الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 611

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 611 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 139670 / تحميل: 6868
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٤

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

الشرح

١٠١
١٠٢

بسم الله الرحمن الرحيم

١ ـ اَللّـهُمَّ اِنّي أَسْأَلُكَ بِرَحْمَتِكَ الَّتي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء ، وَبِقُوَّتِكَ الَّتي قَهَرْتَ بِها كُلَّ شَيْء ، وَخَضَعَ لَها كُلُّ شَيء ، وَذَلَّ لَها كُلُّ شَيء ، وَبِجَبَرُوتِكَ الَّتي غَلَبْتَ بِها كُلَّ شَيء ، وَبِعِزَّتِكَ الَّتي لا يَقُومُ لَها شَيءٌ ، وَبِعَظَمَتِكَ الَّتي ملأت كُلَّ شَيء ، وَبِسُلْطانِكَ الَّذي عَلا كُلَّ شَيء ، وَبِوَجْهِكَ الْباقي بَعْدَ فَناءِ كُلِّ شَيء ، وَبِأَسْمائِكَ الَّتي ملأت اَرْكانَ كُلِّ شَيء ، وَبِعِلْمِكَ الَّذي اَحاطَ بِكُلِّ شَيء ، وَبِنُورِ وَجْهِكَ الَّذي اَضاءَ لَهُ كُلُّ شيء يا نُورُ ، يا قُدُّوسُ ، يا اَوَّلَ الأولين ، وَيا آخِرَ الاْخِرينَ.

أدب الدعاء يقضي أن يبدأ الداعي عندما يتوجه الى ربه ليطلب منه المغفرة ، والعفو عما صدر منه من الذنوب أن يقسم عليه بصفاته الكريمة ، وأسمائه المقدسة جلباً للعطف ومدعاة للحنو عليه.

١٠٣

وفي هذا الفصل يبدأ الداعي بالقسم على ربه ليكون ذلك مفتاحاً لتوجيه الطلب اليه ، وتمهيداً لفتح باب المناجاة معه.

«اللهم»

يتفق علماء العربية في أن الأصل في هذه الكلمة هو (يا الله) ولكنهم اختلفوا في كيفية تركيبها الخارجي ، وأنه كيف صارت (اللهم) بدلاً من (يا الله).

يقول البعض منهم : أن العرب تركت الهمزة من لفظ الجلالة فاتصلت الميم بالهاء ، وصار حرف النداء ، والمنادى كالحرف الواحد ، واكتفي به من ذكر (يا) فاسقطت فكانت الكلمة (اللهم).

ويقول هؤلاء : بأن العرب ربما أدخلوا على هذه الكلمة حرف النداء (يا) فقالوا : (يا اللهم اغفر لنا).

أما البعض الآخر : فيقول : بإن هذه الكلمة أصلها (يا الله) فهي منادى ولكن لكثرة دورانها على الالسن حذف حرف النداء (يا) ، وعوض عنه (بميم) مشددة وضعت في آخر الكلمة فكانت بحسب التركيب الخارجي «اللهم»(١) .

وعلى كلا النقلين الملاحظ أن الأصل في كلمة (اللهم) يا الله.

أما كيف تحول حرف النداء ، والمنادى الى هذه الكلمة فهذا

__________________

(١) لسان العرب : مادة (إله) والزاهر : ١ / ١٤٦.

١٠٤

مالا يغير المقصود من أدب الدعاء من الإِفتتاح بالمناجاة مع الله سبحانه بعبارة (يا الله).

وهكذا يحسن بالداعي أن يبدأ ، فيفتتح دعاءه بإسم الله ، ويستعين به من المبدأ الى الأخير.

«اني أسئلك»

والسؤال طلب ، ولكن الطلب اذا كان من العالي الى الداني فهو أمر ، وإذا كان من المساوي فهو المتماس ، أما إذا كان من الداني الى العالي فهو سؤال.

والسائل هو المستعطي كما أن الفقير يطلق عليه السائل.

ولأجل هذا يتجه الداعي ، وهو الفقير الى ربه ليسأله من رحمته ولم يقل : ربي اريد ، او اطلب ، بل هو سائل بما تشتمل عليه هذه الكلمة من خشوع ، وخضوع.

«برحمتك التي وسعت كل شيء»

والباء للقسم ، والداعي يسأل ربه مقسماً عليه برحمته ، والتي هي في اللغة : رقة القلب ، وإنعطاف يقتضي الفضل ، والإِحسان والمغفرة.

هذا الإِنعطاف الذي يشمل كل شيء في هذا الوجود بما في الكون من موجودات ، وكائنات فهي مغمورة بلطفه ، ومشمولة

١٠٥

لعنايته ولم لا يقسم الداعي على الله برحمته الواسعة؟ ، وقد أخبر هو جل إسمه عن هذا العطف بقوله :

( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ) (١) .

( فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ ) (٢) .

ففي كل لحظة من لحظات الحياة تفيض الرحمة على ابن آدم تتابعه من حين إنعقاد نطفته الى ما بعد ولادته ، وحتى بعد موته وكذلك يوم القيامة ، وعند الحساب فعن الإِمام الصادق عليه السلام اذا كان يوم القيامة نشر الله تبارك وتعالى رحمته ، حتى يطمع إبليس في رحمته»(٣) .

وبماذا يقابل العبد ربه ، وهو يمنحه هذه الهبات ، والعطايا وكلها عطف ولطف؟ ولماذا يستكثر العبد على نفسه ذنوبه مهما كانت اذا عاد الى رحاب الله تائباً يناجي ربه؟ ويقسم عليه برحمته وهو الذي لوح له ببارق الأمل بقوله :

( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّـهِ ) (٤) .

والسرف : هو التجاوز والقنوط هو اليأس.

وبهذا الوعد يتجلى لطف الخالق في أروع صورة فلماذا اليأس

__________________

(١) سورة الأعراف : آية (١٥٦).

(٢) سورة الأنعام : آية (١٤٧).

(٣) سفينة البحار : مادة (رحم).

(٤) سورة الزمر : آية (٥٣).

١٠٦

حتى ولو أسرف العبد في المخالفة ما دام قد أخبر سبحانه بانه( كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) (١) .

وكتب : بمعنى سجل ، والزم نفسه بالرحمة لعباده.

ولمن : فهل خص برحمته فئة معينة؟

أم لماذا : فهل أجبره أحد على ذلك؟

الآية الكريمة هي تجيب على هذه الإِستفهامات بعد ان كانت مطلقة ، وغير مقيدة بشيء ، بل رحمته تعم الجميع من دون سبب أو تأثير خارجي لأن عطفه نابع من فيض ذاته المقدسة ، وبإقتضاء من حنوه ، ولطفه على مخلوقاته.

( كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) .

حتى ولو قابله العبد بالإِسائة ، والتقصير.

فخيره الينا نازل.

وشرنا اليه صاعد.

اذا كنت تجري الذنب مني بمثله فما الفرق ما بيني وبينك يا رب؟

«وبقوتك»

والباء : للقسم أيضاً. والقوة ضد الضعف ، وبه قوة أي به طاقة وقوة الله ليست كقوة العبد ، والتي هي من سنخ القوى العشرة والتي منحها الله لعباده من السامعة ، والباصرة ، والشامة ،

__________________

(١) سورة الأنعام : آية (١٢).

١٠٧

واللامسة ، والعاقلة ، وغيرها سواءً كانت هذه القوى مدركة للجزئيات أو الكليات. بل هي قدرته غير المتناهية ، والذاتية له حيث لا يقف في قبالها شيء لأنه على كل شيء قدير.

«التي قهرت بها كل شيء»

وهكذا يتدرج الداعي ليقسم على ربه بقوته فهو القادر على ما يشاء لا يمتنع عليه شيء ، ولا يقف في طريق ارادته أحد من الخلق( وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (١) .

وتبدو روعة الإِنتقال في الدعاء من التوسل اليه برحمته الواسعة الى التضرع بالقسم عليه بقوته القاهرة.

رحمته التي تمثل الدعة في الانعطاف ، والفضل في الإِحسان واللطف في المغفرة.

وقوته التي تتجسم فيها كل آيات القدرة على ما في هذا الوجود ليعلم أن هذه الرحمة ، وهذا العطف ليس من قصور في ذاته المقدسة لكونه لا يقدر على شيء ، بل هي رحمة تنبعث من قدرة قادر قاهر. فهو في الوقت الذي يملك القدرة المطلقة في عالم الأسباب ، وله الغلبة في كل شيء نراه رحيماً يطمع حتى إبليس في رحمته.

فإذا غفر فعن قدرة.

وإذا عف فعن رفعة.

__________________

(١) سورة غافر : آية (٦٨).

١٠٨

«وخضع لها كل شيء»

الخضوع : هو الانقياد ، والتطامن ، والتواضع(١) .

والضمير في قوله (لها) يعود الى القدرة. والمعنى : يا رب أقسم عليك بقدرتك التي قهرت بها كل شيء في هذا الوجود فكان من نتيجة ذلك ان خضع لقدرتك كل ما في هذا الوجود.

وقد يقال : أن توصيف القدرة بقوله :( قهرت بها ) والقهر هو الغلبة يغني عن عطف (وخضع لها) لأن تلك الأشياء كلها خاضعة لقدرته لأنها مغلوبة لها.

والجواب عن ذلك : أن العطف بالاخبار بالخضوع يحمل بين طياته معنىً دقيقاً ذلك هو : أن الله ، وان كانت قدرته غالبة على كل شيء فإن التغلب على الشيء ليس معناه تطامن ذلك المغلوب ، والإِنقياد للغالب نفسياً ، بل أقصى ما يدل عليه أنه تحت سيطرته ، وسطوته. ولكن الأخبار بخضوع الأشياء لقدرته معناه أن كل شيء في هذا الوجود قد تطامن ، وانقاد ، وتواضع لقدرته.

«وذل لها كل شيء»

ذل : جاءت في اللغة لمعنيين :

١ ـ انها مأخوذة من الذل بالكسر ، وهو ضد الصعوبة أي (إنقاد) ويكون معنى الجملة على هذا التقدير : وبقدرتك التي انقاد لها كل شيء.

__________________

(١) أقرب الموارد : مادة (خضع).

١٠٩

٢ ـ انها مأخوذة من الذل بالضم ، وهو ضد العز ، ومعناه : ان الشيء هان ، ويكون المعنى : واسئلك بقدرتك التي هان لها كل شيء.

أما أن أياً من هذين المعنيين أنسب بسياق الدعاء.

فالجواب : ان يكون المعنى الثاني وهو : الذل بالضم ، وذلك لأن أخذ الذل على هذا المعنى يجعل المعنى من جملة «وخضع لها كل شيء».

ويختلف عن المعنى في جملة «وذل لها كل شيء» لأن الخضوع ـ كما قلنا ـ هو الإِنقياد ، والذل بالضم ضد العز ، واحدهما مغاير للآخر. فتكون كل جملة قد أفادت معنى غير الذي جاءت به الجملة الأخرى ، المعطوف والمعطوف عليه.

أما لو أخذ الذل بالكسر ، فإن المراد من الجملتين يكون واحداً وهو الإِنقياد فلا يكون بين الجملتين من حيث أدائهما للمعنى فرق عدا التوضيح. ومن الواضح عند دوران الأمر بين حمل الكلام على تأسيس معنى ، او حمله على التوضيح لما سبق يقولون أن حمله على التأسيس اولى من حمله على التوضيح ، طبقاً لما يقرره علماء الأصول في بحوثهم الأصولية.

«وبجبروتك التي غلبت بها كل شيء»

الجبروت : من صيغ المبالغة بمعنى العظمة ، والكبر ، والقدرة ، والسلطة. وهي صفة توحي بالقهر ، والغلبة ، والإِستعلاء.

١١٠

ولأجل ذلك كان الاتصاف بهذه الصفة من مختصات الله تعالى.

فإن وصف بها سبحانه كانت مدحاً وإن وصف بها إنسان كانت ذماً إذ لا إستعلاء إلا له ، ولا كبر إلا له ، ولا غالب إلا هو صفات لا يشاركه فيها أحد ولهذا يقسم الداعي بها عليه لمكان الإِختصاص.

«وبعزتك»

العزة : بالكسر ضد الذلة ، وهي مصدر بمعنى الغلبة ، والقهر ومثل ذلك : ما جاء في قوله تعالى :( وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ) أي : غلبني في الإِحتجاج(١) .

«التي لا يقوم لها شيء»

وفي اللغة : قام على الأمر : دام ، وثبت. فلا يقوم : أي لا يثبت ، والمعنى : أقسم عليك بغلبتك ، وقهرك المتمثلان بعزتك التي لا يثبت أمامها شيء ، بل كل شيء متضائل أمام عزته ، وسطوته.

«وبعظمتك»

العظمة : محركة الكبر ، والنخوة ، والزهو.

والعظمة لله هي الإِستقلال ، والإِستغناء عن الغير.

أما عظمة العبد فهي : تكبره ، وتجبره ، ولذلك فإذا وصف العبد بالعظمة ، فهو ذم له لأن العظمة لله وحده لا شريك له(٢) .

__________________

(١ ـ ٢) لسان العرب : مادة (عزز ، وعظم).

١١١

وقد جاء في الحديث القدسي : (والعظمة ردائي).

واذا كانت العظمة رداء الله ، وجلاله فكيف يشاركه فيها غيره؟

ولذلك كان وصف العبد بها ذماً كما يقوله اللغويون لأنه إستعلاء ، وتطاول على ما ليس له ، وهو مخلوق ضعيف.

( وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ) (١) .

«التي ملأت كل شيء»

والضمير في قوله : (ملأت) يعود الى العظمة. وملأت الإِناء أي وضعت فيه بقدر ما يأخذه فهو مملوء ، ومنه القول : «نظرت اليه فملأت منه عيني»(٢) .

والمعنى الذي يقصده الدعاء بهذه الجملة هو أن يقسم على الله بعظمته التي إذا قيست الى كل شيء كان ذلك الشيء مملوءاً ومأخوذاً بتلك الهيبة الإِلهية ، والجلالة القدسية ، كما يملأ الماء الإِناء حيث يصل الى حافته.

«وبسلطانك»

السلطان : من السلطنة ، وهي القدرة ، والملك. فالسلطان هو القادر ، والمالك ، والمتسلط على غيره.

__________________

(١) سورة الحج : آية (٧٣).

(٢) أقرب الموارد مادة ملاء.

١١٢

«الذي علا كل شيء»

وتسلطه جلت عظمته على ما في الوجود هو قدرته عليه ، وكون الأشياء مسخرة لإِرادته( وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ ) (١) .

ولم يقتصر الأمر على الأرض فقط حيث كانت كلها تحت قبضته يدبرها كيف يشاء ، بل( وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ) (٢) .

فعلوه اللامتناهي على كل شيء ينشأ من هذه السلطة الجبارة.

«وبوجهك»

الوجه : أول ما يبدو للناظر من البدن ، وفيه العينان ، والأنف والفم ، وكذلك مستقبل كل شيء وجهه.

ولأهل اللغة والمفسرين آراء كثيرة في تفسير وجه الله وقد تضمن القرآن الكريم آيات عديدة أضيف فيها الوجه اليه تعالى ، ولكن الذي يأتي في مقدمة تلك المعاني هو تفسيره بانه : ذاته المقدسة ، ونفسه الشريفة(٣) .

«الباقي بعد فناء كل شيء»

والفناء خلاف البقاء والجملة صفة لذاته المقدسة وهي مستوحاة من قوله تعالى :( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (٤) .

__________________

(١) سورة الزمر : آية (٦٧).

(٢) سورة الزمر : آية (٦٧).

(٣) لاحظ لسان العرب : مادة (وجه).

(٤) سورة القصص : آية (٨٨).

١١٣

والمعنى : أقسم عليك بذاتك التي تبقى ، ويفنى كل شيء. والآية الكريمة تؤيد أن يكون المراد من وجه الله هو ذاته ونفسه حيث يهلك كل شيء إلا هو ، وقد عبر فيها عن نفسه بوجهه.( اللَّـهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ) (١) .

«وبأسمائك»

الأسماء : جمع اسم ، والإِسم مأخوذ من السمة وهي العلامة وأسماؤه سبحانه هي : صفاته ، وصفاته عين ذاته ، وليست زائدة على عين الذات وهي :

عليم ، وقدير ، وغني ، وحي ، ومحي ، ومميت ، وكبير ، وقاهر الى غيرها مما تضمنته الكتب بيان اسمائه ، وهي كلها ثابتة له إذ عدم ثبوتها ، ونفيها عنه معناه : إثبات النقص إليه ، ولا سبيل الى ذلك لإِستلزام النقص محدوديته ، ولا يحد سبحانه بحد.

أما عدد أسمائه تعالى فكثيرة ، ولكن الأسماء الحسنى ، والتي نوه عنها القرآن الكريم في اكثر من آية فهي : مائة وسبعة وعشرين أسماً(٢) .

«التي ملأت أركان كل شيء»

وقد تقدم تفسير مثل هذه الجملة في ما تقدم من قوله «وبعظمتك التي ملأت كل شيء» والمعنى في الموردين واحد.

ويأتي القسم من الداعي على الله بأسمائه في هذه الفقرة طبقاً لما

__________________

(١) سورة البقرة : آية (٢٥٥).

(٢) لاحظ بتفصيل لهذا البحث تفسير الميزان : للسيد الطباطبائي ٨ / ٣٦٦.

١١٤

أمر الله به عباده في آيات كريمة منها :

( وَلِلَّـهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ) (١) .

( وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) (٢) .

( وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ) (٣) .

( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) (٤) .

وهكذا تتوالى الآيات الكريمة تحث العبد على الدعاء ، والذي هو إنشداد المخلوق الى ربه ، وتوجهه الى مصدر العطاء.

إن الإِنسان ليقف أمام هذا الحشد من الآيات الكريمة ، والحيرة تأخذ عليه مسالك التفكير ، فلماذا كل هذا الأمر بالتوجيه بالدعاء أليس هو لطف منه نحو عبيده المذنبين؟

أليس هو فيض من رحمته نحو هؤلاء المقصرين؟

وهل يخشى الداعي عدم الإِجابة بعد تعهده بها في قوله :

«إدعوني أستجب لكم».

فمن أقوى من الله ضماناً ، وبوركت صفقة كان الضامن فيها هو الله.

إن اليأس من رحمة الله هي الضلال بعينه فقد قال تعالى :

__________________

(١) سورة الأعراف : آية (١٨٠).

(٢) سورة الأعراف : آية (٢٩).

(٣) سورة الأعراف : آية (٥٦).

(٤) سورة المؤمن : آية (٦٠).

١١٥

( وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ) (١) .

ولكنه ابن آدم يدب اليأس اليه ، وقد قال تعالى عنه :

( وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ ) (٢) .

ولكنه سبحانه وتعالى يطمئن عباده قائلاً :

( لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّـهِ إِنَّ اللَّـهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ) (٣) .

«وبعلمك»

العلم : بالكسر إدراك الشيء بحقيقته ، وقيل : هو اليقين وقيل : أنه بمعنى المعرفة.

وقيل : ان بين المعرفة ، والعلم فرقاً فان العلم يقال : لإِدراك الكلي ، أو المركب. والمعرفة تقال لإِدراك الجزئي ، أو البسيط.

ومن هنا يقال : عرفت الله ، دون علمت الله.

وقيل : العلم في الإِنسان ، والمعرفة في البهائم.

وقيل : العلم هو : الإِعتقاد الجازم المطابق للواقع.

وفي الحقيقة : أن العلم بالشيء معنىً أصبح ينتقل اليه بحيث لا يحتاج الى تعريف لوضوحه.

__________________ ـ

(١) سورة الحجر : آية (٥٦).

(٢) سورة الروم : آية (٣٦).

(٣) سورة الزمر : آية (٥٣).

١١٦

«الذي أحاط بكل شيء»

أحاط بالأمر : أحدق به من جوانبه ، وجاء في القرآن قوله :( وَاللَّـهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ ) (١) .

أي أن قدرته شاملة ، ومشتملة عليهم ، ولا يعجزه أحد. أما أنه عالم بكل شيء ، وعلمه محيط بذلك ، فلأنه علة الأشياء كلياتها وجزئياتها ، ومن الواضح أن العلم بالعلة يستلزم العلم بالمعلول فينتج من ذلك أنه تعالى عالم بجميع الأشياء اذ لا مؤثر في الوجود غيره.

وقد أخبر الكتاب الكريم عن هذه الحقيقة في اكثر من آية فقال تعالى :( يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ) (٢) .

وقال :( إِنَّ اللَّـهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (٣) .

وقال :( وَاللَّـهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّـهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (٤) .

ومن هذا المنطلق يأتي القسم على الله بعلمه الذي أحاط ، وأحدق بكل شيء في هذا الكون ، وما تكتنفه من اكوان اخرى.

وقد يتساءل عن السبب في هذا التكرار بالقسم عليه بعلمه مع

__________________

(١) سورة البروج : آية (٢٠).

(٢) سورة التغابن : آية (٤).

(٣) سورة التوبة : آية (١١٥).

(٤) سورة الحجرات : آية (١٦).

١١٧

أن علمه من جملة ما اشتملت عليه الفقرة المتقدمة بقوله «وبأسمائك التي ملأت أركان كل شيء» ومن جملة اسمائه العليم ، العالم. وإذاً فقد أقسم الداعي على الله بعلمه فما هو وجه التصريح بهذه الصفة مع تقدمها اجمالاً ، وفي اسمائه جلّت عظمته؟

ويجاب عن ذلك : بعدم المنافاة بين البيانين إجمالاً في الأول ، وتفصيلاً في الثاني لخصوصية في التنصيص على صفة العلم المحيط بكل شيء ، وربما كانت الخصوصية هي : بيان حال الداعي عند تدرجه في التضرع اليه سبحانه ، وبالقسم عليه بصفاته وانه صادق في هذا الالتجاء حيث أقسم عليه مجدداً بعلمه الذي أحاط بكل شيء ، ومن جملة ما أحاط به علمه هو حالته التي هو عليها من التوبة ، والندم ، وأنه صادق في توسله الذي يخرج عن قلب فإن الله :( يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ) (١) .

«وبنور وجهك»

النور : بالضم الضوء ، وهو خلاف الظلمة ، وقيل : النور كيفية تدركها الباصرة ، جمع انوار ، ونيران.

والنور قسمان : حسي ، ومعنوي.

أما الحسي : فهو ما كان قائماً بغيره كنور الشمس ، ونور الكهرباء وغيرهما.

واما المعنوي : فهو ما كان قائماً بذاته.

__________________

(١) سورة غافر : آية (١٩).

١١٨

ونور الله ليس من القسم الأول ، بل هو نفحاته القدسية التي يستنير بها كل شيء ، ويهتدي من في السماوات والأرض ، بعد ان كانت عدماً فخلقها ، ومنحها الوجود.

وقد اقتبست هذه الفقرة من الآية الكريمة :

في قوله تعالى :( اللَّـهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) (١) .

النور الذي فيه قوامها ، ومنه نظامها فهو الذي يهبها جوهر وجودها ويودعها ناموسها.

ولقد استطاع البشر أخيراً أن يدركوا بعلمهم طرفاً من هذه الحقيقة الكبرى عندما استحال في أيديهم ما كان يسمى بالمادة بعد تحطيم الذرة الى اشعاعات منطلقة لا قوام لها الا النور ولا مادة لها الا النور فذرة المادة مؤلفة من كهارب واليكترونات تنطلق عند تحطيمها في هيئة إشعاع قوامه هو النور.

فأما القلب البشري فكان يدرك الحقيقة الكبرى قبل العلم بقرون كان يدركها كلما شف ، وقرب ، ولقد أدركها كاملة شاملة قلب محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ففاض بها وهو عائد من الطائف نافض كفيه من الناس عائذ بوجه ربه يقول :

«اعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، وفاض بها في رحلة الاسراء ، والمعراج فلما سألته عائشة هل رأيت ربك؟ قال : نور إني أراه»(٢) .

__________________

(١) سورة النور : آية (٣٥).

(٢) في ظلال القرآن في تفسيره لآية (٣٥) من سورة النور.

١١٩

«يا نور»

وبهذا ينهي الإِمام عليه السلام هذا العرض المتوالي من القسم عليه بصفاته الكريمة ، ويبدأ بمرحلة جديدة من إظهار الحالة النفسية للداعي ، وهي مرحلة النداء ، والإِستغاثة ، والتوسل بأحلى صفاته وهي : النور ، القدوس ، أول الأولين ، وآخر الآخرين.

النور : الذي هو مصدر الحياة لكل ما هو مسبوق بالعدم.

«يا قدوس»

وهو بالضم ، وقد يفتح : الطاهر المنزه عن العيوب ، والنقائص وعن كل شريك ، فالشريك نقص لشريكه ، ولذلك فهو تعالى منزه عن هذا النقص ايضاً.

«يا أول الأولين ويا آخر الآخرين»

وهي نداءات تتوالى يضرع بها الإِمام «صلوات الله عليه» الى ربه ويصفه بأنه الأول قبل كل شيء ، والآخر بعد الأشياء ، فلا شيء قبله ، ولا شيء بعده.

وليست الأولية والآخرية بالنسبة اليه تعالى زمانيتين لأن حده بالزمان يستلزم محدوديته ، وإستلزام محدوديته معناه :

إحاطة الزمان به. وهذا يعني احتياجه تعالى الى المحدد. وكل ذلك نقص فيه وهو المنزه عن كل نقص.

سئل الإِمام الصادق عليه السلام عن الأول ، والآخر فقال :

«الأول لا عن أول قبله ، ولا عن بدء سبقه ، والآخر لا عن

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

سورة الأنعام

سورة محاربة أنواع الشرك والوثنية

قيل أنّ سورة الأنعام مكية ، وهي السورة التاسعة والستون في تسلسل نزول السور القرآنية ، إلّا أنّ هناك اختلافا بشأن عدد من آياتها ، يعتقد بعض أنّ تلك الآيات نزلت في المدينة ، لكن الأخبار الواصلة إلينا من أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام تفيد بأن واحدة من مميزات هذه السورة هي أنّ آياتها جميعا نزلت في مكان واحد ، وعليه فكل آياتها مكية.

هدف هذه السورة الرئيسي ـ مثل أهداف السور المكية ـ توكيد الأصول الثلاثة : «التوحيد» و «النبوة» و «المعاد» ، ولكنها تؤكّد أكثر ما تؤكّد قضية عبادة الله الواحد ومحاربة الشرك والوثنية ، بحيث أنّ معظم آيات هذه السورة يخاطب المشركين وعبدة الأصنام ، وبهذا يتناول البحث في أكثر المواضع أعمال المشركين وبدعهم.

على كل حال ، فإن تدبر آيات هذه السورة والتفكير في استدلالاتها الحية الجلية ، يحيي روح التوحيد وعبادة الله في الإنسان ، ويحطم قواعد الشرك ويقتلع جذوره ، ولعل السبب في نزول هذه السورة في مكان واحد هو هذا التماسك المعنوي وإعطاء الأولوية لمسألة التوحيد.

ولعل هذا أيضا هو السبب لما نقرؤه من روايات عن فضل هذه السورة ، وإنّها عند نزولها رافقها سبعون ألف ملك ، وأنّ من يقرأها وترتوي روحه من ينبوع

٢٠١

التوحيد يستغفر له كل أولئك الملائكة.

إنّ التمعن في آيات هذه السورة يقضي على روح النفاق والتشتت بين المسلمين ، ويجعل الآذان سميعة ، والأعين بصيرة ، والقلوب عارفة.

ولكن العجيب أن نرى بعضهم يكتفي من هذه السورة بقراءة ألفاظها فقط ، ويعقد الجلسات لتلاوة آياتها من أجل حل المشاكل الشخصية ، فلو اهتمت هذه الجلسات بمحتوى السورة ، فلا تنحل المشاكل الخاصّة وحدها ، بل تنحل جميع مشاكل المسلمين العامّة أيضا ، ومن المؤسف جدا أنّ جمعا من الناس يعتبرون القرآن مجموعة من (الأوراد) التي لها خواص غامضة ومجهولة فيقرءونها بغير تمعن في مضامينها ، مع أن القرآن كلّه مدرسة ودروس ومنهج ويقظة ، ورسالة ووعي.

* * *

٢٠٢

الآيتان

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ )

( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ(٢) )

التّفسير

تبدأ السّورة بالحمد لله والثناء عليه ، ثمّ تشرع بتوعية الناس على مبدأ التوحيد ، عن طريق خلق العالم الكبير (السموات والأرض) أولا ، ثمّ عن طريق خلق العالم الصغير (الإنسان) ثانيا :( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ) الله الذي هو مبدأ الظّلمة والنّور ، وبخلاف ما يعتقده الثنويون ، وهو وحده خالق كل شيء :( وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ) .

غير أنّ الكافرين والمشركين ، بدلا من أن يتعلموا من هذا النظام الواحد درس التوحيد ، يصطنعون لله الشريك والشبيه :( ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ) (١) .

نلاحظ أنّ القرآن يذكر عقيدة المشركين بعد حرف العطف «ثم» الذي يدل في اللغة العربية على الترتيب والتراخي ، وهذا يدل على أن التوحيد كان في أوّل الأمر مبدأ فطريا وعقيدة عامّة للبشر ، بعد ذلك حصل الشرك كانحراف عن الأصل الفطري.

أمّا لماذا استعملت الآية كلمة «الخلق» بشأن السموات والأرض ، وكلمة

__________________

(١) «يعدلون» من «عدل» على وزن «حفظ» بمعنى التساوي ، وهي هنا بمعنى (العديل) أي الشريك والشبيه والمثيل.

٢٠٣

«جعل» بشأن النّور والظلمة ، فإنّ للمفسّرين في ذلك كلاما كثيرا ، ولكن أقربه إلى الذهن هو القول بأنّ «الخلق» يكون في أصل وجود الشيء ، و «الجعل» يكون بشأن الخصائص والآثار والكيفيات التي هي نتيجة لخلق تلك المخلوقات ، ولما كان النّور والظلمة حالتين تابعتين فقد عبّر عنهما بلفظة «جعل».

وروي عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام في تفسير هذه الآية قوله : «وكان في هذه الآية ردّ على ثلاثة أصناف منهم ، لما قال :( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ) فكان ردّا على الدهرية الذين قالوا : إنّ الأشياء لا بدء لها وهي دائمة ، ثمّ قال :( وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ) فكان ردّا على الثنوية الذين قالوا : إنّ النّور والظلمة هما المدبران.

ثمّ قال :( ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ) فكان ردّا على مشركي العرب الذين قالوا : إنّ أوثاننا آلهة»(١) .

هل الظّلمة من المخلوقات؟

تفيد الآية إنّه مثلما أن «النّور» من مخلوقات الله ، فإنّ «الظلمة» كذلك من مخلوقاته ، مع أنّ الفلاسفة والمختصين بالعلوم الطبيعية يعرفون أنّ الظلمة هي انعدام النّور ، ولهذا فلا يمكن اطلاق صفة «المخلوق» على المعدوم إذن ، كيف تعتبر الآية المذكورة الظلمة من المخلوقات؟

في ردّ هذا الاعتراض نقول.

أوّلا : الظّلمة ليس تعني دائما الظلام المطلق ، بل كثيرا ما تطلق على النّور الضعيف جدا بالمقارنة مع النّور القوي ، فنحن جميعا نقول ، مثلا ، ليل مظلم ، مع العلم بأنّ ظلام الليل ليس ظلاما مطلقا ، بل هو مزيج من نور النجوم الضعيف أو مصادر أخرى للنور ، وعلى هذا يكون مفهوم الآية هو أنّ الله جعل لكم نور النهار وظلام الليل ، فالأوّل نور قوي والآخر نور ضعيف جدا وواضح أنّ الظلمة ، بهذا المعنى ، تكون من المخلوقات.

وثانيا : صحيح أنّ الظلمة المطلقة أمر عدمي ، ولكن الأمر العدمي ـ في ظروف

__________________

(١) تفسير «نور الثقلين» ج ١ ، ص ٧٠١.

٢٠٤

خاصّة ـ يكون نابعا من أمر وجودي ، أي أنّ يوجد الظلمة المطلقة في ظروف خاصة لهدف معين ، لا بدّ أن يكون قد استعمل لذلك وسائل وجودية ، فإذا أردنا أنّ نجعل الغرفة مظلمة لتحميض صورة ـ مثلا ـ فعلينا أن نمنع النّور لكي تحصل الظلمة في تلك اللحظة المعينة ، وظلمة هذا شأنها ظلمة مخلوقة (مخلوقة بالتبع).

وإذا لم يكن (العدم المطلق) مخلوقا ، فإن (العدم الخاص) له نصيب من الوجود ، وهو مخلوق.

النّور رمز الوحدة ، والظلمة رمز التشتت :

الأمر الآخر الذي ينبغي الالتفات إليه هنا هو أنّ لفظة (نور) ترد في القرآن بصيغة المفرد ، بينما الظلمة تأتي بصيغة الجمع (ظلمات).

وقد يكون هذا إشارة لطيفة إلى حقيقة كون الظلام (المادي والمعنوي) مصدرا دائما للتشتت والانفصال والتباعد ، بينما النّور رمز التوحد والتجمع.

طالما شاهدنا أنّنا في الليلة الصيفية الظلماء نوقد سراجا في فناء الدار ، ثمّ لا تمضي إلّا دقائق حتى نرى مختلف أنواع الحشرات تتجمع حول السراج مؤلفة تجمعا حيا حول النّور ، ولكننا إذا أطفأنا السراج تفرقت الحشرات كل إلى جهة ، كذلك الحال في الشؤون المعنوية والاجتماعية. فنور العلم والقرآن والإيمان أساس الوحدة ، وظلام الجهل والكفر والنفاق أساس التفرق والتشتت.

قلنا : إنّ هذه السورة تسعى إلى لفت نظر الإنسان إلى العالم الكبير لتثبيت قواعد عبادة الله والتوحيد في القلوب ، توجه نظره أوّلا إلى العالم الكبير ، والآية التّالية تلفت نظره إلى العالم الصغير (الإنسان) فتشير إلى أعجب أمر ، وهو خلقه من الطين فتقول( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ) .

صحيح أنّنا ولدنا من أبوينا ، لا من الطين ، ولكن بما أنّ خلق الإنسان الأوّل كان من الطين ، فيصح أن نخاطب نحن أيضا على أننا مخلوقين من الطين.

وتستمر السورة فتشير إلى مراحل تكامل عمر الإنسان فتقول : إنّ الله بعد ذلك عين مدّة يقضها الإنسان على هذه الأرض للنمو والتكامل :( ثُمَّ قَضى أَجَلاً ) .

«الأجل» في الأصل بمعنى «المدّة المعينة» و «قضاء الأجل» يعني تعيين تلك

٢٠٥

المدّة أو إنهاءها ، ولكن كثيرا ما يطلق على الفرصة الأخيرة اسم «الأجل» ، فتقول ، مثلا : جاء أجل الدّين ، أي أنّ آخر موعد التسديد الدّين قد حل. ومن هنا أيضا يكون التعبير عن آخر لحظة من لحظات عمر الإنسان بالأجل لأنّها موعد حلول الموت.

ثمّ لاستكمال البحث تقول :( وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ) .

بعد ذلك تخاطب الآية المشركين وتقول لهم :( ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ ) أي تشكون في قدرة الخالق الذي خلق الإنسان من هذه المادة التافهة (الطين) واجتاز به هذه المراحل المدهشة ، وتعبدون من دونه موجودات لا قيمة لها كالأصنام.

ما معنى الأجل المسمى؟

لا شك أنّ «الأجل المسمى» و «أجلا» في الآية مختلفتان في المعنى ، أمّا اعتبار الإثنين بمعنى واحد فلا ينسجم مع تكرار كلمة «أجل» خاصّة مع ذكر القيد : «مسمى» في الثّاني.

لذلك بحث المفسّرون كثيرا في الاختلاف بين التعبيرين ، والقرائن الموجودة في القرآن والرّوايات التي وصلتنا عن أهل البيتعليهم‌السلام تفيد أنّ «أجل» وحدها تعني غير الحتمي من العمر والوقت والمدّة ، و «الأجل المسمى» بمعنى الحتمي منها ، وبعبارة أخرى «الأجل المسمى» هو «الموت الطبيعي» و «الأجل» هو الموت غير الطبيعي.

ولتوضيح ذلك نقول : إنّ الكثير من الموجودات لها من حيث البناء الطبيعي والذاتي الاستعداد القابلية للبقاء مدّة طويلة ، ولكن قد تحصل خلال ذلك موانع تحول بينها وبين الوصول إلى الحد الطبيعي الأعلى ، افترض سراجا نفطيا يستطيع أنّ يبقى مشتعلا مدّة عشرين ساعة مع الأخذ بنظر الإعتبار سعته النفطية ، غير أن هبوب ريح قوية ، أو هطول المطر عليه أو عدم العناية به ، يكون سببا في قصر مدّة الإضاءة ، فإذا لم يصادف السراج أي مانع ، وظل مشتعلا حتى آخر قطرة من نفطه ثمّ انطفأ نقول : إنّه وصل إلى أجله المحتوم ، وإذا أطفأته الموانع قبل ذلك ، فيكون عمره «أجل» غير محتوم.

٢٠٦

والحال كذلك بالنسبة للإنسان ، فإذا توفرت جميع ظروف بقائه وزالت جميع الموانع من طريق استمرار حياته ، فإن بنيته تضمن بقاءه مدّة طويلة إلى حد معيّن ، ولكنّه إذا تعرض لسوء التغذية ، أو ابتلى بنوع من الإدمان ، أو إذا انتحر ، أو أعدم لجريمة ومات قبل تلك المدّة ، فإنّ موته في الحالة الاولى يكون أجلا محتوما ، وفي الحالة الثّانية أجلا غير محتوم.

وبعبارة أخرى : الأجل الحتمي يكون عند ما ننظر إلى «مجموع العلل التامّة». والأجل غير الحتمي يكون عند ما ننظر إلى «المقتضيات» فقط.

استنادا إلى هذين النوعين من الأجل يتّضح لنا كثير من الأمور ، من ذلك مثلا ما نقرؤه في الرّوايات والأحاديث من أن صلة الرحم تطيل العمر ، وقطعها يقصر العمر ، وواضح أنّ العمر هنا هو الأجل غير الحتمي.

أمّا قوله تعالى :( فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) (١) . فهو الأجل المحتوم ، أي أنّ الإنسان قد وصل إلى نهاية عمره ، وهو لا يشمل الموت غير المحتوم السابق لأوانه.

ولكن علينا أن نعلم ـ على كل حال ـ أنّ الأجلين يعينهما الله ، الأوّل بصورة مطلقة ، والثّاني بصورة معلقة أو مشروطة ، وهذا يشبه بالضبط قولنا : إنّ هذا السراج ينطفئ بعد عشرين ساعة بدون قيد ولا شرط ، ونقول إنّه ينطفئ بعد ساعتين إذا هبت عليه ريح ، كذلك الأمر بالنسبة للإنسان والأقوام والملل ، فنقول : إنّ الله شاء أن يموت الشخص الفلاني أو أن تنقرض الأمّة الفلانية بعد كذا من السنين ، ونقول إنّ هذه الأمّة إذا سلكت طريق الظلم والنفاق والتفرقة والكسل والتهاون فإنّها ستهلك في ثلث تلك المدّة ، كلا الأجلين من الله ، الأوّل مطلق والآخر مقيد بشروط.

جاء عن الإمام الصادقعليه‌السلام تعقيبا على هذه الآية قوله : «هما أجلان : أجل محتوم وأجل موقوف» كما جاء عنه في أحاديث أخرى أنّ الأجل الموقوف قابل للتقديم والتأخير ، والأجل الحتمي لا يقبل التغيير(٢) .

__________________

(١) الأعراف ، ٣٤.

(٢) تفسير «نور الثقلين» ، ج ١ ، ص ٥٠٤.

٢٠٧

الآية

( وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (٣) )

التّفسير

هذه الآية تكمل البحث السابق في التوحيد ووحدانية الله ، وترد على الذين يقولون بوجود إله لكل مجموعة من الكائنات ، أو لكل ظاهرة من الظواهر ، فيقولون : إله المطر ، وإله الحرب ، وإله السلم ، وإله السماء ، وما إلى ذلك ، تقول الآية :( وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ ) (١) أي كما أنّه خالق كل شيء فهو مدبر كل شيء أيضا ، وبذلك ترد الآية على مشركي الجاهلية الذين كانوا يعتقدون أنّ الخالق هو «الله» لكنّهم كانوا يؤمنون أنّ تدبير الأمور بيد الأصنام.

هنالك احتمال آخر في تفسير الآية ، وهو أنّها تعني حضور الله في كل مكان ، في السموات والأرض ، ولا يخلو منه مكان ، فليس هو بجسم ليشغل حيزا معينا ، بل هو المحيط بكل الأمكنة.

__________________

(١) ثمّة اختلاف بين المفسّرين حول إعراب هذه العبارة القرآنية والظاهر أنّ «هو» مبتدأ و «الله» خبر. و( فِي السَّماواتِ ) جار ومجرور متعلقان بفعل تدل عليه كلمة «الله» والتقدير : (هو المتفرد في السموات والأرض بالألوهية).

٢٠٨

من الطبيعي أن يكون الحاكم على كل شيء والمدبر لكل الأمور والحاضر في كل مكان عارفا بجميع الأسرار والخفايا ولهذا تقول الآية : إنّ ربّا كهذا( يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ ) .

قد يقال بأنّ (السرّ) و (الجهر) يشملان أعمال الإنسان ونواياه ، وعلى ذلك فلا حاجة لذكر( وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ ) .

ولكن ينبغي الالتفات إلى أنّ «الكسب» هو نتائج العمل والحالات النفسية الناشئة عن الأعمال الحسنة والأعمال السيئة ، أي أنّ الله يعلم أعمالكم ونواياكم ، كما يعلم الآثار التي تخلفها تلك الأعمال والنوايا في نفوسكم ، وعلى كل حال ، فانّ ذكر العبارة هذه يفيد التوكيد بشأن أعمال الإنسان.

* * *

٢٠٩

الآيتان

( وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥) )

التّفسير

قلنا : إنّ معظم الخطاب في سورة الأنعام موجه إلى المشركين ، والقرآن يستخدم شتى السبل لإيقاظهم وتوعيتهم ، فهذه الآية والآيات الكثيرة التي تليها تواصل هذا الموضوع.

تشير هذه الآية إلى روح العناد واللامبالاة والتكبر عند المشركين تجاه الحقّ وتجاه آيات الله فتقول :( وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ ) (١) .

أي أنّ أبسط شروط الهداية ـ وهو البحث والتقصي ـ غير موجود عندهم ، وليس فيهم أي اندفاع لطلب الحقيقة ، ولا يحسّون بعطش إليها ليبحثوا عنها ،

__________________

(١) كلمة «آية» نكرة ، ووردت في سياق النفي ، فيكون المعنى : إنّهم يعرضون عن كل آية ولا يفكرون فيها.

٢١٠

وحتى لو تدفّق ينبوع الماء الزلال عند عتبات بيوتهم لأعرضوا عنه ولما نظروا اليه وكذلك فهم يعرضون عن آيات «ربّهم» النازلة لتربيتهم وتكاملهم.

مثل هذه النفسية لا يقتصر وجودها على عهود الجاهلية ومشركي العرب ، فاليوم أيضا نجد من بلغ الستين من عمره ومع ذلك لم يجشم نفسه عناء ساعة واحدة من البحث والتحقيق في الله والدين ، وإن وقع بيده كتاب أو بحث في هذا الموضوع لم ينظر إليه ، وإن تحدث إليه أحد بهذا الشأن لم يصغ إليه ، هؤلاء هم الجهلاء المعاندون الغافلون الذين قد يظهرون أحيانا أمام الناس بمظهر العالم المتجبر!

ثمّ تشير الآية إلى نتيجة أعمالهم ، وهي : أنّهم عند ما رأوا الحقيقة كذبوها ، ولو أنّهم دققوا في آيات الله جيدا لرأوا الحقيقة وأدركوها وآمنوا بها :( فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ ) ، ولسوف تصلهم نتيجة هذا التكذيب والسخرية :( فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) .

في هاتين الآيتين إشارة إلى ثلاث مراحل من الكفر تتزايد في الشدّة على التوالي ، المرحلة الاولى هي مرحلة الإعراض ، ثمّ مرحلة التكذيب ، وأخيرا مرحلة الاستهزاء بآيات الله.

يدل هذا على أنّ الإنسان في كفره لا يتوقف في مرحلة واحدة ، بل يزداد باستمرار إنكارا للحق وعدواة له وابتعادا عن الله.

المقصود من التهديد المذكور في آخر الآية أنّ أوزار عدم الإيمان ستحيق بهم عاجلا أو آجلا في الدنيا والآخرة ، والآيات التّالية تؤكّد هذا التّفسير.

* * *

٢١١

الآية

( أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦) )

التّفسير

مصير الطّغاة :

ابتداء من هذه الآية وما بعدها يشرع القرآن بعرض خطّة تربوية مرحلية لإيقاظ عبدة الأصنام والمشركين تتناسب مع اختلاف الدوافع عند الفريقين ، يبدأ أوّلا بمكافحة عامل (الغرور) وهو من عوامل الطغيان والعصيان والانحراف المهمّة ، فيذكرهم بالأمم السالفة ومصائرهم المؤلمة ، وبذلك يحذر هؤلاء الذين غطت أبصارهم غشاوة الغرور ، ويقول :( أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً (١) وَجَعَلْنَا

__________________

(١) «المدرار» في الأصل من «در» اللبن ، ثم انتقل إلى ما يشبهه في النزول كالمطر والكلمة صيغة مبالغة ، وجملة «أرسلنا

٢١٢

الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ ) .

ولكنّهم لمّا استمروا على طريق الطغيان ، لم تستطع هذه الإمكانات إنقاذهم من العقاب الإلهي :( فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ ) .

أفلا ينبغي أنّ يكون علمهم بمصائر الماضين عبرة لهم ، توقظهم من نوم غفلتهم ، ومن سكرتهم؟ أليس الله الذي أهلك السابقين بقادر على أن يهلك هؤلاء أيضا؟

هاهنا بضع نقاط نلفت إليها الانتباه :

١ ـ على الرّغم من أن «قرن» تعني فترة طويلة من الزمن (مائة ، أو سبعين أو ثلاثين سنة) ، ولكنّها قد تعني أيضا ـ كما يقول اللغويون ـ القوم والجماعة في زمان معين (القرن من الاقتران بمعنى التقارب ، وبالنظر لأنّ أهل العصر الواحد أو العصور المتقاربة قريبون من بعضهم فقد يطلق عليهم وعلى زمانهم اسم القرن).

٢ ـ يتكرر في القرآن القول بأنّ الإمكانات المادية الكثيرة تبعث على الغرور والغفلة لدى ضعفاء النفس من الناس كقوله تعالى :( إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى ) (١) لأنّهم بتوفر تلك الإمكانات عندهم يرون أنفسهم في غنى عن الله ، غافلين عن العناية الإلهية والإمدادات الربانية المغدقة عليهم في كل لحظة وثانية ، ولولاها لما استمروا على قيد الحياة.

٣ ـ ليس هذا التحذير مختصا بعبدة الأصنام ، فالقرآن يخاطب ـ أيضا ـ اليوم العالم الصناعي الثري الذي أثملته الإمكانات المادية وملأته بالغرور ، ويحذره من نسيان الأقوام السابقة وممّا حاق بهم نتيجة ما ارتكبوه من ذنوب ، وكأني بالقرآن يقول للمغرورين في عالمنا اليوم : إنّكم ستفقدون كل شيء بانطلاق شرارة حرب عالمية أخرى ، لتعودوا إلى عصر ما قبل التمدن الصناعي اعلموا أنّ سبب

__________________

السماء» للزيادة في المبالغة.

(١) العلق ، ٦ و ٧.

٢١٣

تعاسة أولئك لم يكن شيئا سوى إثمهم وظلمهم واضطهادهم الناس وعدم إيمانهم وهذه عوامل ظاهرة في مجتمعكم أيضا.

حقا إنّ دراسة تاريخ فراعنة مصر ، وملوك سبأ وسلاطين كلدة وآشور ، وقياصرة الرّوم ، ومعيشتهم الباذخة الأسطورية وما كانوا يتقلبون فيه من نعم لا تعد ولا تحصى ، ثمّ رؤية عواقب أمورهم المؤلمة التي حاقت بهم بسبب ظلمهم الذي قوض أركان حياتهم ، فيها أعظم العبر والدروس.

* * *

٢١٤

الآية

( وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) )

التّفسير

منتهى العناد!

من عوامل انحرافهم الأخرى التكبر والعناد اللذين تشير إليهما ، هذه الآية ، أنّ المتكبر المكابر انسان عنيد في العادة ، لأنّ التكبر لا يسمح لهم بالاستسلام للحق والحقيقة ، والأفراد المتصفون بهذه الصفة يكونون عادة معاندين مكابرين ، ينكرون حتى الأمور الواضحة القائمة على الدليل والبرهان ، بل ينكرون حتى البديهيات ، كما نراه بأمّ أعيننا في المتكبرين من أبناء مجتمعاتنا.

يشير القرآن هنا إلى الطلب الذي تقدم به جمع من عبدة الأصنام (يقال أنّ هؤلاء هم نضر بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية ، ونوفل بن خويلد الذين قالوا لرسولاللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لن نؤمن حتى ينزل الله كتابا مع أربعة من الملائكة!) ويقول :( وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ) .

٢١٥

أي أنّ عنادهم قد وصل حدّا ينكرون فيه حتى ما يشاهدونه بأعينهم ويلمسونه بأيديهم فيعتبرونه سحرا لكيلا يستسلموا للحقيقة ، مع أنّهم في حياتهم اليومية يكتفون بعشر هذه الدلائل للإيمان بالحقائق ويقتنعون بها ، وما هذا بسبب ما فيهم من أنانية وتكبر وعناد.

وبهذه المناسبة فإنّ «القرطاس» هو كل ما يكتب عليه ، سواء أكان ورقا أو جلدا أو ألواحا ، أمّا إطلاقه اليوم على الورق فذلك لانتشار تداول الورق أكثر من غيره للكتابة.

* * *

٢١٦

الآيات

( وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) )

التّفسير

خلق المبررات :

من عوامل الكفر والإنكار الأخرى ، روح التحجج والبحث عن المبررات ، وعلى الرغم من أنّ لهذه الروح عوامل أخرى ، مثل التكبر والأنانية ، ولكنّه ينقلب بالتدريج إلى حالة نفسية سلبية ، تصبح بدورها عاملا من عوامل عدم التسليم للحق.

ومن جملة الحجج التي احتج بها المشركون على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأشار إليها القرآن في كثير من آياته ـ ومنها هذه الآية ـ هي أنّهم كانوا يقولون : لماذا يقوم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحده بهذا الأمر العظيم؟ لماذا لا يقوم معه بهذا الأمر أحد من غير

٢١٧

جنس البشر ، من جنس الملائكة؟ أيمكن لإنسان من جنسنا أنّ يحمل بمفرده هذه الرسالة على عاتقه؟( وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ) .

ولا مجال لهذا التحجج على نبوة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع كل هذه الدلائل الواضحة والآيات البيّنات ، ثمّ إنّ الملك ليس أقدر من الإنسان ولا يملك قابلية لحمل رسالة أكثر من قابلية الإنسان بل انّ قابلية الإنسان أكثر بكثير.

يرد القرآن عليهم بجملتين في كل منهما برهان :

الاولى :( وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ ) .

أي لو نزل ملك لمعاونة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهلك الكافرون ، وسبب ذلك ما مرّ في آيات سابقة ، وهو أنّه إذا اتخذت النبوة جانب الشهود والحس ، أي إذا تحول الغيب بنزول الملك إلى شهود ، بحيث يرى كل شيء عيانا ، غدت المرحلة هي المرحلة النهائية في إتمام الحجة ، إذ لا يكون ثمّة دليل أوضح منها ، وعلى ذلك فإن العصيان في هذه الحالة يستوجب العقاب القاطع ، ولكن الله للطفه ورحمته بعباده ، ولكي يمنحهم فرصة التأمل والتفكير ، لا يفعل ذلك إلّا في حالات خاصّة يكون فيها طالب الدليل على أتمّ استعداد ، أو في حالات يستحق فيها طالب الدليل الهلاك ، أي أنّه ارتكب ما يستوجب معه العقاب الإلهي ، في هذه الحالة يحقق له طلبه ، ثمّ إذا لم يستسلم صدر أمر هلاكه.

الثّانية : هي أنّ الرّسول الذي يبعثه الله لقيادة الناس وتربيتهم وليكون أسوة لهم ، لا بدّ أن يكون من جنس الناس أنفسهم وعلى شاكلتهم من حيث الصفات والغرائز البشرية ، أمّا الملك فلا يظهر لعيون البشر كما أنّه ليس بإمكانه أنّ يكون قدوة عملية لهم ، لأنّه لا يدري شيئا عن حاجاتهم وآلامهم ولا عن غرائزهم ومتطلباتها ، لذلك فإن قيادته لجنس يختلف عنه كل الاختلاف لا يحقق الهدف.

لذلك فالقرآن في الجواب الثّاني يقول : لو شئنا أن يكون رسولنا ملكا حسبما يريدون ، لوجب أن يتصف هذا الملك بصفات الإنسان وأن يظهر في هيئة إنسان :

٢١٨

( وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً ) (١) .

يتّضح ممّا قلنا أنّ جملة( لَجَعَلْناهُ رَجُلاً ) لا تعني : أنّنا سنجعله على هيئة انسان ، كما تصور بعض المفسّرين ، بل تعني : أنّنا نجعله على هيئة البشر في الصفات الظاهرية والباطنية ، ثمّ يستنتج من ذلك أنّهم ـ في هذه الحالة أيضا ـ كانوا سيعترضون الاعتراض نفسه ، وهو : لماذا أوكل الله مهمّة القيادة إلى بشر وأخفى عنّا وجه الحقيقة :( وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ ) .

«اللبس» بمعنى خلط الأمر وجعله مشتبها بغيره خافيا ، و «اللبس» بمعنى ارتداء اللباس ، ومن الواضح أنّ الآية تقصد المعنى الأوّل ، أي أنّنا لو أردنا أن نرسل ملكا لوجب أن يكون في صورة الإنسان وسلوكه ، وفي هذه الحالة سيعتقدون أنّنا خلطنا الأمر على الناس وأوقعناهم في الاشتباه ، ولكانوا يشكلون علينا الإشكالات السابقة ، بمثل ما يوقعون الجهلة من الناس في الخطأ والاشتباه ويلبسون وجه الحقيقة عنهم ، وعليه فإنّ نسبة «اللبس» والإخفاء إلى الله إنّما هي من وجهة نظرهم الخاصة.

وفي الختام يهون الأمر على رسوله ويقولون له :( وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) .

هذه الآية في الواقع تسلية لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يطلب الله فيها منه أن لا تزعزعه الزعازع ، ويهدد في الوقت نفسه المخالفين والمعاندين ويطلب منهم أن يتفكروا في عاقبة أمرهم المؤلمة(٢) .

* * *

__________________

(١) الضمير «جعلناه» يمكن أن يعود على الرّسول ، أو على من يرسل معه لإعانته على تثبيت النبوة وعلى الاحتمال الثّاني يكون اقتراحهم قد تحقق ، وعلى الأوّل قد تحقق أكثر ممّا طلبوه.

(٢) «حاق» بمعنى أحاط به وحل به ، و «ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ » أي ما كانوا يستهزئون به من تهديد وإنذار يسمعونه من أنبياء الله مثل إنذار نوح وقومه بوقوع الطوفان ، فكان قومه من عبدة الأصنام يسخرون من ذلك. وعليه فلا ضرورة لتقدير كلمة «جزاء» كما يقول بعضهم ، إذ يكون المعنى : العقوبات التي كانوا يستهزئون بها حلت بهم.

٢١٩

الآية

( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١) )

التّفسير

لكي يوقظ القرآن هؤلاء المعاندين المغرورين يسلك في هذه الآية سبيلا آخر فيأمر رسوله أن يوصيهم بالسياحة في أرجاء الأرض ليروا بأعينهم مصائر أولئك الذين كذبوا بالحقائق ، فلعل ذلك يوقظهم من غفلتهم( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) .

لا شك أنّ لرؤية آثار السابقين والأقوام التي هلكت بسبب إنكارها الحقائق تأثيرا أعمق من مجرّد قراءة كتب التّأريخ ، لأنّ هذه الآثار تجسد الحقيقة ناطقة ملموسة ، ولهذا استعمل جملة «أنظروا» ولم يقل «تفكروا».

ولعل استعمال «ثم» لعاطفة التي تفيد عادة التراخي الزمني يراد منه أن لا يتعجلوا في سيرهم وفي اطلاق أحكامهم ، عليهم أن يمعنوا النظر في تلك الآثار التي خلفتها الأقوام السالفة ويفكروا فيها ثمّ يأخذوا منها العبر ويروا عاقبة أعمال تلك الأمم.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611