الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل8%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 710

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 710 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 179263 / تحميل: 6443
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

ودلالته على إمامة عليّ وولده ظاهرة من وجوه :

الأوّل : إنّ تصريحه بأنّ الكتاب والعترة لا يفترقان ، دالّ على علمهم بما في الكتاب ، وأنّهم لا يخالفونه قولا وعملا.

والأوّل دليل الفضل على غيرهم ، والأفضل أحقّ بالإمامة.

والثاني دليل العصمة التي هي شرط الإمامة ، ولا معصوم غيرهم.

الثاني : إنّه جعلهم عديلا(١) للقرآن ، فيجب التمسّك بهم مثله ، واتّباعهم في كلّ أمر ونهي ، ولا يجب اتّباع شخص على الإطلاق إلّا النبيّ أو الإمام المعصوم.

الثالث : إنّه عبّر عن الكتاب والعترة ب‍ « خليفتين » ، كما في حديث الثعلبي الذي ذكره المصنّفرحمه‌الله (٢)

وحديث أحمد في « مسنده »(٣) ، عن زيد بن ثابت ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّي تارك فيكم خليفتين ، كتاب الله ، وأهل بيتي ، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ».

ومن الواضح أنّ خلافة كلّ شيء بحسبه ، فخلافة القرآن بتحمّله أحكام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومواعظه ، وإنذاره ، وسائر تعاليمه ؛ وخلافة الشخص بإمامته ، وقيامه بما تحتاج إليه الأمّة ، ونشر الدعوة ، وجهاد المعاندين.

الرابع : إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ذكر في مفتتح الحديث قرب موته ، كقوله : «يوشك أن يأتيني رسول ربّي فأجيب »(٤)

__________________

(١) العدل والعدل والعديل : النّظير والمثيل ؛ انظر : لسان العرب ٩ / ٨٤ مادّة « عدل ».

(٢) تقدّم آنفا في الصفحة ٢٣٧.

(٣) ص ١٨٢ و ١٨٩ من الجزء الخامس. منهقدس‌سره .

(٤) راجع ما تقدّم في الصفحتين ٢٣٦ و ٢٣٧.

٢٤١

أو قوله : «كأنّي قد دعيت فأجبت »(١)

أو نحو ذلك كما في أحاديث مسلم(٢) ، وأحد حديثي الحاكم(٣) ، وحديث أحمد عن زيد بن أرقم(٤) ، وحديثه عن أبي سعيد(٥) .

ثمّ قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّي تارك فيكم الثّقلين » ؛ ومن المعلوم أن ذا السلطان والولاية ، الذي له نظام يلزم العمل به بعده ، إذا ذكر موته وقال : « إنّي تارك فيكم فلانا ، وكتابا حافظا لنظامي » ، لم يفهم منه إلّا إرادة العهد إلى ذلك الشخص بالإمرة بعده ؛ خصوصا وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «من كنت مولاه فعليّ مولاه » ، أو : «من كنت وليّه فعليّ وليّه » ، كما في حديثي الحاكم وغيرهما(٦) .

ولا يبعد أنّ وصيّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بالثّقلين كانت في غدير خمّ ، أو أنّه أحد مواردها(٧) ؛ لقوله في حديث مسلم : « خطبنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) السنن الكبرى ـ للنسائي ـ ٥ / ٤٥ ح ٨١٤٨ وص ١٣٠ ح ٨٤٦٤.

(٢) صحيح مسلم ٧ / ١٢٢ و ١٢٣.

(٣) المستدرك على الصحيحين ٣ / ١١٨ ح ٤٥٧٦.

(٤) ص ٣٦٧ من الجزء الرابع. منهقدس‌سره .

(٥) ص ١٧ من الجزء الثالث. منهقدس‌سره .

(٦) المستدرك على الصحيحين ٣ / ١١٨ ح ٤٥٧٦ و ٤٥٧٧ ، المعجم الكبير ٥ / ١٦٦ ـ ١٦٧ ح ٤٩٦٩ ـ ٤٩٧١ وص ١٧١ ـ ١٧٢ ح ٤٩٨٦ ، فوائد سمّويه : ٨٤ ح ٨١.

(٧) لقد صدع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بحديث الثّقلين في مواطن متعدّدة ومواقف شتّى ، وقد أحصيت تلك المواقف فكانت خمسة ؛ مرّة يوم عرفة من حجّة الوداع ، وأخرى بعد انصرافهصلى‌الله‌عليه‌وآله من الطائف ، وتارة على منبره في المدينة ، وتارة أخرى يوم غدير خمّ ، وآخرها في حجرته المباركة في مرضه الذي توفّي فيه والحجرة غاصّة بأصحابه.

راجع تفصيل ذلك في : تشييد المراجعات وتفنيد المكابرات ١ / ١٠٤ ـ ١٠٧ ، حديث الثّقلين تواتره ، فقهه : ٣٣ ـ ٣٥.

٢٤٢

بماء يدعى خمّا »(١) ، ولقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله في بعض الأحاديث : «من كنت مولاه فعليّ مولاه »(٢) ، فإنّه صادر بالغدير ، فيكون قد عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في خمّ بالخلافة إلى أهل البيت عموما ، وإلى عليّ خصوصا ، فكان الخليفة بعده أمير المؤمنين ، ثمّ الحسنان.

وقد بيّنّا في الآية الثالثة أنّ أهل البيت لا يشمل بقيّة أقارب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله (٣) .

الخامس : قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّي تارك فيكم أمرين لن تضلّوا إن اتّبعتموهما » ، كما في أحد حديثي الحاكم ، وصحّحه على شرط الشيخين(٤)

ونحوه ما في « الصواعق »(٥) وصحّحه

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «قد تركت فيكم الثّقلين خليفتين ، إن أخذتم بهما لن تضلّوا بعدي » ، كما في حديث الثعلبي الذي ذكره المصنّفرحمه‌الله (٦)

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي » ، كما في حديث الترمذي عن زيد بن أرقم(٧)

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّي تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا » ، كما

__________________

(١) صحيح مسلم ٧ / ١٢٢ ، المعجم الكبير ٥ / ١٨٣ ح ٥٠٢٨.

(٢) المعجم الكبير ٥ / ١٦٦ ـ ١٦٧ ح ٤٩٦٩ ـ ٤٩٧١ وص ١٧١ ـ ١٧٢ ح ٤٩٨٦.

(٣) راجع : ج ٤ / ٣٥١ ـ ٣٨٠ من هذا الكتاب.

(٤) المستدرك على الصحيحين ٣ / ١١٨ ح ٤٥٧٧.

(٥) في المقام السابق [ ص ٢٣٠ ]. منهقدس‌سره .

(٦) تقدّم آنفا في الصفحة ٢٣٧.

(٧) سنن الترمذي ٥ / ٦٢٢ ح ٣٧٨٨.

٢٤٣

في حديث الترمذي عن جابر(١) ، وحديث أحمد عن أبي سعيد(٢) .

فإنّ كلّ واحد من هذه الأقوال صريح في بطلان خلافة المشايخ الثلاثة ؛ لأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله رتّب عدم ضلال أمّته دائما وأبدا على التمسّك بالثقلين.

وبالضرورة ، أنّ الضلال واقع ولو أخيرا ؛ لاختلاف الأديان وفساد الأعمال ، فيعلم أنّهم لم يتمسّكوا في أوّل الأمر بالعترة والكتاب ، وأنّ خلافة الثلاثة خلاف التمسّك بهما ، ولذا وقع الضلال.

ولا يرد النقض بأنّ الأمّة تمسّكت بالعترة ـ حين بايعت عليّاعليه‌السلام ـ ومع ذلك وقع الضلال المذكور ؛ وذلك لأنّ المراد هو التمسّك بالعترة كالكتاب بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بلا فصل.

على أنّ الأمّة لم تتمسّك بعليّعليه‌السلام بعد مبايعته ؛ لمخالفة الكثير منهم له حتّى انقضت أيّامه بحرب الأمّة.

فأين تمسّكها بالعترة؟! وأين تمسّكها بالكتاب ، وهو قد قاتلهم على تأويله؟!(٣) .

فإن قلت : لعلّ المراد : أنّكم إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا ما دمتم متمسّكين بهما ، فلا يدلّ ضلالهم أخيرا على عدم تمسّكهم أوّلا.

قلت : هذا احتمال خارج عن الظاهر ، حتّى بلحاظ قوله ـ في خبري الترمذي المذكورين ـ : «ما إن تمسّكتم به » و « ما إن أخذتم به » ؛ لأنّ « ما » فيهما مفعول به ل‍ «تركت » و «تارك » ، لا ظرفية زمانية.

__________________

(١) سنن الترمذي ٥ / ٦٢١ ح ٣٧٨٦.

(٢) ص ٥٩ من الجزء الثالث. منهقدس‌سره .

(٣) راجع : ج ٥ / ٨٥ وما بعدها من هذا الكتاب.

٢٤٤

فقد ظهر من هذه الوجوه الخمسة دلالة الحديث على أنّ الإمامة في العترة الطاهرة ، لا على مجرّد الوصيّة بأخذ العلم منهم.

ولو سلّم ، فمن الواضح دلالة الحديث على وجوب أخذ العلم منهم ، وعدم جواز مخالفتهم ، كالقرآن ، وحينئذ فيجب اتّباع قولهم في الإمامة ، وفي صحّة إمامة شخص وعدمها ؛ لأنّه من أخذ العلم منهم.

ومن المعلوم أنّ عليّا خالف في إمامة أبي بكر ـ ولو في بعض الأوقات ـ ، فتبطل ولو في الجملة ، وهذا خلاف مذهب القوم.

فكيف وقد ادّعى أنّ الحقّ له من يوم وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى حين موته هوعليه‌السلام ، وتظلّم منهم مدّة حياته ـ كما سبق(١) ـ؟!

وأيضا : لم تتّبع الأمّة عترة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في أمر الخمس والمتعتين وكثير من الأحكام ، فيكونون ضلّالا!

وما أدري متى تمسّكت الأمّة بالعترة؟!

أفي زمن أمير المؤمنين؟! أو في زمن أبنائه الطاهرين؟! وقد تركوا كلّا منهم حبيس بيته لا يسمع له قول ، ولا يتّبع له أمر ، ولا يؤخذ منه حكم.

بل جعلوا عداوتهم وسبّهم دينا ، وحاربوهم بالبصرة والشام والكوفة ، وسبوا نساءهم سبي الترك والديلم!

فهل تراهم مع هذا قد تمسّكوا بهم ، أو نبذوهم وراء ظهورهم وانقلبوا على الأعقاب ، كما ذكره سبحانه في عزيز الكتاب(٢) ؟!

__________________

(١) راجع : ج ٤ / ٢٨٠ ـ ٢٩٦ من هذا الكتاب.

(٢) كما في قوله تعالى :( وَما مُحَمَّدٌ إِلأَرَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ

٢٤٥

هذا ، ولا يخفى أنّ الحديث دالّ على بقاء العترة إلى يوم القيامة لأمور :

الأوّل : قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله فيه : «إنّي تارك فيكم الثّقلين » ؛ فإنّه دالّ على أنّه ترك فيهم ما يحتاجون إليه ، وما هو كاف في حصول حاجتهم.

وبالضرورة ، أنّه لو لم يدل الثقلان لم يكفيا ؛ لأنّ الأمّة محتاجة مدى الدهر إلى الأحكام والحكّام.

الثاني : قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا » ؛ فإنّ تأبيد عدم الضلال موقوف على تأبيد ما يتمسّك به.

الثالث : قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «لن يفترقا » ؛ فإنّه لو لم يكن في وقت من الأوقات من هو قرين الكتاب من العترة ، لافترق الكتاب عنهم.

وقد أقرّ ابن حجر في عبارته السابقة بإفادة الحديث بقاء العترة إلى يوم القيامة(١)

وقال بعد ذلك : « وفي أحاديث التمسّك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع متأهّل منهم للتمسّك به إلى يوم القيامة ، كما أنّ الكتاب العزيز كذلك ؛ ولهذا كانوا أمانا لأهل الأرض كما يأتي ، ويشهد لذلك الخبر السابق : (في كلّ خلف من أمّتي عدول من أهل بيتي ) »(٢) إلى آخره.

__________________

أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ) سورة آل عمران ٣ : ١٤٤.

(١) راجع الصفحة ٢٤٠ من هذا الجزء.

(٢) الصواعق المحرقة : ٢٣٢.

٢٤٦

أقول :

أراد بالخبر السابق ، ما نقله قبل هذا الكلام عن الملّاء في « سيرته » ، أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «في كلّ خلف من أمّتي عدول من أهل بيتي ينفون عن هذا الدين تحريف الضالّين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين ، ألا وإن أئمّتكم وفدكم إلى الله عزّ وجلّ ، فانظروا من توفدون »(١) .

وليت شعري ، إذا علم ابن حجر ذلك ، فما باله أنكر إمامة العترة ، ودان بإمامة أضدادهم ، وتمسّك بالشجرة الملعونة في القرآن؟!

وكيف حلّ له أن يترك الأخذ ممّن ينفون عن الدين تحريف الضالّين ، ويرجع في أحكامه إلى من حرّفوا الدين ، بشهادة مخالفتهم لمن ينفون عنه التحريف؟!

بل لم يكتف ابن حجر وأصحابه حتّى عيّنوا لأخذ الأحكام أئمّتهم الأربعة ، وحرّموا الرجوع إلى أهل البيت!

فهل هذا من التمسّك بالكتاب والعترة اللذين لا يفترقان إلى يوم القيامة؟!

هذا كلّه في حديث الثّقلين(٢) .

__________________

(١) الصواعق المحرقة : ٢٣١ ؛ وانظر : ذخائر العقبى : ٤٩ ، جواهر العقدين : ٢٤١ ـ ٢٤٢.

(٢) وانظر تخريج الحديث مفصّلا في : ج ٢ / ١٨٧ ه‍ ١ من هذا الكتاب.

وراجع ما كتبه السيّد عليّ الحسيني الميلاني ـ حفظه الله ورعاه ـ في الأجزاء

٢٤٧

وأمّا غيره ممّا ذكره المصنّفرحمه‌الله :

فالخبر الأوّل قد رواه أحمد(١) ، ورواه الترمذي في مناقب عليّ من « سننه » وحسّنه(٢) .

ودلالته على أنّ الإمامة في العترة الطاهرة ؛ لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ساواهم معه دون من سواهم ، في أنّ من أحبّهم نال تلك المنزلة الرفيعة والمرتبة السامية ، الدالّة على الفضل عند الله سبحانه والقرب منه.

فيثبت لهم الفضل على غيرهم ، وتكون الإمامة بهم.

ومثله في الدلالة على المطلوب الخبر الثاني ، الذي حكاه المصنّف عن أحمد ، عن جابر ؛ ولم أجده في « مسنده » ، ولا يبعد أنّه ممّا نالته يد الإسقاط كما هو العادة(٣) !

وقد تقدّم في الآية الحادية والأربعين ما يصدّق هذا الحديث(٤) .

__________________

١ ـ ٣ من موسوعته « نفحات الأزهار » ، من بحوث علمية في ما يتعلّق بالحديث وما يرتبط به.

وأمّا في ما يخصّ لفظ « كتاب الله وسنّتي » الوارد في بعض روايات الجمهور ، فانظر :

ما كتبه السيّد عليّ الحسيني الميلاني في كتابه « حديث الثّقلين : تواتره ، فقهه كما في كتب السنّة ».

ورسالته في حديث الوصيّة بالثّقلين : الكتاب والسنّة.

وكذلك ما كتبه الشيخ جلال الدين الصغير ـ حفظه الله ـ في كتابه : عصمة المعصوم عليه‌السلام وفق المعطيات القرآنية : ٢٠٥ ـ ٢٤٢.

(١) في الجزء الأوّل ، ص ٧٧. منهقدس‌سره .

(٢) سنن الترمذي ٥ / ٥٩٩ ـ ٦٠٠ ح ٣٧٣٣.

(٣) تقدّم تخريجه مفصّلا في الصفحة ٢٣٥ ه‍ ٣ من هذا الجزء ؛ فراجع!

(٤) راجع : ج ٥ / ٢٠٠ ـ ٢٠١ من هذا الكتاب.

٢٤٨

ونقل السيوطي في « اللآلئ المصنوعة » ما هو قريب منه ، عن ابن مردويه ، بسند فيه عبّاد بن يعقوب ، أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «مثلي مثل شجرة ، أنا أصلها ، وعليّ فرعها ، والحسن والحسين ثمرتها ، والشيعة ورقها ، فأيّ شيء يخرج من الطيّب إلّا الطيّب »(١) .

قال ابن الجوزي : « عبّاد ، رافضي ، يروي المناكير »(٢) .

أقول :

لا وجه لذكر حديثه في « الموضوعات » ، وإلّا لجرّ الطعن إلى صحاحهم ؛ لأنّه ممّن روى له البخاري في « صحيحه » ، وروى له الترمذي ، وابن ماجة ، ووثّقه جماعة(٣) .

__________________

(١) اللآلئ المصنوعة ١ / ٣٤٥.

(٢) الموضوعات ١ / ٣٩٧.

(٣) انظر : تهذيب الكمال ٩ / ٤٣٣ رقم ٣٠٨٨ ، ميزان الاعتدال ٤ / ٤٤ رقم ٤١٥٤ ، تهذيب التهذيب ٤ / ١٩٩ رقم ٣٢٣٩ ، تقريب التهذيب ١ / ٢٧٤ رقم ٣٢٣٩ ، هدي الساري مقدّمة فتح الباري : ٥٧٩ ، وقد وضعوا له رمز البخاري والترمذي وابن ماجة.

وعبّاد هو : أبو سعيد عبّاد بن يعقوب الأسدي الرّواجني الكوفي ، المتوفّى سنة ٢٥٠ ه‍.

ومن جملة ما تثبت به وثاقته ـ فضلا عن كونه من رجال البخاري والترمذي وابن ماجة ـ رواية كبار أعلام الجمهور ومحدّثيهم عنه ، وتوثيقهم له ؛ فقد روى عنه أبو حاتم والبزّار وابن خزيمة.

وقال عنه أبو حاتم : شيخ ، ثقة.

وقال الحاكم : كان ابن خزيمة يقول عنه : حدّثنا الثقة في روايته.

وقال الدارقطني : صدوق.

وقال إبراهيم بن أبي بكر بن أبي شيبة : لو لا رجلان من الشيعة ما صحّ لهم

٢٤٩

وليست مناكيره عندهم إلّا رواياته في فضل آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله !

قال ابن عديّ : « روى أحاديث في الفضائل أنكرت عليه » كما حكاه عنه في « ميزان الاعتدال »(١) .

وأظهر من الحديثين المذكورين في الدلالة على مذهب الإماميّة حديث الزمخشري(٢) ؛ فتبصّر واعتبر!

* * *

__________________

حديث ؛ عبّاد بن يعقوب ، وإبراهيم بن محمّد بن ميمون.

وقال الذهبي : صادق في الحديث.

وقال ابن حجر مرّة : بالغ ابن حبّان فقال : يستحقّ الترك.

وقال أخرى : رافضيّ مشهور ، إلّا أنّه كان صدوقا.

(١) ميزان الاعتدال ٤ / ٤٤ رقم ٤١٥٤ ؛ وانظر : الكامل في ضعفاء الرجال ٤ / ٣٤٨ رقم ١١٨٠.

(٢) تقدّم في الصفحة ٢٣٦ ـ ٢٣٧ ؛ فراجع!

٢٥٠

٢٦ ـ حديث الكساء

قال المصنّف ـ قدّس الله روحه ـ(١) :

السادس والعشرون : في « مسند أحمد بن حنبل » ، من عدّة طرق ، وفي « الجمع بين الصحاح الستّة » ، عن أمّ سلمة ، قالت : كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في بيتي ، فأتت فاطمة فقال : ادعي زوجك وابنيك.

فجاء عليّ وفاطمة والحسن والحسين ، وكان تحته كساء خيبري ، فأنزل الله :( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ ) يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً(٢) .

فأخذ فضل الكساء وكساهم به ، ثمّ أخرج يده فألوى بها إلى السماء وقال :هؤلاء أهل بيتي.

فأدخلت رأسي البيت وقلت : وأنا معهم يا رسول الله.

قال :إنّك إلى خير (٣) .

__________________

(١) نهج الحقّ : ٢٢٨.

(٢) سورة الأحزاب ٣٣ : ٣٣.

(٣) انظر : مسند أحمد ١ / ٣٣١ وج ٣ / ٢٥٩ و ٢٨٥ وج ٤ / ١٠٧ وج ٦ / ٢٩٢ و ٣٠٤ و ٣٢٣.

وأخرجه رزين العبدري في « الجمع بين الصحاح الستّة » من موطّأ مالك وصحيحي البخاري ومسلم وسنن أبي داود وصحيح الترمذي والنسخة الكبيرة من

٢٥١

وقد روي نحو هذا المعنى من « صحيح أبي داود »(١)

و « موطّأ مالك »(٢)

و « صحيح مسلم » في عدّة مواضع وعدّة طرق(٣) .

* * *

__________________

صحيح النسائي.

راجع : عمدة عيون صحاح الأخبار : ٨٨ ح ٣٤ و ٣٥.

(١) انظر : سنن أبي داود ٤ / ٤٣ ح ٤٠٣٢ باب في لبس الصوف والشعر!! وطالته يد الخيانة فبترت الحديث ، فلم يبق منه إلّا : « خرج رسول الله وعليه مرط مرحّل من شعر أسود » فجاء ناقص المعنى!!

(٢) عمدة عيون صحاح الأخبار : ٨٨ ـ ٨٩ ح ٣٤ و ٣٦ و ٣٧ عن « الموطّأ ».

(٣) صحيح مسلم ٧ / ١٣٠ ـ ١٣١ كتاب الفضائل / باب فضائل أهل بيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

٢٥٢

وقال الفضل(١) :

إنّ الأمّة اختلفت فيها أنّها في من نزلت؟ وظاهر القرآن يدلّ على أنّها نزلت في أزواج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وإن صدق في النقل عن « الصحاح » فكانت نازلة في آل العباء ، وهي من فضائلهم ، ولا تدلّ على النصّ بالإمامة.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ٧ / ٤٧٥.

٢٥٣

وأقول :

سبق في الآية الثالثة ما فيه تبصرة ومعتبر(١) .

وليت شعري ، كيف تكون ذاهبة الرجس ، طاهرة عند الله سبحانه ، من ضرب مثلها في الكتاب العزيز بامرأة نوح وامرأة لوط(٢) ؟!

* * *

__________________

(١) تقدّم في مبحث آية التطهير ، في ج ٤ / ٣٥٦ ـ ٣٨٠ ؛ فراجع!

(٢) إشارة إلى قوله تعالى :( ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) سورة التحريم ٦٦ : ١٠.

وراجع مبحث الآية ٣٤ ، وهي قوله تعالى :( وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ) سورة التحريم ٦٦ : ٤ ، في ج ٥ / ١٥٩ ـ ١٦٣ من هذا الكتاب.

وانظر : ج ٤ / ٣٥٩ ه‍ ٢ و ٣ من هذا الكتاب.

٢٥٤

٢٧ ـ حديث : أهل بيتي أمان لأهل الأرض

قال المصنّف ـ طاب ثراه ـ(١) :

السابع والعشرون : في « مسند أحمد بن حنبل » ، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «النجوم أمان لأهل السماء ، فإذا ذهبت ذهبوا ، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض ، فإذا ذهب أهل بيتي ، ذهب أهل الأرض »(٢) .

ورواه صدر الأئمّة موفّق بن أحمد المكّي(٣) .

وفي « مسند أحمد » : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «اللهمّ إنّي أقول كما قال أخي موسى : [ اللهمّ ] ( اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي ) (٤) ،عليّا

__________________

(١) نهج الحقّ : ٢٢٩.

(٢) أخرجه أحمد في « المسند » كما في أرجح المطالب : ٣٢٨ ؛ وانظر : فضائل الصحابة ـ لأحمد بن حنبل ـ ٢ / ٨٣٥ ح ١١٤٥ ، ينابيع المودّة ١ / ٧١ ح ١ عن عبد الله بن أحمد في « زيادات المسند ».

(٣) مقتل الحسينعليه‌السلام ١ / ١٦٢ ح ٦٥ ؛ وانظر : المعجم الكبير ٧ / ٢٢ ح ٦٢٦٠ ، نوادر الأصول ـ للحكيم الترمذي ـ ٢ / ١٠١ ، المستدرك على الصحيحين ٣ / ١٦٢ ح ٤٧١٥ ، موضّح أوهام الجمع والتفريق ٢ / ٤٦٣ رقم ٤٦١ ، فردوس الأخبار ٢ / ٣٧٩ ح ٧١٦٦ ، تاريخ دمشق ٤٠ / ٢٠ رقم ٤٦٣٠ ، ذخائر العقبى : ٤٩ ، فرائد السمطين ٢ / ٢٤١ ح ٥١٥ وص ٢٥٢ ـ ٢٥٣ ح ٥٢١ و ٥٢٢ ، مجمع الزوائد ٩ / ١٧٤ ، جواهر العقدين : ٢٥٩ ، كنز العمّال ١٢ / ١٠١ ـ ١٠٢ ح ٣٤١٨٨ ـ ٣٤١٩٠.

(٤) سورة طه ٢٠ : ٢٩.

٢٥٥

أخي( اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) (١) »(٢) .

* * *

__________________

(١) سورة طه ٢٠ : ٣١ و ٣٢.

(٢) رواه أحمد في « المسند » كما في عمدة عيون صحاح الأخبار : ٣٣٥ ح ٤٥٤ ؛ وانظر : فضائل الصحابة ـ لأحمد ـ ٢ / ٨٤٣ ـ ٨٤٤ ح ١١٥٨ ، ينابيع المودّة ١ / ٢٥٨ ح ٥ ، الدرّ المنثور ٥ / ٥٦٦ عن ابن مردويه والخطيب البغدادي ، الطيوريات : ٧٥٣ ح ٢٥ م ، شواهد التنزيل ١ / ٣٦٩ ـ ٣٧١ ح ٥١١ ـ ٥١٣ ، تاريخ دمشق ٤٢ / ٥٢ ، ذخائر العقبى : ١١٩ ، الرياض النضرة ٣ / ١١٨.

٢٥٦

وقال الفضل(١) :

هذا موافق في المعنى للحديث المذكور قبل ، وهو أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعليّ : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلّا أنّه لا نبيّ بعدي »(٢) .

ومراد موسى في قوله :( وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) ، الإشراك في أمر النبوّة ، ودعوة فرعون.

وهذا لا يصحّ هناك ؛ لقوله : «إلّا أنّه لا نبيّ بعدي » ، اللهمّ إلّا أن يراد المشاركة في دفع الكفّار بالحرب وتبليغ العلم.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ٧ / ٤٧٦.

(٢) راجع مبحث حديث المنزلة في الصفحة ٨٠ وما بعدها من هذا الجزء.

٢٥٧

وأقول :

سبق دلالة هذا الحديث ورواته في آخر آية من الآيات التي ذكرناها في الخاتمة ؛ فراجع(١) .

وما زعمه من إرادة المشاركة في دفع الكفّار وتبليغ العلم ظاهر البطلان ؛ لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إنّما سأل عين ما سأله موسىعليه‌السلام بقوله :( وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) .

ومن الواضح أنّ موسى لم يرد المشاركة في دفع الكفّار ؛ لأنّه قد طلب دفعهم بطلب جعله وزيرا ، فإنّ دفع الأعداء أظهر فوائد الوزارة ، فلا حاجة لإعادة هذا الطلب بقوله :( وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) .

فينبغي أن يريد المشاركة في النبوّة ، والرئاسة على الأمّة ، وتحمّل العلوم إلى نحو ذلك.

فإذا دعا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بما دعا به موسىعليه‌السلام ، ثبتت لعليّ المشاركة في كلّ ذلك سوى النبوّة ؛ للدليل المخرج لها.

على أنّ ظاهر الأخبار كون المشاركة من خواصّ أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فلا يراد بها المشاركة في دفع الكفّار وتبليغ العلم ؛ لأنّها لا تخصّ عليّاعليه‌السلام ، إلّا أن يراد بها أعلى مراتب المشاركة في الدفع والتبليغ ، بحيث لا يعدّ غيره مشاركا بالنسبة إليه ، فله وجه.

ولكنّه ـ أيضا ـ مثبت للمطلوب ؛ لأنّه فرع الفضل العظيم على غيره ،

__________________

(١) راجع : ج ٥ / ٤٠٨ وما بعدها من هذا الكتاب.

٢٥٨

والأفضل أحقّ بالإمامة.

وقد تقدّم في الحديث التاسع ما ينفعك ؛ فراجع(١) .

واعلم أنّ الحديث الأوّل ـ الذي حكاه المصنّفرحمه‌الله عن أحمد وموفّق بن أحمد(٢) ـ لم يتعرّض الفضل لجوابه غفلة أو تغافلا ، وقد حكاه غير المصنّف عن « المسند » ، كصاحب « ينابيع المودّة »(٣) ، وابن حجر في « الصواعق »(٤) ، كما ستعرف.

وأنا لم أجده في « المسند » بعد التتبّع ، والظاهر أنّ أيدي التلاعب لعبت في إسقاطه!

ولعلّ الحديث الآخر كذلك(٥) ، ولا ريب أنّه من أدلّ الأمور على إمامة أهل البيتعليهم‌السلام ؛ إذ لا يكون المكلّف أمانا لأهل الأرض إلّا لكرامته على الله تعالى ، وامتيازه في الطاعة والمزايا الفاضلة ، مع كونه معصوما ، فإنّ العاصي لا يأمن على نفسه ، فضلا عن أن يكون أمانا لغيره ، ولا سيّما إذا كان عظيما ، فإنّ المعصية من العظيم أعظم ، والحجّة عليه ألزم.

فإذا كانوا أفضل الناس ومعصومين ، فقد تعيّنت الإمامة لهم ، وهو دليل على بقائهم ما دامت الأرض ، كما هو مذهبنا.

وقد جعل الله تعالى هذه الكرامة العظيمة لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله قبل أهل بيته ،

__________________

(١) انظر كلامهقدس‌سره في مبحث حديث المنزلة ، في الصفحات ٨٣ ـ ٨٧ من هذا الجزء.

(٢) تقدّم آنفا في الصفحة ٢٥٥.

(٣) ينابيع المودّة ١ / ٧١ ح ١.

(٤) الصواعق المحرقة : ٢٣٤.

(٥) تقدّم آنفا في الصفحة ٢٥٥.

٢٥٩

فقال سبحانه :( وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ) (١) .

وأشار إلى ذلك ابن حجر في « صواعقه »(٢) ، فقال : « السابعة : قوله تعالى :( وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ) ، أشارصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى وجود هذا المعنى في أهل بيته ، وأنّهم أمان لأهل الأرض كما كان هوصلى‌الله‌عليه‌وآله أمانا لهم ، وفي ذلك أحاديث كثيرة ».

ثمّ ذكر أخبارا من جملتها رواية أحمد التي ذكرها المصنّفرحمه‌الله أوّلا(٣) .

وحكى في « كنز العمّال » في فضائل أهل البيت(٤) ، عن ابن أبي شيبة ، ومسدّد ، والحكيم ، وأبي يعلى ، والطبراني ، وابن عساكر ، أنّهم رووا عن سلمة بن الأكوع ، أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «النجوم أمان لأهل السماء ، وأهل بيتي أمان لأمّتي ».

وروى الحاكم في « المستدرك » ، وصحّحه(٥) ، عن ابن عبّاس ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق ، وأهل بيتي أمان لأمّتي من الاختلاف ، فإذا خالفتها قبيلة من العرب ، اختلفوا

__________________

(١) سورة الأنفال ٨ : ٣٣.

(٢) عند الكلام على الآية السابعة من الآيات الواردة في أهل البيت : [ ص ٢٣٣ ]. منهقدس‌سره .

(٣) الصواعق المحرقة : ٢٣٤ ـ ٢٣٥.

(٤) ص ٢١٧ من الجزء السادس [ ١٢ / ١٠١ ـ ١٠٢ ح ٣٤١٨٨ ]. منهقدس‌سره .

وانظر : نوادر الأصول ـ للحكيم الترمذي ـ ٢ / ١٠١ ، المعجم الكبير ٧ / ٢٢ ح ٦٢٦٠ ، تاريخ دمشق ٤٠ / ٢٠ رقم ٤٦٣٠.

أمّا في مسند أبي يعلى ١٣ / ٢٦٠ ح ٧٢٧٦ فقد جاءت لفظة « أصحابي » بدلا عن لفظة « أهل بيتي » ؛ فلاحظ!

(٥) ص ١٤٩ من الجزء الثالث [ ٣ / ١٦٢ ح ٤٧١٥ ]. منهقدس‌سره .

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

الضلال ولم يكتفوا بهذا الحدّ ، بل تمادوا في غيّهم ، فارتكبت أياديهم الآثمة جريمة كبرى ، إذ عمدوا إلى قتل الهداة والقادة إلى طريق الحق من أنبياء الله ، إيغالا منهم في اتباع طريق الباطل والابتعاد عن طريق الحق.

لقد كان هؤلاء اليهود بدرجة من العناد والصلف والوقاحة ، بحيث كانوا يواجهون كلام الأنبياء بالسخرية والاستهزاء ، ووصل بهم الأمر إلى أن يقولوا بكل صراحة أنّ قلوبهم تغطيها حجب عن سماع وقبول قول الأنبياء! تقول الآية الأولى من الآيات الأربع الأخيرة:( فَبِما نَقْضِهِمْ (١) مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ ) .

وهنا يؤكّد القرآن الكريم أنّ قلوب هؤلاء مختومة حقا ، بحيث لا ينفذ إليها أي حقّ،وسبب ذلك هو كفرهم وانعدام الإيمان لديهم ، فهم لا يؤمنون لعنادهم وصلفهم إلّا القليل منهم.

وقد تجاوز هؤلاء المجرمون الحدّ ، فالصقوا بمريم العذراء الطاهرة تهمة شنيعة وبهتانا عظيما ، هي أمّ لأحد أنبياء الله الكبار ، وذلك لأنّها حملت به بإذن الله دون أن يمسها رجل، تقول الآية في هذا المجال :( وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً ) .

وقد تباهي هؤلاء الجناة وافتخروا بقتلهم الأنبياء ، وزعموا أنّهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم رسول الله ، تقول الآية :( وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ ) ولعل هؤلاء كانوا يأتون بعبارة «رسول الله» استهزاء ونكاية ، وقد كذبوا بدعواهم هذه في قتل المسيح ، فهم لم يقتلوه ولم يصلبوه ، بل صلبوا شخصا شبيها بعيسى المسيحعليه‌السلام ، وإلى هذه الواقعة تشير الآية بقولها :( وَما قَتَلُوهُ وَما

__________________

(١) إن عبارة «فبما نقضهم» من ناحية الإعراب جار ومجرور ، ويجب أن يكون لها عامل محذوف قد يكون تقديره «لعناهم» أو جملة «حرمنا عليهم» الواردة في الآية (١٦٠) التالية ، وعلى هذا الأساس فإن ما ورد في هذا الإطار يكون بمثابة جملة معترضة ، تضفي في مثل هذه الحالة جمالا أكثر على الكلام القرآني البليغ.

٥٢١

صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ) .

وأكّدت الآية أنّ الذين اختلفوا في أمر المسيحعليه‌السلام كانوا ـ هم أنفسهم ـ في شك من أمرهم ، فلم يكن أحدهم يؤمن ويعتقد بما يقول ، بل كانوا يتبعون الأوهام والظن ، تقول الآية :( وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ ) .

وقد بحث المفسّرون حول موضوع الخلاف الوارد في هذه الآية ، فاحتمل بعضهم أن يكون الخلاف حول منزلة ومقام المسيحعليه‌السلام حيث اعتبره جمع من المسيحيين ابنا لله،ورفض البعض الآخر ـ كاليهود ـ كونه نبيّا ، وإن كل هؤلاء كانوا على خطأ من أمرهم.

وقد يكون المقصود بالخلاف هو موضوع كيفية قتل المسيحعليه‌السلام حيث قال البعض بأنّه قتل ، وقال آخرون بأنّه لم يقتل ، ولم يكن أي من هاتين الطائفتين ليثق بقول نفسه.

أو لعل الذين ادعوا قتل المسيح وقعوا في شك من هذا الأمر لعدم معرفتهم بالمسيحعليه‌السلام ، فاختلفوا في الذي قتلوه هل كان هو المسيح ، أو هو شخص غيره ...؟! ويأتي القرآن ليؤكّد هنا بأن هؤلاء لم يقتلوا المسيح أبدا ، بل رفعه الله إليه ، والله هو القادر على كل شيء ، وهو الحكيم لدى فعل أي شيء ، تقول الآية :( وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً ) .

اسطورة الصّليب؟

يؤكّد القرآن الكريم في الآية المارة الذكر على أنّ المسيحعليه‌السلام لم يقتل ولم يصلب ، بل اشتبه الأمر على اليهود فظنوا أنّهم صلبوه ، وهم لم يقتلوه أبدا!

أمّا الأناجيل الأربعة الموجودة اليوم في متناول أيدينا فهي كلها تقول بأنّ

٥٢٢

المسيحعليه‌السلام قد صلب وقتل على هذه الصورة ، وقد جاء هذا القول في الفصول الأخيرة من هذه الأناجيل الأربعة «متى ـ لوقا ـ مرقس ـ يوحنا» وبصورة تفصيلية.

والمسيحيون اليوم يعتقدون بهذا الأمر بصورة عامّة ، ومسألة الصلب أو قتل المسيحعليه‌السلام تعتبر اليوم أحد أهم المسائل الأساسية للديانة المسيحية ، ونحن نعلم أنّ المسيحيين اليوم لا يعتبرون المسيحعليه‌السلام مجرّد نبي أرسل لهداية وإرشاد البشرية ، بل يعتقدون بأنّه «ابن الله» من أركان الثالوث المقدس لديهم ، ويزعمون بأنّ هدف مجيء المسيح إلى هذا العالم ليكون قربانا يفتدي بنفسه مقابل الخطايا والآثام التي يرتكبها البشر.

فيقولون : إنّه جاء ليضحي بنفسه من أجل ذنوبهم وخطاياهم ، وقد صلب وقتل ليغسل بدمه ذنوب البشر ، ولينقذ البشرية من العقاب ، ولذلك فهم يعتقدون بأنّ طريق الخلاص والنجاة من العذاب والعقاب هو الإيمان بهذا الموضوع.

ومن هذا المنطلق فهم ـ أحيانا ـ يدعون المسيحية بدين «الإنقاذ» أو دين «الفداء» ويسمّون المسيحعليه‌السلام بـ «المنقذ» أو «المخلص» أو «الفادي».

واعتمادهم المفرط على الصليب واتخاذه شعارا لأنفسهم إنّما يرتكز على قضية القتل والصلب هذه.

كانت تلك نبذة عن عقيدة المسيحيين حول مصير المسيحعليه‌السلام .

أمّا المسلمون فلا يشك أحدهم ببطلان وزيف هذه العقيدة ، والسبب هو أنّ المسيح عيسى بن مريمعليه‌السلام ، كان نبيّا كسائر أنبياء الله أوّلا ، ولم يكن هو الله ولا ابن الله ، لأن الله واحد أحد فرد صمد لا شبيه ولا مثيل ولا زوج له ولا ولد.

وثانيا : إنّ مسألة الفداء والتضحية من أجل خطايا الآخرين ، تعتبر مسألة بعيدة عن المنطق كل البعد ، فكل إنسان يؤاخذ بجريرته وعمله ، وإنّ طريق النجاة والخلاص يكون في الإيمان والعمل الصالح فقط.

٥٢٣

وثالثا : إنّ عقيدة الفداء من أجل الخطايا تعتبر خير مشجع على الفساد وممارسة الذنوب ، وتؤدي بالبشرية إلى التلوث والهلاك.

وحين تلاحظ أن القرآن يؤكّد على قضية عدم صلب المسيحعليه‌السلام مع أنّ هذه القضية تظهر للعيان وكأنّها مسألة اعتيادية بسيطة ، من أجل دحض عقيدة الفداء الخرافية بشدّة ، لمنع المسيحيين من الإيغال في هذا الإعتقاد الفاسد ، ولكي يؤمنوا بأنّ طريق الخلاص والنجاة إنّما هو في أعمالهم هم أنفسهم وليس في ظل الصليب.

رابعا : هناك قرائن موجودة تثبت وهن وضعف قضية الإعتقاد بصلب المسيحعليه‌السلام هي :

١ ـ المعروف أنّ الأناجيل الأربعة المتداولة في الوقت الحاضر ، والتي تشهد بصلب المسيحعليه‌السلام ـ كانت قد دوّنت بعده بسنين طويلة ، وقد دوّنها حواريوه أو التالون من أنصارهعليه‌السلام ـ وهذه حقيقة يعترف بها حتى المؤرخون المسيحيون.

كما نعرف أيضا أنّ حواري المسيحعليه‌السلام قد هربوا حين هجم الأعداء عليه،والأناجيل نفسها تشهد بهذا الأمر(١) وعلى هذا الأساس فإنّ هؤلاء الحواريين قد تلقفوا مسألة صلب عيسى المسيحعليه‌السلام من أفواه الناس الآخرين ، ولم يكونوا حاضرين أثناء تنفيذ عملية الصلب ، وقد أدت التطورات التي حصلت آنذاك إلى تهيئة الأجواء المساعدة للاشتباه بشخص آخر وصلبه بدل المسيحعليه‌السلام ، وسنوضح هذا الأمر فيما يلي من حديثنا.

٢ ـ إنّ العامل الآخر الذي يجعل من الاشتباه بشخص آخر بدل المسيحعليه‌السلام أمرا محتملا هو أنّ المجموعة التي كلّفت بالقبض على عيسى المسيحعليه‌السلام والتي ذهبت إلى بستان «جستيماني» هذه المجموعة كانت تتشكل من أفراد الجيش الرومي الذين كانوا منهمكين في أمور عسكرية ، فهم لم يكونوا يعرفون اليهود

__________________

(١) لقد ترك الحواريون المسيحعليه‌السلام في ذلك الوقت وهربوا كلهم (من إنجيل متى، الإصحاح ٢٦ الجملة ٥٧).

٥٢٤

ولغتهم وتقاليدهم ، كما لم يميزوا بين حواري المسيحعليه‌السلام وبين المسيح نفسه.

٣ ـ تذكر الأناجيل أن الهجوم على مقر عيسى المسيحعليه‌السلام قد تمّ ليلا ، وبديهي أنّ ظلام الليل يعتبر خير ستار للشخص المطلوب ليتخفى به ويهرب ، وليقع شخص آخر في أيدي المهاجمين.

٤ ـ يستنتج من نصوص جميع الأناجيل أنّ المقبوض عليه قد اختار الصمت أمام «بيلاطيس» الحاكم الرومي لبيت المقدس ـ آنذاك ـ ولم يتفوه إلّا بالقليل دفاعا عن نفسه ويستبعد كثيرا أن يقع عيسى المسيحعليه‌السلام في خطر كهذا ولا يدافع عن نفسه بما يستحقه الدفاع عن النفس ، وهو المعروف بالفصاحة والبلاغة والشجاعة والشهامة.

ألا يحتمل في هذا المجال أن يكون شخص آخر ـ كـ «يهوذا الأسخربوطي» الذي خان ووشى بعيسى المسيحعليه‌السلام وكان يشبهه كثيرا ـ قد وقع هو بدل المسيح في الأسر وأنّه لهول الموقف قد استولى عليه الخوف والرعب ، فعجز عن الدفاع عن نفسه أو التحدث أمام الجلادين بشيء.

نقرأ في الأناجيل أنّ «يهوذا الأسخربوطي» لم يظهر بعد حادثة الصّلب أبدا، وأنّه ـ كما تقول هذه الأناجيل ـ قد قتل نفسه وانتحر(١) .

٥ ـ لقد بيّنا أنّ حواري المسيحعليه‌السلام ـ وكما ذكرت الأناجيل ـ قد هربوا حين أحسوا بالخطر يحدق بهم ، كما هرب واختفى الأنصار الآخرون ، وأخذوا يراقبون الأوضاع عن بعد ، بحيث أصبح الشخص المقبوض عليه وحيدا بين الجنود الرومان ، ولم يكن أي من أصحابه قريبا منه ، ولذلك لا يستبعد ولا يبدو غريبا أن يقع خطأ أو سهو في تشخيص هوية الشخص المقبوض عليه.

٦ ـ ونقرأ في الأناجيل ـ أيضا ـ أنّ الشخص المصلوب قد اشتكى من ربه

__________________

(١) إنجيل متى ، الإصحاح ٣٧ ، الجملة ٦.

٥٢٥

(وليس لربّه) لأنّه ـ بحسب قوله ـ قد جفاه وتركه بأيدي الأعداء ليقتلوه(١) !

فلو صدقنا مقولة أنّ المسيح جاء لهذه الدنيا ليصلب ولينقذ بصلبه البشرية من عواقب خطاياهم وآثامهم ، فلا يليق لمن يحمل هدفا ساميا كهذا الهدف أن يصدر منه هذا الكلام،وهذا دليل على أن الشخص المصلوب لم يكن المسيح نفسه ، بل كان إنسانا ضعيفا وجبانا ، وعاجزا ، ومثل هذا الإنسان يمكن أن يصدر منه كلام كالذي سبق ، لا يمكن أن يكون هذا الإنسان هو المسيحعليه‌السلام (٢) .

٧ ـ لقد نفت بعض الأناجيل الموجودة مثل إنجيل «برنابا» قضية صلب المسيحعليه‌السلام (وهذا الإنجيل هو غير الأناجيل الأربعة التي يقبلها المسيحيون) كما أنّ بعضا من الطوائف المسيحية أبدت شكوكها حول قضية الصلب(٣) وقد ذهب بعض الباحثين إلى أبعد من هذا ، فادعوا بأن التاريخ قد ذكر شخصين باسم «عيسى» أحدهما عيسى المصلوب والآخر هو عيسى غير المصلوب وبينهما فاصل زمني يقدر بخمسمائة عام(٤) .

كانت تلك مجموعة من القرائن المؤيدة لقول القرآن الكريم في قضية الشبه الحاصل في قتل أو صلب المسيحعليه‌السلام .

* * *

__________________

(١) إنجيل متى ـ الإصحاح ٢٧ ، الجملتان ٤٦ و ٤٧.

(٢) لقد اقتبسنا عددا من القرائن المذكورة أعلاه من كتاب «بطل الصليب».

(٣) تفسير المنار ، الجزء السابع ، ص ٣٤.

(٤) الميزان ، الجزء الثّالث ، ص ٣٤٥.

٥٢٦

الآية

( وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً(١٥٩) )

التّفسير

هنالك احتمالان في تفسير هذه الآية ، وكل واحد منهما جدير بالملاحظة من جوانب متعددة :

١ ـ إنّ الآية تؤكّد أنّ أي إنسان يمكن أن لا يعتبر من أهل الكتاب ما لم يؤمن قبل موته بالمسيحعليه‌السلام حيث تقول :( وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) . وأن هذا الأمر يتمّ حين يشرف الإنسان على الموت وتضعف صلته بهذه الدنيا ، وتقوى هذه الصلة بعالم ما بعد الموت ، وترفع عن عينيه الحجب فيرى بعد ذلك الكثير من الحقائق ويدركها ، وفي هذه اللحظة يرى المسيح بعين بصيرته ويؤمن به ، فالذين أنكروا نبوته يؤمنون به ، والذين وصفوه بالألوهية يدركون في تلك اللحظة خطأهم وانحرافهم.

وبديهي أنّ مثل هذا الإيمان لا ينفع صاحبه ، كما أنّ فرعون والأقوام الأخرى وأقوام استولى عليهم العذاب ، فقالوا : آمنا فلم ينفعهم إيمانهم أبدا ، فالأجدر بالإنسان أن يؤمن قبل أن تدركه لحظة العذاب عند الموت ، حين لا ينفع الإيمان صاحبه.

٥٢٧

وتجدر الإشارة ـ هنا ـ إلى أنّ الضمير في عبارة «قبل موته» يعود لأهل الكتاب بناء على التّفسير الذي ذكرناه.

٢ ـ قد يكون المقصود في الآية هو أنّ جميع أهل الكتاب يؤمنون بعيسى المسيح قبل موته ، فاليهود يؤمنون بنبوته والمسيحيون يتخلون عن الإعتقاد بربوبية المسيحعليه‌السلام ، ويحدث هذا ـ طبقا للروايات الإسلامية ـ حين ينزل المسيحعليه‌السلام من السماء لدى ظهور المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه ، وواضح أن عيسى المسيح سيعلن في مثل هذا اليوم انضواءه تحت راية الإسلام ، لأن الشريعة السماوية التي جاء بها إنّما نزلت قبل الإسلام ، ولذلك فهي منسوخة به.

وبناء على هذا التّفسير فإن الضمير في عبارة «قبل موته» يعود إلى عيسى المسيحعليه‌السلام .

وقد نقل عن النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «كيف بكم إذا نزل فيكم ابن مريم وإمامكم منكم»(١) وطبيعي أنّ هذا التّفسير يشمل اليهود والمسيحيين الموجودين في زمن ظهور المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف ، ونزول عيسى المسيحعليه‌السلام من السماء.

وجاء في تفسير «علي بن إبراهيم» نقلا عن «شهر بن حوشب» إنّ الحجاج ذكر يوما أن هناك آية في القرآن قد أتبعته كثيرا وهو حائر في معناها ، فسأله «شهر» عن الآية ، فقال الحجاج : إنّها آية( وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ) وذكر أنّه قتل يهودا ومسيحيين ولم يشاهد فيهم أثرا لمثل هذا الإيمان.

فأجابه «شهر» بأنّ تفسيره للآية لم يكن تفسيرا صحيحا ، فاستغرب الحجاج وسأل عن التّفسير الصحيح للآية.

فأجاب «شهر» بأنّ تفسير الآية هو أن المسيح ينزل من السماء قبل نهاية العالم،فلا يبقى يهودي أو غير يهودي إلّا ويؤمن بالمسيح قبل موته ، وأن المسيح

__________________

(١) مسند أحمد ، وصحيح البخاري ، وصحيح مسلم ، وسنن البيهقي ، كما جاء في تفسير الميزان.

٥٢٨

سيقيم الصّلاة خلف المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف.

فلما سمع الحجاج هذا الكلام قال لـ «شهر» ويلك من أين جئت بهذا التّفسير؟فأجابه «شهر» بأنّه قد سمعه من محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالبعليهم‌السلام .

وعند ذلك قال الحجاج : «والله جئت بها من عين صافية»(١) .

وتقول الآية في الختام :( وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) أي شهادة المسيحعليه‌السلام على قومه بأنّه قد بلّغهم رسالة الله ولم يدعهم لاتّخاذه إلها من دون الله ، بل دعاهم إلى الإقرار بربوبية الله الواحد القهار.

سؤال :

وقد يعترض البعض بأنّ المسيحعليه‌السلام ـ كما جاء في الآية (١١٧) من سورة المائدة ـ إنّما يقصر شهادته على الزمن الذي كان هو موجودا فيه بين قومه ويتنصل عن الشهادة بالنسبة للأزمنة التي جاءت بعده ، وذلك بدلالة الآية التي جاءت على لسانه وهي تقول:( وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) لكن الآية التي هي موضوع بحثنا الآن تدل على أنّ المسيحعليه‌السلام يشهد على الجميع يوم القيامة ، سواء أولئك الذين كانوا في عصره وزمانه أو الذين لم يكونوا في ذلك الزمان.

الجواب :

والجواب على هذا الاعتراض هو أنّنا لو أمعنا النظر في مضمون الآيتين المذكورتين،لرأينا أنّهما تدلان على أنّ الآية الأخيرة التي هي موضوع البحث ـ تتحدث عن الشهادة حول تبليغ الرسالة ونفي الألوهية عن المسيحعليه‌السلام بينما الآية (١١٧) من سورة المائدة تشهد على أعمال أولئك القوم.

فالآية الأخيرة تذكر أنّ عيسى المسيحعليه‌السلام سيشهد على جميع الذين نسبوا

__________________

(١) تفسير البرهان ، الجزء الأوّل ، ص ٤٢٦.

٥٢٩

له الألوهية ، سواء من كانوا في زمانه أو من جاءوا بعد ذلك الزمان ، وأن المسيحعليه‌السلام يؤكّد أنّه لم يدع هؤلاء القوم إلى مثل هذا الأمر أبدا ، بينما الآية (١١٧) من سورة المائدة تذكر على لسان المسيحعليه‌السلام أنّه علاوة على الدعوة لرسالته بالأسلوب الصحيح ، فهو قد حال طيلة فترة بقائه بين قومه ـ دون انحرافهم ، إلّا أنّهم انحرفوا بعده ونسبوا له الألوهية في زمن لم يكن هو موجودا بينهم ، ليشهد على أعمالهم وليحول دون انحرافهم.

* * *

٥٣٠

الآيات

( فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً (١٦٠) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦١) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (١٦٢) )

التّفسير

مصير الصالحين والطالحين من اليهود :

لقد أشارت الآيات السابقة إلى نماذج من انتهاكات اليهود ، أما الآيات الأخيرة فإنما ذكرت نماذج أخرى من تلك الانتهاكات ، وبيّنت العقوبات التي استحقها اليهود بسبب تمردهم وعصيانهم ، والعذاب الذي لا قوه وسيلاقوه نتيجة لذلك في الدنيا والآخرة.

فالآية الأولى من الآيات الأخيرة تبيّن أنّ الله قد حرم بعضا من الأشياء الطاهرة على اليهود بسبب ممارستهم الظلم والجور ، وتصديهم للسائرين في

٥٣١

طريق الله ، حيث تقول الآية :( فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً ) كما عاقبهم الله بالحرمان من تلك الطيبات لتعاملهم بالربا على الرغم من منعهم من ممارسة المعاملات الربوية ولاستيلائهم على أموال الآخرين بطرق غير مشروعة ، فتقول الآية في هذا المجال :( وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ ) .

وتؤكّد الآية أنّ عذاب اليهود لمعاصيهم تلك لا يقتصر على العقاب الدنيوي ، بل سيذيقهم الله ـ أيضا ـ عقاب وعذاب الآخرة الأليم الذي يشمل الكافرين من اليهود،تقول الآية الكريمة :( وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً ) .

وتجدر الإشارة ـ هنا إلى عدة أمور ، وهي :

١ ـ إنّ المقصود بالطيبات المحرمة على اليهود هي تلك التي ذكرتها الآية (١٤٦) من سورة الأنعام ، والتي شملت بعض الحيوانات وشحوم حيوانات أخرى كالبقر والأغنام التي أحبّها اليهود ، ولم يكن هذا التحريم تحريما تكوينيا ، بل كان تحريما تشريعيا قانونيا ، أي أن اليهود منعوا من استعمال هذه النعم مع أنّها كانت متيسرة في أيديهم.

وقد جاء ذكر بعض هذا التحريم في التوراة المتداولة بيد اليهود حاليا ، في «سفر الآويين» في الفصل الحادي عشر ، ولكن لم تشر التوراة الحالية إلى الطابع العقابي لهذا التحريم(١) .

٢ ـ أمّا هل أنّ هذا التحريم يتميز بطابع شمولي ، أي هل يشمل غير الظالمين من اليهود ، أم يخص الظالمين وحدهم؟ فإنّ ظاهر الآية المذكورة أعلاه والآية (١٤٦) من سورة الأنعام ، يدلان على أنّ التحريم له طابع عام بدلالة عبارة «لهم» على عكس العقاب الأخروي الذي تخصصه الآية( لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ ) وعلى هذا الأساس فإن هذا التحريم له طابع عقابي بالنسبة للظالمين من اليهود ، كما يحمل

__________________

(١) راجع الجزء الثّاني من تفسيرنا هذا.

٥٣٢

طابع الاختبار والامتحان بالنسبة لأخيارهم الذين يشكلون الأقلية فيهم.

وقد ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ هذا التحريم يشمل الظالمين من اليهود فقط ، كما تدل بعض الروايات على هذا الرأي ـ أيضا ـ فقد جاء في تفسير البرهان في تفسير الآية (١٤٦) من سورة الأنعام ، نقلا عن الإمام الصّادقعليه‌السلام : «إنّ زعماء بني إسرائيل كانوا قد حرموا على فقراء طائفتهم أكل لحوم الطيور وشحوم الحيوانات ، ولهذا السبب حرم الله على هؤلاء الظالمين مثل هذه الطيبات عقابا لهم على ظلمهم وجورهم(١) ».

٣ ـ وتدل هذه الآية ـ أيضا ـ على أنّ تشريع تحريم «الربا» لم يقتصر على الإسلام وحده ، بل كان محرما لدى الأقوام والديانات السابقة ، والتوراة المتداولة حاليا والمحرفة إنّما تحرم على اليهود أخذ الربا من أبناء عقيدتهم فقط ، ولا تعتبر أخذه من أبناء الديانات الأخرى حراما عليهم(٢) .

وقد أشارت الآية الثّالثة من الآيات الأخيرة إلى حقيقة مهمّة اعتمدها القرآن الكريم مرارا في آيات متعددة ، وهي أنّ ذمّ اليهود وانتقادهم في القرآن لا يقومان على أساس عنصري أو طائفي على الإطلاق ، لأنّ الإسلام لم يذم أبناء أي طائفة أو عنصر لانتمائهم الطائفي أو العرقي ، بل وجه الذم والانتقاد للمنحرفين والضالمين منهم فقط ، لذلك استثنت هذه الآية المؤمنين الأتقياء من اليهود ومدحتهم وبشرتهم بنيل أجر عظيم ، حيث تقول الآية الكريمة :( لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً ) (٣) .

__________________

(١) تفسير البرهان ، الجزء الأوّل ، ص ٥٥٩.

(٢) التوراة ، سفر التثنية ، الفصل ٢٣ ، الجملتان ١٩ و ٢٠.

(٣) لقد شرحنا بنوع من التفصيل ، معنى عبارة «الراسخون في العلم» وذلك في الجزء الثّاني من تفسيرنا هذا.

٥٣٣

وقد آمن جمع من كبار الطائفة اليهودية بالإسلام حين بعث النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحين شاهدوا على يديه الكريمتين دلائل أحقّيّة الإسلام ، ودافع هؤلاء بأرواحهم وأموالهم عن الإسلام ، وكانوا موضع احترام وتقدير النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسائر المسلمين.

٥٣٤

الآيات

( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (١٦٣) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً (١٦٤) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٦٥) لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (١٦٦) )

التّفسير

لقد تناولت الآيات السابقة مسألة التمييز الذي مارسه اليهود بشأن الأنبياء ، حيث كانوا يؤمنون ويصدقون ببعض أنبياء الله تعالى ويكفرون بالبعض الآخر منهم.

أمّا الآيات أعلاه فهي ترد على اليهود ، وتؤكّد أنّ الله أوحى إلى نبيّه محمّداصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما أنزل الوحي على أنبيائه نوح والنّبيين الذين جاؤوا من بعد نوح ، وكما أوحى إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوبعليهم‌السلام وأنزل الوحي على

٥٣٥

الأنبياء من أبناء يعقوب ، وعلى عيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمانعليهم‌السلام ، وكما أنزل الله على داودعليه‌السلام كتاب الزّبور ، حيث تقول الآية :( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً ) .

وهذه الآية تردّ على اليهود مؤكّدة على أنّ شرائع الأنبياء العظام مستقاة كلها من ينبوع الوحي الإلهي ، وإنّهم جميعا يسيرون في طريق واحد ، ولذلك لا تجوز التفرقة بينهم.

وقد تكون هذه الآية خطابا للمشركين والكفار من عرب الجاهلية ، الذين كانوا يظهرون الدهشة والعجب من نزول الوحي على نبي الإسلام محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهي تردّ على هؤلاء مؤكّدة أن لا عجب في نزول الوحي على محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد نزل قبل ذلك على الأنبياء السابقين.

ثمّ تبيّن الآية أنّ الوحي لم يقتصر نزوله على هؤلاء الأنبياء ، بل نزل على أنبياء آخرين حكى الله قصصهم للنّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قبل ، وأنبياء لم يحك الله قصصهم ، وكل هؤلاء الأنبياء أرسلهم الله إلى خلقه ، وأنزل عليهم الوحي من عنده ، تقول الآية :( وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ) .

وتبيّن هذه الآية في آخرها قضية مهمّة جدّا ، وهي أنّ الله قد كلم موسى بدل أن ينزل عليه الوحي ، فتقول :( وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً ) .

وعلى هذا الأساس فإنّ صلة الوحي ظلت باقية بين البشر ، ولم يكن من عدل الله أن يترك البشر دون مرشد أو قائد ، أو أن يتركهم دون أن يعين لهم واجباتهم وتكاليفهم ، وهو الذي بعث الأنبياء والرسل للبشر مبشرين ومنذرين ، لكي يبشروا الناس برحمته وثوابه،وينذرونهم من عذابه وعقابه لكي يتمّ الحجة عليهم فلا يبقى لهم عذر أو حجّة ، تقول الآية :( رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا

٥٣٦

يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) .

فقد أحكم الله العزيز القدير خطّة إرسال الأنبياء ونفذها بكل دقة ، وبهذا تؤكد الآية( وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً ) فحكمته توجب تحقيق هذا العمل ، وقدرته تمهد السبيل إلى تنفيذه ، وعلى عكس ذلك فإن إهمال هذا الأمر المهم ، إمّا أن يدل على الافتقار إلى الحكمة والمعرفة ، أو أنّه دلالة على العجز ، والله منزّه عن كل هذه العيوب.

أمّا الآية الأخرى فهي تطمئن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتوضح له أن المهم هو أنّ الله قد شهد بما أنزل عليه من كتاب ، وليس المهم أن يؤمن نفر من هؤلاء بهذا الكتاب أو يكفروا به ـ فتؤكد الآية في هذا المجال ـ( لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ ) .

ولم يكن اختيار الله لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمنصب النّبوة أمرا عبثا ـ والعياذ بالله ـ بل كان هذا الإختيار نابعا من علم الله بما كان يتمتع به النّبي من لياقة وكفاءة لهذا المنصب العظيم،ولنزول آيات الله عليه ـ حيث تقول الآية :( أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ) .

ويمكن ـ أيضا ـ أن تشمل هذه الآية معنى آخر ، وهو أن ما نزل على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من آيات إنّما ينبع من بحر علم الله اللامتناهي ، وإن محتوى هذه الآيات يعتبر دليلا واضحا على أنّها نابعة من علم الله ـ وعلى هذا الأساس فإن الشاهد على صدق ادعاء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الآيات القرآنية ، ولا يحتاج إلى دليل آخر لإثبات دعوته ، فلو لم يكن محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتلقى الوحي من قبل الله سبحانه وتعالى لما أمكنه أبدا ـ وهو المعروف بالأمي ـ أن يأتي بكتاب كالقرآن يشتمل على أرفع وأسمى التعاليم والفلسفات والقوانين والمبادئ الأخلاقية والبرامج الاجتماعية.

والقرآن الكريم يؤكّد أن ليس الله وحده الذي يشهد بأن دعوة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي الحق، بل يشهد معه ملائكته بأحقّية هذه الدعوة ، مع أن شهادة الله كافية وحدها في هذا المجال تقول الآية الكريمة :( وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً ) .

٥٣٧

ويجب ـ هنا ـ الانتباه إلى عدّة أمور ، وهي :

١ ـ إنّ بعض المفسّرين فهموا من عبارة( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا ) إنّها تهدف إلى بيان حقيقة من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي أنّ جميع الخصائص التي وردت في الشرائع السماوية التي نزلت على الأنبياء قبله ، جاءت مجتمعة في الشريعة التي أنزلها الله عليه ، وإنّ كل خصلة اتصف بها عباد الله الصالحون هي موجودة فيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وقد أشارت بعض الروايات الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام إلى هذا الموضوع أيضا فكان ما استلهمه المفسّرون من هذه الآية نابعا أو مستندا على تلك الروايات(١) .

٢ ـ نقرأ في الآيات الأخيرة أنّ الزّبور من الكتب السماوية أنزله الله على داود ـ ولا يتنافى هذا مع ما ورد من أنّ الأنبياء أولي العزم الذين نزلت عليهم كتب من الله هم خمسة أنبياء فقط ، حيث إن الآيات القرآنية والروايات الإسلامية توضح أن الكتب السماوية التي نزلت على الأنبياء كانت على نوعين ، هما :

النّوع الأوّل : الكتب التي اشتملت على الأحكام التشريعية ، حيث أن كل كتاب من هذه الكتب قد أعلن عن شريعة جديدة ، وأن هذه الكتب السماوية هي خمسة فقط نزلت على خمسة أنبياء هم «اولوا العزم».

النّوع الثّاني : الكتب التي لم تحتو على أحكام جديدة ، بل كان فيها الحكم والنصائح والإرشادات والوصايا وأنواع الدعاء ، وكتاب «الزّبور» الذي نزل على داودعليه‌السلام من هذا النّوع الثّاني من الكتب السماوية ـ و «مزامير داود» أو «زبور داود» الذي ورد اسمه في «العهد القديم» دليل على هذا الأمر الذي أثبتناه ، مع العلم أنّ كتاب «العهد القديم» لم يسلم من التحريف ، كما لم تسلم كتب العهد الجديد والقديم الأخرى من التحريف أيضا،إلّا أنّ ما يمكن قوله هو أنّ هذه

__________________

(١) راجع تفاسير الصافي ، ص ٣٩ ، والبرهان الجزء الأوّل ، ص ٤٢٧ ، ونور الثقلين ، الجزء الأوّل، ص ٥٧٣.

٥٣٨

الكتب قد احتفظت نوعا ما بشكلها القديم.

وكتاب «مزامير داود» يشتمل على مائة وخمسين فصلا ، يسمى كل فصل منه «مزمورا» وهو من أوّله إلى آخره يشتمل على صنوف النصح والإرشاد والدعاء والمناجاة.

ونقل عن أبي ذر رضى الله عنه أنّه سأل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن عدد الأنبياء فأجابه النّبي:بأن عددهم يبلغ مائة وأربعا وعشرين ألفا ، فسأل أبو ذر رضى الله عنه عن عدد الرسل من بين هؤلاء الأنبياء ـ فأجابه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بأن عددهم هو ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولا والباقون كلهم أنبياء فسأل أبو ذر مرة أخرى عن عدد الكتب السماوية التي نزلت على أولئك الأنبياء والرسل ، فأجابه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بأنّها مائة وأربع كتب ، نزل عشرة منها على آدم ، ونزل خمسون منها على شيث ، وثلاثون على إدريس ، وعشرة كتب على إبراهيم،حيث يصبح مجموع هذه الكتب مائة كتاب ، والأربعة الأخرى هي التوراة ، والإنجيل والزبور والقرآن(١) .

٣ ـ إنّ عبارة «أسباط» هي صيغة للجمع ومفردها «سبط» ومعناها طوائف بني إسرائيل ، ولكن المقصود منها في الآية هم الأنبياء الذين بعثوا من هذه الطوائف(٢) .

٤ ـ لقد كان نزول الوحي على الأنبياء يتمّ بصور مختلفة ، فمرّة ينزل بالوحي ملك من الملائكة المكلفين به وأحيانا يلقي الوحي على النّبي بواسطة الإلهام القلبي ، وأخرى ينزل بصورة صوت يسمعه النّبي ، أي أن الله يخلق الأمواج الصوتية في الفضاء أو الأجسام فيسمعها أنبياؤه وبهذه الواسطة كان يتمّ التخاطب بينهم وبين الله سبحانه وتعالى.

ومن الذين حظوا بمزية التخاطب مع الله النّبي موسى بن عمرانعليه‌السلام ، فكان

__________________

(١) مجمع البيان ، الجزء الأوّل ، ص ٤٧٦.

(٢) لقد ورد ذكر الأسباط بالتفصيل في الجزء الأوّل من تفسيرنا هذا.

٥٣٩

يسمع الصوت ، أحيانا من شجرة وادي الأيمن ، وأحيانا في جبل طور ، ولذلك لقب هذا النّبي بلقب «كليم الله» ، ولعل مجيء اسم النّبي موسىعليه‌السلام في الآيات الأخيرة بصورة منفصلة كان من أجل بيان هذه الخصيصة التي امتاز بها موسىعليه‌السلام على غيره من أنبياء اللهعليهم‌السلام .

* * *

٥٤٠

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710