الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٣

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 710

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 710
المشاهدات: 164406
تحميل: 5413


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 710 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 164406 / تحميل: 5413
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 3

مؤلف:
العربية

الشرعية إن جلب حيّا ، وإن مات الحيوان قبل دركه فلحمه حلال وإن لم يذبح.

وأخيرا أشارت الآية الكريمة إلى شرطين آخرين من شروط تحليل مثل هذا النوع من الصيد.

أوّلهما : أن لا يأكل كلب الصيد من صيده شيئا ، حيث قالت الآية :( فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ) .

وعلى هذا الأساس فإن الكلاب لو أكلت من الصيد شيئا قبل إيصاله إلى صاحبها،وتركت قسما آخر منه ، فلا يحل لحم مثل هذا الصيد ويدخل ضمن حكم( ما أَكَلَ السَّبُعُ ) الذي ورد في الآية السابقة ، ومثل هذا الكلب الذي يأكل الصيد لا يعتبر في الحقيقة كلبا مدربا ، كما لا يعتبر ما تركه من الصيد مصداقا لعبارة( مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ) لأنّه في هذه الحالة يكون (أي الكلب) قد صاد لنفسه (لكن بعض الفقهاء لم يروا في هذا الموضوع شرطا ، مستندين إلى روايات وردت في مصادر الحديث وذكرتها كتب الفقه بالتفصيل).

ومجمل القول هو أن كلاب الصيد يجب أن تدرب بحيث لا تأكل من الصيد الذي تمسكه.

والأمر الثّاني : هو ضرورة ذكر اسم الله على الصيد بعد أن يتركه الكلب ، حيث قالت الآية :( وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ ) .

ولكي تضمن الآية رعاية الأحكام الإلهية ـ هذه ـ كلها ، أكّدت في الختام قائلة:( وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ ) داعية إلى الخوف من الله العزيز القدير ، ومن حسابه السريع(1) .

* * *

__________________

(1) لقد شرحنا معنى جملة «سريع الحساب» في الجزء الثّاني من تفسيرنا هذا.

٦٠١

الآية

( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5) )

التّفسير

حكم طعام أهل الكتاب وحكم الزّواج بهم :

تناولت هذه الآية ، التي جاءت مكملة للآيات السابقة ، نوعا آخر من الغذاء الحلال ، فبيّنت أنّ كل غذاء طاهر حلال ، وإن غذاء أهل الكتاب حلال للمسلمين،وغذاء المسلمين حلال لأهل الكتاب ، وحيث قالت الآية :( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ ) .

وتشتمل هذه الآية الكريمة على أمور نجلب الالتفات إليها ، وهي :

1 ـ إنّ المراد بكلمة «اليوم» الواردة في هذه الآية هو يوم «عرفة» بناء على ما اعتقده بعض المفسّرين ، وقد ذهب مفسرون آخرون إلى أنّ المراد هو اليوم

٦٠٢

الذي تلا فتح خيبر ـ ولا يبعد ـ أن يكون هو نفس «يوم غدير خم» الذي تحقق فيه النصر الكامل للمسلمين على الكفار (وسنتاول هذا الموضوع بالشرح قريبا).

2 ـ لقد تناولت هذه الآية قضية تحليل الطيبات مع أنّها كانت حلالا قبل نزول الآية والهدف من ذلك هو أن تكون هذه القضية مقدمة لبيان حكم «طعام أهل الكتاب».

3 ـ ما هو المقصود بـ «طعام أهل الكتاب» الذي اعتبرته الآية حلالا على المسلمين؟

يعتقد أغلب مفسّري علماء السنة أن «طعام أهل الكتاب» يشمل كل أنواع الطعام، سواء كان من لحوم الحيوانات المذبوحة بأيدي أهل الكتاب أنفسهم أو غير ذلك من الطعام ، بينما تعتقد الأغلبية الساحقة من مفسّري الشيعة وفقهائهم أنّ المقصود من «طعام أهل الكتاب» هو غير اللحوم المذبوحة بأيدي أهل الكتاب ، إلّا أن هناك القليل من علماء الشيعة ـ أيضا ـ ممن يقولون بصحة النظرية الأولى التي اتبعها أهل السنة.

وتؤكد رأي غالبية الشيعة ـ في هذا المجال ـ الروايات العديدة الواردة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام .

فقد جاء في تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام الصّادقعليه‌السلام أنّه قال في هذه الآية:«عني بطعامهم ها هنا الحبوب والفاكهة غير الذبائح التي يذبحون ، فإنه لا يذكرون اسم الله عليها».

ووردت روايات عديدة أخرى في هذا المجال في الجزء السادس عشر من كتاب وسائل الشيعة في الباب 51 من أبواب الأطعمة والأشربة ، في الصفحة 371.

وبالإمعان في الآيات السابقة يتبيّن أن التّفسير الثّاني ذهبت إليه الأكثرية من مفسّري الشيعة وفقهائهم (تفسير الطعام بغير الذبيحة) هو أقرب إلى الحقيقة من

٦٠٣

التّفسير الأوّل.

وذلك ـ كما أوضح الإمام الصّادقعليه‌السلام في الرواية التي أوردناها أعلاه ـ لأنّ أهل الكتاب لا يراعون الشروط الإسلامية في ذبائحهم ، فهم لا يذكرون اسم الله على الذبيحة،ولا يوجهونها صوب القبلة أثناء ذبحها ، كما أنّهم لا يلتزمون برعاية الشروط الأخرى ـ فهل يعقل أن تحرم الآية السابقة ـ وبصورة صريحة ـ لحم الحيوان المذبوح بهذه الطريقة،وتأتي آية أخرى بضدها لتحلله؟!

وترد على الذهن في هذا المجال أسئلة نلخصها فيما يلي :

1 ـ لو كان المقصود بالطعام سائر الأغذية ما عدا لحوم ذبائح أهل الكتاب ، فإنّ هذه الأغذية كانت حلالا من قبل ، ولا فرق بين وجودها في أيدي أهل الكتاب أو غيرهم،فهل كان شراء الحبوب والغلات من أهل الكتاب قبل نزول هذه الآية شيئا مخالفا للشرع ، في حين أن المسلمين كانوا دائما يتعاطون مع أهل الكتاب شراء وبيع هذه الأشياء؟!

إذا توجهنا إلى نقطة أساسية في الآية الكريمة ، يتوضح لنا بجلاء جواب هذا السؤال،فالآية الأخيرة ـ هذه ـ نزلت في زمن كان للإسلام فيه السلطة الكاملة على شبه الجزيرة العربية وقد أثبت الإسلام وجوده في كل الساحات والميادين على طول هذه الجزيرة وعرضها ، بحيث أنّ أعداء الإسلام قد تملكهم اليأس التام لعجزهم عن دحر المسلمين،ولذلك اقتضت الضرورة ـ في مثل هذا الظرف المناسب للمسلمين ـ أن ترفع القيود والحدود التي كانت مفروضة قبل هذا في مجال مخالطة المسلمين لغيرهم ، حيث كانت هذه القيود تحول دون تزاور المسلمين مع الغير.

لذلك نزلت هذه الآية الكريمة وأعلنت تخفيف قيود التعامل والمعاشرة مع أهل الكتاب، بعد أن ترسخت قواعد وأساس الحكومة الإسلامية ، ولم يعد هناك ما يخشى منه من جانب غير المسلمين ، فسمحت الآية بالتزاور بين المسلمين

٦٠٤

وغيرهم ، وأحلت طعام بعضهم لبعض كما أحلت التزواج فيها بينهم (ولكن على أساس الشروط التي سنبيّنها).

جدير بالقول أنّ الذين لا يرون طهارة أهل الكتاب يشترطون أن يكون طعامهم خاليا من الرطوبة أو البلل ، وإذا كان الطعام رطبا يشترط أن لا تكون أيادي أهل الكتاب قد مسته لكي يستطيع المسلمين تناول هذا الطعام ، كما يرى هؤلاء عدم جواز تناول طعام أهل الكتاب إن لم تتوفر الشروط المذكورة فيه.

إلّا أنّ مجموعة أخرى من العلماء الذين يرون طهارة أهل الكتاب ، لا يجدون بأسا في تناول الطعام مع أهل الكتاب والحلول ضيفا عليهم ، شرط أن لا يكون طعامهم من لحوم ذبائحهم وأن يحصل اليقين من براءته من نجاسة عرضية (كأن يكون قد تنجس باختلاطه أو ملامسته للخمرة أو الجعة «ماء العشير»).

وخلاصة القول : إنّ الآية ـ موضوع البحث ـ جاءت لترفع الحدود والقيود السابقة الخاصّة بمعاشرة أهل الكتاب ، والدليل على ذلك هو إشارة الآية لإباحة طعام المسلمين لأهل الكتاب ، أي السماح للمسلمين باستضافتهم ، كما تتطرق الآية بعد ذلك مباشرة إلى حكم التزاوج بين المسلمين وأهل الكتاب (أي الزواج بنساء أهل الكتاب).

وبديهي أنّ النظام الذي يمتلك السيطرة الكاملة على أوضاع المجتمع ، هو وحده القادر على إصدار مثل هذا الحكم لمصلحة أتباعه دون أن يساوره أي قلق بسبب الأعداء،وقد ظهرت هذه الحالة في الحقيقة في يوم غدير خم ، أو في يوم عرفة في حجّة الوداع كما اعتقده البعض ، أو بعد فتح خيبر ، مع أن يوم غدير خم هو الأقرب إلى هذا الموضوع.

أورد صاحب تفسير المنار في كتابه اعتراضا آخر في تفسير هذه الآية ، حيث يقول بأنّ كلمة «طعام» وردت في كثير من آيات القرآن بمعنى كل أنواع الطعام ، وهي تشمل اللحوم أيضا ، فكيف يمكن تقييد الآية بالحبوب والفواكه

٦٠٥

وأمثالها؟ ، ثمّ يقول بأنّه طرح هذا الاعتراض في مجلس كان يضم جمعا من الشيعة فلم يجب أحد عليه.

وباعتقادنا نحن أنّ جواب اعتراض صاحب كتاب المنار واضح ، فنحن لا ننكر أنّ لفظة «طعام» تحمل مفهوما واسعا ، إلّا أنّ ما ورد في الآيات السابقة ، كبيان أنواع اللحوم المحرمة ـ وبالأخص لحوم الحيوانات التي لم يذكر اسم الله عليها لدى ذبحها ـ إنّما يخصص هذا المفهوم الواسع ويحدد كلمة «طعام» في الآية بغير اللحوم ، ولا ينكر أحد أن كل عام أو مطلق قابل للتخصيص والتقييد ، كما نعلم أنّ أهل الكتاب لا يلتزمون بذكر اسم الله على ذبائحهم ، ناهيك على أنّهم لا يراعون ـ أيضا ـ الشروط الواردة في السنّة في مجال الذبح.

وجاء في كتاب «كنز العرفان» حول تفسير هذه الآية اعتراض آخر خلاصته أن كلمة «طيبات» لها مفهوم واسع ، وهي «عامّة» بحسب الاصطلاح ، بينما جملة( وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ) خاصّة ، وطبيعي أنّ ذكر الخاص بعد العام يجب أن يكون لسبب ، ولكن السبب في هذا المجال غير واضح ، ثمّ يرجو صاحب الكتاب من الله أن يحل له هذه المعضلة العلمية(1) .

إنّ جواب هذا الاعتراض يتّضح أيضا ممّا قلناه سابقا بأنّ الآية إنّما جاءت بعبارة( أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ) كمقدمة من أجل بيان رفع القيود في التقارب مع أهل الكتاب،فالحقيقة أنّ الآية تقول بأنّ كل شيء طيب هو حلال للمسلمين ، وبناء على هذا فإن طعام أهل الكتاب (إذ كان طيبا وطاهرا) هو حلال أيضا للمسلمين ـ وأن الحدود والقيود التي كانت تقف حائلا دون تقارب المسلمين مع أهل الكتاب قد رفعت أو خففت في هذا اليوم بعد الانتصارات التي أحرزها المسلمون فيه ، (فليمعن النظر في هذا).

__________________

(1) كنز العرفان ، ج 2 ، ص 312.

٦٠٦

حكم الزّواج بغير المسلمات :

بعد أن بيّنت هذه الآية حلية طعام أهل الكتاب تحدثت عن الزواج بالنساء المحصنات من المسلمات ومن أهل الكتاب ، فقالت بأنّ المسلمين يستطيعون الزّواج بالنساء المحصنات من المسلمات ومن أهل الكتاب ، شرط أن يدفعوا لهن مهورهن ، حيث تقول الآية:( وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) على أن يكون التواصل بوسيلة الزّواج المشروع وليس عن طريق الزنا الصريح ، ولا عن طريق المعاشرة الخفية ، حيث تقول الآية :( مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ ) (1) .

وهذا الجزء من الآية الكريمة يقلل في الحقيقة الحدود التي كانت مفروضة على الزواج بين المسلمين وغيرهم ، ويبيّن جواز زواج المسلم بالمرأة الكتابية ضمن شروط خاصّة.

وقد اختلف فقهاء المسلمين في أنّ جواز الزواج بالمرأة الكتابية هل ينحصر بالنوع المؤقت من الزّواج ، أو يشمل النوعين : الدائم والمؤقت؟

لا يرى علماء السنّة فرقا بين نوعي الزواج في هذا المجال ، ويعتقدون بأنّ الآية عامّة،بينما يعتقد جمع من علماء الشيعة أنّ الآية مقتصرة على الزواج المؤقت ، وتؤيّد روايات وردت عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام هذا الرأي أيضا.

والقرائن الموجودة في الآية يمكن أن تكون دليلا على هذا القول.

وأوّل هذه القرائن هو قوله تعالى :( إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ ) ولو أن لفظة «الأجر» تطلق على المهر في نوعي الزواج الدائم والمؤقت ، إلّا أنّها غالبا ما ترد لبيان المهر في الزواج المؤقت ، أي أنّها تناسب هذا الأخير أكثر.

__________________

(1) لقد أوضحنا في هذا الجزء من تفسيرنا هذا في تفسير الآية (25) من سورة النساء ، أنّ كلمة «أخذان» جمع «خدن» وهي تعني في الأصل الصديق ، وعادة ما تطلق على الصداقة السرية غير الشرعية مع الجنس الآخر.

٦٠٧

أمّا القرينة الثّانية فهي قوله تعالى :( غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ ) فهي تتلاءم أكثر مع الزواج المؤقت ، لأنّ الزواج الدائم ليس فيه شبه الزنا أو الصداقة السرية لكي ينهى عنه ، بينما يشتبه بعض السذج من الناس ـ أحيانا ـ في الزواج المؤقت فيخلطون بينه وبين الزنا والصداقة السرية غير المشروعة مع المرأة.

أضف إلى ذلك كلّه ورد هذه التعابير في الآية (25) من سورة النساء ، وكما نعلم فإنّ تلك الآية نزلت في شأن الزواج المؤقت.

مع ذلك كلّه فإنّ هناك العديد من الفقهاء ممن يجيزون الزواج بالكتابيات بصورة مطلقة ، ولا يرون القرائن المذكورة المذكورة كافية لتخصيص الآية ، كما يستدلون في هذا المجال ببعض الروايات «للاطلاع على تفاصيل أكثر في المجال يجدر الرجوع إلى كتب الفقه».

ولا يخفى علينا ما شاع في عالم اليوم من تقاليد الجاهلية بصورة مختلفة ، ومن ذلك انتخاب الرجل أو المرأة خليلا من الجنس الآخر وبصورة علنية ، وقد تمادى إنسان عالم اليوم أكثر من نظيره الجاهلي في التحلل والخلاعة والمجون الجنسي ، ففي حين كان الإنسان الجاهلي ينتخب الأخلاء سرّا وفي الخفاء ، أصبح إنسان اليوم لا يرى بأسا من إعلان هذا الأمر والتباهي به بكل صلف ووقاحة ، ويعتبر هذا التقليد المشين نوعا صريحا ومفضوحا من الفحشاء وهدية مشؤومة انتقلت من الغرب إلى الشرق وأصبحت مصدرا للكثير من النكبات والكوارث.

ولا يفوتنا أن نوضح هذه النقطة وهي أن الآية أجازت تناول طعام أهل الكتاب كما أجازت إطعامهم وفق الشروط التي ذكرت ، بينما في قضية الزواج أجازت فقط الزواج بنساء أهل الكتاب ، ولم تجز للنساء المسلمات الزواج بالرجال من أهل الكتاب.

٦٠٨

وفلسفة هذا الأمر جلية واضحة لا تحتاج إلى الشرح والتفصيل ، لأنّ النساء بما يمتلكنه من عواطف ومشاعر رقيقة يكن أكثر عرضة لاكتساب أفكار أزواجهنّ ، من الرجال.

ولكي تسد الآية طريق إساءة استغلال موضوع التقارب والمعاشرة مع أهل الكتاب والزواج من المرأة الكتابية على البعض من ضعاف النفوس ، وتحول دون الانحراف إلى هذا الأمر بعلم أو بدون علم ، حذرت المسلمين في جزئها الأخير فقالت :( وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ ) .

وهذه إشارة إلى أنّ التسهيلات الواردة في الآية بالإضافة إلى كونها تؤدي إلى السعة ورفع الحرج عن حياة المسلمين ، يجب أن تكون ـ أيضا ـ سببا لتغلغل الإسلام إلى نفوس الأجانب ، لا أن يقع المسلمون تحت نفوذ وتأثير الغير فيتركوا دينهم ، وحيث سيؤدي بهم هذا الأمر إلى نيل العقاب الإلهي الصارم الشديد.

وهناك احتمال آخر في تفسير هذا الجزء من الآية نظرا لبعض الروايات الواردة وسبب النّزول المذكور ، وهو أن نفرا من المسلمين أعلنوا ـ بعد نزول هذه الآية وحكم حلية طعام أهل الكتاب والزواج بالكتابيات ـ استياءهم من تطبيق هذه الأحكام ، فحذرتهم الآية من الاعتراض على حكم الله ومن الكفر بهذه الحكم ، وأنذرتهم بأنّ أعمالهم ستذهب هباء وستكون عاقبتهم الخسران.

* * *

٦٠٩

الآية

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) )

التّفسير

تطهير الجسم والرّوح :

لقد تناولت الآيات السابقة بحوثا متعددة عن الطيبات الجسمانية والنعم المادية ، أمّا الآية الأخيرة فهي تتحدث عن الطيبات الروحية وما يكون سببا لطهارة الرّوح والنفس الإنسانية ، فقد بيّنت هذه الآية أحكاما مثل الوضوء والغسل والتيمم ، التي تكون سببا في صفاء وطهارة الروح الإنسانية ـ فخاطبت المؤمنين في البداية موضحة أحكام الوضوء بقولها :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا

٦١٠

قُمْتُمْ (1) إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) .

لم توضّح الآية مناطق الوجه التي يجب غسلها في الوضوء ، لكن الروايات التي وردت عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام قد بيّنت بصورة مفصلة طريقة الوضوء التي كانت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعمل بها.

1 ـ إنّ حدود الوجه طولا من منابت الشعر على الجبهة حتى منتهى الذقن ، وعرضا ما يقع من الوجه بين الأصبع الوسطى والإبهام ـ وهذا هو ما يسمّى ويفهم من الوجه عرفا، لأنّ الوجه هو ذلك الجزء من الجسم الذي يواجه الإنسان لدى التلاقي مع نظيره.

2 ـ لقد ذكرت الآية حدود ما يجب غسله من اليدين في الوضوء ، فأشارت إلى أنّ الغسل يكون حتى المرفقين ـ وقد جاء التصريح بالمرفقين في الآية لكي لا يتوهم بأنّ الغسل المطلوب هو للرسغين كما هو العادة في غسل الأيدي.

ويتبيّن من هذا التوضيح أنّ كلمة «إلى» الواردة في الآية هي لمجرّد بيان حد الغسل وليست لبيان أسلوبه كما التبس على البعض ، حيث ظنوا أنّ المقصود في الآية هو غسل اليدين ابتداء من أطراف الأصابع حتى المرفقين (وراج هذا الأسلوب لدى جماعات من أهل السنة).

ولتوضيح هذا الأمر نقول : أنّه حين يطلب إنسان من صباغ أن يصبغ جدار غرفة من حد ارضيتها لغاية متر واحد ، فالمفهوم من ذلك أنّه لا يطلب أن يبدأ

__________________

(1) وردت روايات عديدة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام تؤكّد أنّ المراد بجملة «قمتم» هو القيام من النوم ، حيث لدى الإمعان في محتويات الآية يتأكد لنا هذا الأمر أيضا ، لأن الجمل التالية التي تبين فيها الآية حكم التيمم قد وردت فيها عبارة( أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ ) ، فلو كانت الآية تبيّن في بدايتها حكم جميع من ليسوا على وضوء ، فإن عطف الجملة الأخيرة ـ وبالأخص ـ بحرف «أو» لا يتلاءم وظاهر هذه الآية ، لأنّ المقصود فيها يدخل ضمن عنوان من هو ليس على وضوء أيضا. أمّا إذا كان الآية في بدايتها تتكلم بصورة خاصة عن الذين يقومون من النوم ، أي أنها تبيّن فقط ما أصطلح عليه بـ «حدث النوم» فإن الجملة المذكورة تصبح مفهومة بشكل تام.

٦١١

الصباغ عمله من تحت إلى فوق ، بل إنّ ذكر هذه الحدود هو فقط لبيان المساحة المراد صبغها لا أكثر ولا أقل ، وعلى هذا الأساس فإن الآية أرادت من ذكر حدود اليد بيان المقدار الذي يجب غسله منها لا أسلوب وكيفية الغسل.

وقد شرحت الروايات الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام أسلوب الغسل وفق سنّة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو غسل اليدين من المرفق حتى أطراف الأصابع.

ويجب الانتباه إلى أنّ المرفق ـ أيضا ـ يجب غسله أثناء الوضوء ، لأن الغاية في مثل هذه الحالات تدخل ضمن المغيّى ، أي أن الحدّ يدخل في حكم المحدود(1) .

3 ـ إنّ حرف (ب) الوارد مع عبارة «برؤوسكم» في الآية يعني التبعيض ، كما صرّحت به بعض الروايات وأيده البعض من علماء اللغة ، والمراد بذلك بعض من الرأس، أي مسح بعض من الرأس حيث أكدت روايات الشيعة أنّ هذا البعض هو ربع الرأس من مقدمته ، فيجب مسح جزء من هذا الربع حتى لو كان قليلا باليد ، بينما الرائج بين البعض من طوائف السنّة في مسح كل الرأس وحتى الأذنين لا يتلاءم مع ما يفهم من هذه الآية الكريمة.

4 ـ إنّ اقتران عبارة «أرجلكم» بعبارة «رؤوسكم» دليل على أنّ الأرجل يجب أن تمسح هي ـ أيضا ـ لا أن تغسل ، وما فتح اللام في «أرجلكم» إلّا لأنّها معطوفة محلا على «رؤوسكم» وليست معطوفة على «وجوهكم»(2) .

5 ـ تعني كلمة «كعب» في اللغة النتوء الظاهر خلف الرجل ، كما تعني ـ أيضا ـ

__________________

(1) لقد ذكر «سيبويه» الذي هو من مشاهير علماء اللغة العربية أنّه متى ما كان الشيء الوارد بعد (إلى) والشيء الوارد قبلها من جنس واحد ، ويدخل هذا (المابعد) في الحكم ـ أمّا لو كانا من جنسين مختلفين فيعتبر خارجا عن الحكم ـ فلو قيل : أمسك إلى آخر ساعة من النهار ، يكون المفهوم من هذه الجملة أن الإمساك يشمل الساعة الأخيرة أيضا ، بينما لو قيل : أمسك إلى أول الليل فإن أوّل الليل لا يدخل ضمن حكم الإمساك (المنار ، ج 6 ، ص 223).

(2) ليس هناك من شك بأنّ عبارة «وجوهكم» تفصلها مسافة كبيرة نسبيا عن عبارة «أرجلكم» لذلك يستبعد أن تكون الأخيرة معطوفة على «وجوهكم» ، إضافة إلى ذلك فإنّ الكثير من القراء قد قرءوا عبارة «أرجلكم» بكسر اللام.

٦١٢

المفصل الذي يربط مشط الرجل بالساق(1) .

بعد ذلك كله بيّنت الآية حكم الغسل عن جنابة حيث قالت :( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ) والواضح أنّ المراد من جملة «فاطّهروا» هو غسل جميع الجسم ، لأنّه لو كان المراد جزءا خاصا منه لاقتضى ذكر ذلك الجزء ، وعلى هذا الأساس فإنّ العبارة المذكورة تعني جميع الجسم ـ وقد جاء حكم مشابه لهذا الحكم في الآية (43) من سورة النساء حيث تقول:( حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) .

إنّ كلمة «جنبا» ـ وكما أوضحنا سابقا في الجزء الثّالث من تفسيرنا هذا ، لدى تفسير الآية (43) من سورة النساء ـ مصدر ، وقد وردت بمعنى اسم الفاعل ، وتعني في الأصل «المتباعد» أو «البعيد» لأنّ الجذر الأصلي هو «جنابة» بمعنى «بعد»،وسبب إطلاق هذا اللفظ على الإنسان المجنب لأن هذا الإنسان يجب عليه أن يبتعد عن الصلاة والتوقف في المساجد وأمثالها.

وتطلق هذه الكلمة «جنب» على المفرد والجمع والمذكر والمؤنث ، وإطلاق «جار الجنب» على البعيد هو لنفس المناسبة.

ويمكن أن يستدل من الآية التي تدعو المجنب إلى الاغتسال قبل الصّلاة على أن غسل الجنابة يجزئ ، وينوب عن الوضوء أيضا.

* * *

ومن ثمّ بادرت الآية إلى بيان حكم التيمم حيث قالت :( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً

__________________

(1) لقد ذكر القاموس ثلاثة معان للكعب وهي : النتوء الظاهر خلف الرجل ، والمفصل ، والنتوئين البارزين على جانبي الرجل ـ وقد بينت السنة الشريفة أن المراد في الآية ليس النتوآت المذكورات ولكن العلماء اختلفوا في هل أن المراد هو النتوء البارز خلف الرجل أو هو المفصل؟ ـ وعلى أي حال ـ فإن الاحتياط يوجب أن يكون المسح حتى المفصل.

٦١٣

فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ) .

وهنا يجب الالتفات إلى أن جملتي( أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ ) و( أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ ) هما ـ كما أشرنا سابقا ـ معطوفتان على بداية الآية ، أي على جملة :( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ) فالآية أشارت في البداية حقيقة إلى قضية النوم ، وتطرقت في آخرها إلى نوعين آخرين من موجبات الوضوء والغسل.

أمّا لو عطفنا الجملتين على جملة( عَلى سَفَرٍ ) فسنواجه مشكلتين في هذه الآية وهما أوّلا : إنّ عودة الإنسان بعد التخلي لا يمكن أن تكون كحالة المرض أو السّفر فلا تناظر بين تلك وهاتين الحالتين ، لذلك ترانا مضطرين إلى أن نأخذ حرف «أو» الوارد في الآية بمعنى الواو العاطفة (وأكّد هذا الأمر جمع من المفسّرين) وهذا خلاف لظاهر الآية.

بالإضافة إلى ذلك فإنّ ذكر التغوط بصورة خاصّة من بين كل موجبات الوضوء سيبقى بدون مبرر ، لكننا لو فسّرنا الآية بالصورة التي قلناها سابقا فلا يبقى بعد ذلك مبرر لهذين الاعتراضين الأخيرين ، (ومع أنّنا اعتبرنا في تفسير الآية (43) من سورة النساء)،وجريا على ما فعله الكثير من المفسّرين ، اعتبرنا كلمة «أو» بمعنى الواو العاطفة،إلّا أنّ الذي ذكرناه مؤخرا ـ هنا ـ يعتبر أقرب إلى القبول من ذلك.

أمّا الموضوع الآخر فهو تكرار موضوع الجنابة مرّتين في هذه الآية ، ويحتمل أن يكون هدف هذا التكرار هو التأكيد على هذه القضية ، أو قد تكون كلمة «جنبا» الواردة بمعنى الجنابة التي تحدث أثناء النوم أو بسبب الاحتلام ، بينما المراد من جملة( أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ ) هو الجنابة الحاصلة نتيجة المقاربة الجنسية بين الرجل والمرأة ، وإذا فسّرنا كلمة «قمتم» الواردة في الآية بالقيام من النوم (كما ورد في روايات أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام وأيضا اشتملت الآية على قرينة بهذا الخصوص) يكون تفسيرنا هذا تأييدا للمعنى الذي أوردناه بخصوص تكرار موضوع الجنابة.

٦١٤

لقد بيّنت الآية ـ بعد ذلك ـ أسلوب التيمم بصورة إجمالية فقالت :( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ) والواضح هنا هو أنّ المراد ليس حمل شيء من التراب ومسح الوجه واليدين به ، بل أنّ المقصود هو ضرب الكفين على تراب طاهر ثمّ مسح الوجه واليدين بهما ، لكن بعض الفقهاء استدلوا بعبارة «منه» الموجودة في الآية وقالوا بضرورة أن يلاصق الكفين شيء ولو قليل من التراب(1) .

بقيت مسألة أخيرة في هذا المجال ، وهي مسألة معنى كلمتي( صَعِيداً طَيِّباً ) فقد ذهب الكثير من علماء اللغة إلى أنّ لكلمة «صعيد» معنيين هما التراب أوّلا ، أو كل شيء يغطي سطح البسيطة أي الكرة الأرضية ثانيا ، سواء كان ترابا أو صخرا أو حصى أو حجرا أو غير ذلك من الأشياء ، وقد أدى هذا إلى حصول اختلاف في آراء الفقهاء حول الشيء الذي يجوز التيمم به ، هل هو التراب وحده أو أنّ الحجر والرمل وأمثالهما ـ أيضا ـ يجوز التيمم بهما؟

وحين نرجع إلى الأصل اللغوي لكلمة «صعيد» الذي يدل على «الصعود والارتفاع» فإن المعنى الثّاني لهذه الكلمة يبدو أقرب إلى الذهن.

وتطلق كلمة «طيب» على الأشياء التي تلائم الطبع والذوق الإنساني ، وقد أطلق القرآن الكريم هذه الكلمة في موارد كثيرة مثل : «البلد الطيب» و «مساكن طيبة» و «ريح طيبة» و «حياة طيبة» وغيرها وكذلك فإنّ كل شيء طاهر يعتبر طيبا ، لأنّ طبع الإنسان ينفر من الأشياء النجسة المدنّسة ، ومن هذا نستدل على أنّ تراب التيمم يجب أن يكون ترابا طاهرا أيضا.

وقد أكّدت الروايات الواردة إلينا عن أئمّة الإسلامعليهم‌السلام على هذا الموضوع

__________________

(1) لقد أوضحنا في تفسير الآية (43) من سورة النساء ، بصورة مفصلة ، أحكام التيمم وفلسفتها الإسلامية وكيف أن التيمم لا يعتبر مغايرا للوقاية الصحيّة ، بل فيه جانب وقائي صحي أيضا ، وكذلك حول معنى «غائط» وقضايا أخرى فليراجع

٦١٥

بصورة متكررة ، ونقرأ واحدة من هذه الروايات وهي تقول : «نهى أمير المؤمنين أن يتيمم الرجل بتراب من أثر الطريق»(1) .

والجدير بالنظر أنّ عبارة «التيمم» الواردة في القرآن والحديث بمعنى التكليف الشرعي الذي مضى الحديث عنه ، جاءت في اللغة بمعنى «القصد» والقرآن الكريم يقرر أنّ الإنسان لدى قصد التيمم عليه أن يختار قطعة طاهرة من الأرض من بين القطعات المختلفة للتيمم منها. قطعة ينطبق عليها مفهوم «الصعيد» معرضة للأمطار والشمس والرياح،وبديهي أن تكون قبل اتخاذهما للتيمم مثل هذه القطعة من الأرض التي لم تتعرض لوطء الأقدام ، فيها الصفات التي تستوعبها كلمة «طيب» وعندئذ فإن هذه القطعة من الأرض ـ بالإضافة إلى كونها لا تضرّ بالصحّة ـ تكون أيضا ـ وكما أسلفنا لدى تفسيرنا للآية (43) من سورة النساء ـ ذات أثر أيضا في قتل الجراثيم والميكروبات ، كما يؤكّده العلماء من ذوي الإختصاص في هذا المجال.

فلسفة الوضوء والتيمم :

لقد تناولنا فلسفة التيمم بالبحث بصورة وافية في الآية (43) من سورة النساء ، أمّا بالنسبة لفلسفة الوضوء فالشيء الذي لا يختلف عليه اثنان ، هو أنّ للوضوء فائدتين واضحتين :

إحداهما صحية والأخرى أخلاقية معنوية ، فغسل الوجه واليدين في اليوم خمس مرّات أو على الأقل ثلاث مرات ، لا يخفى أثره في نظافة الإنسان وصحته ، أمّا الفائدة الأخلاقية المعنوية فهي في الأثر التربوي الذي يخلفه قصد التقرّب إلى الله في نفس الإنسان حين يعقد النيّة للوضوء بالأخصّ حين ندرك أنّ المفهوم النفسي للنية يعني أن حركة الإنسان أثناء الوضوء والتي تبدأ من الرأس

__________________

(1) وسائل الشيعة ، ج 2 ، ص 969.

٦١٦

وتنتهي بالقدمين ـ هي خطوات في طاعة الله.

ونقرأ في رواية عن الإمام علي بن موسى الرّضاعليه‌السلام قوله : «إنّما أمر بالوضوء وبدئ به لأن يكون العبد طاهرا إذا قام بين يدي الجبار عند مناجاته إيّاه ، مطيعا له فيما أمره نقيا من الأدناس والنجاسة ، مع ما فيه من ذهاب الكسل ، وطرد النعاس ، وتزكية الفؤاد للقيام بين يدي الجبار»(1) .

وتتوضح فلسفة الوضوء أكثر في الحديث عن فلسفة الغسل ، والذي سنتناوله فيما يلي :

فلسفة الغسل :

قد يسأل البعض لما ذا أمر الإسلام بغسل كامل الجسم لدى حصول «الجنابة» في حين أن عضوا معينا واحدا يتلوث أو يتسخ في هذه الحالة؟

فهل هناك فرق بين البول الخارج من ذلك العضو ، وبين «المني» الخارج منه أثناء الجنابة بحيث يجزي غسل العضو وحده في حالة التبول ، بينما يجب غسل الجسم كله بعد خروج المني من العضو؟

لهذا السّؤال جوابان ، مجمل ومفصل ، وهما كما يلي : فالجواب المجمل يتلخص في أن خروج المني من الإنسان لا ينحصر أثره في العضو الذي يخرج منه ، أي أنّه ليس كالبول والفضلات الأخرى.

والدليل على هذا القول هو تأثر الجسم كله أثناء خروج المني من العضو بحيث تطرأ على خلايا الجسم كلها حالة من الاسترخاء والخمول ، وهذه الحالة هي الدليل على تأثير الجنابة على أجزاء الجسم كلها ، وقد أظهرت بحوث العلماء المتخصصين ـ في هذا المجال ـ أن هناك سلسلتين عصبيتين نباتيتين في جسم الإنسان ، هما السلسلة السمبثاوية (الأعصاب المحركة) والسلسلة شبه

__________________

(1) وسائل الشيعة ، ج 1 ، ص 257.

٦١٧

السمبثاوية (الاعصاب الكابحة) تمتدان في كافة أجزاء الجسم وأجهزته الداخلية ، وتتولى السلسلة السمبثاوية تحفير أجهزة الجسم على العمل وتسريع عملها ، بينما السلسلة شبه السمبثاوية تعمل عكس الأولى ، فتحدّ عمل أجهزة الجسم وتبطئها فالأولى تلعب دور جهاز دفع البنزين في السيارة من أجل تحريكها والأخرى يكون دورها دور الكابح فيها لإيقافها عن الحركة ، وبالتوازن الحاصل في عمل هاتين السلسلتين العصبيتين تعمل جمع أجهزة جسم الإنسان بصورة متوازنة أيضا.

وقد تحدث في جسم الإنسان ـ أحيانا ـ فعاليات تعيق استمرار هذا التوازن فيطغى عمل أحد السلسلتين العصبيتين على عمل الجملة الأخرى ، ومن هذه الفعاليات وصول الإنسان إلى الذروة في اللذة الجنسية ، أي ما يسمى بحالة «الأوركازم» التي تقترن بخروج المني من عضو الإنسان ، وفي هذه الحالة يطغى عمل السلسلة العصبية شبه السمبثاوية الكابح على عمل السلسلة العصبية الأخرى التي هي السمبثاوية الدافعة فيختل التوازن بصورة سلبية في جسم الإنسان ، وقد ثبت بالتجربة أن الشيء الذي يمكنه إعادة التوازن بين عمل تلك السلسلتين العصبيتين ، هو وصول الماء إلى جسم الإنسان ، ولما كانت حالة «الأوركازم» التي يصل إليها الإنسان لدى «الجنابة» تؤثر بصورة محسوسة على أجهزة جسم الإنسان وتخل بتوازن السلسلتين العصبيتين المذكورتين ، لذلك أمر الإسلام بأن يباشر الإنسان غسل كل جسمه بعد كل مقاربة جنسية ، أو لدى خروج «المني» منه ، حيث يعود بهذا الغسل التوازن بين عمل السلسلتين العصبيتين السمبثاوية وشبه السمبثاوية في كل أجزاء الجسم ، فتعود لها حالتها الطبيعية في الحركة والحياة(1) .

__________________

(1) ونقرأ في رواية عن الإمام الثامن علي بن موسى الرضاعليه‌السلام قوله : «إنّ الجنابة خارجة من كل جسده فلذلك

٦١٨

وبديهي أنّ فائدة الغسل لا تنحصر في الذي تحدثنا عنه قبل قليل ، بل أنّ الغسل يعتبر أيضا نوعا من العبادة التي لها آثار أخلاقية لا تنكره ، ولهذا السبب يبطل الغسل إن لم يكن مقترنا بنيّة الطاعة والتقرب إلى الله سبحانه ، لأنّ الحقيقة هي أنّ الجسم والروح كليهما يتأثران أثناء خروج «المني» من الإنسان أو لدى حصول المقاربة الجنسية ـ فالروح تجر بذلك وراء الشهوات المادية ويدفع الجسم إلى حالة الخمول والركود.

وغسل الجنابة يعتبر غسلا للجسم بما يشمله من عملية إيصال الماء إلى جميع أجزائه،ويعتبر غسلا للروح بما يحتويه من نية الطاعة والتقرب إلى الله ، أي أنّ لهذا الغسل أثرين مادي وروحي ، يدفع الأثر المادي منه الجسم إلى استعادة حالة النشاط والفعالية،ويدفع الأثر الروحي الإنسان للتوجه إلى الله وإلى المعنويات.

أضف إلى ذلك كلّه أنّ وجوب غسل الجنابة في الإسلام هو أيضا من أجل إبقاء جسم الإنسان المسلم طاهرا ، كما هو رعاية للجانب الصحي في حياة الإنسان ، وقد يوجد الكثير من الناس ممن لا يعتنون بنظافة أجسامهم لكن هذا الأمر والواجب الإسلامي يجبرهم على غسل أجسامهم بين فترة وأخرى ولا يقتصر التهاون في غسل الجسم على إنسان العهود القديمة ، بل حتى في عصرنا الحاضر هناك الكثير ممن لا يعتنون بغسل أجسامهم ، بل يتهاونون في هذا الأمر الحياتي المهم (وطبيعي أن حكم غسل الجنابة حكم عام ، وقانون كلي يشمل حتى الشخص الذي غسل جسمه قبل حصول الجنابة بقليل).

إنّ الجوانب الثلاثة المذكورة فيما سبق ـ توضح بمجموعها سبب وجوب الغسل لدى خروج المني من الإنسان سواء كان في أثناء النوم أو اليقظة وكذلك

__________________

وجب عليه تطهير جسده كله» وفي هذه الرواية إشارة للبحث الذي تناولناه أعلاه ـ من وسائل الشيعة ، ج 1 ، ص 466.

٦١٩

بعد المقاربة الجنسية (حتى لو لم تؤد إلى خروج المني).

وقد أوضحت الآية ـ في آخرها ـ أنّ الأوامر الإلهية ليس فيها ما يحرج الإنسان أو يوجد العسر له ، بل إنها أوامر شرعت لتحقق فوائد ومنافع معينة للناس ، فقالت الآية( ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) .

وتؤكد هذه العبارات القرآنية الأخيرة أنّ جميع الأحكام والأوامر الشرعية الإلهية والضوابط الإسلامية هي في الحقيقة لمصلحة الناس ولحماية منافعهم ، وليس فيها أي هدف آخر ، وإنّ الله يريد بالأحكام الأخيرة الواردة في الآية ـ موضوع البحث ـ أن يحقق للإنسان طهارته الجسمانية والروحية معا.

ويجب هنا الانتباه إلى أن جملة( ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ) مع أنّها وردت في أواخر الآيات التي اشتملت على أحكام الغسل والوضوء والتيمم ، إلّا أنّها تبيّن قانونا عامّا معناه أنّ أحكام الله ليست تكاليف شاقّة أبدا ، ولو كان في أي حكم شرعي العسر والحرج لأي فرد لسقط التكليف عن هذا الفرد بناء على الاستثناء الوارد في الجملة القرآنية الأخيرة من الآية موضوع البحث ، ولهذا لو كان الصوم يشكل مشقة وعناء على أي فرد بسبب مرض أو شيخوخة أمّا ما شابه ذلك ، لسقط أداؤه عن هذا الفرد وارتفع التكليف عنه ، بناء على هذا الدليل نفسه.

ولا يخفى ـ أيضا ـ أنّ هناك من الأحكام الإلهية ما يظهر فيها الصعوبة والمشقة بذاتها مثل حكم الجهاد ، إلّا أنّه ولدى مقارنة المصالح التي تتحقق بالجهاد مع الصعوبات والمشاق التي فيه ، تترجح كفة المصالح وأهميتها فلا تكون المشاق أمامها شيئا يذكر ، وقد سمي القانون الذي أثبتته الجملة القرآنية الأخيرة بقانون «لا حرج» وهو مبدأ أساسي يستخدمه الفقهاء في أبواب مختلفة ويستنبطون منه أحكاما كثيرة.

* * *

٦٢٠