الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل6%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 611

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 611 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 139562 / تحميل: 6855
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٤

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

الاستناد إلى الأكثرية ، فلا ننس أنّ هذا ـ كما قلنا ـ نوع من الاضطرار والوصول إلى طريق مسدود ، إذ لا يمكن العثور في مجتمع مادي على وسيلة صحيحة وسليمة لاتخاذ القرارات ولسن القوانين.

لذلك نجد الكثير من العلماء مضطرين إلى القبول بفكرة الأكثرية ، على الرغم من اعترافهم بأنّ هذه القاعدة كثيرا ما يصاحبها الخطأ ، وذلك لأنّ عيوب الوسائل الأخرى أكثر.

بيد أنّ مجتمعا مؤمنا برسالة الأنبياء لا يجد نفسه مضطرا لاتباع نظر الأكثرية في سن القوانين ، لأنّ مناهج الأنبياء الصادقة وقوانينهم الإلهية خالية من كل عيب ونقص ، ولا يمكن مقارنتها بما تستصوبه الأكثرية المعرضة للخطأ.

لو ألقينا نظرة على وضع العالم اليوم وعلى الحكومات القائمة على أساس رأي الأكثرية ، وعلى القوانين السقيمة التي تمليها الأهواء ثمّ تقرها الأكثرية ، لرأينا أنّ الأكثرية العددية لم تداو جرحا ، بل إنّ معظم الحروب وأكثر المفاسد أقرّتها الأكثرية.

الاستعمار ، والاستغلال ، والحروب ، وإراقة الدماء ، وحرية تعاطي المسكرات ، والقمار ، والإجهاض ، والبغاء ، وغير ذلك ممّا يندي له الجبين خجلا ، قد أقرّتها الأكثرية في المجالس النيابية في كثير من البلدان التي تصف نفسها بأنّها متقدمة باعتبارها تعكس رغبة أكثرية عامّة الناس ، وهذا دليل على حقيقة ما نقول.

ومن الناحية العلمية نتساءل هل أنّ أكثرية المجتمعات صادقة؟ هل الأكثرية أمينة؟ أتراها تمنع نفسها من الاعتداء على حقوق الآخرين ، إذا استطاعت؟ هل تنظر الأكثرية إلى منافعها ومنافع الآخرين بنظرة واحدة؟

الإجابات ناطقة بلسان الحال لا المقال ، لذلك لا بدّ من الاعتراف بأنّ استناد العالم المعاصر إلى الأكثرية نوع من الإكراه تفرضه الأوضاع القائمة ، وانّه شر

٤٤١

مفروض على المجتمعات.

نعم ، لو أنّ العقول المفكرة ، مصلحي المجتمعات البشرية المخلصين ، والعلماء الهادين ـ وهم أقلية دائما ـ شنوا حملة شاملة لتنوير أفكار عامّة الناس بحيث تنال المجتمعات قسطا من الوعي والرشد الفكري والاجتماعي ، لاقتربت وجهات نظر أكثرية كهذه إلى الحقيقة اقترابا كبيرا ، غير أنّ أكثرية غير راشدة وغير واعية ، بل فاسدة ومنحرفة وضالة ، لا تستطيع أن تقيل عثرة نفسها أو غيرها! لذلك فالأكثرية وحدها لا تكفي ، وإنّها الأكثرية المهتدية هي القادرة على حل مشاكل المجتمع إلى الحد الذي يستطيعه بشر.

وإذا كان القرآن في كثير من المواضع يذم الأكثرية ، فالمقصود هو الأكثرية غير الرشيدة دون شك.

* * *

٤٤٢

الآيات

( فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠) )

التّفسير

لا بدّ من إزالة آثار الشرك :

هذه الآيات في الحقيقة واحدة من نتائج البحوث التي سبقت في التوحيد والشرك ، لذلك تبدأ الآية الأولى بفاء التفريع التي يؤتى بعدها بالنتيجة.

الآيات السابقة تناولت بأساليب متنوعة حقيقة التوحيد وإثبات بطلان الشرك وعبادة الأصنام.

ومن نتائج ذلك أنّ على المسلمين أن يمتنعوا عن أكل لحوم القرابين التي تذبح باسم الأصنام ، بل عليهم أن يأكلوا من لحم ما ذكر اسم الله عليه ، حيث كان

٤٤٣

من عادة العرب أن يذبحوا القرابين لأصنامهم ، ويأكلوا من لحومها للتبرك بها ، وكان هذا جزءا من عبادتهم الأصنام ، لذلك يبدأ القرآن بالقول :( فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ ) .

أي أنّ الإيمان ليس مجرّد قول وادعاء وعقيدة ونظرية ، بل لا بدّ أن يظهر على صعيد العمل أيضا ، فالذي يؤمن بالله يأكل من هذه اللحوم فقط.

بديهي أنّ الفعل «كلوا» لا يعني الوجوب ، بل يعني إباحة أكلها وحرمة أكل ما عداها.

ومن هذا يتبيّن أنّ حرمة الذبائح التي لم يذكر اسم الله عليها ، ليست من وجهة النظر الصحيحة حتى يقال : ما الفائدة الصّحيحة من ذكر اسم الله على الذبيحة بل لها خلفية أخلاقية ومعنوية وتستهدف تثبيت قواعد التوحيد وعبودية الله الواحد الأحد.

الآية التّالية تورد هذا الموضوع نفسه بعبارة مغايرة مع مزيد من الاستدلال ، فتقول : لم لا تأكلون من اللحوم التي ذكر اسم الله عليها ، في الوقت الذي بيّن الله لكم ما حرم عليكم؟( وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ) .

مرّة أخرى نشير إلى أنّ التوبيخ والتوكيد ليسا من أجل ترك أكل اللحم الحلال ، بل الهدف هو أنّ هذه هي التي ينبغي أن تأكلوا منها ، لا من غيرها ، وبعبارة أخرى : التوكيد يكون هنا على النقطة المقابلة لمفهوم العبارة ، من هنا استدل على ذلك بالقول :( قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ) .

أمّا موضع هذا التفصيل فقد يتصوّر البعض أنّه في سورة المائدة ، أو في آيات من هذه السورة (الأنعام ، ١٤٥).

ولما كانت هذه السورة قد نزلت في مكّة ، وسورة المائدة نزلت بالمدينة ، والآيات التّالية من هذه السورة لم تكن قد نزلت بعد فإنّ أيّا من هذين

٤٤٤

الاحتمالين غير صحيح ، فالموضوع إمّا أن يكون الآية (١١٥) من سورة النحل التي تذكر بعض اللحوم المحرم أكلها ، وخاصّة التي لم يذكر عليها اسم الله ، أو أن يكون المراد التعاليم التي كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بينها بشأن اللحوم ، لأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن يتحدث إلّا بوحي.

ثمّ يستثني من ذلك حالة واحدة :( إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ) سواء كان هذا الاضطرار ناشئا من وجود الإنسان في البيداء وتحت ضغط الجوع الشديد ، أو الوقوع تحت سيطرة المشركين الذين قد يجبرونه على أكل لحومهم.

ثمّ تشير الآية إلى أنّ كثيرا من الناس يحاولون أن يضلوا الآخرين عن جهل أو عن إتباع الهوى :( وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) .

وعلى الرغم من أنّ إتباع الهوى مصحوب دائما بالجهل ، ولكنّه يكرر ذلك للتوكيد فيقول :( ... بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) .

يستفاد من هذا التعبير أيضا أنّ العلم الصحيح لا يقترن باتّباع الهوى والانسياق مع الخيال ، وحيثما اقترن فهو الجهل لا العلم.

يلزم القول أنّ الجملة المذكورة ربّما تكون إشارة إلى ما كان سائدا بين المشركين العرب الذين كانوا يسوغون لأنفسهم أكل لحوم الحيوانات الميتة بالقول : أيجوز أن تعتبر لحوم الحيوانات التي نقتلها بأنفسنا حلالا ، ولحوم الحيوانات التي يقتلها الله حراما؟

بديهي أنّ هذا لم يكن سوى سفسطة فارغة ، لأنّ الحيوان الميت ليس حيوانا ذبحه الله ليمكن مقارنته بالحيوانات المذبوحة ، إذ إنّ الحيوان الميت بؤرة الأمراض ، ولحمه فاسد ، ولهذا حرم الله أكله ، وأخيرا يقول :( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ) الذين يحاولون بهذه الأدلة الواهية تنكّب طريق الحق ، بل يسعون إلى إضلال الآخرين.

الآية الثّالثة تذكر قانونا عاما ، لاحتمال أن يرتكب بعضهم هذا الإثم في

٤٤٥

الخفاء ، وتقول :( وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ ) .

يقال إنّهم في الجاهلية كانوا يعتقدون أن الزنا إذا ارتكب في الخفاء فلا بأس به ، أما إذ ارتكب علنا فهو الإثم! واليوم ـ أيضا ـ نجد أناسا يسيرون وفق هذا المنطق الجاهلي فيخشون ارتكاب الإثم علانية ، ولكنّهم يرتكبون في الخفاء ما يشاءون من الآثام دون رادع من ضمير.

إنّ هذه الآية لا تدين هذا المنطق فحسب ، بل تحمل مفاهيم واسعة ، فهي بالإضافة إلى ما قلناه آنفا تتضمن الكثير من التفاسير التي وردت للإثم الظاهر والباطن ، من ذلك مثلا ـ قولهم : انّ الإثم الظاهر هو ما يرتكب بوساطة أعضاء الجسم ، والإثم الباطن هو ما يرتكب في القلب وفي النيّة والعزم.

ثمّ من باب تهديد المذنبين بما ينتظرهم من مصير مشؤوم وتذكيرهم بذلك ، تقولالآية :( إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ ) .

عبارة( يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ ) تعبير رائع يشير إلى أن الإنسان في هذه الدنيا أشبه بأصحاب رؤوس الأموال الذين يدخلون سوقا كبيرة ، أنّ رؤوس أموالهم الذكاء والعقل والعمر والشباب والطاقات المختلفة التي هي مواهب الله ، فالمسكين ذاك الذي «يكتسب» الإثم بدل أن يكتسب السعادة والشخصية الإنسانية والتقوى والقرب إلى الله.

و «سيجزون» أي ينالون الجزاء في المستقبل القريب قد يشير إلى يوم القيامة ، وأنّه وإن بدا في نظر بعضهم بعيدا ، فهو في الحقيقة قريب جدا ، وإن هذا العالم سرعان ما تنطوي أيّامه ويحين المعاد.

وقد يكون إشارة إلى أنّ أغلب أفراد البشر ينالون في هذه الدنيا بعض ما يستحقونه من نتائج أعمالهم السيئة بشكل ردود فعل فردية واجتماعية.

* * *

٤٤٦

الآية

( وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١) )

التّفسير

دار الكلام في الآيات السابقة حول الجانب الإيجابي من مسألة اللحوم ، أي أكل اللحوم الحلال ، وفي هذه الآية تأكيد للجانب السلبي من المسألة :( وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ ) ثمّ في جملة واحدة يدين هذا العمل :( وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ) وإثم وخروج عن طريق العبودية وإطاعة الله.

ولكيلا يقع بعض البسطاء من المسلمين تحت تأثير وسوسة الشيطان ، تخاطبهم الآية : إنّ الشياطين يوسوسون في الخفاء لأتباعهم لكي يدخلوا معكم في جدل ونقاش :( وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ ) ولكن كونوا على حذر ، ولا تطيعوهم :( وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ) .

لعل هذا الجدل والوسوسة إشارة إلى ما كان سائدا بين المشركين بشأن أكل الميتة (وذهب البعض إلى أنّ العرب المشركين أخذوه من المجوس) وقولهم : إنّنا نأكل الميتة لأنّ الله أماتها ، وهي لذلك أفضل ممّا نقتله بأيدينا ، معتقدين أن عدم

٤٤٧

أكل الميتة نوع من الجفاء لعمل الله! غافلين أنّ الحيوان الميت موتا طبيعا ، إضافة إلى مرضه غالبا ، يضم بين لحمه دما قذرا فاسدا يفسد معه اللحم ، بسبب عدم انقطاع أوداجه ، ولذلك أمر الله أن تؤكل ـ فقط ـ لحوم الحيوانات المذبوحة بطريقة خاصّة ، والمراق دمها خارج بدنها.

ويستفاد من هذه الآية ـ ضمنيا ـ حرمة الذبيحة غير الإسلامية ، لأنّها إضافة إلى الجهات الأخرى ـ لم يتقيد ذابحها بذكر اسم الله عليها.

* * *

٤٤٨

الآيتان

( أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٢) وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (١٢٣) )

سبب النّزول

قيل في نزول الآية الأولى إنّ أبا جهل الذي كان من ألد أعداء الإسلام والرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آذى يوما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إيذاء شديدا ، وكان «حمزة» عم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ذاك الرجل الشجاع ـ لم يسلم بعد ، بل كان ما يزال يقلب الأمر في ذهنه ، وقد خرج في ذلك اليوم كعادته للصيد في الصحراء ، وعند عودته سمع بما جرى بين أبي جهل وابن أخيه ، غضب غضبا شديدا وذهب إلى أبي جهل وصفعه صفعة أسالت الدم من أنفه ، وعلى الرغم من مكانة أبي جهل ونفوذه في عشيرته ، فإنّ لم يرد عليه لما يعرفه عن شجاعة حمزة.

وعاد حمزة إلى الرّسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأعلن إسلامه ، ومنذ ذلك اليوم أصبح

٤٤٩

جنديا من جنود الإسلام ، ودافع عنه حتى استشهد بين يدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

هذه الآية نزلت بشأن هذه الحادثة وبيّنت إسلام حمزة ، وإصرار أبي جهل على الكفر والفساد.

وتفيد بعض الرّوايات الأخرى أنّ الآية نزلت بشأن إسلام عمار بن ياسر وإصرار أبي جهل على الكفر.

ومهما يكن ، فإنّ هذه الآية ـ مثل الآيات الأخرى ـ لا تختص بواقعة نزولها ، بل هي ذات مفهوم واسع يصدق على كل مؤمن صادق وكل معاند لجوج.

التّفسير

الإيمان والرّؤية الواضحة :

ترتبط هذه الآية بالآيات السابقة من حيث كون الآيات السابقة أشارت إلى طائفتين من الناس : المؤمنين المخلصين ، والكافرين المعاندين الذين لا يكتفون بضلالهم ، بل يسعون حثيثا إلى تضليل الآخرين ، هنا أيضا يتجسد وضع هاتين الطائفتين من خلال ضرب مثل واضح.

يشير المثال إلى طائفة من الناس كانوا من الضّالين ، ثمّ غيروا مسيرتهم باعتناق الإسلام فهؤلاء أشبه بالميت الذي يحييه الله بإرادته :( أَوَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ ) .

كثيرا ما يستعمل القرآن «الموت» و «الحياة» بالمدلول المعنوي لهما لتمثيل الكفر والإيمان ، وهذا يدل على أنّ الإيمان ليس مجرّد معتقدات جافة وأوراد وطقوس ، بل هو بمثابة الروح التي تحل في النفوس الميتة غير المؤمنة ، فتؤثر عليها في جميع شؤونها ، وتمنح العيون الرؤية ، والآذان قدرة السمع ، واللسان قوة البيان ، والأطراف العزم على أداء النشاطات البناءة الإيمان يغير الأفراد ، ويشمل هذا التغيير كل جوانب الحياة ، وتبدو آثاره في كل الحركات والسكنات.

٤٥٠

وتفيد جملة( فَأَحْيَيْناهُ ) أنّ الإيمان ـ وإن استلزم سعي الإنسان لنيله ـ لا يتم إلّا بهداية من الله! ثمّ تقول الآية عن أمثال هؤلاء :( وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) .

على الرغم من وجود الاختلاف في تفسير هذا «النّور» فالظاهر أنّ المقصود ليس القرآن وتعاليم الشرع فحسب ، بل أكثر من ذلك ، حيث يمنح الإيمان بالله الإنسان رؤية وإدراكا جديدين يمنحه رؤية واضحة ويوسع من آفاق نظرته لتتجاوز إطار حياته المادية وجدران عالم المادة الضيق إلى عالم أرحب وأوسع.

ولما كان الإيمان يدعو الإنسان إلى أن يبني نفسه ، فانه يزيح عن عينيه أغشية الأنانية والتعصب والمعاندة والأهواء ، ويريه حقائق ما كان قادرا على إدراكها من قبل.

إنّه في ضوء هذه النّور يستطيع أن يميز مسيرة حياته بين الناس ، وأنّ يصون نفسه ويحافظ عليها ويحصنها ضد ما يقع فيه الآخرون من أخطار الطمع والجشع والأفكار المادية المحدودة ، والوقوف بوجه أهوائه وكبح جماحها.

إنّ ما نقرأه في الأحاديث الإسلامية من أنّ «المؤمن ينظر بنور الله» إشارة إلى هذه الحقيقة ، إنّ مجرّد الوصف غير قادر على تبيان خصائص هذه الرؤية الإيمانية التي يمنحها الله للإنسان ، بل ينبغي أن يذوق الإنسان طعمها لكي يدرك بنفسه مغزى هذا القول ويحس به.

ثمّ تقارن الآية بين هذا الإنسان الحي ، الفعال ، النير ، والمؤثر ، بالإنسان العديم الإيمان والمعاند ، فتقول :( كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها ) .

نلاحظ أنّ الآية لا تقول : «كمن في الظّلمات» بل تقول :( كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ ) يقول بعضهم : إنّ الهدف من هذا التعبير هو إثبات أنّ هؤلاء الأفراد غارقون في الظّلمات والتعاسة إلى الحد الذي جعلهم مثلا يعرفه المدركون.

٤٥١

وقد يكون ذلك إشارة إلى معنى أدق هو : أنّه لم يبق من وجود هؤلاء الأفراد سوى شبح ، أو قالب ، أو مثال أو تمثال ، لهم هياكل خالية من الروح وأدمغة معطلة عن العمل.

لا بدّ من القول ـ أيضا ـ إنّ «النّور» الذي يهدي المؤمنين جاء بصيغة المفرد ، بينما «الظّلمات» التي يعيش فيها الكافرون جاءت بصيغة الجمع ، وذلك لأنّ الإيمان ليس سوى حقيقة واحدة ، وهو يرمز إلى الوحدة والتوحيد ، بينما الكفر وعدم الإيمان مدعاة للتشتت والتفرقة.

وفي الختام تشير الآية إلى سبب مصير هؤلاء المشؤوم فتقول :( كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

سبق أن قلنا : إنّ من خصائص تكرار العمل القبيح أنّ قبحه يتضاءل في عين الفاعل حتى يبدو له أخيرا وكأنّه عمل جميل ، ويتحول إلى مثل القيد يشد أطرافه ، ويمنعه من الخروج من هذا الفخ ، إنّ مطالعة بسيطة لحال المجرمين تكشف لنا هذه الحقيقة بجلاء.

ولمّا كان بطل هذه المشاهد في جانبها السلبي هو «أبو جهل» الذي كان من كبار مشركي قريش ومكّة ، فالآية الثّانية تشير إلى حال هؤلاء الزعماء الضالين وقادة الكفر والفساد ، فتقول :( وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها ) .

كررنا القول من قبل : أنّ سبب نسبة أمثال هذه الأفعال إلى الله ، لكونه تعالى هو علّة العلل ومسبب الأسباب ومصدر كل القدرات ، والإنسان يستخدم ما وهبه الله من إمكانات طالحا كان هذا الفعل أم صالحا.

جملة «ليمكروا» تشير إلى عاقبة أعمالهم ، ولا تعني الهدف من خلقهم(١) أي أنّه عاقبة عصيانهم وكثرة ذنوبهم أدت بهم إلى أن يصبحوا سدا على طريق الحق ،

__________________

(١) «اللام» هنا هي لام «العاقبة» وليست اللام الغائية ، وقد وردت في القرآن كثيرا.

٤٥٢

وعاملا على جر الناس نحو الانحراف والابتعاد عن طريق الحق ، فالمكر في الأصل هو اللف والدوران ، ثمّ أطلق على كل عمل منحرف مقرون بالإخفاء.

وفي الختام تقول الآية :( وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ ) .

وأي مكر وخديعة أعظم من أن يقوم هؤلاء باستخدام كل رؤوس أموال وجودهم ، بما في ذلك فكرهم وذكاؤهم وابتكاراتهم وأعمارهم ووقتهم وأموالهم ، في صفقة لا تعود عليهم بأي ربح ، بل تثقل ظهورهم بأحمال الذنوب والآثام الثقيلة ، ظانين أنّهم قد أحرزوا الربح والإنتصار!

كما يستفاد من هذه الآية أنّ النكبات والتعاسة التي تصيب المجتمع إنّما تنشأ من كباره وقادته ، إذ إنّهم هم الذين يتوسلون بالمكر والحيلة لتغيير معالم الطريق إلى الله ، ويخفون وجه الحق عن الناس.

* * *

٤٥٣

الآية

( وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤) )

سبب النّزول

يقول العلّامة الطّبرسي في «مجمع البيان» : نزلت هذه الآية بشأن «الوليد بن المغيرة» (الذي كان من زعماء عبدة الأصنام دماغهم المفكر) كان هذا يقول لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا كانت النّبوة حقّا ، فأنا أولى منك بها لكبر سني ولكثرة مالي.

وقيل : إنّها نزلت بشأن «أبي جهل» لأنّه كان يقول : مقام النّبوة يجب أن يكون موضع تنافس ، فنحن وبنو عبد مناف (قبيلة رسول الله) كنّا نتنافس على كل شيء ، ونجري كفرسي رهان كتفا لكتف ، حتى قالوا : إنّ نبيا قام فيهم ، وأنّه ينزل عليه الوحي فنحن لا نؤمن به إلّا إذا نزل علينا الوحي كما ينزل عليه.

التّفسير

الله أعلم حيث يجعل رسالته :

تشير هذه الآية بإيجاز إلى طريقة تفكير هؤلاء الأكابر( أَكابِرَ مُجْرِمِيها ) وإلى

٤٥٤

مزاعمهم المضحكة الباطلة ، فتقول :( وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ ) كأنّ الوصول إلى مقام النبوة وهداية الناس يعتمد على سن الشخص وماله ، أو هو ميدان للمنافسة الصبيانية بين القبائل! وكأنّ على الله أن يراعي هذه الأمور المضحكة الباطلة التي لا تدل إلّا على منتهى الانحطاط الفكري وعدم إدراك معنى النبوة وقيادة الخليقة!

إنّ القرآن يرد على هؤلاء بوضوح قائلا :( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ) .

بديهي أنّ الرسالة لا علاقة لها بالسن ولا بالمال ولا بمراكز القبائل ، لأنّ شرطها الأوّل هو الاستعداد الروحي ، وطهارة الضمير ، والسجايا الإنسانية الأصيلة ، والفكر السامي ، والرأي السديد ثمّ التقوى إلى درجة العصمة إنّ هذه الصفات ، وخصوصا الاستعداد لمقام العصمة لا يعلم بها غير الله ، فما أبعد الفرق بين هذه الشروط وما كان يدور بخلد أولئك.

كما إنّ من يخلف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا بدّ أن تكون له جميع تلك الصفات عدا الوحي والتشريع ، أي أنّه حامي الشرع والشريعة ، والحارس على قوانين الإسلام ، والقائد المادي والمعنوي للناس ، لذلك لا بدّ له أن يكون معصوما عن الخطأ والإثم ، لكي يكون قادرا على أن يوصل الرسالة إلى أهدافها ، وأن يكون قائدا مطاعا وقدوة يعتمد عليها.

وبناء على ذلك ، يكون إختياره من الله أيضا ، فهو وحده الذي يعلم أن يضع هذا المقام ، فلا يمكن أن يترك ذلك للناس ولا للانتخابات والشورى.

وفي النهاية تشير الآية إلى المصير الذي ينتظر أمثال هؤلاء المجرمين والزّعماء الذين يدعون الباطل ، فتقول :( سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ ) (١) .

__________________

(١) «الإجرام» من «جرم» وأصله القطع ، والمجرم هو الذي يقطع العهود وارتباطه بالله بعدم إطاعته ، ولذلك أطلقت كلمة

٤٥٥

كان هؤلاء الأنانيون بمواقفهم العدائية يريدون أن يحافظوا على مراكبهم ، ولكنّ الله سينزلهم إلى أدنى درجات الصغار والحقارة بحيث إنّهم سيتعذبون بذلك عذابا روحيا شديدا ، مضافا إلى أنّهم سيلاقون العذاب الشديد في الآخرة لأنّ سعيهم على طريق الباطل كان شديدا أيضا.

* * *

__________________

«الجرم» على الإثم والذنب ، في هذا إشارة لطيفة إلى أنّ هناك في ذات الإنسان اتفاق مع الحق والطهارة والعدالة ، والإجرام هو قطع هذه الاتفاق الفطري الإلهي.

٤٥٦

الآيات

( فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (١٢٥) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٧) )

التّفسير

الإمدادات الإلهية :

تعقيبا على الآيات السابقة التي دارت حول المؤمنين الصادقين والكافرين المعاندين تشرح هذه الآية النعم الإلهية الكبيرة التي تنتظر الفريق الأوّل ، والشقاء الذي سيصيب الفريق الثاني ، فتقرر أنّ الله ينعم بالهداية على من يشاء ، وذلك بأن يفتح صدره لتقبل الإسلام ، أمّا الذي لا يريد الله أن يوفقه لذلك ـ لسوء أعماله ـ يضيق صدره بحيث يجعله وكأنّه يريد أن يصعد إلى السماء.( فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ ) .

٤٥٧

ولتوكيد هذه الأمر تضيف الآية :( كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) . فيسلبهم التوفيق ويركسهم في التعاسة والشقاء.

ملاحظات

هنا يبغي أن نلاحظ النقاط التّالية :

١ ـ ما المقصود من «الهداية» و «الضلالة»؟

سبق لنا أن قلنا مرات عديدة أن المقصود من لفظي «الهداية» و «الضلالة» الإلهيين هو توفير الظروف والمقدمات المؤدية إلى الهداية بالنسبة للذين لهم الاستعداد لذلك ، وسلبها عن الذين لا استعداد لهم لذلك ، بالنظر إلى أعمالهم.

إنّ السالكين طريق الحق والباحثين عن الإيمان المتعطشين إليه ، يضع الله في طريقهم مصابيح مضيئة لكيلا يضيعوا في ظلمات الطريق ، وليصلوا إلى منبع إكسير الحياة ، أمّا الذين أثبتوا تماهلهم تجاه هذه الحقائق فهم محرومون من هذه الإمدادات الإلهية ، وسوف يتعثرون في طريقهم بالكثير من المشاكل ، ولا يوفّقون لهداية.

وبناء على ذلك ، فلا الفريق الأوّل مجبور على السير في هذا الطريق ، ولا الفريق الثاني في أعمالهم ، وفي الواقع أنّ الهداية والضلال يكملان ما أرادوه هم بأنفسهم واختاروه.

٢ ـ المقصود من «الصّدر» هنا هو الروح والفكر ، وهذه الكناية ترد كثيرا ، والمقصود من «الشرح» هو بسط الروح وارتفاع الفكر واتسّاع أفق العقل البشري ، لأنّ تقبّل الحق يستدعي التنازل عن الكثير من المصالح الشخصية ، ممّا لا يقدر عليه إلّا ذوو الأرواح العالية والأفكار السامية.

٣ ـ «الحرج» بمعنى الضيق الشديد ، وهذه هي حال المعاندين وفاقدي الإيمان ، ففكرهم قاصر وروحهم ضيقة صغيرة ، ولا يتنازلون في حياتهم عن شيء.

٤٥٨

٤ ـ معجزة قرآنية علمية :

إنّ تشبيه أمثال هؤلاء بالذي يريد أن يصعد إلى السماء ، جاء لأنّ الصعود إلى السماء صعب جدّا ، فكذلك هو قبول الحق عند هؤلاء.

إنّنا في كلامنا اليومي نتمثل بهذا التشبيه ، فإذا أردنا أن نقول أنّ الوصول إلى الأمر الفلاني صعب نقول : أن تصل إلى السماء أقرب إليك من ذلك.

بالطّبع لم يكن الطيران في السماء للبشر آنذاك أكثر من تصور ، ولكن على الرغم من تحقق ذلك اليوم ، فهو ما يزال صعبا ، وكثيرا ما يصادف رواد الفضاء المشاكل في طيرانهم.

ويخطر في الذهن معنى ألطف من ذلك يكمل البحث السابق ، وهو أنّه ثبت اليوم علميا أنّ الهواء المجاور للأرض مضغوط بشكل يصلح لتنفس الإنسان ، ولكنّنا كلما ارتفعنا قلت كثافة الهواء ونسبة وجود الأوكسجين فيه ، بحيث إنّنا إذا ارتفعنا بضع كيلومترات أصبح من الصعب أن نتنفس بسهولة (بغير قناع الأوكسجين) ، وإذا ما واصلنا صعودنا ازداد ضيق تنفسنا وأصبنا بالإغماء ، إن ذكر هذا التشبيه في ذلك الزمن قبل أن تثبت هذه الحقيقة العملية يعتبر واحدة من معجزات القرآن العلمية.

٥ ـ ما هو شرح الصدر؟

في هذه الآية يعتبر «شرح الصدر» من نعم الله الكبرى و «ضيق الصدر» من عقاب الله ، كما جاء ذكر هذه النعمة في قوله تعالى :( أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ) (١) ويتضح هذا أكثر عند دراسة الأشخاص ، فأنت ترى بعضهم على درجة من سعة الصدر بحيث إنّهم قادرون على استيعاب كل حقيقة مهما كبرت ، وعلى العكس منهم نرى صدر بعضهم من الضيق بحيث لا تكاد تنفذ إليها أية حقيقة ، فأفق

__________________

(١) الإنشراح ، ١.

٤٥٩

رؤيتهم الفكرية محدود جدّا ومقتصر على الحياة اليومية ، فلو تهيأ لهم الأكل والنوم فكل شيء على ما يرام ، وإذا اختل ذلك فقد انهارت حياتهم وانتهى كل شيء.

عند ما نزلت الآية المذكورة أعلاه ، سئل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن معنى شرح الصدر ، فقال : «نور يقذفه الله في قلب من يشاء فينشرح له صدره وينفسح».

فسألوه : ألذلك علامة يعرف بها؟

قال : «نعم ، الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل نزول الموت»(١) بالإيمان والعمل الصالح السعي في سبيل الله.

الآية التّالية تؤكّد البحث السابق فتقول : إنّ المدد الإلهي الذي يشمل السالكين سبيل الله ويسلب عن الذين يتنكبون عن سبيل الله ، إنّما هو سنة إلهية مستقيمة ثابتة لا تتبدل( وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً ) .

كما يحتمل أن يكون «هذا» إشارة إلى الإسلام أو القرآن ، إذ إنّ الصراط المستقيم هو الطريق المستقيم المستوي.

وفي ختام الآية توكيد آخر :( قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ) أي لمن يملكون قلوبا واعية وآذانا سامعة.

الآية الثّالثة تشير إلى نعمتين من أكبر النعم التي يهبها الله للذين يطلبون الحق ، إحداهما :( لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) ، والثّانية :( وَهُوَ وَلِيُّهُمْ ) ، أي ناصرهم وحافظهم ، وكل ذلك لما قاموا به من الأعمال الصالحات :( بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

فأي فخر أجل وأرفع من أن يتولى الله أمور الإنسان ويتكفل بها فيكون حافظه ووليه ، وأية نعمة أعظم من أن تكون له دار السلام ، دار الأمن والأمان ، حيث لا حرب ولا سفك دماء ، ولا نزاع ولا خصام ، ولا عنف ولا تنافس قاتل

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٤ ، ص ٣٦٣.

٤٦٠

ومميت ، ولا تضارب مصالح ، ولا كذب ولا افتراء ، ولا اتهام ولا حسد ولا حقد ، ولا هم ولا غم ، بل الهدوء والطمأنينة والهناء؟

ولكن الآية تقول أيضا : إنّ هذه النعم لا تأتي بمجرّد الكلام ، بل هي تعطي لقاء العمل نعم العمل!

* * *

٤٦١

الآيتان

( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (129) )

التّفسير

تعود هاتان الآيتان إلى بيان مصير المجرمين الضالين والمضلين فتكملان ما بحث في السابق ، فتذكّران بيوم يقفون فيه وجها لوجه أمام الشياطين الذين كانوا يستلهمون منهم ، فيواجه التابعون والمتبوعون سؤالا لا جواب لديهم عليه ، ولا ينالون سوى التحسر والحزن ، إنّها تحذيرات للإنسان كيلا ينظر فقط إلى أيّامه المعدودات على الأرض ، بل عليه أن يفكر بالعاقبة.

تذكر الآية في البداية بذلك اليوم الذي يجتمع فيه الجن والإنس ، ثمّ يقال يا أيّها المضلون من الجن لقد أضللتم كثيرا من الناس :( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا

٤٦٢

مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ ) (1) .

«الجن» هنا هم الشياطين ، لأن كلمة الجن ـ كما سبق أن قلنا ـ تشمل كل كائن غير مرئي والآية (50) من سورة الكهف تذكر عن رئيس الشياطين ، إبليس إنّه( كانَ مِنَ الْجِنِ ) .

الآيات السابقة التي تحدثت عن وسوسة الشياطين الهامسة( إِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ ) ، وكذلك الآية التّالية التي تحدثت عن سيطرة بعض الظالمين على الآخرين ، قد تكون إشارة إلى هذا الموضوع.

ويبدو أنّ الشياطين المضلين لا جواب لديهم على هذا السؤال ويطرقون صامتين ، غير أنّ أتباعهم من البشر يقولون : ربّنا ، هؤلاء استفادوا منّا كما إنّنا استفدنا منهم حتى جاء أجلنا :( وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا ) .

أي كان شياطيننا فرحين بسيطرتهم علينا وكنّا نتبعهم مستسلمين ، أمّا نحن فكنّا مستمتعين بمباهج الحياة ولذائذها غير متقيدين بشيء ولا ملتفتين إلى سرعة زوالها ، لما كان الشياطين يوسوسون به في آذاننا ويظهرونه في صور جميلة جذابة.

هنا تختلف آراء المفسّرين بشأن المقصود من كلمة «أجل» ، هل هي نهاية عمر الإنسان ، أم يوم القيامة؟ ولكن الظاهر أنّ المقصود نهاية العمر لأنّ «الأجل» كثيرا ما استعمل في القرآن بهذا المعنى.

غير أنّ الله يخاطب التابعين والمتبوعين الفاسدين والمفسدين جميعا :( قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ ) .

إنّ الجملة الاستثنائية( إِلَّا ما شاءَ اللهُ ) إمّا أن تكون إشارة إلى أن خلودهم في العذاب والعقاب ، وفي هذه الحالات لا يسلب القدرة من الله على تغيير

__________________

(1) «يوم» ظرف متعلق بجملة «يقول» المحذوفة فيكون أصل الجملة :( يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ ) .

٤٦٣

الحكم ، فهو قادر في أي وقت يشاء أن يغير ذلك ، وإن أبقاه خالدا لجمع منهم.

وإمّا أن تكون إشارة إلى الذين لا يستحقون الخلود في العذاب ، أو الجديرون بنيل العفو الإلهي ، فيجب استثناؤهم من الخلود في العذاب.

وفي الختام تقول الآية :( إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) ، فعقابه مبني على حساب دقيق ، وكذلك عفوه ، لأنّه عالم بمن يستحقهما.

الآية التّالية تشير إلى سنّة إلهية ثابتة بشأن هؤلاء الأشخاص ، وتقرر أنّ هؤلاء الطغاة والظالمين سيكون وضعهم في الآخرة كما كانوا عليه في الدنيا يجر بعضهم بعضا نحو التهلكة وسوء المصير والانحراف :( كَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) وكما ذكرنا في البحوث الخاصّة بالمعاد فان يوم القيامة مشهد ردود الفعل في صور مكبرة ، وما يوجد هناك انعكاس عن أعمالنا في هذه الدنيا.

جاء في تفسير علي بن إبراهيم القمي عن الإمامعليه‌السلام في معنى هذه الآية قال : «أي نولي كل من تولى أولياءهم فيكونون معهم يوم القيامة».

ومن الجدير بالملاحظة أنّ جميع هؤلاء قد وصفوا بالظلم في هذه الآية ، ولا شك أنّ الظلم بمعناه الواسع يشملهم جميعا ، فأي ظلم أكبر من أن يخرج الإنسان نفسه من ولاية الله ليداخل في ولاية المستكبرين ويتّبعهم فيكون في العالم الآخر تحت ولايتهم أيضا.

ثمّ إنّ هذا التعبير ، وكذلك تعبير( بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) يشيران إلى أنّ هذا المصير السيء إنّما هو بسبب أعمالهم ، وهذه سنة إلهية وقانون الخليقة القاضي بأنّ السائرين في الظلام لا بدّ أن يسقطوا في هوة التعاسة والشقاء.

* * *

٤٦٤

الآيات

( يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (130) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) )

التّفسير

إتمام الحجة :

ورد وصف مصير الظالمين من أتباع الشياطين يوم القيامة في الآيات السابقة ولكيلا يظن أحد أنّهم في حالة من الغفلة ارتكبوا ما ارتكبوه من إثم ، تبيّن هذه الآيات أن تحذيرهم قد تمّ بما فيه الكفاية وتمّت عليهم الحجة ، لذلك يقال لهم يوم القيامة :( يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا ) .

«معشر» من العدد «عشرة» ، وبما أن العشرة تعتبر عددا كاملا ، فالمعشر هي

٤٦٥

الجماعة الكاملة التي تضم مختلف الطوائف والأصناف ، أمّا بشأن الرسل الذين بعثوا إلى الجن هل كانوا منهم ، أم من البشر؟ فهناك كلام بين المفسّرين ، ولكن الذي يستفاد من آيات سورة الجن يدل بجلاء على أنّ الإسلام والقرآن للجميع بما فيهم الجن ، وأنّ نبي الإسلام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الجميع ، ولكن هذا لا يمنع أن يكون لهم رسل وممثلون من جنسهم عهد إليهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدعوتهم إلى الإسلام (سيأتي شرح ذلك بالتفصيل ، وكذلك المعنى العلمي للجن في تفسير سورة الجن في الجزء 29 من القرآن الكريم).

ولكن ينبغي أن نعلم أنّ «منكم» لا تعني أن أنبياء كل جنس يكونون من الجنس نفسه ، لأنّنا عند ما نقول : «نفر منكم ...» يمكن أن يكون هؤلاء من طائفة واحدة أو من عدّة طوائف.

ثمّ تقول الآية :( قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا ) لأنّ يوم القيامة ليس يوم الكتمان ، بل إنّ دلائل كل شيء تكون بادية للعيان ، وما من أحد يستطيع أن يخفي شيئا ، فالجميع يعترفون أمام هذا السؤال الإلهي قائلين : إنّنا نشهد ضد أنفسنا ونعترف أنّ الرسل قد جاؤونا وأبلغونا رسالاتك ولكنّنا خالفناها.

نعم لقد كانت أمامهم آيات ودلائل كثيرة من الله ، وكان يميزون الخطأ من الصواب ، إلّا أنّ الحياة الدنيا ببريقها ومظاهرها قد خدعتهم وأضلتهم :( وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا ) .

هذه الآية تدل بوضوح على أنّ العقبة الكبرى في طريق سعادة البشر هي الحبّ اللامحدود لعالم المادة والخضوع له بلا قيد ولا شرط ، ذلك الحبّ الذي كبل الإنسان بقيود الأسر ودفعه إلى ارتكاب كل ألوان الظلم والعدوان والإجحاف والأنانية والطغيان.

مرّة أخرى يؤكّد القرآن أنّهم شهدوا على أنفسهم بألسنتهم بأنّهم قد ساروا في طريق الكفر ووقفوا إلى جانب منكري الله :( وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا

٤٦٦

كافِرِينَ ) .

الآية التّالية تعيد المضمون السابق بصورة قانون عام وسنة ثابتة ، وهي : أنّ الله لا يأخذ الناس في المدن والمناطق المسكونة بظلمهم إذا كانوا غافلين ، إلّا بعد أن يرسل إليهم الرسل لينبهوهم إلى قبيح أعمالهم ، ويحذروهم من مغبة أفعالهم :( ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ ) .

قد تعني «بظلم» أنّ الله لا يعاقب أحدا بسبب ظلمه وهو غافل عنه ، وقبل أن يرسل الرسل ، وقد تكون بمعنى أنّ الله لا يظلم أحدا بأن يعاقبه عمّا فعل وهو غافل ، لأنّ معاقبتهم بهذه الصورة تعتبر ظلما ، والله أرفع من أن يظلم أحدا(1) .

وتذكر الآية الثالثة خلاصة ما ينتظر هؤلاء من مصير وتقرر أنّ لكل من هؤلاء ـ الأخيار والأشرار ، المطيعين والعصاة ، طالبي العدالة والظالمين ـ درجات ومراتب يوم القيامة تبعا لأعمالهم ، وإن ربك لا يغفل عن أعمالهم ، بل يعلمها جميعا ، ويجزي كلا بقدر ما يستحق :( وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ) .

هذه الآية تؤكّد مرّة أخرى الحقيقة القائلة بأنّ جميع «الدّرجات» و «الدّركات» التي يستحقها الإنسان إنّما هي وليدة أعماله ، لا غير.

* * *

__________________

(1) في الحالة الأولى فاعل «ظلم» هم الكافرون ، وفي الحالة الثانية يكون نفي الظلم عن الله تعالى.

٤٦٧

الآيات

( وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) )

التّفسير

الآية الأولى تستدل على ما سبق في الآيات التي مرّت بشأن عدم ظلم الله تعالى ، ويؤكّد أنّ الله لا حاجة له بشيء وهو عطوف ورحيم ، وعليه لا دافع له على أن يظلم أحدا أبدا ، لأن من يظلم لا بدّ أن يكون محتاجا ، أو أن يكون قاسي القلب فظا :( وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ ) كما أنّه لا حاجة له بطاعة البشر ، ولا يخشى من ذنوبهم ، بل إنّه قادر على إزالة كل جماعة بشرية ووضع آخرين مكانها كما فعل بمن سبق تلك الجماعة :( إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ) .

بناء على ذلك فهو غني لا حاجة به إلى شيء ، ورحيم ، وقادر على كل شيء ، فلا يمكن إذن أن نتصوره ظالما.

٤٦٨

وإذا أدركنا قدرته التي لا حدود لها يتّضح لنا أنّ ما وعده بشأن يوم القيامة والجزاء سوف يتحقق في موعده بدون أي تخلف :( إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ ) .

كما أنّكم لا تستطيعون أن تخرجوا عن نطاق حكمه ولا أن تهربوا من قبضته العادلة :( وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ) (1) .

ثمّ يؤمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يهددهم :( قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) .

هنا أيضا نلاحظ أنّ كلمة «الكفر» استعيض عنها بكلمة «ظلم» ، وهذا يعني أنّ الكفر وإنكار الله نوع من الظلم الصريح ، فهو ظلم بحق النفس ، وظلم بحق المجتمع ، ولما كان الظلم يناقض العدالة العامّة في عالم الوجود ، فهو محكوم بالإخفاق والهزيمة.

* * *

__________________

(1) «معجزين» من «أعجز» أي جعله عاجزا ، فالآية تقول : إنّكم لا تستطيعون أن تجعلوا الله عاجزا عن بعث الناس وتحقيق العدالة ، وبعبارة أخرى : أنتم لا تستطيعون مقاومة قدرة الله.

٤٦٩

الآية

( وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (136) )

التّفسير

لاقتلاع جذور الشرك وعبادة الأصنام من الأذهان يعود القرآن إلى ذكر العادات والتقاليد والعبادات الخرافية السائدة بين المشركين ، ويثبت في بيان واضح أنّها خرافية ولا أساس لها ، فقد كان كفّار مكّة وسائر المشركين يخصصون لله سهما من مزارعهم وأنعامهم ، كما كانوا يخصصون سهما منها لأصنامهم أيضا ، قائلين : هذا القسم يخص الله ، وهذا القسم يخص شركاءنا أي الأصنام :( وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا ) .

على الرغم من أنّ الآية تشير إلى نصيب الله فقط ، ولكن العبارات التّالية تدل على أنّهم كانوا يخصصون نصيبا للأصنام أيضا ، جاء في بعض الرّوايات : أنّهم كانوا يصرفون ما يخصصونه لله على الأطفال والضيوف ، والنصيب المخصص للأصنام من الزرع والأنعام كانوا يصرفونه على خدم الأصنام والقائمين على

٤٧٠

معابدها والأضاحي وعلى أنفسهم أيضا(1) .

سبب اعتبارهم الأصنام شركاءهم يعود إلى كونهم يرونها شريكة لهم في أموالهم وحياتهم.

وتعبير( مِمَّا ذَرَأَ ) أي ممّا خلق ، يشير إلى بطلان مزاعمهم ، إذ إنّ كل أموالهم وما يملكون هو ممّا خلق الله فكيف يجعلون نصيبا منه لله ونصيبا منه للأصنام؟!

ثمّ تشير الآية إلى واحد من أحكامهم العجيبة وهو الحكم بأنّ ما خصصوه لشركائهم لا يصل إلى الله ، ولكن ما خصصوه لله يصل إلى شركائهم( فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ) .

اختلف المفسّرون بشأن المقصود من هذه الآية ، ولكن آراءهم كلها تدور حول حقيقة واحدة ، هي أنّه إذا أصاب نصيب الله ضرر على أثر حادثة قالوا : هذا لا أهمية له لأنّ الله لا حاجة به إليه ، ولكن إذا أصاب الضرر نصيب أصنامهم عوضوا عنه من نصيب الله ، قائلين : إنّ الأصنام أشد حاجة إليه.

كما أنّهم إذا نفذ الماء المار بمزرعة الله إلى مزرعة الأصنام قالوا : لا مانع من ذلك ، فالله ليس محتاجا ، ولكن إذا حدث العكس منعوا الماء المتسرب إلى مزرعة الله ، قائلين : إنّ الأصنام أحوج!

وفي الختام تدين الآية هذه الخرافات فتقول :( ساءَ ما يَحْكُمُونَ ) .

إنّ قبح عملهم ـ فضلا عن قبح عبادة الأصنام ـ يتبيّن في الأمور التّالية.

1 ـ على الرغم من أنّ كل شيء هو من خلق الله ، وملك له دون منازع ، وأنّه هو الحاكم على كل الكائنات وهو مدبرها وحافظها فإنّهم إنّما كانوا يخصصون جانبا من ذلك كله لله ، وكأنّهم هم المالكون الأصليون ، وكأنّ حق التقسيم بيدهم ، (إنّ جملة( مِمَّا ذَرَأَ ) تشير إلى هذا كما قلنا).

2 ـ لقد كانوا في هذا التقسيم يلزمون جانب الأصنام ويفضلون ما لها على ما

__________________

(1) تفسير المنار ، ج 8 ، ص 122.

٤٧١

لله ، لذلك لم يكونوا يهتمون بما يصيب نصيب الله من ضرر ، ولكنّهم كانوا يجبرون كل ضرر يصيب نصيب الأصنام من نصيب الله ، فكان هذا تحيزا إلى جانب الأصنام ضد الله!

3 ـ يتبيّن من بعض الرّوايات أنّهم كانوا يهتمون اهتماما كبيرا بحصة الأصنام ، فقد كان خدم الأصنام والقائمون على معابدها وكذلك المشركون يأكلون من حصة الأوثان ، بينما كانوا يخصصون حصة الله للأطفال وللضيوف ، وتدل القرائن على أنّ الأغنام السمينة والمحاصيل الزارعية الجيدة كانت من نصيب الأصنام ، أي لمصلحة السدنة الخاصّة.

كل هذا دل على أنّهم في هذا التقسيم لم يكونوا يعترفون لله حتى بمنزلة مساوية لمنزلة الأصنام.

فأي حكم أقبح وأدعى إلى العار من أن يعتبر إنسان قطعة من الحجر أو الخشب الذي لا قيمة له أرفع من خالق عالم الوجود ، هل هناك هبوط فكريّ أحط من هذا؟

* * *

٤٧٢

الآية

( وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (137) )

التّفسير

يشير القرآن في هذه الآية إلى عمل قبيح آخر من أعمال عبدة الأصنام القبيحة وجرائمهم الشائنة ، ويذكر أنّه كما ظهر لهم أنّ تقسيمهم الحصص بين الله والأصنام عمل حسن بحيث إنه اعتبروا هذا العمل القبيح والخرافي ، بل والمضحك ، عملا محمودا ، كذلك زين الشركاء قتل الأبناء في أعين الكثيرين من المشركين بحيث إنّهم راحوا يعدون قتل الأولاد نوعا من «الفخر» و «العبادة» :( وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ ) .

«الشّركاء» هنا هم الأصنام ، فقد كانوا أحيانا يقدمون أبناءهم قرابين لها ، أو كانوا ينذرون أنّهم إذا وهبوا ابنا يذبحونه قربانا لأصنامهم ، كما جاء في تاريخ عبدة الأصنام القدامي وعليه فان نسبة «التزيين» للأصنام تعود إلى أن شدة تعلقهم بأصنامهم وحبهم لها كان يحدو بهم إلى ارتكاب هذه الجريمة النكراء واستنادا إلى هذا التّفسير ، فإنّ قتل الأولاد هذا لا علاقة له بوأد البنات أو قتل

٤٧٣

الأولاد خشية الإملاق.

يحتمل أيضا أن يكون المقصود بتزيين الأصنام هذه الجريمة ، هو أن القائمين على أمر الأصنام والمعابد هم الذين كانوا يحرضونهم على هذا العمل ويزينونه لهم ، باعتبارهم الألسنة الداعية باسم الأصنام ، فقد جاء في التّأريخ أنّ العرب كانوا إذا عزموا على السفر أو الأعمال المهمّة ، طلبوا الإذن من «هبل» كبير أصنامهم ، وذلك بأن يضربوا بالقداح ، أي بأسهم الميسر ، فقد كان هناك كيس معلق بجانب هبل فيه سهام كتب على مقابضها «افعل» أو «لا تفعل» ، فكانوا يخلطون السهام ثمّ يسحبون واحدا منها ، فما كتب عليه يكون هو الأمر الصادر من هبل ، وبهذه الطريقة كانوا يتصورون أنّهم يكتشفون آراء أصنامهم ، فلا يستبعد أنّهم في مسألة قتل أولادهم قرابين للأصنام كانوا يلجأون إلى أولياء المعابد ليأتوهم بما تأمر به الأصنام.

هنالك أيضا الاحتمال القائل بأن وأد البنات ـ الذي كان سائدا ، كما يقول التّأريخ بين قبائل بني تميم لرفع العار ـ كان أمرا صادرا عن الأصنام ، فقد جاء في التّأريخ أنّ «النعمان بن المنذر» هاجم بعض العرب وأسر نساءهم وفيهن ابنة «قيس بن عاصم» ثمّ أقرّ الصلح بينهم وعادت كل امرأة إلى عشيرتها ، عدا ابنة قيس التي فضلت البقاء عند العدو لعلها تتزوج أحد شبانهم ، فكان وقع هذا شديدا على قيس ، فاقسم بالأصنام انّه إذا رزق بابنة أخرى فانه سوف يئدها حية ، ثمّ لم يمض زمن طويل حتى أصبح هذا العمل الشائن سنّة بينهم ، وباسم الدفاع عن العرض راحوا يرتكبون أفظع جريمة بقتلهم أولادهم الأبرياء(1) .

وعليه ، فإنّ وأد البنات يمكن أن يكون مشمولا بمفهوم هذه الآية.

هنالك أيضا احتمال آخر في تفسير هذه الآية وان لم يتطرق إليه المفسّرون ،

__________________

(1) يتصور بعض أنّ كلمة «أولاد» في الآية لا تنسجم مع هذا التّفسير ، غير أنّ لهذه الكلمة معنى واسعا يشمل الأبناء والبنات ، وكما جاء في الآية (223) من سورة البقرة :( وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ ) .

.

٤٧٤

وهو أنّ عرب الجاهلية كانوا على درجة من التقدير والاحترام لأصنامهم بحيث إنّهم كانوا يصرفون أموالهم الثمينة على تلك الأصنام وعلى خدامها المتنفذين الأثرياء ، ويبقون هم في فقر مدقع إلى الحد الذي كان يحملهم هذا الفقر والجوع على قتل بناتهم.

فهذا التعلق الشديد بالأصنام كان يزين لهم عملهم الشنيع ذاك.

ولكن التّفسير الأوّل ، أي التضحية بأولادهم قربانا للأصنام ، أقرب إلى نص الآية.

ثمّ يوضح القرآن أنّ نتيجة تلك الأفعال القبيحة هي أنّ الأصنام وخدامها ألقوا بالمشركين في مهاوي الهلاك ، وشككوهم في دين الله ، وحرموهم من الوصول إلى الدين الحق :( لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ) .

ومع ذلك كله ، فإنّ الله قادر على أن يوقفهم عند حدهم بالإكراه ، ولكن الإكراه خلاف سنة الله ، إنّ الله يريد أن يكون عباده أحرارا لكي يمهد أمامهم طريق التربية والتكامل ، وليس في الإكراه تربية ولا تكامل :( وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ ) .

وما دام هؤلاء منغمسين في أباطيلهم وخرافاتهم دون أن يدركوا شناعتها ، بل الأدهى من ذلك أنّهم ينسبونها أحيانا إلى الله ، إذن فاتركهم واتهاماتهم والتفت إلى تربية القلوب المستعدة :( فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ ) .

* * *

٤٧٥

الآيتان

( وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) )

التّفسير

تشير هذه الآيات إلى بعض الأحكام الخرافية لعبدة الأوثان ، والتي تدل على قصر نظرتهم وضيق تفكيرهم ، وتكمل ما مر في الآيات السابقة.

تذكر في البداية أقوال المشركين بشأن من لهم الحق في نصيب الأصنام من زرع وأنعام ، وتبيّن أنّهم كانوا يرون أنّها محرمة إلّا على طائفة معينة :( وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ ) .

ومرادهم المتولّون أمور الأصنام والمعابد ، والمشركون كانوا يذهبون إلى أنّ لهؤلاء وحدهم الحق في نصيب الأصنام.

٤٧٦

يتّضح من هذا أنّ القسم الأوّل من الآية يشير إلى كيفية تصرفهم فيما يخصصونه للأصنام من الزرع والأنعام.

«الحجر» هو المنع ، ولعلها مأخوذة كما يقول الراغب الأصفهاني في «المفردات» من الحجر ، وهو أنّ يبنى حول المكان بالحجارة ليمنع عما وراءه ، وحجر إسماعيل سمي بذلك لأنّه مفصول عن سائر أقسام المسجد الحرام بجدار من حجر ، وعلى هذا الاعتبار يطلق على «العقل» اسم «الحجر» ، أحيانا ، لكونه يمنع المرء من ارتكاب الأعمال القبيحة ، وإذا ما وضع أحد تحت رعاية أحد وحمايته قيل : إنّه في حجره ، والمحجور هو الممنوع من التصرف في ماله(1) .

ثمّ تشير الآية إلى واحدة أخرى من خرافاتهم تقضى بمنع ركوب بعض الدواب :( وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها ) .

الظاهر أنّها هي الحيوانات التي مرّ ذكرها في تفسير الآية (103) من سورة المائدة ، وهي «السائبة» و «البحيرة» و «الحام» (انظر التفسير المذكور لمزيد من التوضيح).

ثمّ تشير إلى القسم الثّالث من الأحكام الباطلة فتقول :( وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا ) .

ولعلها إشارة إلى الحيوانات التي كانوا يذكرون أسماء أصنامهم عليها فقط عند ذبحها ، أو هي المطايا التي كانوا يحرمون ركوبها للذهاب إلى الحج ، كما جاء ذلك في تفسير«مجمع البيان» و «التّفسير الكبير» و «المنار» و «القرطبي» نقلا عن بعض المفسّرين ، وفي كلتا الحالتين كان الحكم خرافيا لا أساس له.

والأعجب من ذلك أنّهم لم يقنعوا بتلك الأحكام الفارغة ، بل راحوا ينسبون إلى الله كل ما يخطر لهم من كذب :( افْتِراءً عَلَيْهِ ) .

وفي ختام الآية ، وبعد ذكر تلك الأحكام المصطنعة ، تقول إنّ الله :( سَيَجْزِيهِمْ

__________________

(1) «حجر» في هذه الآية وصفية ، بمعنى محجور ، ويستوي فيها المذكر والمؤنث.

٤٧٧

بِما كانُوا يَفْتَرُونَ ) .

نعم ، إذا أراد الإنسان ـ بفكره الناقص القاصر ـ أن يضع القوانين والأحكام ، فلا شك أنّ كل طائفة سوف تضع من القوانين ما ينسجم وأهواءهم ومطامعهم ، فيحرمون على أنفسهم أنعم الله دون سبب ، أو يحللون على أنفسهم أفعالهم القبيحة ، وهذا هو سبب قولنا إنّ الله وحده هو الذي يسنّ القوانين لأنّه يعلم كل شيء ويعرف دقائق الأمور ، وهو سبحانه بمعزل عن الأهواء.

الآية التّالية تشير إلى حكم خرافي آخر بشأن لحوم الحيوانات ، يقضي بأنّ حمل هذه الأنعام يختص بالذكور ، وهو حرام على الزوجات ، أمّا إذا خرج ما في بطونها ميتا ، فكلهم شركاء فيه :( وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ ) .

ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ( هذِهِ الْأَنْعامِ ) هي الحيوانات التي ذكرناها من قبل.

يرى بعض المفسّرين أنّ عبارة( ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ ) تشمل لبن هذه الأنعام ، ولكن عبارة( وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً ) تبيّن أنّ المقصود هو الجنين الذي إذا ولد حيّا فهو للذكور ، وإنّ ولد ميتا ـ وهو ما لم يكن مرغوبا عندهم ـ فهم جميعا شركاء فيه بالتساوي.

هذا الحكم لا يقوم ـ أوّلا ـ على أي دليل ، وهو ـ ثانيا ـ قبيح وبشع فيما يتعلق بالجنين الميت ، لأنّ لحم الحيوان الميت يكون في الغالب فاسدا ومضرا ، ثمّ هو ـ ثالثا ـ نوع من التمييز بين الرجل والمرأة ، بجعل الطيب للرجال فقط ، وبجعل المرأة شريكة في الفاسد فقط.

ينهي القرآن هذا الحكم الجاهلي ، ويقرر أنّ الله سوف يعاقبهم على هذه الأوصاف ،( سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ ) .

«الوصف» هنا يشير إلى ما كانوا ينسبونه إلى الله ، كأنّ ينسبون إليه تحريم

٤٧٨

هذه اللحوم بالرغم من أنّ المقصود هو الصفة أو الحالة التي تستولي على المذنب على أثر تكرار ، الإثم وتجعله مستحقا للعقاب ، وختاما تقول :( إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) .

فهو عليم بأعمالهم وأقوالهم واتهاماتهم الكاذبة ، كما أنّه يعاقبهم وفق حساب وحكمة.

* * *

٤٧٩

الآية

( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (140) )

التّفسير

تعقيبا على الآيات السابقة التي تحدثت عن بعض الأحكام التافهة والتقاليد القبيحة في عصر الجاهلية الشائن ، كقتل الأبناء قربانا للأصنام ، ووأد البنات خشية العار ، وتحريم بعض نعم الله الحلال ، تدين هذه الآية كل تلك الأعمال بشدة ، في سبعة تعبيرات وفي جمل قصيرة نافذة توضح حالهم.

ففي البداية تقول :( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ ) ، فعملهم وصف هنا بأنّه خسران بالمنظار الإنساني والأخلاقي ، وبالمناظر العاطفي والاجتماعي ، والخسارة الكبرى هي الخسارة المعنوية في العالم الآخر. فهذه الآية تعتبر عملهم أوّلا «خسرانا» ثمّ «سفاهة» وخفة عقل ، ثمّ «جهلا» وكل صفة من هذه الصفات الثلاث كافية لإظهار قبح أعمالهم ، فأي عقل يجيز للأب أن يقتل أولاده بيده؟ أو ليس هذا من السفاهة وخفة العقل أن يفعل هذا ثمّ لا يخجل من فعلته ، بل يعتبرها نوعا من الفخر والعبادة؟ أي علم يجيز للإنسان أن يعتبر هذه الأعمال قانونا اجتماعيا؟

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611