الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل8%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 710

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 710 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 179303 / تحميل: 6444
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

المجال ، فإنّه لم يكن ينبغي جني الأرباح من وراء ذلك ، وإنّما كان يؤدي واجبا إلهيا ،( إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِ ) (١) .

وتضيف الآية( فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها ) .

على أية حال ، فإنك لست مكلفا بإدخال الحق إلى قلوبهم بالإجبار ، وإنّما عليك إبلاغهم وإنذارهم فقط( وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ) .

هذه القاعدة بأنّ كلّ من اتبع طريق الحق عاد بالربح على نفسه ، ومن اتبع سبيل الضلال عاد بالخسارة على نفسه ، تكررت عدّة مرات في آيات القرآن الكريم ، كما أنّه تأكيد على حقيقة أنّ الله غير محتاج لإيمان عباده ولا يخاف من كفرهم ، وكذلك رسوله ، وإنّه لم يدفع عباده إلى عبادته كي يجني من وراء ذلك الأرباح ، وإنّما ليجود على عباده.

قوله تعالى :( وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ) ـ التي وردت فيها كلمة (وكيل) بمعنى الشخص المكلف بهداية الضالين وجعلهم يؤمنون بالله ـ وردت عدّة مرات في آيات القرآن ، وبنفس التعبير أو ما يشابهه ، والغرض من تكرارها هو بيان أنّ الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس مسئولا عن إيمان الناس ، لأنّ أساس الإيمان لا يأتي عن طريق الإجبار ، وإنّه مكلّف بإبلاغ الأمر الإلهي إلى الناس من دون أن يظهر أدنى تقصير أو عجز ، فإمّا أن يستجيبوا لدعوته وإمّا أن يرفضوها.

ثمّ لتوضح أنّ الحياة والموت وكلّ شؤون الإنسان هي بيد الله سبحانه وتعالى ، قالت الآية :( اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها ) (٢) .

وبهذا الشكل فإن (النوم) يعد شقيق (الموت) لكن بأحد أشكاله الضعيفة ، أي (أشكال الموت) ، لأن العلاقة بين الروح والجسد تصل إلى أدنى درجاتها أثناء

__________________

(١) «بالحق» : من الممكن أن تكون حالا لـ (كتاب) أو للفاعل في( أَنْزَلْنا ) ، مع أنّ المعنى الأوّل أنسب ، ولذا فإنّ مفهوم الآية يكون : (إنا أنزلنا عليك القرآن مترافقا بالحق).

(٢) كلمة (توفى) تعني قبض الشيء بالتمام ، كلمة (أنفس) تعني الأرواح. وكلمة (منام) لها معنى مصدري وتعني النوم.

١٠١

النوم ، وتقطع الكثير من العلاقات والوشائج بينهما.

وتضيف الآية( فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ) نعم( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) .

من هذه الآية يمكن استنتاج عدة أمور :

١ ـ إنّ الإنسان عبارة عن روح وجسد ، والروح هي جوهر غير مادي ، يرتبط بالجسد فيبعث فيه النور والحياة.

٢ ـ عند الموت يقطع الله العلاقة بين الروح ، والجسد ، ويذهب بالروح إلى عالم الأرواح ، وعند النوم يخرج البارئعزوجل الروح والجسد ، ولكن ليس بتلك الحالة التي تقطع فيها العلاقات بصورة كاملة. ووفقا لهذا فإنّ الروح لها ثلاث حالات بالنسبة للجسد ، وهي : ارتباط كامل (حالة الحياة واليقظة) وارتباط ناقص (حالة النوم) وقطع الارتباط بصورة كاملة (حالة الموت).

٣ ـ النوم هو أحد الصور الضعيفة (للموت) ، و (الموت) هو نموذج كامل (للنوم).

٤ ـ النوم هو أحد دلائل استقلال وأصالة الروح ، خاصة عند ما يرافق بالرؤيا الصادقة التي توضح المعنى أكثر.

٥ ـ إنّ العلاقة التي تربط بين الروح والجسد تضعف أثناء النوم ، وأحيانا تقطع تماما ممّا يؤدي إلى عدم يقظة النائم إلى الأبد ، أي موته.

٦ ـ إنّ الإنسان عند ما ينام في كلّ ليلة يشعر وكأنّه وصل إلى أعتاب الموت ، وهذا الشعور بحد ذاته درسا يمكن الاعتبار منه ، وهو كاف لإيقاظ الإنسان من غفلته.

٧ ـ كلّ هذه الأمور تجري بقدرة البارئعزوجل ، وإن كان قد ورد في بعض الآيات ما يشير إلى أنّ ملك الموت هو الذي يقبض الأرواح ، فهذا لا يعني سوى أنّه ينفّذ أوامر البارئعزوجل .

١٠٢

وعلى أية حال ، فإنّ المراد من قوله تعالى :( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) هو إثبات دلائل قدرة البارئعزوجل ، ومسألة الخلق ، والمعاد ، وضعف وعجز الإنسان مقابل إرادة اللهعزوجل .

وبعد ما أصبحت ـ حاكمية ـ (الله) على وجود الإنسان وتدبير أمره عن طريق نظام الحياة والموت والنوم واليقظة ، أمرا مسلما من خلال الآيات السابقة ، تناولت الآية اللاحقة خطأ اعتقاد المشركين فيما يخص مسألة الشفاعة ، كي تثبت لهم أنّ مالك الشفاعة هو مالك حياة وموت الإنسان ، وليس الأصنام الجامدة التي لا شعور لها( أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ ) (١) .

وكما هو معروف فإنّ إحدى الأعذار الواهية لعبدة الأوثان بشأن عبادتهم للأوثان ، هي ما ورد في مطلع هذه السورة( ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى ) (٢) ، إذ أنّهم كانوا يعدونها تماثيل وهياكل للملائكة للأرواح المقدسة ، ويزعمون أنّ هذه الأحجار والأخشاب الميتة لها قدرة هائلة.

ولكون الشفاعة تحصل من الشفيع الذي هو ، أوّلا : يشعر ويدرك ويفهم ، وثانيا : قدير ومالك وحكيم ، فإن تتمة الآية تجيبهم( قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ ) (٣) .

إذا كنتم تتخذون من الملائكة والأرواح المقدسة شفعاء لكم ، فإنّهم لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ، لأن كلّ ما عندهم هو من الله ، وإذا كنتم تتخذون من الأصنام المصنوعة من الخشب والحجارة شفعاء لكم ، فإنّهم علاوة على عدم امتلاكهم شيئا لأنفسهم ، فهم لا يمتلكون أدنى عقل أو شعور ، فاتركوا هذه الأعذار ، وعودوا إلى الذي يملك ويحكم كلّ هذا العالم ، وإلى من إليه تنتهي كلّ الأمور.

__________________

(١) «أم» : هنا منقطعة وتعني (بل) ولو كانت متصلة ، لكان يجب تقدير القسم الثّاني لها ، وهذا خلاف الظاهر.

(٢) الزمر ، ٣.

(٣) عبارة( أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً ) فيها محذوف ، والتقدير : (أيشفعون لكم ولو كانوا لا يملكون شيئا).

١٠٣

لذا فإنّ الله جلّ وعلا يضيف في الآية التالية( قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً ) لأنّه( لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) .

وبهذا الشكل لم يبق لديهم شيء ، لأنّ النظام المسيطر والحاكم على كلّ العالم يقول : لا شفاعة هناك ما لم يأذن البارئعزوجل بذلك( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) (١) .

أو كما يقول بعض المفسّرين : إنّ حقيقة الشفاعة ، هي التوسل بأسماء الله الحسنى ، التوسل برحمته وغفرانه وستره ، طبقا لهذا فإنّ كافة أشكال الشفاعة تعود في النهاية إلى ذاته المقدسة ، إذن كيف يمكن طلب الشفاعة من غيره وبدون إذنه(٢) .

وبشأن ارتباط عبارة( ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) بما قبلها ، أظهر المفسّرون عدّة آراء مختلفة منها :

١ ـ هذه العبارة إشارة إلى أنّ شفاعة البارئعزوجل لا تقتصر على هذه الدنيا ، وإنّما تتعداها إلى الشفاعة في الآخرة ، ولذا يجب عدم اللجوء إلى غير الله لحل المشاكل ورفع المصائب كما كان يفعل المشركون.

٢ ـ هذه العبارة هي دليل ثان على اختصاص الشفاعة بالله ، لأنّ الدليل الأوّل اعتمد على (مالكية) الله ، وهنا تمّ الاعتماد على (عودة جميع الأشياء إليه).

٣ ـ هذه الجملة هي بمثابة تهديد للمشركين ، إذ تقول لهم : إنّكم سترجعون إلى الله ، وستشاهدون نتيجة أفكاركم وأعمالكم السيئة والقبيحة.

كلّ هذه التفاسير مناسبة إلّا أنّ التّفسيرين الأوّل والثّاني أنسب.

* * *

__________________

(١) البقرة ، ٥٧.

(٢) الميزان ، المجلد ١٧ ، الصفحة ٢٨٦.

١٠٤

ملاحظتان

١ ـ عجائب عالم الرؤيا؟

ما هي حقيقة النوم؟ وما سبب ميل الإنسان إلى النوم؟

بهذا الشأن كتب العلماء أبحاثا كثيرة :

فالبعض منهم قال : إنّه يأتي نتيجة انتقال جزء كبير من الدم الموجود في المخ إلى بقية أجزاء الجسم ، ولذا فإنّ السبب هنا (فيزياوي).

والبعض الآخر يعتقد أنّ النشاط الإضافي للجسم يؤدي إلى تجمع مواد سامّة معينة في الجسم ، وهذه الحالة تؤثر على الأنظمة العصبية وتدفع الإنسان إلى النوم ، وتستمر هذه الحالة عند الإنسان حتى تتمّ تجزئة تلك السموم وامتصاصها من قبل الجسد ، وبهذا يكون السبب هنا (كيمياويا).

مجموعة اخرى تقول : إن سبب النوم إنّما يعود لأسباب عصبية لأنّ هناك جهازا عصبيا نشطا في داخل مخ الإنسان ، وهذا الجهاز هو مصدر الحركة المستمرة لبقية أعضاء الجسم ، وهو يتوقف عن العمل إثر التعب الشديد الذي يصيبه فيحصل النوم.

النظريات المذكورة أعلاه عجزت عن إعطاء جواب مقنع فيما يخص مسألة النوم ، رغم أنّنا لا يمكن أن ننكر تأثير هذه الأسباب ولو بمقدار ضئيل. نحن نعتقد أنّ التفكير المادي لعلماء اليوم هو السبب الرئيسي الذي يمكن وراء عجزهم عن إعطاء تفسير واضح لمسألة النوم ، إذا أنّهم يريدون تفسير هذه المسألة من دون قبول أصالة واستقلالية الروح ، فالنوم قبل أن يكون ظاهرة جسدية هو ظاهرة روحية ، ومن دون معرفة الروح بصورة صحيحة ، فإنّ تفسير النوم حالة متعذرة.

القرآن المجيد وضّح من خلال آياته المذكورة أعلاه أدقّ التفاسير لمسألة النوم ، إذ يقول : إن النوم هو نوع من أنواع (قبض الروح) وانفصال الروح من الجسد ، ولكن هذا الانفصال ليس انفصالا كاملا.

١٠٥

وبهذا الشكل فعند ما يخفت شعاع الروح في الجسد بأمر من الله ، ولا يبقى غير شعاع خافت اللون يشع في ذلك الجسد ، يتعطل جهاز الإدراك والشعور عن العمل ، ويتوقف الحسّ والحركة عند الإنسان ، عدا بعض الأجزاء التي تبقى تواصل نشاطها لحفظ واستمرار الحياة عند الإنسان ، كضربات القلب ودوران الدم ونشاطات الجهاز التنفسي والغذائي.

وقد ورد في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام : «ما من أحد ينام إلّا عرجت نفسه إلى السماء ، وبقيت روحه في بدنه ، وصار بينهما سبب كشعاع الشمس ، فإن أذن الله في قبض الأرواح أجابت الروح النفس ، وإن أذن الله في ردّ الروح أجابت النفس الروح ، فهو قوله سبحانه :( اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها ) (١) .

وثمّة مسألة مهمّة اخرى هي مسألة (الرؤيا) لأنّ الكثيرين يرون في عالم الرؤيا أحلاما حدثت وقائعها أو ستحدث فيما بعد في الواقع ، مع اختلافات جزئية أو بدون أيّ اختلاف.

التفاسير المادية عاجزة عن توضيح مثل هذه الرؤيا والأحلام ، في حين أن التفاسير الروحية تستطيع بسهولة توضيح هذا الأمر ، لأنّه عند ما تنفصل روح الإنسان عن جسده وترتبط بعالم الأرواح ، تدرك حقائق كثيرة لها علاقة بالماضي والمستقبل ، وهذه الحالة هي التي تشكل أساس الرؤيا الصادقة ، وللتوضيح أكثر يراجع التفسير الأمثل) في نهاية الآية (٤) من سورة يوسف ، إذ أنّ هناك شرحا مفصلا بهذا الخصوص.

٢ ـ النوم كما ورد في الروايات الإسلامية :

يتضح جيدا من خلال روايات المفسّرين التي وردت في نهاية الآيات

__________________

(١) مجمع البيان ذيل آية البحث وتفسير الصافي. كلمة (روح) في هذه الرواية تعني (الروح الحيوانية) وعمل أجهزة الجسم الرئيسية ، وكلمة (نفس) تعني روح الإنسان.

١٠٦

المذكورة أعلاه ، أنّ النوم يعني في الإسلام حركة الروح نحو عالم الأرواح ، فيما تعني اليقظة عودة الروح إلى الجسد لبدء حياة جديدة.

ونقرأ في حديث ورد عن أمير المؤمنينعليه‌السلام ضمن وصاياه لأصحابه :

«لا ينام المسلم وهو جنب ، لا ينام إلّا على طهور ، فإن لم يجد الماء فليتيمم بالصعيد ، فإنّ روح المؤمن ترفع إلى الله تعالى فيقبلها ، ويبارك عليها ، فإن كان أجلها قد حضر جعلها في كنوز رحمته ، وإن لم يكن أجله قد حضر بعث بها مع أمنائه من ملائكته ، فيردونها في جسده»(١) .

وورد حديث آخر عن الإمام الباقرعليه‌السلام جاء فيه : «إذا قمت بالليل من منامك فقل : الحمد لله الذي ردّ عليّ روحي لأحمده وأعبده»(٢) .

والأحاديث في هذه الشأن كثيرة.

* * *

__________________

(١) خصال الصدوق ، نقلا عن تفسير نور الثقلين ، المجلد ٤ ، الصفحة ٤٨٨.

(٢) أصول الكافي ، نقلا عن تفسير نور الثقلين ، المجلد ٤ ، الصفحة ٤٨٨.

١٠٧

الآيات

( وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥) قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤٨) )

التّفسير

الذين يخافون من اسم الله!

مرّة اخرى يدور الحديث عن التوحيد والشرك ، إذ عكست الآية الأولى إحدى الصور القبيحة والمشوهة للمشركين ولمنكري المعاد من خلال تعاملهم مع التوحيد ، قال تعالى :( وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ

١٠٨

وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) (١) .

فأحيانا يستحسن الإنسان القبائح ويستقبح الحسنات بحيث ينزعج إذا سمع اسم الحق ويستبشر إذا سمع اسم الباطل لا يسجد ولا يركع أمام عظمة الله جلّ وعلا خالق الكون ، إلّا أنّه يسجد ويركع تعظيما لأصنام صنعها من الحجارة والخشب أو لإنسان أو كائنات مثله.

ونظير هذا المعنى ورد في الآية (٤٦) من سورة الإسراء ، قال تعالى :( وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً ) .

وفي سورة نوح الآية (٧) عند ما شكى نبيّ الله نوحعليه‌السلام ممن يفكر بمثل هذا التفكير المنحرف إلى الله سبحانه وتعالى( وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً ) .

نعم ، هذا هو حال المتعصبين اللجوجين والجهلة المغرورين.

من هذه الآية يتضح بصورة جيدة أنّ مصدر شقاء هذه المجموعة أمران : الأوّل : إنكارهم لأساس التوحيد ، والثّاني : عدم إيمانهم بالآخرة.

وفي المقابل نرى المؤمنين لدى سماعهم اسم الله ينجذبون إليه بدرجة أنّهم على استعداد لبذل كلّ ما لديهم في سبيله ، فاسم حبيبهم يحلّي أفواههم ويعطّر أنفاسهم ويضيء قلوبهم ، كما أن سماع أي شيء يرتبط ويتعلق بالله يبعث السرور والبهجة في قلوبهم.

نعود إلى المشركين مرّة اخرى لنقول : إن الصفة القبيحة التي ذكرناها في بداية البحث بشأن المشركين ، لا تخصّ مشركي عصر الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنّما في عصر وزمان هناك منحرفون ذوو قلوب مظلمة يفرحون ويستبشرون فور سماعهم أسماء أعداء الله وأصحاب المذاهب الإلحادية ، وسماعهم نبأ انتصار الظلم والطغيان ، أمّا سماع أسماء الطيبين والطاهرين ومناهجهم وانتصاراتهم فإنّه

__________________

(١) «اشمأزت» : من مادة (اشمئزاز) وتعني الانقياض والنور عن الشيء ، (وحده) منصوب حال أو مفعول مطلق.

١٠٩

يسبب لهم آلاما مبرحة ، بعض الرّوايات فسّرت الآية على أنّها تعني أولئك الذين ينزعجون من سماع فضائل أهل بيت النبوّة الأطهارعليهم‌السلام أو من يتبع نهجهم(١) .

وعند ما يصل الأمر إلى درجة أنّ مجموعة من اللجوجين والجهلة المغرورين ينفرون ويشمئزون حتى من سماع اسم الله ، يوحي البارئعزوجل إلى نبيّه الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتركهم ويتوجه الى الباريعزوجل ويشتكي إليه من هؤلاء بلحن مليء بالعواطف الرفيعة والعشق الإلهي لكي يبعث على تسكين قلبه المليء بالغم من جهة ، وعلى تحريك العواطف الهامدة عند أولئك من جهة اخرى :( قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) (٢) .

نعم أنت الحاكم المطلق في يوم القيامة الذي تنتهي فيه الاختلافات وتظهر فيه كلّ الحقائق المخفية ، لأنك خالق كلّ شيء في الوجود وعالم بكل الأسرار فتنتهي الاختلافات بحكمك العادل ، وهناك يدرك المعاندون مدى خطئهم ، ويفكرون في إصلاح ما مضى ، ولكن ما الفائدة؟

الآية التالية تقول :( وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) ولكن هذا الأمر غير ممكن.

«الظلم» : هنا له معان واسعة تشمل الشرك أيضا وبقية المظالم.

ثم تضيف الآية( وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ) .

وسيرون العذاب بأعينهم ، العذاب الذي لم يكن يتوقعه أحد منهم ، لأنّهم كانوا مغرورين بلطف الله ، في حين كانوا في غفلة عن غضبه وقهره. وأحيانا كانوا يقومون بأعمال يتصورونها حسنة ، في حين أنّها كانت من الذنوب الكبيرة.

على أيّة حال ، تظهر لهم في ذلك اليوم أمور لم يكن يتصور أحد ظهورها.

__________________

(١) صول الكافي ، وروضة الكافي ، نقلا عن تفسير نور الثقلين ، المجلد ٤ ، الصفحة ٤٩٠.

(٢) «فاطر السموات» منصوب بعنوان منادى مضاف.

١١٠

ذلك الوعيد يأتي في مقابل الوعود الطيبة التي قطعت للمؤمنين ، قال تعالى :( فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ) (١) .

وقد نقل أنّ أحد المسلمين جزع عند الموت ، فقيل له : أتجزع ، فقال : أخذتني هذه الآية( وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ) (٢) .

الآية التالية توضيح أو تتمة لموضوع طرحته الآية السابقة ، إذ تقول :( وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) .

في الحقيقة هناك أربعة مواضيع تتعلق بالمشركين والظالمين طرحت في هذه الآيات :

أوّلا : إنّ هول ورهبة العذاب الإلهي في ذلك اليوم ستكون من الشدّة بحيث تجعلهم يتمنون لو أنّ لديهم في تلك الساعة ضعف الثروات والأموال التي كانوا يمتلكونها في عالم الدنيا ليفتدوا بها من سوء العذاب ، ولكن من المستحيل أن يحدث مثل هذا الأمر في يوم القيامة.

ثانيا : تظهر أمامهم أنواع من العذاب الإلهي الذي لم يكن أحد يتوقعه ولا يتصوره.

ثالثا : حضور أعمالهم السيئة أمامهم وتجسيدها لهم.

رابعا : مشاهدتهم حقيقة المعاد الذي لم يأخذوه مأخذ الجد ، ومن ثمّ انغلاق كلّ أبواب النجاة أمامهم.

الآية التي تقول :( بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا ) والتي وردت آنفا ، هي دليل آخر على مسألة تجسيد الأعمال.

* * *

__________________

(١) الم سجدة ، ١٧.

(٢) تفسير مجمع البيان وتفسير القرطبي ذيل آية البحث.

١١١

الآيات

( فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٩) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) )

التّفسير

في الشدائد يذكرون الله ، ولكن

الآيات هنا تتحدث مرّة اخرى عن المشركين والظالمين ، وتعكس صورة اخرى من صورهم القبيحة.

في البداية يقول( فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ) فذلك الإنسان الذي كان ـ وفق ما جاء الآيات السابقة ـ يشمئز من ذكر اسم الله. نعم ، هو نفسه يلجأ إلى ظلّ

١١٢

الله عند ما يصيبه الضرّ ويتعرض للشدائد. لكن هذا اللجوء مؤقت ، إذ ما إن يتفضّل عليه البارئعزوجل ويكشف عنه الضر والشدائد ، حتى يتبجح ناكرا لهذه النعم ، وزاعما بأنّه هو الذي أنقذ نفسه من ذلك الضر( ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ ) (١) .

نظير هذا الكلام نقله القرآن في الآية (٧٨) من سورة القصص عن لسان «قارون» عند ما نصحه علماء بني إسرائيل بأن ينفق ممّا منّ الله به عليه في سبيل الله ، إذ قال :( إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي ) .

إنّ أمثال هؤلاء الغافلين لا يتصورون أنّ العلوم والمعارفة التي يمتلكها الإنسان إنّما هي نعمة إلهية ، فهل أنّ هؤلاء اكتسبوا العلم الذي كان يدرّ عليهم الأموال الطائفة من ذاتهم؟ أم أنّه كان في ذاتهم منذ الأزل؟

بعض المفسّرين ذكروا احتمالا آخر لتفسير هذه العبارة ، وقالوا : إنّ النعم التي منّ بها البارئعزوجل علينا إنّما منّ بها علينا لعلمه بلياقتنا واستحقاقنا لها.

ومع أنّ هذا الاحتمال وارد بشأن الآية مورد بحثنا ، لكنّه غير وارد بشأن الآية الآنفة التي تحدثت عن قارون ، خاصة مع وجود كلمة (عندي) وهذه أحد القرائن لترجيح التّفسير الأوّل للآية التي هي مورد البحث.

ثم يجيب القرآن الكريم على أمثال هؤلاء المغرورين ، الذين ينسون أنفسهم وخالقهم بمجرّد زوال المحنة وتوفّر النعمة ، قائلا :( بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) .

فالهدف من ابتلائهم بالحوادث الشديدة والصعبة ، ومن ثمّ إغداق النعم الكبيرة عليهم هو اظهار خباياهم والكشف عن بواطنهم.

__________________

(١) «خول» : من مادة (تخويل) وتعني الإعطاء على نحو الهبة ، وقد شرحت بالتفصيل في ذيل الآية الثامنة من هذه السورة (الزمر) ، ضمير (أوتيته) رغم أنّه يعود على (نعمة) فقد جاء بصيغة المذكر ، لأنّ المقصود منه (شيء من النعمة) أو (قسم من النعمة).

١١٣

هل ييأس الإنسان عند المصيبة ويغترّ ويطغى عند النعمة؟

هل أنّه يزداد تفكيرا باللهعزوجل عند ما يحاط بهذه النعم ، أم أنّه يغرق في ملذات الدنيا؟

هل ينسى ذاته ، أو أنّه يلتفت إلى نقاط ضعفه ويعود إلى ذكر الله أكثر؟

ممّا يؤسف له أنّ أكثر الناس مبتلون بالنسيان ، وغير مطلعين على الحقائق التي تكررت مرات عديدة في آيات القرآن المجيد ، وهي أنّ العزيز الحكيم يجعل الإنسان أحيانا محاطا بالمشاكل والابتلاءات الشديدة ، وأحيانا يغدق عليه النعم ، وذلك ليمتحنه ويرفع من شأنه وليعرفه بأن كلّ شيء في هذه الحياة هو من الله سبحانه وتعالى.

ومن الطبيعي أنّ الشدائد تهيء الأرضيه لتفتتح الفطرة ، كما أنّ النعم مقدمة للمعرفة (وفي هذا الخصوص أوردنا بحثا آخر في تّفسيرنا الأمثل في نهاية الآية (٦٥) من سورة العنكبوت).

وممّا يدعوا إلى الانتباه تأكيد الآية على كلمة (إنسان) التي عرفته بأنّه كثير النسيان والغرور ، وهذه إشارة إلى الذين لم يتربوا وفق ما جاء في الشرائع والسنن الإلهية ، والذين لم يكن لهم أيّ مربّ ومرشد الذين أطلقوا لشهواتهم العنان واستسلموا لأهوائهم ، نعم فهؤلاء هم الذين يلجؤون إلى البارئعزوجل كلّما مسّهم الضرّ وكلمّا ابتلوا بالشدائد والمحن ، ولكن عند ما تهدأ أعاصير الحوادث ويشملهم لطف البارئ وعنايته ، ينسونه وكأنّهم لم يدعوه إلى ضرّ مسّهم. ولمزيد من الاطلاع راجع موضوع : الإنسان في القرآن الكريم. في نهاية الآية (١٢) من سورة يونس.

وتضيف الآية التالية( قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ ) (١) .

__________________

(١) ضمير (قد قالها) راجع إلى القول السابق باعتبار أنّه مقالة أو كلمة ، والمراد منها عبارة( إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ ) .

١١٤

نعم ، فقارون وأمثاله من المغرورين يتصورون أنّهم حصلوا على الأموال بسبب لياقتهم وغفلوا عن أنّ الله سبحانه وتعالى هو الذي منّ بهذه النعم عليهم وأنّه المصدر الأصل للنعم والواهب الحقيقي لها ، وأنّهم كانوا ينظرون فقط للأسباب الظاهرية ، لكن التاريخ بيّن أنّه عند ما خسف البارئعزوجل الأرض بأولئك لم يسرع أحد إلى مساعدتهم ، ولم تنفعهم أموالهم ، كما ورد في سورة القصص الآية (٨١)( فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ ) .

وليس قارون ـ وحده ـ ابتلي بهذا العذاب ، وإنّما أقوام عاد وثمود وسبأ وأمثالهم ابتلوا ـ أيضا ـ وكان لهم نفس المصير.

ثم يقول :( فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا ) .

فكل واحد منهم ابتلي بنوع من العذاب الإلهي وهلك ، كابتلائهم بالطوفان والسيل والزلزال والصيحة السماوية.

ويضيف : إنّ هذا المصير لا ينحصر بأولئك الأقوام وحسب بل إنّ مشركي مكّة سيبتلون في القريب العاجل بعواقب أعمالهم السيئة ، ولا يستطيع أحد منهم أن يفرّ من قبضة العذاب الإلهي الذي سينزل بهم جميعا( وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ ) .

وسينال هذا العذاب والابتلاء كلّ الطغاة والمغرورين والمشركين ، وفي كلّ العصور والقرون.

ومن جهة اخرى ورد احتمالان في هل أنّ المراد من عبارة( سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا ) هو العذاب الدنيوي أم العذاب الاخروي ، ولكن بقرينة( فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا ) فإنّ التّفسير الأوّل أنسب.

القرآن الكريم أجاب على ادعاءات الذين يزعمون أنّهم حصلوا على النعم الدنيوية بعلمهم وقدرتهم ، عند ما دعاهم إلى مراجعة تأريخ الأولين للاطلاع على أنواع الابتلاءات والعذاب الذي ابتلوا به بسبب مزاعمهم الباطلة ، وهذا هو ردّ

١١٥

تأريخي وواقعي.

ثمّ يرد القرآن الكريم عليهم بردّ عقلي ، إذ يقول :( أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ ) .

فالكثير من الأشخاص الكفوئين نراهم يعيشون حياة المستضعفين والبسطاء ، في حين نرى أنّ الكثير من الأشخاص غير الكفوئين يعيشون أثرياء ومتنعمين من كلّ النواحي ، فلو كان الظفر الماديّ كلّه يأتي عن طريق جهد وسعي الإنسان إضافة إلى كفاءته ، لما كنّا نرى مثل هذه المشاهد. إذن فمن هنا يستدل على وجود يد قوية اخرى خلف عالم الأسباب تدير الشؤون وفق منهج محسوب.

صحيح أنّه يجب على الإنسان أن يبذل الجهد والسعي في حياته ، وصحيح أنّ الجهاد والسعي هما مفتاح حلّ الكثير من المشاكل ، ولكن إغفال مسبب الأسباب والنظر إلى الأسباب فقط ، واعتبار الكفاءة هي المؤثر الوحيد يعد خطأ كبيرا.

فإحدى أسرار إحاطة الفقر والحرمان بمجموعة من العلماء المقتدرين ، وإحاطة الغنى بمجموعة من الجهلة غير الأكفاء هو تنبيه لكلّ الناس التائهين في عالم الأسباب بأن لا يعتمدوا فقط على قواهم الذاتية. لذا تضيف الآية( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) .

الآيات التي وضحها أمير المؤمنينعليه‌السلام عند ما قال : «عرفت الله بفسخ العزائم وحل العقود الهمم»(١) . وهي كلمة سامية تدلّ على ضعف وعجز الإنسان كي لا يتيه ولا يبتلى بالغرور والتكبر.

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ، قصار الكلمات ، الكلمة ٢٥٠.

١١٦

الآيات

( قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٥٥) )

إنّ الله يغفر الذنوب جميعاعليهم‌السلام

بعد التهديدات المتكررة التي وردت في الآيات السابقة بشأن المشركين والظالمين ، فإنّ آيات بحثنا فتحت الأبواب أمام المذنبين وأعطتهم الأمل ، لأنّ الهدف الرئيسي من كلّ هذه الأمور هو التربية والهداية وليس الانتقام والعنف ، فبلهجة مملوءة باللطف والمحبة يفتح البارئ أبواب رحمته أمام الجميع ويصدر أوامر العفو عنهم ، عند ما يقول :( قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ) .

التدقيق في عبارات هذه الآية يبيّن أنّها من أكثر آيات القرآن الكريم التي

١١٧

تعطي الأمل للمذنبين ، فشموليتها وسعتها وصلت إلى درجة قال بشأنها أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام : «ما في القرآن آية أوسع من يا عبادي الذين أسرفوا ...»(١) .

والدليل على ذلك واضح من وجوه :

١ ـ التعبير بـ( يا عِبادِيَ ) هي بداية لطف البارئعزوجل .

٢ ـ التعبير بـ (إسراف) بدلا من (الظلم والذنب والجريمة) هو لطف آخر.

٣ ـ التعبير بـ( عَلى أَنْفُسِهِمْ ) يبيّن أنّ ذنوب الإنسان تعود كلّها عليه ، وهذا التعبير هو علامة اخرى من علامات محبّة الله لعباده ، وهو يشبه خطاب الأب الحريص لولده ، عند ما يقول : لا تظلم نفسك أكثر من هذا!

٤ ـ التعبير بـ( لا تَقْنَطُوا ) مع الأخذ بنظر الاعتبار أن «القنوط» يعني ـ في الأصل ـ اليأس من الخير ، فإنّها لوحدها دليل على أن المذنبين يجب أن لا يقنطوا من اللطف الإلهي.

٥ ـ عبارة( مِنْ رَحْمَةِ اللهِ ) التي وردت بعد عبارة( لا تَقْنَطُوا ) تأكيد آخر على هذا الخير والمحبّة.

٦ ـ عند ما نصل إلى عبارة( إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ ) التي بدأت بتأكيد ، وكلمة «الذنوب» التي جمعت بالألف واللام تشمل كلّ الذنوب من دون أيّ استثناء ، فإنّ الكلام يصل إلى أوجه ، وعندها تتلاطم أمواج بحر الرحمة الالهية.

٧ ـ إنّ ورود كلمة (جميعا) كتأكيد آخر للتأكيد السابق يوصل الإنسان إلى أقصى درجات الأمل.

٨ و ٩ ـ وصف البارئعزوجل بالغفور والرحيم في آخر الآية ، وهما وصفان من أوصاف الله الباعثة على الأمل ، فلا يبقى عند الإنسان أدنى شعور باليأس أو فقدان الأمل.

__________________

(١) مجمع البيان وتفسير القرطبي وتفسير الصافي ذيل الآية مورد البحث.

١١٨

نعم ، لهذا السبب فإنّ الآية المذكورة أعلاه من أوسع وأشمل آيات القرآن المجيد ، حيث تعطي الأمل بغفران كلّ أنواع الذنوب ، ولهذا السبب فإنّها تبعث الأمل في النفوس أكثر من بقية الآيات القرآنية. وحقّا ، فإنّ الذي لا نهاية لبحر لطفه ، وشعاع فيضه غير محدود ، لا يتوقع منه أقل من ذلك.

وقد شغلت أذهان المفسّرين مسألتان ، رغم أن حلهما كامنة في هذه الآية والآية التي تليها :

الأولى : هل أنّ عمومية الآية تشمل كلّ الذنوب حتّى الشرك والذنوب الكبيرة الأخرى ، فإذا كان كذلك فلم تقول الآية (٤٨) من سورة النساء : إنّ الشرك من الذنوب التي لا تغتفر( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) .

والثّانية : هل أنّ الوعد الذي أعطاه الله بغفران الذنوب مطلق أم مشروط بالتوبة ونظير ذلك؟

وبالطبع فإنّ السؤال الأوّل مرتبط بالسؤال الثّاني ، والجواب عليهما سيتّضح خلال الآيات التالية بصورة جيدة ، لأنّ هناك ثلاثة أوامر وردت في الآيات التالية وضحت كلّ شيء( أَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ ) والثّانية( وَأَسْلِمُوا لَهُ ) والثّالثة( وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ) .

هذه الأوامر الثّلاثة تقول : إنّ أبواب المغفرة والرحمة مفتوحة للجميع من دون أي استثناء ، ولكن شريطة أن يعودوا إلى أنفسهم بعد ارتكاب الذنب ، ويتوجهوا في مسيرهم نحو البارئعزوجل ، ويستسلموا لأوامره ، ويظهروا صدق توبتهم وإنابتهم بالعمل ، وبهذا الشكل فلا الشرك مستثنى من المغفرة ولا غيره ، وكما قلنا فإنّ هذا العفو العام والرحمة الواسعة مشروطان بشروط لا يمكن تجاهلها.

وإذا كانت الآية (٤٨) من سورة النساء تستثني المشركين من هذا العفو

١١٩

والرحمة ، فإنّها تقصد المشركين الذين ماتوا على شركهم ، وليس أولئك الذين صحوا من غفلتهم واتبعوا سبيل الله ، لأنّ أكثر مسلمي صدر الإسلام كانوا كذلك ، أي أنّهم تركوا عبادة الأصنام والشرك بالله ، وآمنوا بالله الواحد القهار بعد دخولهم الدين الإسلامي.

إذا طالعنا الحالة النفسية عند الكثير من المجرمين بعد ارتكابهم للذنب الكبير ، نرى أن حالة من الألم والندم تصيبهم بحيث لا يتصورون بقاء طريق العودة مفتوحا أمامهم ، ويعتبرون أنفسهم ملوثين بشكل لا يمكن تطهيره ، ويتساءلون : هل من الممكن أن تغفر ذنوبنا؟ وهل أن الطريق إلى الله مفتوح أمامنا؟ وهل بقي خلفنا جسر غير مدمّر؟

إنّهم يدركون معنى الآية جيدا ، ومستعدون للتوبة ، ولكنّهم يتصورون استحالة غفران ذنوبهم ، خاصّة إذا كانوا قد تابوا مرات عديدة من قبل ثمّ عادوا إلى ارتكاب الذنب مرّة اخرى.

هذه الآية تعطي الأمل للجميع في أنّ طريق العودة والتوبة مفتوح أمامهم. لذا فإنّ (وحشي) المجرم المعروف في التأريخ الإسلامي والذي قتل حمزة سيد الشهداءعليه‌السلام ، كان خائفا من عدم قبول توبته ، لأنّ ذنبه كان عظيما ، مجموعة من المفسّرين قالوا : إن هذه الآية عند ما نزلت على الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتحت أبواب الرحمة الإلهية أمام وحشي التائب وأمثاله!

ولكن لا يمكن أن تكون هذه الحادثة سبب نزول هذه الآية ، ولأن هذه السورة من السور المكّية ، ولم تكن معركة أحد قد وقعت يوم نزول هذه الآيات ، ولم تكن أيضا قصة شهادة حمزة ولا توبة وحشي ، وإنّما هي من قبيل تطبيق قانون عام على أحد المصاديق ، وعلى أية حال فإنّ شمول معنى الآية يمكن أن يشخص هذا المعنى.

يتضح ممّا تقدم أنّ إصرار بعض المفسّرين كالآلوسي في تفسيره (روح

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

لها أبدا ، لن يكون عاجزا ـ مطلقا ـ عن رفع احتياجات خلقه وعباده.

ولكي تؤكّد الآية ضرورة التقوى في هذا المجال وفي أي مجال آخر ، تشير الآية إلى أنّ اليهود والنصارى وكل من كان له كتاب سماوي قبل المسلمين قد طلب منهم جميعا كما طلب منكم مراعاة التقوى( وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ ).

بعد ذلك تتوجه الآية إلى مخاطبة المسلمين ، فتؤكد لهم أن الالتزام بحكم التقوى سيجلب النفع لهم ، وأن ليس لله بتقواهم حاجة ، كما تؤكد أنّهم إذا عصوا وبغوا ، فإنّ ذلك لا يضرّ الله أبدا ، لأنّ الله هو مالك ما في السّموات وما في الأرض ، فهو غير محتاج إلى أحد أبدا ، ومن حقّه أن يشكره عباده دائما وأبدا ،( وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً ) .

الغنى وعدم الحاجة هما من صفات الله سبحانه وتعالى ـ حقيقة ـ لأنّهعزوجل غني بالذات ، وارتفاع حاجات غيره وزوالها إنّما يتمّ بعونه ومدده ، وكل المخلوقات محتاجة إليه احتياجا ذاتيا ، لذلك فهو يستحق ـ لذاته ـ أن يشكره عباده ومخلوقاته ، كما أنّ كمالاته التي تجعله أهلا للشكر ليست خارجة عن ذاته ، بل هي كلّها في ذاته ، وهو ليس كالمخلوقات التي تمتلك صفاتا كمالية عرضية خارجية مكتسبة من الغير.

وفي الآية التالية جرى التأكيد ـ وللمرة الثّالثة ـ على أنّ كل ما في السموات وما في الأرض هو ملك لله ، وإنّ الله هو الحافظ والمدبر والمدير لكل الموجودات( وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً ) .

وقد يرد سؤال ـ هنا ـ عن سبب تكرار موضوع واحد لثلاث مرات وفي فواصل متقاربة جدّا ، وهل أن هذا التكرار من أجل التأكيد على الأمر الوارد في هذا الموضوع ، أم هناك سرّ آخر؟

وبالإمعان في مضمون الآيات يظهر لنا أن الموضوع المتكرر ينطوي في كل

٤٨١

مرّة على أمر خاص : ففي المرّة الأولى حيث تحمل الآية وعدا لزوجين بأنّهما إذا انفصلا فإن الله سيغنيهما ولأجل إثبات قدرة الله على ذلك ، يذكر الله ملكيته لما في السموات وما في الأرض.

أمّا في المرّة الثّانية فإنّ الآية توصي بالتقوى ، ولكي لا يحصل وهم بأن إطاعة هذا الأمر ينطوي على نفع أو فائدة لله ، أو أن مخالفته ينطوي على الضرر له ، فقد تكررت الجملة للتأكيد على عدم حاجة الله لشيء ، وهو مالك ما في السموات وما في الأرض.

وهذا الكلام يشبه في الحقيقة ما قاله أمير المؤمنين عليعليه‌السلام في مستهل خطبة الهمّام الواردة في كتاب نهج البلاغة حيث قالعليه‌السلام : «بأنّ الله سبحانه وتعالى خلق الخلق حين خلقهم غنيّا عن طاعتهم آمنا عن معصيتهم لأنه لا تضرّه معصية من عصاه ولا تنفعه طاعة من أطاعه»(١) .

ويذكر الله ملكيته لما في السموات وما في الأرض للمرّة الثّالثة كمقدمة للموضوع الذي يلي في الآية (١٣٣) ، ثمّ يبيّن ـ عز من قائل ـ أنّه لا يأبه في أن يزيل قوما عن الوجود،ليأتي مكانهم بقوم آخرين أكثر استعدادا وعزما وأكثر دأبا في طاعة الله وعبادته، والله قادر على هذا الأمر( إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً ) .

وفي تفسير «التبيان» وتفسير «مجمع البيان» نقلا عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه حين نزلت هذه الآية ربت على كتف سلمان الفارسي وقال بأن المعنى بالآخرين في الآية هم قوم من العجم من بلاد فارس.

وهذا الكلام ـ في الحقيقة ـ تنبؤ بالخدمات الكبيرة التي قدمها المسلمون الإيرانيون إلى الإسلام.

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٩٣.

٤٨٢

والآية الأخيرة من الآيات الأربع الماضية ، ورد الحديث فيها عن أناس يزعمون أنّهم مسلمون ، ويشاركون في ميادين الجهاد ، ويطبقون أحكام الإسلام ، دون أن يكون لهم هدف إلهي ، بل يهدفون لنيل مكاسب مادية مثل غنائم الحرب فتنبه الآية إلى أنّ الذين يطلبون الأجر الدنيوي يتوهمون في طلبهم هذا ، لأنّ الله عنده ثواب الدنيا والآخرة معا( مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ) .

فلما ذا لا يطلب ـ ولا يرجوا ـ هؤلاء ، الثوابين معا؟! والله يعلم بنوايا الجميع،ويسمع كل صوت ، ويرى كل مشهد ، ويعرف أعمال المنافقين وأشباههم ،( وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً ) .

وتكرر هذه الآية الأخيرة حقيقة أنّ الإسلام لا ينظر فقط إلى الجوانب المعنوية والأخروية ، بل أن ينشد لأتباعه السعادتين المادية والمعنوية معا.

* * *

٤٨٣

الآية

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٣٥) )

التّفسير

العدالة الاجتماعية :

على غرار الأحكام التي وردت في الآيات السابقة حول تطبيق العدالة مع الأيتام والزوجات تذكر الآية الأخيرة ـ موضوع البحث ـ مبدأ أساسيا وقانونا كليا في مجال تطبيق العدالة في جميع الشؤون والموارد بدون استثناء ، وتأمر جميع المؤمنين بإقامة العدالة( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ ).

ويجب الانتباه إلى أنّ كلمة «قوامين» هي جمع لكلمة «قوّام» وهي صيغة مبالغة من «قائم» وتعني «كثير القيام» أي أن على المؤمنين أن يقوموا بالعدل في كل الأحوال والأعمال وفي كل العصور والدهور ، لكي يصبح العدل جزءا من طبعهم وأخلاقهم، ويصبح الانحراف عن العدل مخالفا ومناقضا لطبعهم وروحهم.

٤٨٤

والإتيان بكلمة «القيام» في هذا المكان ، يحتمل أن يكون بسبب أنّ الإنسان حين يريد القيام بأي عمل ، يجب عليه أن يقوم على رجليه بصورة عامّة ويتابع ذلك العمل،وعلى هذا الأساس فإن التعبير هنا بالقيام كناية عن العزم والإرادة الرّاسخة والإجراء لإنجاز العمل،حتى لو كان هذا العمل من باب حكم القاضي الذي لا يحتاج إلى القيام لدى ممارسة عمله.

ويمكن أن يكون التعبير بالقيام جاء لسبب آخر ، وهو أنّ كلمة «القائم» تطلق عادة على شيء يقف بصورة عمودية على الأرض دون أن يكون فيه انحراف إلى اليمين أو الشمال ، وعلى هذا فإن المعنى المراد منه في الآية يكون تأكيدا لضرورة تحقيق العدالة دون أقل انحراف إلى أي جهة كانت.

ولتأكيد الموضوع جاءت الآية بكلمة «الشهادة» فشددت على ضرورة التخلي عن كل الملاحظات والمجاملات أثناء أداء الشهادة ، وأن يكون هدف الشهادة بالحق هو كسب مرضاة الله فقط ، حتى لو أصبحت النتيجة في ضرر الشاهد أو أبيه أو أمه أو أقاربه( شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ).

وقد شاع هذا الأمر في كل المجتمعات ، وبالأخص المجتمعات الجاهلية ، حيث كانت الشهادة تقاس بمقدار الحبّ والكراهية ونوع القرابة بين الأشخاص والشاهد ، دون أن يكون للحق والعدل أثر فيما يفعلون.

وقد نقل عن ابن عباس حديث يفيد أنّ المسلمين الجدد كانوا بعد وصولهم إلى المدينة يتجنبون الإدلاء بالشهادة لاعتبارات القرابة والنسب ، إذا كانت الشهادة تؤدي إلى الإضرار بمصالح اقربائهم ، فنزلت الآية المذكورة محذرة لمثل هؤلاء(١) .

ولكن ـ وكما تشير الآية الكريمة ـ فإنّ هذا العمل لا يتناسب وروح الإيمان،

__________________

(١) تفسير المنار ، الجزء الخامس ، ص ٤٥٥.

٤٨٥

لأنّ المؤمن الحقيقي هو ذلك الشخص الذي لا يعير اهتماما للاعتبارات في مجال الحق والعدل ، ويتغاضى عن مصلحته ومصلحة أقاربه من أجل تطبيق الحق والعدل.

وتفيد هذه الآية أنّ للأقارب الحق في الإدلاء بالشهادة لصالح ـ أو ضد ـ بعضهما البعض ، شرط الحفاظ على مبدأ العدالة (إلّا إذا كانت القرائن تشير إلى وجود انحياز أو تعصب في الموضوع).

وتشير الآية بعد ذلك عوامل الانحراف عن مبدأ العدالة ، فتبيّن أنّ ثروة الأغنياء يجب أن لا تحول دون الإدلاء بالشهادة العادلة ، كما أنّ العواطف والمشاعر التي تتحرك لدى الإنسان من أجل الفقراء ، يجب أن تكون سببا في الامتناع عن الأدلاء بالشهادة العادلة حتى ولو كانت نتيجتها لغير صالح الفقراء ، لأنّ الله أعلم من غيره بحال هؤلاء الذين تكون نتيجة الشهادة العادلة ضدهم ، فلا يستطيع صاحب الجاه والسلطان أن يضرّ بشاهد عادل يتمتع بحماية الله ، ولا الفقير سيبيت جوعانا بسبب تحقيق العدالة ، تقول الآية في هذا المجال:( إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما ) .

وللتأكيد أكثر تحكم الآية بتجنّب اتّباع الهوى ، لكي لا يبقى مانع أمام سير العدالة وتحقيقها إذ تقول الآية :( فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا ) (١) .

ويتّضح من هذه الجملة ـ بجلاء ـ أن مصدر الظلم والجور كلّه ، هو اتّباع الهوى،فالمجتمع الذي لا تسوده الأهواء يكون بمأمن من الظلم والجور.

ولأهمية موضوع تحقيق العدالة ، يؤكّد القرآن هذا الحكم مرّة أخرى ، فيبيّن أنّ الله ناظر وعالم بأعمال العباد ـ فهو يشهد ويرى كل من يحاول منع صاحب

__________________

(١) يمكن أن تكون عبارة «تعدلوا» اشتقاقا إمّا من مادة «العدالة» أو من مادة «العدول» فإن كانت من مادة «العدالة» يكون معنى الجملة القرآنية هكذا : فلا تتبعوا الهوى لأن تعدلوا أي لكي تستطيعوا تحقيق العدل،وأما إذا كانت من مادة «العدول» يكون المعنى هكذا : فلا تتبعوا الهوى في أن تعدلوا أي لا تتبعوا الهوى في سبيل الانحراف عن الحق.

٤٨٦

الحق عن حقّه ، أو تحريف الحق ، أو الاعراض عن الحق بعد وضوحه ، فتقول الآية :( وَإِنْ تَلْوُوا (١) أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً ) .

وجملة( إِنْ تَلْوُوا ) تشير ـ في الواقع ـ إلى تحريف الحق وتغييره ، بينما تشير جملة «تعرضوا» إلى الامتناع عن الحكم بالحق ، وهذا هو ذات الشيء المنقول عن الإمام الباقرعليه‌السلام (٢) .

والطريف أن الآية اختتمت بكلمة( خَبِيراً ) ولم تختتم بكلمة «عليما» لأنّ كلمة «خبير» تطلق بحسب العادة على من يكون مطلعا على جزئيات ودقائق موضوع معين،وفي هذا دلالة على أن الله يعلم حتى أدنى انحراف يقوم به الإنسان عن مسير الحق والعدل بأي عذر أو وسيلة كان ، وهو يعلم كل موطن يتعمد فيه إظهار الباطل حقا،ويجازي على هذا العمل.

وتثبت الآية اهتمام الإسلام المفرط بقضية العدالة الاجتماعية ، وإن مواطن التأكيد المتكررة في هذه الآية تبيّن مدى هذا الاهتمام الذي يوليه الإسلام لمثل هذه القضية الإنسانية الاجتماعية الحساسة ، وممّا يؤسف له كثيرا أن نرى الفارق الكبير بين عمل المسلمين وهذا الحكم الإسلامي السامي ، وإن هذا هو سرّ تخلف المسلمين.

* * *

__________________

(١) إن عبارة «تلووا» مشتقة من المصدر «لي» على وزن «طي» وتعني المنع والإعاقة وقد وردت في الأصل بمعنى اللي والبرم.

(٢) تفسير التبيان ، الجزء الخامس ، ص ٣٥٦.

٤٨٧

الآية

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١٣٦) )

سبب النّزول

نقل عن ابن عباس أنّ هذه الآية نزلت في شأن جمع من كبار شخصيات أهل الكتاب ـ مثل عبد الله بن سلام وأسد بن كعب وأخيه أسيد بن كعب ونفر آخر من هؤلاء ـ والسبب هو أنّهم قدموا منذ البداية على الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا له : إنّهم قد آمنوا به وبكتابه السماوي وبموسى والتوراة والعزيز ، ولم يؤمنوا ببقية الأنبياء ، فنزلت هذه الآية وأعلمتهم ضرورة الإيمان بجميع الأنبياء والكتب السماوية(١) .

التّفسير

يتبيّن من سبب النّزول أنّ الكلام في الآية موجه إلى جمع من مؤمني أهل

__________________

(١) تفسير مجمع البيان والمنار.

٤٨٨

الكتاب الذين قبلوا الإسلام ، ولكنهم لعصبيات خاصّة أبوا أن يؤمنوا بما جاء قبل الإسلام من أنبياء وكتب سماوية غير الدين الذي كانوا عليه ، فجاءت الآية توصيهم بضرورة الإيمان والإقرار والاعتراف بجميع الأنبياء والمرسلين والكتب السماوية ، لأنّ هؤلاء جميعا يسيرون نحو هدف واحد ، وهم مبعوثون من مبدأ واحد (علما بأن لكل واحد منهم مرتبة خاصّة به،فكل واحد منهم جاء ليكمل ما أتى به النّبي أو الرّسول الذي سبقه من شريعة ودين).

ولذلك فلا معنى لقبول البعض وإنكار البعض الآخر من هؤلاء الأنبياء والرسل،فالحقيقة الواحدة لا يمكن التفريق بين أجزائها ، وأنّ العصبيات ليس بإمكانها الوقوف أمام الحقائق ، لذلك تقول الآية الكريمة :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ ).

وبعض النظر عن سبب النّزول المذكور ، فإنّنا لدى تفسيرنا لهذه الآية نحتمل أن يكون الخطاب موجها فيها لعامّة المؤمنين ، أولئك الذين اعتنقوا الإسلام إلّا أنّه لم يتغلغل بعد في أعماق قلوبهم ، ولهذا السبب يطلب منهم أن يكونوا مؤمنين من أعماقهم.

كما يوجد احتمال آخر ، وهو أنّ الكلام في هذه الآية موجه لجميع المؤمنين الذين آمنوا بصورة إجمالية بالله والأنبياء ، إلّا أنّهم ما زالوا لم يتعرفوا على جزئيات وتفاصيل العقائد الإسلامية.

ومن هذا المنطلق يبيّن القرآن أنّ المؤمنين الحقيقيين يجب أن يعتقدوا بجميع الأنبياء والكتب السماوية السابقة وملائكة الله ، لأن عدم الإيمان بالمذكورين يعطي مفهوم إنكار حكمة الله ، فهل يمكن أن يترك الله الحكيم الملل السابقة بدون قائد أو زعيم يرشدهم في حياتهم؟! وهل أنّ الملائكة المعنيين بالآية هم ملائكة الوحي ـ فقط ـ الذين يعد

٤٨٩

الإيمان بهم جزءا لا يتجزأ من الإيمان الضروري بالأنبياء والكتب السماوية ، أو أنّهم جميع الملائكة؟ فكما أن بعض الملائكة مكلّفون بأمر الوحي والتشريع ، يلتزم جمع آخر منهم بتدبير وإرادة عالم الكون والخليقة ؛ وإن الإيمان بهم في الحقيقة جزء من الإيمان بالله سبحانه وتعالى وقد بيّنت الآية ـ في آخرها ـ مصير الذين يجهلون هذه الحقائق ، حيث قالت :( وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً ) .

وفي هذه الآية اعتبر الإيمان واجبا وضروريا بخمسة مبادئ ، فبالإضافة إلى ضرورة الإيمان بالمبدأ والمعاد ، فإن الإيمان لازم وضروري بالنسبة إلى الكتب السماوية والأنبياء والملائكة.

إنّ عبارة «ضلال بعيد» عبارة دقيقة ، وتعني أنّ الذين لا يؤمنون بالمبادئ الخمسة المارة الذكر ، قد انجرفوا خارج الصراط أو الطريق المبدئي ، وأن عودتهم إلى هذا الطريق لا تتحقق بسهولة.

* * *

٤٩٠

الآيات

( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (١٣٧) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٣٨) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (١٣٩) )

التّفسير

مصير المنافقين المعاندين :

تماشيا مع البحث الذي ورد في الآية السابقة والذي تناول وضع الكفار وضلالهم البعيد ، تشير هذه الآيات الأخيرة إلى وضع مجموعة من الكفار الذين يتلوّنون في كل يوم تلون الحرباء ، فهم في يوم إلى جانب المؤمنين ، وفي يوم آخر إلى جانب الكفار ، ثمّ إلى جانب المؤمنين ، وفي النهاية إلى جانب الكفار المعاندين ، حتى يموتوا على هذه الحالة! فالآية الأولى من الآيات الثلاثة الأخيرة تتحدث عن مصير أفراد كهؤلاء ، فتؤكد بأنّ الله لن يغفر لهم أبدا ، ولن يرشدهم إلى طريق الصواب :( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً ) .

٤٩١

إنّ هذا السلوك الحربائي في التلون المتوالي ، إمّا أن يكون نابعا من الجهل وعدم إدراك الأسس الإسلامية ، وإمّا أن يكون خطّة نفّذها المنافقون والكفار المتطرفون من أهل الكتاب لزعزعة إيمان المسلمين الحقيقيين ، وقد سبق شرح هذا الموضوع في الآية (٧٢) من سورة آل عمران.

ولا تدل الآية ـ موضوع البحث ـ على عدم قبول توبة أمثال هؤلاء ، ولكنها تتناول أفرادا يموتون وهم في كفر شديد ، فإنّ هؤلاء ـ نتيجة لأعمالهم ـ لا يستحقون العفو والهداية إلّا إذا غيروا اسلوبهم ذلك.

ثمّ تؤكّد الآية التالية نوع العذاب الذي يستحقه هؤلاء فتقول :( بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً ) .

واستخدام عبارة (بشر) في الآية إنّما جاء من باب التهكم والاستهزاء بالأفكار الخاوية الواهية التي يحملها هؤلاء المنافقون ، أو أنّ العبارة مشتقة من المصدر «بشر» بمعنى الوجه ، وفي هذه الحالة تحتمل معاني واسعة فتشمل كل خبر يؤثر في سحنة الإنسان ، سواء كان الخبر مفرحا أو محزنا.

وقد أشارت الآية الأخيرة إلى المنافقين بأنّهم يتخذون الكفار أصدقاء وأحباء لهم بدلا من المؤمنين ، بقولها :( الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ) .

ثمّ يأتي التساؤل في الآية عن هدف هؤلاء المنافقين من صحبة الكافرين ، وهل أنّهم يريدون حقّا أن يكتسبوا الشرف والفخر عبر هذه الصحبة؟ تقول الآية :( أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ ) بينما العزة والشرف كلها لله( فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً ) لأنّها تنبع من العلم والقدرة،وأن الكفار لا يمتلكون من القوّة والعلم شيئا ، ولذلك فإنّ علمهم لا شيء أيضا،ولا يستطيعون إنجاز شيء لكي يصبحوا مصدرا للعزّة والشرف.

إنّ هذه الآية ـ في الحقيقة ـ تحذير للمسلمين بأن لا يلتمسوا الفخر والعزّة

٤٩٢

في شؤونهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية عن طريق إنشاء علاقات الود والصداقة مع أعداء الإسلام ، بل إنّ عليهم أن يعتمدوا في ذلك على الذات الإلهية الطاهرة التي هي مصدر للعزة والشرف كله ، وأعداء الإسلام لا عزّة لديهم لكي يهبوها لأحد، وحتى لو امتلكوها لما أمكن الركون إليهم والاعتماد عليهم ، لأنّهم متى ما اقتضت مصالحهم الشخصية تخلوا عن أقرب حلفائهم وركضوا وراء مصالحهم ، وكأنّهم لم يكونوا ليعرفوا هؤلاء الحلفاء مسبقا ، والتاريخ المعاصر خير دليل على هذا السلوك النفعي الانتهازي.

* * *

٤٩٣

الآية

( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (١٤٠) )

سبب النّزول

نقل عن ابن عباس أنّ نفرا من المنافقين كانوا يحضرون اجتماعات لعلماء اليهود ، حيث كانوا يستهزئون بآيات القرآن في تلك الاجتماعات ، فنزلت هذه الآية وأوضحت النهاية المشؤومة لهذه اللقاءات.

التّفسير

النّهي عن المشاركة في مجالس يعصى الله فيها :

لقد ورد في الآية (٦٨) من سورة الانعام أمر صريح إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أن يعرض عن أناس يستهزئون بآيات القرآن ويتكلمون بما لا يليق ، وطبيعي أنّ هذا الحكم لا ينحصر بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحده بل يعتبر حكما وأمرا عاما يجب على جميع المسلمين اتّباعه ، وقد جاء هذا الحكم على شكل خطاب موجه إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،

٤٩٤

وفلسفته جلية واضحة ، لأنّه يكون بمثابة كفاح سلبي ضد مثل تلك الأعمال.

والآية هذه تكرر الحكم المذكور مرّة أخرى ، وتحذر المسلمين مذكرة إياهم بحكم سابق في القرآن نهى فيه المسلمون عن المشاركة في مجالس يستهزأ فيها ويكفر بالقرآن الكريم ، حتى يكفّ أهل هذه المجالس عن الاستهزاء ويدخلوا في حديث آخر ، تقول الآية :( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ) .

بعد ذلك تبيّن الآية لنا نتيجة هذا العمل ، وتؤكد أن من يشارك في مجالس الاستهزاء بالقرآن فهو مثل بقية المشاركين وسيكون مصيره نفس مصير أولئك المستهزئين ، تقول الآية:( إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ ) .

ثمّ تكرر الآية التأكيد على أنّ المشاركة في المجالس المذكورة تدل على الروحية النفاقية التي يحملها المشاركون ، وإن الله يجمع المنافقين والكافرين في جهنم حيث العذاب الأليم،تقول الآية :( إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً ) .

إنّ الآية تخبرنا عن عدة أمور :

١ ـ إنّ المشاركة في مجالس المعصية تكون بمثابة المشاركة في ارتكاب المعصية ، حتى لو بقي المشارك ساكتا أو ساكنا ولم يشارك في الاستهزاء بنفسه ، لأنّ السكوت في مثل هذه الأحوال دليلا على رضا صاحبه بالذنب المرتكب.

٢ ـ لو تعذر النهي عن المنكر بالشكل الإيجابي له ، فلا بدّ أن يتحقق النهي ولو بالصورة السلبية ، مثل أن يبتعد الإنسان عن مجالس المعصية ويتجنب الحضور فيها.

٣ ـ إنّ الذين يشجعون أهل المعاصي بسكوتهم وحضورهم في مجالس المعصية ، إنّما يجازون ويعاقبون بمثل عقاب العاصين أنفسهم.

٤٩٥

٤ ـ لا ضير من مجالسة الكفار إن لم يدخلوا في حديث فيه استهزاء وكفر بالآيات الإلهية ولم تكن هذه المجالسة تحمل خطرا آخر ، ويدل على إباحة المشاركة في مجالس الكفار التي لا يعصون فيها الله قوله تعالى في الآية :( حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ) .

٥ ـ إنّ المجاملة والمداهنة مع العاصين المذنبين ، إنّما تدل على وجود روح النفاق لدى الشخص المجامل ، وذلك لأن المسلم الحقيقي الواقعي لا يمكنه أن يشارك في مجلس يعصى فيه الله ويستهزأ بآياته الكريمة وأحكامه السامية ، دون أن يبدي اعتراضا على هذه المعاصي،أو ـ على الأقل ـ أن عدم رضاه عليها بترك هذا المجلس.

* * *

٤٩٦

الآية

( الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (١٤١) )

التّفسير

صفات المنافقين :

تبيّن هذه الآية ـ وآيات أخرى تالية ـ قسما آخر من صفات المنافقين وأفكارهم المضطربة ، فتؤكد أنّ المنافقين يسعون دائما لاستغلال أي حدث لصالحهم ، فلو انتصر المسلمون حاول المنافقون أن يحشروا أنفسهم بين صفوف المؤمنين ، زاعمين بأنّهم شاركوا المؤمنين في تحقيق النصر وأدعوا بأنّهم قدموا دعما مؤثرا للمؤمنين في هذا المجال ، مطالبين بعد ذلك بمشاركة المؤمنين في الثمار المعنوية والمادية للنصر حيث تقول الآية في حقهم :( الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ ).

وهؤلاء المنافقون ينقلبون على أعقابهم حين يكون النصر الظاهري من نصيب أعداء الإسلام فيتقربون إلى هؤلاء الأعداء ، ويعلنون لهم الرضى والموافقة

٤٩٧

بقولهم أنّهم هم الذين شجعوهم على قتال المسلمين وعدم الاستسلام لهم ، ويدعون بأنّهم شركاء في النصر الذي حققه أعداء الإسلام تقول الآية :( وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. ) .(١)

وعلى هذا المنوال تحاول هذه الفئة المنافقة أن تستغل الفرصة لدى انتصار المسلمين ليكون لهم نصيب من هذا النصر وسهم من الغنائم ، ولإظهار المنّة على المسلمين ، وفي حالة انكسار المسلمين تظهر هذه الفئة الرضى والفرح لدى الكفار ، وتدفعهم إلى الإصرار على كفرهم وتتجسس لصالحهم ، وتهيئ لهم أسباب الفوز المادي ، فهم تارة رفاق الطريق مع الكفار ، وتارة شركاؤهم في الجريمة ، وهكذا يمضون حياتهم بالتلون والنفاق واللعب على الحبال المختلفة.

ولكن القرآن الكريم يوضح بعبارة واحدة مصير هؤلاء ونهايتهم السوداء ، ويبيّن أنّهم ـ لا محالة ـ سيلاقون ذلك اليوم الذي تكشف فيه الحجب عن جرائمهم ويرفع النقاب عن وجوههم الكريهة ، وعند ذلك ـ أي في ذلك اليوم ، وهو يوم القيامة ـ سيحكم الله بينهم وهو أحكم الحاكمين ، فتقول الآية في هذا المجال :( فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) .

ولكي يطمئن القرآن المؤمنين الحقيقيين من خطر هؤلاء ، تؤكد هذه الآية ـ في آخرها ـ بأنّ الله لن يجعل للكافرين مجالا للانتصار أو التسلط على المسلمين ، وذلك حيث تقول الآية :( وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) .

وهنا يرد هذا السؤال ، وهو : هل أنّ العبارة الأخيرة تفيد عدم انتصار الكفار على المؤمنين من حيث المنطق ، أو أنّها تشمل عدم انتصار الكفار من الناحية العسكرية أيضا؟

ولما كانت كلمة «سبيل» نكرة جاءت في سياق النفي وتؤدي معنى عاما ،

__________________

(١) إن عبارة «استحوذ» مشتقة من «حوذ» وهي تعني هنا دفع أو ساق إلى القيام بأمر معين.

٤٩٨

لذلك يفهم من الآية أن الكافرين بالإضافة إلى عدم انتصارهم من حيث المنطق على المؤمنين، فهم لن ينتصروا ولن يتسلطوا على المؤمنين في أي من النواحي العسكرية والسياسية والثقافية والاقتصادية ، بل ولا في أي مجال آخر.

وما نشاهده من انتصار للكافرين على المسلمين في الميادين المختلفة ، إنّما هو بسبب أنّ المسلمين المغلوبين لم يكونوا ليمثلوا ـ في الحقيقة ـ المسلمين ، المؤمنين الحقيقيين ، بل هم مسلمون نسوا آدابهم وتقاليدهم الإيمانية ، وتخلوا عن مسئولياتهم وتكاليفهم وواجباتهم الدينية بصورة تامّة ، فلا كلام عن الاتحاد والتضامن والأخوة الإسلامية بينهم ، ولا هم يقومون بواجب الجهاد بمعناه الحقيقي ، كما لم يبادروا إلى اكتساب العلم الذي أوجبه الإسلام وجعله فريضة على كل مسلم ومسلمة ودعا إلى تحصيله وطلبه من يوم الولادة حتى ساعة الوفاة،حيث قال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أطلب العلم من المهد إلى اللّحد».

ولما أصبحوا هكذا فقد استحقوا أن يكونوا مغلوبين للكفار.

وقد استدل جمع من الفقهاء بهذه الآية على أنّ الكفار لا يمكن أن يتسلطوا على المسلمين المؤمنين من الناحية الحقوقية والحكمية ، ونظرا للعمومية الملحوظة في الآية ، لا يستبعد أن تشمل الآية هذا الأمر أيضا.

وممّا يلفت النظر في هذه الآية هو التعبير عن انتصار المؤمنين بكلمة «الفتح» بينما عبّرت الآية عن انتصار الكفار بكلمة «النصيب» وهو إشارة إلى أن انتصار الكفار إنّما هو نصيب محدود وزائل ، وأنّ الفتح والنصر النهائي هو للمؤمنين.

* * *

٤٩٩

الآيتان

( إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٤٢) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (١٤٣) )

التّفسير

لقد وردت في هذه الآية خمس صفات للمنافقين ، في عبارة قصيرة ، وهي : ـ

١ ـ إنّ هؤلاء ـ لأجل تحقيق أهدافهم الدنيئة ـ يتوسلون بالخدعة والحيلة ، حتى أنّهم يريدون على حسب ظنهم أن يخدعوا الله تعالى أيضا ، ولكنهم يقعون في نفس الوقت ومن حيث لا يشعرون في حبال خدعتهم ومكرهم ، إذ هم ـ لأجل اكتساب ثروات مادية تافهة ـ يخسرون الثروات الكبيرة الكامنة في وجودهم ، تقول الآية في هذا المجال :( إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ ) .

ويستفاد التّفسير المذكور أعلاه بالواو الحالية الواردة مع عبارة :( وَهُوَ خادِعُهُمْ ) .

هناك قصّة مشهورة مفادها أن أحد الأكابر كان ينصح أهل الحرف من

٥٠٠

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710