الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل8%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 710

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 710 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 179383 / تحميل: 6447
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

أنّ الإنسان التائب محكوم بحكم آخر، والاختلاف في الحكم لأجل الاختلاف في الموضوع، والتبدّل في ناحية المعلوم دون العلم وإلاّ فالحاكم العادل قد علم وحكم من الأزل بحكمين مختلفين على موضوعين متفاوتين، قال عز من قائل:( فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (١) فقد حكم على الإنسان المشرك بالقتل وعلى الإنسان الذي تاب من شركه بالتخلية لسبيله وإطلاق سراحه وعدم التعرض له، ولا يعد الثاني ناقضاً للحكم الأوّل.

والمثال لا ينحصر بما ذكرناه بل هناك مئات الأمثلة وآلاف الشواهد من هذا القبيل، ولا يعد أي عاقل، الحكم الثاني، ناقضاً للحكم الأوّل.

ولنأت بمثال ثالث تتميماً للوضوح: لا شك انّ لله سبحانه أوامر جدية، وأُخرى امتحانية ولكل غايته وهدفه الخاص، والهدف في الأوامر الجدية هو إحراز المكلف ما يترتب على الموضوع من المصالح كإقامة الصلاة لأجل كونها ناهيةً عن الفحشاء والمنكر، لقوله:( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ ) (٢) وأمّا الأوامر الامتحانية فليس الهدف منها إلّا جعل العبد في بوتقة الامتحان حتى يتفتح كل ما يملك من الكمال بصورة القوة والاستعداد ويدخل إلى مرحلة الفعلية، التي هي الكمال لما هو أمر بالقوة، وهذا كجعل تراب الحديد حديداً خالصاً من خلال التذويب في المصانع الخاصة فتكون المصائب والمتاعب التي يمر بها العبد في طريق امتثاله للأوامر الامتحانية بمثابة الحرارة المتوجهة إلى التراب المعدني في إبراز كمالاته، وإخراج جوهره.

__________________

(١) التوبة: ٥.

(٢) العنكبوت: ٤٥.

٢٦١

فإبراهيم الخليل كان يملك كمالاً بالقوة وهو ترك ما سوى الله في طريق أمره سبحانه، ولكن هذا الكمال كان مكنوناً في ذاته، مركوزاً في وجوده فأراد الله سبحانه إظهار ذلك الكمال وإبرازه من مكمن وجوده إلى ساحة الفعلية والتحقّق، فأمره سبحانه بذبح الولد وهو قد أخذ بيد ولده وصار به إلى المذبح، فأراد ذبحه امتثالاً لأمره سبحانه، فأظهر بذلك أنّه يؤثر طاعته سبحانه على كل ما يملك من العواطف القلبية لولده العزيز، فعند ذاك تفتح ذاك الكمال وصار إلى مرحلة الظهور، وتحققت الغاية من أمره تعالى، وجاء أمره سبحانه مخاطباً إيّاه( قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ *إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ البَلاءُ المُبِينُ *وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) (١) .

فهناك حكمان على موضوعين مختلفين فالخليل المالك للكمال بالقوة مخاطب بذبح الولد، والخليل الواصل إلى هذه الذروة من الكمال، مخاطب بحكم آخر، وهو التفدية عنه بذبح عظيم، ولا يعد كل ناقضاً للآخر بل الاختلاف في الحكم أثر الاختلاف في الموضوع.

وعلى هذا الأساس تبيّن انّ اختلاف الحكم بالشفاعة في مورد العاصي من قبيل اختلاف الحكم حسب اختلاف الموضوع.

وتوضيح ذلك: انّ العاصي بما هو عاص وبما انّه مجرّد عن انضمام الشفاعة إليه، محكوم بالعقاب، ولكنّه بانضمام الشفاعة إليه، محكوم بحكم آخر، واختلاف الحكمين أثر اختلاف الموضوعين بالإطلاق والتقييد.

وإن شئت قلت: إنّ العاصي مجرداً عما يمر عليه في البرزخ من العذاب وما يستتبع ذلك العذاب من الصفاء في روحه، ومجرداً عن دعاء الشفيع في حقه ،

__________________

(١) الصافات: ١٠٥ ـ ١٠٧.

٢٦٢

محكوم بالحكم الأوّل، ولكنه منضماً إلى هذه الضمائم الثلاث محكوم بالمغفرة، فإذا أردت أن تمثل لتبيين حقيقة الشفاعة فعليك انّ تقول: إنّ نسبة الحكم الثاني إلى الحكم الأوّل ليس كنسبة الحكم الصادر عن محكمة الاستئناف بالنسبة إلى حكم المحكمة الابتدائية الذي يعد الثاني ناقضاً للحكم الأوّل، بل هو من قبيل الحكم الصادر في حق المجرم إذا جلب رضا المشتكي بالنسبة إلى الحكم الصادر في حقه قبل جلب رضاه، فالاختلاف والتفاوت في الحكم لأجل الاختلاف في الموضوع.

وعلى ذلك فلابد أن يقال انّ الشفاعة لا توجب اختلافاً في علمه وتغييراً في إرادته، كما لا توجب أن يكون أحد الحكمين مطابقاً للعدل والآخر مطابقاً للجور، بل الحكمان صادران عن مصدر العدل على وفقه.

الإشكال الرابع

ما أشار إليه الشيخ محمد عبده أيضاً حسب ما نقله عنه تلميذه السيد محمد رشيد رضا: ليس في القرآن نص قطعي على وقوع الشفاعة، ولكن ورد الحديث بإثباتها(١) .

هذا ويمكن تقرير الإشكال بوجه آخر فنقول: لقد نفيت الشفاعة في بعض الآيات على وجه الإطلاق قال سبحانه:( أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ ) (٢) كما نفى في بعض الآيات نفع شفاعة الشافعين كقوله( فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) (٣) ، وقد علّقت في بعض الآيات على إذنه سبحانه وارتضائه قال سبحانه:( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا

__________________

(١) تفسير المنار: ٧ / ٢٧٠.

(٢) البقرة: ٢٥٤.

(٣) المدثر: ٤٨.

٢٦٣

بِإِذْنِهِ ) (١) وقال سبحانه:( وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ) (٢) غير انّ الاستثناء لا يدل على وقوع المستثنى إذ له نظائر في القرآن الكريم. قال سبحانه:( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَىٰ *إِلا مَا شَاءَ اللهُ ) (٣) إذ من المحقق انّ النبي لا ينسى القرآن، ولم ينسه. ومثله قوله سبحانه:( وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) (٤) .

ومن المعلوم انّ الاستثناء الوارد في الآية الأخيرة غير محقّق أبداً فانّهم مخلدون فيها. نعم يدل الاستثناء على الإمكان، أي إمكان اخراجهم من الجنة، معلناً بأنّ دخولهم الجنة لا يلازم نفي القدرة الإلهية على إمكان إخراجهم منها، وانّه ليس الأمر خارجاً عن قدرته، فله أن يخرجهم منها كما له أن يبقيهم فيها، فلا مانع من أن تكون الآيات الواردة في الشفاعة، خصوصاً ما اشتمل منها على الاستثناء من هذا القبيل، معلناً بإمكان الشفاعة لا وقوعها.

الجواب

قد أشبعنا البحث حول الآيات الواردة في الشفاعة فيما مضى، وبيّنا أصنافها، وقلنا إنّ الآيات النافية للشفاعة من الأساس، راجعة إلى أيّ قسم منها، فلأجل ذلك لا نعيد الكلام فيها. وإنّما المهم توضيح ما ورد من الاستثناء في الآيات المتقدمة فنقول :

إنّ البحث عن إمكان الشفاعة وامتناعها يشبه الأبحاث الفلسفية الدارجة فيها ولا يناسب حمل الآيات عليها، والتقول بأنّ الآيات ناظرة إلى إمكانها لا

__________________

(١) البقرة: ٢٥٥.

(٢) الأنبياء: ٢٨.

(٣) الأعلى: ٦ ـ ٧.

(٤) هود: ١٠٨.

٢٦٤

وقوعها أشبه شيء بالأبحاث الجدلية.

إنّ البحث عن الإمكان والامتناع يناسب المسائل الفلسفية البحتة، والكلامية الخالصة كما في البحث عن إمكان تعدّد الواجب وامتناعه وما شابه تلك المسألة، فنرى أنّه سبحانه يبحث عن الإمكان والوقوع في قوله:( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللهُ لَفَسَدَتَا ) (١) وقال سبحانه:( وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَٰهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ ) (٢) .

وأمّا المسائل التربوية أو الاجتماعية التي تدور مدار التربية والتوعية الاجتماعية والفردية، فالبحث عن الإمكان والوقوع فيها ساقط وغير مناسب للأهداف القرآنية ولا يتوجه النظر إلّا إلى قسم واحد، وهو وقوع ما وعد به سبحانه في كتابه من الاستثناء كما في نظائره:( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً ) (٣) وقال سبحانه:( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللهِ ) (٤) وما شابه هاتين الآيتين.

وعلى ذلك فلا يتبادر من تلك الآيات إلّا وقوع الإذن والارتضاء من الله سبحانه والحمل على الإمكان فيما ورد في قوله:( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَىٰ *إِلا مَا شَاءَ اللهُ ) لأجل قرينة خاصة وهي الدلائل المتضافرة على عصمة النبي، وهذه القرينة تصدّنا عن حمل الآية على وقوع الاستثناء وتحقّقه.

ومثل تلك القرينة موجودة في الآية الأخرى الدالة على خلود المؤمنين في الجنة، أعني قوله:( مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ ) فإنّ الحمل على

__________________

(١) الأنبياء: ٢٢.

(٢) المؤمنون: ٩١.

(٣) آل عمران: ١٤٥.

(٤) يونس: ١٠٠.

٢٦٥

الإمكان أي إمكان عدم الخلود، لأجل قرينة قطعية دلت على تحقّق الخلود، لأهل النعيم في الآخرة، وهذا العلم يصدّنا عن حمل الاستثناء على وقوعه.

هذا كلّه مع غض النظر عمّا في نفس الآيات من القرائن الدالة على وقوع الاستثناء، وإليك تلك القرائن :

الأولى: قال سبحانه:( وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ) (١) فإنّ التعبير عن رضاه بالفعل الماضي يدل على تحقّق ذلك الرضا، في حق المشفوع له، ورضاه سبحانه لا ينفك عن إذنه للشفعاء، لأنّ إعلان الرضا بالنسبة إلى المشفوع له بلا صدور إذن منه سبحانه للشفيع يعد أمراً لغواً، وحمل قوله:( إِلا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ) على وجود الرضا منه سبحانه دون إبلاغه للشفعاء أشبه شيء بالهزل.

الثانية: انّه سبحانه يخبر بخبر قطعي عن شفاعة من شهد بالحق ممن كانوا تسبغ عليهم صفة الإلوهية كالمسيح والملائكة، قال سبحانه:( وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلا مَن شَهِدَ بِالحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (٢) والاستثناء يدل على تملك من شهد بالحق لأمر الشفاعة بإذن منه سبحانه وتملّكه هذا يكشف عن تحقّق المراتب المتقدمة عليه من إذنه سبحانه له وارتضائه لمن يستحقها.

اللّهم إلّا أن يدّعي المعترض في ذلك الاستثناء ما ادّعاه في الآيات المشتملة على الإذن والارتضاء في آيات الشفاعة ويحمل مالكية من شهد بالحق للشفاعة على الإمكان دون الوقوع، وهو كما ترى.

ونظير الآية السابقة قوله سبحانه:( لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَٰنِ عَهْداً ) (٣) والاستثناء ظاهر في تملّك من اتخذ عند الرحمن عهداً أمر

__________________

(١) الأنبياء: ٢٨.

(٢) الزخرف: ٨٦.

(٣) مريم: ٨٧.

٢٦٦

الشفاعة، وتمليكه سبحانه إيّاها لهم لا ينفك عن إذنه وارتضائه.

وإن شئت قلت: إنّ تمليك الشفاعة من جانب الله لفريق خاص دال بالملازمة العرفية على أنّ هذا التمليك لأجل الاستفادة منه وتنفيذه في مواضع خاصة وحمله على مجرد التمليك من دون أن يقترن بالإذن أبداً تفسير للآية بغير الوجه المعقول، إذ أيّة فائدة لهذا التمليك الذي لا يتلوه الإذن أبداً، فإنّ هذا أشبه شيء بتمليك الشيء للإنسان والمنع عن الاستفادة منه بوجه من الوجوه.

وما ربما يقال من أنّه سبحانه علّق الشفاعة في بعض الآيات على أمر محال، وهو اتخاذ العهد عند الرحمن، قال سبحانه:( لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَٰنِ عَهْداً ) (١) مع أنّ بعض الآيات دالة على أنّه لم يتخذ أحد عند الله عهداً قال سبحانه:( قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللهِ عَهْداً ) (٢) ، وقال:( أَطَّلَعَ الغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَٰنِ عَهْداً ) (٣) .

ولكن الاعتراض هذا ساقط جداً، لأنّ سياق تلك الآيات كاشف عن أنّ الهدف هو نفي اتخاذ العهد في حق جماعة خاصة.

أمّا الآية الأولى فلأنّها وردت لنفي دعوى اليهود الوارد في قولهم:( وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّاماً مَعْدُودَةً ) فردّ عليهم سبحانه بقوله:( قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللهِ عَهْداً فَلَن يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ ) .

وأمّا الآية الثانية، فلأنّها واردة أيضاً في مورد خاص، وهو الذي يحكي عنه سبحانه بقوله:( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً ) فردّ عليه سبحانه بقوله:( أَطَّلَعَ الغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَٰنِ عَهْداً ) .

__________________

(١) مريم: ٨٧.

(٢) البقرة: ٨٠.

(٣) مريم: ٧٨.

٢٦٧

ومع هذا السياق البارز في الآيتين هل يصح أن يقال انّه لا عهد بين الله سبحانه وبين أحد من عباده مطلقاً مع أنّه يصرّح بوجود مثل هذا العهد إذ يقول:( وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ ) (١) وقال سبحانه:( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) (٢) إلى غير ذلك من الآيات.

الإشكال الخامس

ما ورد في إثبات الشفاعة من الآيات المتشابهات، وفيه يقضي مذهب السلف بالتفويض والتسليم، وانّها مزية يختص الله بها من يشاء يوم القيامة، عبر عنها بهذا المعنى « الشفاعة » ولا نحيط بحقيقتها مع تنزيه الله جل جلاله عن المعنى المعروف من معنى الشفاعة في لسان التخاطب العرفي(٣) .

الجواب

إنّ القرآن كتاب سماوي أُنزل لغرض التعليم والتربية، والهداية والتزكية، وقد نبّه على ذلك سبحانه في آيات كثيرة لا مجال لإيرادها هنا، قال سبحانه:( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ ) (٤) فلو جعلنا الآيات الواردة حول الشفاعة التي تقارب ثلاثين آية من المتشابهات يلزم أن تعد أكثر الآيات الواردة في الكتاب العزيز من الآيات المتشابهة ولازم ذلك جعل الكتاب العزيز غير مفهوم للناس الذين أُنزل ذلك الكتاب لهدايتهم وتربيتهم.

__________________

(١) البقرة: ١٢٥.

(٢) طه: ١١٥.

(٣) تفسير المنار: ١ / ٣٠٧ ـ ٣٠٨.

(٤) القمر: ١٧.

٢٦٨

وكون الآية محتاجة إلى التفسير لا يكون دليلاً على كونها من الآيات المتشابهة، فإنّ كثيراً من الآيات لابتعادنا عن عصر نزولها تحتاج إلى التفسير، وكم من آية وآيات كتبت حولها رسالة أو رسائل، ومع ذلك لم تعد واحدة منها من الآيات المتشابهة.

إنّ المراد من الآيات المتشابهة ما أحاط بها الإبهام حول المراد منها فاشتبه المقصود الواقعي بغيره وهذا الميزان لا ينطبق إلّا على قليل من الآيات.

ثم إنّ كون الآية من الآيات المتشابهة لا يستلزم ترك البحث فيها وعدم الاستفادة منها، بل الآيات المتشابهة تفسر بالآيات المحكمة بحكم أنّها أُمّ الكتاب وأصل للمتشابهات قال سبحانه:( هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) (١) فإنّ قوله سبحانه في شأن الآيات المحكمة بأنّها أُمّ الكتاب يعرب عن كونها هي الأصل وإنّ المتشابهة هي الفرع، ورد المتشابه إلى المحكم كرد الفرع إلى الأصل.

وقد عرفت في صدر البحث مجموع الآيات الواردة حول الشفاعة وانّه ليست هناك آية أحاط بها الإبهام وامتنعت على الفهم، وعلى فرض وجودها لم توجد آية لا يمكن رفع إبهامها بأُختها، أو بالأحاديث الواردة حولها(٢) .

__________________

(١) آل عمران: ٧.

(٢) ما ذكره « من أنّ مذهب السلف في المتشابهات يقضي بالتفويض والتسليم » مبني على ما اختاره في تفسير الآيات المتشابهة من أنّها عبارة عن المفاهيم الواردة في القرآن، التي لا يمكن أن يقف على حقيقتها إلّا الله سبحانه كحقيقة ذاته وصفاته وأفعاله من الجنّة ونعيمها والجحيم ونارها إلى غير ذلك.

غير انّ تفسير الآيات المتشابهة بهذا المعنى مردود أساساً، وقد أوضحنا الكلام في حقيقة الآيات المتشابهة في محلها وقلنا: إنّها ليست إلّا عبارة عن الآيات التي يشتبه فيها المراد بغير المراد والحق بالباطل ويزاح الستر عن وجه الحق، بالآيات المحكمة، ولأجل ذلك يصف القرآن الكريم، الآيات المحكمة بأنّها « أُم الكتاب » وأُسسه.

٢٦٩

وأغلب الظن انّ الباعث على وصف هذه الآيات الواضحة الدلالة والمراد بكونها من المتشابه هو تأثر الأستاذ صاحب المنار وتلميذه بالموجة الوهابية، فهو الأمر الذي دفعهما إلى حمل هذه الآيات محمل المتشابه، والإعراض عن الأخذ بمدلولاتها الظاهرة الصريحة.

ولعل جعل صاحب المنار آيات الشفاعة من الآيات المتشابهة ورميها بهذا الوصف لأجل الإشكال الذي سوف نذكره، وهو تخيل انّ الشفاعة التي جاء بها القرآن نوع من الوساطة المتعارفة في الحياة المادية بين الناس، وسنطرح هذا الإشكال ودفعه من الأساس.

الإشكال السادس

ربّما يتخيل بأنّ الشفاعة نوع من الوساطة المتعارفة بين الناس، ويجب تنزيه المقام الإلهي من هذا النوع من الوساطة، وتوضيحه: انّ الخارج على القانون في الحياة الاجتماعية إذا حكم عليه بضرب من العقوبة المالية أو البدنية يبعث من له مكانة عند الحاكم حتى يقوم بالوساطة عنده ويبعثه على العفو والإغماض عن معاقبته، فتصبح النتيجة أن يجري القانون على من يفقد مثل هذه الوساطة ولا يجري على من يجدها، وهذا من الظلم الفظيع السائد في الأنظمة البشرية، ويجب تنزيه الشريعة الإسلامية المقدسة عن قبول هذا النوع من الوساطة.

الجواب

إنّ الأساس لهذا الإشكال هو قياس الشفاعة الواردة في الكتاب العزيز على الشفاعة الدارجة في الحياة الاجتماعية للبشر.

ولو كان معنى الشفاعة هذا فقد رفضه القرآن أشد الرفض، إذ هذا النوع

٢٧٠

من الشفاعة كان من معتقدات عرب الجاهلية حيث كانوا يعبدون الأصنام لهذه الغاية، قال سبحانه واصفاً حالهم:( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَٰؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ ) (١) فالعربي الجاهلي كان يتخيل انّ مكانة الآلهة الباطلة تكون سبباً لصرف إرادته سبحانه عن معاقبة المجرمين والعصاة، أو تكون سبباً لجلب عنايته بهم، فردّ الله سبحانه على تلك المزعمة بقوله:( قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (٢) .

وقال في آية أُخرى واصفاً حالهم أيضاً:( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَىٰ ) (٣) ثم رد عليهم بقوله:( إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ) (٤) .

وعلى ذلك فالشفاعة بهذا المعنى وهو غلبة إرادة الشفيع على إرادة المشفوع عنده، بصرف إرادته عن عقوبتهم أو جلب إرادته لرفع منزلتهم مرفوضة في منطق القرآن، فانّه سبحانه هو الحق المطلق لا يؤثر فيه شيء ولا يتأثر عن شيء ولا يجعل القانون لعبة الشفيع حتى يجري في حق بعض دون بعض، وانّما الشفاعة التي دعا إليها القرآن شيء آخر، وهو إيصال الفيض الإلهي، أعني: المغفرة والعفو الى عباده المستحقين عن طريق أوليائه وأصفيائه، وذلك لأنّ مشيئته الحكيمة جرت على إيجاد المسبّبات عن طريق أسبابها، وإحداث الأشياء عن طرقها، فكما أنّ لكل ظاهرة مادية سبباً مادياً توجد بهذا السبب وتصل إلى الناس عن هذا الطريق، فهكذا الفيوض الإلهية تصل إلى عباد الله عن الطرق الخاصة المعينة، وهذا كهداية

__________________

(١) يونس: ١٨.

(٢) يونس: ١٨.

(٣) الزمر: ٣.

(٤) الزمر: ٣.

٢٧١

الناس عن طريق الأنبياء والرسل، فالهادي هو الله سبحانه لكن عن طريق أنبيائه ورسله، وقضت مشيئته الحكيمة بهذا، قال سبحانه:( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ) (١) ترى أنّه سبحانه يجري فعله أي الحكم بالحق عن طريق بعث النبيين كيف والقرآن المجيد يصدق هذا النظام السائد في الأمور المعنوية والمادية قال سبحانه:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ ) (٢) .

فإنّ المراد من الوسيلة ما يتوسل به إلى الشيء والآية تدعو إلى الإتيان بالقربات والقيام بالوظائف التي يتوسل بها الإنسان إلى مرضاته ورضوانه.

وإذا كانت هذه الآية تدعو إلى ابتغاء الوسيلة بشكل عام من دون أن تعيّن شخص الوسيلة، فقد قامت الآيات الأخر بتعيين الوسائل التي تتحصّل معها مغفرته ورضوانه، ويكتسب بها عفوه وغفرانه، قال سبحانه:( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ) (٣) ترى أنّه سبحانه يأمر نبيه بأن يصلّي عليهم حتى تنزل عليهم السكينة التي هي فعله سبحانه ولطفه، فالسكينة تصل إليهم عن طريق سببه وهو دعاء النبي، وقال سبحانه:( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيماً ) (٤) ترى أنّ الآية تدعو المجرمين والعصاة إلى ابتغاء الوسيلة للوصول إلى غفرانه وهو دعاء النبي واستغفاره في حقهم، وليست هذه سنّة مخصوصة بالأمّة الإسلامية، بل جرت عليها مشيئته في الأمم السابقة حيث نرى أنّ أبناء يعقوب عندما شعروا بالإثم

__________________

(١) البقرة: ٢١٣.

(٢) المائدة: ٣٥.

(٣) التوبة: ١٠٣.

(٤) النساء: ١٤.

٢٧٢

راحوا يطلبون من أبيهم استغفاره في حقّهم فلمّا سمع هو دعوتهم، وعدهم بالانجاز قال سبحانه:( قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ *قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ ) (١) .

وهذه الآيات ونظائرها ترشد الباحث على أنّ للأمور المعنوية وتحقّقها نظاماً على غرار النظام السائد في الأمور المادية. ولأجل ذلك لا يصح للقارئ الكريم أن يتعجب من وصول فيضه ومغفرته سبحانه يوم القيامة إلى عباده المستحقين لها عن طريق الشفعاء، وأوليائه المخلصين.

أضف إلى ذلك أنّ في استجابة دعوة الأولياء ( الذين لا يدعون ولا يطلبون شيئاً مخالفاً للعدالة الإلهية، ومشيئته الحكيمة ) نوع تكريم وتبجيل لهم ولمقامهم، ونوع إشادة بهم، وإظهار لفضلهم.

نعم هؤلاء الكرام البررة لا يطلبون فيضه وغفرانه إلّا لمن استحقها، وهو من لم يقطع صلته الإيمانية بالله وعلاقته الروحية مع أوليائه، وشفعائه. وإذا أردت أن تقف على الفرق الكبير والواضح بين الشفاعتين ( الشفاعة السائدة في الجماعات المادية والشفاعة القرآنية ) فاستمع لما نتلوه عليك من الفروق الموجودة في الشفاعتين :

الفروق الموجودة في الشفاعتين

أوّلاً: أنّ زمام الشفاعة التي نطق بها القرآن بيد الله سبحانه، فهو الذي يبعث الشفيع ـ لما فيه من الكمال والمعنوية ـ حتى يشفع في حق المجرم الذي له صلاحية المغفرة، فتصبح النتيجة أنّ رحمته الواسعة ومغفرته العميمة تصل من طريق الشفيع إلى عباده، فعلى ذلك فالأمور كلها بيده، وناشئة منه، وراجعة إليه ،

__________________

(١) يوسف: ٩٧ ـ ٩٨.

٢٧٣

وهذا على خلاف النظام السائد في الوساطات المادية المتعارفة إذ المجرم فيها هو الذي يبعث الشفيع ليشفع عند الحاكم بحيث لولاه لما تقدم الشفيع بالشفاعة والوساطة عند الحاكم، فالأمر هنا يبدأ من المجرم ويصل إلى الشفيع وينتهي إلى الحاكم على عكس النظام السائد في الشفاعة الأخروية.

فلو انّ القرآن يحث المسلمين على الحضور عند النبي ومطالبته بأن يستغفر لهم فليس ذلك إلّا بأمر منه سبحانه وحث منه على هذا الطلب، فلولا أمره وحثّه سبحانه لما قمنا بذلك، ولو أنّا قمنا به لما كان له أثر بلا أمر منه سبحانه. وعلى ذلك فلا يصح لقائل أن يستدل بالآية على أنّ الشفاعة القرآنية على غرار الشفاعة الدنيوية حيث إنّ المجرم يطلب من النبي، وينتهي الأمر إلى الله سبحانه، فإنّ القائل ذهل عن أنّ كل هذه الأمور تتحقق بأمره وإذنه، وإرشاده وطلبه بحيث لولاه لما كان هناك بعث، وعلى فرض البعث لما كانت أيّة فائدة.

ثانياً: أنّ الشفيع في الشفاعة الصحيحة يتأثر بالمقام الربوبي ويخضع له حيث يأمره المولى الحكيم بالشفاعة والدعاء في حق المجرمين المستحقين له ولكن الأمر في الشفاعة الدنيوية على العكس إذ الحاكم يتأثر، هناك بشفاعة الشفيع كما انّه نفسه يتأثر من تقدم الشفيع إليه وتكلّمه معه.

ثالثاً: أنّ ماهية الشفاعة الدنيوية وواقعيتها ليست إلّا نوع تفرقة في تطبيق القانون حيث إنّ نفوذ الشفيع ومكانته عند الحاكم، يوجبان مغلوبية إرادته وغالبية إرادة الشفيع، فتصبح النتيجة أن يجري القانون في حق الضعيف الذي لا يجد شفيعاً دون القوي الذي يجد شفيعاً، وهذا بخلاف الشفاعة الصحيحة فإنّها لا تحمل إرادة الشفيع على مشيئة الله ولا تخضع سنته الحكيمة لإرادة أحد وطلبه، ولا يوجب التفرقة في التطبيق بل غاية الشفاعة هو جريان مغفرته وفيضه عن طريق أوليائه إلى عباده، فلو حرم البعض من الشفاعة، فليس ذلك لأجل نفاد

٢٧٤

رحمته، بل لأجل عدم لياقته لها، فلو أنّ الله سبحانه يقول في حق المشرك:( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ) (١) فليس ذلك إلّا لأنّ قلب المشرك كالوعاء المسدود لا يتسرب إليه شيء حتى لو غمس في سبعة أبحر لما تسرب إليه الماء، أو هو كالأرض المالحة التي لا ينبت فيها شيء ولو أنّ القرآن يصر على أنّ الشفاعة لا تتحقق إلّا بإذنه سبحانه للشفيع وارتضائه للمشفوع له، فليس ذلك إلّا لأجل أنّ المرضي هو اللائق دون غيره، فلو حرم المشرك من شفاعة الأنبياء أو حرم بعض العصاة منها فليس ذلك إلّا لعدم لياقتهم لهذا الفيض.

الإشكال السابع

إنّ المراد من الشفاعة هو الشفاعة القيادية وانّ الأنبياء والأولياء يوصلون عباد الله إلى الفوز والسعادة عن طريق الوحي وتبليغ الرسالة، فإطلاق الشفاعة على هذا الأمر لأجل أنّ انضمامهم إلى الوحي الإلهي يمهد الطريق إلى السعادة والنجاة. وهذا الإشكال مما أثاره المفسر المعاصر الشيخ الطنطاوي في تفسيره وقام بتفسير الشفاعة بذلك، وإليك نص كلامه: « وفي الحديث يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء، فهذا يفيد أنّ الشفاعة تابعة للاقتداء، فالأنبياء علّموا العلماء، والعلماء علّموا الناس، وأفضل الناس بعد الأنبياء، العلماء، فالشهداء، فمن لم يعمل بما أنزل الله وتجافى عن الحق فقد عطل ما وهب له من بذر الشفاعة ولم يسقه ولم يربه ولم ينمه بالعمل، فيحرم ثمرته مع أنّه ساوى جميع المسلمين في حصول البذر عنده وخالفهم في قعوده عن استثماره »(٢) .

__________________

(١) النساء: ٤٨ و ١١٦.

(٢) الجواهر في تفسير القرآن الكريم: ١ / ٦٥، وقد مضى بعض عباراته عند نقل كلمات العلماء.

٢٧٥

الجواب

نحن في غنى عن الإجابة على هذا الإشكال لما رددنا على هذا في الأبحاث السابقة حيث قد أشبعنا الكلام عند البحث عن التفسيرات الثلاثة للشفاعة، ونظير هذا الإشكال ما ربما تفسر الشفاعة بالعمل بالواجبات والتجنب عن المحرمات فتفسر آيات الشفاعة بهذه الشفاعة العملية.

ونزيد بياناً هنا على ضعف هذا الإشكال انّه لو كان المراد هو المغفرة في ضوء الطاعة العملية فلماذا وعد الله سبحانه في الآية التالية بأنّه لا يغفر الشرك ويغفر ما دون ذلك ؟ قال سبحانه:( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ) (١) فلو كان المراد هو المغفرة في ضوء الإيمان والعمل لما صح استثناء الشرك في الآية الكريمة، لأنّ الشرك يغفر في هذا الإطار أيضاً، وبذلك يعلم أنّ لله سبحانه مغفرة ورحمة خارجة عن إطار العمل وانّ رحمته الواسعة كما تصل إليهم من طريق العمل بالأحكام، تصل إليهم عن طريق آخر وهو كون العبد قابلاً للمغفرة والرحمة حافظاً لعلاقاته مع الله ومع الشفعاء وان كان قاصراً في العمل.

الإشكال الثامن

إنّ الاعتقاد بشفاعة الشفعاء يستلزم أن يكون الشفيع أشد رأفة بالعباد من الله سبحانه، لأنّ المفروض أنّه لولا دعاء الشفيع وشفاعته لا ترفع العقوبة من المجرم والعاصي.

وإن شئت قرر هذا الإشكال بوجه آخر: انّ الاعتقاد بوصول مغفرته سبحانه

__________________

(١) النساء: ٤٨.

٢٧٦

عن طريق الشفعاء يستلزم محدودية فيضه ورحمته بحيث يكون دعاء الشفيع وسيلة لتوسعتها وانبساطها.

الجواب

إنّ الإشكال بكلا التقريرين ساقط من الأساس، فإنّ الإشكال مبني على تفسير الشفاعة بالواسطة المتعارفة في الحياة البشرية، وأمّا على ما ذكرنا من معنى الشفاعة في القرآن من أنّه عبارة عن وصول رحمته وغفرانه إلى عباده من طريق أوليائه فلا وجه له لما قررنا من الفوارق الثلاثة بين الشفاعة القرآنية والشفاعة بمعنى الوساطة العرفية، وقلنا: إنّ واقع الشفاعة القرآنية هو انّه سبحانه يبعث الشفيع على الدعاء والشفاعة وهو الذي يأذن له ويرتضي من يشاء من عباده وليس للشفيع هنا أيّ دخالة، أفبعد ذلك يصح للقائل أن يقول إنّ معنى الشفاعة هو كون الشفيع أشد رأفة بالعباد من الله سبحانه ؟!

وأمّا التقرير الثاني فهو غفلة عمّا جرت عليه مشيئته سبحانه، فإنّه جرت السنة الإلهية على إيصال المسببات عن طريق أسبابها، فقد جعل لكل شيء سبباً من دون أن يقوم هو سبحانه بنفسه مكان الأسباب والعلل، ولو صح ما زعمه المستشكل لزم أن يكون الاعتقاد بتأثير الأسباب الطبيعية في مسبباتها تحديداً لقدرته ورحمته إذ لولا هذه الأسباب، لما وصلت فيوضاته المادية إلى الإنسان.

الإشكال التاسع

انّ الاعتقاد بالشفاعة وتأثير دعاء الشفيع وطلبه في رفع العقوبة، أو في ارتفاع الدرجة، يتناقض مع الأصل الذي أسّسه القرآن الكريم حيث جعل مصير كل أحد قيد عمله ورهن سعيه، قال سبحانه:( وَأَن لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلا مَا

٢٧٧

سَعَىٰ ) (١) ، وقال سبحانه:( هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ ) (٢) وقال تعالى:( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً ) (٣) ، فهذه الآيات تجعل الجزاء قيد العمل والسعي وانّه هو نتيجة ذلك، فكيف يجتمع هذا مع الشفاعة التي ليست لها واقعية كواقعية السعي والعمل بل هو موجب لفوز الإنسان ونجاته بسبب دعاء الغير ووجاهته ومكانته من دون سعي صادر من المشفوع له.

الجواب

إنّ الجواب على هذا الإشكال يكون بوجهين :

الأوّل: بالنقض، فإنّ القرآن يصرّح بأنّ دعاء الغير سبب لمغفرة الذنوب، قال سبحانه في حق حملة العرش:( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ ) (٤) وقال سبحانه:( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ ) (٥) فلو كان ما ذكره المستشكل صحيحاً فكيف يكون دعاء حملة العرش موجباً للمغفرة ؟! ومثله الآية الثانية فبملاحظة هاتين الآيتين وما ورد من الحث والتأكيد على دعاء المؤمن في الفرائض والنوافل، وفي الجلوات والخلوات، يتضح أنّ لآيات السعي مفاداً غير ما استنبطه المستدل منها، وسوف يوافيك هذا المعنى في الجواب التالي.

__________________

(١) النجم: ٣٩.

(٢) يونس: ٥٢.

(٣) آل عمران: ٣٠.

(٤) غافر: ٧.

(٥) الحشر: ١٠.

٢٧٨

الثاني: بالحل، فإنّ الشفاعة في الحقيقة فرع للسعي الذي قام به المشفوع له وتعد من آثاره وتوابعه إذ لولا عمله وسعيه وجده واجتهاده في الإيمان بالله سبحانه وإقامة الفرائض والاجتناب عن المحرمات في الجملة، لما نالته شفاعة الأولياء، فالسعي الذي قام به طيلة حياته على وجه حفظ به علاقاته مع الله سبحانه ومع أوليائه، هو المصحح للشفاعة والموجب لمغفرته بدعاء الشفيع.

ولأجل ذلك حثّت الأحاديث على تحديد شفاعة الأولياء وانّه لا تنال عدة من العصاة، كتارك الصلاة وعاق الوالدين وغير ذلك.

الإشكال العاشر

إنّ طلب الشفاعة من الأولياء والأنبياء شرك بالله سبحانه، أو أمر محرم.

الجواب

قد أشبعنا الكلام في معنى الشفاعة وحدودها وشرائطها وبقي هنا بحث، وهو انّه هل يجوز طلب الشفاعة من الشفعاء الحقيقيين أو لا ؟ ذهب ابن تيمية وخريج مدرسته محمد بن عبد الوهاب إلى أنّه لا يجوز طلبها من غيره سبحانه، لأنّ طلبها من غيره عبادة له، أو لا أقل من أنّه أمر محرم، واختار جمهرة المسلمين جوازه من غير فرق بين أن يكون الشفيع حياً أو ميتاً.

وهذا الإشكال وان لم يكن مربوطاً بأصل الشفاعة لكنه يمت إليها بنحو من الارتباط، فأردنا أن نبحث عنه في عداد الإشكالات فنقول: اتفق المسلمون على أصل الشفاعة وانّ هناك عباداً مخلصين وأصفياء كراماً يشفعون يوم القيامة بل يشفعون في هذه الدنيا والبرزخ ويوم القيامة وهذا مما لا خلاف فيه بين المسلمين، إلّا من شذ وندر ممن فسر الشفاعة بغير معناها الصحيح، إلّا انّ الكلام في أنّه هل

٢٧٩

يجوز طلب الشفاعة من المأذون له من الأنبياء والأولياء بعد الاتفاق على تحريم ذلك الطلب من غير المأذون، أو لا يجوز ؟

قال ابن تيمية ومن لف لفه من أنّه لا يجوز للمؤمن إلّا أن يقول: أللّهمّ شفّع نبينا محمداً فينا يوم القيامة، أو أللّهمّ شفّع فينا عبادك الصالحين أو ملائكتك أو نحو ذلك مما يطلب من الله لا منهم، فلا يقال: يا رسول الله أو يا ولي الله أسألك الشفاعة أو غيرها مما لا يقدر عليه إلّا الله، فإذا طلبت ذلك في أيام البرزخ كان من أقسام الشرك(١) .

ولأجل هذا يجب الغور في هذه المسألة حتى يتضح الحق لمبتغيه بأجلى مظاهره.

ما يدل على جواز طلب الشفاعة

يمكن الاستدلال على جواز هذا الطلب بوجوه كثيرة نشير إلى بعضها :

الأوّل: انّ حقيقة الشفاعة ليست إلّا دعاء النبي والولي في حق المذنب، وإذا كانت هذه حقيقته في جميع المواقف أو في بعضها فلا مانع من طلبها من الصالحين، لأنّ غاية هذا الطلب هو طلب الدعاء، فلو قال القائل: « يا وجيهاً عند الله اشفع لنا عند الله » يكون معناه: ادع لنا عند ربك، فهل يرتاب في جواز ذلك مسلم ؟

ولست أراك تشك في أنّ طلب الدعاء هو نفس الاستشفاع، وانّ حقيقة الشفاعة هي الدعاء، ولأجل ذلك نرى انّ العلّامة نظام الدين النيسابوري، صاحب التفسير الكبير ينقل في تفسير قوله سبحانه:( مَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً

__________________

(١) الهدية السنية: ٤٢.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

مفهوم التحية يشمل ـ أيضا ـ التعامل الودي العملي بين الناس.

في تفسير علي بن إبراهيم عن الباقر والصّادقعليهما‌السلام أن : «المراد بالتّحية في الآية السلام وغيره من البر».

وفي «المناقب» أنّ جارية أهدت إلى الإمام الحسنعليه‌السلام باقة من الورد فأعتقها،وحين سئل عن ذلك استشهد بقوله تعالى :( وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها ) .

وهكذا يتّضح لنا أنّ الآية هي حكم عام يشمل الردّ على كل أنواع مشاعر الودّ والمحبّة سواء كانت بالقول أو بالعمل ـ وتبيّن الآية في آخرها أنّ الله يعلم كل شيء ، حتى أنواع التحية والسلام والردّ المناسب لها ، وأنّه لا يخفى عليه شيء أبدا ، حيث تقول :( إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً ) .

السّلام ، تحية الإسلام الكبرى :

لا يخفى أنّ لكل جماعة إنسانية تقاليد خاصّة في التحية لدى التلاقي فيما بينهم ، بها يتبادلون مشاعر الحبّ والصفاء ، والمودة ، والتحية كما هي صيغة لفظية يمكن أن تكون ـ أيضا ـ حركة عملية يستدل منها على مشاعر الحبّ والودّ المتبادلة.

وقد جاء الإسلام بكلمة «السّلام» مصطلحا للتحية بين المسلمين ، والآية موضوع البحث مع كونها عامة شاملة لأنواع التحية ، لكن المصداق الأوضح والأظهر لها يتجسد في كلمة «السّلام».

وبناء على ذلك فإنّ المسلمين مكلّفون بردّ السّلام بأحسن منه ، أو على الأقل بما يماثله.

وفي آية أخرى إشارة واضحة إلى أنّ السّلام هو التحية حيث تقول :( فَإِذا

٣٦١

دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ ) (١) ويمكن الاستدلال من هذه الآية على أن عبارة (السلام عليكم» هي في الأصل «سلام الله عليكم» أي ليهبك الله السلامة والأمن ، وهكذا يتّضح لنا أنّ السلام يعتبر دلالة على الحبّ والود المتبادل ، كما هو دلالة على نبذ الحرب والنزاع والخصام.

وقد دلت آيات قرآنية أخرى على أنّ السّلام هو تحية أهل الجنّة ، حيث يقول سبحانه :( أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً ) (٢) . ويقول تعالى:( تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ ) (٣) .

كما أنّ آيات قرآنية أخرى دلت على أنّ السلام أو أي صيغة أخرى تعادله ، كان سائدا بين الأقوام التي سبقت الإسلام ، وهذا هو ما تشير إليه الآية (٢٥) من سورة الذاريات في قصة إبراهيم مع الملائكة حيث تقول :( إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ) .

والشعر الجاهلي فيه دلائل تثبت أن السلام كان ـ أيضا ـ تحية أهل الجاهلية(٤) .

إنّ تحية الإسلام تبرز أهميتها وقيمتها العظيمة ، لدى مقارنتها بما لها من نظائر لدى الأمم والأقوام الاخرى.

النصوص الإسلامية تؤكد كثيرا على السّلام والتّحية، حيث یروى عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من بدأ بالكلام قبل السّلام فلا تجيبوه»(٥) .

__________________

(١) النّور ، ٦١.

(٢) الفرقان ، ٧٥.

(٣) إبراهيم ، ٢٣.

(٤) روي أن «نوبة» وهو من شعراء الجاهلية قال :

ولو أن ليلى الأخيلية سلمت

علي ودوني جندل وصفائح

لسلمت تسليم البشاشة أو زقا

إليها صدى من جانب القبر صائح

(٥) أصول الكافي ، الجزء الثاني ، باب التسليم.

٣٦٢

كمايروى عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّ الله يقول : «البخيل من يبخل بالسّلام»(١)

وعن الإمام الباقرعليه‌السلام : «إنّ الله يحبّ إفشاء السلام»(٢) .

وقد ورد في الروايات والأحاديث آداب كثيرة للتحية والسلام ، منها أنّ السلام يجب أن يشيع بين جميع أبناء المجتمع وأن لا ينحصر في إطار الأصدقاء والأقارب ، فقد روي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه سئل : أي العمل خير : فأجابصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تطعم الطّعام وتقرأ السّلام على من عرفت ومن لم تعرف»(٣) .

كما ورد في الأحاديث أن من آداب التحية أن يسلم الراكب على الراجل ، والراكب على دابة غالية الثمن يسلم على من يركب دابة أقل ثمنا ، وقد يكون الأمر حثّا على التزام التواضع ، ونهيا عن التكبر أو محاربة له ، فالتكبر غالبا ما يستولي على أهل المال والجاه وهذا عكس ما نشاهده في عصرنا حيث يتحتم على الطبقات الدانية من المجتمع أن تبادر الطبقات العليا بالسّلام ، وبذلك يضفون على هذا الأمر طابعا استعباديا وثنيا ، بينما كان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو أوّل من يبادر الآخرين بالسلام ، وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبتدئ بالسلام حتى على الصبية الصغار ، وبديهي أنّ هذا الأمر لا ينافي ما ورد في الروايات من حثّ صغار السن على مبادرة كبارهم بالسلام والتحية والاحترام ، لأنّ هذا السلوك يعتبر نوعا من الآداب الإنسانية الحميدة ، ولا ارتباط له بالتمييز الطبقي.

ومن جانب آخر نجد روايات تأمر بعدم السّلام على المرابين والفاسقين وأمثالهم،ويعتبر هذا الأمر سلاحا لمحاربة الفساد والربا ، أمّا إذا كان السلام يؤدي إلى التأثير على المفسد والمنحرف ، ويجعله يرتد عن غيه ويترك الفساد والانحراف ، فلا مانع منه ولا بأس به.

__________________

(١) أصول الكافي ، الجزء الثاني ، باب التسليم.

(٢) أصول الكافي ، الجزء الثاني ، باب التسليم.

(٣) تفسير في ظلال القرآن ، في هامش الآية.

٣٦٣

ولا يفوتنا هنا أن نوضح أنّ المراد من رد التحية بالأحسن هو أن نعقب السلام بعبارات مثل «ورحمة الله» أو «ورحمة الله وبركاته».

ورد في تفسير «الدّر المنثور» أنّ شخصا أتى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : السّلام عليكم. فإجابة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وعليك السّلام ورحمة الله. ثمّ جاءه آخر وقال :السّلام عليكم ورحمة الله.

فأجابه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليك السّلام ورحمة الله وبركاته. فجاءه ثالث وقال :السّلام عليك ورحمة الله وبركاته. فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «وعليك» ـ وعند ما سئل عن علّة هذا الجواب القصير ، قال : إنّ القرآن يقول : إذا حيّيتم بتحية فحيوا بأحسن منها ، ولكنك لم تبق شيئا»(١) .

وفي الحقيقة أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد ردّ التحية بأحسن منها في الموردين السابقين ، أمّا في المورد الثّالث ردّها بالمساوي كلمة «وعليك» تعني أنّ كل ما قلته لي مردود عليك.

* * *

__________________

(١) الدرّ المنثور ، ج ٢ ، ص ٨.

٣٦٤

الآية

( اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً(٨٧) )

التّفسير

جاءت هذه الآية مكملة لما سبقتها ومقدمة لما تليها من آيات ، فالآية السابقة بعد أن أمرت بردّ التحية قالت :( إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً ) .

والآية موضوع البحث تشير إلى قضية غيبية مهمّة هي قضية يوم البعث والحساب،حيث محكمة العدل الإلهية العامّة للبشر أجمعين ، وتقرنها بمسألة التوحيد الذي هو ركن آخر من أركان الإيمان( اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ ) .

وعبارة( لَيَجْمَعَنَّكُمْ ) تدلّ على الشمولية لكل البشر من أوّلهم حتى آخرهم، حيث سيجمعون «كلّهم» في يوم واحد هو يوم الحشر والقيامة.

وفي موضع آخر من القرآن (الآيتان ٩٣ و ٩٤ من سورة مريم) أشير أيضا إلى هذه الحقيقة حقيقة بعث جميع عباد الله ـ من سكن منهم على هذه الكرة الأرضية أو على كرات أخرى ـ في يوم واحد.

وعبارة( لا رَيْبَ فِيهِ ) الواردة في الآية وفي آيات أخرى ، إنّما هي إشارة

٣٦٥

إلى الأدلة القطعية البديهية على وقوع يوم القيامة ، مثل دليل «قانون التكامل» و «حكمة الخلق» و «قانون العدل الإلهي» ، المذكورة بالتفصيل في مبحث المعاد.

وتؤكد الآية في نهايتها على حقيقة أنّ الله هو أصدق الصادقين :( مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً ) من هنا لا يجوز أن يساور أحد الشك فيما يعد به الله من بعث ونشور وغيره من الوعود ، فالكذب لا يصدر إلّا عن جهل أو ضعف وحاجة ، والله أعلم العالمين ، وإليه سبحانه يحتاج العباد دون أن يحتاج هو إلى أحد مطلقا ، فهو منزّه عن صفات الجهل والضعف والعجز ، ولذلك فهو أصدق الصادقين ، بل إن الكذب بالنسبة إلى الله تعالى لا مفهوم له إطلاقا.

* * *

٣٦٦

الآية

( فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (٨٨) )

سبب النّزول

نقل جمع من المفسّرين عن ابن عباس أن نفرا من أهل مكّة من الذين كانوا قد أظهروا الإسلام امتنعوا عن ترك مجاورة ومداهنة المنافقين ، وأحجموا لذلك عن الهجرة إلى المدينة،وكان هؤلاء في الحقيقة يساندون ويدعمون عبدة الأوثان المشركين ، إلّا أنّهم اضطروا في النهاية إلى الخروج من مكّة (وساروا مع المسلمين حتى وصلوا إلى مشارف المدينة، ولعلّهم فعلوا ذلك لدرء الفضيحة عن أنفسهم أو بهدف التجسس على المسلمين المهاجرين) وكانوا يظهرون الفرح لانطواء حيلتهم على المسلمين ، كما حسبوا أن دخولهم إلى المدينة سوف لا تعترضه أي مشاكل من قبل الآخرين ـ لكن المسلمين انتبهوا الى حقيقة هؤلاء ، غير أنّهم انقسموا إلى فئتين ، فئة منهم رأت ضرورة طرد أولئك النفر من المنافقين الذين كانوا في الحقيقة يدافعون عن المشركين أعداء الإسلام ، والفئة الثانية من المسلمين الذين كانوا لسذاجتهم يرون ظاهر الأمور دون باطنها ، وخالفوا طرد المنافقين واعترضوا بزعمهم أنّه لا يمكن محاربة أو طرد من يشهد لله بالوحدانية

٣٦٧

ولمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنّبوة ، وقالوا : أنّه لا يمكن استباحة دماء هؤلاء لمجرّد عدم هجرتهم مع المسلمين : فنزلت هذه الآية الكريمة وهي تلوم الفئة الأخيرة على خطئها ، وترشدها إلى طريق الحقّ الصواب(١) .

التّفسير

استنادا إلى سبب النزول الذي ذكرناه ، تتّضح لنا الصّلة الوثيقة بين هذه الآية والآيات التي تليها ، وكذلك الآيات السابقة التي تناولت مواضيع وقضايا عن المنافقين.

فهذه الآية تخاطب في البداية المسلمين وتلومهم على انقسامهم إلى فئتين ، كل فئة تحكم بما يحلو لها بشأن المنافقين ، حيث تقول :( فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ ) (٢) وتنهي المسلمين عن الاختلاف في أمر نفر أبوا أن يهاجروا معهم ، وتعاونوا مع المشركين،وأحجموا عن مشاركة المجاهدين ، فظهر بذلك نفاقهم ، ودلت على ذلك أعمالهم،فلا يجوز للمسلمين أنّ ينخدعوا بتظاهر هؤلاء بالتوحيد والإيمان ، كما لا يجوز لهم أن يشفعوا في هؤلاء ، وقد أكّدت الآية السابقة أن :( مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها ) .

وتبيّن الآية بعد ذلك : إنّ الله قد سلب من هؤلاء المنافقين كل فرصة للنجاح،وحرمهم من لطفه وعنايته بسبب ما اقترفوه وإنّ الله قد قلب تصورات هؤلاء بصورة تامّة فأصبحوا كمن يقف على رأسه بدل رجليه :( ... وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا ) (٣) .

__________________

(١) ذكرت أسباب أخرى لنزول هذه الآية والآيات التي تليها ، وقيل أنّها نزلت في واقعة أحد بينما الآيات التالية تتحدث عن الهجرة ولا تنسجم مع هذا القول ، بل تنسجم مع سبب النزول الذي ذكرناه أعلاه.

(٢) في هذه الجملة ، جملة أخرى محذوفة تتضح لدى الإمعان في الأجزاء الاخرى من الآية والتقدير : «فما لكم تفرقتم في المنافقين فئتين ...».

(٣) «أركسهم» : من ركس وهو قلب الشيء على رأسه ، وتأتي أيضا بمعنى ردّ أوّل الشيء إلى آخره.

٣٦٨

وتدل عبارة «بما كسبوا» على أنّ كل ارتداد أو خروج عن جادة الحقّ وطريق الهداية والسعادة والنجاة ، إنّما يتمّ بعمل الإنسان وفعله ، وحين ينسب الإضلال إلى الله سبحانهعزوجل ، فذلك معناه أنّ الله القدير الحكيم يجازي كل إنسان بما كسبت يداه ويثيبه بقدر ما يستحق من ثواب.

وفي الختام تخاطب الآية أولئك البسطاء من المسلمين الذين انقسموا على أنفسهم وأصبحوا يدافعون لسذاجتهم عن المنافقين ، فتؤكد لهم أنّ هداية من حرمه الله من لطفه ورحمته بسبب أفعاله الخبيثة الشنيعة أمر لا يمكن تحقيقه ، لأنّ الله قد كتب على هؤلاء المنافقين ما يستحقونه من عذاب وضلال وحرمان من الهداية والنجاة( أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ) .

إذ أنّ عمل كل شخص لا ينفصل عنه وهذه سنة إلهية فكيف يؤمل في هداية أفراد امتلأت أفكارهم وقلوبهم بالنفاق ، واتجهت أعمالهم إلى حماية أعداء الله؟! إنّه أمل لا يقوم على دليل(١) .

* * *

__________________

(١) في المجلد الأول من هذا التّفسير بحث عن الهداية والضلالة ، فراجعه.

٣٦٩

الآية

( وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً(٨٩) )

التّفسير

لقد تحدثت الآية السابقة عن المنافقين الذين كانوا يحظون بحماية نفر من المسلمين البسطاء وشفاعتهم ، وأوضحت أنّ هؤلاء المنافقين غرباء عن الإسلام ، وهذه الآية تبيّن أنّ المنافقين لفرط انحرافهم وضلالتهم يعجبهم أن يجروا المسلمين إلى الكفر كي لا يظلوا وحدهم كافرين :( وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً ) .

ولهذا السبب فإنّ المنافقين أسوأ من الكفار ، لأنّ الكافر لا يحاول سلب معتقدات الآخرين ، والمنافقون يفعلون هذا الشيء ويسعون دائما لإفساد المعتقدات ، وهم بطبعهم هذا لا يليقون بصحبة المسلمين أبدا ، تقول الآية الكريمة :( فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ ) إلّا إذا غيروا ما في أنفسهم من شرّ ، وتخلوا عن كفرهم ونفاقهم وأعمالهم التخريبية.

٣٧٠

ولكي يثبتوا حصول هذا التغيير ، ويثبتوا صدقهم فيه ، عليهم أن يبادروا إلى الهجرة من مركز الكفر والنفاق إلى دار الإسلام (أي يهاجروا من مكّة إلى المدينة) فتقول الآية:( حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ) أمّا إذا رفضوا الهجرة فليعلم المسلمون بأن هؤلاء لا يرضون لأنفسهم الخروج من حالة الكفر والنفاق ، وإن تظاهرهم بالإسلام ليس إلّا من أجل تمرير مصالحهم وأهدافهم الدنيئة ومن أجل أن يسهل عليهم التآمر والتجسس على المسلمين.

وفي هذه الحالة يستطيع المسلمون أن يأسروهم حيثما وجدوهم ، وأن يقتلوهم إذا استلزم الأمر ، تقول الآية الكريمة :( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) .

وتكرر هذه الآية التأكيد على المسلمين أن يتجنّبوا مصاحبة هؤلاء المنافقين وأمثالهم فتقول :( لا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً ) .

والقرآن في هذا الحكم يؤكّد حقيقة مصيرية للمجتمع ، هي أنّ حياة أي مجتمع تمرّ بمرحلة إصلاحية لا يمكن أن تستمر بصورة سليمة ما لم يتخلص من جراثيم الفساد المتمثلة بهؤلاء المنافقين أو الأعداء الذين يتظاهرون بالإخلاص ، وهم في الحقيقة عناصر مخربة هدامة تعمل في التآمر والتجسس على المجتمع ومصالحه العامّة.

والطريف هنا أنّ الإسلام ـ مع اهتمامه برعاية أهل الكتاب من اليهود والنصارى وغيرهم ومنعه الظلم والعدوان عنهم ـ نراه يشدد كثيرا في التحذير من خطر المنافقين ، ويرى ضرورة التعامل معهم بعنف وقسوة ، ورغم تظاهرهم بالإسلام يصرح القرآن بأسرهم ، بل حتى بقتلهم إن استلزم الأمر.

وما هذا التشديد إلّا لأنّ هؤلاء يستطيعون ضرب الإسلام تحت ستار الإسلام، وهذا ما يعجز عن أدائه أي عدو آخر.

٣٧١

سؤال :

قد يرى البعض أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يتحاشى قتل المنافقين كي لا يتهمه الأعداء بأنّه يقتل أصحابه ، أو أنّه لم يقتلهم حتى لا يستغل الآخرون هذا الأمر فيقتلون كل من يعادونه بدعوى أنّه منافق ، فكيف يتلاءم هذا الموقف مع الآية الشريفة.

الجواب :

الحقيقة أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اتّبع هذا الأسلوب مع منافقي المدينة الذين لم يظهروا العداء الصريح له أو للإسلام ، بينما اتّبع مع منافقي مكّة الذين جهروا بعدائهم للمسلمين وساعدوا الكفار عليهم أسلوبا غير هذا.

* * *

٣٧٢

الآية

( إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (٩٠) )

سبب النّزول

وردت روايات عديدة تفيد أنّ إثنتين من القبائل العربية في زمن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهما قبيلتا «بني ضمرة» و «أشجع» كانت إحداهما وهي قبيلة بني ضمرة قد عقدت مع النّبي اتفاقا بترك النزاع ، وكانت القبيلة الثانية حليفة للقبيلة الأولى دون أن تعقد مثل هذا الاتفاق مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتقول الروايات إن بعض المسلمين أخذوا يشككون في وفاء «بني ضمرة» للمسلمين ، واقترحوا على النّبي أن يهاجم هذه القبيلة قبل أن تبادر هي بالهجوم على المسلمين ،فرد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلا : «كلّا ، فإنّهم أبر العرب بالوالدين،وأوصلهم للرّحم ، وأوفاهم بالعهد».

وبعد فترة علم المسلمون أنّ قبيلة «أشجع» وعلى رأسها «مسعود بن رجيلة» قد وصلت حتى مشارف المدينة ، وهي في سبعمائة رجل ، فبعث النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفدا للتعرف على سبب مجيئهم إلى ذلك المكان ، فأجابت هذه القبيلة

٣٧٣

بأنّها جاءت لكي تعقد اتفاقا مع المسلمين مماثلا لاتفاق «بني ضمرة» معهم ، وما أن علم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا الأمر حتى أمر أصحابه بأن يأخذوا مقدارا من التمر هدية لهذه القبيلة ، ثمّ التقى بهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبروه بأنّهم لعجزهم عن موازرة المسلمين في قتال الأعداء ، ولعدم رغبتهم في المشاركة في قتال ضد المسلمين ، لما تربطهم بهم من صلة الجوار ، لذلك يرومون عقد اتفاق أو ميثاق مع المسلمين بتحريم العدوان بينهما ، فنزلت الآية المذكورة بهذا الشأن وهي تبيّن للمسلمين ما يجب عليهم أن يفعلوه في مثل هذه الحالة.

ويقول مفسرون آخرون إنّ قسما من هذه الآية قد نزل في شأن قبيلة «بني مدلج» التي جاءت إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخبرته أنّها تريد الاتفاق معه على عدم اللجوء إلى العدوان فيما بينهما ، وذلك لرغبتها في البقاء على الحياد تجاه المسلمين ودعوتهم.

التّفسير

التّرحيب باقتراح السّلم :

بعد أن أمر القرآن الكريم المسلمين في الآيات السابقة باستخدام العنف مع المنافقين الذين يتعاونون مع أعداء الإسلام ، تستثني هذه الآية من الحكم المذكور طائفتين :

١ ـ من كانت لهم عهود ومواثيق مع حلفائكم( إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ ) .

٢ ـ من كانت ظروفهم لا تسمح لهم بمحاربة المسلمين ، كما أنّ قدرتهم ليست على مستوى التعاون مع المسلمين لمحاربة قبيلتهم( أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ ) .

ومن الواضح أنّ أفراد الطائفة الأولى يجب أن يكونوا مستثنين من هذا

٣٧٤

القانون احتراما للعقود والعهود ، وأمّا المجموعة الثانية ـ وإن لم تكن معذورة ، بل عليها أن تستجيب للحق بعد معرفته ـ فقد أعلنت حيادها ، ولذلك فمجابهتها يتعارض مع مبادئ العدالة والمروءة.

ولكي لا يستولي الغرور على المسلمين إزاء كل هذه الانتصارات الباهرة ، وكي لا يعتبروا ذلك نتيجة قدرتهم العسكرية وابتكارهم ، ولا تستفز مشاعرهم تجاه هذه المجموعات المحايدة تقول الآية :( وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ ) .

وهذا تذكير للمسلمين بعدم نسيان الله في كل انتصار ، وأن يتجنّبوا الغرور والعجب حيال ما لديهم من قوّة ، وأن لا يعتبروا العفو عن الضعفاء خسارة أو ضررا لأنفسهم.

وتكرر الآية في ختامها التأكيد بأنّ الله لا يسمح للمسلمين بالمساس بقوم عرضوا عليهم الصلح وتجنبوا قتالهم ، وإن المسلمين مكلفون بأن يقبلوا دعوة الصلح هذه، ويصافحوا اليد التي امتدت إليهم وهي تريد الصلح والسلام( فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً ) .

يلفت النظر أنّ القرآن في هذا الموضع ومواضع أخرى يذكر مقترح السلام بعبارة «إلقاء السلام» وقد يكون ذلك إشارة إلى التباعد بين الجانبين المتنازعين قبل الصلح ، حتى أنّ أحد الجانبين يطرح اقتراحه باحتياط وعن بعد ليلقيه على الجانب الآخر.

* * *

٣٧٥

الآية

( سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (٩١) )

سبب النّزول

لقد ذكروا أسبابا مختلفة لنزول هذه الآية ، وأشهرها هو أنّ نفرا من أهل مكّة كانوا حين يحضرون عند النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتظاهرون بالإسلام كذبا وخداعا ، وما أن يرجعوا إلى قريش يعودون لعبادة الأصنام ، وقد انتخب هؤلاء هذا النوع من السلوك درءا لخطر المسلمين وخطر قريش عن أنفسهم ، بالإضافة إلى سعيهم لإمرار مصالحهم لدى الطرفين ، فنزلت هذه الآية وأمرت المسلمين بالتعامل مع هؤلاء بعنف وشدّة.

التّفسير

عقاب ذي الوجهين :

إنّ هذه الآية تصور لنا طائفة من الناس نقيض تلك الطائفة التي تحدثت عنها

٣٧٦

الآية السابقة وأمرت بقبول الصلح منها ، والطائفة تتشكل من أفراد نفعيين انتهازيين،همّهم الوحيد تحقيق مصالحهم والتحرك بحرية تامّة لدى المسلمين ، وقريش عن طريق الرياء والخيانة والخداع ، والتظاهر بتأييد واتباع الجانبين والتعاون معهما ، وفي هذا المجال تقول الآية الكريمة:( سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ. ).

وهؤلاء حين تسنح لهم الفرصة ينقلبون على أعقابهم وينغمسون في الفتنة والشرك نكسا على رؤوسهم( كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها ).

وعمل هؤلاء وسلوكهم على عكس سلوك الطائفة السابقة التي أرادت أن تبقى على الحياد فقد تجنبت الفئة السابقة إيذاء المسلمين ، أمّا هذه الأخيرة فقد انطوت سريرتها على إيذاء المسلمين والوقوف ضدهم.

وقد اشترط القرآن الكريم على هذه الطائفة ثلاثة شروط من أجل أن تبقى في مأمن من انتقام المسلمين ، وهذه الشروط هي : اعتزال المسلمين ، أو مصالحتهم ، أو الكف عن إيذائهم حيث تقول الآية الكريمة :( فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ ) .

وإذا رفضت هذه الطائفة الشروط المذكورة وأصرت على العصيان والتمرد ، فالمسلمون مكلّفون عند ذلك بإلقاء القبض على أفرادها وقتلهم أينما وجدوا ، كما تقول الآية:( فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ) .

ولما كانت الحجّة قد تمّت على هؤلاء ، تقول الآية في الخاتمة :( أُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً ) .

وقد يكون هذا التسلط في مجال الكلام والمنطق إذا تغلب منطق المسلمين على منطق المشركين والكافرين ، وقد يكون سلطانا ماديا ظاهريا عليهم لأنّ الآية نزلت في وقت كان المسلمون يتمتعون فيه بقدر كاف من القوّة.

وتشير عبارة «ثقفتموهم» الواردة في الآية إلى احتياج المسلمين إلى الدقة

٣٧٧

والمهارة في التعرف على هذه الفئة المنافقة الخطيرة ، لما لها من قابلية عجيبة على التلون والخداع والانفلات من العقاب ، فعبارة «ثقفتموهم» مشتقة من المصدر «ثقافة» الذي يعني الحصول على شيء باستخدام الدقّة والمهارة ، بينما الفعل «وجد» يعني الحصول على الشيء بصورة مطلقة.

* * *

٣٧٨

الآية

( وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (٩٢) )

سبب النّزول

ذكروا أنّ مشركا من أهل مكّة وهو «الحارث بن زيد» كان يعذب أحد المسلمين ـ ولفترة طويلة ـ بالتعاون مع أبي جهل ، وكان اسم هذا المسلم «عياش بن أبي ربيعة» ولم يكن تعذيبه بسبب جرم اقترفه ، بل كان يعذب لمجرّد أنّه آمن بالإسلام ، وبعد هجرة المسلمين إلى المدينة هاجر «عياش» إليها ، فصادف يوما «الحارث بن زيد» في إحدى طرقات المدينة فقتله ظنّا منه أنّه ما زال عدوا للمسلمين ، ولم يكن على علم بأن الحارث كان قد تاب وأسلم ، فعلم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا الحادث ، فنزلت الآية الشّريفة وهي تبيّن حكم مثل هذا القتل الناتج عن الخطأ.

٣٧٩

التّفسير

أحكام القتل النّاتج عن الخطأ :

لقد أطلقت الآية السابقة أيدي المسلمين في المنافقين الذين كانوا يشكلون خطرا كبيرا على الإسلام ، وسمحت لهم حتى بقتل أمثال هؤلاء المنافقين ، ولكن تفاديا لاستغلال هذا الحكم استغلالا سيئا ، ولسد الطريق أمام الأغراض الشخصية التي قد تدفع صاحبها إلى قتل إنسان بتهمة أنّه منافق ، وأمام أي تساهل في سفك دماء الأبرياء ، بيّنت هذه الآية والتي تليها أحكام قتل الخطأ وقتل العمد ، لكي يكون المسلمون على غاية الدقّة والحذر في مسألة الدّماء التي تحظى باهتمام بالغ في الإسلام ، تقول الآية الكريمة :( وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً ) .

هذه الآية تقرر في الواقع حقيقة من الحقائق ، فالمؤمن لا يسمح لنفسه إطلاقا أن يسفك دما بريئا ، لأنّ المشاعر الإيمانية تجعل من الجماعة المؤمنة أعضاء جسد واحد ، وهل يقدم عضو في جسد على قطع عضو آخر إلّا خطأ! من هذه الحقيقة يتّضح أنّ مرتكب جريمة القتل متهم أوّلا في إيمانه.

وعبارة «إلّا خطأ» لا تعني السماح بارتكاب قتل الخطأ! لأنّ مثل هذا القتل لا يكون عن قرار مسبق ، ولا يكون مرتكبه حين الارتكاب على علم بخطئه أنّها ـ إذن ـ تقرير لحقيقة عدم ارتكاب المؤمن مثل هذه الجريمة إلّا عن خطأ.

ثمّ تبيّن الآية الكريمة غرامة قتل الخطأ ، وتقسمها إلى ثلاثة أنواع :

فالنّوع الأوّل : هو أن يحرر القاتل عبدا مسلما ، ويدفع الدية عن دم القتيل إلى أهله إذا كان القتيل ينتمي إلى عائلة مسلمة( وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ ) فإذا وهب أهل القتيل الدية وتصدقوا بها له فلبس على القاتل أن يدفع شيئا :( إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا ).

والنّوع الثّاني : من غرامة قتل الخطأ يكون في حالة ما إذا كان القتيل مسلما ،

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710