر، وإلى هذا يشير قوله سبحانه :( فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ) .

إنّ هذا التعليم الإسلامي الرفيع المذكور في العبارة السابقة إشارة إلى ناحية نفسية في مجال تربية اليتامى ـ جديرة بالاهتمام والرعاية ، وهي : إنّ حاجة الطفل اليتيم لا تنحصر في الطعام والكساء ، بل مراعاة مشاعرهم وأحاسيسهم القلبية هو الأهم ، وهو ذو تأثير كبير جدّا في بناء مستقبلهم ، لأن الطفل اليتيم إنسان كغيره ، يجب أن يحصل على غذائه اللازم من الناحية العاطفية ، فيجب أن يحظى بالحنو والرعاية كما يحظى بذلك أي طفل آخر في حضن أبيه وأمّه. أنه ليس «حمل» يخرج مع القطيع للرعي عند الصباح ، ويعود عند الغروب ، بل هو إنسان يجب ـ مضافا إلى الرعاية الجسدية ـ أن يحظى بالرعاية الروحية،والعناية العاطفية ، وإلّا نشأ قاسيا مهزوما ، عديم الشخصية ، بل وحاقدا خطيرا.

إيضاح ضروري :

عن عبد الأعلى مولى آل سام قال قال أبو عبد اللهعليه‌السلام مبتدءا : «من ظلم سلّط الله عليه من يظلمه ، أو على عقبه ، أو على عقب عقبه ، قال (أي الراوي) فذكرت في

١١٩

نفسي فقلت : يظلم (و) هو يتسلط على عقبه وعقب عقبه؟ فقال لي قبل أن أتكلم : إن الله يقول :( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ ) ».

إنّ السؤال الذي خالج ذهن الراوي يخالج نفسه أذهان كثيرين ، فيتساءلون :كيف يحمل البارئ تعالى جزاء شخص على شخص آخر ، بل وما ذا فعل أبناء العاصي حتى يبتلوا بمن يظلمهم ، ويتحملوا وزر ما جناه والدهم؟

إنّ جواب هذا السؤال يتضح من الإيضاح الذي ذكر في الحديث السابق وهو أن ما يرتكبه الأشخاص في المجتمع من أعمال تتخذ شكل السنة شيئا فشيئا ، وينتقل إلى الأجيال اللاحقة ، وعلى هذا الأساس فإن الذين يظلمون اليتامى في المجتمع ، ويرسون قواعد هذا السلوك الظالم سيصاب أبناؤهم بلهيب هذه البدعة يوما ما أيضا ، ويعدّ هذا في الحقيقة أحد الآثار الوضعية التكوينية لمثل هذا العمل ، وأمّا نسبته إلى الله فهي لأجل أن جميع الآثار التكوينية وكل خواص العلّة والمعلول منسوبة إلى الله ومستندة إليه تعالى ، ولا يظلم ربّك أحدا أبدا.

وخلاصة القول : إذا ساد الظلم في المجتمع فإنّه سوف يسري ويصيب الظالم وأولاده أيضا.

* * *

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

معنى غزير

إنّ الآخرين حين يريدون إظهار مزيد من العلاقة بمن يشاركهم في المنهج والعمل ، يعبّرون عنهم بالرفاق ، «أو الرفيق للمفرد» إلّا أنّ الإسلام رفع مستوى الارتباط والحب بين المسلمين إلى درجة جعلها بمستوى أقرب العلائق بين شخصين وهي علاقة الأخوين التي تقوم العلاقة بينهما على أساس المساواة والتكافؤ.

فعلى هذا الأصل الإسلامي المهم فإنّ المسلمين على اختلاف قبائلهم وقوميّاتهم ولغاتهم وأعمارهم يشعرون فيما بينهم بالأخوّة وإن عاش بعضهم في الشرق والآخر في الغرب

ففي مناسك الحج مثلا حيث يجتمع المسلمون من نقاط العالم كافة في مركز التوحيد تبدو هذه العلاقة والارتباط والانسجام والوشائج محسوسة وميدانا للتحقق العيني لهذا القانون الإسلامي المهم

وبتعبير آخر إنّ الإسلام يرى المسلمين جميعا بحكم الأسرة الواحدة ويخاطبهم جميعا بالإخوان والأخوات ليس ذلك في اللفظ والشعار ، بل في العمل والتعهدات المتماثلة أيضا ، جميعهم (أخوة وأخوات).

وفي الروايات الإسلامية تأكيد على هذه المسألة أيضا ولا سيما في ما يخص الجوانب العملية ونحن نذكر هنا على سبيل المثال بعضا من الأحاديث التالية :

١ ـ ورد عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه»(١) .

٢ ـ وورد عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «مثل الأخوين مثل اليدين تغسل إحداهما الأخرى»(٢) .

__________________

(١) المحجّة البيضاء ، ج ٣ ، ص ٣٣٢ (كتاب الصحبة والمعاشرة) الباب الثاني.

(٢) المصدر السابق.

٥٤١

٣ ـ ويقول الإمام الصادقعليه‌السلام : «المؤمن أخو المؤمن كالجسد الواحد إذا اشتكى شيئا منه وجد ألم ذلك في سائر جسده وأرواحهما من روح واحدة»(١) .

٤ ـ كما نقرأ حديثا آخر عنهعليه‌السلام يقول فيه : «المؤمن أخو المؤمن عينه ودليله لا يخونه ولا يظلمه ولا يغشّه ولا يعده عدة فيخلفه»(٢) .

وهناك روايات كثيرة في مصادر الحديث الإسلامية المعروفة في ما يتعلّق بحق المؤمن على أخيه المسلم وأنواع حقوق المؤمنين بعضهم على بعض وثواب زيارة الإخوان المؤمنين «والمصافحة والمعانقة» وذكرهم وإدخال السرور على قلوبهم وخاصة قضاء حاجاتهم والسعي في إنجازها وإذهاب الهم والغم عن القلوب وإطعام الطعام وإكسائهم الثياب وإكرامهم واحترامهم ، ويمكن مطالعتها في أصول الكافي في أبواب مختلفة تحت العناوين الآنفة.

٥ ـ وفي ختام هذا المطاف نشير إلى رواية هي من أكثر الروايات «جمعا» في شأن حقوق المؤمن على أخيه المؤمن التي تبلغ ثلاثين حقّا!

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «للمسلم على أخيه ثلاثون حقّا ، لا براءة له منها إلّا بالأداء أو العفو!

يغفر زلّته ، ويرحم عبرته ، ويستر عورته ، ويقيل عثرته ، ويقبل معذرته ، ويرد غيبته ، ويديم نصيحته ، ويحفظ خلّته ويرعى ذمّته ، ويعود مرضه ، ويشهد ميّته ، ويجيب دعوته ، ويقبل هديته ، ويكافئ صلته ، ويشكر نعمته ، ويحسن نصرته ، ويحفظ حليلته ، ويقضي حاجته ، ويشفع مسألته ، ويسمّت عطسته ، ويرشد ضالّته ، ويردّ سلامه ، ويطيب كلامه ، ويبرّ أنعامه ، ويصدق أقسامه ، ويوالي وليّه ، ولا يعاديه ، وينصره ظالما ومظلوما ، فأمّا نصرته ظالما فيردّه عن ظلمه ، وأمّا نصرته مظلوما فيعينه على أخذ حقّه ، ولا يسلمه ولا يخذله ، ويحب له من الخير

__________________

(١ ، ٢) ـ أصول الكافي ، ج ٢ ، ص ١٣٣ (باب أخوة المؤمنين بعضهم لبعض الحديث ٣ و٤).

٥٤٢

ما يحبّ لنفسه ، ويكره له من الشر ما يكره لنفسه»(١) .

وعلى كلّ حال فإنّ واحدا من حقوق المسلمين بعضهم على بعض هو مسألة الإعانة وإصلاح ذات البين كما ورد في الآيات المتقدّمة والروايات الآنفة «وكان لنا في التفسير الأمثل بحث في «إصلاح ذات البين» ذيل الآية الأولى من سورة الأنفال»

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٧٤ ، ص ٢٣٦.

٥٤٣

الآيتان

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢) )

سبب النّزول

ذكر المفسّرون لهاتين الآيتين شأنا «في نزولهما» بل شؤونا مختلفة ، منها أنّ جملة( لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ ) نزلت في «ثابت بن قيس» خطيب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي كان ثقيل السمع وكان حين يدخل المسجد يجلس إلى جنب النّبي ويوّفر له المكان عنده ليسمع حديث النبي ، وذات مرّة دخل المسجد والمسلمون كانوا قد

٥٤٤

فرغوا من صلاتهم وجلسوا في أماكنهم ، فكان يشقّ الرجوع ويقول : تفسّحوا ، تفسّحوا حتى وصل إلى رجل من المسلمين فقال له : اجلس (مكانك هنا) فجلس خلفه مغضبا حتى انكشفت العتمة فقال ثابت لذلك الرجل : من أنت فقال : أنا فلان فقال له ثابت : ابن فلانة؟! وذكر اسم أمّه بما يكره من لقبها وكانت تعرف به في زمان الجاهلية فاستحيى ذلك الرجل وطأطأ برأسه إلى الأرض ، فنزلت الآية ونهت المسلمين عن مثل هذا العمل

وقيل إنّ جملة( وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ ) نزلت في أم سلمة إحدى أزواج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّها كانت تلبس لبوسا خاصا أو لأنّها كانت قصير فكانت النساء يسخرن منها ، فنزلت الآية ونهت عن مثل هذه الأعمال!.

وقالوا إنّ جملة( وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ) نزلت في نفرين من الصحابة اغتابا صاحبهما «سلمان» لأنّهما كانا قد بعثاه نحو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليأتيهما بطعام منه ، فأرسل النّبي سلمان نحو «أسامة بن زيد» الذي كان مسئول بيت المال فقال أسامة ليس عندي شيء الآن فاغتابا أسامة وقالا إنّه بخيل وقالا في شأن سلمان : لو كنّا أرسلناه إلى بئر سميحة لغاض ماؤها «وكانت بئرا غزيرة الماء» ثمّ انطلقا ليأتيا أسامة وليتجسّسا عليه ، فقال لهما النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّي أرى آثار أكل اللحم على أفواهكما : فقالا يا رسول الله لم نأكل اللحم هذا اليوم فقال رسول الله : أجل تأكلون لحم سلمان وأسامة. فنزلت الآية ونهت المسلمين عن الاغتياب(١) .

* * *

التّفسير

الاستهزاء وسوء الظنّ والغيبة والتجسّس والألقاب السيئة حرام!

حيث أنّ القرآن المجيد اهتمّ ببناء المجتمع الإسلامي على أساس المعايير

__________________

(١) راجع تفسير مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ١٣٥ ، والقرطبي في تفسيره ، إذ ذكر هذا الشأن مع شيء من التفاوت.

٥٤٥

الأخلاقية فإنّه بعد البحث عن وظائف المسلمين في مورد النزاع والمخاصمة بين طوائف المسلمين المختلفة بين في الآيتين محل البحث قسما من جذور هذه الاختلافات ليزول الاختلاف (بقطعها) ويحسم النزاع!

ففي كلّ من الآيتين الآنفتين تعبير صريح وبليغ عن ثلاثة أمور يمكن أن يكون كلّ منها شرارة لاشتعال الحرب والاختلاف ، إذ تقول الآية الأولى من الآيتين محل البحث أوّلا :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ ) .

لأنّه( عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ ) .

( وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَ ) .

والخطاب موجّه هنا إلى المؤمنين كافة فهو يعم الرجال والنساء وينذر الجميع أن يجتنبوا هذا الأمر القبيح ، لأنّ أساس السخرية والاستهزاء هو الإحساس بالاستعلاء والغرور والكبر وأمثال ذلك إذ كانت تبعث على كثير من الحروب الدامية على امتداد التاريخ!

وهذا الاستعلاء أو التكبّر غالبا ما يكون أساسه القيم المادية والظواهر المادية فمثلا ، فلان يرى نفسه أكثر مالا من الآخر أو يرى نفسه أجمل من غيره أو أنّه يعد من القبيلة المشهورة والمعروفة أكثر من سواها ، وربما يسوقه تصوّره بأنّه أفضل من الجماعة الفلانية علما وعبادة ومعنوية إلى السخرية منهم ، في حين أنّ المعيار الواقعي عند الله هو «التقوى» التي تنسجم مع طهارة القلب وخلوص النيّة والتواضع والأخلاق والأدب!.

ولا يصحّ لأي أحد أن يقول أنا أفضل عند الله من سواي ، ولذلك عد تحقير الآخرين والتعالي بالنفس من أسوأ الأمور وأقبح العيوب الأخلاقية التي يمكن أن تكون لها انعكاسات سلبية في حياة الناس جميعا.

ثمّ تقول الآية في المرحلة الثانية :( وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ) .

كلمة «تلمزوا» هي من مادة «لمز» على زنة «طنز» ومعناها تتّبع العيوب

٥٤٦

والطعن في الآخرين ، وفسّر بعضهم الفرق بين «الهمز» و «اللمز» بأنّ «اللمز» عدّ عيوب الناس بحضورهم ، و «الهمز» ذكر عيوبهم في غيابهم ، كما قيل أنّ «اللمز» تتبّع العيوب بالعين والإشارة في حين أنّ «الهمز» هو ذكر العيوب باللسان «وسيأتي تفصل هذا الموضوع بإذن الله في تفسير سورة الهمزة»

الطريف أنّ القرآن في تعبير «بأنفسكم» يشير إلى وحدة المؤمنين وأنّهم نسيج واحد ، ويبيّن هنا بأنّ جميع المؤمنين بمثابة النفس الواحدة فمن عاب غيره فإنما عاب نفسه في الواقع!.

وتضيف الآية في المرحلة الثالثة أيضا قائلة :( وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ ) .

هناك الكثير من الأفراد الحمقى قديما وحديثا ، ماضيا وحاضرا مولعون بالتراشق بالألفاظ القبيحة ، ومن هذا المنطلق فهم يحقّرون الآخرين ويدمّرون شخصياتهم وربما انتقموا منهم أحيانا عن هذا الطريق وقد يتّفق أنّ شخصا كان يعمل المنكرات سابقا ، ثمّ تاب وأناب وأخلص قلبه لله ، ولكن مع ذلك نراهم يرشقونه بلقب مبتذل كاشف عن ماضيه!

الإسلام نهى عن هذه الأمور بصراحة ومنع من إطلاق أي اسم أو لقب غير مرغوب فيه يكون مدعاة لتحقير المسلم

ونقرأ في بعض الأحاديث أنّ «صفية بنت حيي بن أخطب» المرأة اليهودية التي أسلمت بعد فتح خيبر وأصبحت زوجة النّبي ـ جاءت صفية يوما إلى النّبي وهي باكية العين فسألها النّبي عن سبب بكائها فقالت : إنّ عائشة توبّخني وتقول لي يا ابنة اليهودي ، فقال لها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فلم لا قلت لها : أبي هارون وعمّي موسى وزوجي محمّد فكان أن نزلت هذه الآية ـ محل البحث ـ(١) .

ولذلك فإنّ الآية تضيف قائلة :( بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ ) أي قبيح جدّا على من دخل في سلك الإيمان أن يذكر الناس بسمات الكفر.

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ١٣٦.

٥٤٧

واحتمل بعض المفسّرين احتمالا آخر لهذه الجملة المذكورة آنفا وهي أنّ الله نهى المؤمنين أن يرضوا بأسماء الفسق والجاهلية لأنفسهم بسبب سخرية الناس ولتحاشي استهزائهم.

ولكن مع الالتفات إلى صدر الآية وشأن النّزول المذكور يبدو أنّ التّفسير الأوّل أقرب.

وتختتم الآية لمزيد التأكيد بالقول :( وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) .

وأي ظلم أسوأ من أن يؤذي شخص بالكلمات اللاذعة و «اللاسعة» والتحقير واللمز قلوب المؤمنين التي هي «مركز عشق» الله وأن يطعن في شخصياتهم ويبتذل كرامتهم التي هي أساس شخصيتهم.

ماء وجوههم الذي هو أساس حياتهم الأهم.

وقلنا إنّ في كل من الآيتين ـ محل البحث ـ ثلاثة أحكام في مجال الأخلاق الاجتماعية. فالأحكام الثلاثة في الآية الأولى هي «عدم السخرية» و «ترك اللمز» و «ترك التنابز بالألقاب».

والأحكام الثالثة في الآية الثانية هي «اجتناب سوء الظن» و «التجسّس» و «الاغتياب».

في هذه الآية يبدأ القرآن فيقول :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ) .

والمراد من «كثيرا من الظن» الظنون السيّئة التي تغلب على الظنون الحسنة بين الناس لذلك عبّر عنها بـ «الكثير» وإلّا فإنّ حسن الظن لا أنّه غير ممنوع فحسب ، بل هو مستحسن كما يقول القرآن في الآية (١٢) من سورة النور :( لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً ) .

وممّا يلفت النظر أنّه قد نهي عن كثير من الظنّ ، إلّا أنّه في مقام التعليل تقول الآية :( إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ) ولعلّ هذا الاختلاف في التعبير ناشئ من أنّ الظنون

٥٤٨

السيّئة بعضها مطابق للواقع وبعضها مخالف له ، فما خالف الواقع فهو إثم لا محالة ، ولذلك قالت الآية :( إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ) وعلى هذا فيكفي هذا البعض من الظنون الذي يكون إثما أن نتجنّب سائر الظنون لئلا نقع في الإثم

! وهنا ينقدح هذا السؤال ، وهو أنّ الظنّ السيء أو الظن الحسن ليسا اختياريين (غالبا) وإنّما يكون كل منهما على أثر سلسلة من المقدّمات الخارجة عن اختيار الإنسان والتي تنعكس في ذهنه ، فكيف يصح النهي عن ذلك؟!

وفي مقام الجواب يمكن القول بأنّه :

١ ـ المراد من هذا النهي هو النهي عن ترتيب الآثار ، أي متى ما خطر الظنّ السيء في الذهن عن المسلم فلا ينبغي الاعتناء به عمليّا ، ولا ينبغي تبديل أسلوب التعامل معه ولا تغيير الروابط مع ذلك الطرف ، فعلى هذا الأساس فإنّ الإثم هو إعطاء الأثر وترتّبه عليه.

ولذلك نقرأ في هذا الصدد حديثا عن نبيّ الإسلام يقول فيه : «ثلاث في المؤمن لا يستحسن ، وله منهنّ مخرج فمخرجه من سوء الظن ألّا يحقّقه»(١) إلى آخر الحديث الشريف.

٢ ـ يستطيع الإنسان أن يبعد عن نفسه سوء الظن بالتفكير في المسائل المختلفة ، بأن يفكر في طريق الحمل على الصحة ، وأن يجسّد في ذهنه الاحتمالات الصحيحة الموجودة في ذلك العمل ، وهكذا يتغلب تدريجا على سوء الظنّ!

فبناء على هذا ليس سوء الظن شيئا (ذا بال) بحيث يخرج عن اختيار الإنسان دائما! لذلك

فقد ورد في الروايات أنّه : «ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يقلبك منه ، ولا تظنّنّ بكلمة خرجت من أخيك سوءا وأنت تجد لها في الخير

__________________

(١) المحجّة البيضاء ، ج ٥ ، ص ٢٦٩.

٥٤٩

محملا»(١) .

وعلى كلّ حال فإنّ هذا الأمر واحد من أكثر الأوامر والتعليمات جامعيّة ودقّة في مجال روابط الإنسان الاجتماعية الذي تضمن الأمن في المجتمع بشكل كامل! وسيأتي بيانه وتفصيله في فقرة البحوث.

ثمّ تذكر الآية موضوع «التجسّس» فتنهى عنه بالقول :( وَلا تَجَسَّسُوا ) !.

و «التجسّس» و «التحسّس» كلاهما بمعنى البحث والتقصّي ، إلّا أنّ الكلمة الأولى غالبا ما تستعمل في البحث عن الأمور غير المطلوبة ، والكلمة الثانية على العكس حيث تستعمل في البحث عن الأمور المطلوبة أو المحبوبة! ومنه ما ورد على لسان يعقوب في وصيته ولده!( يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ ) (٢) .

وفي الحقيقة إنّ سوء الظن باعث على التجسّس ، والتجسس باعث على كشف الأسرار وما خفي من أمور الناس ، والإسلام لا يبيح أبدا كشف أسرار الناس!

وبتعبير آخر إنّ الإسلام يريد أن يكون الناس في حياتهم الخاصة آمنين من كل الجهات ، وبديهي أنه لو سمح الإسلام لكلّ أحد أن يتجسّس على الآخرين فإنّ كرامة الناس وحيثيّاتهم تتعرض للزوال ، وتتولد من ذلك «حياة جهنمية» يحسّ فيها جميع أفراد المجتمع بالقلق والتمزّق!.

وبالطبع فإنّ هذا الأمر لا ينافي وجود أجهزة «مخابرات» في الحكومة الإسلامية لمواجهة المؤامرات ، ولكنّ هذا لا يعني أنّ لهذه الأجهزة حق التجسّس في حياة الناس الخاصّة «كما سنبيّن ذلك بإذن الله فيما بعد».

وأخيرا فإنّ الآية تضيف في آخر هذه الأوامر والتعليمات ما هو نتيجة الأمرين السابقين ومعلولهما فتقول :( وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ) .

__________________

(١) أصول الكافي ، ج ٢ ، باب التهمة وسوء الظن ، الحديث ٣ ، وقد ورد شبيه هذا المعنى في نهج البلاغة مع شيء من التفاوت في «الكلمات القصار ، رقم ٣٦٠».

(٢) يوسف ، الآية ٨٧.

٥٥٠

وهكذا فإنّ سوء الظن هو أساس التجسس ، والتجسس يستوجب إفشاء العيوب والأسرار ، والاطلاع عليها يستوجب الغيبة ، والإسلام ينهى عن جميعها علة ومعلولا!

ولتقبيح هذا العمل يتناول القرآن مثلا بليغا يجسّد هذا الأمر فيقول :( أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ ) !.

أجل ، إنّ كرامة الأخ المسلم وسمعته كلحم جسده ، وابتذال ماء وجهه بسبب اغتيابه وإفشاء أسراره الخفية كمثل أكل لحمه.

كلمة «ميتا» للتعبير عن أنّ الاغتياب إنّما يقع في غياب الأفراد ، فمثلهم كمثل الموتى الذين لا يستطيعون أن يدافعوا عن أنفسهم ، وهذا الفعل أقبح ظلم يصدر عن الإنسان في حق أخيه!.

أجل ، إنّ هذا التشبيه يبيّن قبح الاغتياب وإثمه العظيم.

وتولي الروايات الإسلامية ـ كما سيأتي بيانها ـ أهمية قصوى لمسألة الاغتياب ، ونادرا ما نجد من الذنوب ما فيه من الإثم إلى هذه الدرجة.

وحيث أنّه من الممكن أن يكون بعض الأفراد ملوّثين بهذه الذنوب الثلاثة ويدفعهم وجدانهم إلى التيقّظ والتنبّه فيلتفتون إلى خطئهم ، فإنّ السبيل تفتحه الآية لهم إذ تختتم بقوله تعالى :( وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ) .

فلا بدّ أن تحيا روح التقوى والخوف من الله أوّلا : وعلى أثر ذلك تكون التوبة والإنابة لتشملهم رحمة الله ولطفه.

* * *

بحوث

١ ـ الأمن الاجتماعي الكامل

! إنّ الأوامر أو التعليمات الستة الواردة في الآيتين آنفتي الذكر (النهي عن السخرية واللمز والتنابز بالألقاب وسوء الظن والتجسس والاغتياب) إذا نفّذت

٥٥١

في المجتمع فإنّ سمعة وكرامة الأفراد في ذلك المجتمع تكون مضمونة من جميع الجهات ، فلا يستطيع أحد أن يسخر من الآخرين ـ على أنه أفضل ـ ولا يمدّ لسانه باللمز ، ولا يستطيع أن يهتك حرمتهم باستعمال الألقاب القبيحة ولا يحقّ له حتى أن يسيء الظن بهم ، ولا يتجسس عن حياة الأفراد الخاصة ولا يكشف عيوبهم الخفية (باغتيابهم).

وبتعبير آخر إنّ للإنسان رؤوس أموال أربعة ويجب أن تحفظ جميعا في حصن هذا القانون وهي : «النفس والمال والناموس وماء الوجه».

والتعابير الواردة في الآيتين محل البحث والروايات الإسلامية تدل على أنّ ماء وجه الأفراد كأنفسهم وأموالهم بل هو أهم من بعض الجهات.

الإسلام يريد أن يحكم المجتمع أمن مطلق ، ولا يكتفي بأن يكفّ الناس عن ضرب بعضهم بعضا فحسب ، بل أسمى من ذلك بأن يكونوا آمنين من ألسنتهم ، بل وأرقى من ذلك أن يكونوا آمنين من تفكيرهم وظنّهم أيضا وأن يحسّ كل منهم أنّ الآخر لا يرشقه بنبال الاتهامات في منطقة أفكاره.

وهذا الأمن في أعلى مستوى ولا يمكن تحقّقه إلّا في مجتمع رسالي مؤمن.

يقول النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا الصدد : «إنّ الله حرّم من المسلم دمه وماله وعرضه وأن يظنّ به السوء»(١) .

إنّ سوء الظن لا أنّه يؤثر على الطرف المقابل ويسقط حيثيّته فحسب ، بل هو بلاء عظيم على صاحبه لأنّه يكون سببا لإبعاده عن التعاون مع الناس ويخلق له عالما من الوحشة والغربة والانزواء كما ورد في حديث عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام أنّه قال : «من لم يحسن ظنّه استوحش من كلّ أحد»(٢) .

وبتعبير آخر ، إنّ ما يفصل حياة الإنسان عن الحيوان ويمنحها الحركة والرونق

__________________

(١) المحجّة البيضاء ، ج ٥ ، ص ٢٦٨.

(٢) غرر الحكم الصفحة ٦٩٧.

٥٥٢

والتكامل هو روح التعاون الجماعي ، ولا يتحقق هذا الأمر إلّا في صورة أن يكون الاعتماد على الناس (وحسن الظن بهم) حاكما في حين أنّ سوء الظن يهدم قواعد هذا الاعتماد ، وتنقطع به روابط التعاون ، وتضعف به الروح الاجتماعية.

وهكذا الحال في التجسس والغيبة أيضا.

إنّ سيئ النظرة والظن يخافون من كلّ شيء ويستوحشون من كلّ أحد وتستولي على أنفسهم نظرة الخوف ، فلا يستطيعون أن يقفوا على ولي ومؤنس يطوي الهموم ، ولا يجدون شريكا للنشاطات الاجتماعية ، ولا معينا ونصيرا ليوم الشدّة!

ولا بأس بالالتفات إلى هذه اللطيفة ، وهي أنّ المراد من «الظن» هنا هو الظن الذي لا يستند إلى دليل ، فعلى هذا إذا كان الظن في بعض الموارد مستندا إلى دليل فهو ظنّ معتبر ، وهو مستثنى من هذا الحكم ، كالظن الحاصل من شهادة نفرين عادلين.

٢ ـ لا تجسّسوا!

رأينا أنّ القرآن يمنع جميع أنواع التجسس بصراحة تامّة ، وحيث إنّه لم يذكر قيدا أو شرطا في الآية فيدل هذا على أنّ التجسس في أعمال الآخرين والسعي إلى إذاعة أسرارهم إثم ، إلّا أنّ القرائن الموجودة داخل الآية وخارجها تدل على أنّ هذا الحكم متعلّق بحياة الأفراد الشخصية والخصوصية.

ويصدق هذا الحكم أيضا في الحياة الاجتماعية في صورة أن لا يؤثر في مصير المجتمع.

لكن من الواضح أنّه إذا كان لهذا الحكم علاقة بمصير المجتمع أو مصير الآخرين فإنّ المسألة تأخذ طابعا آخر ، ومن هنا فإنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد أعدّ أشخاصا وأمرهم أن يكونوا عيونا لجمع الأخبار واستكشاف المجريات

٥٥٣

واستقصائها ليحيطوا بما له علاقة بمصير المجتمع.

ومن هذا المنطلق أيضا يمكن للحكومة الإسلامية أن تتّخذ أشخاصا يكونون عيونا لها أو منظمة واسعة للإحاطة بمجريات الأمور ، وأن يواجهوا المؤامرات ضد المجتمع أو التي يراد بها إرباك الوضع الأمني في البلاد ، فيتجسّسوا للمصلحة العامة حتى لو كان ذلك في إطار الحياة الخاصة للأفراد!

إلّا أنّ هذا الأمر لا ينبغي أن يكون ذريعة لهتك حرمة هذا القانون الإسلامي الأصيل ، وأن يسوّغ بعض الأفراد لأنفسهم أن يتجسّسوا في حياة الأفراد الخاصة بذريعة التآمر والإخلال بالأمن ، فيفتحوا رسائلهم مثلا ، أو يراقبوا الهاتف ويهجموا على بيوتهم بين حين وآخر!!

والخلاصة أنّ الحدّ بين التجسس بمعناه السلبي وبين كسب الأخبار الضرورية لحفظ أمن المجتمع دقيق وظريف جدا ، وينبغي على مسئولي إدارة الأمور الاجتماعية أن يراقبوا هذا الحدّ بدقّة لئلّا تهتك حرمة أسرار الناس ، ولئلّا يتهدّد أمن المجتمع والحكومة الإسلامية!.

٣ ـ الغيبة من أعظم الذنوب وأكبرها!

قلنا إنّ رأس مال الإنسان المهم في حياته ماء وجهه وحيثيّته ، وأي شيء يهدّده فكأنّما يهدّد حياته بالخطر.

وأحيانا يعدّ اغتيال وقتل الشخصية أهم من اغتيال الشخص نفسه ، ومن هنا كان إثمه أكبر من قتل النفس أحيانا.

إنّ واحدة من حكم تحريم الغيبة أن لا يتعرّض هذا الإعتبار العظيم للأشخاص ورأس المال آنف الذكر لخطر التمزّق والتلوّث وأن لا تهتك حرمة الأشخاص ولا تلوّث وحيثيّاتهم ، وهذا مطلب مهم تلقاه الإسلام باهتمام بالغ!

والأمر الآخر إنّ الغيبة تولّد النظرة السيئة وتضعف العلائق الاجتماعية وتوهنها

٥٥٤

وتتلف رأس المال الاعتماد وتزلزل قواعد التعاون «الاجتماعي»!

ونعرف أنّ الإسلام أولى أهمية بالغة من أجل الوحدة والانسجام والتضامن بين أفراد المجتمع ، فكلّ أمر يقوي هذه الوحدة فهو محل قبول الإسلام وتقديره ، وما يؤدّي إلى الإخلال بالأواصر الاجتماعية فهو مرفوض ، والاغتياب هو أحد عوامل الوهن والتضعيف

ثمّ بعد هذا كلّه فإنّ الاغتياب ينثر في القلوب بذور الحقد والعداوة وربّما أدّى أحيانا إلى الاقتتال وسفك الدماء في بعض الأحيان.

والخلاصة أنّنا حين نقف على أنّ الاغتياب يعدّ واحدا من كبائر الذنوب فإنّما هو لآثاره السيئة فردية كانت أم اجتماعية!

وفي الروايات الإسلامية تعابير مثيرة في هذا المجال نورد هنا على سبيل المثال بعضا منها!

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الدرهم يصيبه الرجل من الربا أعظم عند الله في الخطيئة من ست وثلاثين زنية يزنيها الرجل وأربى الربى عرض الرجل المسلم»(١) .

وما ذلك إلّا لأنّ الزنا وإن كان قبيحا وسيئا ، إلّا أنّ فيه جنبة حق الله ، ولكن الربا وما هو أشدّ منه كإراقة ماء وجه الإنسان وما إلى ذلك فيه جنبة حق الناس.

وقد ورد في رواية أخرى أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطب يوما بصوت عال ونادى : «يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه! تغتابوا المسلمين ولا تتّبعوا عوراتهم فإنّه من تتّبع عورة أخيه تتّبع الله عورته ومن تتّبع الله عورته يفضحه في جوف بيته»(٢) .

كما ورد في حديث ثالث أن الله أوحى لموسىعليه‌السلام قائلا : «من مات تائبا من

__________________

(١) المحجّة البيضاء ج ٥ ، ص ٢٥٣.

(٢) المصدر السابق ، ص ٢٥٢.

٥٥٥

الغيبة فهو آخر من يدخل الجنة ، ومن مات مصرا عليه فهو أوّل من يدخل النّار»(١) .

كما نقرأ حديثا آخر عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «الغيبة أسرع في دين الرجل المسلم من الأكلة في جوفه»(٢) .

وهذا التشبيه يدلّ على أن الاغتياب كمثل الجرب الذي يأكل اللحم ، فإنّه يذهب بالإيمان بسرعة.

ومع الالتفات إلى أنّ بواعث الغيبة ودوافعها أمور متعدّدة كالحسد والتكبّر والبخل والحقد والأنانية وأمثالها من صفات دميمة وقبيحة يتّضح السرّ في سبب كون الغيبة وتلويث سمعة المسلمين وهتك حرمتهم لها هذا الأثر المدمّر لإيمان الشخص.

والروايات الإسلامية في هذا الصدد كثيرة ، ونختتم بحثنا هذا بذكر حديث آخرنقل عن الإمام الصادقعليه‌السلام إذ يقول : «من روى على مؤمن رواية يريد بها شينه وهدم مروّته ليسقط من أعين الناس أخرجه الله من ولايته إلى ولاية الشيطان فلا يقبله الشيطان»(٣) .

إنّ جميع هذه التأكيدات والعبارات المثيرة إنما هي للأهمية القصوى التي يوليها الإسلام لصون ماء الوجه وحيثيّة المؤمنين الاجتماعية ، وكذلك للأثر المخرّب ـ الذي تتركه الغيبة ـ في وحدة المجتمع والاعتماد المتبادل في القلوب ، وأسوأ من كل ذلك أنت الغيبة تسوق إلى إشعال نار العداوة والبغضاء والنفاق وإشاعة الفحشاء في المجتمع. لأنّه حين تنكشف عيوب الناس الخفيّة عن طريق الغيبة لا تبقى لها خطورة في أعين الناس ويكون التلوّث بها في غاية البساطة!

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) أصول الكافي ، ج ٢ ، باب الغيبة ، الحديث ١ ـ الآكلة نوع من الأمراض الجلدية.

(٣) وسائل الشيعة ، ج ٨ ، الباب ١٥٧ ، الحديث ٢ ، الصفحة ٦٠٨.

٥٥٦

٤ ـ مفهوم الاغتياب؟

«الغيبة» أو الاغتياب كما هو ظاهر الاسم ما يقال في غياب الشخص ، غاية ما في الأمر أنّه بقوله هذا يكشف عيبا من عيوب الناس. سواء كان عيبا جسديا أو أخلاقيّا أو في الأعمال أو في المقال بل حتى في الأمور المتعلّقة به كاللباس والبيت والزوج والأبناء وما إلى ذلك!

فبناء على هذا ما يقال عن الصفات الظاهرة للشخص ، الآخر لا يعدّ اغتيابا ، إلّا أن يراد منه الذم والعيب فهو في هذه الصورة حرام ، كما لو قيل في مقام الذم أنّ فلانا أعمى أو أعور أو قصير القامة أو شديد الأدمة والسمرة أكوس اللحية إلخ

فيتّضح من هذا أنّ ذكر العيوب الخفية بأي قصد كان يعدّ غيبة وهو حرام أيضا ، وذكر العيوب الظاهرة إذا كان بقصد الذم فهو حرام ، سواء أدخلناه في مفهوم الغيبة أم لا؟! كل هذا في ما لو كانت هذه العيوب في الطرف الآخر واقعية ، أمّا إذا لم تكن أصلا فتدخل تحت عنوان «البهتان» وإثمه أشدّ من الاغتياب بمراتب.

ففي حديث ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «الغيبة أن تقول في أخيك ما ستره الله عليه ، وأمّا الأمر الظاهر فيه مثل الحدّة والعجلة فلا ، والبهتان أن تقول ما ليس فيه»(١) .

ومن هنا يتبيّن أنّ ما يتبجّح به العوام من أعذار في الغيبة غير مقبول كأن يقول المغتاب : ليس هذا اغتيابا بل هو صفته ، في حين إذا لم يكن قوله الذي يعيبه فيه صفة له فهو بهتان لا أنّه غيبة.

أو أن يقول : هذا كلام أقوله في حضوره أيضا ، في حين أنّ كلامه أمام الطرف الآخر لا يترتّب عليه إثم الاغتياب فحسب ، بل يتحمّل بسبب الإيذاء إثما أكبر ووزرا أثقل.

__________________

(١) أصول الكافي ، ج ٢ ، باب الغيبة والبهت ، الحديث ٧.

٥٥٧

٥ ـ علاج الغيبة والتوبة منها!

إنّ الغيبة كسائر الصفات الذميمة تتحوّل تدريجا إلى صورة مرض نفسي بحيث يلتذ المغتاب من فعله ويحس بالاغتباط والرضا عند ما يريق ماء وجه فلان ، وهذه مرتبة من مراتب المرض القلبي الخطير جدا.

ومن هنا فينبغي على المغتاب أن يسعى إلى علاج البواعث الداخلية للاغتياب التي تكمن في أعماق روحه وتحضّه على هذا الذنب ، من قبيل البخل والحسد والحقد والعداوة والاستعلاء والأنانية!

فعليه أن يطهّر نفسه عن طريق بناء الشخصية والتفكير في العواقب السيئة لهذه الصفات الذميمة وما ينتج عنها من نتائج مشؤومة ، ويغسل قلبه عن طريق الرياضة النفسية ليستطيع أن يحفظ لسانه من التلوّث بالغيبة.

ثمّ يتوجّه إلى مقام التوبة ، وحيث أنّ التوبة من الغيبة فيها «جنبة» حق الناس ، فإنّ عليه إذا كان ممكنا ولا يحصل له أيّ مشكل أو معضل ـ أن يعتذر ممّن اغتابه حتى ولو بصورة مجملة أو معمّاة كأن يقول : إنّني أغتابك أحيانا لجهلي فسامحني واعف عني ولا يطيل في بيان الغيبة وشرحها لئلّا يحدث عامل آخر للفساد أو الإفساد!

وإذا لم يستطع الوصول إلى الطرف الآخر ، أو لا يعرفه ، أو أنّه مضى إلى ربّه فيستغفر له ويعمل صالحا ، فلعلّ الله يغفر له ببركة العمل الصالح ويرضي عنه الطرف الآخر.

٦ ـ موارد الاستثناء!

وآخر ما ينبغي ذكره في شأن الغيبة أنّ قانون الغيبة كأي قانون آخر له استثناءات ، من جملتها أنّه يتفق أحيانا في مقام «الاستشارة» مثلا لانتخاب الزوج أو الشريك في الكسب وما إلى ذلك أن يسأل إنسان أنسانا آخر ، فالأمانة في

٥٥٨

المشورة التي هي قانون إسلامي مسلّم به توجب أن تبيّن العيوب إن وجدت في الشخص الآخر لئلّا يتورّط المسلم في مشكلة ، فمثل هذا الاغتياب بمثل هذا القصد لا يكون حراما.

وكذلك في الموارد الأخرى التي فيها أهداف مهمّة كهدف المشورة في العمل أو لإحقاق الحق أو التظلّم وما إلى ذلك.

وبالطبع فإنّ «المتجاهر بالفسق» خارج عن موضوع الغيبة ، ولو ذكر إثمه في غيابه فلا إثم على مغتابه ، إلّا أنّه ينبغي الالتفات إلى أنّ هذا الحكم خاص بالذنب الذي يتجاهر به فحسب.

وممّا يسترعي الالتفات أيضا هو أنّ الغيبة ليست حراما فحسب ، فالاستماع إليها حرام أيضا ، والحضور في مجلس الاغتياب حرام ، بل يجب طبقا لبعض الروايات أن يردّ على المغتاب ، يعني أن يدافع عن أخيه المسلم الذي يراد إراقة ماء وجهه ، وما أحسن مجتمعا تراعى فيه هذه الأصول الأخلاقية بدقّة!

* * *

٥٥٩

الآية

( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣) )

التّفسير

التقوى أغلى القيم الإنسانية :

كان الخطاب في الآيات السابقة موجّها للمؤمنين وكان بصيغة :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) وقد نهى الذكر الحكيم في آيات متعدّدة عمّا يوقع المجتمع الإسلامي في خطر ، وتكلّم في جوانب من ذلك.

في حين أنّ الآية محل البحث تخاطب جميع الناس وتبيّن أهم أصل يضمن النظم والثبات ، وتميّز الميزان الواقعي للقيم الإنسانية عن القيم الكاذبة والمغريات الباطلة. فتقول :( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا ) .

والمراد بـ( خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى ) هو أصل الخلقة وعودة أنساب الناس إلى «آدم وحواء» ، فطالما كان الجميع من أصل واحد فلا ينبغي أن تفتخر قبيلة على

٥٦٠

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710