الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل8%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 710

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 710 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 179141 / تحميل: 6437
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

ففي الفصيح البحرالطويل هو: (فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن ) قال عبد القاهر الجرجاني في (بيان العروض) ٢٧ تحقيق قيس العطار.

أتاك الطويل الغضّ يختال في الحلى

ويبقى بقاء الدهر إن مات قائله

قريض كحد السيف صغنا عروضه

فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن

وفي الشعر الشعبي ينظم على: (مفاعيلن مفاعلين مفاعيلن مفاعيلن ) وهو من الأوزان المبتكرة منبرياً أما الأطوار التي يُقرأ بها فهي كثيرة يعرفها ذوو الاختصاص(١) .

وأخيرا أذكر مثالا واحداً من وزن البحر الطويل:

يا سلّاب تاج احسين گلي وين لباسه

گلهاالتاج شلّچ بيه شوفي اعله الرمح راسه

راس احسين يمشي اوياچ للكوفة تشوفينه

او جسمه ابكربله عريان يا زينب تعوفينه

اشعندچ من بصيره او راي خلّي عينچ ابعينه

چتّاله الذي ايباريچ سالب درعه او طاسه

وقد ذكر الشاعر جابر الكاظمي ان البحر الطويل انتشر في أوائل هذا القرن حتى أصبح من الأوزان الأكثر شيوعا عن سواها. (موسوعة الدموع

____________________

(١) - وللاطلاع راجع أشرطة تعليم الأطوار بصوت المؤلف.

٢١

الناطقة حلقة ١٠ ص٦٨).

بحر القصير:

هذا الوزن من بحر الهَزَج وهو مجزوؤه لان عروض بحر الهزج (مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن ) صدرا وعجزا مثله. يقول شارح كتاب بيان العروض: ولم يستعمل على أصل الدائرة إلا نادرا واستعماله مجزوءً وعليه فان عروض القصير يكون: (مفاعيلن مفاعيلن ) مثاله:

لون يلمصطفى تحضر

تعاين شبلك اموذر

سليب او بالثره اتعفّر

عگب ما وذّروا جسمه

والقصير ينظم تارة مستقلا عن البحر الطويل وأخرى ملحقا به كما هو الحال في المسوبع (السباعي) الذي يتكون من أربعة أشطر بحر طويل وثلاثة بحر قصير مثاله:

لكن من سمع علتل زينب نادته يحسين

گام او طاح علغبره واكيد الطيّحنّه اثنين

جرح گصته او جرح صدره من سهم النفذ صوبين

ذني اثنينهن كلفات

السهم بيه شعب مختلفات

لو ما ينذبح چا مات

من ذني الاثنين الچان منهن تنزف ادمومه

فانك ترى ان الأشطر الثلاثة الأولى والشطر الأخير هي من البحر الطويل والرابع والخامس والسادس من القصير.

٢٢

ويطلق الشعراء الشعبيون على القصير اسم (مقاصير بحر الطويل) او يكتفون بكلمة (مقاصير).

ويرى الشاعر جابر الكاظمي: ان اسم بحر القصير يراد به ما يقابل بحر الطويل. (الحلقة ١٠ ص٦٦) ويمتاز النظم بهذا الوزن بالرقة والوضوح وتصوير واقعة الطف بأكمل وجه، ولولا الإطالة لأتيت بالشواهد على ذلك ولكني أحيل القارئ إلى قراءة القصائد والمقاطع المبثوثة في مجمع مصائب أهل البيتعليهم‌السلام (١) ودواوين الشعر.

أما الأطوار التي يقرأ بها فهي كثيرة وخلال تجربتي المنبرية طبقت عليه جميع أطوار النصاري وبعض أطوار بحرالطويل.

التجليبة:

التجليبة اسم، يطلق على فن من فنون الأدب الشعبي وهو من بحر الهوج: (مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن ) كاملا من غير إنقاص من التفعيلة، كما هو الحال في بحر القصير حيث ينقص منه (مفاعيلن) الثالث.

وسبب تسميته بالتجليبة نسبة إلى القصيدة المشهورة ومطلعها:

لجلبنك يليلي بألف تجليبه

تنام اهل الهوه وتگول مدري به

هذا مطلع تلك القصيدة التي لا يعرف من هو قائلها وقد نظم على غرارها عدة من كبار الشعراء منهم الحاج زاير الدويچ والملا منفي العبد العباس وغيرهما. (فنون الأدب الشعبي الحلقة ١).

____________________

(١) - وللمؤلف بعض المقاطع.

٢٣

ويرى الخاقاني: ان التجليبة هو الغناء المحبب لدى العرب الشماليين في العراق وقد انتشر في أرياف الجنوب.

ويستخدمه المنبريون الخطباء والمنشدون - الرواديد - حيث يقرأونه بمختلف الأطوار لاسيما العراقي الذي سمي به الشعر من وزن التجليبة فيقال عراقي وأذكّر بانني كتبت في الطبعات السابقة لكتاب مجمع مصائب أهل البيتعليهم‌السلام عراقي أمام كل قطعة من بحر التجليبة وفي هذه الطبعة رأيت أن أكتب كلمة التجليبة لانها تشير إلى الوزن بينما كلمة العراقي - فكما ذكرت - إنما تشير إلى الطور الشائع للتجليبة ولمعرفة هذا الطور وخصائصه راجع أشرطة الأطوار للمؤلف.

وأخيراً أذكر هنا هذا النموذج من شعر التجليبة الحسيني.

عجيب الشرب ماي ابشربته اتهنّه

او مات احسين ظامي اولا شرب منه

ليس ابني نزل كربله المعروفه

او دون الماي توگف ليش اهل كوفه

أبو فاضل عليمن طارن اچفوفه

يشوف اطفال ولهه امن العطش ونه

هذا مطلع من بيت من قصيدة للمرحوم عبد الأمير الفتلاوي راجع سلوة الذاكرين.

حّدي:

الحدي من الأوزان المعروفة في الشعر الشعبي وهو مجزوء الرجز.

والرجز التام: (مستفعلن مستفعلن مستفعلن ) أما الحدي فيكون (مستفعلن مستفعلن ) فقط.

والحدي ينظم رباعيا مثال:

٢٤

لمن حده الحادي بودايع الهادي

لن زينب اتنادي ابهونك يحادينه

لاوين بينه اتريد گاطع افجوج البيد

خاف الطريج ابعيد والتعب ياذينه

وينظم على شكل مقطوعات تكون القافية فيه موحدة في العجز مثال:

من هجمت اخيول العده

او لحدود المخيم دنت

طلعت من الخيمه اتعدي

زينب على التل اوچبت

او شبچت العشره من الخطر

والصوب اخوها اتوجهت

صاحت يبو الغيره عدل

يو روحك الطيبه اظهرت

انچان حي النه انتهض

واسرع تره اسكينه انولت

إلى آخر المقطوعة الشهيرة. ويرى بعض الباحثين: أن الحدي سمي بذلك لاعتماده على إيقاع سير الإبل عند حدوها وهو من الأوزان المنبرية الابتكار ولعله من أقدمها. (الحلقة العاشرة الدموع الناطقة ٨٩).

أما أطوار الحدي فهي كثيرة وقد تعرضت إلى بعضها في الأشرطة الخاصة بأطوار النعي.

وهنا أضيف أن الحدي تطبّق عليه أطوار البحر الطويل.

ولعل أقرب أطوار الحدي إلى تسميته الطريقة التي يقرأها الرواديد في آخر القصيدة المعروفة بـ(الگعده) أي التي تقرأ والمستمعون قعود أثناء قرائتها ولا لطم فيها على الصدور.

شيعتي:

وزن قديم من الأوزان التي شاعت في وسط المنبريين وهو من بحر الرمل ولكن بإضافة فاعلاتن رابعه فيكون هكذا: (فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن

٢٥

فاعلاتن ) أي من الرمل المربوع.

وسبب تسميته بالشيعتي لدى شعراء العامية لأنه على وزن الشعر المنسوب للإمام الحسينعليه‌السلام :

شيعتي مهما شربتم عذب ماء فاذكروني

أو سمعتم بغريب او شهيد فاندبوني

ومثاله من الشعر الشعبي:

زينب اتنادي اخوها اتصيح خويه المن عفتني

يا كفيل الضعن انته امن المدينه اتكفلتني

گوم شوف اسياط اميه وانظر اشسوت ابمتني

يابو فاضل هاي صورة حالتي من بعد عينك

يذكر ان الشيعتي يستخدمه الرواديد كثيرا أما الخطباء فان استخدامهم له قليل ولعل السبب في ذلك يعود إلى كون المنظوم لا يصلح - إلا النادر منه - لقراءة العزاء بينما الكثير منه يصلح لقراءة اللطميات والاحتفالات الدينية ولذلك تجد الرواديد يستفيدون من الشيعتي أكثر من الخطباء(١) .

مع ملاحظة: ان الرواديد يتحكم في القصيدة أكثر من الشاعر لانه يلي طلبات السامعين وليس للشاعر إلا تلبية طلبات الرادود والجمهور بينما لا

____________________

(١) - هذا البيت الذي مر عليك من وزن الشيعتي هو للأخ الشاعر علي ملا محمد الكاظمي نظمه بطلب من المؤلف لعدم وجود بيت في الرثاء يصلح لأن يكون شاهدا.

٢٦

يكون الخطيب، كذلك فان من النادر ان تجد خطيبا يذهب إلى الشاعر ويطلب منه نظم قصيدة من وزن ما تلبية لرغبة الجمهور.

وملاحظة أخرى هي: ان الخطيب يرغب في حفظ الشعر الرقيق القصير مثل النصاري والمجردات والأبوذية.

أما الأطوار التي يقرأ بها الشيعتي فهي الأطوار نفسها التي يقرأ بها الهجري والبحر الطويل والموشح أيضاً وان بعضها قد بيناها في أشرطة الأطوار فراجع.

فايزي:

وزن منبري شهير ينسب إلى الخطيب البحراني الشاعر الملا علي(١) الفايز صاحب ديوان الفائزيات الكبرى. ويعد ابن فايز - كما يسميه البحرانيون - أشهر خطيب في بلاد البحرين إلى يومنا هذا.

والفائزي من تفعيلة بحر الرجز: (مستفعلن مستفعلن مستفعلن ) مع زيادة خفيفة على الرجز وينظم على نحوين: (مستفعلن مستفعلن مستفعلان ) و(مستفعلن مستفعلن مستفعلاتان ).

____________________

(١) - حدثني المرحوم الأديب الشيخ جمعة الحاوي البحرانيرحمه‌الله بهذه القصة: قال: كان الملا علي الفايز رجلا صالحا محبا لأهل البيتعليه‌السلام متفانيا في حدمتهم ولكنه لم يكون خطيبا ولا شاعرا وفي ذات ليلة جاءته مولاتنا السيدة فاطمةعليه‌السلام في عالم المنام فقالت له: يا علي قم وأقرأ مصيبة ولدي الحسينعليه‌السلام فقال سيدتي أنا لست خطيبا ولا شاعرا، قالت له: قم وأقرأ كما أمرتك فاستيقظ من النوم وهو يشعر كأن شيئا ما حدث له فقد تفتحت آفاق الشعر في داخله وبدأ ينظم ويقرأ المجالس الحسينية حتى أصبح من أشهر خطباء البحرين في عصره وله منزلة لدى أهلها.

٢٧

مثاله:

يلي تناشدني عليهمن تهمل العين

كل البچه والنوح والحسره على احسين

حبه ابگلبي او تظهره ابصبها ادموعي

مجبور في حبه ولا شوفه ابطوعي

ياليت گبل اضلوعه انرضت اضلوعي

او من دون خده اتعفرت مني الخدين

وبعد الملا علي الفايز انتشر النظم بهذا الوزن من قبل فحول الشعراء في العراق والخليج والأهواز - عرب إيران - ولعل أبدع شاعر فيه بعد ابن فايز هو الشاعر البحراني الخطيب الشيخ ملا عطية صاحب موسوعة الجمرات الودية(١) .

علما إن أشهر من قرأه(٢) على منابر العراق هو خطيب كربلاء التقي الشيخ هادي الخفاجي الكربلائيرحمه‌الله .

والفايزي ابتكار منبري محض يعود تأريخه إلى مائة سنة مضت ويقرأه خطباء البحرين بعشرة أطوار تقريبا وكلها مؤثرة تستدر الدموع وتعطي مجالا للجمهور للمشاركة مع الخطيب، أما في العراق فلا تتعدى القراءة به بأكثر

____________________

(١) - كان ديوان الجمرات مطبوعا على شكل حلقات وطبع أخيرا بقم في مجلدين ضخمين.

(٢) - بل نظم في أيضا وقصيدة يلّي تناشدني عليمن تهمل العين هي له كما أخبرني بذلك نجله الخطيب الشيخ علاء الذي أثلج صدري بسعيه لطباعة ديوان والده.

٢٨

من نوعين من أطوراه التي يقرأ بها في البحرين ولعل الاقتصار على الطور العادي هو السائد لدى مشاهير الخطباء، نعم ربما كان جيل الشباب أكثر تطويراً. مع العلم ان الفائزي يقرأ بكافة الأطوار المنبرية وقد تعرضت في الأشرطة المسجلة بصوتي إلى ذلك فراجع.

نعي (مجردات، مهداد):

المهداد أو النعي أو المجردات كلها أسماء لوزن واحد يتكون من ثلاثة تفعيلات: (مستفعلن فعلن فعولن ) وفي بعض الأحيان ينظم على فعولان. راجع الدموع الناطفة ج١٠ ص٢١.

ويقول إبراهيم وفي: ان النعي هو مجزوء للركباني وليس بحرا مستقلا بذاته يدل على قوله انه في حالة إضافة (مفعول) في وسط أي شعر من شعر النعي يصبح الوزن ركبانيا كاملا ومثاله:

قول إحدى النائحات:

دحَّجِت لن الگبر گامه

او لن اللحد ضيّج منامه

اتلوذ ابعلي ذيچ الجهامه

هذا النعي إذا أضفنا عليه (مفعول) يكون ركبانيا:

دحجت لن (آشوف) الگبر گامه

او لن اللحد (يا ناس) ضيّج منامه

اتلوذ ابعلي (المهيوب) ذيچ الجهامه

ويضيف قائلا: ولعل سبب تسمية البعض له دارميا تعود إلى كونه ركبانيا بالأصل حيث هناك طائفة من الشعراء الشعبيين تطلق على الركباني وزن (دارمي). راجع: فنون الأدب الشعبي.

٢٩

ويقول المتخصصون: ان النعي كان ينظم ويغنى عند الفجيعة منذ العصور الغابرة وقد كانت المرأة تكرر كلمات التوجع عند الفجيعة وفاق لطم الوجه واللدم على الصدر والشهيق والزفير وهي إذا ندبت ترفع صوتها مرة وتخفضه أخرى تبعا لتوازن إحساساتها وخَوَرها من كثرة اللطم واللدم ويتخلل كلماتها او حروفها نشيج وانقطاعات قصيرة كما تفعل المرأة القروية في الأرياف، والبدوية في الفلوات. ولنساء العراق أنغام محزنة لا تخلو من ضروب الموسيقى تأخذ باللب وتسمع غالبا من المرأة لدى ثكلها وترملها أو موت حبيب لها وقد اشتهرت في القرن الثاني عشر الشاعة فدعة بنت الشيخ علي آل صوّيح التي عرفت بخنساء خزاعة لمشابهتها للخنساء في كثرة رثائها لأخيها (حسين) وكانت تعيش في زمن زعيم خزاعة الشهير (حمد آل حمود) وكانت ذات أثر فعال في الحروب ومن رثائها لأخيها:

يحسين انته عتبة الباب

او يطرادتي والماي خنياب

او يعكازتي والگاع چبچاب

او يا سترتي من يطرگ اشهاب

يا حلّتي بسنين الاصعاب

او يا هيهبتي يحسين يا ياب

يا وسفه عليه امسى بالاتراب

ثجيل اللحد واظلم السرداب

وقالت ترثيه أيضا:

يبات الگلب يحسين ملهود

يجمع ابمدّه يخزن اچبود

٣٠

ساده او خزاعل گاعده اگعود

شَي تندعي اوشي گلوبها سود

يحسين چيف ابثار عبود(١)

عگبه تظل ازنودها ابنود

وهذه مقطوعة قصيرة لزوجة توي زوجها او فنيخ وهو ابن عمها فقالت:

الك دين يابو افنيخ بالراس

يكفل علي او يشهد العباس

جسم اللمسته عيب ينجاس

ومن هنا يستبان ان زوجة القتيل آلت على نفسها ان لا تتزوج بعده وهو نوع من الوفاء لدى المرأة العربية. راجع فنون الأدب الشعبي الحلقة ٤ ص٣٩.

وهذا مثال من النعي الحسيني:

يا دار انشدچ عن أهاليچ

يا دار وين احسين راعيچ

عگب العشيرة والزلم ذيچ

تالي اغراب البين ناعيچ

او وين البطل عباس احاچيچ

يا دار عزيني وعزيچ

ومثال آخر:

انهض يعزي او شوف حالي

حال الغريبه ابغير والي

توني اذكرت عزي او دلالي

من گوّضت ذيچ الليالي

بيت او صفه امن الزلم خالي

____________________

(١) - عبود زوجها وقد قتل وهي تحرض على أخذ الثار له.

٣١

وهنا أنبه القارئ إلى أن المؤلف نظم مجموعة ضخمة من مقاطيع النعي تجدها مبثوثة في هذا الكتاب كتب تحت كل واحدة منها كلمة (للمؤلف).

يذكر ان النعي سهل الحفظ لذلك تجد الخطباء يحفظونه أكثر من غيره من الأوزان الأخرى.

أما أطواره فهي كثيرة بل كل ما ينطبق على النصاري ينطبق على النعي بالإضافة إلى الأطوار الأخرى مثل الركباني والبحراني. راجع الأشرطة الخاصة بالأطوار للمؤلف.

موال:

الموال من أقدم الأوزان الشعبية التي يعود تأريخها إلى بداية العصر العباسي الأول.

وكان في انطلاقته الأولى ذا شكل غير الشكل الذي عليه اليوم كما ان الشاعر لم يكون - في البداية - يلتزم بالنحو إلا أن الكلمات تكاد تكون عربية كلها وعن بدايته وسبب تسميته بالموال يقول الخاقاني: نقلا عن كتاب الطرب عند العرب لمؤلفه عبد الكريم العلاف: إن أول من نطق به أهل (واسط) في العراق وأول بيت منه:

منازل كنت فيها بعد بعدك درس

خراب لا للعزا تصلح ولا للعرس

فأين عينيك تنظر كيف فيها الفرس

تحكم والسنة المداح فيها خرس

ونقل عن السيوطي في (شرح الموشح) ان هارون الرشيد لما قتل الرامكة ومن بينهم جعفر البرمكي أمر أن يرثى بشعر فرثته جارية بهذا الوزن وجعلت

٣٢

تقول يا (موالياً) وأول ما نظمت قولها:

يا دار أين ملوك الأرض أين الفرس

أين الذين حموها بالقنا والترس

قالت تراهم رمم تحت الأراضي الدرس

سكوت بعد الفصاحة السنتهم خرس

واختلف في سبب تسميته بهذا الاسم فقيل سمي به لموالات قوافيه بعضها ببعض، وقيل سمي بذلك لان أول من نطق به: موالي بني برمك وكان أحدهم إذا نطق به ونعى مواليه قال: موالياً.

ومن أمعن النظر في الموال يتحقق لديه انه يتبع أحد بحور الشعر وهو (البسيط) وانه من الفنون التي لا يلزم فيها مراعاة قواعد اللغة العربية من إعراب أواخر الكلمات، بل انه يطرأ عليه اللحن ويجوز فيه استخدام الألفاظ الجارية في تخاطب العوام من الناس لفظاً وخطاً. راجع فنون الأدب الشعبي حلقة ١ ص١٦/١٧.

ويقول الشاعر جابر الكاظمي: لا يختلف وزن الموال - الزهيري - عن وزن النايل وكلاهما من بحر البسيط الذي يتكون من أربع تفعيلات (مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن ).

مثال النايلي هذا المطلع:

لارسل سلامي خفي بجنيح الخضيري

ربيتكم من زغر صرتوا ابّخت غيري

وسبب تسميته بالنايلي ان المرأة كانت تهوى فتى اسمه نايل فقالت فيه:

نايل چتلني او نايل، غيّر الواني

اونايل ابشوگه، سجيم الروح خلّاني

٣٣

والنايل غنائي الابتكار استخدمه فيما بعد قراء العزاء وقد نظم فيه شعراء كبار أمثال الشيخ محمد حسن دكسن صاحب الروضة الدكسنية كما حدثني بذلك فضيلة الخطيب الأستاذ الشيخ مجيد الصيمري(١) أن للشيخ دكسن مقاطع مؤثرة من النايلي في رثاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والعترة الطاهرةعليه‌السلام وهناك شعراء آخرون نظموا النايلي فأبدعوا وهذا بيت من قصيدة الكاظمي في مدح الحمزة بن عبد المطلب رضوان الله عليه:

ولحمزه عمّه ابگلب، ينضح وفه او ايمان

يكشف سحاب الخطر، عن سيد الأكوان

او حين الرسول ابتده، يردد صده الاعلان

بالحمزه عمه انحفظ، نهجه او شَرع حكمه

بعد هذه السطور حول النايلي أعود إلى الموال ووجه الاختلاف بينه وبين النايلي فنقول: يتكون الموال من بندين أو أكثر والربّاط والبند يتكون من ثلاثة أشطر متحدة الوزن والجناس اللفظي والرباط يتبع في الجناس البند الأول، مثال:

عباس يوم الترل للماي جابه ورد

أبطال تدري اشذبح من ترس جوده ورد

____________________

(١) - الشيخ مجيد الصيمري عالم جليل وخطيب رسالي وكاتب قدير صدر له عدة كتب منها: الزواج في الإسلام ومنها: في ظلال السيرة النبوية وله فضل كبير على قطاع واسع من خطباء المنبر ومنهم المؤلف الذي درس عليه مادة النصوص الحسينية وفن الخطابة واليوم يمارس مهمة التبليغ الإسلامي في كندا. (حفظ الله شيخنا أبا جهاد).

٣٤

هذا ابن حامي الحمه يرتجز باسمه ورد

يا حيف راعي الوفه صاب السهم عينه

عد ابو اليمه اعتقد حامي الظعن عينه

يحسين راسه انطبر لحگ عليه عينه

ليتل يصل للخيم يروي العطاشه ورد

وتحدث الخاقاني عن مراحل تطول الموال فقال - وقد أجاد - والموال أول ما بدأ النظم به على أربعة أشطر دون الالتزام بوحدة القافية ولكن مع مراعاة الوزن ويسمى الرباعي وقد تقدم نموذج منه.

والموال استمر على هذه الطريقة إلى نهاية القرن الثامن الهجري حيث كان يشارك في نظمه فريق من شعراء الفصحى أمثال صفي الدين الحلي ومن تقدمه فقد نظم في الموال كثيرا من القطع التي نستوضح منها اللهجة العراقية في عصره وقد استخدمه لمختلف الأغراض الشعرية التي استخدمها في الشعر الفصيح.

والثاني يسمى الأعرج وهو ما يؤلف من خمسه أشطر يلتزم في الشطرين الأولين وحدة اللفظ واختلاف المعنى وفي الثالث والخامس أيضا أما الرابع فقد أفرد بقافية واحدة كقول ابن معتوق بمناسبة عيد النوروز:

الغيث إنْ خصّ أحيانا فجودك عام

دوّام والبحر يغرق إن بكفّك عام

والليث من خوف باسمك سالم الانعام

والدهر لما شكا الحاجه أتى النيروز

٣٥

اليك في كل عام يجتدي الإنعام

والثالث يسمى (النعماني) ويتكون البيت من سبعة أشطر تتحد قوافي كل ثلاثة أشطر باللفظ وتختلف في المعنى أما السابع فيرجع إلى الثلاثة الأولى بوحدة اللفظ واختلاف المعنى وقد تفشى استعمال هذا اللون حتى استمر طيلة القرون الثلاثة الأخيرة. راجعع الحلقة الأولى من كتاب فنون الأدب الشعبي.

ثم أصبح الشاعر ينظم الموال بعشرات الأشطر وهناك نماذج كثيرة فراجع.

أما أطوار الموال فهي خاصة به يعرفها أهل الفن، وقد بينت خمسة منها في كتاب الخطابة الحسينية من دون معلم وطبقتها صوتها في الأشرطة فراجع.

والموال يقرأ في المواليد والوفيات ويقرأه الرواديد أكثر من الخطباء وقد شاع كثيرا في العقدين الأخيرين وسيجد القارئ نماذج كثيرة من الموال في هذه الطبعة.

موشح:

الموشح وزن من أوزان الشعر الشعبي المعروفة ويرجع إلى بحر الرمل وتفعيلته: (فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن ).

ويقول الشاعر الكاظمي: ينظم الموشح على ثلاثة نماذج:

١- (فاعلاتن فاعلاتن فاعلن ).

٢- (فاعلاتن فاعلاتن فاعلات ).

٣- (فاعلاتن فاعلاتن فعلن ). الحلقة العاشرة ص٢٥.

ويقول الخاقاني: والموشح منه ما هو منظوم على أوزان الموشحات

٣٦

الأندلسية، أي على وزن الرمل في القريض ويسمى الركباني في بعض مناطق العراق كالبسته في الموشح والمعروف ان (الپسته) تنظم في أربعة أشطر الشطرين الأولان منهما يختلفان في وزنهما عن الشطرين الآخرين ومثال ذلك:

شوهل رحه ابلا صوت

بس ايدچ اتدير

اطحن بگايه الروح

ما أطحن اشعير

وينظم عن طريقة المربع أو يستمر في نظمه على قافية واحدة حتى الأخير. راجع كتاب فنون الأدب الشعبي الحلقة الأولى ص٧٣.

وإليك هذا المثال:

جينه ننشد كربله امضيعينها

بيها زينب گالوا اميسرينها

يسروها اولالها واحد فزع

شال حادي اضعونها ابساع او گطع

جينه ننشد وين ابو فاضل وگع

ما تدلونه الشريعة وينها

والموشح من الأوزان المنبرية الابتكار يقرأها الخطباء والرواديد كل بحسب طريقته وما يهمنا بيانه هنا الأطوار التي يقرأها الخطيب وهي كثيرة وقد بيناها في الأشرطة الخاصة بأطوار النعي وهنا نذكر بان أطوار الموشح هي أطوار البحر الطويل والتجليبة والهجري.

ويقرأ الموشح ببعض أطوار النعي المهداد والنصاري مع ملاحظة: لا تستحسن (الونة) في أطوار الموشح.

النصاري:

النصاري هو أشهر الأوزان في الشعر الشعبي وأصله من بحر الهزج المتكون من ثلاث تفعيلات: (مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن ) وقد تقدم ان هذا

٣٧

الوزن ينظم على غرار وزن من الشعر الشعبي يسمى التجليبة.

أما النصاري فانه ينظم بنفس التفعيلة ولكن يدخل عليه الحذف في (مفاعيلن) الثالثة فتصبح (مفاعيل) أو (فعولان) فتكون تفعيلته: (مفاعيلن مفاعيلن مفاعيل ) او (مفاعيلن مفاعيلن فعولان ).

مثال:

گعد عنده او شافه امغمض العين

ابدمه سابح المترب الخدين

متواصل طبر والراس نصين

حنه ظهره على اوليده او تحسر

ومثال آخر:

وگف ما بينهم والدمع سچاب

يگلهم هاي تاليكم يلحباب

يصير اعتب وانه ادري مامش اعتاب

او عند الموت كلشي موش مگدور

ومثال آخر:

وسافه اعلى ابو محمد منهل الجود

گضه نحبه او منه الچبد ممرود

اشحال احسين لّمن عاين العود

يجلب بيه چبده اللي تخذم

والنصاري سمي بهذا الإسم نسبة إلى الشيخ محمد بن نصار المتوفى في العقد الأخير من القرن الثاني عشر وابن نصار هذا كان عالما جليلا وشاعرا فصيحا له قصائد ومقاطع في الفصحى إلا ان شهرته التي طبقت الآفاق كانت بسبب نظمه ملحمته الحسينية (النصاريات الكبرى(١) ) التي طبعت عشرات

____________________

(١) - أقول: لقد حدثني الأستاذ الشيخ جعفر الهلالي أن لابن نصار شعر شعبي كثير لم يطبع مع الملحمة.

٣٨

المرات في العراق والخليج وإيران ولبنان.

وكثيرون هم الشعراء الذين نظموا في هذا الوزن إلا ان ابن نصار ونصارياته تبقى الأرقى من حيث السبك والصورة الشعرية وان أغلب ما يستحق منها الحفظ يحفظه الخبطاء حتى قيل ان من لم يحفظ خطبا من نهج البلاغة وقصائد السيد حيدر الحلي (الحوليات) ونصاريات الشيخ محمد بن نصار فليس بخطيب.

وقد حدثني الخطيب الكبير الشيخ جعفر الهلالي: ان مقطوعات كثيرة من ملحمة بن نصار مبثوثة في مجاميع الخطباء الأوائل لم تطبع مع تلك الملحمة، يذكر ان الشيخ الهلالي نفسه نظم الروضة الهلالية على غرار النصاريات الكبرى وهي روضى مفيدة سيجد القارئ كثيرا من أبياتها في هذا الكتاب.

والنصاري من الأوزان المنبرية الابتكار مع العلم ان النصاري والأبوذية هما من وزن واحد.

أما أطور النصاري فهي كثيرة وقد بينت بعضها في الأشرطة الخاصة بالنعي فراجع.

الهجري:

الهجري من أوزان الشعر الشعبي ويرجع إلى (الرمل المربوع) المتكون من أربعة أجزاء (فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن ).

يقول الشاعر الكاظمي وبعد دخول العلل والزحاف على تفعيلته الرابعة يصبح من (الهجري) وينظم على ثلاثة نماذج.

٣٩

١- (فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلن ).

٢- (فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلات ).

٣- (فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فعلن ).

مثال:

اصبحت بغداد كلها اعله الجسر متجمعه

هذا متشمت او ذاك فوگ خده مدمعه

ويل گلبي والجنازه على احماميل اربعه

او فوگ ذاك الجسر مدّوا مهجتك يالمرتضى

والهجري على ومن الأنشودة التي استقبلت بها نساء المدينة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما قدم إليها مهاجرا من مكة:

طلع البدر علينا

من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا

ما دعا لله داع

إلى آخرها.

أما أطوار الهجري فهي نفسها التي يقرأ بها البحر الطويل والموشح وهناك أطوار خاصة بالهجري وقد بينا ذلك في الأشرطة المسجلة لتعليم الأطوار فراجع.

هذه خلاصة عن الأوزان الشعرية الشعبية التي يتكون منها ما هو موجود من شعر في مجمع مصائب أهل البيتعليهم‌السلام .

كما انها الأوزان التي تستخدم تقريباً في قراءة العزاء أما غيرها وهو كثير فلا يقرأه الخطباء وأذكر على سبيل المثال: الچلمه أو نص، الميمر، الشبگها،

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

الضلال ولم يكتفوا بهذا الحدّ ، بل تمادوا في غيّهم ، فارتكبت أياديهم الآثمة جريمة كبرى ، إذ عمدوا إلى قتل الهداة والقادة إلى طريق الحق من أنبياء الله ، إيغالا منهم في اتباع طريق الباطل والابتعاد عن طريق الحق.

لقد كان هؤلاء اليهود بدرجة من العناد والصلف والوقاحة ، بحيث كانوا يواجهون كلام الأنبياء بالسخرية والاستهزاء ، ووصل بهم الأمر إلى أن يقولوا بكل صراحة أنّ قلوبهم تغطيها حجب عن سماع وقبول قول الأنبياء! تقول الآية الأولى من الآيات الأربع الأخيرة:( فَبِما نَقْضِهِمْ (١) مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ ) .

وهنا يؤكّد القرآن الكريم أنّ قلوب هؤلاء مختومة حقا ، بحيث لا ينفذ إليها أي حقّ،وسبب ذلك هو كفرهم وانعدام الإيمان لديهم ، فهم لا يؤمنون لعنادهم وصلفهم إلّا القليل منهم.

وقد تجاوز هؤلاء المجرمون الحدّ ، فالصقوا بمريم العذراء الطاهرة تهمة شنيعة وبهتانا عظيما ، هي أمّ لأحد أنبياء الله الكبار ، وذلك لأنّها حملت به بإذن الله دون أن يمسها رجل، تقول الآية في هذا المجال :( وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً ) .

وقد تباهي هؤلاء الجناة وافتخروا بقتلهم الأنبياء ، وزعموا أنّهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم رسول الله ، تقول الآية :( وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ ) ولعل هؤلاء كانوا يأتون بعبارة «رسول الله» استهزاء ونكاية ، وقد كذبوا بدعواهم هذه في قتل المسيح ، فهم لم يقتلوه ولم يصلبوه ، بل صلبوا شخصا شبيها بعيسى المسيحعليه‌السلام ، وإلى هذه الواقعة تشير الآية بقولها :( وَما قَتَلُوهُ وَما

__________________

(١) إن عبارة «فبما نقضهم» من ناحية الإعراب جار ومجرور ، ويجب أن يكون لها عامل محذوف قد يكون تقديره «لعناهم» أو جملة «حرمنا عليهم» الواردة في الآية (١٦٠) التالية ، وعلى هذا الأساس فإن ما ورد في هذا الإطار يكون بمثابة جملة معترضة ، تضفي في مثل هذه الحالة جمالا أكثر على الكلام القرآني البليغ.

٥٢١

صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ) .

وأكّدت الآية أنّ الذين اختلفوا في أمر المسيحعليه‌السلام كانوا ـ هم أنفسهم ـ في شك من أمرهم ، فلم يكن أحدهم يؤمن ويعتقد بما يقول ، بل كانوا يتبعون الأوهام والظن ، تقول الآية :( وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ ) .

وقد بحث المفسّرون حول موضوع الخلاف الوارد في هذه الآية ، فاحتمل بعضهم أن يكون الخلاف حول منزلة ومقام المسيحعليه‌السلام حيث اعتبره جمع من المسيحيين ابنا لله،ورفض البعض الآخر ـ كاليهود ـ كونه نبيّا ، وإن كل هؤلاء كانوا على خطأ من أمرهم.

وقد يكون المقصود بالخلاف هو موضوع كيفية قتل المسيحعليه‌السلام حيث قال البعض بأنّه قتل ، وقال آخرون بأنّه لم يقتل ، ولم يكن أي من هاتين الطائفتين ليثق بقول نفسه.

أو لعل الذين ادعوا قتل المسيح وقعوا في شك من هذا الأمر لعدم معرفتهم بالمسيحعليه‌السلام ، فاختلفوا في الذي قتلوه هل كان هو المسيح ، أو هو شخص غيره ...؟! ويأتي القرآن ليؤكّد هنا بأن هؤلاء لم يقتلوا المسيح أبدا ، بل رفعه الله إليه ، والله هو القادر على كل شيء ، وهو الحكيم لدى فعل أي شيء ، تقول الآية :( وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً ) .

اسطورة الصّليب؟

يؤكّد القرآن الكريم في الآية المارة الذكر على أنّ المسيحعليه‌السلام لم يقتل ولم يصلب ، بل اشتبه الأمر على اليهود فظنوا أنّهم صلبوه ، وهم لم يقتلوه أبدا!

أمّا الأناجيل الأربعة الموجودة اليوم في متناول أيدينا فهي كلها تقول بأنّ

٥٢٢

المسيحعليه‌السلام قد صلب وقتل على هذه الصورة ، وقد جاء هذا القول في الفصول الأخيرة من هذه الأناجيل الأربعة «متى ـ لوقا ـ مرقس ـ يوحنا» وبصورة تفصيلية.

والمسيحيون اليوم يعتقدون بهذا الأمر بصورة عامّة ، ومسألة الصلب أو قتل المسيحعليه‌السلام تعتبر اليوم أحد أهم المسائل الأساسية للديانة المسيحية ، ونحن نعلم أنّ المسيحيين اليوم لا يعتبرون المسيحعليه‌السلام مجرّد نبي أرسل لهداية وإرشاد البشرية ، بل يعتقدون بأنّه «ابن الله» من أركان الثالوث المقدس لديهم ، ويزعمون بأنّ هدف مجيء المسيح إلى هذا العالم ليكون قربانا يفتدي بنفسه مقابل الخطايا والآثام التي يرتكبها البشر.

فيقولون : إنّه جاء ليضحي بنفسه من أجل ذنوبهم وخطاياهم ، وقد صلب وقتل ليغسل بدمه ذنوب البشر ، ولينقذ البشرية من العقاب ، ولذلك فهم يعتقدون بأنّ طريق الخلاص والنجاة من العذاب والعقاب هو الإيمان بهذا الموضوع.

ومن هذا المنطلق فهم ـ أحيانا ـ يدعون المسيحية بدين «الإنقاذ» أو دين «الفداء» ويسمّون المسيحعليه‌السلام بـ «المنقذ» أو «المخلص» أو «الفادي».

واعتمادهم المفرط على الصليب واتخاذه شعارا لأنفسهم إنّما يرتكز على قضية القتل والصلب هذه.

كانت تلك نبذة عن عقيدة المسيحيين حول مصير المسيحعليه‌السلام .

أمّا المسلمون فلا يشك أحدهم ببطلان وزيف هذه العقيدة ، والسبب هو أنّ المسيح عيسى بن مريمعليه‌السلام ، كان نبيّا كسائر أنبياء الله أوّلا ، ولم يكن هو الله ولا ابن الله ، لأن الله واحد أحد فرد صمد لا شبيه ولا مثيل ولا زوج له ولا ولد.

وثانيا : إنّ مسألة الفداء والتضحية من أجل خطايا الآخرين ، تعتبر مسألة بعيدة عن المنطق كل البعد ، فكل إنسان يؤاخذ بجريرته وعمله ، وإنّ طريق النجاة والخلاص يكون في الإيمان والعمل الصالح فقط.

٥٢٣

وثالثا : إنّ عقيدة الفداء من أجل الخطايا تعتبر خير مشجع على الفساد وممارسة الذنوب ، وتؤدي بالبشرية إلى التلوث والهلاك.

وحين تلاحظ أن القرآن يؤكّد على قضية عدم صلب المسيحعليه‌السلام مع أنّ هذه القضية تظهر للعيان وكأنّها مسألة اعتيادية بسيطة ، من أجل دحض عقيدة الفداء الخرافية بشدّة ، لمنع المسيحيين من الإيغال في هذا الإعتقاد الفاسد ، ولكي يؤمنوا بأنّ طريق الخلاص والنجاة إنّما هو في أعمالهم هم أنفسهم وليس في ظل الصليب.

رابعا : هناك قرائن موجودة تثبت وهن وضعف قضية الإعتقاد بصلب المسيحعليه‌السلام هي :

١ ـ المعروف أنّ الأناجيل الأربعة المتداولة في الوقت الحاضر ، والتي تشهد بصلب المسيحعليه‌السلام ـ كانت قد دوّنت بعده بسنين طويلة ، وقد دوّنها حواريوه أو التالون من أنصارهعليه‌السلام ـ وهذه حقيقة يعترف بها حتى المؤرخون المسيحيون.

كما نعرف أيضا أنّ حواري المسيحعليه‌السلام قد هربوا حين هجم الأعداء عليه،والأناجيل نفسها تشهد بهذا الأمر(١) وعلى هذا الأساس فإنّ هؤلاء الحواريين قد تلقفوا مسألة صلب عيسى المسيحعليه‌السلام من أفواه الناس الآخرين ، ولم يكونوا حاضرين أثناء تنفيذ عملية الصلب ، وقد أدت التطورات التي حصلت آنذاك إلى تهيئة الأجواء المساعدة للاشتباه بشخص آخر وصلبه بدل المسيحعليه‌السلام ، وسنوضح هذا الأمر فيما يلي من حديثنا.

٢ ـ إنّ العامل الآخر الذي يجعل من الاشتباه بشخص آخر بدل المسيحعليه‌السلام أمرا محتملا هو أنّ المجموعة التي كلّفت بالقبض على عيسى المسيحعليه‌السلام والتي ذهبت إلى بستان «جستيماني» هذه المجموعة كانت تتشكل من أفراد الجيش الرومي الذين كانوا منهمكين في أمور عسكرية ، فهم لم يكونوا يعرفون اليهود

__________________

(١) لقد ترك الحواريون المسيحعليه‌السلام في ذلك الوقت وهربوا كلهم (من إنجيل متى، الإصحاح ٢٦ الجملة ٥٧).

٥٢٤

ولغتهم وتقاليدهم ، كما لم يميزوا بين حواري المسيحعليه‌السلام وبين المسيح نفسه.

٣ ـ تذكر الأناجيل أن الهجوم على مقر عيسى المسيحعليه‌السلام قد تمّ ليلا ، وبديهي أنّ ظلام الليل يعتبر خير ستار للشخص المطلوب ليتخفى به ويهرب ، وليقع شخص آخر في أيدي المهاجمين.

٤ ـ يستنتج من نصوص جميع الأناجيل أنّ المقبوض عليه قد اختار الصمت أمام «بيلاطيس» الحاكم الرومي لبيت المقدس ـ آنذاك ـ ولم يتفوه إلّا بالقليل دفاعا عن نفسه ويستبعد كثيرا أن يقع عيسى المسيحعليه‌السلام في خطر كهذا ولا يدافع عن نفسه بما يستحقه الدفاع عن النفس ، وهو المعروف بالفصاحة والبلاغة والشجاعة والشهامة.

ألا يحتمل في هذا المجال أن يكون شخص آخر ـ كـ «يهوذا الأسخربوطي» الذي خان ووشى بعيسى المسيحعليه‌السلام وكان يشبهه كثيرا ـ قد وقع هو بدل المسيح في الأسر وأنّه لهول الموقف قد استولى عليه الخوف والرعب ، فعجز عن الدفاع عن نفسه أو التحدث أمام الجلادين بشيء.

نقرأ في الأناجيل أنّ «يهوذا الأسخربوطي» لم يظهر بعد حادثة الصّلب أبدا، وأنّه ـ كما تقول هذه الأناجيل ـ قد قتل نفسه وانتحر(١) .

٥ ـ لقد بيّنا أنّ حواري المسيحعليه‌السلام ـ وكما ذكرت الأناجيل ـ قد هربوا حين أحسوا بالخطر يحدق بهم ، كما هرب واختفى الأنصار الآخرون ، وأخذوا يراقبون الأوضاع عن بعد ، بحيث أصبح الشخص المقبوض عليه وحيدا بين الجنود الرومان ، ولم يكن أي من أصحابه قريبا منه ، ولذلك لا يستبعد ولا يبدو غريبا أن يقع خطأ أو سهو في تشخيص هوية الشخص المقبوض عليه.

٦ ـ ونقرأ في الأناجيل ـ أيضا ـ أنّ الشخص المصلوب قد اشتكى من ربه

__________________

(١) إنجيل متى ، الإصحاح ٣٧ ، الجملة ٦.

٥٢٥

(وليس لربّه) لأنّه ـ بحسب قوله ـ قد جفاه وتركه بأيدي الأعداء ليقتلوه(١) !

فلو صدقنا مقولة أنّ المسيح جاء لهذه الدنيا ليصلب ولينقذ بصلبه البشرية من عواقب خطاياهم وآثامهم ، فلا يليق لمن يحمل هدفا ساميا كهذا الهدف أن يصدر منه هذا الكلام،وهذا دليل على أن الشخص المصلوب لم يكن المسيح نفسه ، بل كان إنسانا ضعيفا وجبانا ، وعاجزا ، ومثل هذا الإنسان يمكن أن يصدر منه كلام كالذي سبق ، لا يمكن أن يكون هذا الإنسان هو المسيحعليه‌السلام (٢) .

٧ ـ لقد نفت بعض الأناجيل الموجودة مثل إنجيل «برنابا» قضية صلب المسيحعليه‌السلام (وهذا الإنجيل هو غير الأناجيل الأربعة التي يقبلها المسيحيون) كما أنّ بعضا من الطوائف المسيحية أبدت شكوكها حول قضية الصلب(٣) وقد ذهب بعض الباحثين إلى أبعد من هذا ، فادعوا بأن التاريخ قد ذكر شخصين باسم «عيسى» أحدهما عيسى المصلوب والآخر هو عيسى غير المصلوب وبينهما فاصل زمني يقدر بخمسمائة عام(٤) .

كانت تلك مجموعة من القرائن المؤيدة لقول القرآن الكريم في قضية الشبه الحاصل في قتل أو صلب المسيحعليه‌السلام .

* * *

__________________

(١) إنجيل متى ـ الإصحاح ٢٧ ، الجملتان ٤٦ و ٤٧.

(٢) لقد اقتبسنا عددا من القرائن المذكورة أعلاه من كتاب «بطل الصليب».

(٣) تفسير المنار ، الجزء السابع ، ص ٣٤.

(٤) الميزان ، الجزء الثّالث ، ص ٣٤٥.

٥٢٦

الآية

( وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً(١٥٩) )

التّفسير

هنالك احتمالان في تفسير هذه الآية ، وكل واحد منهما جدير بالملاحظة من جوانب متعددة :

١ ـ إنّ الآية تؤكّد أنّ أي إنسان يمكن أن لا يعتبر من أهل الكتاب ما لم يؤمن قبل موته بالمسيحعليه‌السلام حيث تقول :( وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) . وأن هذا الأمر يتمّ حين يشرف الإنسان على الموت وتضعف صلته بهذه الدنيا ، وتقوى هذه الصلة بعالم ما بعد الموت ، وترفع عن عينيه الحجب فيرى بعد ذلك الكثير من الحقائق ويدركها ، وفي هذه اللحظة يرى المسيح بعين بصيرته ويؤمن به ، فالذين أنكروا نبوته يؤمنون به ، والذين وصفوه بالألوهية يدركون في تلك اللحظة خطأهم وانحرافهم.

وبديهي أنّ مثل هذا الإيمان لا ينفع صاحبه ، كما أنّ فرعون والأقوام الأخرى وأقوام استولى عليهم العذاب ، فقالوا : آمنا فلم ينفعهم إيمانهم أبدا ، فالأجدر بالإنسان أن يؤمن قبل أن تدركه لحظة العذاب عند الموت ، حين لا ينفع الإيمان صاحبه.

٥٢٧

وتجدر الإشارة ـ هنا ـ إلى أنّ الضمير في عبارة «قبل موته» يعود لأهل الكتاب بناء على التّفسير الذي ذكرناه.

٢ ـ قد يكون المقصود في الآية هو أنّ جميع أهل الكتاب يؤمنون بعيسى المسيح قبل موته ، فاليهود يؤمنون بنبوته والمسيحيون يتخلون عن الإعتقاد بربوبية المسيحعليه‌السلام ، ويحدث هذا ـ طبقا للروايات الإسلامية ـ حين ينزل المسيحعليه‌السلام من السماء لدى ظهور المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه ، وواضح أن عيسى المسيح سيعلن في مثل هذا اليوم انضواءه تحت راية الإسلام ، لأن الشريعة السماوية التي جاء بها إنّما نزلت قبل الإسلام ، ولذلك فهي منسوخة به.

وبناء على هذا التّفسير فإن الضمير في عبارة «قبل موته» يعود إلى عيسى المسيحعليه‌السلام .

وقد نقل عن النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «كيف بكم إذا نزل فيكم ابن مريم وإمامكم منكم»(١) وطبيعي أنّ هذا التّفسير يشمل اليهود والمسيحيين الموجودين في زمن ظهور المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف ، ونزول عيسى المسيحعليه‌السلام من السماء.

وجاء في تفسير «علي بن إبراهيم» نقلا عن «شهر بن حوشب» إنّ الحجاج ذكر يوما أن هناك آية في القرآن قد أتبعته كثيرا وهو حائر في معناها ، فسأله «شهر» عن الآية ، فقال الحجاج : إنّها آية( وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ) وذكر أنّه قتل يهودا ومسيحيين ولم يشاهد فيهم أثرا لمثل هذا الإيمان.

فأجابه «شهر» بأنّ تفسيره للآية لم يكن تفسيرا صحيحا ، فاستغرب الحجاج وسأل عن التّفسير الصحيح للآية.

فأجاب «شهر» بأنّ تفسير الآية هو أن المسيح ينزل من السماء قبل نهاية العالم،فلا يبقى يهودي أو غير يهودي إلّا ويؤمن بالمسيح قبل موته ، وأن المسيح

__________________

(١) مسند أحمد ، وصحيح البخاري ، وصحيح مسلم ، وسنن البيهقي ، كما جاء في تفسير الميزان.

٥٢٨

سيقيم الصّلاة خلف المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف.

فلما سمع الحجاج هذا الكلام قال لـ «شهر» ويلك من أين جئت بهذا التّفسير؟فأجابه «شهر» بأنّه قد سمعه من محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالبعليهم‌السلام .

وعند ذلك قال الحجاج : «والله جئت بها من عين صافية»(١) .

وتقول الآية في الختام :( وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) أي شهادة المسيحعليه‌السلام على قومه بأنّه قد بلّغهم رسالة الله ولم يدعهم لاتّخاذه إلها من دون الله ، بل دعاهم إلى الإقرار بربوبية الله الواحد القهار.

سؤال :

وقد يعترض البعض بأنّ المسيحعليه‌السلام ـ كما جاء في الآية (١١٧) من سورة المائدة ـ إنّما يقصر شهادته على الزمن الذي كان هو موجودا فيه بين قومه ويتنصل عن الشهادة بالنسبة للأزمنة التي جاءت بعده ، وذلك بدلالة الآية التي جاءت على لسانه وهي تقول:( وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) لكن الآية التي هي موضوع بحثنا الآن تدل على أنّ المسيحعليه‌السلام يشهد على الجميع يوم القيامة ، سواء أولئك الذين كانوا في عصره وزمانه أو الذين لم يكونوا في ذلك الزمان.

الجواب :

والجواب على هذا الاعتراض هو أنّنا لو أمعنا النظر في مضمون الآيتين المذكورتين،لرأينا أنّهما تدلان على أنّ الآية الأخيرة التي هي موضوع البحث ـ تتحدث عن الشهادة حول تبليغ الرسالة ونفي الألوهية عن المسيحعليه‌السلام بينما الآية (١١٧) من سورة المائدة تشهد على أعمال أولئك القوم.

فالآية الأخيرة تذكر أنّ عيسى المسيحعليه‌السلام سيشهد على جميع الذين نسبوا

__________________

(١) تفسير البرهان ، الجزء الأوّل ، ص ٤٢٦.

٥٢٩

له الألوهية ، سواء من كانوا في زمانه أو من جاءوا بعد ذلك الزمان ، وأن المسيحعليه‌السلام يؤكّد أنّه لم يدع هؤلاء القوم إلى مثل هذا الأمر أبدا ، بينما الآية (١١٧) من سورة المائدة تذكر على لسان المسيحعليه‌السلام أنّه علاوة على الدعوة لرسالته بالأسلوب الصحيح ، فهو قد حال طيلة فترة بقائه بين قومه ـ دون انحرافهم ، إلّا أنّهم انحرفوا بعده ونسبوا له الألوهية في زمن لم يكن هو موجودا بينهم ، ليشهد على أعمالهم وليحول دون انحرافهم.

* * *

٥٣٠

الآيات

( فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً (١٦٠) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦١) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (١٦٢) )

التّفسير

مصير الصالحين والطالحين من اليهود :

لقد أشارت الآيات السابقة إلى نماذج من انتهاكات اليهود ، أما الآيات الأخيرة فإنما ذكرت نماذج أخرى من تلك الانتهاكات ، وبيّنت العقوبات التي استحقها اليهود بسبب تمردهم وعصيانهم ، والعذاب الذي لا قوه وسيلاقوه نتيجة لذلك في الدنيا والآخرة.

فالآية الأولى من الآيات الأخيرة تبيّن أنّ الله قد حرم بعضا من الأشياء الطاهرة على اليهود بسبب ممارستهم الظلم والجور ، وتصديهم للسائرين في

٥٣١

طريق الله ، حيث تقول الآية :( فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً ) كما عاقبهم الله بالحرمان من تلك الطيبات لتعاملهم بالربا على الرغم من منعهم من ممارسة المعاملات الربوية ولاستيلائهم على أموال الآخرين بطرق غير مشروعة ، فتقول الآية في هذا المجال :( وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ ) .

وتؤكّد الآية أنّ عذاب اليهود لمعاصيهم تلك لا يقتصر على العقاب الدنيوي ، بل سيذيقهم الله ـ أيضا ـ عقاب وعذاب الآخرة الأليم الذي يشمل الكافرين من اليهود،تقول الآية الكريمة :( وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً ) .

وتجدر الإشارة ـ هنا إلى عدة أمور ، وهي :

١ ـ إنّ المقصود بالطيبات المحرمة على اليهود هي تلك التي ذكرتها الآية (١٤٦) من سورة الأنعام ، والتي شملت بعض الحيوانات وشحوم حيوانات أخرى كالبقر والأغنام التي أحبّها اليهود ، ولم يكن هذا التحريم تحريما تكوينيا ، بل كان تحريما تشريعيا قانونيا ، أي أن اليهود منعوا من استعمال هذه النعم مع أنّها كانت متيسرة في أيديهم.

وقد جاء ذكر بعض هذا التحريم في التوراة المتداولة بيد اليهود حاليا ، في «سفر الآويين» في الفصل الحادي عشر ، ولكن لم تشر التوراة الحالية إلى الطابع العقابي لهذا التحريم(١) .

٢ ـ أمّا هل أنّ هذا التحريم يتميز بطابع شمولي ، أي هل يشمل غير الظالمين من اليهود ، أم يخص الظالمين وحدهم؟ فإنّ ظاهر الآية المذكورة أعلاه والآية (١٤٦) من سورة الأنعام ، يدلان على أنّ التحريم له طابع عام بدلالة عبارة «لهم» على عكس العقاب الأخروي الذي تخصصه الآية( لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ ) وعلى هذا الأساس فإن هذا التحريم له طابع عقابي بالنسبة للظالمين من اليهود ، كما يحمل

__________________

(١) راجع الجزء الثّاني من تفسيرنا هذا.

٥٣٢

طابع الاختبار والامتحان بالنسبة لأخيارهم الذين يشكلون الأقلية فيهم.

وقد ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ هذا التحريم يشمل الظالمين من اليهود فقط ، كما تدل بعض الروايات على هذا الرأي ـ أيضا ـ فقد جاء في تفسير البرهان في تفسير الآية (١٤٦) من سورة الأنعام ، نقلا عن الإمام الصّادقعليه‌السلام : «إنّ زعماء بني إسرائيل كانوا قد حرموا على فقراء طائفتهم أكل لحوم الطيور وشحوم الحيوانات ، ولهذا السبب حرم الله على هؤلاء الظالمين مثل هذه الطيبات عقابا لهم على ظلمهم وجورهم(١) ».

٣ ـ وتدل هذه الآية ـ أيضا ـ على أنّ تشريع تحريم «الربا» لم يقتصر على الإسلام وحده ، بل كان محرما لدى الأقوام والديانات السابقة ، والتوراة المتداولة حاليا والمحرفة إنّما تحرم على اليهود أخذ الربا من أبناء عقيدتهم فقط ، ولا تعتبر أخذه من أبناء الديانات الأخرى حراما عليهم(٢) .

وقد أشارت الآية الثّالثة من الآيات الأخيرة إلى حقيقة مهمّة اعتمدها القرآن الكريم مرارا في آيات متعددة ، وهي أنّ ذمّ اليهود وانتقادهم في القرآن لا يقومان على أساس عنصري أو طائفي على الإطلاق ، لأنّ الإسلام لم يذم أبناء أي طائفة أو عنصر لانتمائهم الطائفي أو العرقي ، بل وجه الذم والانتقاد للمنحرفين والضالمين منهم فقط ، لذلك استثنت هذه الآية المؤمنين الأتقياء من اليهود ومدحتهم وبشرتهم بنيل أجر عظيم ، حيث تقول الآية الكريمة :( لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً ) (٣) .

__________________

(١) تفسير البرهان ، الجزء الأوّل ، ص ٥٥٩.

(٢) التوراة ، سفر التثنية ، الفصل ٢٣ ، الجملتان ١٩ و ٢٠.

(٣) لقد شرحنا بنوع من التفصيل ، معنى عبارة «الراسخون في العلم» وذلك في الجزء الثّاني من تفسيرنا هذا.

٥٣٣

وقد آمن جمع من كبار الطائفة اليهودية بالإسلام حين بعث النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحين شاهدوا على يديه الكريمتين دلائل أحقّيّة الإسلام ، ودافع هؤلاء بأرواحهم وأموالهم عن الإسلام ، وكانوا موضع احترام وتقدير النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسائر المسلمين.

٥٣٤

الآيات

( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (١٦٣) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً (١٦٤) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٦٥) لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (١٦٦) )

التّفسير

لقد تناولت الآيات السابقة مسألة التمييز الذي مارسه اليهود بشأن الأنبياء ، حيث كانوا يؤمنون ويصدقون ببعض أنبياء الله تعالى ويكفرون بالبعض الآخر منهم.

أمّا الآيات أعلاه فهي ترد على اليهود ، وتؤكّد أنّ الله أوحى إلى نبيّه محمّداصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما أنزل الوحي على أنبيائه نوح والنّبيين الذين جاؤوا من بعد نوح ، وكما أوحى إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوبعليهم‌السلام وأنزل الوحي على

٥٣٥

الأنبياء من أبناء يعقوب ، وعلى عيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمانعليهم‌السلام ، وكما أنزل الله على داودعليه‌السلام كتاب الزّبور ، حيث تقول الآية :( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً ) .

وهذه الآية تردّ على اليهود مؤكّدة على أنّ شرائع الأنبياء العظام مستقاة كلها من ينبوع الوحي الإلهي ، وإنّهم جميعا يسيرون في طريق واحد ، ولذلك لا تجوز التفرقة بينهم.

وقد تكون هذه الآية خطابا للمشركين والكفار من عرب الجاهلية ، الذين كانوا يظهرون الدهشة والعجب من نزول الوحي على نبي الإسلام محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهي تردّ على هؤلاء مؤكّدة أن لا عجب في نزول الوحي على محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد نزل قبل ذلك على الأنبياء السابقين.

ثمّ تبيّن الآية أنّ الوحي لم يقتصر نزوله على هؤلاء الأنبياء ، بل نزل على أنبياء آخرين حكى الله قصصهم للنّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قبل ، وأنبياء لم يحك الله قصصهم ، وكل هؤلاء الأنبياء أرسلهم الله إلى خلقه ، وأنزل عليهم الوحي من عنده ، تقول الآية :( وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ) .

وتبيّن هذه الآية في آخرها قضية مهمّة جدّا ، وهي أنّ الله قد كلم موسى بدل أن ينزل عليه الوحي ، فتقول :( وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً ) .

وعلى هذا الأساس فإنّ صلة الوحي ظلت باقية بين البشر ، ولم يكن من عدل الله أن يترك البشر دون مرشد أو قائد ، أو أن يتركهم دون أن يعين لهم واجباتهم وتكاليفهم ، وهو الذي بعث الأنبياء والرسل للبشر مبشرين ومنذرين ، لكي يبشروا الناس برحمته وثوابه،وينذرونهم من عذابه وعقابه لكي يتمّ الحجة عليهم فلا يبقى لهم عذر أو حجّة ، تقول الآية :( رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا

٥٣٦

يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) .

فقد أحكم الله العزيز القدير خطّة إرسال الأنبياء ونفذها بكل دقة ، وبهذا تؤكد الآية( وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً ) فحكمته توجب تحقيق هذا العمل ، وقدرته تمهد السبيل إلى تنفيذه ، وعلى عكس ذلك فإن إهمال هذا الأمر المهم ، إمّا أن يدل على الافتقار إلى الحكمة والمعرفة ، أو أنّه دلالة على العجز ، والله منزّه عن كل هذه العيوب.

أمّا الآية الأخرى فهي تطمئن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتوضح له أن المهم هو أنّ الله قد شهد بما أنزل عليه من كتاب ، وليس المهم أن يؤمن نفر من هؤلاء بهذا الكتاب أو يكفروا به ـ فتؤكد الآية في هذا المجال ـ( لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ ) .

ولم يكن اختيار الله لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمنصب النّبوة أمرا عبثا ـ والعياذ بالله ـ بل كان هذا الإختيار نابعا من علم الله بما كان يتمتع به النّبي من لياقة وكفاءة لهذا المنصب العظيم،ولنزول آيات الله عليه ـ حيث تقول الآية :( أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ) .

ويمكن ـ أيضا ـ أن تشمل هذه الآية معنى آخر ، وهو أن ما نزل على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من آيات إنّما ينبع من بحر علم الله اللامتناهي ، وإن محتوى هذه الآيات يعتبر دليلا واضحا على أنّها نابعة من علم الله ـ وعلى هذا الأساس فإن الشاهد على صدق ادعاء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الآيات القرآنية ، ولا يحتاج إلى دليل آخر لإثبات دعوته ، فلو لم يكن محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتلقى الوحي من قبل الله سبحانه وتعالى لما أمكنه أبدا ـ وهو المعروف بالأمي ـ أن يأتي بكتاب كالقرآن يشتمل على أرفع وأسمى التعاليم والفلسفات والقوانين والمبادئ الأخلاقية والبرامج الاجتماعية.

والقرآن الكريم يؤكّد أن ليس الله وحده الذي يشهد بأن دعوة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي الحق، بل يشهد معه ملائكته بأحقّية هذه الدعوة ، مع أن شهادة الله كافية وحدها في هذا المجال تقول الآية الكريمة :( وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً ) .

٥٣٧

ويجب ـ هنا ـ الانتباه إلى عدّة أمور ، وهي :

١ ـ إنّ بعض المفسّرين فهموا من عبارة( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا ) إنّها تهدف إلى بيان حقيقة من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي أنّ جميع الخصائص التي وردت في الشرائع السماوية التي نزلت على الأنبياء قبله ، جاءت مجتمعة في الشريعة التي أنزلها الله عليه ، وإنّ كل خصلة اتصف بها عباد الله الصالحون هي موجودة فيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وقد أشارت بعض الروايات الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام إلى هذا الموضوع أيضا فكان ما استلهمه المفسّرون من هذه الآية نابعا أو مستندا على تلك الروايات(١) .

٢ ـ نقرأ في الآيات الأخيرة أنّ الزّبور من الكتب السماوية أنزله الله على داود ـ ولا يتنافى هذا مع ما ورد من أنّ الأنبياء أولي العزم الذين نزلت عليهم كتب من الله هم خمسة أنبياء فقط ، حيث إن الآيات القرآنية والروايات الإسلامية توضح أن الكتب السماوية التي نزلت على الأنبياء كانت على نوعين ، هما :

النّوع الأوّل : الكتب التي اشتملت على الأحكام التشريعية ، حيث أن كل كتاب من هذه الكتب قد أعلن عن شريعة جديدة ، وأن هذه الكتب السماوية هي خمسة فقط نزلت على خمسة أنبياء هم «اولوا العزم».

النّوع الثّاني : الكتب التي لم تحتو على أحكام جديدة ، بل كان فيها الحكم والنصائح والإرشادات والوصايا وأنواع الدعاء ، وكتاب «الزّبور» الذي نزل على داودعليه‌السلام من هذا النّوع الثّاني من الكتب السماوية ـ و «مزامير داود» أو «زبور داود» الذي ورد اسمه في «العهد القديم» دليل على هذا الأمر الذي أثبتناه ، مع العلم أنّ كتاب «العهد القديم» لم يسلم من التحريف ، كما لم تسلم كتب العهد الجديد والقديم الأخرى من التحريف أيضا،إلّا أنّ ما يمكن قوله هو أنّ هذه

__________________

(١) راجع تفاسير الصافي ، ص ٣٩ ، والبرهان الجزء الأوّل ، ص ٤٢٧ ، ونور الثقلين ، الجزء الأوّل، ص ٥٧٣.

٥٣٨

الكتب قد احتفظت نوعا ما بشكلها القديم.

وكتاب «مزامير داود» يشتمل على مائة وخمسين فصلا ، يسمى كل فصل منه «مزمورا» وهو من أوّله إلى آخره يشتمل على صنوف النصح والإرشاد والدعاء والمناجاة.

ونقل عن أبي ذر رضى الله عنه أنّه سأل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن عدد الأنبياء فأجابه النّبي:بأن عددهم يبلغ مائة وأربعا وعشرين ألفا ، فسأل أبو ذر رضى الله عنه عن عدد الرسل من بين هؤلاء الأنبياء ـ فأجابه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بأن عددهم هو ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولا والباقون كلهم أنبياء فسأل أبو ذر مرة أخرى عن عدد الكتب السماوية التي نزلت على أولئك الأنبياء والرسل ، فأجابه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بأنّها مائة وأربع كتب ، نزل عشرة منها على آدم ، ونزل خمسون منها على شيث ، وثلاثون على إدريس ، وعشرة كتب على إبراهيم،حيث يصبح مجموع هذه الكتب مائة كتاب ، والأربعة الأخرى هي التوراة ، والإنجيل والزبور والقرآن(١) .

٣ ـ إنّ عبارة «أسباط» هي صيغة للجمع ومفردها «سبط» ومعناها طوائف بني إسرائيل ، ولكن المقصود منها في الآية هم الأنبياء الذين بعثوا من هذه الطوائف(٢) .

٤ ـ لقد كان نزول الوحي على الأنبياء يتمّ بصور مختلفة ، فمرّة ينزل بالوحي ملك من الملائكة المكلفين به وأحيانا يلقي الوحي على النّبي بواسطة الإلهام القلبي ، وأخرى ينزل بصورة صوت يسمعه النّبي ، أي أن الله يخلق الأمواج الصوتية في الفضاء أو الأجسام فيسمعها أنبياؤه وبهذه الواسطة كان يتمّ التخاطب بينهم وبين الله سبحانه وتعالى.

ومن الذين حظوا بمزية التخاطب مع الله النّبي موسى بن عمرانعليه‌السلام ، فكان

__________________

(١) مجمع البيان ، الجزء الأوّل ، ص ٤٧٦.

(٢) لقد ورد ذكر الأسباط بالتفصيل في الجزء الأوّل من تفسيرنا هذا.

٥٣٩

يسمع الصوت ، أحيانا من شجرة وادي الأيمن ، وأحيانا في جبل طور ، ولذلك لقب هذا النّبي بلقب «كليم الله» ، ولعل مجيء اسم النّبي موسىعليه‌السلام في الآيات الأخيرة بصورة منفصلة كان من أجل بيان هذه الخصيصة التي امتاز بها موسىعليه‌السلام على غيره من أنبياء اللهعليهم‌السلام .

* * *

٥٤٠

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710