الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 611

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 611 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 139163 / تحميل: 6821
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٤

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

الآيتان

( قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٦٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩) )

سبب النّزول

جاء في تفسير «مجمع البيان» وتفسير القرطبي ، عن ابن عباس قال : جاء جماعة من اليهود إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : ألست تقرّ بأن التّوراة من عند الله؟

قال : «بلى».

قالوا : فإنّا نؤمن بها ولا نؤمن بما عداها (وفي الحقيقة فانّ التّوراة تعتبر القدر المشترك بيننا وبينكم ، ولكنّ القرآن كتاب مختص بكم).

فنزلت الآية الاولى.

١٠١

التّفسير

لاحظنا في ما سبق من تفسير آيات هذه السورة أنّ قسما كبيرا منها يدور حول العقبات التي كان يضعها أهل الكتاب «اليهود والنصارى» في طريق المسلمين وما كانوا يوردونه من مجادلة وتساؤل ، هذه الآية ـ أيضا ـ تشير إلى جانب آخر من ذلك الموضوع ، ترد فيها على منطقهم الواهي الداعي إلى اعتبار التّوراة كتابا متفقا عليه بين المسلمين واليهود ، وترك القرآن باعتباره موضع خلاف.

لذلك فالآية تخاطب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلة :( قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ) .

وذلك لأنّ هذه الكتب ـ كما قلنا ـ صادرة عن مبدأ واحد وأصولها واحدة ، ولمّا كان آخر هذه الكتب السماوية أكملها وأجمعها فإنّه هو الأجدر بالعمل به ، كما أنّ الكتب السابقة تحمل بشائر وارشادات إلى آخر الكتب ، وهو القرآن ، فإذا كانوا ـ حسب زعمهم ـ يقبلون التّوراة والإنجيل ، وكانوا صادقين في زعمهم ، فلا مندوحة لهم عن القبول بتلك البشائر أيضا ، وإذ وجدوا تلك العلامات في القرآن ، فإن عليهم أن يحنوا رؤوسهم خضوعا لها.

هذه الآية تقول أنّ الادعاء لا يكفي ، بل لا بدّ من إتباع ما جاء في هذه الكتب السماوية عمليا ، ثمّ أن القضية ليست «كتابنا» و «كتابكم» ، بل هي الكتب السماوية وما أنزل من الله ، فكيف تريدون بمنطقكم الواهي هذا أن تتجاهلوا آخر كتاب سماوي؟

ويعود القرآن ليشير إلى حالة أكثريتهم ، فيقرّر أنّ أكثرهم لا يأخذون العبرة والعظة من هذه الآيات ولا يهتدون بها ، بل أنّهم ـ لمّا فيهم من روح العناد ـ يزدادون في طغيانهم وكفرهم( وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً ) .

١٠٢

وهكذا يكون التأثير المعكوس للآيات الصادقة والقول المتزن في النفوس المملوءة عنادا والجاجا.

وفي ختام الآية يخفف الله من حزن رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إزاء تصلب هذه الأكثرية من المنحرفين وعنادهم ، فيقول له( فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ ) (١) .

هذه الآية ليست مقصورة على اليهود ـ طبعا ـ فالمسلمون أيضا إذا اكتفوا بادعاء الإسلام ولم يقيموا تعاليم الأنبياء ، وخاصة ما جاء في كتابهم السماوي ، فلن تكون لهم منزلة ومكانة لا عند الله ، ولا في حياتهم الفردية والاجتماعية ، بل سيظلون دائما أذلاء ومغلوبين على أمرهم.

الآية التّالية تعود لتقرر مرّة أخرى هذه الحقيقة ، وتؤكّد أنّ جميع الأقوام وأتباع كل المذاهب دون استثناء ، مسلمين كانوا أم يهودا أم صابئين(٢) أم مسيحيين ، لا ينجون ولا يأمنون الخوف من المستقبل والحزن على ما فاتهم إلّا إذا آمنوا بالله وبيوم الحساب وعملوا صالحا :( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) .

هذه الآية ، في الحقيقة ردّ قاطع على الذين يظنون النجاة في ظل قومية معينة ، ويفضلون تعاليم بعض الأنبياء على بعض ، ويتقبلون الدعوة الدينية على أساس من تعصب قومي ، فتقول الآية إن طريق الخلاص ينحصر في نبذ هذه الأقوال.

وكما أشرنا في تفسير الآية (٦٢) من سورة البقرة ، التي تقترب في مضمونها من مضمون هذه الآية سعى بعضهم بجد ليثبت أنّ هذه الآية تعتبر دليلا على «السلام العام» وعلى أنّ أتباع جميع الأديان ناجون ، وأن يتجاهل فلسفة نزول الكتب السماوية بالتتابع الذي يدل على تقدم الإنسان في مسيرته التكاملية

__________________

(١) «فلا تأس» من الأسى ، بمعنى الغم والحزن.

(٢) الصابئون هم أتباع يحيى أو نوح أو إبراهيم ، وقد ذكرناهم بتفصيل أكثر في المجلد الأول.

١٠٣

التدريجية.

ولكن ـ كما قلنا ـ تضع الآية حدّا فاصلا بقولها( وَعَمِلَ صالِحاً ) لكل قول ، وتشخص الحقيقة ، بخصوص تباين الأديان ، فتوجب العمل بآخر شريعة إلهية ، لأنّ العمل بقوانين منسوخة ليس من العمل الصالح ، بل العمل الصالح هو العمل بالشرائع الموجودة وبآخرها (لمزيد من الشرح والتوضيح بهذا الشأن انظر المجلد الأوّل ص ٢١٧.

ثمّ إنّ هناك احتمالا مقبولا في تفسير عبارة( مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً ) وهو إنّها تختص باليهود والنصارى والصابئين ، لأنّ( الَّذِينَ آمَنُوا ) في البداية لا تحتاج إلى مثل هذا القيد ، وعليه ، فإن معنى الآية يصبح هكذا : إنّ المؤمنين من المسلمين ـ وكذلك اليهود والنصارى والصابئين ، بشرط أن يؤمنوا وأن يتقبلوا الإسلام ويعملوا صالحا ـ سيكونون جميعا من الناجين وإن ماضيهم الديني لن يكون له أي أثر في هذا الجانب ، وإن الطريق مفتوح للجميع (تأمل بدقّة).

* * *

١٠٤

الآيتان

( لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (٧٠) وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٧١) )

التّفسير

في آيات سابقة من سورة البقرة ، وفي أوائل هذه السورة أيضا إشارة إلى عهد وميثاق أخذه الله تعالى على بني إسرائيل وفي هذه الآية تذكير بهذا الميثاق :( لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً ) .

يبدو أنّ هذا الميثاق هو الذي جاءت الإشارة إليه في الآية (٩٣) من سورة البقرة ، أي العمل بما أنزل الله!

ثمّ يضاف إلى ذلك القول بأنّهم ، فضلا عن كونهم لم يعملوا بذاك الميثاق ،( كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ ) .

هذه هي طرائق المنحرفين الأنانيين وسبلهم ، فهم بدلا من إتباع قادتهم ، يصرون على أن يكون القادة هم التابعين ولا هوائهم ، وإلّا فليس لهؤلاء الهداة

١٠٥

والأنبياء حتى حق الحياة.

في هذه الآية جاء الفعل «كذبوا» بصيغة الماضي بينما جاء الفعل «يقتلون» بصيغة المضارع ، ولعل السبب ـ بالإضافة إلى المحافظة على التناسب اللفظي في أواخر الآيات السابقة والتّالية وكلها بصيغة المضارع ـ هو كون الفعل المضارع يدل على الاستمرار ، والقصد من ذلك الإشارة إلى استمرار هذه الروح فيهم ، وأن تكذيب الأنبياء وقتلهم لم يكن حدثا عارضا في حياتهم ، بل كان طريقا واتجاها لهم(١) .

في الآية التّالية إشارة إلى غرورهم أمام كل ما اقترفوه من طغيان وجرائم :( وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ ) أي ظنوا مع ذلك أن البلاء والجزاء لن ينزل بهم ، واعتقدوا ـ كما صرحت الآيات الأخرى ـ أنّهم من جنس أرقى ، وأنّهم أبناء الله! وأخيرا استحال هذا الغرور الخطير والتكبر إلى ما يشبه حجابا غطى أعينهم وآذانهم :( فَعَمُوا وَصَمُّوا ) عن رؤية آيات الله وعن سماع كلمات الحقّ.

ولكنّهم عند ما أصابتهم مظاهر من عقاب الله وشاهدوا نتائج أعمالهم المشؤومة ، ندموا وتابوا بعد أن أدركوا أن وعد الله حق ، وأنّهم ليسوا عنصرا متميزا فائقا.

وتقبل الله توبتهم :( ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ) .

إلّا أنّ حالة الندم والتوبة لم تلبث طويلا ، فسرعان ما عاد الطغيان والتجبر وسحق الحقّ والعدالة ، وعادت أغشية الغفلة الناتجة عن الانغماس في الإثم تحجب أعينهم وآذانهم مرّة أخرى( ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ ) فلم يعودوا يرون آيات أو يسمعوا كلمة الحقّ ، وعمت الحالة الكثير منهم.

ولعل تقديم «عموا» على «وصمّوا» يعني أن عليهم أوّلا أن يبصروا آيات الله

__________________

(١) في الواقع وكما جاء في تفسير «مجمع البيان» وفي غيره إنّ عبارة ، «فريقا كذبوا وفريقا يقتلون» في الأصل «كذبوا وقتلوا» و «يكذبون ويقتلون».

١٠٦

ومعجزات رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ يستمعوا إلى تعاليمه ويستوعبوها.

وورود عبارة( كَثِيرٌ مِنْهُمْ ) بعد تكرار( عَمُوا وَصَمُّوا ) جاء لتوضيح أنّ حالة الغفلة والجهل والعمى والصمم تجاه الحقائق لم تكن عامّة ، بل كان بينهم بعض الأقلية من الصالحين ، وفي هذا دليل على أن تنديد القرآن باليهود لا ينطوي على أي جانب عنصري أو طائفي ، بل هو موجّه إلى أعمالهم فحسب.

هل أن تكرار عبارة( عَمُوا وَصَمُّوا ) ذو طابع عام تأكيدي ، أم للإشارة إلى حادثتين مختلفتين؟

يرى بعض المفسّرين أنّ التكرار يشير إلى واقعتين مختلفتين حدثتا لبني إسرائيل ، الاولى : الغزو البابلي لهم ، والثّانية : غزو الإيرانيين والروم ، والقرآن أشار إليها بشكل عابر في بداية سورة بني إسرائيل.

ولا يستبعد ـ أيضا ـ أنّ بني إسرائيل قد تعرضوا مرات عديدة لهذه الحالات فحينما يشاهدون نتائج أعمالهم الشريرة ، كانوا يتوبون ، ثمّ ينقضون توبتهم ، وقد حدث هذا عدّة مرّات لا مرّتين فقط.

في نهاية الآية جملة قصيرة عميقة المعنى تقول : إنّ الله لا يغفل أبدا عن أعمالهم ، إذ أنّه يرى كل ما يعملون :( وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ ) .

* * *

١٠٧

الآيات

( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤) )

التّفسير

تعقيبا على البحوث الماضية بشأن انحرافات اليهود التي مرّت في الآيات السابقة ، تتحدث هذه الآيات والتي تليها عن انحرافات المسيحيين ، فتبدأ أولا بأهم تلك الانحرافات ، أي «تأليه المسيح» «تثليث المعبود» :( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ) .

وأيّ كفر أشدّ من أن يجعلوا الله اللامحدود من جميع الجهات متحدا مع مخلوق محدود من جميع الجهات ، وأن يصفوا الخالق بصفات المخلوق. مع أنّ

١٠٨

المسيحعليه‌السلام نفسه يعلن صراحة لبني إسرائيل :( يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ) وبهذا يستنكر كل لون من ألوان الشرك ، ويفرض الغلوّ في شخصه ، ويعتبر نفسه مخلوقا كسائر مخلوقات الله.

ولكي يشدد المسيح التوكيد على هذا الأمر ، وليزيل كل إبهام وخطأ ، يضيف قائلا :( إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ ) .

ويمضي في التوكيد وإثبات أنّ الشرك والغلو ضرب من الظلم الواضح ، فيقول أيضا :( وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ ) .

سبق أن أشرنا إلى أنّ تاريخ المسيحية يؤكّد بأنّ التثليث لم يكن معروفا في القرون الاولى من المسيحية ، ولا حتى على عهد المسيحعليه‌السلام ، بل أن الأناجيل الموجودة ـ على الرغم من كل ما فيها من تحريفات وإضافات ـ ليس فيها أدنى إشارة إلى التثليث ، وهذا ما يعترف به المحققون المسيحيون أنفسهم ، وعليه فإن ما ورد في الآية المذكورة عن إصرار المسيحعليه‌السلام على مسألة التوحيد إنّما ينسجم مع المصادر المسيحية الموجودة ، ويعتبر من دلائل عظمة القرآن(١) .

وينبغي الالتفات إلى أنّ الموضوع الذي تتناوله الآية هو الغلو ووحدة المسيح بالله. أو بعبارة أخرى ، هو «التوحيد في التثليث» ، ولكن الآية التّالية تشير إلى مسألة «تعدد الآلهة» في نظر المسيحيين ، أي «التثليث في التوحيد» ، وتقول : إنّ الذين قالوا أن الله ثالث الأقانيم(٢) الثلاثة لا ريب أنّهم كافرون :( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ ) .

اعتقد كثير من المفسّرين ، ومنهم الطبرسي في «مجمع البيان» ، والشيخ الطوسي في «التبيان» ، والفخر الرازي والقرطبي في تفسيريهما ، أنّ الآية السابقة تشير إلى فرقة من المسيحيين باسم «اليعاقبة» يعتقدون أن الله متحد بالمسيحعليه‌السلام ،

__________________

(١) للمزيد من توضيح التثليث والوحدة في التثليث أنظر المجلد الثالث من هذا التّفسير.

(٢) «الأقنوم» بمعنى الأصل والذات ، جمعها «أقانيم».

١٠٩

وهذه الآية وردت بشأن فرقة أخرى هي «الملكانية» و «النسطورية» الذين يقولون بالأقانيم الثلاثة ، أو الآلهة الثلاثة.

غير أنّ هذه النظرة عن المسيحية كما سبق أن قلنا ـ لا تطابق مع الواقع ، لأن الإعتقاد بالتثليث عام بين المسيحيين كافة ، كما أن التوحيد بيننا نحن المسلمين عقيدة عامّة قطعية ، ولكنّهم في الوقت الذي يعتقدون حقا بتثليث الأرباب ، يؤمنون أيضا بالوحدة الحقيقية ، قائلين أن ثلاثة حقيقيين يؤلفون واحدا حقيقيا!

الظاهر أنّ الآيتين المذكورتين تشيران إلى جانبين مختلفين لهاتين القضيتين : في الاولى إشارة إلى وحدة الآلهة الثلاثة ، وفي الثّانية إشارة إلى تعددها ، وتوالي المسألتين هو في الحقيقة إشارة الى واحد من الأدلة الواضحة على بطلان عقيدتهم ، فكيف يمكن لله أن يكون واحدا مع المسيح وروح القدس مرّة ، ومرّة أخرى يكون ثلاثة أشياء؟ أمن المعقول أن يتساوى الثلاثة مع الواحد؟!

إنّ ما يؤيد هذه الحقيقة هو أنّنا لا نجد بين المسيحيين أية طائفة لا تؤمن بالآلهة الثلاثة!(١) .

ويرد القرآن عليهم ردا قاطعا فيقول :( وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ ) وفي ذكر «من» قبل «إله» نفي أقوي لأي معبود آخر.

ثمّ ينذرهم بلهجة قاطعة :( وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) .

يقول بعضهم أن «من» في «منهم» بيانية ، ولكن الظاهر أنّها تبعيضية تشير إلى الذين بقوا على كفرهم حتى بعد أن دعا القرآن إلى التوحيد ، لا الذين تابوا ورجعوا.

يذكر صاحب «المنار» قصّة في المجال تكشف عن غموض تثليث النصارى

__________________

(١) ورد في بعض الرّوايات ، وكذلك بعض التواريخ أنّ بين المسيحيين أقلية لا تؤمن بالتثليث ، بل يعتقدون اتحاد عيسى بالله ، ولكننا لا نرى لهؤلاء في هذا العصر اسم ولا رسم.

١١٠

وتوحيدهم نقلا عن صاحب (إظهار الحقّ) قال : «نقل أنّه تنصر ثلاثة أشخاص ، وعلمهم بعض القسيسين العقائد الضرورية ، سيما عقيدة التثليث وكانوا في خدمته ، فجاء أحد المسيحيين إلى هذا القسيس ، وسأله عمن تنصّر. فقال : ثلاثة أشخاص تنصّروا فسأله : هل تعلموا شيئا من العقائد الضرورية؟ فقال : نعم ، واستدعى واحدا منهم ليريه ذلك فسأله القسيس عن عقيدة التثليث ، فقال : إنّك علمتني أن الآلهة ثلاثة ، أحدهم في السماء ، والثّاني تولد من بطن مريم العذراء ، والثّالث الذي نزل في صورة الحمامة على الإله الثّاني بعد ما صار ابن ثلاثين سنة ، فغضب القسيس وطرده وقال : هذا جاهل.

ثمّ طلب الآخر منهم سأله فقال : إنّك علمتني أن الآلهة كانوا ثلاثة وصلب واحد منهم فالباقي إلهان ، فغضب عليه القسيس ـ أيضا ـ وطرده.

ثمّ طلب الثّالث وكان ذكيا بالنسبة إلى الأولين وحريصا في حفظ العقائد ، فسأله ، فقال : يا مولاي ، حفظت ما علمتني حفظا جيدا ، وفهمت فهما كاملا بفضل السيد المسيح : أن الواحد ثلاثة والثلاثة واحد ، وصلب واحد منهم ومات ، فمات الكل لأجل الاتحاد ، ولا إله الآن ، وإلّا يلزم نفي الاتحاد!

في الآية الثالثة يدعوهم القرآن إلى أن يتوبوا عن هذه العقيدة الكافرة لكي يغفر لهم الله تعالى ، فيقول :( أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

* * *

١١١

الآيات

( مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ(٧٧) )

التّفسير

تواصل هذه الآيات البحث الذي جاء في الآيات السابقة حول غلو المسيحيين في المسيحعليه‌السلام واعتقادهم بألوهيته ، فتفند في بضع آيات قصار اعتقادهم هذا ، وتبدأ متسائلة عمّا وجدوه في المسيح من اختلاف عن باقي الأنبياء حتى راحوا يؤلهونه ، فالمسيح ابن مريم قد بعثه الله كما بعث سائر الأنبياء من قبله :( مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ) .

إذا كان بعثه من قبل الله سببا للتأليه والشرك ، فلما ذا لا تقولون القول نفسه بشأن سائر الأنبياء؟

١١٢

ولكنّنا نعلم أنّ المسيحيين المنحرفين لا يقنعون باعتبار عيسىعليه‌السلام مجرّد مبعوث من الله ، فاعتقادهم العام في الوقت الحاضر هو اعتباره ابن الله ، وأنّه هو الله بمعنى من المعاني وأنّه جاء ليفتدي ذنوب البشر (ولم يأت لهدايتهم وقيادتهم) لذلك أطلقوا عليه اسم «الفادي» أي الذي افتدى بنفسه آثام البشر.

ولمزيد من التوكيد ، يقول :( وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ) أي أنّ من تكون له أمّ حملته في رحمها ، ومن يكون محتاجا إلى كثير من الأمور ، كيف يمكن أن يكون إلها؟! ثمّ إذا كانت أمّه صديقة فذلك لأنّها هي ـ أيضا ـ على خط رسالة المسيحعليه‌السلام ، منسجمة معه ، وتدافع عن رسالته ، لهذا فقد كان عبدا من عباد الله المقربين ، فينبغي ألّا يتخذ معبودا كما هو السائد بين المسيحيين الذين يخضعون أمام تمثاله إلى حدّ العبادة.

ومرّة أخرى يشير القرآن إلى دليل آخر ينفي الربوبية عن المسيحعليه‌السلام ، فيقول :( كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ ) .

فهذا الذي يحتاج إلى الطعام ، ولو لم يتناول طعاما لعدّة أيّام يضعف عن الحركة ، كيف يمكن أن يكون ربّا أو يقرن بالربّ؟!

وفي ختام الآية إشارة وضوح هذه الدلائل من جهة ، وإلى عناد أولئك وجهلهم من جهة أخرى ، فيقول :( انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) (١) .

تكرر كلمة «انظر» في الآية توجيه للنظر إلى جهتين : إلى الدلائل الواضحة الكافية لكل شخص ، وإلى رد الفعل السلبي المحير المثير للعجب الصادر من هؤلاء.

ولكي يكمل الاستدلال السابق تستنكر الآية التّالية عبادتهم المسيح مع أنّهم يعلمون أن له احتياجات بشرية ، وإنّه لا قدرة له على دفع الضرر عن نفسه أو

__________________

(١) الإفك : كل مصروف عن وجهه الذي يحق أن يكون عليه ، والمأفوك : المصروف عن الحقّ ، وإن كان عن تقصيره ، ومن هنا يسمّى إفكا ، لأنّه يصد الإنسان عن الحقّ.

١١٣

نفعها ، فكيف يتسنى له دفع الضرر عن الغير أو نفعهم؟( قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً ) ؟

فكثيرا ما تعرّض هو وأتباعه للأذى على أيدي أعدائهم ، ولو لا أنّ الله شمله بلطفه لما استطاع أن يخطو خطوة واحدة.

وفي النهاية يحذرهم من أن يظنوا أنّ الله لا يسمع ما يتقولونه أو لا يعلم ما يكنونه :( وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) .

ممّا يلفت النظر أنّ مسألة كون المسيحعليه‌السلام بشرا ذا حاجات مادية جسمانية ـ وهي ما يستند إليها القرآن في هذه الآية وفي آيات أخرى ـ كانت من أكبر المعضلات بوجه المسيحيين الذين يدعون ألوهيته ، فسعوا إلى تبرير ذلك بشتى الأساليب ، حتى أنّهم اضطروا أحيانا إلى القول بثنائية المسيح : اللاهوت والناسوت ، فهو من حيث لاهوتيته ابن الله ، بل هو الله نفسه ومن حيث ناسوتيته فهو جسم ومخلوق من مخلوقات الله ، وأمثال ذلك من التبريرات التي هي خير دلالة على ضعف منطقهم وخطله.

لا بدّ من الالتفات ـ أيضا ـ أنّ الآية استعملت «ما» بمكان «من» والتي تشير عادة إلى غير العاقل ، ولعل ذلك يفيد الشمول بالنسبة للمعبودات والأصنام المصنوعة من الحجر أو الخشب ، فيكون المقصود هو أنّه إذا جاز أن يعبد الناس مخلوقا ، جازت كذلك عبادتهم الأصنام ، لأنّ هذه المعبودات تتساوى من حيث كونها جميعا مخلوقات ، وأنّ تأليه المسيحعليه‌السلام ضرب من عبادة الأصنام ، لا عبادة الإله.

الآية التّالية تأمر رسول اللهعليه‌السلام ، بعد اتضاح خطأ أهل الكتاب في الغلو أن يدعوهم بالأدلة الجلية إلى الرجوع عن السير في هذا الطريق :( قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِ ) (١) .

__________________

(١) «لا تغلو» من مادة «الغلو» وهي بمعنى تجاوز الحدّ ، إلّا أنّها تستعمل للإشارة تجاوز الحدّ بالنسبة لمقام شخص من

١١٤

إنّ غلو النصارى معروف ، إلّا أنّ غلو اليهود ، الذي يشملهم تعبير( يا أَهْلَ الْكِتابِ ) قد يكون إشارة إلى ما كانوا يقولونه عن العزير وقد اعتبروه ابن الله ، ولما كان الغلو ينشأ ـ أكثر ما ينشأ ـ عن إتباع الضالين أهواءهم ، لذلك يقول الله سبحانه( وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ ) .

وفي هذا إشارة ـ أيضا ـ إلى ما انعكس في التّأريخ المسيحي ، إذ أنّ موضوع التثليث والغلو في أمر المسيحعليه‌السلام لم يكن له وجود خلال القرون الاولى من المسيحية ، ولكن عند ما اعتنق بعض الهنود وأمثالهم من عبدة الأصنام المسيحية أدخلوا فيها شيئا من دينهم السابق ، كالتثليث والشرك.

إنّ الثالوث الهندي (الإيمان بالآلهة الثلاثة : برهما ، وفيشنو ، وسيغا) ، كان تاريخيا أسبق من التثليث المسيحي الذي لا شك أنّه انعكاس لذاك ، ففي الآية الثلاثين من سورة التوبة وبعد ذكر غلو اليهود والنصارى في مسألة العزير والمسيحعليه‌السلام يقول سبحانه( يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ) .

وقد وردت كلمة «ضلوا» في هذه الآية مرّتين بالنسبة للكفار الذين اقتبس منهم أهل الكتاب الغلو ، ولعل هذا التكرار من باب التوكيد ، إذ أنّهم كانوا قبل ذلك من الضّالين ، ثمّ لمّا أضلّوا لآخرين بدعواهم وقعوا في ضلال آخر ، ومن يسعى لتضليل الآخرين يكون أضلّ منهم في الواقع ، لأنّه يكون قد استهلك قواه لدفع نفسه ودفع الآخرين إلى طريق التعاسة ولحمل آثام الآخرين ـ أيضا ـ على كاهله ، وهل يرتضي المرء السائر على الطريق المستقيم أن يضيف إلى آثامه آثام غيره أيضا؟

* * *

__________________

الأشخاص ومنزلته ، وبالنسبة للأسعار وتستعمل كلمة «الغلاء» و «غلو» السهم على وزنه «دلو» ارتفاعه وتجاوزه مداه ، وفي الماء يقال «غليان» و «الغلواء» جموح في الحيوان ، وهي جميعا من أصل واحد ، ويرى بعضهم أن الغلو يعني الإفراط والتفريط معا ، ويحصر بعضهم معناه بالتفريط فقط ، ويقابله التقصير.

١١٥

الآيات

( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠) )

التّفسير

تشير هذه الآيات إلى المصير المشؤوم الذي انتهى إليه الكافرون السابقون ، لكي يعتبر به أهل الكتاب فلا يتبعونهم اتباعا أعمى ، فيقول :( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ) .

أمّا لماذا ورد اسما هذين النّبيين دون غيرهما ، فللمفسّرين في ذلك أقوال ، فمن قائل : إنّ السبب هو أنّهما كانا أشهر الأنبياء بعد موسىعليه‌السلام ، وقيل : إنّ السبب هو أنّ كثيرا من أهل الكتاب كانوا يفخرون بأنّهم من نسل داود.

وتذكر الآية أوّلا أنّ داود كان يلعن السائرين على طريق الكفر والطغيان.

ويقول بعض : إنّ في الآية إشارة إلى حادثتين تأريخيتين أثارتا غضب هذين

١١٦

النّبيين ، فلعنا جمعا من بني إسرائيل ، فداود قد لعن سكان مدينة (أيلة) الساحلية المعروفين باسم (أصحاب السبت) ، وسيأتي تفصيل تأريخهم في سورة الأعراف ، وعيسىعليه‌السلام لعن جمعا من اتباعه ممن أصروا على اتباع طريق الإنكار والمعارضة حتى بعد نزول المائدة من السماء.

على كل حال ، فالآية تشير إلى أنّ مجرّد كون الإنسان من بني إسرائيل ، أو من أتباع المسيح دون أن ينسجم مع خط سيرهما ، لا يكون مدعاة لنجاته ، بل أنّ هذين النّبيين قد لعنا من كان على هذه الشاكلة من الناس.

وفي آخر الآية توكيد لهذا الأمر وبيان للسبب :( ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ ) .

الآية التّالية تؤكّد أنّ هؤلاء لم يعترفوا أبدا بأنّ عليهم يتحملوا أية مسئولية اجتماعية ، ولا هم كانوا يتناهون عن المنكر ، بل أنّ بعضا من صلحائهم كانوا بسكوتهم وممالاتهم يشجعون العصاة عمليا( كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ ) لذلك فقد كانت أعمالهم سيئة وقبيحة :( لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ ) .

هنالك في تفسير هذه الآية روايات منقولة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن أهل البيتعليهم‌السلام ذات دلالات تعليمية.

ففي حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذون على يد السفيه ولتأطرنه على الحقّ اطرا ، أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض ويلعنكم كما لعنهم»(١) .

وفي حديث آخر عن الامام الصّادقعليه‌السلام في تفسير( كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ ) أنّه قال : «أمّا أنّهم لم يكونوا يدخلون مداخلهم ولا يجلسون مجالسهم ، ولكن كانوا إذا لقوهم ضحكوا في وجوههم وأنسوا بهم»(٢) .

__________________

(١) تفسير (مجمع البيان) لهذه الآية ، وفي تفسير القرطبي ، ج ٤ ، ص ٢٢٥٠ حديث مشابه منقول عن الترمذي.

(٢) تفسير البرهان : ج ١ ، ص ٤٩٢ ، وتفسير نور الثقلين : ج ١ ، ص ٦٦١.

١١٧

الآية الثّالثة تشير إلى معصية أخرى من معاصيهم :( تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) .

من البديهي أنّ صداقتهم لأولئك لم تكن صداقة عادية ، بل كانت ممتزجة بأنواع المعاصي ، وكانوا يشجعون الأعمال والأفكار الخاطئة ، لذلك أدانت الآية في عباراتها الأخيرة الأعمال التي قدموها ليوم المعاد ، تلك الأعمال التي استوجبت غضب الله وعذابه الدائم :( لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ ) .

أمّا من هم المقصودون بتعبير( الَّذِينَ كَفَرُوا ) فإنّ بعضا يقول : إنّهم كانوا مشركي مكّة الذين صادقوا اليهود.

ويرى بعض أنّهم الجبارون والظالمون الذين كان اليهود قديما يمدون إليهم يد الصداقة ، وهذا الرأي يؤكّده الحديث المنقول عن الإمام الباقرعليه‌السلام إذ قال : «يتولون الملوك الجبارين ويزينون لهم أهواءهم ليصيبوا من دنياهم»(١) .

وليس ثمّة ما يمنع أن تشمل الآية كلا المعنيين ، بل وتكون أعم منهما أيضا.

* * *

__________________

(١) (مجمع البيان) في تفسير الآية المذكورة.

١١٨

الآية

( وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٨١) )

التّفسير

هذه الآية تبيّن لهم طريق النجاة من نهجهم الخاطئ ، وهو أنّهم لو كانوا حقا يؤمنون بالله وبرسوله وبما أنزل عليه ، لما عقدوا أواصر الصداقة مع أعداء الله ولا اعتمدوهم أبدا :( وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ ) ولكن الذي يؤسف له هو أنّ الذين يطيعون أوامر الله قلّة ، ومعظمهم خارجون عن نطاق إطاعته وسائرون على طريق الفسق( وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ ) .

من الواضح أنّ كلمة «النّبي» هنا تعني «رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » وذلك لأنّ هذه الكلمة قد استعملت في القرآن المجيد في آيات متعددة بهذا المعنى ، وهذا الموضوع يتكرر في عشرات الآيات.

ثمّة احتمال آخر في تفسير هذه الآية ، هو أنّ الضمير في «كانوا» يعود على المشركين وعبدة الأصنام ، أي لو أنّ هؤلاء المشركين الذين يعتمدهم اليهود ويثقون بهم ، قد آمنوا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقرآن ، لما اختارهم اليهود أصدقاء لهم ،

١١٩

وهذا دليل بيّن على على ضلال هؤلاء وفسقهم ، وذلك لأنّهم ـ على الرغم من زعمهم أنّهم يتبعون الكتب السماوية ـ يتخذون عبدة الأصنام أصدقاء لهم ما دام هؤلاء مشركين ، ولكنّهم يبتعدون عنهم إذا توجهوا إلى الله والكتب السماوية.

بيد أنّ التّفسير الأوّل أقرب إلى ظاهر الآيات ، حيث الضمائر كلّها تعود إلى مرجع واحد هو اليهود.

* * *

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

من الله ورسوله(1) ، وصارت الشيعة بعد ذلك المجلس أجل الناس وأعظمهم).(2)

قال ابن حجر : وأخرج الطبري بسند صحيح عن يونس بن يزيد عن الزهري قال جعل علي على مقدمة أهل العراق قيس بن سعد بن عبادة وكانوا أربعين ألفا بايعوه على الموت فقتل علي فبايعوا الحسن بن علي بالخلافة.(3)

3. وفي قبال ما رواه ابو الفرج الاصفهاني بإسناده الى ابي اسحاق ت 127 هـ وهي المشهورة عند الباحثين الشيعة ، ان معاوية بالنخيلة. ألا إن كل شيء أعطيته الحسن بن علي تحت قدمي هاتين لا أفي به.(4)

__________________

(1) نحن نحتفظ على هذه الجملة (وسائر الناس يقاتلون معه على غير علم بمكانه من الله ورسوله) فان معركة النهروان وقعت في صغر او في شعبان سنة 38 هـ أي بعد سنتين ونصف وقعت خلالها معركتا الجمل وصفين ، وقد ظهر فيها من الآيات لعليعليه‌السلام واحاديث النبي فيه ، ما لم يدع شكا في علي ، وانما الناس تنفتح قلوبها على الحقائق تدريحيا( قالت الاعراب آمنّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الايمان في قلوبكم ) الحجرات / 14 ، فالناس الذين كانوا يقاتلون مع علي كانوا يعرفون مكانته من الله ورسوله ولكنهم لم تنفتح قلوبهمم بعد ، وفي النهروان بعد شهدوا اية جديدة للنبي في علي هو قصة مثدن اليد ، انفتح قلب من لم يكن قد انفتح على امامة عليعليه‌السلام . والى هذه المرحلة من الانقيادوالاجتماع ملأ المسلمين وحسنتطاعتهم ، وانقادت لي جماعتهم ولا يكن لك عرجة ولا لبث ، فإنا جادّون معدّون ، ونحن شاخصون إلى المحلين ، ولم أؤخر المسير إلا انتظارا لقدومك علينا)

(2) سليم بن قيس الهلالي ، كتاب سليم بن قيس ، ص 220.

(3) ابن حجر ،فتح الباري ، ج 12 ص 53.

(4) روى الكثيرمن الباحثين الشية منهم الخوئي فيمنهاج البراعة في شرح نهج البلاغة ج 19 ص 143 ، وكذلك الشيخالكوراني فيجواهر التاريخ عن الشيخ المفيد فيالارشاد ج 2 ص 14 بغيرسند قال : (فلما استتمت الهدنة سار معاوية حتى نزل بالنخيلة ، وكان ذلك يوم جمعة فصلى بالناس ضحى النهار ، فخطبهم وقال في خطبته : إني والله ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا ولا لتزكوا ، إنكم لتفعلون ذلك ، ولكني قاتلتكم لأتأمر عليكم ، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم له كارهون. ألا وإني كنت منيت الحسن وأعطيته أشياء ، وجميعها تحت قدمي لا أفي بشئ منها له وهي رواية ابي الفرج في مقاتله ابو الفرج مسندة ، وقد رواها من كتاب ابي الفرج مباشرة كثير من الباحثين الشيعة المعاصرين كالعلامة التستري في قاموس الرجال 4 / 109 ، والعلامة السيد علي الشهرستاني في وضوء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ج 1 ص 209 والعلامة العسكري فياحاديث المؤمنين عائشة ج 1 ص 322 ، والعلامة الشيخ راضي ال ياسين ص 12 فيصلح الحسن عليه‌السلام وغيرهم كثير ، وكذلك من الباحثين القدامى من غير الشيعة كابن ابي الحديد فيشرح نهج البلاغة ج 16 ص 15 ومن الشيعة القاضي النعمان في شرح الاخبار ج 2 ص 533 ، اما ابو الفرج فقد ساق للرواية ثلاثة اسانيد سندان منها عن ابي عبيد احدهما فيه عبد الرحمن بن شريك ت 177 هـ ولي قضاء الكوفة للمنصور وابنه ، والاخر

٥٢١

توجد روايات اخرى تفيد ان نقض الشروط تأخر الى وفاة الحسنعليه‌السلام .

فقد روى ابن عبد ربه وابن كثير قالا : قدم معاوية المدينة اول حجة حجها (سنة 44 هجرية) بعد عام الصلح ، فتوجه الى دار عثمان ،

فلما دنا الى باب الدار. صاحت عائشة بنت عثمان وندبت اباها.

فقال لها : يا بنت اخي ان الناس قد اعطونا سلطاننا ، فاظهرنا لهم حلما تحته غضب ،

واظهروا لنا طاعة تحتها حقد ، فبعناهم هذا بهذا وباعونا هذا بهذا ، فان اعطيناهم غير ما اشتروا منا شحوا علينا بحقنا وغمطناهم بحقهم ،

ومع كل انسان منهم شيعته وهو يرى مكان شيعته ، فان نكثناهم نكثوا بنا ثم لا ندري اتكون لنا الدائرة ام علينا؟

وان تكوني ابنة عم امير المؤمنين خير من ان تكوني امرأة عُرُض الناس. (وفي رواية ابن كثير : وان تكوني ابنة عثمان امير المؤمنين احب الي ان تكوني امة من اماء المسلمين ونعم الخلف انا لك بعد ابيك.(1)

وفي ضوء هذه الرواية فان معاوية الى سنة 44 هجرية لم يكن قد غدر بشروطه لمكان الحسنعليه‌السلام وشيعته وللتكتيك الذي تقيَّد به.

ويشهد لذلك ايضا :

__________________

عن عثمان بن ابي شيبة وقد رواه في مسنده عن ابي معاوية الضرير وهو من جلساء هارون ووضع له احاديث في ذم الرافضة وكلاهما يرويانها عن الاعمش عن عمرو بن مرة عن سعيد بن سويد وهو مجهول ، والسند الثالث عن المقانعي عن جعفر بن محمد بن الحسين الزهري عن حسن بن الحسين العرني عن عمرو بن ثابت (ابن ابي المقدام) عن ابي اسحاق السبيعي وهي اساسا رواية عمرو بن مرة عن سعيد بن سويد ولكن السبعي دلس فيها وتدليسه لا يضر بوثاقته وبخاصة وقد وقع منه في اخريات عمره مضافا الى ان تخلف معاوية عن الشروط وغدره بالحسن مسالة مفروغ منها والكلام هل كان هذا النقض في اول الصلح او بعد عشر سنوات. ويضيف ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق ج 52 ص 33 ـ 60 طريقا اخر قال عن محمد بن خالد يعني القرشي الدمشقي حدثني محمد بن سعيد بن المغيرة الشيباني عن عبد الملك بن عمير ان معاوية خطب عند دخوله الكوفة ومحمد بن خالد قال عنه ابو حاتم الرازي كذاب والشيباني مجهول.

(1) الجاحظ ،البيان والتبيين ، ص 529 عن عيسى بن زيد عن اشياخه ، ابن قتية عيون ، الاخبار ج 1 ص 67 البلاذري ،انساب الاشراف ج 5 ص 125 عن المدائني عن عيسى بن يزيد.

٥٢٢

ما رواه البلاذري قال حدثني أبو مسعود ، عن ابن عون عن أبيه قال : لمّا ادّعى معاوية زيادا وولَّاه ، طلب زياد رجلا كان دخل في صلح الحسن وأمانه ، فكتب الحسن فيه إلى زياد ، ولم ينسبه إلى أب فكتب إليه زياد : أما بعد فقد أتاني كتابك في فاسق تؤوي مثله الفسّاق من شيعتك وشيعة أبيك! فأيم الله لأطلبنّه ولو بين جلدك ولحمك ، فإن أحبّ إليّ أن آكله للحم أنت منه!

فلما قرأ الحسن الكتاب قال : كفر زياد ، وبعث بالكتاب إلى معاوية.

فلما قرأه غضب فكتب إليه : أما بعد يا زياد ، فإن لك رأيين : رأي من أبي سفيان ، ورأي من سميّة ، فأمّا رأيك من أبي سفيان فحزم وحلم ، وأما رأيك من سميّة فما يشبهها فلا تعرض لصاحب الحسن ، فإني لم أجعل لك عليه سبيلا ، وليس الحسن مما يرمى به الرجوان وقد عجبت من تركك نسبته إلى أبيه أو إلى أمّه فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فالآن حين اخترت له والسلام(1) .

وبرواية الجاحظ وهي اكثر دقة ، قال : حدثني سليمان بن أحمد الخرشي قال حدثني عبد الله بن محمد بن حبيب قال طلب زياد رجلا كان في الأمان الذي سأله الحسن بن علي لأصحابه فكتب فيه الحسن رضي الله تعالى عنه إلى زياد من الحسن بن علي إلى زياد أما بعد فقد علمت ما كنا أخذنا لأصحابنا وقد ذكر لي فلان أنك عرضت له فأحب ان لا تعرض له إلا بخير

فلما أتاه الكتاب ولم ينسب الحسن إلى أبي سفيان غضب فكتب من زياد بن أبي سفيان إلى الحسن أما بعد أتاني كتابك في فاسق يؤويه الفساق من شيعتك وشيعة أبيك وايم الله لأطلبنهم ولو بين جلدك ولحمك وان أحب لحم إلي آكله للحم أنت منه ، فلما وصل الكتاب الحسن وجه به إلى معاوية فلما قرأه معاوية غضب وكتب من معاوية بن أبي سفيان إلى زياد بن أبي سفيان أما بعد فان لك رأيين رأيا من أبي سفيان ورأيا من سمية فأما رأيك من أبي سفيان فحلم وحزم وأما رأيك من سمية فكما يكون رأي مثلها وقد كتب إلي الحسن بن علي انك عرضت لصاحبه فلا تعرض له فاني لم أجعل لك إليه سبيلا وان الحسن ابن علي ممن لا يرمي به الرجوان والعجب من كتابك إليه لا

__________________

(1) البلاذري ،أنساب الأشراف ج 3 ص 52 ـ 53.

٥٢٣

تنسبه إلى أبيه أفإلى أمه وكلته وهو ابن افطمة بنت محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم فالآن حين اخترت له والسلام(1) .

ويشهد لذلك ايضا : ما رواه ابن عبد ربه قال : لما مات الحسنُ بن عليّ حَجّ معاوية ، فدخل المدينة وأراد أن يَلْعن عليَّا على مِنبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم . فقيل له : إن هاهنا سعدَ بن أبي وقاص ، ولا نراه يرضى بهذا ، فابعث إليه وخُذ رأيه. فأرسل إليه وذكر له ذلك. فقال : إن فعلت لأخرُجن من المسجد ، ثم لا أعود إليه. فأمسك معاوية عن لعنه حتى مات سعد.(2) فلما مات لَعنه عَلَى المنبر ، وكتب إلى عماله أن يَلعنوه على المنابر ، ففعلوا.

ومن المعلوم ان وفاة سعد كانت بعد وفاة الامام الحسنعليه‌السلام وفي السنة نفسها سنة 51 هـ.

ويشهد لذلك ايضا واقع استضافة معاوية لعدد من الشخصيات العراقية من الرجال والنساء وسؤاله لهم عن سيرة عليعليه‌السلام وترحمه عليه مرات عديدة فان هذا الواقع وهو ثابت لا ينسجم مع ما ادعته روايات ابي الفرج من ان معاوية اعلن عن نقض الشروط في النخيلة او عند دخوله الكوفة.

وفي ضوء ذلك يتضح :

ان المدائني لم يكن معنيا في روايته ان يشخص بدقة وقت نقض الشروط بل ذكرها على الاجمال ان ذلك كان بعد عام الجماعة اما متى فلم يكن معنيا به قال :

(كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة أن برئت الذمة ممن روى شيئا من فضل أبي تراب وأهل بيته فقامت الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر يلعنون عليا ويبرأون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته).

ولكنه يشير على الاجمال انه قد اشتد الامر حينما استعمل زيادا على الكوفة قال (وكان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة لكثيرة من بها من شيعة عليعليه‌السلام

__________________

(1) الجاحظ ،البيان والتبيين ص 361 ، ابن ابي الحديد ،شرح نهج البلاغة ج 16 / 19 عن ابي الحسن المدائني.

(2) ابن عبد ربه ،العقد الفريد ج 4 ص 159.

٥٢٤

فاستعمل عليهم زياد بن سمية وضم إليه البصرة فكان يتتبع الشيعة وهو بهم عارف لأنه كان منهم أيام عليعليه‌السلام فقتلهم تحت كل حجر ومدر وأخافهم وقطع الأيدي والأرجل وسمل العيون وصلبهم على جذوع النخل وطرفهم وشردهم عن العراق فلم يبق بها معروف منهم فلم يزل الامر كذلك حتى مات الحسن بن عليعليه‌السلام فازداد البلاء والفتنة فلم يبق أحد من هذا القبيل الا وهو خائف على دمه أو طريد في الأرض).

فان زيادا ولاه معاوية الكوفة بعد وفاة المغيرة بن شعبة في شعبان سنة 50 هـ ـ 51 هـ ، وقد توفي الحسنعليه‌السلام في صفر وفي رواية في ربيع الاول سنة 50 ـ 51 هـ أي قبل وفاة المغيرة بن شعبة.

ومما يؤكد ان الغدر بالشروط واهمها الامان ولعن علي قد تم بعد وفاة الامام الحسن أي سنة 50 ـ 51 هـ اننا حين تتبعنا تاريخ من قتلهم زياد بامر معاوية او دفنهم احياء او نفاهم او شردهم من شيعة علي كحجر واصحابه وعبد الرحمن بن حسان الذي دفنه حيا ، وعمرو الحمق الخزاعي وزوجته امنة بنت الشريد وصعصعة بن صوحان وتسيير خمسين الف من الكوفة والبصرة بعيالاتهم وجدنا ذلك كله بعد وفاة الحسنعليه‌السلام أي في سنة 51 هـ وهو اكتشاف تاريخي لم يسبق ان انتبه اليه الباحثون.

وفي ضوء ذلك فان رواية سليم بن قيس لقضية كتابة معاوية الى عماله نسخة في نهيهم لذكر فضائل علي اكثر دقة على انها قد اصابها تحريف ايضا ،(1) فان سليم يذكر ان معاوية كتب كتابه الى عماله وهو في المدينة ولا يمكن ان يكون قد كتبه في سنة 44 هجرية لما ذكرناه انفا من جوابه لعائشة بنت عثمان لما تلقته وهي تندب اباها ، بل كتبه لما ززار المدينة بعد رجوعه من الحج سنة 50 ـ 51 هـ ..

قال سليم : وكان معاوية يومئذ بالمدينة ، فعند ذلك نادى مناديه وكتب بذلك نسخة إلى جميع البلدان إلى عماله(2) : (ألا برئت الذمة ممن روى حديثا في مناقب علي بن أبي طالب أو فضائل أهل بيته وقد أحل بنفسه العقوبة ثم إن معاوية مر بحلقة

__________________

(1) الطبرسي ،الاحتجاج ، ج 2 ص 19.

(2) هذا النداء منه بعد موت الحسنعليه‌السلام وموت سعد بن ابي وقاص.

٥٢٥

من قريش ، فلما رأوه قاموا له غير عبد الله بن عباس. فقال له : يا بن عباس ، فإنا قد كتبنا في الآفاق ننهى عن ذكر مناقب علي وأهل بيته ، فكف لسانك ـ يا بن عباس ـ وأربع على نفسك. وإن كنت لا بد فاعلا فليكن ذلك سرا ولا يسمعه أحد منك علانية. ثم اشتد البلاء بالأمصار كلها على شيعة علي وأهل بيتهعليهم‌السلام ، وكان أشد الناس بلية أهل الكوفة لكثرة من بها من الشيعة. واستعمل عليهم زيادا أخاه(1) وضم إليه البصرة والكوفة وجميع العراقين. فلما مات الحسن بن عليعليه‌السلام (2) لم يزل الفتنة والبلاء يعظمان ويشتدان ..).(3)

والتحريف الذي اصابها هو الجملة الاخيرة فان مكانها قبل كتابة معاوية الى ولاته وليس بعدها وهو التحريف نفسه الذي اصاب رواية المدائني.

وفي ضوء ذلك كله :

ينهار التحليل السائد المبني على تفرق الكوفيين وان معاوية نقض شروطه سنة 41 هجرية ، ونحتاج بعد ذلك الى تحليل اخر يفسر لنا تاخر ملاحقة معاوية للشيعة عشر سنوات مع شدة غضبه وحقده ، تحليل مبني على اجتماع الكوفيين للحسنعليه‌السلام والتفافهم حوله الذي يفيد استقرار العراق للحسن الامر الذي ادركه معاوية فعرضه على الحسن ان يبقى كل واحد على بلده ، فلماذا يسلم الحسن ملكا مستقرا له الى معاوية ويشترط عليه شروطا خاصة؟ وهو ما نبحثه في الفصل التالي :

__________________

(1) استعمل معاوية زيادا على الكوفة سنة 51 هـ بعد موت المغيرة وتوفي سنة 53 حكم العراق خمس سنوات ومعنى ذلك ان ولايته على البصرة سنة 48 هـ.

(2) هذه الجملة ليس مكانها هنا بل مكانها في اول الرواية.

(3) سليم بن قيس ، كتاب سليم بن قيس ، ص 318.

٥٢٦

الباب الرابع / الفصل الثالث

صلح الامام الحسن عليه‌السلام قراءة جديدة

روى الشيخ الصدوق في علل الشرائع / 1 / 211 عن أبي سعيد عقيصا قال :

قلت للحسن بن علي ابن أبي طالبعليهما‌السلام : يا ابن رسول الله لم داهنت معاوية وصالحته ،؟ ...

قال : يا أبا سعيد : علة مصالحتي لمعاوية علة مصالحة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لبني ضمرة وبني أشجع ، ولأهل مكة حين انصرف من الحديبية ، أولئك كفار بالتنزيل ومعاوية وأصحابه كفار بالتأويل).

أقول : معنى ذلك ان السبب الموجب للصلحين واحد ، وهذا يستلزم وحدة الخلفيات التي سبقت الصلح ثم وحدة الظرف الموجب له ثم وحدة الموقف ازاءه ثم وحدة النتائج المترتبة على الموقف وفيما يلي بيانها.

خلفية الصلحين

كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله صاحب مشروع رسالي يستهدف تحرير دين ابراهيم من بدع قريش مما يخالف تنزيه الله تعالى حين عبدت الاصنام ، وتنزيه نبيه ابراهيم والحج الابراهيمي من البدع التي ادخلتها اليه قريش من تحريم الجمع بين العمرة والحج في اشهر الحج وتأخير مقام ابراهيم عن البيت وغيره لتكريس امامتها الدينية التي دانت بها

٥٢٧

العرب وعملت بأحكامها وكذلك تحرير كتاب الله وسيرة انبيائه منتحريفات اليهود والمسيحيين.

وكان عليعليه‌السلام صاحب مشروع رسالي يستهدف تحرير دين محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله من ثقافة اهل الكتاب التي نشرها كعب الاحبار وتميم الداري مما يخالف تنزيه الله وتنزيه الانبياء بأمر قريش المسلمة ومن تحريمهم متعة الحج وارجاع مقام ابراهيم الى ما كان عليه في الجاهلية وامضاء التطليقات الثلاث بتطليقة واحدة وابتداع صلاة التراويح وغيرها من البدع التي ابتدعتها بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لتكريس امامتها الدينية التي دان بها مسلمة الفتوح وغيرهم.

وفيما يلي تفصيل ذلك :

مفردات خلفية صلح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مع قريش

1. انقلاب قريش بعد عبد المطلب وتحريفهم دين ابراهيم :

كان عبد المطلب زعيم قريش بلا منازع منزها لله تعالى متقيدا بدين ابراهيم جاءته الزعامة الدينية والسياسية من قصي عن طريق ابويه هاشم وعبد مناف ، ولا يختلف اثنان ان قصيا مؤسس التجمع القرشي حول مكة كان على دين ابراهيم وكان ينتظر النبي الموعود ، وان هاشما قد سنَّ لهذا التجمع رحلة الشتاء والصيف ، وصارت مكة وقريش ذات مكانة دولية مرموقة ، ولا يختلف اثنان على ان قصيا كان اعلم قريش بدين ابراهيم ثم توارث العلم اوصياؤه من ابنائه عبد مناف ثم هاشم ثم عبد المطلب ثم ولده ابو طالب ، والى جانب ذلك تميز عبد المطلب بحفر زمزم التي كانت مطمومة منذ الحرب بين خزاعة وجهرم أي لأكثر من ثلاث قرون خلت ، وقد أُخبر بمكانها في المنام ودعا بني عبد مناف وبقية بطون قريش ان تساعده في حفرها فلم تستجب له احد منهم(1) فانفرد بمكرمة حفرها واحيائها لسقي الحجيج ، وكذلك انفرد دون بطون قريش بمهمة الدفاع عن البيت ومواجهة جيش ابرهة هو وولده وولد عمه المطلب ثم نصره الله

__________________

(1) انظر اليعقوبي ،تاريخ اليعقوبي .

٥٢٨

على جيش ابرهة وكان يقول :

نحن (آل الله) فيما قد مضى

لم يزل ذاك على عهد أبْرَهمْ

نعبدُ الله وفينا سُنَّةٌ

صِلَةُ القربى وإيفاء الذِّمم

لم تزل لله فينا حجةٌ

دفعُ اللهُ بها النِّقَمْ(1)

وهكذا ادركت بطون قريش كلها ان زعيمها عبد المطلب قد اصطفاه الله عليهم فهو الاولى بالبيت وبزمزم وبابراهيم وبدينه ومن ثم هو الاول بالله أي هو الاقرب الى الله تعالى وصارت تسميه ابراهيم الثاني ، وصار يلقب هو ووِلْدُه ب (ال الله)(2) ، وتعلمت منهم شريعة ابراهيم.

حسد بنو عبد شمس وبنو نوفل اولاد عمهم بني هاشم ان ينفردوا بهذا المجد دونهمثم انتشر الحسد الى بطون قريش الاخرى وقد برز هذا الحسد اول ما برز بشكل منافرة بين امية وعبد المطلب ثم تطورت اشكاله فيما بعد.

واوصى عبد المطلب الى ابي طالب اعلم اولاده بدين ابراهيم.

ثم انقلبت قريش بعد وفاة عبد المطلب على بني هاشم فادعت ان لقب (ال الله) يعم بطون قريش وليس بني عبد المطلب حسب ، فقد دافع الله تعالى عن قريش لانهم سكان بيته(3) ، وابتدعت قريش بدعة الحمس في دين ابراهيم وادخلت طقوس عبادة الاصنام مع طقوس عبادة الله لتكريس امامتها الدينية وصارت الامامة الابراهيمية وتعليم احكام الحج في كل بيوتات قريش. وهكذا حوصرت امامة وزعامة ابي طالب

__________________

(1) المسعودي ، مروج الذهب ج 2 ص 105 ـ 106. وأبي حيان الأندلسي ، تفسير البحر المحيط ج 1 ص 542.

(2) جاء فيالاستيعاب لابن عبد البر ج 4 ص 1490 في ترجمة نافع بن عبد الحارث بن حبالة بن عمير الخزاعي استعمله عمر بن الخطاب على مكة وفيهم سادة قريش ، فخرج نافع إلى عمر واستخلف مولاه عبد الرحمن بن أبزى ، فقال له عمر : استخلف على (آل الله) مولاك فعزله ، وولَّى خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزومي. وكان نافع ابن عبد الحارث من كبار الصحابة وفضلائهم. والشاهد في الرواية هو ان عمر يسمي قريش (ال الله) ، والحال ان هذا اللقب لعبد المطلب وذريته التي على منهجه.

(3) وقد وضع بنو امية فيما بعد رواية تفيد ان عبد المطلب هو الذي اشار على قريش ان يهربوا الى الجبال في قصة الفيل خوفا عليهم من معرة الجيش (انظر الطبري ،تاريخ الطبري ، ج 1 ص 554).

٥٢٩

في دين ابراهيم. وقد اشار ابو طالب في قصيدته اللامية المشهورة الى افتراء قريش في الدين :

اعوذ بالله من كل طاعن

علينا بشرٍّ او ملحِّقِ باطل

من كاشح يسعى لنا بمعيبة

ومن مفتر في الدين ما لم نحاول

وقوله (مفتر في الدين ما لم نحاول) أي مبتدع في دين ابراهيم ما لم نوافقهم عليه ، ويشير قوله تعالى في سورة الجمعة( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (2)وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) الجمعة / 2 ـ 3 وقوله (في الاميين) أي في أهل مكة ، وقوله (في ظلال مبين) أي عبادة الاصنام وبدعة الحمس ، وقوله (وآخرين منهم) اي من اهل مكة ، وقوله (لما يلحقوا بهم) أي ما شاركوا قومهم في ضلالهم.

2. هدف البعثة النبوية لتحرير دين ابراهيم من بدع قريش :

وبعث الله نبيه محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله سنة 13 ق. هـ مؤيدا بالبينات الالهية بدين ابراهيم واسس المجتمع الاسلامي على ولاية الله وولاية رسوله والامامة الدينية والسياسية لعلي بن ابي طالب وولديه الحسن والحسين والتسعة من ذريته( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)) المائدة / 55( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) النساء / 59 وهدم الامامة الدينية لقريش والامامة الدينية لاهل الكتاب ونسخ التوراة وما الحق بها واستبدلها بالقرآن مصدقا بالذي بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ) المائدة / 48.

3. حروب قريش مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله واعلامها الكاذب :

حينما نهض النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ليبلغ مشروعه الرسالي وقف ابو طالب وبنو هاشم الى جانبه واستضعفت قريش المشركة بني هاشم ومن امن به وقاطعتهم حتى يسلموا محمداصلى‌الله‌عليه‌وآله .

٥٣٠

واعلن ابو طالب نصرته للنبي وايمانه بمستقبلها في قصيدته اللامية المشهورة قائلا :

فأبلغ قصيّاً أنْ سينشر أمرُنا

وبشّر قصيّاً بعدنا بالتخاذل

كذِبتم وبيتِ الله نبزى محمداً

ولما نطاعن دونه ونناضلِ(1)

ونسلمه حتى نصرَّع دونه

ونذهل عن أبنائنا والحلائل

ومنها يفهم ان ابا طالب يعتبر ان رسالة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله قد جاءت لتحرير دين ابراهيم من بدع قريش واسلافهم هذا الدين الذي انتهت مواريثه ومهمة الحفاظ عليه الى ابي طالب ولإرجاع الامامة الابراهيمية المغتصبة الى اهلها الشرعيين.

ثم قيض الله تعالى اهل المدينة على النصرة وهاجر الى المدينة ، وفرضت قريش المشركة على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حربين ظالمتين ، الاولى في بدر وكان النصر المؤزر له فيها ، الثانية في احد وقد خسر النصر فيها بسبب معصية نفر من اصحابه لأمره حين تركوا مواقعهم طمعا في الغنيمة.

طورت قريش في هذين الحربين اعلامها الكاذب الذي بدأت به(2) في مواجهة دعوة

__________________

(1) نبزى محمدا : اي نسلبه ونغلب عليه (لسان العرب ).

(2) روى الشيخ الطبرسي في اعلام الورى ص 55 ، قال : روى علي بن إبراهيم ، قال : خرج أسعد بن زرارة وذكوان إلى مكة في عمرةِ رجب يسألون الحلفعلى الأوس ، وكان أسعد بن زرارة صديقاً لعتبة بن ربيعة ، فنزل عليه ، فقال له : إنّه كان بيننا وبين قومنا حرب وقد جئناكم نطلب الحلف عليهم ، فقال عتبة : بُعدت دارنا عن داركم ولنا شغل لا نتفرغ لشيء ، قال : وما شغلكم وأنتم في حرمكم وأمنكم؟! قال له عتبة : خرج فينا رجل يدّعي انّه رسول الله ، سفّه أحلامنا ، وسبّ آلهتنا ، وأفسد شبابنا ، وفرّق جماعتنا ، فقال له أسعد : من هو منكم؟ قال : ابن عبد الله بن عبد المطلب ، من أوسطنا شرفاً ، وأعظمنا بيتاً ؛ وكان أسعد وذكوان وجميع الأوس والخزرج يسمعون من اليهود الذين كانوا بينهم أبناء «النضير» و «قريظة» و «قينقاع» انّ هذا أوان نبي يخرج بمكة يكون مهاجره بالمدينة لنقتلنَّكم به يا معشر العرب ، فلمّا سمع ذلك أسعد وقع في قلبه ما كان سمعه من اليهود ، قال : فأين هو؟ قال : جالس في الحِجْر ، وانّهم لا يخرجون من شِعْبهم إلّا في الموسم ، فلا تسمع منه ولا تُكلّمه ، فإنّه ساحر يسحرك بكلامه ، وكان هذا وقت محاصرة بني هاشم في الشعب ، فقال له أسعد : فكيف أصنع وأنا معتمر لابدّ لي أن أطوف بالبيت؟ فقال : ضع في أُذنيك القطن ، فدخل أسعد المسجد وقد حشا أُذنيه من القطن ، فطاف بالبيت ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جالس في الحجر مع قوم من بني هاشم ، فنظر إليه نظرة ، فجازه. فلمّا كان في الشوط الثاني قال في نفسه : ما أجد أجهل منّي ، أيكون مثل هذا الحديث بمكة فلا أعرفه؟! حتى أرجع إلى قومي فأخبرهم ، ثمّ أخذ القطن من أذنيه ورمى به ، وقال لرسول الله : أنعم صباحاً ، فرفع رسول الله رأسه إليه وقال :

٥٣١

النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عند حلفائها من القبائل فاتهمته بتهمة انتهاك حرمة البيت الحرام والاعتداء على القوافل التجارية الامنة لقريش وسفك الدم الحرام في الشهر الحرام(1) . واستطاعت بقيادة ابي سفيان ان تحشد عشرة آلاف مقاتل / الاحزاب / قصدوا المدينة لإرعاب اهلها ليتخلوا عن محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وصمد اهل المدينة وهزمت الاحزاب شر هزيمة وجعلها الله تعالى للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله اية وازدادت ثقة المسلمين به.

4. تحصين القبائل من التأثر بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله بالحرب والاعلام الكاذب :

ليس للنبي ازاء هذا الاعلام القريش الكاذب الذي شوه مشروعه عند القبائل لصيانتها من التأثر به والانفتاح عليه الا ان يقوم بعمل غير الحرب به يؤدي الى كسر الطوق عنها وعنه وفضح قريش لديها بانها هي المعتدية وان محمداصلى‌الله‌عليه‌وآله يعظم البيت ويطلب السلم وانه نبي قد بعث لإحياء دين ابراهيم وتحرير الحج من بدع قريش.

ولا يوجد الا عمل واحد يحقق له ذلك وهو المبادرة بالعمرة في اشهر الحج هو واصحابه والهدي معهم حيث تتوافد القبائل نحو مكة للحج ،

__________________

«قد أبدلنا الله بهب ما هو أحسن من هذا ، تحية أهل الجنة : السّلام عليكم» فقال له أسعد : إنّ عهدك بهذا لقريب إلى مَا تدعو يا محمد؟ قال : «إلى شهادة أن لا إله إلا الله وإنّي رسول الله ، وأدعوكم : «أَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاق نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفَسَ الَّتي حَرَّمَ اللهُ إِلّا بِالحَقِّ ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ *وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلّا بِالّتي هِيَ أَحْسَنُ حَتّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلّاوًسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكِّرُونَ ». فلما سمع أسعد هذا قال : أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وانّك رسول الله. يا رسول الله بأبي أنت وأمّي أنا من أهل يثرب من الخزرج ، وبيننا وبين إخواننا من الأوس حبال مقطوعة ، فإن وصلها الله بك فلا أجد أعزّ منك ، ومعي رجل من قومي فإن دخل في هذا الأمر رجوت أن يتمم الله لنا أمرنا فيك ، والله يا رسول الله لقد كنّا نسمع من اليهود خبرك ، وكانوا يبشّروننا بمخرجك ، ويخبروننا بصفتك ، وأرجو أن تكون دارُنا دارَ هجرتك ، وعندنا مقامك ، فقد أعلمنا اليهود ذلك ، فالحمد لله الذي ساقني إليك ، والله ما جئت إلّا لنطلب الحلف على قومنا ، وقد أتانا الله بأفضل ممّا أتيت له.

(1) جاء في الكامل في التاريخ لابن الأثر ج 2 ص 148 ـ 149 ، ان قريش ارسلت أربعة نفر وهم عمرو بن العاص ، وهبيرة بن أبي وهب ، وابن الزبعري وأبو عزة الجمحي ، فساروا في العرب ليستنفرهم ، فجمعوا جمعاً من ثقيف وكَنانة وغيرهم.

٥٣٢

ولأشهر الحرم دلالة لدى كل العرب هي المسالمة واما الطرف الآخر من اعتداء المحرم عليه.

وللإحرام دلالة اخرى في ذلك ، وللهدي الذي يسوقه المحرم دلالة اخرى وهي ان هذا المحرم لا يحل من احرامه الا عند البيت ، والبيت تحيطه قريش وهذا يعني ان المبادرة تفصح عن نفسها ان محمدا جاء مسالما يطلب الصلح مع قريش.

وهذه المبادرة تحمل في طياتها فضح قريش عند حلفائها واظهار حقانية محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله اذا رفضت قريش الصلح مع محمد وصدته عن البيت ، واذا قبلت الصلح معه وسمحت له ان يقضي ماسكه عند البيت فهي مفضوحة ايضا لظهور كذبها فيه انه لا يعظم البيت.

5. صلح الحديبية والفتح المؤقت بظهور كذب قريش وحقانية محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله لدى حلفاء قريش وغيرهم :

روى الطبري عن ابن إسحاق قال ان قريشا بعثوا إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الحُلَيس بن علقمة(1) وكان يومئذ سيد الأحابيش وهو أحد بلحارث(2) بن عبد مناة بن كنانة فلما رآه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال إن هذا من قوم يتألهون فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه فلما رأى الهدى يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده قد أكل أو باره من طول الحبس رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إعظاما لما رأى ، فقال يا معشر قريش : إني قد رأيت مالا يحل ، صُدَّ الهديُ في قلائده قد

__________________

(1) الحليس بن علقمة : (... بعد 6 هـ = بعد 628 م) الحليس بن علقمة الحارثي ، من بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة : سيد (الأحابيش) ورئيسهم يوم أحد ، وكان

مع مشركي قريش. قال الزبيدي : الأحابيش ، بنو المصطلق من خزاعة ، وبنو الهون بن خزيمة ، اجتمعوا عند (جبل حبشي) بأسفل مكة ، وحالفوا قريشا ، فسموا أحابيش ، قريش باسم الجبل. وفي حديث الحديبية : (إن قريشا جمعوا لك الأحابيش) وسماه ابن هشام في السيرة (حليس بن زبان) ثم قال : (الحليس بن علقمة أو ابن زبان) وكان أعرابيا. وهو الذي مر بأبي سفيان بعد وقعة أحد ، فرآه يضرب شدق (حمزة بن عبد

المطلب) بزج الرمح ، ويقول : ذق عنق! أي : يا عاق! فقال الحليس : يا بني كنانة ، هذا سيد قريش يصنع بابن عمه ما ترون! فقال أبو سفيان : ويحك اكتمها عني فإنها كانت زلة. (الاعلام للزركلي)

(2) تخفيف بني الحارث كما يقال ل (بني القين من بني أسد) : بِلْقَيْن وهو من شواذ التخفيف.

٥٣٣

أكل أوباره من طول الحبس عن محله ، والله ما على هذا حالفناكم ولا على هذا عاقدناكم أن تصدوا عن بيت الله من جاءه معظما له والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد قال فقالوا له مه كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.(1)

ثم وافقت قريش على الصلح واشترطت متعسفة ان يرجع محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله تلك السنة ، ووافقصلى‌الله‌عليه‌وآله على شروطها التعسفية ، وعرفت القبائل من حلفاء قريش ومن غيرهم لما اختلطوا مع المسلمين انها كانت تكذب على محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وانه نبي حق ودعوته حق تدعو كل عاقل الى تصديقه(2) . وازداد عدد المسلمين الى اضعاف / الفتح المبين /.

__________________

(1) الطبري ،تاريخ الطبري ، ج 2 ص 276.

(2) جاء فيأسد الغابة ابن الأثير ج 2 ص 344 في ترجمة (سليط) بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي بن غالب العامري أخو سهيل والسكران ابني عمرو قاله ابن منده وأبو نعيم ورويا عن ابن إسحاق فيمن هاجر إلى أرض الحبشة من بني عامر بن لؤي سليط بن عمرو بن عبد شمس ومعه امرأته ولدت له ثم سليطا بن سليط وذكره موسى بن عقبة فيمن شهد بدرا ولم يذكره غيره فيهم وهو الذي أرسله النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى هوذة بن علي الحنفي والى ثمامة بن أثال الحنفي وهما رئيسا اليمامة وذلك سنة ست أو سبع من الهجرة. وفيالطبقات الكبرى لابن سعد ج 5 ص 550 ـ 551 ثمامة بن أثال بن النعمان بن مسلمة بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع بن ثعلبة بن الدول بن حنيفة الحنفي كان مر به رسول لرسوله اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فأرد ثمامة قتله فمنعه عمه من ذلك فأهدر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم دم ثمامة. وفي أنساب الأشراف أحمد بن يحية بن جابر (البلاذري) ج 1 ص 376 قال في ذكر سرية محمد بن مسلمة بن خالد بن مجدعة الأوسي ، من الأنصار ، في المحرم سنة ستّ (أقول : أي بعد الحديبية بشهرين) إلى القرطاءء ، من بني كلاب ، بناحية ضرّية وبينها وبين المدينة سبع ليال. أتاهم ، فغنم نعما وشاء ، وأخذ ثمامة بن أثال الحنفي. وفي تاريخ المدينة ابن شبة النميري ج 2 ص 437 ـ 438 : أن أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذوا ثمامة وهو طليق ، وأخذوه وهو يريد أن يغزو بني قشير ، فجاءوا به أسيرا إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو موثق ، فأمر به فسجن ، فحبسه ثلاثة أيام في السجن ثم أخرجه فقال «يا ثمامة إني فاعل بك إحدى ثلاث ، إني قاتلك ، أو تفدي نفسك ، أو نعتقك» قال إن تقتلني تقتل سيد قومه ، وإن تفادي فلك ما شئت ، وإن (تعتق تعتق شاكرا. قال «فإني قد أعتقتك» قال : فأنا على أي دين شئت؟ قال «نعم» قال : فأتيت المرأة التي كنت موثقا عندها فقلت : كيف الاسلام؟ فأمرت لي بصحفه ماء فاغتسلت ، ثم علمتني ما أقول ، فأتيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : أشهد أن لا إله إلا الله وأنّك رسول الله ، وفي أسد الغابة لابن الأثير ج 1 ص 246 ـ 248 : ثم جاء إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو جالس في المسجد فقال يا محمد لقد كنت وما وجه أبغض إلى من وجهك ولا دين أبغض إلى من دينك ولا بلد أبغض إلى من بلدك ثم لقد أصبحت وما وجه

٥٣٤

قريش المشركة وحلفاؤها ينقضون عهدهم مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :

نقضت قريش عهودها مع النبي بع سنتين حين نصرت بني نفاثة ورئيسهم نوفل بن معاوية احد بطون بني بكر من كنانة على خزاعة حليفة النبي في حرب وقعت بينهما بسبب هجاء كناني للنبي امام رحل خزاعي وثارت حمية الخزاعي فكسر يد النفاثي الكناني ، ووقع القتل في نساء خزاعة واطفالهم وضعفاء رجالهم حيث بيوتهم وهم امنون في الوتير موضع اسفل مكة وجاء عمرو بن سالم راس خزاعة الى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يستنصره قائلا :

يا رب إني ناشد محمدا

حلف أبينا وأبيه الأتلدا

قد كنتم ولداً وكنا والدا

ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا

إن قريشاً أخلفوك الموعدا

ونقضوا ميثاقك المؤكدا

هم بيّتونا بالوتير هجدا

وقتلونا ركعا وسجدا.

وتأثر النبي لذلك جدا ودمعت عيناه ، وبعث ضمرة ليخير قريشا بين ثلاث ان يدوا قتلى زخزاعة او يبرأوا من بطن نفاثة الذي قام بالمجزرة او ينبذ اليهم على سواء واختارت قريش الثالثة.(1)

فتح مكة لمشروع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الى الابد :

نهض النبي بجيش قوامه عشرة الاف مسلم ودخل مكة فاتحا وحرر بيت ابراهيم

__________________

أحب إلى من وجهك ولا دين أحب إلى من دينك ولا بلد أحب إلى من بلدك وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. وفي تاريخ المدينة قال ثمامة : ثم قدمت مكة فقلت : يا أهل مكة إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، ولا تأتيكم من اليمامة تمرة ولا برة أبدا أو تؤمنوا بالله ورسوله ، فكتب المشركون من مكة إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يسألونه بالله وبالرحمن أن لا يحبس الطعام عن مكة حرم الله وأمنه ، فقدمت على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال " يا ثمامة لا يثأر المسلم بالكافر ، ولكن ارجع إلى قومك فادعهم إلى الاسلام فمن أقر منهم بالاسلام واتبعك فانطلق إلى بني قشير ولا تقاتلهم حتى تدعوهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، فإن بايعوك حرمت عليك دماؤهم ، وإن لم يبايعوك فقاتلهم. فدعا قومه فأسلموا معه ، ثم غزا بني قشير فثأر بابنه.

(1) انظر تفصيل القصة في الصحيح من السيرة النبوية للسيد جعفر مرتضى ج 21 ص 21 فما بعد.

٥٣٥

من الاصنام ومن بدعة الحمس ليعلن فيها التوحيد والشهدة لمحمد بالرسالة ابد الدهر.

هدم بدعة قريش في الحج واعلان امامة اهل البيتعليهم‌السلام واولهم علي عليه‌السلام في الغدير :

وفي السنة العاشرة اعلن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن حجة الوداع هدم فيها بدعة قريش بتحريم الجمع بين العمرة والحج في اشهر الحج حيث شرع حج التمتع الذي يتألف من عمرة وحج بينهما حِل ،

ثم اعلن في رجوعه عند مفترق الطرق عند غدير خم وامام مائة الف بل يزيدون ، اوصى بالتمسك بإمامه اهل بيته الدينية وقرنهم بالكتاب ، هذه الامامة التي تنعكس عنها ولايته الحكمية (التنفيذية) لكل المسلمين.

روى الحاكم النيسابوري بسنده عن أبي الطفيل عن زيد بن أرقم قال :

«خرجنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتى انتهينا إلى غدير خم عند شجيرات خمس ودوحات عظام فكنس الناس ما تحت الشجيرات ثم استراح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عشية فصلى ثم قام خطيبا فحمد الله واثنى عليه ثم قال :

أيها الناس إني تارك فيكم أمرين(1) لن تضلوا ان اتبعتموهما وهما كتاب الله وأهل بيتي عترتي ثم قال أتعلمون أني أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم ثلاث مرات قالوا نعم فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من كنت مولاه فعلي مولاه ...».(2)

وفي رواية الطبراني بعد قوله عترتي «وان اللطيف الخبيرنَبَّأَني انهما لن يفترقا

__________________

(1) في رواية مسلم واحمد (ثقلين).

(2) الحاكم ،المستدرك على الصحيحين ، ج 3 ص 110 و 533. وتاريخ مدينة دمشق ترجمة عليعليه‌السلام ج 2 : 36 الحديث رقم 534 وقد رواه البلاذري أيضا في الحديث رقم 48 من ترجمة عليعليه‌السلام ص 110 وفيه قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله (كأني قد دعيت فأجبت وان الله مولاي وانا مولى كل مؤمن وانا تارك فيكم ...) ورواه ابن كثير فيالبداية والنهاية ج 2 ص 206 عن سنن النسائي ورواه أيضا الطبري عن أبي الطفيل عن زيد بن أرقم وعن عطية عن أبي سعيد الخدري ورواه أيضا ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة ص 23. كما ورواه المتقي الهندي أيضا فيكنز العمال ج 13 : 104 الحديث رقم (36340) تصحيح الشيخ صفوة السقا.

٥٣٦

حتى يردا عليَّ الحوض وسألت ذلك لهما ، فلا تَقدَّموهُما فتهلكوا ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ، ولا تعلموهم فانهم اعلم منكم».(1)

فئات المجتمع الاسلامي في السنة العاشرة من الهجرة :

كان المجتمع الاسلامي الإسلامي في السنة العاشرة من الهجرة يحتوي على ثلاث فئات من المسلمين :

الاولى : فئة العلماء الربانيين وهؤلاء شعارهم التسليم المطلق والتقيد الحرفي لإمر الله ورسوله وهم اهل بيت النبي وعظيمهم بعليعليه‌السلام .

الثاني : فئة محبي علي الراسخون في العلم مثل مقداد وعمار وسلمان ابي ذر ونظرائهموهؤلاء وطنوا انفسهم على حب اهل البيت واخذ معارف الدين عنهم.

الثالثة : فئة قريش المسلمة ومن اخذ بمنهجهم ويحملون شعار حسبنا كتاب الله والاجتهاد في قبال السنة. وهم الذين قُدِّرَ لهم ان يحكموا بعد النبي مدة اربع وعشرين سنة ، ويفتحوا البلاد ويكونوا مجتمع مسلمة الفتوح على اجتهاداتهم واغلب هؤلاء كانوا في جيش اسامة (وخالفوا النبي في قوله جهزوا جيش اسامة ولعنهم حين قال لعن الله من تخلف عن جيش اسامة).

خليفة مشروع علي عليه‌السلام الاحيائي للسنة النبوية

1. انقلاب قريش المسلمة :

كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على قمة هرم المجتمع الاسلامي دينيا وسياسيا وقد ايده الله تعالى ببيناته في حركته التبليغية والتأسيسية وهذه حقيقة لا يختلف عليها اثنان.

وقد اعلن النبي منذ بداية المشروع / 10 ق. هـ / لبني هاشم وبني المطلب فيما عرف بحديث الدار : ان وزيره ووصيه وخليفته فيه هو علي ، ثم اعلن للمسلمين جميعا / 10 هـ / الامامة الدينية والسياسية فيما عرف بحديث الغدير في غدير خم / مفرق طرق الحاج

__________________

(1) الطبراني ،المعجم الكبير ج 5 ص 167 الحديث رقم 4971 وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ج 9 ص 164 فيه حكيم بن جبير وهو ضعيف قال ابن حجر في التقريب ضعيف رمي بالتشيع.

٥٣٧

من مكة الى المدينة / امام مائة الف او يزيدون وهم عظم المسلمين الذين استنفرهم للحج معه. وقد امتلأت الفترة الزمنية بين حديث الدار وحديث الغدير وهي فترة عشرين سنة باحاديث في هذه المناسبة او تلك تؤكد ذلك بشكل واخر ،

وقد اقترن ذلك بتربي علي في حجر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله منذ ولادته في بيت ابيه يوم كان النبي يعيش هناك بكفالة عمه ، ثم اصطحبه معه في بيته بعمر ست سنوات لما تزوج واستقل عن عمه ثم اصحبه في هذا العمر الى غار حراء يرفع له في كل يوم من اخلاقه علما ، وعندما كلفه الله نبيه بارسالة كان علي الى جنبه وقد سمع رنة الشيطان وسأل النبي عنها فأجابه انه الشيطان قد يئس من عبادته واخبره انه منه بمنزلة هارون من موسى الا انه لا نبي بعده ،

وكان علي في مكة يكتب عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله القرآن وبهامشه تفسيره وفي المدينة كان بيته مع امه فاطمة بنت اسد في المسجد بجوار بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مع ابنته فاطمةعليها‌السلام ، وله مع النبي لقاءان يوميا احدهما بعد صلاة الفجر والاخر بعد المغرب يواصل فيه املاءه في تفسير القرآن ويضيف اليه املاءه في الاحكام والسيرة والملاحم وقد عرف المسلمون جميعا خبر هذه اللقاءات يوم عقد النبي بعضها مع علي في ايام حصار الطائف وعرفت يومذاك بالمناجاة قال جابر : انتجى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله علياً يوم الطائف فطالت مناجاتُه إيّاه. فقيل له : لقد طالت مناجاتك اليوم عليّاً؟ فقال : ما أنا ناجيتُه ولكنّ الله انتجاه(1) أي الله تعالى امرني ان انتجيه وليس هو عمل من تلقاء نفسي والمعنى امرني الله تعالى ان انفرد بعلي واسر اليه بالحديث امامكم.

وقد كتب علي في هذه اللقاءات : الصحيفة الجامعة طولها سبعون ذراعا فيها كل شيء مما يحتاج اليه من الاحكام وصحفا اخرى كتب فيها الملاحم والتفسير ثم صارت ميراثا له وللائمة من ولدهعليه‌السلام .

وهذا اللصوق لعلي بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله جعل سيرة عليعليه‌السلام مدمجة مع سيرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فلا يذكر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الا والى جانبه علي كما هو حال سيرة موسى لا يذكر فيها موسى الا

__________________

(1) ابن الأثير ،جامع الأصول ج 9 ص 474 والخطيب التبريزي فيمشكاة المصابيح 564 ، وابن كثير الدمشقي فيالبداية والنهاية ج 7 ص 356. والنجوى في الحديث : الاسرار به لفرد او لجماعة.

٥٣٨

والى جانبه هارون وقد تواتر الحديث عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله انه قال لعلي (انت مني بمنزلة هارون من موسى الا انه لا نبي بعدي).

وانقلبت قريش المسلمة بعد وفاة النبي على عليعليه‌السلام وكاندوا يقتلونه ، نظير انقلاب امة موسى على هارون بعد طول غيبة موسى وكادوا يقتلونه. وادعت قريش المسلمة الامامة الدينية واقصت علياعليه‌السلام عن موقعه الذي عينه النبي فيه بأمر الله ، وابتدعت في دين محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله فحرمت متعة الحج واخرت مقام ابراهيم عن البيت الى المكان الذي كان علي في الجاهلية ، لتكرس امامتها الدينية وفسحت المجال لكعب الاحبار عالم يهود اليمن وتميم الداري راهب النصارى في الحجاز ان ينشرا اساطيرهم حول الخلق والانبياء وغاب تنزيه التوحيد وتنزيه الانبياء الذي جاء به محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وفتحت البلدان على ذلك وانتهى الامر الى قيام حكم بني امية زمن عثمان على تكريس تلك السيرة فصاروا ائمة الدين وولاته.

حالة المسلمين الفكرية والدينية والسياسية زمن خلافة عثمان سنة 26 هجرية :

اما الحالة السياسية فتعرف من شخصية رئيس الدولة وولاته على الامصار :

1. كان رئيس الدولة عثمان بن عفان بن ين ابي العاصي بن امية بن عبد شمس.

2. وكان سكرتيره الخاص مروان بن الحكم بن العاص بن امية بن عبد شمس (ابن عم عثمان).

3. وكنا والي الشام الكبرى معاوية بن ابي سفيان بن حرب بن امية بن عبد شمس. (ابن عم عثمان)

4. وكان والي الكوفة الوليد بن عقبة بن ابي معيط بن عمرو بن امية بن عبد شمس ، ثم خالد بن سعيد بن العاصي بن سعيد بن العاصي بن امية بن عبد شمس والد عمرو بن سعيد الاشدق. (اولاد عمه)

5. وكان والي البصرة : عامار بن ربيعة من حبيب بن عبد شمس وهو ابن خال عثمان وحبيب بن عبد شمس هو اخو امية بن عبد شمس. (فهو ابن عمه)

٥٣٩

6. وكان والي مصر عبد الله بن ابي سرح اخو عثمان من الرضاعة وهو من بني عامر احدى بطون قريش.

وفي ضوء ذلك فان دولة عثمان هي الدولة الاموية الاولى. وقد تذمرت منها بطون قريش حيث حرمت من امتيازات السلطة التي كانت لهم ايام ابي بكر وعمر ، واخذوا يحثون الناس على العمل للاطاحة بالخليفة عثمان.

اما الحالة الفكرية والدينية : فهي ما تبنته الدولة من اعتبار سيرة الشيخية جزءا اساسيا من قانون الدولة وتتمثل هذه السيرة بامور هي :

1. المنع من نشر احاديث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في حق اهل بيته واولهم عليعليه‌السلام . كحديث الثقلين وحديث الغدير وحديث المنزلة وغيرها.

2. تحريم متعة الحج التمتع / وقد جعلها الاسلام رخصة للحاج / وعقوبة المخالف.

3. تحريم متعة النساء / وقد جعلها الاسلام علاجا للزنا /.

4. اسناد الوعظ وبيان قصص الانبياء الى كعب الاحبار ومصدره فيها التوراة المحرفة التي طرحت في المجتمع بصفتها كتاب الله الاول ، الامر الذي افقد عقيدة التوحيدَ وسيرةَالانبياء التنزيهَ الذي جاء به القرآن فيها ..

5. ايجاد الطبقية في المجتمع ، على مستوى العطاء الذي توزعه الدولة في قبال التسوية التي سنها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بتفضيل ازواج النبي على المسلمين ثم اهل بدر على غيرهم ثم اهل الحديبية على غيرهم ، وفي الفروج في قبال كفاءة المؤمن للمؤمنة بمنع غير العربي من التزوج بالعربية ،

6. ارجاع مقام ابراهيم الى مكانه في الجاهلية.

7. ارجاع لقب (ال الله) التي انتحلته قريش في الجاهلية اليها ومعاقبة صحابي فاضل لانه عين مولاه عليها في غيابه.(1)

__________________

(1) جاء فيتهذيب الكمال للمزي ج 29 ص 279 ـ 280 ، وفيأسد الغابة لابن الأثير ج 5 ص 7 ـ 8 ، وعنالاستيعاب لابن عبد البر ج ص 1490 في ترجمة نافع بنعبد الحارث الخزاعي ، قال أبو عمر بن عبد البر استعمله عمر بن الخطاب على مكة وفيهم سادة قريش ، فخرج نافع إلى عمر ، واستخلف مولاه عبد الرحمان بن أبزى فقال له عمر : استخلفت على آل الله مولاك؟ فعزله ، وولى

٥٤٠

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611