الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 611

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 611 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 139448 / تحميل: 6851
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٤

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

فيما يتعلق بالسير والسياحة في الأرض وتأثيره في إيقاظ الأفكار انظر تفسير الآية (١٣٧) من سورة آل عمران في هذا التّفسير.

* * *

٢٢١

الآيتان

( قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣) )

التّفسير

يواصل القرآن مخاطبة المشركين ، ففي الآيات السابقة دار الكلام حول التوحيد وعبادة الله الأحد وهنا يدور الحديث عن المعاد ، وبالإشارة إلى مبدأ التوحيد يواصل القول عن المعاد بطريقة رائعة ، هي طريقة السؤال والجواب ، والسائل والمجيب كلاهما واحد ، وهو من الأساليب الأدبية الجميلة.

يتكون الاستدلال هنا على المعاد من مقدمتين :

أوّلا : يقول :( قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) . ثمّ يقول مباشرة : أجب أنت بلسان فطرتهم وروحهم :( قُلْ لِلَّهِ ) ، فبموجب هذه المقدمة يكون كل عالم الوجود ملكا لله وبيده وتدبيره.

٢٢٢

ثانيا : إنّ الله هو وحده مصدر كل رحمة ، وهو الذي أوجب على نفسه الرحمة ، ويفيض بنعمه على الجميع :( كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) .

أيمكن لربّ هذا شأنه أن يقطع سلسلة حياة البشر نهائيا بالموت فيوقف التكامل واستمرار الحياة؟ أيتفق هذا مع مبدأ كون الله «فياضا» و «ذا رحمة واسعة»؟ أيمكن أن يكون قاسيا على عباده بهذا الشكل ، وهو مالكهم ومدبر شؤونهم ، بحيث أنّهم بعد مدّة يفنون ويتبدلون إلى لا شيء؟

طبعا لا ، إذ أنّ رحمته الواسعة توجب عليه أن يسير بالكائنات ـ وخاصة البشر ـ في طريق التكامل ، بمثل ما يجعل برحمته من البذرة الصغيرة الزهيدة شجرة ضخمة قوية ، أو يحيلها إلى شجيرة ورد جميلة ، كما أنّه بفيض رحمته يبدل النطفة التافهة إلى انسان كامل ، هذه الرحمة نفسها توجب أن يرتدي الإنسان ـ الذي عند امكانية الخلود ـ لباس حياة جديدة بعد موته في عالم أوسع ، تدفعه يد الرحمة في سيره التكاملي الأبدي ، لذلك يقول بعد هاتين المقدمتين :( لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ ) .

إنّ الآية تبدأ بالاستفهام التقريري الذي يراد به انتزاع الإقرار من السامع ، ولمّا كان هذا الأمر مسلما به بالفطرة ، كما كان المشركون يعترفون بأنّ مالك عالم الوجود ليس الأصنام ، بل الله ، فإنّ الجواب يرد مباشرة ، وهذا أسلوب جميل في عرض مختلف المسائل.

في مواضع أخرى من القرآن يستدل على المعاد بطرق أخرى ، بطريق قانون العدالة ، وقانون التكامل ، والحكمة الإلهية ، ولكن الاستدلال بالرحمة استدلال جديد جاءت به هذه الآية.

في نهاية الآية إشارة إلى مصير المشركين المعاندين وعاقبتهم ، فهؤلاء الذين أضاعوا رأس مال وجودهم في سوق تجارة الحياة ، لا يؤمنون بهذه الحقائق :( الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) .

٢٢٣

ما أعجب هذا التعبير! فقد يخسر المرء أحيانا ثروته أو مركزه أو أي نوع آخر من أنواع رأس المال ، ففي هذه الحالات يكون قد خسر شيئا ، ولكن هذا الشيء الذي خسره لا يكون جزءا من وجوده ، أي أنّه خارج وجوده ، أمّا أعظم الخسائر التي هي في الواقع الخسارة الحقيقية ، فهي عند ما يخسر الإنسان أصل وجوده.

إنّ أعداء الحقيقة والمعاندين يخسرون تماما رأس مال العمر ورأس مال الفكر والعقل والفطرة وجميع المواهب الروحية والجسمية التي كان ينبغي لهم أن يستخدموها في طريق الحقّ للوصول إلى مرحلة التكامل ، وعندئذ لا يبقي رأس المال ولا صاحبه.

لقد ورد هذا التعبير في عدد من آيات القرآن الكريم ، وهي تعبيرات مرعبة عن المصير المؤلم الذي ينتظر منكري الحقيقة والمذنبين الملوثين.

سؤال :

قد يقال : إنّ الحياة الأبدية تكون مصداقا للرّحمة بالنسبة للمؤمنين فقط ، أمّا لغيرهم فهي لا تعدو أن تكون شقاء وتعاسة.

الجواب :

لا شك أنّ الله هو الذي يوفر فرص الرحمة ، فهو الذي خلق الإنسان ، ووهب له العقل ، وأرسل له الأنبياء لقيادته وهدايته ، ومنحه مختلف أنواع النعم ، وفتح أمامه طريقا للحياة الخالدة ، فهذه كلّها ألوان من الرحمة.

والإنسان في غضون مسيرته للوصول إلى ثمرات هذه الرحمة إذا انحرف عن طريق وحول هذه الرحمة إلى عذاب وشقاء ، فإنّ ذلك لا يخرجها عن كونها رحمة ، بل الإنسان هو الملوم على الانحراف عنها وتبديلها إلى عذاب وألم.

الآية الثّانية تكمل في الواقع الآية السابقة ، فالآية السابقة تشير إلى أنّ الله مالك كلّ شيء يستوعبه ظرف «المكان» :( قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) ...؟

٢٢٤

أمّا هذه الآية فتشير إلى ملكية الله لما يستوعيه ظرف «الزمان» الوسيع ، وتقول :( وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ) .

في الواقع ، عالم المادة هذا يتحدد بالزمان والمكان ، فكل الكائنات التي تقع ضمن ظرف المكان والزمان ـ أي عالم المادة كله ـ ملك لله.

وليس الليل والنهار مختصين ـ طبعا ـ بالمنظومة الشمسية ، فإنّ لجميع كائنات السماوات والأرض ليلا ونهارا ، بعضها له نهار دائم بلا ليل ، ولبعضها ليل بلا نهار ، ففي الشمس ـ مثلا ـ نهار دائم ، فهناك ضوء دائم بلا ظلام ، وفي بعض الكواكب الخامدة ، التي لا نور فيها ولا تجاوز النجوم ، ليل دائم سرمدي ، وهذه كلّها مشمولة بالآية المذكورة.

لا بدّ هنا أن نلاحظ أنّ «سكن» والسكونة تعني التوقف والاستقرار في مكان ما ، سواء أكان ذلك الموجود الساكن في حالة حركة أو سكون ، نقول مثلا : فلان «ساكن» في المدينة الفلانية ، أي أنّه مستقر هناك ، مع أنّه يمكن أن يكون متحركا في شوارعها.

كما يحتمل أن تقابل «السكون» في هذه الآية «الحركة» ، ولمّا كان السكون والحركة من الحالات النسبية ، فإنّ ذكر أحدهما يغنينا عن ذكر الآخر ، وعليه يصبح معنى الآية هكذا : كل ما هو كائن في الليل والنهار وظرف الزمان ساكنا كان أم متحركا ، ملك لله.

وبهذا يمكن أن تكون الآية إشارة إلى أحد أدلة التوحيد ، لأنّ «الحركة» و «السكون» حالتان عارضتان وحادثتان طبعا ، فلا يمكن أن تكونا قديمتين أزليتين ، لأنّ الحركة تعني وجود الشيء في مكانين مختلفين خلال زمانين ، والسكون يعني وجود الشيء في مكان واحد خلال زمانين ، وعليه فإنّ الالتفات إلى الحالة السابقة كامن في ذات الحركة والسكون. ونحن نعلم أنّ الشيء إذا كانت له حالة سابقة لا يمكن أن يكون أزليا.

٢٢٥

نستنتج من هذا الكلام أنّ الأجسام لا تخلو من الحركة والسكون ، وأنّ ما لا يخلو من الحركة والسكون لا يمكن أن يكون أزليا ، وعليه فكل جسم حادث ، وكل حادث لا بدّ من محدث (خالق).

ولكن الله ليس جسما ، فلا حركة له ولا سكون ، ولا زمان ولا مكان ، ولذلك فهو أبدي أزلي.

وفي نهاية الآية ، وبعد ذكر التوحيد ، تشير الآية إلى صفتين بارزتين في الله فتقول :( وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) ، أي أنّ اتساع عالم الوجود ، والكائنات في آفاق الزمان والمكان لا تحول أبدا دون أن يكون الله عليما بأسرارها ، بل إنّه يسمع نجواها ، ويعلم حركة النملة الضعيفة على الصخرة الصمّاء في الليلة الظّلماء في أعماق واد سحيق صامت ، وإنّه ليدرك حاجاتها وحاجات غيرها ، ويعلم ما تفعل.

* * *

٢٢٦

الآيات

( قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦) )

التّفسير

لا ملجأ غير الله!

من المفسّرين من يذكر أنّ سبب نزول الآية هو أنّه جاء جمع من أهل مكّة إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا : يا محمّد ، إنّك تركت دين قومك ، ولم يكن ذلك إلّا بسبب فقرك ، فاقبل منّا نصف أموالنا تكن غنيا على أن نترك آلهتنا وشأنها وتعود إلى ديننا ، فنزلت هذه الآية ترد عليهم(١) .

سبق أن قلنا : إنّ آيات هذه السورة نزلت مرّة واحدة في مكّة ، كما جاء في

__________________

(١) تفسير أبي الفتوح الرازي وتفسير «مجمع البيان» في ذيل تفسير الآية.

٢٢٧

الأخبار المروية ، لذلك لا يمكن أن يكون لكل منها سبب نزول خاص ، غير أنّ أحاديث كانت قد جرت قبل نزول هذه السورة بين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمشركين وبعض هذه الآيات تشير إلى تلك الأحاديث ، لذلك ليس ثمّة ما يمنع أن تكون أحاديث من هذا القبيل أيضا قد جرت بين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمشركين ، فيشير القرآن في هذه الآيات إلى أحاديثهم ويرد عليهم.

* * *

على كلّ حال ، الهدف من نزول هذه الآيات هو إثبات التوحيد ومحاربة الشرك وعبادة الأصنام فالمشركون ، وإن اعتقدوا أنّ الله هو خالق العالم ، كانوا يتخذون من الأصنام ملجأ لأنفسهم ، ولربّما اتخذوا صنما لكل حاجة معينة ، فلهم إله للمطر ، وإله للظلام ، وإله للحرب والسلم ، وإله للرزق ، وهذا هو تعدد الأرباب الذي ساد اليونان القديم.

ولكي يزيل القرآن هذا التفكير الخاطئ ، يأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن( قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ ) .

فإذا كان هو خالق عالم الوجود كله دون الاستناد إلى قدرة أخرى ، وهو الذي يرزق مخلوقاته ، فما الذي يدعو الإنسان إلى أن يتخذ من دونه وليا وربّا؟وإنّ كل الأشياء غيره مخلوقات وهي بحاجة إليه في كل لحظات وجودها ، فكيف يمكن لها أن تقضي حاجة الآخرين؟

هذه الآية تستعمل كلمة «فاطر» في حديثها عن خالق السموات والأرض ، وأصل «الفطر» و «الفطور» هو الشق ، يروى عن ابن عباس أنّه قال : ما عرفت معنى فاطر السموات والأرض إلّا عند ما رأيت اعرابيين يتنازعان على بئر قال أحدهما : «أنا فطرتها» أي أنا أحدثتها وأوجدتها.

٢٢٨

ولكننا اليوم أقدر من ابن عباس على معرفة معنى «فاطر» بالاستعانة بالعلوم الحديثة ، أنّه تعبير ينسجم مع أدق النظريات العلمية الحديثة عن تكون العالم ، لقد أظهرت دراسات العلماء أنّ العالم الكبير (الكون) والعالم الصغير (المنظومة الشمسية) كانت كلها كتلة واحدة تشققت على أثر الإنفجارات المتتالية ، وتكونت المجرات والمنظومات والكرات ، وفي الآية (٣٠) من سورة الأنبياء بيان أوضح لهذا الأمر :( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما ) .

والنقطة الأخرى التي ينبغي ألا نغفل عنها في هذه الآية هو أنّها تقتصر على توكيد اتصاف الله باطعام مخلوقاته ورزقهم ، ولعل ذلك إشارة إلى أنّ أقوى حاجات الإنسان في حياته المادية هي حاجته إلى «لقمة العيش» كما يقال ، وهذه اللقمة هي التي تحمل الناس على الخضوع لأصحاب المال والقوّة ، وقد يصل خضوعهم لأولئك حدّ العبودية ، ففي هذا يقرر القرآن رزق الناس بيد الله لا بيد هؤلاء ولا بيد الأصنام ، فأصحاب المال والقوّة هم أنفسهم محتاجون إلى الطعام ، وأنّ الله هو وحده الذي يطعم الناس ولا يحتاج إلى طعام.

وفي آيات أخرى نرى القرآن يؤكّد مالكية الله ورزاقيته بإنزال الأمطار وإنبات النباتات ، وذلك لكي يزيل من أذهان البشر كليا فكرة اعتمادهم على مخلوقات مثلهم.

ثمّ للردّ على أولئك المشركين الذين كانوا يدعون رسول الله إلى الانضمام إليهم ، يؤكّد القرآن على ضرورة رفض دعوة هؤلاء انطلاقا من مبدأ نهي الوحي الإلهي عن ذلك ، إضافة إلى نهي العقل :( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (١) .

__________________

(١) جملة( إِنِّي أُمِرْتُ ) من قبيل الخطاب غير المباشر ، وجملة «ولا تكونن» خطاب مباشر ، ولعل هذا الانتقال يقصد به القول بأنّ الابتعاد عن الشرك واستنكاره أهم بكثير من أن يكون المرء أول المسلمين ، ولذا جاء موضوع تجنب الشرك في خطاب مباشر ومؤكد بنون التوكيد الثقيلة.

٢٢٩

لا شك أنّ أنبياء الله والصالحين من أقوامهم سبقوا النّبي الخاتم في استسلامهم لأمر الله وعليه فإن قوله تعالى :( إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ) يعني أوّل مسلم من أمّة الرسالة الخاتمة.

كما أنّ هذا إشارة إلى أمر تربوي مهم أيضا ، وهو أنّ كل قائد ينبغي أن يكون في تطليق تعاليم دينه قدوة وطليعة ، عليه أن يكون أوّل المؤمنين برسالته ، وأوّل العاملين بها ، وأكثر الناس اجتهادا فيها ، وأسرعهم إلى التضحية في سبيلها.

الآية التّالية فيها توكيد أشدّ لهذا النهي الإلهي عن إتّباع المشركين :( قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) (١) أي يأمر الله رسوله أن يقول بأنّه ليس مستثنى من القوانين الإلهية ، وأنّه يخاف ـ إن ركن إلى المشركين ـ عذاب يوم القيامة.

ومن هذه الآية نفهم أيضا أنّ شعور الأنبياء بالمسؤولية يفوق شعور الآخرين بها.

ولكي يتّضح أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يستطيع شيئا بغير الاستناد إلى لطف الله ورحمته ، فكل شيء بيد الله وبأمره ، وحتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه يترقب بعين الرجاء رحمة الله الواسعة ، ومنه يطلب النجاة والفوز :( مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ) .

هذه الآيات تبيّن منتهي درجات التوحيد ، وترد على الذين كانوا يرون للأنبياء سلطانا مستقلا عن ارادة الله ، كما فعل المسيحيون عند ما جعلوا من المسيحعليه‌السلام المخلّص والمنقذ ، فتقول لهم : إنّ الأنبياء أنفسهم يحتاجون إلى رحمة الله مثلكم.

* * *

__________________

(١) يلاحظ أنّ تركيب عبارة الآية يقتضي أن تأتي جملة «أخاف» بعد جملة «إن عصيت ربى» لأنّها جواب الشرط ، غير أنّ تقديمها يفيد التأكيد على عظم إحساس رسول الله بالمسؤولية أمام أوامر الله تعالى.

٢٣٠

الآيتان

( وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨) )

التّفسير

قدرة الله القاهرة :

قلنا إنّ هدف هذه السّورة هو استئصال جذور الشرك وعبادة الأصنام ، وهاتان الآيتان تواصلان تحقيق ذلك.

فالقرآن يتساءل أوّلا : لماذا تتوجهون إلى غير الله ، وتلجأون إلى معبودات تصطنعونها لحل مشاكلكم ودفع الضر عن أنفسكم واستجلاب الخير لها؟ بينما لو أصابك أدنى ضرر فلا يرفعه عنك غير الله ، وإذا أصابك الخير والبركة والفوز والسعادة فما ذلك إلّا بقدرة الله ، لأنّه هو القادر القوي :( وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (١) .

__________________

(١) «الضر» هو كل نقيصة يتعرض لها الإنسان إمّا في الجسم مثل نقص عضو والمرض ، وإمّا في النفس مثل الجهل والسفاهة والجنون ، وإمّا في أمور أخرى مثل ذهاب المال أو المقام أو الأبناء.

٢٣١

في الواقع إنّ سبب الاتجاه إلى غير الله إمّا لتصورهم أنّ ما يتجهون إليه مصدر الخيرات ، وإمّا لاعتقادهم بقدرته وأنّه يدرأ عنهم المصائب ويحل لهم مشاكلهم ، والخضوع إلى حد العبادة لذوي السلطان والمال والقوة ينشأ من أحد هذين الدافعين ، هذه الآية تبيّن أنّ إرادة الله حاكمة على كل شيء ، فإذا منع عن أحد نعمة ، أو منح أحدا نعمة ، فما من قدرة في العالم تستطيع أن تغير ذلك ، فلما ذا إذن يطأطئون رؤوسهم خضوعا لغيره؟

إنّ استعمال «يمسسك» في الخير والشر ، وهي من «مسّ» ، تشير إلى أنّ الخير والشر ـ مهما قلّ ـ لا يكون إلّا بإرادته وقدرته.

ثمّ إنّ الآية المذكورة تدحض فكرة «الثنويين» القائلين بمبدأي «الخير» و «الشر» وعبادتهما ، وتقول إنّ الإثنين كليهما من جانب الله ، ولكننا سبق أن قلنا أن ليس ثمّة شيء اسمه «الشر المطلق».

وعليه فعند ما ينسب الشر إلى الله فإنّما يقصد به على الظاهر «سلب النعمة» وهو بحدّ ذاته «خير» ، فهو إمّا أن يكون للإيقاظ والتربية والتعليم وكبح حالات الغرور والطغيان والذاتية ، أو لمصالح أخرى.

وفي الآية التي تليها إكمال للبحث ، فيقول :( وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ ) .

«القاهر» و «الغالب» وإن كانا بمعنى واحد ، إلّا أنّهما من جذرين مختلفين ، «القهر» يطلق على ذلك النصر الذي يتحقق دون أن يتمكن الطرف المقهور من إبداء أية مقاومة ، وفي كلمة «الغلبة» لا يوجد هذا المعنى ، وقد تحصل بعد المقاومة ، وبعبارة أخرى : القاهر يقال لمن يكون تسلطه على الطرف الآخر من الشمول بحيث إنّه لا يستطيع المقاومة مطلقا كصبّ سطل من الماء على جذوة صغيرة من النّار فيطفؤها فورا.

يرى بعض المفسّرين أنّ «القهر» تستعمل حيث يكون المقهور كائنا عاقلا ،

٢٣٢

ولكن «الغلبة» أوسع منها وتشمل النصر على الكائنات غير العاقلة أيضا(١) .

وعليه إذا كانت الآية السابقة تشير إلى شمول قدرة الله إزاء المعبودات الزائفة الأخرى وأصحاب القوّة ، فذلك لا يعني أنّه مضطر إلى الدخول مدّة في صراع مع تلك القوى كي يتغلب عليها ، بل يعني أنّ قدرته قاهرة ، وقد جاء تعبير( فَوْقَ عِبادِهِ ) لتأكيد هذا المعنى.

وعلى هذا ، كيف يمكن لإنسان واع أن يعرض عن ربّ العالمين ويتجه إلى كائنات وأشخاص لا يملكون بذواتهم أية قدرة ، وما يملكونه من قوّة زهيدة إنّما مصدرها الله أيضا.

ولإزالة كل وهم قد يخطر لأحدهم بأنّ الله قد يسيء استعمال قدرته غير المتناهية كما هو الحال في ذوي القدرة من البشر ، يقول القرآن :( وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ) أي أنّه صاحب حكمة وكل أعماله محسوبة ، لأنه خبير وعالم ولا يخطئ في استعمال قدرته أبدا.

ونقرأ في حالات «فرعون» أنّه عند ما هدد بقتل بني إسرائيل ، قال :( وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ ) (٢) أي أنّه اتّخذ من قدرته القاهرة ـ وإن تكن ضعيفة ـ وسيلة للظلم وغمط حقوق الآخرين ، إلّا أنّ الله الحكيم الخبير بتلك القدرة القاهرة منزّه عن أن يظلم حتى أصغر مخلوقاته.

ومن نافلة القول أنّ تعبير( فَوْقَ عِبادِهِ ) هو التفوق في المقام لا في المكان ، إذ ليس لله مكان محدد.

ومن العجيب جدا أنّ بعض ذوي العقول المتحجرة اتّخذ من هذه الآية دليلا على تجسيم الله سبحانه ، على الرغم من عدم وجود أي شك في أنّ هذا التعبير معنوي يدل على تفوق الله من حيث القدرة على عبيده وحتى فرعون ـ مع كونه

__________________

(١) تفسير «الميزان» ج ٧ ، ص ٣٤.

(٢) الأعراف ، ١٢٧.

٢٣٣

بشرا ذا جسم ـ يستعمل الكلمة نفسها لإظهار تفوقه السلطوي ، لا تفوقه المكاني (تأمل بدقّة).

* * *

٢٣٤

الآيتان

( قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) )

التّفسير

أعظم الشّاهدين :

يذكر جمع من المفسّرين أنّ عددا من مشركي مكّة جاؤوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا : كيف تكون نبيّا ولا نرى أحدا يؤيدك؟ وحتى اليهود والنصارى الذين سألناهم ، لم يشهدوا بصحة أقوالك بحسب ما عندهم في التّوراة والإنجيل ، فهات من يشهد لك على رسالتك ، والآيتان المذكورتان تشيران إلى هذه الواقعة.

في مواجهة هؤلاء المخالفين المعاندين الذين يغمضون أعينهم عن رؤية كل تلك الدلائل على صدق الرسالة ، ويطلبون مزيدا من الشواهد ، يؤمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن :( قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً ) .

٢٣٥

أهناك شهادة أعظم من شهادة ربّ العالمين؟( قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ) وهل هناك دليل أكبر من هذا القرآن؟ :( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ ) ، هذا القرآن الذي لا يمكن أن يكون وليد فكر بشري ، خاصّة في تلك الظروف الزّمانية والمكانية ، هذا القرآن الذي يضمّ مختلف الشواهد على إعجازه ، فألفاظه معجزة ، ومعانيه معجزة ، أليس هذا الشاهد الكبير وحده كاف لأن يكون تصديقا إلهيا للدعوة!!.

يستفاد من هذه العبارة أيضا أنّ القرآن أعظم معجزة وأكبر شاهد على صدق دعوة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ثمّ يشير إلى هدف نزول القرآن ويقول :( لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ) أي أنّ القرآن قد نزل عليّ لكي أنذركم ، وأنذر جميع الذين يصل إليهم ـ عبر تاريخ البشر ، وعلى امتداد الزمان وفي أرجاء العالم كافة ـ كلامي ، وأحذرهم من عواقب عصيانهم.

يلاحظ هنا أنّ الكلام مقتصر على الإنذار مع أنّ خطابات القرآن تجمع غالبا بين الإنذار والبشرى ، والسبب في ذلك يعود إلى أنّ الكلام موجه هنا إلى أفراد معاندين مصرين على المكابرة ، ولا يمكن أن نتصور في الواقع عبارة أوجز وأشمل لبيان المقصود من هذه العبارة ، وما فيها من دقّة وسعة يزيل كل إيهام في عدم اختصاص دعوة القرآن بالعرب أو بزمان أو مكان معينين.

بعض العلماء استدلوا بهذا التعبير وأمثاله على ختم النّبوة برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهذه الجملة تعني أنّ الرّسول قد بعث إلى جميع الذين تصلهم دعوته ، وهذا يشمل جميع الذين يردون الحياة حتى نهاية العالم.

وتفيد الأحاديث الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام أنّ مفهوم إبلاغ القرآن لا يعني مجرّد وصول نصوصه إلى الأقوام الأخرى فحسب ، بل أنّ المفهوم يشمل وصول ترجماته بمختلف اللغات إلى تلك الأقوام.

جاء عن الإمام الصّادقعليه‌السلام أنّه عند ما سئل عن هذه الآية قال : «بكل

٢٣٦

لسان»(١) .

كما أنّ من أصول الفقه المسلم بها هو مبدأ «قبح العقاب بلا بيان» وهذا ما تفيده الآية المذكورة.

فقد ثبت في أصول الفقه أنّه ما دام الحكم لم يبلغ شخصا ، فإنّه لا يتحمل مسئولية تنفيذه (إلّا إذا كان مقصرا في استيعاب الحكم) ، فهذه الآية تقول بأنّ الذين تصلهم الدعوة يتحملون مسئوليتها ، أمّا الذين لم تصلهم الدعوة ، بدون تقصير ، فلا مسئولية عليهم.

في تفسير (المنار) رواية عن أبيّ بن كعب قال : أتي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأسارى فقال لهم : هل دعيتم إلى الإسلام؟ قالوا : لا ، فخلى سبيلهم ، ثمّ قرأ( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ) ، ثمّ قال : خلوا سبيلهم حتى يأتوا مأمنهم من أجل أنّهم لم يدعوا(٢) .

ومن هذه الآية نفهم ـ أيضا أنّ إطلاق كلمة «شيء» على الله جائز ، إلّا أنّه شيء لا كالأشياء المخلوقة المحدودة ، بل هو خالق ولا تحده حدود.

ثمّ أمر الله رسوله أن يسألهم :( أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى ) . ويأمره أن :( قُلْ لا أَشْهَدُ ، قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ) .

ذكر العبارات الأخيرة في الآية له هدف نفسي هام ، وهو أنّ المشركين قد يتصورون حدوث تزلزل في نفس النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أثر كلامهم ، فيتركون المجلس آملين ، ويبشرون أصحابهم بإمكان أن يعيد محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النظر في دعوته.

فهذه الجمل الصريحة الحاسمة تقضي على أمل المشركين وتحيله إلى يأس ، وتبيّن لهم أنّ الأمر أعظم ممّا يظنون ، وأنّه لم يداخله أدنى شك في دعوته ، ولقد دلت التجارب على أنّ ذكر أمثال هذه العبارات الجازمة والحاسمة في ختام كل

__________________

(١) تفسير «البرهان» ، وتفسير «نور الثقلين» ، ج ١ ، ص ٧٠٧ ذيل الآية.

(٢) تفسير «المنار» ، ج ٧ ، ص ٣٤١.

٢٣٧

بحث له أثر عميق في تحقيق الهدف النهائي.

أمّا الذين قالوا : إنّ أهل الكتاب لم يشهدوا لنبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّ الآية التي بعدها ترد عليهم وتقول :( الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ ) أي أن معرفتهم به لا تقتصر على مبدأ ظهوره ودعوته فحسب ، بل إنّهم يعرفون حتى التفاصيل والخصائص وعلاماته الدقيقة أيضا ، وعليه ، إذ قال جمع من أهل مكّة : إنّهم رجعوا إلى أهل الكتاب فلم يجدوا عندهم علما بالنّبي ، فإنّهم إمّا أن يكونوا قد كذبوا ولم يتحققوا من الأمر ، أو أنّ أهل الكتاب قد أخفوا عنهم الحقائق ولم يطلعوهم عليها ، وهذا الكتمان تشير إليه آيات أخرى من القرآن (لمزيد من التوضيح انظر المجلد الأوّل من هذا التّفسير في ذيل الآية (١٤٦) من سورة البقرة).

والآية تعلن في آخر مقاطعها النتيجة النهائية :( الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) أي أنّ الذين لا يؤمنون بالنّبي ـ مع كل ما تحيطه من دلائل وعلامات واضحة ـ هم فقط أولئك الذين خسروا كل شيء في تجارة الحياة.

* * *

٢٣٨

الآيات

( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) )

التّفسير

أشدّ الظّلم :

تواصل هذه الآيات المنهج القرآني في مقارعة الشرك وعبادة الأصنام بشكل شامل ، تقول الآية الاولى بصراحة وبصورة استفهام استنكاري :( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ ) ؟

الجملة الأولى ـ في الواقع ـ إشارة إلى إنكار التوحيد ، والثّانية إشارة إلى إنكار النّبوة حقّا لا ظلم أكبر من أن يتخذ المرء قطعة جماد لا قيمة لها ، أو إنسانا ضعيفا مثله شريكا لربّ لا تحدّه ، حدود ، وله الحكم على كل عالم الوجود ، فهذا ظلم من جهات ثلاث : ظلم لذات الله بالقول بوجود شريك له ، وظلم للشخص

٢٣٩

نفسه بالحط من قدره إلى حد السجود والخضوع لقطعة حجر أو خشب ، وظلم بحق المجتمع الذي يسبب له الشرك والتشتت والتفرق والابتعاد عن روح الوحدة والتوحد.

فلا شك إذن في أنّ أي ظالم ـ وعلى الأخص أولئك الذين لظلمهم جوانب متعددة ـ لا يمكن أن يرى السعادة والفلاح :( إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) .

إنّ لفظة «الشّرك» لم ترد صراحة في الآية ، ولكن بأخذ الآيات السابقة واللّاحقة لها بنظر الاعتبار التي تدور حول الشرك ، يتّضح أنّ القصد من كلمة «افتراء» هو القول بوجود شريك لله سبحانه.

وممّا يلفت النظر أنّ القرآن يصف في خمسة عشر موضعا بعض الناس بأنّهم من أظلم الناس في سياق الاستفهام : «ومن أظلم ...» أو «فمن أظلم ...» وعلى الرغم من أنّ معظم تلك الآيات تتناول الشرك وعبادة الأصنام وإنكار آيات الله ، أي أنّها تدور حول التوحيد ، فإنّ بعضا آخر منها يدول حول أمور أخرى ، مثل( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ) (١) .

وقول سبحانه( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ ) (٢) .

هنا يثار هذا السّؤال : كيف يمكن أن تكون كل طائفة من هؤلاء أظلم الناس ، في حين أنّ صفة (الأظلم) لا يمكن أن تنطبق إلّا على طائفة واحدة منها؟

نقول في الجواب : كل هذه الحالات تستقي ـ في الحقيقة ـ من منبع واحد ، وهو الشرك والكفر والعناد. فمنع الناس من ذكر الله في المساجد والسعي في خرابها دليل على الكفر والشرك ، وكتمان الشهادة أي كتمان الحقائق المؤدي إلى حيرة الناس وضلالهم ، هو معلم من معالم الشرك وإنكار وحدانية الله.

الآية التّالية تشير إلى مصير المشركين يوم القيامة مبيّنة أنّهم باعتمادهم على

__________________

(١) البقرة ، ١١٤.

(٢) البقرة ، ١٤٠.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

ووفق ما ورد في الرّوايات ، فقد صعد يونسعليه‌السلام إلى السفينة ، ثمّ إنّ حوتا ضخما وقف أمام السفينة ، فاتحا فمه وكأنّه يطلب الطعام ، فقال ركاب السفينة أنّ هناك شخصا مذنبا معنا يجب أن يكون طعام هذا الحوت ، ولم يجدوا سبيلا سوى الاقتراع لتحديد الشخص الذي يرمى للحوت ، وعند ما اقترعوا خرج اسم يونس ، وطبقا للرواية فإنّهم اقترعوا ثلاث مرّات وفي كلّ مرّة كان يخرج اسم يونسعليه‌السلام ، فأمسكوا بيونس وقذفوه في فم الحوت العظيم ، وقد أشار القرآن المجيد في آية قصيرة إلى هذه الحادثة ، قال تعالى :( فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ) .

«ساهم» في مادّة (سهم) وتعني اشتراكه في الاقتراع ، فالاقتراع تمّ على ظهر السفينة بالشكل التالي ، كتبوا اسم كلّ راكب على (سهم) ثمّ خلطوا الأسهم وسحبوا سهما واحدا ، فخرج السهم الذي يحمل اسم يونسعليه‌السلام .

(مدحض) مشتقّة من (دحض) وتعني إبطال مفعول الشيء أو إزالته أو التغلّب عليه ، والمراد هنا أنّ اسمه ظهر في عملية الاقتراع من بين بقيّة الأسماء.

وورد بهذا الشأن تفسير آخر يقول : إنّ إعصارا هبّ في البحر عرض السفينة ومن فيها من الرّكاب للخطر بسبب ثقل حمولتها ، ولم يكن لهم سبيل للنجاة سوى تخفيف وزن السفينة من خلال إلقاء بعض ركّابها في وسط البحر ، وعند ما اقترعوا على من يرمونه في الماء خرج اسم يونس ، وبعد رميه في البحر ابتلعه حوت عظيم.

وقال القرآن الكريم :( فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ) أي إنّ حوتا عظيما التقمه وهو مستحقّ للملامة.

«التقم» مشتقّة من (الالتقام) وتعني (البلع).

(مليم) من مادّة (لوم) وتعني التوبيخ والعتب (وعند ما تأتي بصفة الفعل فإنّها تعطي معنى استحقاق الملامة).

ومن المسلّم أنّ هذه الملامة لم تكن بسبب ارتكابه ذنبا كبيرا أو صغيرا وإنّما

٤٠١

بسبب تركه العمل بالأولى ، واستعجاله في ترك قومه وهجرانهم.

وبعد بلعه من قبل الحوت أعطى الله سبحانه وتعالى أمرا تكوينيا إلى الحوت أن لا تلحق الأذى بيونس ، إذ أنّ عليه أن يقضي فترة في السجن الذي لم يسبق له مثيل ، كي يدرك تركه العمل بالأولى ، ويسعى لإصلاحه.

وورد في إحدى الرّوايات أنّ «أوحى الله إلى الحوت : لا تكسر منه عظما ولا تقطع له وصلا»(١) .

يونسعليه‌السلام انتبه بسرعة للحادث ، وتوجّه على الفور إلى الله سبحانه وتعالى وتكامل وجوده مستغفرا الله على تركه العمل بالأولى ، وطالبا العفو منه.

ونقلت الآية (٨٧) في سورة الأنبياء صورة توجّه يونسعليه‌السلام بالدعاء الذي يسمّيه أهل العرفان باليونسية ، قال تعالى :( فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) .

أي إنّه نادى من بطن الحوت بأن لا معبود سواك ، وأنّني كنت من الظالمين ، إذ ظلمت نفسي وابتعدت عن باب رحمتك.

اعتراف يونس الخالص بالظلم ، وتسبيحه الله المرافق للندم أدّى مفعوله ، إذ استجاب الله له وأنقذه من الغمّ ، كما جاء في الآية (٨٨) من سورة الأنبياء ،( فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ) .

ونلاحظ الآن ماذا تقول الآيات بشأن يونسعليه‌السلام ، قال تعالى :( فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) أي لو لم يكن من المسبّحين لأبقيناه في بطن الحوت حتّى يوم القيامة ، ويعني تبديل سجنه المؤقّت إلى سجن دائم ، ومن ثمّ تبديل سجنه الدائم إلى مقبرة له.

وبخصوص بقاء يونس في بطن الحوت حتّى يوم القيامة (على فرض أنّه ترك

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، المجلّد ٢٦ ، الصفحة ١٦٥ ، كما ورد نفس المعنى مع اختلاف بسيط في تفسير البرهان ، المجلّد ٤ ، الصفحة ٣٧.

٤٠٢

تسبيح الله والتوبة إليه) فهل أنّه يعني بقاءه حيّا أم ميّتا ، المفسّرون ذكروا بهذا الشأن احتمالات متعدّدة منها :

أوّلا : بقاء الإثنين ـ أي يونس والحوت ـ أحياء ، ويونس يبقى إلى يوم القيامة مسجونا في بطن الحوت.

ثانيا : وفاة يونس ، وبقاء الحوت حيّا باعتباره قبرا متحركا لجثّة يونس.

ثالثا : وفاة الإثنين ، وهنا يكون بطن الحوت قبرا ليونس ، والأرض قبرا للحوت ، حيث يدفن في قلب الحوت ، والحوت يدفن في باطن الأرض إلى يوم القيامة.

الآية مورد البحث لا تدلّ على أي من الاحتمالات التي ذكرناها ، فهناك آيات عديدة في القرآن الكريم تؤكّد موت الجميع في آخر الزمان ، لذا فإنّ بقاء يونس أو الحوت أحياء حتّى يوم القيامة غير ممكن ، وبهذا يعدّ الاحتمال الثالث أقرب الاحتمالات إلى الواقع(١) .

وهناك احتمال آخر يقول : إنّ هذه العبارة هي كناية عن طول المدّة ، وتعني أنّه سيبقى لمدّة طويلة في هذا السجن.

ولا ننسى أنّ هذه الأمور كان يمكن أن تتحقّق لو أنّه كان قد ترك تسبيح الله والتوبة إليه ، ولكن الذي حدث أنّ تسبيحه وتوبته جعلاه مشمولا بالعفو الإلهي.

ويضيف القرآن ، وقد ألقينا به في منطقة جرداء خالية من الأشجار والنباتا ، وهو مريض( فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ ) .

فالحوت الضخم لفظ يونس ـ الذي لم يكن غذاء صالحا لذلك الحوت ـ على ساحل خال من الزرع والنبات ، والواضح أنّ ذلك السجن العجيب أثر على سلامة وصحّة جسم يونس ، إذ أنّه تحرّر من هذا السجن وهو منهار ومعتل.

__________________

(١) الملفت للنظر أنّ المفسّر الكبير العلّامة (الطبرسي) الذي غالبا ما يجمع الآراء المختلفة في ذيل الآيات ، اقتنع هنا بإيراد احتمال واحد فقط ، والذي يقول (لصار بطن الحوت قبرا له إلى يوم القيامة).

٤٠٣

إنّنا لا نعلم كم أمضى يونس من الوقت في بطن الحوت ، فمن المسلّم به أنّه لا يمكن تجنّب المؤثّرات هناك مهما كانت الفترة الزمينة التي قضاها في بطن الحوت ، صحيح أنّ الأمر الإلهي كان قد صدر في أن لا يهضم يونس داخل بطن الحوت ، ولكن هذا لا يعني أن لا يتأثّر بعض الشيء بمؤثّرات ذلك السجن ، لذا فقد كتب بعض المفسّرون أنّ يونس خرج من بطن الحوت وكأنّه فرخ دجاجة ضعيف وهزيل جدّا لا يمتلك القدرة على الحركة.

مرّة اخرى شمله اللطف الإلهي ، لأنّ جسمه كان مريضا ومتعبا ، وكلّ عضو من أعضاء جسمه كان مرهقا وعاجزا ، وكانت حرارة الشمس تؤذيه ، فيحتاج إلى ظلّ لطيف يظلّل جسده. والقرآن هنا يكشف عن هذا اللطف الإلهي بالقول ، إنّنا أنبتنا عليه شجرة قرع ليستظلّ بأوراقها العريضة والرطبة( وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ) .

(اليقطين) تعني ـ كما قال أصحاب اللغة والتّفسير ـ كلّ نبات لا ساق له وله أوراق كبيرة ، مثل نبات البطّيخ والقرع والخيار وما يشابهها. ولكن الكثير من المفسّرين ورواة الحديث أعلنوا بأنّ المقصود من (اليقطين) هو (القرع) ، والذي يجب الالتفات إليه أنّ كلمة «الشجرة» في اللغة العربية تطلق على النباتات التي لها ساق وأغصان والتي ليس لها ساق وأغصان ، وبعبارة اخرى : تشمل كلّ الأشجار والنباتات ، ونقلوا حديثا لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، قالوا فيه : إنّ شخصا سأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّك تحبّ القرع؟ فأجاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أجل هي شجرة أخي يونس»(١) .

وقيل : إنّ أوراق شجرة القرع ، إضافة إلى أنّها كانت كبيرة ورطبة جدّا ويمكن الاستفادة منها كظلّ جيّد ، فإنّ الذباب لا يتجمّع حول هذه الأوراق ، ولهذا فإنّ يونسعليه‌السلام التصق بتلك الأوراق كي يرتاح من حرقة الشمس ومن الحشرات في

__________________

(١) روح المعاني ، المجلّد ٧ ، الصفحة ٤٨٩.

٤٠٤

نفس الوقت ، إذ أنّ بقاءه في داخل بطن الحوت أدّى إلى أن يصبح جلده رقيقا جدّا وحسّاسا ، بحيث يتألّم إن استقرّت عليه حشرة.

ويحتمل أنّ الباريعزوجل يريد من هذه المرحلة إكمال الدرس الذي أعطاه ليونس في بطن الحوت ، إذ كان عليه أن يحسّ بتأثير حرارة الشمس على جلده الرقيق ، كي يبذل جهدا وسعيا أكثر ـ عند ما يتسلّم القيادة في المستقبل ـ لإنقاذ امّته من نار جهنّم ، وقد ورد هذا المضمون في روايات متعدّدة(١) .

نترك الحديث عن يونس ونعود إلى قومه ، فبعد أن ترك يونس قومه وهو غضبان ، ظهرت لقومه دلائل تبيّن لهم قرب موعد الغضب الإلهي ، هذه الدلائل هزّت عقولهم بقوّة وأعادتهم إلى رشدهم ، ودفعتهم إلى اللجوء للشخص (العالم) الذي كان آمن بيونس وما زال موجودا في المدينة ، واتّخاذه قائدا لهم ليرشدهم إلى طريق التوبة.

وورد في روايات اخرى أنّهم خرجوا إلى الصحراء ، وفرّقوا بين المرأة وطفلها ، وحتّى بين الحيوانات وأطفالها ، وجلسوا يبكون وينتحبون بأعلى أصواتهم ، داعين الله سبحانه وتعالى بإخلاص أن يتقبّل توبتهم ويغفر ذنوبهم وتقصيرهم بعدم اتّباعهم نبي الله يونس.

وهنا أزاح الله عنهم سحب العذاب وأنزلها على الجبال ، وهكذا نجا قوم يونس التائبون المؤمنون بلطف الله(٢) .

بعد هذا عاد يونس إلى قومه ليرى ماذا صنع بهم العذاب الإلهي؟ ولكن ما إن عاد إلى قومه حتّى فوجئ بأمر أثار عنده الدهشة والعجب ، وهو أنّه ترك قومه في ذلك اليوم يعبدون الأصنام ، وهم اليوم يوحّدون الله سبحانه.

القرآن يقول هنا :( وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ) كانوا قد آمنوا بالله ،

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، الصفحة ٤٣٦ ، الحديث ١١٦.

(٢) نقل صاحب تفسير البرهان ، وفي المجلّد ٤ ، الصفحة ٣٥ هذا الحديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام .

٤٠٥

واغدقت عليهم النعم الإلهية المادية والمعنوية لمدّة معيّنة ،( فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ ) .

وبالطبع فإنّهم بعد توبتهم كانوا يتمتّعون بإيمان بسيط ، وقد إزداد بعد عودة يونس إليهم ، أي إزداد إيمانهم بالله وبرسوله يونس ، وأخذوا ينفّذون تعليماته وأوامره.

ويتبيّن من آيات القرآن الكريم أنّ يونسعليه‌السلام بعث من جديد إلى قومه السابقين ، أمّا الذين قالوا : إنّه بعث إلى قوم آخرين ، فقولهم لا يتناسب مع ظاهر الآيات.

لأنّنا نقرأ من جهة قوله تعالى :( فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ ) يعني أنّ القوم الذين بعثنا إليهم يونس كانوا قوما مؤمنين ، وأنّنا قد أغدقنا عليهم النعم لمدّة محدودة.

ومن جهة اخرى ، فقد ورد نفس هذا التعبير في سورة يونس بشأن قومه السابقين ، وذلك في الآية (٩٨)( فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ ) .

ومن هنا يتّضح أنّ المراد من( إِلى حِينٍ ) هو لفترة معيّنة ، أي إلى نهاية حياتهم وحلول أجلهم الطبيعي.

سؤال يطرح نفسه : لماذا قالت الآية المذكورة أعلاه :( مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ) ؟ وما المقصود من يزيدون أي عدد بعد المائة ألف؟ المفسّرون أعطوا تفسيرات مختلفة لها ، ولكن الظاهر أنّ مثل هذه العبارات تأتي لتأكيد شيء ما ، وإعطائه هالة من العظمة ، وليس لخلق حالة من الترديد والشكّ(١) .

* * *

__________________

(١) لهذا فإنّ (أو) هنا تأتي بمعنى ، (بل).

٤٠٦

بحوث

١ ـ عرض موجز لحياة يونسعليه‌السلام

(يونس) بن (متى) ويلقّب بـ (ذي النون) أي صاحب الحوت ، وقد اعطي هذا اللقب لأنّ قصّته ارتبطت بالحوت ، وهو من المعروفين ، وعلى الظاهر أنّه ولد بعد موسى وهارون.

وقال البعض : إنّه من أولاد (هود) وقد كلّف من قبل الباريعزوجل بهداية من تبقّى من قوم ثمود.

والمنطقة التي بعث إليها كانت إحدى مناطق العراق وتسمّى (نينوى)(١) .

وقال البعض : إنّ بعثته كانت قبل ولادة المسيحعليه‌السلام بحوالي (٨٢٥) عاما ، وحاليا هناك قبر قرب مدينة الكوفة على ضعاف النهر يعرف بقبر (يونس).

وجاء في بعض الكتب أنّ يونس كان من أبناء بني إسرائيل وبعث إلى أهل نينوى بعد سليمان. وقد شرح كتاب (يوناه) أحد كتب التوراة العهد القديم في بحوث مفصّلة حياة النّبي يونس وتحت عنوان (يوناه بن متى). وطبقا لما جاء في هذا الكتاب ، فإنّ يونس كان مكلّفا بالذهاب إلى مدينة (نينوى) الكبيرة ، ومجابهة شرور الطغاة هناك.

ثمّ تذكّر التوراة حوادث اخرى ، تشبه كثيرا ما جاء في القرآن ، مع وجود اختلاف ، وهو أنّ الروايات الإسلامية تقول : إنّ يونس دعا قومه إلى التوحيد ونفّذ ما أوكل إليه في هذا المجال ، وبعد أن رفض قومه دعوته دعا عليهم وتركهم وحصل له ما حصل في حادثة السفينة والحوت ، ولكن التوراة ذكرت عبارة غير مقبولة ، إذ قالت : إنّ يونس طلب قبل بعثه إلى قومه أن يعفى من هذه المهمّة ، ولهذا

__________________

(١) نينوى ، اسم عدّة مناطق ، الاولى : مدينة قرب الموصل ، والاخرى في ضواحي الكوفة في جهة كربلاء ، ومدينة في آسيا الصغرى ، عاصمة مملكة آشور وتقع عاى ضفاف نهر دجلة (دائرة المعارف ده خدا) والبعض الآخر قال : إنّ نينوى هي أكبر مدن مملكة آشور الواقعة في الضفّة الشرقية لنهر دجلة وقد بنيت مقابل الموصل (معجم قصص القرآن).

٤٠٧

توقّف عن الدعوة وانهزم وحصلت له حادثة السفينة والحوت.

والذي يثير العجب أكثر أنّ التوراة تقول : إنّ يونس تألّم وغضب كثيرا عند ما أزال الله سبحانه وتعالى العذاب عن قومه بعد ما أعلنوا توبتهم(١) .

وجاء في أحد فصول التوراة ـ أيضا ـ أنّ يونس بعث مرّتين ، امتنع في الاولى وابتلي بذلك المصير المؤلم ، وفي المرّة الثانية بعث أيضا إلى المدينة (نينوى) نفسها ، وكان أهلها قد تيقّظوا من غفلتهم وآمنوا بالله ، وتابوا إليه وشملهم العفو الإلهي ، ذلك العفو الذي لم يفرح قلب يونس.

وبمقارنة ما جاء في القرآن المجيد والروايات الإسلامية مع ما جاء في كتاب التوراة الحالي يتّضح إلى أي درجة تحطّ (التوراة المحرّفة) من شأن نبي الله يونس ، فأحيانا ينسب إليه عدم قبوله حمل الرسالة التي كلّف بها ، وأحيانا غضبه وسخطه على قرار الله سبحانه وتعالى بشمول قومه التائبين بالعفو والرحمة. وهذا يدلّ على أنّ التوراة الحالية كتاب لا يمكن الاعتماد عليه بأي شكل من الأشكال.

على أيّة حال ، فإنّ يونس من الأنبياء الكبار الذين ذكرهم القرآن بأحسن وأفضل الذكر.

٢ ـ كيف بقي يونس حيّا في بطن الحوت؟

قلنا : إنّه ليس هناك دليل واضح يبيّن كم أمضى يونس من الوقت في بطن الحوت؟ هل أنّها كانت عدّة ساعات أم عدّة أيّام أم عدّة أسابيع؟

فقد ورد في بعض الروايات أنّه أمضى (٩) ساعات في بطن الحوت ، فيما قالت روايات اخرى : إنّه أمضى ثلاثة أيّام ، وأكّدت اخرى أنّه أمضى أكثر ، حتّى أنّ البعض قال : إنّه أمضى (٤٠) يوما في بطن الحوت.

__________________

(١) (التوراة) كتاب (النّبي يوناه) الفصل الأوّل والثاني والثالث والرابع.

٤٠٨

ولكن لا يوجد لدينا دليل ثابت على أي من هذه الأقوال.

وقد جاء في تفسير علي بن إبراهيم نقلا عن حديث لأمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، أنّ يونس أمضى (٩) ساعات في بطن الحوت(١) .

وقال بعض المفسّرين من أهل السنّة : إنّ المدّة التي أمضاها يونس في بطن الحوت كانت ساعة واحدة فقط(٢) .

وكم كانت المدّة؟ فإنّ مثل هذا الأمر ـ من دون أي شكّ ـ يعدّ أمرا غير عادي ، حيث إنّ الإنسان لا يستطيع أن يبقى حيّا لعدّة دقائق في محيط فارغ من الهواء ، وإذا رأينا أنّ الجنين يعيش عدّة أشهر في بطن أمّه حيّا ، فإنّما ذلك بسبب عدم عمل أجهزته التنفسيّة وحصوله على الأوكسيجين اللازم عن طريق دم والدته.

ووفقا لهذا فإنّ ما جرى ليونس إنّما هو معجزة من دون أي شكّ ، وهذه ليست المعجزة الأولى التي نصادفها في القرآن المجيد ، فالباريعزوجل ـ الذي حفظ إبراهيمعليه‌السلام في وسط النار ، وأنقذ موسى وبني إسرائيل من الغرق بعد أن أوجد لهم طريقا يابسا وسط البحر ، وخلّص نوحا من الطوفان العظيم بواسطة سفينة بسيطة ليهبط من بعد على الأرض اليابسة بسلام ـ قادر على حفظ عبد من عباده المخلصين مدّة من الزمن في بطن الحوت.

وبالطبع فإنّ وجود مثل تلك الحيتان الكبيرة في الماضي والحاضر لا يعدّ أمرا عجيبا ، إذ يوجد حاليا نوع من أنواع الحيتان يطلق عليه اسم (بالن) طوله أكثر من (٣٠) مترا ويعدّ أكبر حيوان على وجه الأرض ، وقلبه يزن طنّا واحدا.

في هذه السورة طالعنا قصص الأنبياء السابقين الذين نجوا بإعجاز من قبضة البلاء ، ويونس كان آخرهم في هذه السلسلة.

__________________

(١) تفسير علي بن إبراهيم ، وفقا لما ورد في نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، الصفحة ٤٣٦.

(٢) تفسير القرطبي ، المجلّد ٨ ، الصفحة ٥٦٧.

٤٠٩

٣ ـ دروس وعبر كبيرة في قصص صغيرة :

وكما نعرف ، فإنّ استعراض القرآن لهذه القصص يهدف إلى تربية الإنسان ، لأنّ القرآن ليس كتاب قصص وإنّما هو كتاب هدفه بناء الإنسان وتربيته.

من هذه القصّة العجيبة يمكن استخلاص الكثير من المواعظ والعبر :

أ ـ ترك النّبي للعمل بالأولى يعدّ أمرا مهمّا عند الله ، ويؤدّي إلى مجازاة ذلك النبي ، لأنّ مرتبة الأنبياء عالية جدّا ، وأبسط غفلة منهم تعادل ذنبا كبيرا يرتكبه عوام الناس ، ولهذا السبب أطلق الله سبحانه وتعالى تسمية (الآبق) على عبده يونس في هذه الآية ، والتي تعني العبد الهارب.

وقد ورد في بعض الروايات أنّ ركّاب السفينة كانوا يقولون : هناك شخص عاص بيننا!

وعاقبة الأمر أنّ الباريعزوجل ابتلاه بسجن رهيب ، ثمّ أنقذه منه بعد أن تاب وعاد إلى الله ، وكان منهار القوى مريضا.

ذلك ليعرف الجميع أنّ التواني غير مقبول من أي أحد ، فعظمة مرتبة أنبياء وأولياء الله إنّما يحصلون عليها من طاعتهم الخالصة لأوامر الله سبحانه وتعالى ، وإلّا فالله لا تربطه صلة قربى مع أي أحد ، وإنّ الموقف الحازم الذي اتّخذه الله تجاه عبده يونس يوضّح عظمة مرتبة هذا النّبي الكبير.

ب ـ أحداث هذه القصّة (وخاصّة ما ورد في الآية (٨٧) من سورة الأنبياء) كشفت عن سبيل نجاة المؤمنين من الغمّ والحزن والابتلاءات والمشاكل ، وهو نفس السبيل الذي انتهجه يونس ، وهو اعترافه بخطئه أمام الله وتسبيحه الله وتنزيهه والعودة إليه.

ج ـ هذه القصّة توضّح كيف أنّ قوما مذنبين مستحقّين للعذاب يستطيعون في آخر اللحظات تغيير مسيرتهم التأريخية ، بعودتهم إلى أحضان الرحمة الإلهيّة ، وإنقاذ أنفسهم من العذاب ، وهذا مشروط بالصحوة من غفلتهم قبل فوات الأوان ،

٤١٠

وانتخاب شخص «عالم» قائدا لهم.

د ـ هذه الحادثة تبيّن أنّ الإيمان بالله والتوبة من الذنوب علاوة على أنّها تتسبّب في نزول الآثار والبركات المعنوية ، فهي توجد النعم والهبات الدنيوية وتجعلها في إختيار الإنسان ، وتوجد حالة من العمران والبناء ، وتطيل الأعمار ، ونظير هذا المعنى ورد أيضا في قصّة نوحعليه‌السلام والذي سنقرأ شرحه بعون الله في تفسير سورة نوح.

ه ـ أخيرا فإنّ مجريات هذه القصّة تستعرض قدرة الباريعزوجل العظيمة التي لا يقف أمامها شيء ولا يصعب عليها شيء ، إلى درجة تستطيع حفظ حياة إنسان في فم وجوف حيوان كبير وحشي ، وإخراجه سالما من هناك ، هذا الأمر يبيّن أنّ كلّ ما هو موجود في هذا الكون هو أداة بيده تعالى ومسخّر لأوامره.

٤ ـ الجواب على سؤال :

هنا يطرح هذا السؤال : عند بيان قصص الأقوام الاخرى في القرآن المجيد ، نلاحظ أنّه عند نزول العذاب عليهم (عذاب الاستئصال الذي كان ينال كلّ الأقوام الطاغية والمتجبّرة) لا تكون التوبة مقبولة والإنابة مؤثّرة ، فكيف استثني قوم يونس من هذا الأمر؟

هناك إجابتان على هذا السؤال :

الأولى : هي أنّ العذاب لم يكن قد نزل بهم ، لأنّهم بمجرّد أن شاهدوا دلائل بسيطة تنذر بالعذاب ، استغلّوا هذه الفرصة وآمنوا بالله وتابوا إليه قبل حلول البلاء.

الثانية : أنّ عذابهم لم يكن لإهلاكهم ، وإنّما كان بمثابة تنبيه وتأديب لهم قبل نزول العذاب المهلك ، وهو الأسلوب الذي كان يتّبع مع الأقوام السابقة ، أي تظهر لهم بعض دلائل العذاب كآخر فرصة لهم ، فإن آمنوا كفّ الله عنهم العذاب ، وإن بقوا على طغيانهم أنزل الله العذاب عليهم ليهلكهم عن آخرهم ، كما عذّب قوم فرعون بمختلف أنواع العذاب قبل أن يغرقهم الله في البحر.

٤١١

٥ ـ القرعة ومشروعيتها في الإسلام :

وردت أحاديث متعدّدة بشأن القرعة ومشروعيتها في الإسلام ، فعن الإمام الصادقعليه‌السلام «أي قضيّة أعدل من القرعة إذا فوّض الأمر إلى الله ، أليس اللهعزوجل يقول :( فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ) (١) .

وهذا إشارة إلى أنّ القرعة هي طريق الحلّ الصحيح في حالة استعصاء أمر ما وعدم وجود طريق آخر لحلّه ، وتفويض الأمر لله كما جاء في قصّة يونس حيث انطبقت تماما مع الواقع.

وهذا المعنى ورد بصراحة في حديث لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال فيه : «ليس من قوم تنازعوا (تقارعوا) ثمّ فوّضوا أمرهم إلى الله إلّا خرج لهم المحقّ»(٢) .

ومن يريد الاطلاع أكثر على هذه المسألة فليراجع كتاب القواعد الفقهيّة (للمؤلّف).

* * *

__________________

(١) تفسير البرهان ، المجلّد ٤ ، الصفحة ٣٧ الحديث ٦.

(٢) (الوسائل) كتاب القضاء ، المجلّد ١٨ ، باب الحكم بالقرعة في القضايا المشكلة في أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى (الباب ١٣) الحديث (٥).

٤١٢

الآيات

( فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨) سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠) )

التّفسير

التهم القبيحة :

بعد استعراض ستّ قصص من قصص الأنبياء السابقين ، واستخلاص الدروس التربوية منها ، يغيّر القرآن موضوع الحديث ، ويتناول موضوعا آخر يرتبط بمشركي مكّة آنذاك ، ويستعرض لنا أنماطا مختلفة من شركهم ويحاكمهم بشدّة ، ثمّ يدحض بالأدلّة القاطعة أفكارهم الخرافية.

٤١٣

والقضيّة هي أنّ مجموعة من المشركين العرب وبسبب جهلهم وسطحيّة تفكيرهم كانوا يقيسون اللهعزوجل بأنفسهم ، ويقولون : إنّ للهعزوجل أولادا ، وأحيانا يقولون : إنّ له زوجة.

قبائل (جهينة) و (سليم) و (خزاعة) و (بني مليح) كانوا يعتقدون أنّ الملائكة هي بنات اللهعزوجل ، ومجموعة اخرى من المشركين كانت تعتقد أنّ (الجنّ) هم أولاد اللهعزوجل ، فيما قال البعض الآخر : إنّ (الجنّ) هم زوجات اللهعزوجل .

الأوهام الخرافية هذه ، كانت السبب الرئيسي لانحرافهم عن طريق الحقّ بصورة زالت معها كلّ آثار التوحيد والإعتقاد بوحدانية الله سبحانه وتعالى من قلوبهم.

وقد ورد في أحد الأحاديث أنّ النمل يتصوّر أنّ لخالقه قرنين إثنين مثلما هي تمتلك.

نعم ، العقل الناقص للإنسان يدفعه إلى المقارنة ، المقارنة بين الخالق والمخلوق ، وهذه المقارنة من أسوأ الأسباب التي تؤدّي بالإنسان إلى الضلال عن معرفة الله.

على أيّة حال ، فالقرآن الكريم يردّ على الذين يتصوّرون أنّ الملائكة هي بنات الله بثلاث طرق ، أحدها تجريبي ، والآخر عقلي ، والثالث نقلي ، وفي البداية يقول ، اسألهم هل أنّ الله تعالى خصّ نفسه بالبنات ، وخصّهم بالبنين ،( فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ) .

وكيف تنسبون ما لا تقبلون به لأنفسكم إلى الله ، حيث أنّهم طبق عقائدهم الباطلة كانوا يكرهون البنات بشدّة ويحبّون الأولاد كثيرا ، فالأولاد كان لهم دورا مؤثّرا خلال الحرب والإغارة على بقيّة القبائل ، في حين أنّ البنات عاجزات عن تقديم مثل هذه المساعدة.

ومن دون أي شكّ فإنّ الولد والبنت من حيث وجهة النظر الإنسانية ، ومن حيث التقييم عند الله سبحانه وتعالى متساوون ، وميزان شخصيتهم هو التقوى

٤١٤

والطهارة ، واستدلال القرآن هنا إنّما يأتي من باب (ذكر مسلّمات الخصم) ومن ثمّ ردّها عليه. وشبيه هذا المعنى ورد في سور اخرى من سور القرآن ، ومنها ما جاء في الآية (٢١ و ٢٢) من سورة النجم( أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى. تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى ) !.

ثمّ ينتقل الحديث إلى عرض دليل حسّي على المسألة هذه ، وبشكل استفهام استنكاري ، قال تعالى :( أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ ) .

ومن دون أي شكّ فإنّ جوابهم في هذا المجال سلبي ، إذ لم يستطع أحدا منهم الادّعاء بأنّه كان موجودا أثناء خلق الملائكة.

مرّة اخرى يطرح القرآن الدليل العقلي المقتبس من مسلّماتهم الذهنية ويقول :( أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ. وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ ) .

هل تدركون ما تقولون وكيف تحكمون :( ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) ؟

ألم يحن الوقت الذي تتركون فيه هذه الخرافات والأوهام القبيحة والتافهة؟

( أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) ؟

إذن أنّ هذا الكلام باطل من الأساس بحيث لو أنّ أي إنسان له ذرّة من عقل ودراية ، ويتفكّر في الأمر جيّدا ، لأدرك بطلان هذه المزاعم.

بعد إثبات بطلان ادّعاءاتهم الخرافية بدليل تجريبي وآخر عقلي ، ننتقل إلى الدليل الثالث وهو الدليل النقلي ، حيث يقول القرآن الكريم مخاطبا إيّاهم : لو كان ما تزعمونه صحيحا لذكرته الكتب السابقة ، فهل يوجد لديكم دليل واضح عليه ،( أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ ) .

وإذا كنتم صادقين في قولكم فأتوا بذلك الكتاب( فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) .

هذا الادّعاء في أي كتاب موجود؟ وفي أي وحي مذكور؟ وعلى أي رسول نزل؟

٤١٥

هذا القول يشبه بقيّة الأقوال التي يخاطب بها القرآن عبدة الأصنام( وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ. أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ) .

كلّا ، إنّها لم ترد في الكتب السماوية ، بل انّها خرافات انتقلت من جيل إلى جيل ومن جهلة إلى آخرين ، وإنّها دعاوي مرفوضة ولا أساس لها ، كما أشير إليها في نهاية الآيات المذكورة أعلاه( أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ) .

الآية اللاحقة تطرّقت إلى خرافة اخرى من خرافات مشركي العرب ، والّتي تزعم بوجود نسبة بين اللهعزوجل والجنّ ، فالآية هنا لا تخاطبهم بصورة مباشرة وإنّما تخاطبهم بضمير الغائب ، لأنّهم أناس تافهون ، ولا تتوفّر فيهم الكفاءة واللياقة للردّ على زعمهم( وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً ) .

فما هي النسبة الموجودة بين الله والجنّ؟

وردت عدّة تفاسير مختلفة لهذا السؤال ، منها :

قال البعض : إنّهم كانوا ثنويين ، ويعتقدون (نعوذ بالله) أنّ الله والشيطان إخوة ، الله خالق المحبّة ، والشيطان خالق الشرور.

وهذا التّفسير مستبعد ، لأنّ المذهب الثنوي لم يكن معروفا عند العرب ، بل كان منتشرا في إيران خلال عهد الساسانيين.

واعتبر البعض الآخر الجنّ هم نفس الملائكة ، لأنّ الجنّ موجودات لا تدركها الأبصار ، والملائكة كذلك ، ولذلك أطلقوا كلمة «الجنّ» عليها. إذا ، فالمراد من النسبة هي النسبة التي كان يدّعيها عرب الجاهلية من أنّ الملائكة بنات الله.

ويرد على هذا التّفسير أنّ ظاهر آيات بحثنا انّها تبحث في موضوعين ، إضافة إلى أنّ إطلاق كلمة (الجنّ) على الملائكة غير وارد وخاصّة في القرآن الكريم.

وهناك تفسير ثالث يقول : إنّهم كانوا يعتبرون (الجنّ) زوجات الله ، فيما

٤١٦

يعتبرون الملائكة بناته.

وهذا التّفسير مستبعد أيضا ، لأنّ إطلاق كلمة «نسب» على الزوجة غير وارد.

والتّفسير الذي يعدّ أنسب من الجميع ، هو أنّ المراد من كلمة (نسب) كلّ أشكال الرابطة والعلاقة ، حتّى ولو لم يكن هناك أي صلة للقرابة فيها ، وكما نعلم فإنّ مجموعة من المشركين العرب كانوا يعبدون الجنّ ويزعمون أنّها شركاء لله ، ولهذا كانوا يقولون بوجود علاقة بينها وبين الله.

على أيّة حال ، فالقرآن المجيد ينفي هذه المعتقدات الخرافية بشدّة ، ويقول : إنّ الجنّ الذين كان المشركون يعبدونها ويقولون بوجود نسبة بينها وبين الله ، يعلمون جيّدا أنّ المشركين سيحضرون في محكمة العدل الإلهي وسيحاسبون ويجزون( وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ) .

والبعض الآخر احتمل أن يكون تفسير الآية بالشكل التالي : إنّ الجنّ الذين يغوون الناس يعلمون أنّهم يوم القيامة سيحضرون في محكمة العدل الإلهي ليحاسبوا وينالوا جزاءهم.

ولكن التّفسير الأوّل يعدّ أنسب(١) .

ونزّه الله تعالى نفسه عمّا قاله أولئك الضالّون في صفاته تعالى ، قائلا :( سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ ) . واستثنى وصف عباده المخلصين (الذين وصفوه عن علم ومعرفة ودراية) حيث وصفوه بما يليق بذاته المقدّسة ، قال تعالى :( إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ) .

وبهذا الشكل فإنّ من النادر أن نسمع أناسا عاديين يصفون الله سبحانه وتعالى وصفا لائقا ، كما يصفه عباده المخلصون ، العباد الخالصون من كلّ أشكال الشرك وهوى النفس والجهل والضلال ، والذين لا يصفون الباريعزوجل إلّا بما سمح

__________________

(١) الضمير (هم) يعود في الحالة الاولى على المشركين ، وفي الحالة الثانية على (الجنّ).

٤١٧

لهم به(١) .

وحول عبارة( عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ) فقد كان لنا بحث في نهاية الآية (١٢٨) من هذه السورة.

نعم ، فلمعرفة الله لا ينبغي اتّباع الخرافات الواردة عن أقوام الجاهلية التي يخجل الإنسان من ذكرها ، بل يجب اتّباع العباد المخلصين الذين يتحدّثون بأحاديث تجعل روح الإنسان محلّقة في عنان السماء ، وتذيبها في أنوار الوحدانية ، وتطهّر القلب من كلّ شائبة شرك ، وتمحو كلّ تجسيم وتشبيه لله من ذهن الإنسان.

ينبغي لنا مراجعة كلمات الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، وأدعية الإمام زين العابدينعليه‌السلام في صحيفته ، كي نستنير بضياء وصفهم له جلّ وعلا.

فأمير المؤمنينعليه‌السلام ، يقول في إحدى كلماته : «لم يطلع العقول على تحديد صفته ، ولم يحجبها عن واجب معرفته ، فهو الذي تشهد له أعلام الوجود ، على إقرار قلب ذي الجحود ، تعالى الله عمّا يقوله المشبهون والجاحدون له علوّا كبيرا»(٢) .

وفي مكان آخر يصف اللهعزوجل بالقول : «لا تناله الأوهام فتقدّره ، ولا تتوهّمه الفطن فتصوّره ، ولا تدركه الحواس فتحسّه ، ولا تلمسه الأيدي فتمسّه ، ولا يتغيّر بحال ، ولا يتبدّل في الأحوال ، ولا تبليه الليالي والأيّام ، ولا يغيّره الضياء والظلام ، ولا يوصف بشيء من الأجزاء ، ولا بالجوارح والأعضاء ، ولا بعرض من الأعراض ، ولا بالغيرية والأبعاض ، ولا يقال له حدّ ولا نهاية ، ولا انقطاع

__________________

(١) وفقا لهذا التّفسير ، فإنّ عبارة (إلّا عباد الله) استثناء منقطع من ضمير (يصفون) ، والبعض قال : إنّه استثناء منقطع من ضمير (محضرون) كما ذكروا آراء مختلفة اخرى ، ولكن الرأي الأوّل أنسب. وعلى كلّ حال فهو استثناء منقطع.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ٤٩.

٤١٨

ولا غاية»(١) .

وفي مكان ثالث يقول : «ومن قال فيم؟ فقد ضمنه ، ومن قال علام؟ فقد أخلى منه ، كائن لا عن حدث ، موجود لا عن عدم ، مع كلّ شيء لا بمقارنة ، وغير كلّ شيء لا بمزايلة»(٢) .

أمّا الإمام علي بن الحسين زين العابدينعليه‌السلام ، فقد قال في صحيفته السجّادية : «الحمد لله الأوّل بلا أوّل كان قبله ، والآخر بلا آخر يكون بعده ، الذي قصرت عن رؤيته أبصار الناظرين وعجزت عن نعته أوهام الواصفين»(٣) .

نعم ، فلمعرفة الله جيّدا علينا مراجعة نهج هؤلاء (عباد الله المخلصين) ودراسة علوم معرفة الله في مدارسهم.

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٨٦.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ١.

(٣) الدعاء الأوّل في الصحيفة السجّادية.

٤١٩

الآيات

( فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠) )

التّفسير

الادّعاءات الكاذبة :

الآيات السابقة تحدّثت عن الآلهة المختلفة التي كان المشركون يعبدونها ، أمّا الآيات ـ التي هي مورد بحثنا الآن ـ فتتابع ذلك الموضوع ، حيث توضّح في كلّ بضع آيات موضوعا يتعلّق بهذا الأمر.

بداية البحث تؤكّد الآيات على أنّ وساوس عبدة الأصنام لا تؤثّر على الطاهرين والمحسنين ، وإنّما ـ قلوبكم المريضة وأرواحكم الخبيثة هي التي تستسلم لتلك الوساوس ، قال تعالى :( فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ ) .

نعم ، أنتم وما تعبدون لا تستطيعون خداع أحد بوسائل الفتنة والفساد عن

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611