الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل8%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 710

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 710 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 179391 / تحميل: 6449
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

يقول : إنّ ناسخه هو آية الطلاق إذ يقول سبحانه :( إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ ) في حين أنّ هذه الآية لا ترتبط بالمسألة المطروحة في هذا البحث لأنّ هذه الآية تبحث في الطلاق ، في حين أن الزواج المؤقت (أو المتعة) لا طلاق فيه ، والإفتراق بين الطرفين في هذا الزواج يتمّ بانتهاء المدّة المقررة.

إنّ القدر المتيقن في المقام هو أن أصل مشروعية هذا النوع من الزواج في زمن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر قطعي ومفروغ عنه ، وليس ثمّة أي دليل يمكن الاطمئنان إليه ويثبت نسخ هذا الحكم ، ولهذا فلا بدّ من أن نحكم ببقاء هذا الحكم ، بناء على ما هو مقرر وثابت في علم الأصول.

والعبارة المشهورة المروية عن «عمر» خير شاهد على هذه الحقيقة ، وهي أنّ هذا الحكم لم ينسخ في زمن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإلخ.

ثمّ إن من البديهي أنّه لا يحق لأحد إلّا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ينسخ الأحكام ، فهو وحده يحق له ـ وبأمر من الله سبحانه وإذنه ـ أن ينسخ بعض الأحكام ، وقد سد باب نسخ الأحكام بعد وفاة النّبي تماما ، وإلّا لاستطاع كل واحد أن ينسخ شيئا من الأحكام الإلهية حسب اجتهاده ومزاجه ، وحينئذ لا يبقى شيء من الشريعة الخالدة الأبدية ، وهذا مضافا إلى أنّ الاجتهاد في مقابل النص النّبوي لا ينطوي على أية قيمة أبدا.

والملفت للنظر أننا نقرأ في صحيح الترمذي الذي هو من صحاح أهل السنة المعروفة،وكذا عن الدارقطني(١) أن رجلا من أهل الشام سأل «عبد الله بن عمر» عن التمتع بالعمرة إلى الحج ، فقال ابن عمر : حسن جميل ، قال : فإن أباك كان ينهى عنها،فقال:ويلك فإن كان أبي نهى عنها وقد فعله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمر به أفبقول أبي آخذ ، أم بأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قم عنّي(٢) .

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ج ٢ ، ص ٧٦٢ ، ذيل الآية (١٩٥) البقرة.

(٢) المراد من متعة الحج التي حرّمها عمر هو لو أننا صرفنا النظر عن حج التمتع ، فإن حج التمتع عبارة عن الأمر

١٨١

وقد ورد نظير هذا الحديث وبنفس الصورة التي قرأتها حول زواج المتعة عن «عبد الله بن عمر» في صحيح الترمذي(١) .

وجاء في كتاب «المحاضرات» للراغب أنّ رجلا من المسلمين كان يفعلها (أي المتعة) فقيل له : عمّن أخذت حلّها؟ فقال : عن عمر ، فقالوا : كيف ذلك وعمر هو الذي نهى عنها وعاقب على فعلها؟ فقال : لقوله : متعتان كانتا على عهد رسول الله ، وأنا أحرمهما وأعاقب عليهما متعة الحج ومتعة النساء ، فأنا أقبل روايته في شرعيتها على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما أقبل نهيه من قبل نفسه(٢) .

ثمّ إن هناك مطلبا آخر لا بدّ أن نذكر به هنا وهو أن الذين ادعوا نسخ هذا الحكم (أي انتساخه) قد واجهوا مشكلات عديدة.

أوّلا : أنّه صرّح في روايات عديدة في مصادر أهل السنة بأنّ هذا الحكم لم ينسخ في عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبدا ، بل نهي عنه في عهد عمر ، وعلى هذا يجب على مدعي النسخ أن يجيبوا على هذه الروايات البالغة ـ عددا ـ عشرين رواية ، جمعها العلّامة الأمينيرحمه‌الله مفصلة في الجزء السادس من «الغدير» وها نحن نشير إلى نموذجين منها.

١ ـ روي في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنّه كان يقول : كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيّام على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر حتى ـ ثمّ ـ نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث(٣) .

٢ ـ وفي حديث آخر في كتاب «الموطأ» لمالك و «السنن الكبرى» للبيهقي

__________________

التالي : إن يحرم الشخص أوّلا ، ثمّ بعد الإتيان بمناسك «العمرة» يخرج من إحرامه (فيحلّ له كل شيء حتى الجماع) ثمّ يحرم من جديد ليؤدي مناسك الحج من تاسع ذي الحجّة ، وقد كان الناس في الجاهلية يبطلون هذا العمل ويستغربون ممن يدخل مكّة أيام الحج ثمّ يأتي بالعمرة ويخرج من إحرامه قبل أن يأتي بالحج ، ولكن الإسلام أباح هذا وقد صرّح بهذا الأمر في الآية (١٨٦) من سورة البقرة.

(١) شرح اللمعة الدمشقية ، ج ٢ ، كتاب النكاح.

(٢) كنز العرفان ، ج ٢ ، ص ١٥٩ الهامش.

(٣) الغدير ، ج ٦ ، ص ٢٠٥ و ٢٠٦.

١٨٢

روي عن «عروة بن زبير» إنّ خولة بنت حكيم دخلت على عمر بن الخطابرضي‌الله‌عنه فقالت : إنّ ربيعة بن أميّة استمتع بامرأة مولدة فحملت منه فخرج عمررضي‌الله‌عنه يجرّ رداءه فزعا فقال : هذه المتعة لو كنت تقدمت فيه لرجمته ، (أي أمنع منها من الآن)(١) .

وفي كتاب «بداية المجتهد» تأليف «ابن رشد الأندلسي» نقرأ أيضا أنّ جابر بن عبد الله الأنصاري كان يقول : تمتعنا على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر ونصفا من خلافة عمر ثمّ نهى عنها عمر الناس(٢) .

والمشكلة الاخرى هي أنّ الروايات التي تتحدث عن نسخ حكم المتعة في عهد رسول الله مضطربة ومتناقضة جدّا ، فبعضها يقول نسخ في خيبر وبعضها يقول : نسخ يوم فتح مكّة ، وبعض يقول : في معركة تبوك وآخر يقول : يوم أوطاس وما شابه ذلك ، ومن هنا يتبيّن إن هذه الأحاديث المشيرة إلى النسخ موضوعة برمتها لما فيها من التناقض البيّن والتضارب الواضح.

من كل ما قلناه اتّضح أنّ ما كتبه صاحب تفسير المنار حيث قال : «وقد كنّا قلنا في (محاورات المصلح والمقلد) التي نشرت في المجلدين الثالث والرابع : من المنار أن عمر نهى عن المتعة اجتهادا منه وافقه عليه الصحابة ثمّ تبيّن لنا أنّ ذلك خطأ فنستغفر الله منه»(٣).

إنّه حديث العصبية لأنّ هناك في مقابل الرّوايات المتضاربة المتناقضة التي تتحدث عن انتساخ حكم المتعة في عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم روايات تصرّح باستمرار المسلمين على ممارسة هذا الأمر (أي المتعة) إلى عهد عمر ، وعلى هذا ليس المقام مقام الاعتذار ولا الاستغفار ، فالشواهد التي ذكرناها سابقا تشهد بأن

__________________

(١) الغدير ، ج ١ ، ص ٢٠٥ و ٢٠٦.

(٢) بداية المجتهد كتاب النكاح.

(٣) تفسير المنار ، ج ٥ ، ص ١٦.

١٨٣

كلامه الأوّل مقترن بالحقيقة وليس كلامه الثّاني كذلك.

ولا يخفى أنّه لا «عمر» ولا أي شخصية أخرى حتى أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام وهم خلفاء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقادرين على نسخ أحكام ثبتت في عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل لا معنى للنسخ ـ أساسا ـ بعد وفاة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانسداد باب الوحي وانقطاعه ، وحملهم كلام «عمر» على الاجتهاد مثير للعجب ، لأنّه من «الاجتهاد» في مقابل «النص».

وأعجب من ذلك أن جماعة من فقهاء السنة اعتبروا الآيات المرتبطة بأحكام الزواج مثل الآية (٦) من سورة المؤمنين ناسخة لآية المتعة ، وكأنّهم تصوروا أن زواج المتعة ليس زواجا أصلا ، في حين أنّه أحد أقسام الزواج.

الزّواج المؤقت ضرورة اجتماعية :

إنّه قانون عام إن الغريزة البشرية الطبيعية إذا لم تلّب بصورة صحيحة سلك الإنسان لإشباعها وتلبيتها طريقا منحرفا ، لأن من الحقائق المسلمة غير القابلة للإنكار أن الغرائز الطبيعية لا يمكن أن يقضى عليها بالمرّة وحتى أننا إذا استطعنا أن نقضي عليها ـ افتراضا ـ لم يكن هذا العمل عملا صحيحا ، لأنّه حرب على قانون من قوانين الخلقة.

وعلى هذا فإنّ الطريق الصحيح هو أن نشبع هذه الحاجة ، ونلبي هذه الغريزة بطريقة معقولة ، وأن نستفيد منها في سبيل البناء.

على أننا لا يمكننا أن ننكر أنّ الغريزة الجنسية هي إحدى أقوى الغرائز الإنسانية إلى درجة أن بعض المحللين النفسانيين اعتبرها الغريزة الإنسانية الأصلية التي إليها ترجع بقية الغرائز الاخرى.

فإذا كان الأمر كذلك ينطرح سؤال في المقام وهو أنّه قد يكون هناك من لا يمكنه ـ وفي كثير من الظروف والأحوال ـ أن يتزوج بالزواج الدائم في سن

١٨٤

خاص ، أو يكون هناك من المتزوجين من سافر في رحلة طويلة ومهمّة بعيدة عن الأهل فيواجه مشكلة الحاجة الجنسية الشديدة التي تتطلب منه التلبية والإرضاء.

خاصّة وإنّ هذه المسألة قد اتّخذت في عصرنا الحاضر الذي أصبح فيه الزواج ـ بسبب طول مدّة الدراسة وبعد زمن التخرج وبعض المسائل الاجتماعية المعقدة التي قلّما يستطيع معها الشباب أن يتزوجوا في سن مبكرة ، أي في السن التي تعتبر فترة الفوران الجنسي لدى كل شاب ـ اتّخذت صفة أكثر عنفا وضراوة ، ترى ما الذي يجب عمله في هذه الحالة؟

هل يجب حثّ الناس على أن يقمعوا هذه الغريزة (كما يفعل الرهبان والراهبات)؟أو أنّه يجب أن يفسح لهم المجال لأن يتحرروا جنسيا فيفعلوا ما شاؤوا أن يفعلوا،فتتكرر الصورة المقرفة؟

أو أن نسلك طريقا ثالثة تخلو عن مشاكل الزواج الدائم ، كما وتخلو عن مفاسد التحرر الجنسي أيضا؟

وخلاصة القول إن الزواج الدائم لم يكن لا في السابق ولا في الحاضر بقادر على أن يلبي كل الاحتياجات الجنسية ، ولا أن يحقق رغبات جميع الفئات والطبقات في الناس،فنحن لذلك أمام خيارين لا ثالث لهما وهما : إمّا أن نسمح بالفحشاء والبغاء ونعترف به (كما هو الحال في المجتمعات المادية اليوم حيث سمحوا بالبغاء بصورة قانونية) أو أن نعالج المسألة عن طريق الزواج المؤقت (المتعة) فما هو يا ترى جواب الذين يعارضون فكرة البغاء ، وفكرة المتعة ، على هذا السؤال الملح؟

إنّ أطروحة الزواج المؤقت (المتعة) ليست مقيدة بشرائط النكاح الدائم لكي يقال بأنّها لا تنسجم ولا تتلاءم مع عدم القدرة المالية ، أو لا تتلاءم مع ظروف

١٨٥

الدراسة ، كما لا تنطوي على إضرار الفحشاء والبغاء ومفاسده وويلاته.

مؤاخذات على الزواج المؤقت :

نعم هناك مؤاخذات تؤخذ على الزواج المؤقت لا بدّ أن نذكرها هنا ، ونجيب عليها باختصار.

١ ـ ربّما يقال : ما الفرق بين «الزواج المؤقت» و «الزنا» ، أليس كلاهما بيع للجسد لقاء دفع مبلغ معين ، وفي الحقيقة ليس وصف الزواج المؤقت سوى ستار على وجه الفحشاء والزنا ، نعم غاية الفرق بين الأمرين هو إجراء ما يسمّى بالصيغة ، وهي ليست سوى عبارة بسيطة.

والجواب هو : إن الذين يرددون هذا الكلام كأنّهم لم يطّلعوا أصلا على مفهوم الزواج المؤقت وحقيقته ، لأنّ الزواج المؤقت ليس عبارة عن مجرّد كلمتين تقال وينتهي كل شيء، بل ثمّة مقررات نظير ما في الزواج الدائم ، يعني أن المرأة المتمتع بها تكون ـ طوال المدّة المضروبة في الزواج المؤقت خاصّة بالرجل المتمتع ، ثمّ عند ما تنتهي المدّة المذكورة يجب على المرأة أن تعتد ، يعني أن تمتنع من الزواج مطلقا برجل آخر لمدّة خمسة وأربعين يوما على الأقل ، حتى يتبيّن أنّها حملت من الرجل الأوّل أو لا ، على أنّها يجب أن تعتد حتى إذا توسلت بوسائل لمنع الحمل أيضا وإذا حملت من ذلك الرجل وأتت بوليد وجب أن يتكفله ذلك الرجل كما يتكفل أمر ولده من الزواج الدائم ويجري عليه من الأحكام كل ما يجري على الولد الناشئ من الزواج الدائم ، في حين أن الزنا والبغاء لا ينطوي على أي شيء من هذه الشروط والحدود ، فهل يمكن أن نقيس هذا الزواج بالبغاء؟

نعم إنّ بين الزواج المؤقت والزواج الدائم بعض الفروق من حيث التوارث

١٨٦

بين الزوجتين(١) والنفقة وبعض الأحكام ، ولكن هذه الفروق لا تسبب في أن يجعل «الزواج المؤقت» في رديف البغاء ، خلاصة القول : إنّ المتعة نوع من الزواج بمقررات الزواج والنكاح.

٢ ـ إنّ «الزواج المؤقت» يتيح لبعض الأشخاص من طلاب الهوى أن يسيء استعمال هذا القانون ، وأن يرتكبوا كل فاحشة تحت هذا الستار لدرجة أن ذوي الشخصيات من الناس لا تقبل بمثل هذا الزواج ، بل وتأنف منه كما أن ذوات الشخصية من النساء يأبين ذلك أيضا.

والجواب هو : وأي قانون في عالمنا الراهن لم يسأ استعماله؟ وهل يجوز أن نمنع من الأخذ بقانون تقتضيه الفطرة البشرية وتمليه الحاجة الاجتماعية الملحة بحجّة أن هناك من يسيء استعماله ، أم أن علينا أن نمنع من سوء استخدام القانون الصحيح؟

لو أنّ البعض استغل موسم الحج لبيع المخدرات على الحجيج ـ افتراضا ـ فهل يجب أن نمنع من هذا التصرف الشائن ، أم نمنع من اشتراك الناس في هذا المؤتمر الإسلامي العظيم؟

وهكذا الأمر في المقام ، وإذا لا حظنا بعض الناس من ذوي الشخصيات يكره الأخذ بهذا القانون الإسلامي (أي الزواج المؤقت) لم يكشف ذلك عن عيب في القانون ، بل يكشف عن عيب في العاملين به ، أو بتعبير أصح : يكشف عن عيب في الذين يسيئون استخدام القانون.

فلو أنّ الزواج المؤقت اتّخذ في المجتمع المعاصر صورته الصحيحة ، وقامت الحكومة الإسلامية بتطبيقه على النحو الصحيح ، وضمن ضوابطه ومقرراته الخاصّة به ، أمكن المنع من سوء استخدام المستغلين لهذا القانون ، كما لم يعد ذوو الشخصيات يكرهون هذا القانون ويرفضونه عند وجود ضرورة

__________________

(١) طبعا ليس هناك أي فرق بين أولاد الزواج المؤقت وأبناء الزواج الدائم من هذه النواحي.

١٨٧

اجتماعية أيضا.

٣ ـ يقولون : إنّ «الزواج المؤقت» يسبب في أن يحصل في المجتمع أطفال بلا أسر،تماما كما يحصل من البغاء من الأولاد الغير الشرعيين.

والجواب هو : إنّ الإجابة على هذه المؤاخذة تتّضح تماما ممّا قلناه ، لأنّ الأولاد غير الشرعيين غير مرتبطين بآبائهم ولا أمهاتهم من الناحية القانونية ، في حين إن الأولاد الناتجين من الزواج المؤقت لا يختلفون في أي شيء عن الأولاد الناشئين من الزواج الدائم حتى في الميراث وسائر الحقوق الاجتماعية ، وهذا الاعتراض نشأ من عدم الانتباه إلى هذه الحقيقة الساطعة في صعيد الزواج المؤقت.

«راسل» والزواج المؤقت :

في خاتمة هذا البحث من المفيد الإشارة إلى موضوع هام ذكره في هذا المجال العالم الإنجليزي المعروف «برتراندراسل» في كتابه : «الزواج والأخلاق» تحت عنوان «زواج اختياري».

لقد كتب راسل بعد أن ذكر اقتراحا لأحد قضاة محاكم الشباب يدعى «بن بن بي ليندسي» في مجال «الزواج الودّي أو الزواج الاختياري» قائلا : وفق هذا الاقتراح يجب أن يكون الشباب قادرين على أن يدخلوا في نوع جديد من الزواج يختلف عن الزواج المتعارف (الدائم) من ثلاث نواح :

أوّلا : أن لا يقصد الطرفان الحصول على أبناء ، ولهذا يجب أن يتعرفوا على أفضل السبل لمنع الحمل.

وثانيا : أن يتمّ الإفتراق بين الطرفين بأبسط الطرق وأسهلها.

وثالثا : أن لا تستحق المرأة أي نفقة من الرجل بعد وقوع الإفتراق والطلاق بينهما.

١٨٨

ثمّ إنّ راسل بعد أن يذكر خلاصة ما اقترحه «ليندسي» يقول : وإنّي لأتصور أن مثل هذا الأمر لو اعترف به القانون لأقبل جمهور كبير من الشباب وخاصّة الطلبة الجامعيين على الزواج المؤقت ولدخلوا في حياة مشتركة مؤقتة ، حياة تتمتع بالحرية ، وخالصة من كثير من التبعات والعواقب السيئة للعلاقات الجنسية الطائشة ، الراهنة»(١) .

إنّ هذا الطرح ـ كما تلاحظ أيّها القارئ الكريم ـ حول الزواج المؤقت يشابه إلى حدّ كبير قانون الزواج المؤقت الإسلامي ، غاية ما هنالك إنّ الشروط التي قرّرها الإسلام في صعيد «الزواج المؤقت» أوضح وأكمل من نواحي كثيرة ممّا اعتبر في ذلك الطرح (الذي اقترحه ليندسي) ، هذا مضافا إلى أن المنع من تكون الولد في الزواج المؤقت الإسلامي غير محضور وإنّ الانفصال سهل ، كما أنّه لا تجب النفقة في هذا الزواج على الرجل.

ثمّ إنّ الله سبحانه قال : ـ بعد ذكر وجوب دفع المهر ـ( وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ ) وهو بذلك يشير إلى أنّه لا مانع من التغيير في مقدار الصداق إذا تراضى طرفا العقد ، وعلى هذا الأساس يكون الصداق نوعا من الدين الذي يخضع للتغيير من زيادة أو نقصان إذا تراضيا. (ولا فرق في هذا الأمر بين العقد المؤقت والعقد الدائم وإن كانت الآية الحاضرة ـ كما شرحنا ذلك سلفا ـ تدور حول الزواج المؤقت).

ثمّ إنّ هناك احتمالا آخر في تفسير الآية أيضا وهو أنّه لا مانع من أن يقدم الطرفان ـ بعد انعقاد الزواج المؤقت على تمديد مدّة هذا الزواج وكذا التغيير في مقدار المهر برضا الطرفين ، وهذا يعني أن مدّة الزواج المؤقت قابلة للتمديد حتى عند إشرافها على الانتهاء (أي قبيل انتهائها) بأن يتفق الزوجات أن يضيفا على المدّة المتفق عليها في مطلع هذا الزواج ، مدّة أخرى معينة لقاء إضافة مقدار معين

__________________

(١) من كتاب (زناشوئي وأحلاق) ، ص ١٨٩ ـ ١٩٠.

١٨٩

من المال إلى الصداق المتفق عليه أوّلا (وقد أشير في روايات أهل البيتعليهم‌السلام إلى هذا التّفسير أيضا).

ثمّ أنّه سبحانه قال :( إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً ) يريد بذلك أن الأحكام المذكورة في هذه الآية تتضمّن خير البشرية وصلاحها وسعادتها لأنّ الله عليم بمصالحهم ، حكيم في ما يقرره لهم من القوانين.

* * *

١٩٠

الآية

( وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٥) )

التّفسير

التّزوج بالإماء :

تعقيبا على الأبحاث السابقة المتعلقة بالزواج نزلت هذه الآية تبيّن شروط التزويج بالإماء ، فتقول أولا :( وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً ) (١) ( أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ ) أي من لم يجد قدرة مالية على أن يتزوج بالحرائر من النساء المؤمنات ، وليس لديه ما يقدر على

__________________

(١) «الطول» على وزن «نوع» مأخوذ من الطول (على وزن النور) بمعنى القدرة والإمكانية المالية وما شابه ذلك.

١٩١

مهرهنّ ونفقتهنّ ، فإن له أن يتزوج ممّا ملكت أيمانكم من الإماء ، فإن مهورهنّ أقل ، ومؤونتهنّ أخفّ عادة.

على أنّ المراد من الأمة هنا هي أمة الغير ، إذ لا يجوز لصاحب الأمة أن يتزوج بأمته ويتعامل معها كما يتعامل مع زوجته بشروط مذكورة في الكتب الفقهية.

كما أن التعبير بـ «المؤمنات» في الآية يستفاد منه أنّه يجب أن تكون «الأمة» التي يراد نكاحها مسلمة حتى يجوز التزوج بها ، وعلى هذا لا يصح التزوج بالإماء الكتابيات.

ثمّ إنّ الملفت للنظر في المقام هو أنّ القرآن عبر عن الإماء بالفتيات جمع فتاة ، هو مشعر عادة بالاحترام الخاص الذي يولي للنساء ، وهي تستخدم غالبا في الشّابات من الإناث.

ثمّ إن الله سبحانه عقّب على هذا الحكم بقوله :( وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ ) ويريد بذلك أنكم لستم مكلّفين ـ في تشخيص إيمان الإماء ـ إلّا بالظاهر ، وأمّا الباطن فالله هو الذي يعلم ذلك ، فهو وحده العالم بالسرائر ، والمطلع على الضمائر.

وحيث إن البعض كان يكره التزوج بالإماء ويستنكف من نكاحهنّ قال تعالى :( بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ) أي أنّكم جميعا من أب واحد ، وأمّ واحدة ، فإذن يجب أن لا تستنكفوا من التزوج بالإماء اللاتي لا يختلفن من الناحية الإنسانية عنكم ، واللائي يشبهنّ غيرهنّ من ناحية القيمة المعنوية ، فقيمتهنّ تدور مدار التقوى والإيمان لا غير.

وخلاصة القول إنّ الإماء من جنسكم ، وكلّكم كأعضاء جسم واحد.

نعم لا بدّ أن يكون التزوج بالإماء بعد إذن أهلهنّ وإلّا كان باطلا ، وإلى هذا أشار سبحانه بقوله :( فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ ) والتعبير عن المالك بالأهل إنّما هو للإشارة إلى أنّه لا يجوز التعامل مع الإماء على أنهنّ متاع أو بضاعة ، بل يجب

١٩٢

أن يكون التعامل معهنّ على أنهنّ من أعضاء العائلة ، فلا بدّ أن يكون تعاملا إنسانيا كاملا.

ثمّ إنّه سبحانه قال :( وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) ومن هذه الجملة يستفاد أن الصّداق الذي يعطى نهنّ يجب أن يكون متناسبا مع شأنهن ومكانتهن ، وأن يعطى المهر لهنّ ، يعني أن الامة تكون هي المالكة للصداق ، وإن ذهب بعض المفسرين إلى أن في الآية حذفا ، أي أن الأصل هو (وآتوا مالكهنّ أجورهنّ) غير أن التّفسير لا يوافق ظاهر الآية ، وإن كانت تؤيده بعض الروايات والأخبار.

هذا ويستفاد أيضا من ظاهر الآية أنه يمكن للعبيد والإماء أن يملكوا ما يحصلون عليه بالطرق المشروعة.

كما يستفاد من التعبير بـ «المعروف» أنّه لا يجوز أن تظلم الإماء في تعيين مقدار المهر ، بل هو حقهنّ الطبيعي الحقيقي الذي يجب أن يعطى إليهنّ بالقدر المتعارف.

ثمّ إن الله سبحانه ذكر شرطا آخر من شروط هذا الزواج ، وهو أن يختار الرجل للزواج العفائف الطاهرات من الإماء اللائي لم يرتكبن البغاء إذ قال :

( مُحْصَناتٍ ) سواء بصورة علنية( غَيْرَ مُسافِحاتٍ ) أو بصورة خفية( وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ ) (١) أي أصدقاء وأخلاء في السرّ.

ويمكن أن يرد هنا سؤال هو أنّ النهي عن الزنا بلفظة( غَيْرَ مُسافِحاتٍ ) تكفي وتغني عن النهي عن اتّخاذ الأخدان ، فلما ذا الوصف الثاني أيضا؟

ويجاب على هذا : بأن البعض ـ في عهد الجاهلية ـ كان يرى أنّ المذموم فقط هو الزنا العلني والسفاح الظاهر ، وأمّا اتّخاذ الأخلاء والرفاق أو الرفيقات في

__________________

(١) الأخدان جمع «خدن» وهي بمعنى الرفيق والخل في الأصل ، ولكنها تستعمل عادة في الأشخاص الذين يقيمون علاقات جنسية غير مشروعة مع الجنس الآخر ، ولا بدّ أن نعرف أن القرآن أطلق لفظة الخدن على المرأة كما أطلقها على الرجل.

١٩٣

السرّ فلا بأس به ، وبهذا يتّضح سبب ذكر القرآن وتصريحه بكلا النوعين.

ثمّ إن الله سبحانه قال :( فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ) .

وتتضمن الآية بحثا حول عقوبة الإماء إذا خرجن عن جادة العفة والطهر ، وذلك بعد أن ذكر قبل هذا بعض أحكام الزواج بالإماء ، وبعض الأحكام حول حقوقهنّ.

والحكم المذكور في هذا المجال هو أن الإماء إذا زنين فجزاؤهنّ نصف جزاء الحرائر إذا زنين ، أي خمسون جلدة.

ثمّ إنّ هاهنا نقطة جديرة بالانتباه هي أنّ القرآن الكريم يقول في هذا المقام( فَإِذا أُحْصِنَ ) فيكون معناه أنّ الجزاء المذكور إنّما يترتب على زنا الأمة إذا أحصنت ، فما ذا يعني ذلك؟

لقد احتمل المفسّرون هنا احتمالات عديدة ، فبعضهم ذهب إلى أنّ المراد هو الأمة ذات بعل (وذلك حسب الاصطلاح الفقهي المعروف والآية السابقة).

وذهب آخرون إلى أنّ المراد هي الأمة المسلمة ، بيد أن تكرار لفظة المحصنة مرتين في الآية يقضي بأن يكون المعنى واحدا في المقامين ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإن جزاء النساء المحصنات هو الرجم لا الجلد ، فيتّضح أنّ التّفسير الأوّل وهو تفسير المحصنة بالأمة ذات بعل غير مقبول ، كما أنّ التّفسير الثّاني وهو كون المراد من المحصنة هو المسلمة ليس له ما يدل عليه.

فالحقّ هو أنّ مجيء لفظة( الْمُحْصَناتِ ) في القرآن الكريم بمعنى المرأة العفيفة الطاهرة ـ على الأغلب ـ يجعل من القريب إلى النظر أن تكون لفظة المحصنة هنا في الآية الحاضرة مشيرة إلى هذا المعنى نفسه ، فيكون المراد أنّ الإماء اللاتي كن يرتكبن الفاحشة بضغط وإجبار من أوليائهنّ لا يجري عليهنّ

١٩٤

الحكم المذكور (أي الجلد) ، أمّا الإماء اللاتي لم يتعرضن للضغط والإجبار ، ويمكنهنّ أن يعشن عفيفات نقيات ، فإنهنّ إذا أتين بالفاحشة عوقبن كما تعاقب الحرائر وإن كانت عقوبة هذا النوع من الإماء على النصف من حدّ الحرائر في الزنا.

ثمّ قال سبحانه معقبا على الحكم السابق :( ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ ) و «العنت» (على وزن سند) يقال في الأصل للعظم المجبور ـ بعد الكسر ـ إذا أصابه ألم وكسر آخر فهضّه قد أعنته ، لأن هذا النوع من الكسر مؤلم جدّا ، ولهذا يستعمل في المشاكل الباهظة والأعمال المؤلمة.

ويقصد الكتاب العزيز من العبارة الحاضرة أنّ الزواج بالإماء إنّما يجوز لمن يعاني من ضغط شديد بسبب شدّة غلبة الغريزة الجنسية عليه ولم يكن قادرا على التزوج بالحرائر من النساء ، وعلى هذا الأساس لا يجوز الزواج بالإماء لغير هذه الطائفة.

ويمكن أن تكون فلسفة هذا الحكم في أنّ الإماء خاصّة في تلك العهود لم يحظين بتربية جيدة ، ولهذا كن يعانين من نواقص خلقية ونفسية وعاطفية ، ومن الطبيعي أن يتّخذ الأطفال المتولدون من هذا الزواج صفة الأمهات ويكتسبوا خصوصياتهنّ الخلقية ، ولهذا السبب طرح الإسلام طريقة دقيقة لتحرير العبيد تدريجا حتى لا يبتلوا بهذا المصير السيء،وفي نفس الوقت فسح للأرقاء أنفسهم أن يتزوجوا فيما بينهم.

نعم ، هذا الموضوع لا يتنافى مع وضع بعض الإماء اللائي حظين بوضع استثنائي وخاص من الناحية الخلقية والتربوية ، فالحكم المذكور أعلاه يرتبط بأغلبية الإماء ، وكون بعض أمهات الأئمّة ، من أهل البيت النبويعليهم‌السلام من الإماء هو من هذه الجهة ، ولكن لا بدّ من الانتباه إلى أنّ ما قيل في مجال الإماء من

١٩٥

«المنع في غير الضرورة» هو الزواج بهنّ ، لا نكاحهنّ بسبب الملك ، فإنّه لا مانع منه حتى في غير الضرورة.

ثمّ عقب سبحانه على ذلك بقوله :( وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) أي إن صبركم عن التزوج بالإماء ما استطعتم وما لم تقعوا في الزنا خير لكم ومن مصلحتكم :( وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) أي يغفر الله لكم ما تقدم منكم بجهل أو غفلة فهو رحيم بكم.

* * *

١٩٦

الآيات

( يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٦) وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (٢٧) يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (٢٨) )

التّفسير

هذه القيود لما ذا؟ :

بعد أن بيّن الله سبحانه في الآيات السابقة ما هناك من شروط وقيود وأحكام مختلفة في مجال الزواج ، يمكن أن ينقدح سؤال في ذهن البعض وهو : ما المقصود من كلّ هذه القيود ولما ذا الحدود القانونية؟ ألم يكن من الأفضل أن تترك للأفراد الحرية الكاملة في هذه المسائل ، ليتاح لهم أن يستفيدوا من هذا الأمر وليتعرفوا في هذا المجال كما يفعل عبدة الدنيا حيث يتوسلون بكل وسيلة في طريق اللّذة؟

إنّ الآيات الحاضرة هي في الحقيقة إجابة على هذه التساؤلات إذ يقول سبحانه :( يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ) أي أنّ الله يبيّن لكم الحقائق بواسطة هذه القوانين ويهديكم إلى ما فيه مصالحكم ،

١٩٧

مع العلم بأن هذه الأحكام لا تختص بكم ، فقد سار عليها من سبقكم من أهل الحق من الأمم الصالحة ، هذا مضافا إلى أنّ الله تعالى يريد أن يغفر لكم ويعيد عليكم نعمه التي قطعت عنكم بسبب انحرافكم عن جادة الحقّ ، وكل هذا إنّما يكون إذا عدتم عن طريق الانحراف الذي سلكتموه في عهد الجاهلية وقبل الإسلام.

( وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) يعلم بأسرار الأحكام ، ويشرعها لكم عن حكمة.

ثمّ إن الله سبحانه أكّد ما مرّ بقوله :( وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً ) أي أنّ الله يريد بتشريع هذه الأحكام لكم أن يعيد عليكم نعمه التي قطعت ومنعت عنكم بسبب ذنوبكم ، وارتكابكم للشّهوات ، ولكن الذين يريدون الانسياق وراء الشّهوات الغارقين في الآثام والذنوب يريدون لكم أن تنحرفوا عن طريق السعادة ، إنّهم يريدون أن تسايروهم في اتّباع الشّهوات وأن تنغمسوا في الآثار انغماسا كاملا ، فهل ترون ـ والحال هذه ـ إنّ هذه القيود والحدود الكفيلة بضمان سعادتكم وخيركم ومصلحتكم أفضل لكم ، أو الحرية المنفلتة المقرونة بالانحطاط الخلقي ، والفساد والسقوط؟

إنّ هذه الآيات في الحقيقة تجيب على تساؤل أولئك الأفراد الذين يعيشون في عصرنا الحاضر أيضا والذين يعترضون على القيود والحدود المفروضة في مجال القضايا الجنسية ، وتقول لهم : إنّ الحريات المطلقة المنفلتة ليست أكثر من سراب ، وهي لا تنتج سوى الانحراف الكبير عن مسير السعادة والتكامل الإنساني ، وكما توجب التورط في المتاهات والمجاهل ، وتستلزم العواقب الشريرة التي يتجسد بعضها في ما نراه بأم أعيننا من تبعثر العوائل، ووقوع أنواع الجريمة الجنسية البشعة ، وظهور الأمراض التناسلية والآلام الروحية والنفسية المقيتة ، ونشوء الأولاد غير الشرعيين حيث يكثر فيهم المجرمون القساة الجناة.

ثمّ إنّه سبحانه يقول بعد كل هذا :( يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ

١٩٨

ضَعِيفاً ) وهذه الآية إشارة إلى أنّ النقطة التالية وهي أنّ الحكم السابق في مجال حرية التزوج بالإماء بشروط معينة ما هو ـ في الحقيقة ـ إلّا تخفيف وتوسعة ، ذلك لأنّ الإنسان خلق ضعيفا ، فلا بدّ وهو يواجه طوفان الغرائز المتنوعة الجامحة التي تحاصره وتهجم عليه من كل صوب وحدب أن تطرح عليه طرق ووسائل مشروعة لإرضاء غرائزه ، ليتمكن من حفظ نفسه من الانحراف والسقوط.

* * *

١٩٩

الآيتان

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠) )

التّفسير

سلامة المجتمع ترتبط بسلامة الإقتصاد :

الآية الأولى من هاتين الآيتين تشكل ـ في الحقيقة ـ القاعدة الأساسية للقوانين الإسلامية في مجال المسائل المتعلقة «بالمعاملات والمبادلات المالية» ولهذا يستدلّ بها فقهاء الإسلام في جميع أبواب المعاملات والمبادلات المالية.

إنّ هذه الآية تخاطب المؤمنين بقولها :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ) وهذا يعني أنّ أي تصرف في أموال الغير بدون حق أو بدون أي مبرر منطقي ومعقول ، ممنوع ومحرم من وجهة نظر الإسلام ، فقد أدرج الإسلام كل هذه الأمور تحت عنوان «الباطل» الذي له مفهوم واسع وكبير.

والباطل كما نعلم يقابل «الحقّ» وهو شامل لكل ما ليس بحقّ وكلّ ما لا هدف له ولا أساس.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

ولا يضرّ بهذا ولا بأُولئك، وذلك بما وضَع لها مِن شروط:

١ - فهو لا يجيز اكتساب المال وتملّكه إلاّ بطرقٍ مشروعة محلّلة، وحرّم ما سِوى ذلك كالربا والرشا والاحتكار، واكتناز المال الذي فرَض اللّه فيه نصيباً للفقراء، أو ابتزازه غصباً.

٢ - شرّع قانون الإرث المُوجب لتفتيت الثراء وتوزيعه على عدَد مِن الورّاث في كلّ جيل.

٣ - شرّع الفرائض الماليّة لإعانة الفقراء وإنعاشهم، كالزكاة والخُمس والكفّارات وردّ المظالم.

وقد استطاع الإسلام بمبادئه الاقتصاديّة الحكيمة أنْ يُشيع بين المسلمين روح التعاطف والتراحم، ويحقّق العدل الاجتماعي فيهم، فلا تجِد بينهم جائعاً إزاء مُتخَم، ولا عارياً إزاء مكتسٍ بالحرير.

٧ - حق الرعاية الإسلاميّة:

كان مِن أبرَز خصائص المجتمع الإسلامي ومزاياه، ذلك التجاوب العاطفي، والأحاسيس الأخويّة المتبادلة بين أفراده، ما جعلهم كالبُنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضاً، أو كالجسَد الواحد إذا اشتكى عضوٌ تألّمت له سائر الأعضاء.

فما كان للمسلم الحقّ أنْ يتغاضى عن الاهتمام بشؤون مجتمعه، ورعاية مصالحه العامّة، والحرص على رقيّه وازدهاره، كما قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله :

٤٨١

( مَن أصبح لا يهتم بأُمور المسلمين فليس بمسلم )(١).

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( ما آمَن بي مَن بات شبْعان وجاره جائع، وما مِن أهل قريةٍ فيهم جائع ينظر اللّه إليهم يوم القيامة )(٢).

وما كان للمجتمع الإسلامي أنْ يتغاضى عن رعاية أفراده البؤساء، وهُم يعانون مرارة الفاقة ومضض الحرمان، دون أنْ يتحسّس بمشاعرهم ويتطوّع لإغاثتهم والتخفيف مِن ضُرّهم.

وحسبُك في شرف المؤمن وضرورة دعمه وإسناده، دعوة أهل البيتعليهم‌السلام وحثّهم على توقيره وإكرامه ورعايته مادّياً ومعنويّاً ما لو طبَقه المسلمون اليوم لكانوا أسعد الأُمم، وأرغدهم عيشاً وأسماهم منعةً وجاهاً.

وإليك نماذج مِن وصاياهم في ذلك:

أ - إطعامه وسقيه:

قال عليّ بن الحسينعليه‌السلام : ( مَن أطعَم مؤمناً مِن جوعٍ، أطعمه اللّه مِن ثِمار الجنّة، ومَن سقى مؤمناً سقاه اللّه مِن الرحيق المختوم )(٣).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( مَن أطعم مؤمناً حتّى يشبعه لم يدرِ أحدٌ مِن خلقِ اللّه ماله مِن الأجر في الآخرة، لا ملَكٌ مُقرّب، ولا نبيٌّ مُرسل إلاّ اللّه ربّ العالمين ).

ثمّ قال: ( مِن مُوجبات المغفرة إطعام المسلم السغبان )، ثمّ تلا قول اللّه

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٩٩ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ٩٦ عن الكافي.

(٣) الوافي ج ٣ ص ١٢٠ عن الكافي.

٤٨٢

تعالى:( أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ ) ( البلد: ١٤ـ١٥ـ١٦ )(١).

وعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : مَن سقى مؤمناً شُربةً مِن ماء مِن حيثُ يقدّر على الماء، أعطاه اللّه بكلّ شربةٍ سبعينَ ألفَ حسنةٍ، وإنْ سقاه مِن حيث لا يقدِر على الماء، فكأنّما أعتق عشرَ رِقاب مِن وِلد إسماعيل )(٢).

ب - إكساء المؤمن:

وقال الصادقعليه‌السلام : ( مَن كسا أخاه كسوةً، شتاءً أو صيف، كان حقّاً على اللّه أنْ يكسوه مِن ثياب الجنّة، وأنْ يهوّن عليه مِن سكَرات الموت وأنْ يوسّع عليه في قبره، وأنْ يلقى الملائكة إذا خرَج مِن قبره بالبشرى، وهو قوله تعالى في كتابه:( وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ) )(٣) ( الأنبياء:١٠٣ ).

وقالعليه‌السلام : ( مَن كسا أحداً مِن فُقراء المسلمين ثوباً مِن عري، أو أعانة بشيءٍ ممّا يقوته مِن معيشته، وكّل اللّه تعالى به سبعة آلاف ملَك مِن الملائكة، يستغفرون لكلِّ ذنبٍ عمِله إلى أنْ يُنفخ في الصور..)

وعن أبي جعفرعليه‌السلام قال:( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : مَن كسا أحداً.. ) الحديث مثله - إلاّ أنّ فيه سبعين ألف ملَك(٤) .

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٢٠ عن الكافي.

(٢)، (٣)، (٤) الوافي ج ٣ ص ١٢١ عن الكافي.

٤٨٣

ج - قضاء حاجة المؤمن:

عن المفضّل عن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: قال لي: ( يا مفضل، اسمع ما أقول لك، واعلم أنّه الحقّ، وافعله واخبر به علية إخوانك )، قلت: جُعلت فِداك وما علية إخواني ؟

قال: ( الراغبون في قضاء حوائج إخوانهم )، قال: ثمّ قال:

( ومَن قضى لأخيه المؤمن حاجة، قضى اللّه تعالى له يوم القيامة مِئة ألف حاجة، مِن ذلك أوّلها الجنّة، ومِن ذلك أنْ يدخل قرابته ومعارفه وإخوانه الجنّة، بعد أنْ لا يكونوا نصاباً )(١).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( ما قضى مسلم لمسلم حاجة إلاّ ناداه اللّه تعالى: عليّ ثوابك، ولا أرضى لك بدون الجنّة )(٢).

وقالعليه‌السلام : ( إنّ المؤمن منكم يوم القيامة ليمرّ به الرجل له المعرفة به في الدنيا وقد أُمر به إلى النار، والملَك ينطلق به، قال: فيقول له: يا فلان، أغثني فقد كُنت أصنع إليك المعروف في الدنيا، وأُسعفك في الحاجة تطلبها منّي، فهل عندك اليوم مكافأة ؟ فيقول المؤمن للملَك الموكّل به خلّ سبيله، قال: فيسمع اللّه قول المؤمن، فيأمر الملَك أنْ يَجبر قول المؤمن، فيُخلّي سبيله )(٣).

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١١٧ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ١١٨ عن الكافي.

(٣) البحار. كتاب العشرة. ص ٨٦ عن ثواب الأعمال للصدوق.

٤٨٤

د - مسرّة المؤمن:

عن أبي عبد اللّهعليه‌السلام ، عن أبيه، عن عليّ بن الحسينعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ أحبَّ الأعمال إلى اللّه تعالى إدخال السرور على المؤمنين )(١).

وعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : الخَلْق عِيال اللّه، فأحبُّ الخَلْق إلى اللّه مَن نفَعَ عِيالَ اللّه، وأدخَل على أهل بيتٍ سروراً )(٢).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( مَن أدخَل على مؤمن سروراً، خلَق اللّه مِن ذلك السرور خلْقاً فيَلقاه عند موته فيقول له: أبشِر يا ولي اللّه بكرامة من اللّه ورضوان، ثمّ لا يزال معه حتّى يدخله قبره، فيقول له مثل ذلك فإذا بُعِث يلقاه فيقول له مثل ذلك، ثمّ لا يزال معه عند كلّ هول يُبشّره ويقول له مثل ذلك، فيقول له: مَن أنت رحِمَك الله ؟ فيقول له: أنا السرور الذي أدخلته على فلان )(٣).

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١١٧ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ٩٩ عن الكافي.

(٣) الوافي ج ٣ ص ١١٧ عن الكافي.

٤٨٥

هـ - زيارة المؤمن:

عن أبي عزّة قال: سمِعت أبا عبد اللّهعليه‌السلام يقول: ( مَن زار أخاه في اللّه، في مرضٍ أو صحّة، لا يأتيه خِداعاً ولا استبدالاً، وكّل اللّه به سبعين ألفَ ملَك، ينادونه في قَفاه: أنْ طِبتَ وطابَت لك الجنّة، فأنتم زوّار اللّه وأنتم وفد الرحمان، حتّى يأتي منزله )(١).

وقالعليه‌السلام : ( إنّ ضيفَ اللّه عزّ وجل: رجلٌ حجّ واعتمر فهو ضيفُ اللّه حتّى يرجع إلى منزله، ورجلٌ كان في صلاته فهو كنَف اللّه حتّى ينصرف، ورجلٌ زار أخاه المؤمن في اللّه عز وجل فهو زائر اللّه في ثوابه وخزائن رحمته ).

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٠٧ عن الكافي.

٤٨٦

الحاكمون وواجباتهم

الإنسان مدنيٌّ بالطبع، لا يستغني عن إفراد نوعه، والأُنس بهم والتعاون معهم على إنجاز مهامّ الحياة، وكسب وسائل العيش.

وحيث كان أفراد البشَر متفاوتين في طاقاتهم وكفاءاتهم الجسميّة والفكريّة، فيهم القويّ والضعيف، والذكيّ والغبيّ، والصالح والفاسد، وذلك ما يُثير فيهم نوازع الإثرة والأنانيّة والتنافس البغيض على المنافع والمصالح، ممّا يُسبّب بلبلة المجتمع، وهدْر حقوقه وكرامته ؛ لذلك كان لا بدّ للأُمم مِن سلطةٍ راعيةٍ ضابطة، ترعى شؤونَهم وتحمي حقوقهم، وتشيع الأمن والعدل والرخاء فيهم.

ومِن هنا نشأت الحكومات وتطوّرت عِبر العصور مِن صورها البدائيّة الأُولى حتّى بلغَت طورها الحضاري الراهن، وكان للحكّام أثرٌ بليغ في حياة الأٌمم والشعوب وحالاتها رقياً أو تخلفاً، سعادة أو شقاءً، تبعاً لكفاءة الحكام وخصائصهم الكريمة أو الذميمة.

فالحاكم المثالي المُخلص لامته هو: الذي يسوسها بالرفق والعدل والمساواة، ويحرص على إسعادها ورفع قيمتها المادية والمعنويّة.

والحاكم المستبدّ الجائر هو: الذي يستعبد الأُمّة ويسترقّها لأهوائه ومآربه ويعمَد على إذلالها وتخلّفها، وقد أوضحت آثار أهل البيتعليهم‌السلام أهميّة الحكّام وآثارهم الحسنة أو السيّئة في حياة الأُمّة، فأثنت على العادلين المُخلصين منهم، وندّدت بالجائرين وأنذرتهم بسوء المغبّة والمصير.

٤٨٧

فعن الصادق عن أبيهعليهما‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : صنفان مِن أُمّتي إذا صلُحا صلحت أُمّتي، وإذا فسدا فسدت. قيل يا رسول اللّه ومن هما؟ قال: الفقهاء والأُمراء )(١) .

وعن الصادق عن آبائهعليهم‌السلام عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: ( تُكلّم النار يوم القيامة ثلاثة: أميراً، وقارياً، وذا ثروةٍ مِن المال، فتقول للأَمير: يا مَن وهَب اللّه له سُلطاناً فلَم يعدِل، فتزدرده كما يزدرد الطير حبَّ السمسم، وتقول للقارئ: يا من تزيّن للناس وبارَز اللّه بالمعاصي فتزدرده،

وتقول للغنيّ: يا من وهَب اللّه له دُنياً كثيرةً واسعةً فيضاً، وسأَله الحقير اليسير فرضاً فأَبى إلاّ بُخلاً فتزدرده )(٢).

ولم يكتفِ أهل البيتعليهم‌السلام بالإعراب عن سخَطِهم على الظلم والظالمين ووعيدهم، حتّى اعتبروا أنصارهم والضالعين في رِكابهم شُركاء معهم في الإثم والعقاب.

فعن الصادق عن أبيهعليهما‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ. أين الظَّلَمة وأعوانهم، ومَن لاقَ لهم دواة، أو ربط لهم كيساً، أو مدّ لهم مدّة قلم ؟ فاحشروهم معهم )(٣).

والطغاة مهما تجبروا وعتوا على الناس، فإنّهم لا محالة مؤاخذون بما

_____________________

(١)، (٢) البحار. كتاب العشرة. ص ٢٠٩ عن الخصال.

(٣) البحار. كتاب العشرة ص ٢١٨ عن ثواب الأعمال للصدوق.

٤٨٨

يستحقّونه مِن عقابٍ عاجلٍ أو آجل، فالمكر السيّئ لا يحيق إلاّ بأهلهِ ولعنةُ التاريخ تُلاحق الطواغيت، وتمطرهم بوابلٍ الذمِّ واللعن، وتنذرهم بسوءِ المغبّة والمصير، وفي التاريخ شواهدٍ جمّة على ذلك.

منها ما حكاه الرواة عن ابن الزيّات: إنّه كان قد اتّخذ في أيّام وزارته تنّوراً مِن حديد، وإطراف مساميره محدودة إلى داخل وهي قائمة مثل رؤوس المسال، وكان يعذّب فيه المصادرين وأرباب الدواوين المطلوبين بالأموال، فكيف ما انقلب واحدٌ منهم أو تحرّك مِن حرارة العقوبة تدخل المسامير في جسمه، فيجدون لذلك أشدّ الألَم ولم يسبقه أحدٌ إلى هذه المعاقبة.

فلمّا تولّى المتوكّل الخلافة اعتقل ابن الزيّات، وأمر بإدخاله التنّور وقيّده بخمسة عشَر رطلاً مِن الحديد، فأقام في التنّور أربعين يوماً ثمّ مات(١) .

ومنها: الحجّاج بن يوسف الثقفي.

فإنّه تأمّر عشرين سنة، و أُحصي مَن قتله صبراً سِوى مَن قُتِل في عساكره وحروبه فوجد - مِئة ألف وعشرين ألفاً - وفي حبسه خمسون ألف رجل، وثلاثون ألف امرأة، منهنّ ستّة عشر ألفاً مُجرّدة، وكان يحبس النساء والرجال في موضعٍ واحد، ولم يكن للحبس سترٌ يستُر الناس مِن الشمس في الصيف، ولا مِن المطر والبرد في الشتاء.

ثمّ لاقى جزاء طُغيانه وإجرامه خِزياً ولعناً وعذاباً، وكانت عاقبة أمره أنّه ابتلي بالآكلة في جوفه، وسلّط اللّه عزّ وجل عليه الزمهرير،

_____________________

(١) سفينة البحار ج ١ ص ٥٧٤.

٤٨٩

فكانت الكوانين المتوقّدة بالنار تُجعَل حوله، وتُدنى منه حتّى تحرق جِلده وهو لا يحسّ بها، حتّى هلَك عليه لعائن اللّه.

حقوق الرعيّة على الحاكم:

والحاكم بصفته قائد الأُمّة وحارسها الأمين مسؤول عن رعايتها وصيانة حقوقها، وضمان أمنها ورخائها، ودرء الأخطار والشرور عنها.

وإليك أهمّ تلك الحقوق:

أ - العدل:

وهو أقدس واجبات الحكّام، وأجلّ فضائلهم، وأخلَد مآثرهم، فهو أساس المُلك، وقوام حياة الرعيّة، ومصدر سعادتها وسلامها. وكثيراً ما يُوجب تمرّد الناس على اللّه تعالى، وتنكبّهم عن طاعته ومنهاجه تسلّط الطغاة عليهم واضطهادهم بألوان الظُّلامات كما شهدت بذلك أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام :

فعن الصادقعليه‌السلام عن آبائه عن عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام قال:

( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : قال اللّه جلّ جلاله: أنا اللّه لا إله إلاّ أنا خلقت الملوك وقلوبهم بيدي، فأيُّما قومٍ أطاعوني جعلتُ قلوبَ الملوك عليهم رحِمَة، وأيُّما قومٍ عصوني جعلتُ قلوبَ الملوك عليهم سخِطة، ألا لا تشغلوا أنفسكم بسبِّ الملوك، توبوا إليّ أعطف قلوبهم عليكم )(١) .

_____________________

(١) البحار. كتاب العشرة ص ٢١٠ عن أمالي الشيخ الصدوق.

٤٩٠

وقد بحثت في القسم الأوّل مِن هذا الكتاب موضوع العدل وفضائله وأنواعه فراجعه هناك.

ب - الصلاح:

ينزع غالب الناس إلى تقليد الحكّام والعظماء تشبّهاً بهم ومحاكاةً لهم، ورغبةً في جاههم ومكانتهم.

ولهذا وجَب اتّصاف الحاكم بالصلاح وحُسن الخُلُق وجمال السيرة والسلوك ليكون قدوةً صالحة ونموذجاً رفيعاً تستلهمه الرعيّة وتسير على هديه ومنهاجه.

وانحراف الحاكم وسوء أخلاقه وأفعاله يدفع غالب الرعيّة إلى الانحراف وزجّها في متاهات الغواية والضلال، فيعجز الحاكم آنذاك عن ضبطها وتقويمها.

ونفسك فاحفظها مِن الغيّ والردى

فمتى تغواها تغوي الذي بكَ يَقتدي

وفي التأريخ شواهدٌ جمّة على تأثّر الشعوب بحكّامها، وانطباعها بأخلاقهم وسجاياهم حميدةً كانت أو ذميمة كما قيل: - الناس على دين ملوكهم.

ج - الرفق:

ويجدر بالحاكم أنْ يسوس الرعيّة بالرفق وحُسن الرعاية، ويتفادى سياسة العُنف والإرهاب، فليس شيءٌ أضرّ بسمعة الحاكم وزعزعة كيانه مِن الاستبداد والطغيان.

وليس شيءٌ أضرّ بالرعيّة، وأدعى إلى إذلالها وتخلّفها مِن أنْ تُساس بالقسوة والاضطهاد.

فعن أبي جعفرعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله إنّ الرفق لم يوضع على شيء إلاّ زانه، ولا نُزِع مِن شيءٍ إلاّ شانه )(١) .

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٨٦ عن الكافي.

٤٩١

وقال الصادقعليه‌السلام : ( مَن كان رفيقاً في أمره، نال ما يُريد مِن الناس )(١) .

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام في عهده إلى مالك الأشتَر: ( وأشعِر قلبَك الرحمة للرعيّة، والمحبّة لهم واللطف بهم، ولا تكوننّ سبُعاً ضارياً تغتنم أكلَهم، فإنّهم صنفان: إمّا أخٌ لك في الدين، وإمّا نظيركَ في الخلق، يفرط منهم الزلَل، وتعرُض لهم العِلل، ويُؤتي على أيديهم في العمد والخطأ، فاعطهم مِن عفوك وصفحك مثل الذي تحبّ وترضى أنْ يعطيك اللّه مِن عفوه وصفحه، فإنّك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك، واللّه فوق مَن ولاّك، وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم ).

وبديهيّ أنّ الرفق لا يجمل وقعه ولا يحمد صنيعه إلاّ مع النبلاء الأخيار، أمّا الأشرار العابثون بأمن المجتمع وحرماته فإنّهم لا يستحقّون الرفق ولا يليق بهم، إذ لا تجديهم إلاّ القسوة الزاجرة والصرامة الرادعة عن غيّهم وإجرامهم.

إذا أنتَ أكرمت الكريم ملكته

وإنْ أنت أكرمت اللئيم تمرّدا

ووضع الندى في موضع السيف بالعلا

مضرٌ كوضعِ السيف في موضع الندى

مظاهر الرفق:

وللرفق صورٌ رائعة ومظاهر خلاّبة، تتجلّى في أقوال الحاكم وأفعاله.

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٨٧ عن الكافي.

٤٩٢

أ - فعليه أنْ يكون عف اللسان، مهذّب القول، مجانباً للبذاء.

ب - وأنْ يكون عطوفاً على الرعيّة يتحسّس بآلامها ومآسيها، فإذا داهمها خطر، وحاق بها بلاءٌ سارَع لنجدتها ومواساتها والتخفيف مِن بؤسها وعنائها.

ج - وأنْ يتفادى إرهاق الرعيّة بالإتاوات الباهضة، والضرائب الفادحة الباعثة على شقائها وعنتها.

آثار الرفق:

للرفق خصائص وآثار طيّبة تفيء على الحاكم والمحكوم بالخير والوئام. فهو مدعاة حبّ الرعيّة للراعي وإخلاصها له وتفانيها في سبيله.

كما هو عاصم للرعيّة عن الملق والنفاق الناجمين مِن رهبة الحاكم المتجبّر والخوف مِن بطشة وفتكه. وقد مدح اللّه رسوله الأعظم بالرفق والعطف فقال تعالى:

( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) ( آل عمران: ١٥٩ ).

د - اختبار الأعوان:

لا يستطيع الحاكم مهما أوتي مِن قدرة وكفاءة أنْ يستقلّ بسياسة الرعيّة، ويضطلع بمهامّ الحُكم وإدارة جهازه، فهو لا يستغني عن أعوان يؤازرونه على تحقيق أهدافه وإنجاز أعماله.

٤٩٣

ولهؤلاء الأعوان أثرٌ كبيرٌ وخطير في توجيه الحاكم وتكييف أخلاقه وآرائه حسبما تتّصف به مِن خلالٍ وميولٍ رفيعةٍ أو وضيعة.

لذلك كان على الحاكم أنْ يختار بطانته وأعوانه مِن ذوي الكفاءة والنزاهة والصلاح، لتمحضه النصيحة، وتؤازره على إسعاد الرعيّة وتحقيق آمالها وأمانيها، دونما نزوع إلى إثرة أو محاباة تضرّ بصالح الرعيّة وتجحف بحقوقها.

هـ - محاسبة العمّال والموظفين:

كثيراً ما يزهو الموظّف بمنصبه ونفوذه، ويستحوذ عليه الغرور فيتحدّى الناس، ويتعالى عليهم، ويمتهن كرامتهم ويهمل أعمالهم ولا ينجزها إلاّ بدافعٍ مِن الطمع أو المُحاباة، الخوف أو الرجاء ممّا يُعرقل مهمّاتهم ويستثير سخطِهم وحنقهم على جهاز الحكم. لهذا يجب على الحاكم مراقبة الموظفين ومحاسبتهم على أعمالهم ومكافأة المُحسن منهم على إحسانه، ومعاقبة المُسيء على إساءته، ليؤدّي كلّ فردٍ منهم واجبة نحو المجتمع، وليستشعر الناس مفاهيم العزّة والكرامة والرخاء.

وبذلك تتّسق شؤون الرعيّة، ويسودها العدل، وتنجو مِن مآسي الملَق والتزلّف إلى الموظّفين بالرشا وألوان الشفاعات.

و - إسعاد الرعيّة:

والحاكم بوصفه قائد الأُمّة وراعيها الأمين، فهو مسؤول عن رعايتها والعناية بها، والحرص على إسعادها ورقيّها مادّياً وأدبيّاً. وذلك: بتفقّد شؤون الرعيّة، ورعاية مصالحها وضمان حقوقها وإشاعة الأمن والعدل والرخاء فيها، وتصعيد مستوياتها العلميّة والصحيّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة

٤٩٤

والعمرانيّة: بنشر العِلم وتحسين طُرق الوقاية والعلاج وتهذيب الأخلاق والاهتمام بالتنمية الصناعيّة والزراعيّة والتجارية، بالأساليب العلميّة الحديثة واستغلال الموارد الطبيعيّة، وتشجيع المواهب والطاقات على الإبداع في تلك المجالات على أفضل وجه مُمكن.

وبذلك تتوطّد دعائم المُلك، وتعلو أمجاد الأُمم، وتتوثّق أواصر الودّ والإخلاص بين الحاكم والمحكوم، ويتبوّأ الحاكم عرش القلوب. ويحظى بخلود الذكر وطيب الثناء.

وقد عرضت في حقوق المجتمع الإسلامي طرَفاً مِن حقوق أفراده تندّرج في حقوق الرعيّة على الحاكم، باعتباره المسؤول الأوّل عن رعايتها وصيانة حقوقها، وضمان أمنها ورخائها.

حقوق الحاكم على الرعيّة

الحاكم العادل هو: قطب رَحى الأُمّة، ورائد نهضتها، وباني أمجادها، وحارسها الأمين، وهو عنصرٌ فعّال مِن عناصر المجتمع، وجزءٌ أصيل لا يتجزّأ عنه، لهذا وجَب أنْ يكون التجاوب في العواطف والمشاعر قويّاً بين الحاكم والمحكوم، والراعي والرعيّة ؛ ليستطيع الأوّل أداء رسالته الإصلاحيّة لأُمّته، وتحقيق أهدافها وأمانيّها، ولتنال الأُمّة في ظلال حكمه مفاهيم الطمأنيّنة والحريّة والرخاء.

لذلك كان للحاكم حقوق على الرعيّة إزاء حقوقها عليه، وكان على

٤٩٥

كل منهما رعاية حقوق الآخر، والقيام بواجبه نحوه.

وهذا ما أوضحه أمير المؤمنينعليه‌السلام حيث قال:

( فليست تصلح الرعيّة إلاّ بصلاح الولاة، ولا تصلُح الولاة إلاّ باستقامة الرعيّة، فإذا أدّت الرعيّة إلى الوالي حقّه، وأدّى الوالي إليها حقّها، عزّ الحقّ بينهم، وقامت مناهج الدين واعتدلَت معالِم العدل، وجرت على إذلالها السُنن، فصلُح بذلك الزمان، وطمع في بقاء الدولة، ويئست مطامع الأعداء.

وإذا غلبَت الرعيّة واليها، وأجحَف الوالي برعيّته، اختلفت هناك الكلمة، وظهرت معالم الجور، وكثُر الإدغال في الدين، وتُرِكت محاجّ السنن، فعُمِل بالهوى وعُطّلت الأحكام، وكثُرت عِلل النفوس، فلا يستوحش لعظيم حقٍّ عُطّل، ولا لعظيم باطلٍ فُعِل، فهناك تذلّ الأبرار، وتعزّ الأشرار، وتعظُم تَبِعات اللّه عند العباد )(١).

وإليك مُجملاً مِن حقوق الحاكم:

١ - الطاعة: للحاكم حقّ الطاعة على رعيّته فيما يرضي اللّه عزّ وجل، حيثُ لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق.

والطاعة هي: المشجّع الأوّل للحاكم على إخلاصه للرعيّة، وتحسّسه بمشاعرها وآلامها، ودأبه على إسعادها وتحقيق آمالها وأمانيها.

أمّا التمرّد والعصيان والخُذلان فهي خلال مقيتة تستفزّ الحاكم وتستثير نقمته على الرعيّة، وبطشه بها، وتقاعسه على إصلاحها ورقيّها، ومِن

_____________________

(١) نهج البلاغة. مِن كلام لهعليه‌السلام في حقّ الحاكم على المحكوم.

٤٩٦

ثمّ إحباط جهوده الهادفة البنّاءة في سبيلها.

انظر كيف يوصي الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام شيعته بطاعة الحاكم: ( يا معشَر الشيعة، لا تذلّوا رقابكم بترك طاعة سلطانكم، فإنْ كان عادلاً فاسألوا اللّه إبقاءه، وإنْ كان جائراً فاسألوا اللّه إصلاحه، فإنّ صلاحكم في صلاح سلطانكم، وإنّ السلطان العادل بمنزلة الوالد الرحيم، فأحبّوا له ما تحبّون لأنفسكم، واكرهوا له ما تكرهون لأنفسكم )(١) .

٢ - المؤازرة: والحاكم مهما سمت كفاءته ومواهبه، فإنّه قاصر عن الاضطلاع بأعباء الملك، والقيام بواجبات الرعيّة وتحقيق منافعها العامّة، ومصالحها المشتركة إلاّ بمؤازرة أكفائها، ودعمهم له، ومعاضدتهم إيّاه بصنوف الجهود والمواهب الماديّة والمعنويّة، الجسميّة والفكريّة. وبمقدار تجاوبهما وتضامنهما يستتبّ الأمن، ويعمّ الرخاء ويسعد الراعي والرعيّة.

٣ - النصيحة: كثيراً ما يستبدّ الغرور بالحاكم، وتستحوذ عليه نشوة الحكم وسكرة السلطان، فينزع إلى التجبّر والطغيان، واستعباد الرعيّة، وخنق حرّيتها، وامتهان كرامتها، واستباحة حرماتها، وسومها سوء المذلّة والهوان.

وهذا ما يُحتّم على الغيارى مِن قادة الرأي، وأعلام الأُمّة أنْ يبادروا إلى نصحه وتقويمه، والحدّ من طغيانه، فإنْ أجدى ذلك، وإلاّ فقد أعذر المصلحون وقاموا بواجب الإصلاح.

وقد جاء في الحديث عن الصادق عن آبائهعليهم‌السلام عن النبيّ

_____________________

(١) البحار. كتاب العشرة ص ٢١٨ عن أمالي الشيخ الصدوق.

٤٩٧

صلى‌الله‌عليه‌وآله قال:

( السلطان ظلّ اللّه في الأرض، يأوي إليه كلّ مظلوم، فمَن عدَل كان له الأجر، وعلى الرعيّة الشكر، ومَن جار كان عليه الوزر وعلى الرعيّة الصبر، حتّى يأتيهم الأمر )(١) .

أمّا في العصر الحاضر وقد تطوّرت فيه أساليب الحياة، ووسائل الإصلاح، فلَم يعد الحكّام يستسيغون العظة والنصح ولا تجديهم نفعاً.

مِن أجل ذلك فقد استجازت الحكومات المتحضّرة نقد حكّامها المنحرفين عن طريق البرلمانات والصحف والمذكّرات التي تندّد بأثرتهم وأنانيّتهم، وتنذرهم عليها بلعنة الشعب، وثورته الماحقة على الطغاة والمستبدين.

_____________________

(١) البحار. كتاب العشرة. ص ٢١٤ عن أمالي الشيخ ابن عليّ ابن الشيخ الطوسي.

٤٩٨

حاجات الجسم والنفس

يتألّف الإنسان مِن عنصرين: عنصر الجسَد، وعنصر الروح، وهما مترابطان ترابطاً وثيقاً، ومتفاعلان تفاعلاً قويّاً، لا ينفكّ أحدهما عن الثاني إلاّ بتصرّم العمر، ونهاية الحياة، وسعادة الإنسان وهناؤه الجسمي والفكري منوطٌ بصحّة هذين العنصرين وسلامتهما معاً.

لهذا كان على ناشد السعادة ومبتغيها أنْ يعني بهما عناية فائقة تضمن صحّتهما وازدهارهما، وصيانتهما مِن المضار.

ولكلّ مِن الجسم والروح أشواقه وحاجاته:

فحاجات الجسم هي: المآرب الماديّة الموجبة لنموه وصحّته وحيويّته، كالغذاء والشراب والكساء ونحوها مِن ضرورات الحياة.

وحاجات الروح هي: الأشواق الروحيّة والنفسيّة التي تتعشّقها الروح، وتهفو إليها، كالمعرفة، والحريّة، والعدل، وراحة الضمير ورخاء البال وما إلى ذلك من المثل العليا والأماني الروحيّة. ولا مناص مِن تلبية هذه المآرب والرغائب الجسميّة والروحيّة لتحقيق صحّة الجسم والروح، وضمان هنائهما المرجو.

فحرمان الجسم مِن أشواقه يفضي به إلى الضعف والسقم والانحلال

٤٩٩

وحرمان الروح والنفس من أمانيها، يقودها إلى الحيرة والقلق والشقاء.

والسعادة الحقّة منوطة بصحّة الجسم والنفس وازدهارهما معاً ورعاية حقوقهما الماديّة والروحيّة.

حقوق الجسَد:

وتتلخّص هذه الحقوق في رعاية القوانين الصحيّة، وأتباع الآداب الإسلاميّة الكفيلة بصحّة الجسم وحيويّته ونشاطه، كالاعتدال في الطعام والشراب وتجنّب الكحول والعادات الضارّة، كالخمر والحشيش والأفيون والتوقّي مِن الشهوات الجنسيّة الآثمة، واعتياد النظافة، وممارسة الرياضة البدنيّة، ومعالجة الأمراض الصحيّة ونحو ذلك مِن مقوّمات الصحّة وشرائطها ممّا هو معروف لغالب الناس لتوفّر التوعية الصحيّة، والنصائح الطبّية في حقول الإعلام الصحفي والإذاعي. فلا أجد حاجة إلى تفصيله والإطناب فيه.

حقوق النفس:

بيد أنّ صحّة النفس ووسائل وقايتها وعلاجها، وعوامل رقيّها وتكاملها، ورعاية حقوقها وواجباتها، يجهلها أو يتجاهلها الكثيرون لقلّة احتفائهم بالقيم الروحيّة والمفاهيم النفسيّة، وجهلهم بعلل النفس وانحرافاتها، وما تعكسه مِن آثار سيّئة على حياة الناس.

٥٠٠

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710