الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 611

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 611 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 139763 / تحميل: 6872
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٤

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

العالم بالشيء اللطيف ، كالبعوضة وخلقه إياها(73) . وأنّه لا يدرك ولا يحدّ ، وفلان لطيف في أمره إذا كان متعمقاً متلطفاً لا يدرك أمره ، وليس معناه أنه تعالى صغر ودقّ.

وقال الهروي(74) في الغريبين(75) : اللطيف من أسمائه تعالى وهو الرفيق بعباده يقال : لطف له يلطف إذا رفق به ، ولطف الله بك أي : أوصل إليك مرادك برفق ، واللطيف منه ، فأما لطف يلطف فمعناه صغر ودقّ.

الخبير :

هو العالم بكنه الشيء المطلع على حقيقته ، والخبر : العلم ، ولي بكذا خبر أي : علم ، واختبرت كذا ، بلوته.

الحليم :

ذو الحلم والصفح والأناة ، وهو : الذي يشاهد معصية العصاة ويرى مخالفة الأمر ثم لا يسارع إلى الانتقام مع غاية قدرته ، ولا يستحق الصافح مع العجز اسم الحلم ، إنما الحليم هو الصفوح مع القدرة.

* * *

__________________

رياض العلماء 5 : 119 ، الكنى والألقاب 1 : 212 ، تنقيح المقال 3 : 154.

(73) التوحيد : 194 حديث 7 باختلاف.

(74) أبو عبيد القاسم بن سلام الهروي ، أخذ عن أبي زيد الأنصاري وأبي عبيدة معمر بن المثنى وأبي محمد اليزيدي وغيرهم ، له عدّة مصنّفات ، منها : غريب القرآن ـ منتزع من عدّة كتب ، جاء فيه بالآثار وأسانيدها وتفاسير الصحابة والتابعين والفقهاء ـ وغريب الحديث ، وهو منتزع أيضاً من عدة كتب مع ذكر الأسانيد ، وصنف المسند على حدته ، وأحاديث كل رجل من الصحابة والتابعين على حدته ، مات سنة ( 223 ه‍ ) وقيل غير ذلك.

تاريخ بغداد 12 : 403 ، معجم الاُدباء 16 : 254 ، وفيات الأعيان 4 : 60.

(75) المراد من المغريبين : غريب القرآن مخطوط ، وغريب الحديث مطبوع ولم أجده فيه.

٤١

العظيم :

قال الشهيد : هو الذي لا تحيط بكنهه العقول(76) .

وقال البادرائي : هو ذو العظمة والجلال ، أي : عظيم الشأن جليل القدر ، دون العظم الذي هو من نعوت الأحسام.

وقيل : إنّه تعالى سمي العظيم ، لأنّه الخالق للخلق العظيم ، كما أنّ معنى اللطيف هو الخالق للخلق اللطيف.

العفوّ :

هو المحّاء للذنوب ، وهو فعول من العفو ، وهو : الصفح عن الذنب وترك مجازاة المسيء. وقيل : هو مأخوذ من عفت الريح الأثر إذا درسته ومحته.

الغفور :

الذي تكثر منه المغفرة ، أي : يغفر الذنوب ويتجاوز عن العقوبة ، واشتقاقه من الغفر وهو الستر والتغطية ، وسمي المغفر به لستره الرأس.

وفي العفوّ مبالغة أعظم من الغفور ، لأن ستر الشيء قد يحصل مع بقاء أصله ، بخلاف المحو ، فإنه إزالة رأساً وجملة. ويقال : ما فيهم غفيرة ، أي : لا يغفرون ذنباً لأحد.

الشكور :

الذي يشكر اليسير من الطاعة ، ويثيب عليه الكثير من الثواب ، ويعطي الجزيل من النعمة ، ويرضى باليسير من الشكر ، قال تعالى :( إنّ ربّنا لغفور

__________________

(76) القواعد والفوائد : 2 : 168.

٤٢

شكور ) (77) وهما اسمان مبنيّان للمبالغة.

ولما كان تعالى مجازياً للمطيع على طاعته بجزيل ثوابه ، جعل مجازاته شكراً لهم على سبيل المجاز ، كما سمّيت المكافأة شكراً.

العليّ :

الذي لا رتبة فوق رتبته ، أو المنزّه عن صفات المخلوقين ، وقد يكون بمعنى العالي فوق خلقه بالقدرة عليهم(78) .

الكبير :

ذو الكبرياء(79) في كمال الذات والصفات ، وهو الموصوف بالجلال وكبر الشأن. ويقال : هو الذي كبر عن شبه المخلوقين ، وصغر دون جلاله كلّ كبير. وقيل : الكبير : السيد ، ويقال لكبير القوم سيدهم.

الحفيظ :

الحافظ لدوام الموجودات والمزيل تضاد العنصريات بحفظها عن الفساد ، فهو تعالى يحفظ السماوات والأرض وما بينهما ، ويحفظ عبده من المهالك

__________________

(77) فاطر 35 : 34.

(78) في هامش (ر) : « والفرق بين العلي والرفيع : أن العلي قد يكون بمعنى الاقتدار وبمعنى علوّ المكان ، والرفيع من رفع المكان لا غير ، ولذلك لا يوصف سبحانه بأنه رفيع القدر والشأن ، ذكر ذلك الكفعمي : إبراهيم بن علي الجبعي عفى الله تعالى عنه ، في كتابه جُنّة الأمان الواقية وجّنة الإيمان الباقية. منهرحمه‌الله ».

اُنظر : جنّة الأمان الواقعية ـ المصباح ـ : 324 ، وفيه : « والرفيع من رفع المكان لا غير ، ولذلك لا يوصف تعالى به ، بلى يوصف بأنه رفيع القدر والشأن » وما في نسخة (ر) هو الصحيح.

(79) في هامش (ر) : « الكبرياء : العظمة والسلطان ، والكبرياء أيضاً : الملك ، لأنّه أكبر ما يطلب من اُمور الدنيا ، والأصل أن الكبرياء : استحقاق صفة الكبر في أعلى المراتب ، والملوك موصوفون بالكبر ، قاله المطرزي. منهرحمه‌الله ».

٤٣

والمعاطب.

قال بعضهم : الحفيظ وضع للمبالغة ، فتفسيره بالحافظ فيه هظم لذلك الاسم.

المقيت :

المقتدر ، وأقات على الشيء : اقتدر عليه.

قال :

وذي ضغن كففت النفس عنه

وكنت على مساءته مقيتا

والمقيت : معطي القوت ، والمقيت : الحافظ للشيء والشاهد عليه ، والمقيت : الموقوف على الشيء.

قال :

إليَّ الفضل أم عليَّ إذا

حوسبت إني على الحساب مقيتُ

أي : إنّي على الحساب موقوف ، والمعاني الأربع الاُول كلّها صادقة عليه تعالى ، بخلاف الخامس.

الحسيب :

الكافي ، وهو فعيل بمعنى مفعل كأليم بمعنى مؤلم ، من قولهم أحسَبَني أي : أعطاني ما كفاني ، وحسبك درهم أي : كفاك ، ومنه :( حسبكَ اللهُ ومن اتبعك ) (80) أي : هو كافيك.

والحسيب : المحاسب أيضاً ، ومنه قوله تعالى :( كفى بنفسكَ اليومَ عليكَ حسيباً ) (81) أي : محاسباً. والحسيب أيضاً : المحصي والعالم.

__________________

اُنظر : المغرب 2 : 140 ، وفيه : « وكبرياء الله : عظمته » ولم ترد العبارة بأكملها.

(80) الأنفال 8 : 64.

(81) الاسراء 17 : 14.

٤٤

الجليل :

الموصوف بصفات الجلال ، من الغنى والملك والقدرة والعلم والتقدّس عن النقائص ، فهو : الجليل الذي يصغر دونه كلّ جليل ، ويتضع معه كل رفيع.

الكريم :

في اللغة الكثير الخير ، والعرب تسمّي الشيء الذي يدوم نفعه ويسهل تناوله كريماً ، ومن كرمه تعالى : أنه يبتدئ بالنعمة من غير استحقاق ، ويغفر الذنب ويعفو عن المسيء.

وقيل : الكريم الجواد المفضل ، يقال : رجل كريم أي : جواد. وقيل : هو العزيز ، كقولهم : فلان أكرم من فلان ، أي : اعزّ منه ، وقوله تعالى :( إنهُ لقرآنٌ كريمُ ) (82) أي : عزيز.

الرقيب :

الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء ، ومنه قوله تعالى :( ما يلفظُ من قولٍ إلاّ لديه رقيب ) (83) معناه أي : حافظ ، والعتيد : المهيّأ الحاضر.

وقال الشهيد : الرقيب : الحفيظ العليم(84) .

المجيب :

هو الذي يجيب المضطرّ ويغيث الملهوف إذا دعياه.

* * *

__________________

(82) الواقعة 56 : 77.

(83) ق 50 : 18.

(84) القواعد والفوائد 2 : 168 ـ 169.

٤٥

القريب :

هو المجيب ، ومنه :( اُجيبُ دعوة الداعِ ) (85) أي : قربت من دعائه ، وقد يكون بمعنى العالم بوساوس القلوب لا حجاب بينها وبينه تعالى ولا مسافة ، ومنه :( ونحنُ أقربُ إليه من حبلِ الوريدِ ) (86) .

الواسع :

الغني الذي وسع غناه مفاقر عباده ، ووسع رزقه جميع خلقه ، والسعة في كلام العرب : الغنى ، ومنه :( لينفق ذو سعةٍ من سعتهِ ) (87) وقيل : هو المحيط بعلم كلّ شيء ، ومنه :( وسعَ كلَّ شيءٍ علماً ) (88) .

وفي كتاب منتهى السّؤول : الواسع مشتق من السعة ، والسعة تضاف تارة إلى العلم إذا اتسع وأحاط بالمعلومات الكثيرة ، وتضاف اُخرى إلى الإحسان وبسط النعم ، وكيف ما قدّر وعلى أي شيء نزّل ، فالواسع المطلق هو الله تعالى ، لأنّه إن نظر إلى علمه فلا ساحل لبحره ، بل تنفد البحار لو كانت مداداً لكلماته ، وإن نظر إلى إحسانه ونعمه فلا نهاية لها ، وكل نعمة تكون من غيره وإن عظمت فهي متناهية ، فهو أحقّ بإطلاق اسم السعة عليه.

الغني :

هو الذي استغنى عن الخلق وهم إليه محتاجون ، فلا تعلق له لغيره لا في ذاته ولا في شيء من صفاته ، بل يكون منزّهاً عن العلاقة مع الغير ، فمن تعلقت

__________________

(85) البقرة 2 : 186.

(86) ق 50 : 16.

(87) الطلاق 65 : 7.

(88) طه 20 : 98.

٤٦

ذاته أو صفاته بأمر خارج عن ذاته يتوقف في وجوده أو كماله عليه ، فهو محتاج إلى ذلك الأمر ، ولا يتصور ذلك في الله تعالى.

المغني :

الذي جبر مفاقر الخلق وأغناهم عمن سواه بواسع الرزق.

الحكيم(89) :

هو المحكم خلق الأشياء ، والإحكام هو : اتقان التدبير وحسن التصوير والتقدير. وقيل : الحكم العادل ، والحكمة لغة : العلم ، ومنه :( يؤتي الحكمة من يشاءُ ) (90) والحكيم أيضاً : الذي لا يفعل قبيحاً ولا يخلّ بواجب ، والذي يضع الأشياء مواضعها.

الودود :

الذي يودّ عباده ، أي : يرضى عنهم ويقبل أعمالهم ، مأخوذ من الودّ وهو المحبة. أو يكون بمعنى : أن يودّهم إلى خلقه ، ومنه :( سيجعلُ لهمُ الرحمنُ ودّاً ) (91) أي : محبته في قلوب العباد. أو يكون فعول هذا بمعنى مفعول ، كمهيب بمعنى مهيوب ، يريد : أنه مودود في قلوب أوليائه بما ساق إليهم من المعارف وأظهر لهم من الألطاف.

__________________

(89) في هامش (ر) : « الحكيم يحتمل أمرين ، الأول : أنه تعالى بمعنى العالم [ لأن العالم ] بالشيء يسمّى حكيماً ، فعلى هذا يكون من صفات الذات ، مثل العالم ، ويوصف بهما فيما لم يزل. الثاني : أن معناه المحكم لأفعاله ، ويكون فعيل بمعنى مفعل ، وعلى هذا يكون من صفات الأفعال ، ومعناه : أن أفعاله سبحانه كلّها حكمة وصواب ، ولا يوصف بذلك فيما لم يزل ، وعن ابن عباس : العليم الذي كمل في علمه ، و [ الحكيم ] الذي كمل في حكمته ، قاله الطبرسي في مجمعه. منهرحمه‌الله ».

اُنظر : مجمع البيان 1 : 78 ، باختلاف وزيادة أدخلنا بعضها في المتن بين معقوفتين.

(90) البقرة 2 : 269.

(91) مريم 19 : 96.

٤٧

المجيد الماجد :

بمعنى ، والمجد : الكرم ، قاله الجوهري(92) . والمجيد : الواسع الكرم ، ورجل ماجد إذا كان سخياً واسع العطاء.

وقيل : هو الكريم العزيز ، ومنه قوله تعالى :( بل هو قرآن مجيد ) (93) أي : كريم عزيز.

وقيل : معنى مجيد أي : ممجد ، أي : مجّده خلقه وعظموه ، قال ابن فهد في عدته(94) .

وقال الهروي في قوله تعالى :( ق والقرآن المجيد ) (95) والمجد في كلامهم : الشرف الواسع ، ورجل ماجد : مفضال كثير الخير ، ومجدت الإبل : إذا وقعت في مرعى كثير واسع.

وقال الشهيد : المجيد هو الشريف ذاته الجميل فعاله ، قال : والماجد مبالغة في المجد(96) .

الباعث :

محيي الخلق في النشأة الاُخرى وباعثهم للحساب.

الشهيد :

الذي لا يغيب عنه شيء ، وقد يكون الشهيد بمعنى العليم ، ومنه :( شهدَ

__________________

(92) الصحاح 2 : 536 ، مجد.

(93) البروج 85 : 21.

(94) عدّة الداعي : 309.

(95) ق 50 : 1.

(96) القواعد والفوائد 2 : 169.

٤٨

الله أنّه لا إله إلاّ هو ) (97) أي : علم.

الحقّ :

هو المتحقّق وجوده وكونه ، وكل شيء تحقق وجوده وكونه فهو حقّ ، ومنه :( الحاقّةُ ما الحاقةُ ) (98) أي : الكائنة حقاً لا شك في كونها ، وقولهم : الجنة حقّ أي : كائنة ، وكذلك النار.

الوكيل :

هو الكافي ، أو الموكول إليه جميع الاُمور.

وقيل : هو الكفيل بأرزاق العباد والقائم بمصالحهم ، ومنه :( حسبنا الله ونعمَ الوكيلُ ) (99) أي : نعم الكفيل باُمورنا القائم بها. وقد يكون بمعنى المعتمد والملجأ ، والتوكّل : الاعتماد والالتجاء.

القويّ :

القادر ، من قوي على الشيء إذا قدر عليه ، أو الذي لا يستولي عليه العجز والضعف في حال من الأحوال ، وقد يكون معناه : التامّ القوة.

المتين :

هو الشديد القوة الذي لا يعتريه وهن ، ولا يمسّه لغوب ، ولا يلحقه في أفعاله مشقة.

* * *

__________________

(97) آل عمران 3 : 18.

(98) الحاقة 69 : 1 ـ 2.

(99) آل عمران 3 : 173.

٤٩

الوليّ :

هو المستأثر بنصر عباده المؤمنين ، ومنه :( الله مولى الذين آمنوا وأنّ الكافرينَ لا مولى لهم ) (100) أي : لا ناصر لهم. أو يكون بمعنى : المتولّي للأمر القائم به(101) .

المولى :

قد قيل فيه ما مرّ من المعنيين المتقدمين في الولي. أو يكون بمعنى الأولى ، ومنه قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : ألست أولى منكم بأنفسكم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : من كنت مولاه فعلي مولاه(102) . أي : من كنت أولى منه بنفسه فعلي أولى منه بنفسه ، وقوله تعالى :( مأواكُم النارُ هي مولاكمُ ) (103) أي : أولى بكم.

الحميد :

هو المحمود الذي استحقّ الحمد بفعاله في السرّاء والضرّاء والشدّة والرخاء.

__________________

(100) محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم 47 : 1.

(101) في هامش (ر) : « ووليّ الطفل : هو الذي يتولّى إصلاح شأنه ( والله وليّ المؤمنين [ 3 : 68 ] ) لأنّه المتولّي لإصلاح شؤونهم في الدارين ، وفي الحديث : أيّما امرأة نكحت بغير إذن مولاها ، وروي وليّها ، قال الفراء : المولى والولي واحد ، وقوله : ( أنت وليّي في الدنيا والآخرة [ 12 : 101 ] ) أي : المتولّي أمري والقائم به ، والولي والوالي والمولى والمتولّي : الناصر ، و ( أولياء الشيطان [ 4 : 76 ] ) أنصاره ، وقوله : ( ومن يتولّهم منكم [ 5 : 51 و9 : 23 ] ) أي : من يتبعهم وينصرهم. منهرحمه‌الله ».

(102) هذا الحديث من الأحاديث المتواترة عند المسلمين كافة. اُنظر ترجمة الإمام علي ـعليه‌السلام ـ من تاريخ دمشق 2 : 5 ، والبحار 37 : 108 ، وإحقاق الحق 4 : 36 ، وكتاب الغدير للعلاّمة الأميني وغيرها.

(103) الحديد 57 : 15.

٥٠

المحصي :

الذي أحصى كلّ شيء بعلمه ، فلا يعزب عنه مثقال ذرة.

المبدئ المعيد :

فالمبدئ الذي أبدأ الأشياء اختراعاً وأوجدها.

والمعيد الذي يعيد الخلق بعد الحياة إلى الممات ، ثم يعيدهم بعد الممات إلى الحياة ، لقوله تعالى :( وكنتم أمواتاً فأحياكم ثمَّ يميتكم ثُمّ يُحييكم ثمَّ إليهِ تُرجعونَ ) (104) ولقوله :( هو يبدئ ويعيدُ ) (105) .

المحيي المميت :

فالمحيي هو : الذي يحيي النطفة الميتة فيخرج منها النسمة الحية ، ويحيي الأجسام بإعادة الأرواح إليها للبعث.

والمميت : هو الذي يميت الأحياء ، تمدّح سبحانه بالإماتة كما تمدّح بالإحياء ، ليعلم أنّ الإحياء والإماتة من قبله.

الحيّ :

هو الذي لم يزل موجوداً وبالحياة موصوفاً ، لم يحدث له الموت بعد الحياة ولا العكس ، قاله البادرائي.

وفي منتهى السؤول : أنه الفعّال المدرك ، حتّى أن ما لا فعل له ولا إدراك فهو ميّت ، وأقل درجات الإدراك أن يشعر المدرك نفسه ، فالحيّ الكامل هو الذي تندرج جميع المدركات تحت إدراكه ، حتى لا يشذّ عن علمه مدرك ولا

__________________

(104) البقرة 2 : 28.

(105) البروج 85 : 13.

٥١

عن فعله مخلوق ، وكلّ ذلك لله تعالى ، فالحيّ المطلق هو الله تعالى.

القيّوم :

هو القائم الدائم بلا زوال بذاته ، وبه قيام كلّ موجود في إيجاده وتدبيره وحفظه ، ومنه قوله :( أفمن هو قائم على كلّ نفس بما كسبت ) (106) أي : يقوم بأرزاقهم وآجالهم وأعمالهم. وقيل : هو القيم على كل شيء بالرعاية له.

ومثله : القيّام ، وهما من فيعول وفيعال ، من قمت بالشيء إذا توليته بنفسك وأصلحته ودبرته ، وقالوا : ما فيها ديّور ولا ديّار(107) .

وفي الصحاح : أن عمر(108) قرأ : الحي القيّام ، قال وهو لغة(109) .

الواجد :

أي : الغني ، مأخوذ من الجدّ ، وهو : الغنى والحظ في الرزق ، ومنه قولهم في الدعاء : ولا ينفع ذا الجدّ منك الجد ، أي : من كان ذا غنى وبخت في الدنيا لم ينفعه ذلك عندك في الآخرة ، إنّما ينفعه الطاعة والإيمان ، بدليل :( يوم لا ينفع مالٌ ولا بنونَ ) (110) .

أو يكون مأخوذاً من الجدة ، وهي : السعة في المال والمقدرة ، ورجل واجد أي : غني بين الوجد والجدة ، وافتقر بعد وجد ، ووجد بعد فقر ، وقوله تعالى :( أسكنوهنَّ من حيثُ سكنتمُ من وجدكم ) (111) أي : سعتكم ومقدرتكم.

__________________

(106) الرعد 13 : 33.

(107) اُنظر : عدة الداعي : 308.

(108) أبو حفص عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رباح ، روى عن النبي وعن أبي بكر وأبي بن كعب ، روى عنه أولاده وغيرهم ، قتل سنة ( 23 ه‍ ).

طبقات الفقهاء 19 ، اسد الغابة 4 : 52 ، تهذيب التهذيب 7 : 438.

(109) الصحاح 5 : 2018 ، قوم. وقال الزمخشري في الكشّاف 1 : 384 : « وقرئ القيام والقيم ».

(110) الشعراء 26 : 88.

(111) الطلاق 65 : 6.

٥٢

وقد يكون الواجد : هو الذي لا يعوزه شيء ، والذي لا يحول بينه وبين مراده حائل من الوجود.

الواحد الأحد :

هما دالان على معنى الوحدانية وعدم التجزي.

قيل : والأحد والواحد بمعنى واحد ، وهو : الفرد الذي لا ينبعث من شيء ولا يتّحد بشيء.

و قيل : الفرق بينهما من وجوه :

أ ـ أنّ الواحد يدخل الحساب ، ويجوز أن يجعل له ثانياً ، لأنه لا يستوعب جنسه ، بخلاف الأحد ، ألا ترى أنك لو قلت : فلان لا يقاومه واحد من الناس ، جاز أن يقاومه اثنان ، ولو قلت : لا يقاومه أحد ، لم يجز أن يقاومه أكثر ، فهو أبلغ ، قاله الطبرسي(112) .

قلت : لأنّ أحداً نفي عام للمذكر والمؤنث والواحد والجماعة ، قال تعالى :( لستنَّ كأحدٍ من النساء ) (113) ولم يقل كواحدة ، لما ذكرناه.

ب : قال الأزهري(114) : الفرق بينهما أن الأحد بني لنفي ما يذكر معه من العدد ، والواحد اسم لمفتتح العدد.

ج : قال الشهيد : الواحد يقتضي نفي الشريك بالنسبة إلى الذات ، والأحد يقتضي نفي الشريك بالنسبة إلى الصفات(115) .

__________________

(112) مجمع البيان 5 : 564 باختلاف.

(113) الأحزاب 33 : 32.

(114) أبو منصور محمد بن أحمد بن الأزهر بن طلحة بن نوح الأزهري الهروي ، أحد الأئمة في اللغة والأدب ، روى عن أبي الفضل محمد بن أبي جعفر المنذري عن ثعلب وغيره ، له عدّة مصنّفات ، منها : تفسير أسماء الله عزّ وجلّ ، والظاهر أن الكفعمي نقل قول الأزهري من هذا الكتاب ، مات سنة ( 370 ه‍ ).

وفيات الأعيان 4 : 334 ، معجم الاُدباء 17 : 164 ، أعلام الزركلي 5 : 311.

(115) القواعد والفوائد 2 : 171 ، وفيه : « وقيل الفرق بينهما : أن الواحد هو المنفرد بالذات لا يشابهه

٥٣

د : قال صاحب العدة : إن الواحد أعم مورداً ، لكونه يطلق على من يعقل وغيره ، ولا يطلق الأحد إلاّ على من يعقل(116) .

الصمد :

السيد الذي يصمد إليه في الحوائج ، أي : يقصد ، وأصل الصمد : القصد.

قال :

ما كنتُ أحسبُ أنّ بيتاً طاهراً

لله في أكنافِ مَكّة يَصمِدُ

وقيل : هو الباقي بعد فناء الخلق.

وعن الحسينعليه‌السلام : الصمد الذي انتهى إليه السؤدد ، والدائم ، والذي لا جوف له ، والذي لا يأكل ولا يشرب ولا ينام(117) .

قال وهب(118) : بعث أهل البصرة إلى الحسينعليه‌السلام يسألونه عن الصمد ، فقال : إنّ الله قد فسّره ، فقال :( لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ) (119) لم يخرج منه شيء كثيف كالولد ، ولا لطيف كالنفس ، ولا تنبعث منه البدورات كالنوم والغمّ والرجاء والرغبة والشبع والخوف وأضدادها ، وكذا هو لا يخرج من كثيف كالحيوان والنبات ، ولا لطيف كالبصر وسائر الآلات(120) .

__________________

أحد ، والأحد المتفرد بصفاته الذاتية ، بحيث لا يشاركه فيها أحد ».

(116) عدّة الداعي : 300.

(117) التوحيد : 90 حديث 3 ، مجمع البيان 5 : 565 ، باختلاف.

(118) أبو البختري وهب بن وهب بن عبدالله القرشي ، من الضعفاء ، يروي عن أبي عبداللهعليه‌السلام ، له عدّة كتب ، منها : الألوية والرايات ، وكتاب مولد أمير المؤمنين ، وكتاب صفات النبي وغيرها.

تنقيح المقال 3 : 281 ، معجم رجال الحديث 19 : 211.

(119) الإخلاص 112 : 3 ـ 4.

(120) التوحيد 91 حديث 5 ، مجمع البيان 5 : 565 ـ 566 ، باختلاف.

٥٤

ابن الحنفية(121) : الصمد هو القائم بنفسه الغني عن غيره(122) .

زين العابدينعليه‌السلام : هو الذي لا شريك له ، ولا يؤوده حفظ شيء ، ولا يعزب عنه شيء(123) .

زيد بن علي(124) : هو الذي( إذا أرادَ شيئاً أن يقول لهُ كُن فيكونُ ) (125) وهو الذي أبدع الأشياء أمثالاً وأضداداً وباينها(126) .

وعن الصادقعليه‌السلام قال : قدم على أبي الباقرعليه‌السلام وفد من فلسطين(127) بمسائل منها الصمد ، فقال : تفسيره فيه ، هو خمسة أحرف :

الألف : دليل على إنّيّته ، وذلك قوله تعالى :( شهد الله أنّه لا إله إلاّ

__________________

(121) أبو القاسم محمد الأكبر بن علي بن أبي طالب ، والحنفية لقب اُمّه خولة بنت جعفر ، كان كثير العلم والورع ، شديد القوة ، وحديث منازعته في الإمامة مع علي بن الحسينعليه‌السلام وإذعانه بإمامته بعد شهادة الحجر له مشهور ، بل في بعضها : وقوعه على قدمي السّجادعليه‌السلام بعد شهادة الحجر له ولم ينازعه بعد ذلك بوجه ، توفي سنة ( 80 ه‍ ) وقيل ( 81 ه‍ ).

الطبقات الكبرى 5 : 91 ، وفيات الأعيان 4 : 169 ، تنقيح المقال 3 : 115.

(122) التوحيد : 90 ، مجمع البيان 5 : 565.

(123) التوحيد : 90 ، مجمع البيان 5 : 565.

(124) أبو الحسين زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالبعليهم‌السلام ، من أصحاب السجاد والباقر ، اتفق علماء الإسلام على جلالته وثقته وورعه وعلمه وفضله ، وقد روي في ذلك أخبار كثيرة ، حتى عقد ابن بابويه في العيون باباً لذلك ، وأنّ خروجه ـ طلباً بثارات الحسين ـ كان بإذن الإمامعليه‌السلام ، واعتقد كثير من الشيعة فيه الإمامة ولم يكن يريدها لمعرفته باستحقاق أخيه لها ، استشهد مظلوماً سنة ( 120 ه‍ ) وقيل : ( 121 ه‍ ) ولمّا بلغ خبر استشهاده أبا عبداللهعليه‌السلام حزن له حزناً شديداً عظيماً حتى بان عليه.

تنقيح المقال 3 : 467 ، معجم رجال الحديث 7 : 345.

(125) يس 36 : 82.

(126) التوحيد : 90 حديث 4 ، مجمع البيان 5 : 565.

(127) بالكسر ثم الفتح وسكون السين ، آخر كور الشام من ناحية مصر ، قصبتها البيت المقدّس ، ومن مشهور مدنها عسقلان والرملة وغزة.

معجم البلدان 4 : 274.

٥٥

هو ) (128) .

واللام : تنبيه على إلهيّته. وهما مدغمان لا يظهران ولا يسمعان ، بل يكتبان ، فإدغامهما دليل لطفه ، والله تعالى لا يقع في وصف لسان ولا يقرع الأذان ، فإذا فكّر العبد في إنّيّة الباري تعالى تحيّر ولم يخطر له شيء يتصوّر ، مثل لام الصمد لم تقع في حاسة ، وإذا نظر في نفسه لم يرها ، فإذا فكّر في أنّه الخالق للأشياء ظهر له ما خفي ، كنظره إلى اللام المكتوبة.

والصاد : دليل صدقة في كلامه ، وأمره بالصدق لعباده.

والميم : دليل ملكه الذي لا يحول ، وأنه ملك لا يزول.

والدال : دليل دوامه المتعالي عن الزوال(129) .

القدير القادر :

بمعنى ، غير أن القدير مبالغة في القادر(130) ، وهو الموجد للشيء اختياراً من غير عجز ولا فتور.

__________________

(128) آل عمران 3 : 18.

(129) التوحيد 90 ـ 92 حديث 5 ، مجمع البيان 5 : 566 ، باختلاف.

(130) في هامش (ر) : « والقدير [ الذي ] قدرته لا تتناهي ، فهو أبلغ من القادر ، ولهذا لا يوصف به غير الله تعالى ، والقدرة هي التمكن من إيجاد الشيء ، وقيل : قدرة الإنسان : هيئة يتمكن بها من الفعل ، وقدرة الله تعالى : عبارة عن نفي العجز عنه ، والقادر : هو الذي إن شاء فعل وإن شاء ترك ، والقدير : الفعّال لما يشاء على ما يشاء ، واشتقاق القدرة من القدر ، لأنّ القادر يوقع الفعل على مقدار ما تقتضيه مشيّته ، وفيه دليل على أن مقدور العبد مقدور لله تعالى ، لأنه شيء وكلّ شيء مقدور له تعالى ، قاله البيضاوي في تفسيره. وقال الطبرسي ـ قدّس الله سرّه ـ في كتابه مجمع البيان في قوله تعالى :( إنّ الله على كلّ شيءٍ قدير [ 2 : 20 ]) إنّه عام ، فهو قادر على الأشياء كلّها على ثلاثة أوجه : على المعدومات بأن يوجدها ، وعلى الموجودات بأن ينفيها ، وعلى مقدور غيره بأن يقدر عليه ويمنع منه ، وقيل : هو خاص في مقدوراته دون مقدور غيره ، فإن مقدوراً واحداً بين قادرين لا يمكن ، لأنّه يؤدّي إلى أن يكون الشيء الواحد موجوداً معدوماً في حالة واحدة ، ولفظة كلّ قد تستعمل في غير العموم ، نحو قوله تعالى :( تدمّر كل شيء بأمر ربّها [ 46 :25 ]) يعني : تهلك كلّ شيء مرّت به من الناس والدواب والأنعام ، لا من غيرهم. منهرحمه‌الله ».

اُنظر : أنوا ر التنزيل وأسرار التأويل 1 : 30 ـ 31 باختلاف ، مجمع البيان 1 : 59 باختلاف.

٥٦

وفي منتهى السَّؤول : القادر هو الذي إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل ، وليس من شرطه أن يشاء(131) ، لأنّ الله قادر على إقامة القيامة الآن ، لأنّه لو شاء أقمها وإن كان لا يقيمها الآن ، لأنّه لم يشأ إقامتها الآن ، لما جرى في سابق علمه من تقدير أجلها ووقتها ، فذلك لا يقدح في القدرة ، والقادر المطلق هو الذي يخترع كلّ موجود اختراعاً يتفرد به ، ويستغني فيه عن معاونة غيره ، وهو الله تعالى.

المقتدر :

هو التام القدرة الذي لا يطاق الامتناع عن مراده ولا الخروج عن إصداره وإيراده.

وقال الشهيد : المقتدر أبلغ من القادر لاقتضائه الإطلاق ، ولا يوصف بالقدرة المطلقة غير الله تعالى(132) .

المقدّم المؤخّر :

هو المنزّل الأشياء منازلها ، ومرتّبها في التكوين والتصوير والأزمنة على ما تقتضيه الحكمة ، فيقدّم منها ما يشاء ويؤخّر ما يشاء.

الأول الآخر :

فالأول هو : الذي لا شيء قبله ، الكائن قبل وجود الأشياء.

والآخر : الباقي بعد فناء الخلق بلا انتهاء ، كما أنه الأول بلا ابتداء ، وليس معنى الآخر ما له الانتهاء ، كما ليس معنى الأول ما له الابتداء.

* * *

__________________

(131) في هامش (ر) : « أي : ليس القدرة مشروطة بأن يشاء ، حتى إذا لم يكن يشاء لم يكن قادراً ، بل هو جلّت عظمته قادر مطلقاً من غير اعتبار المشيّة وعدمها. منهرحمه‌الله ».

(132) القواعد والفوائد 2 : 172.

٥٧

الظاهر الباطن :

فالظاهر أي : بحججه الظاهرة وبراهينه الباهرة الدالة على ثبوت ربوبيته وصحة وحدانيته ، فلا موجود إلاّ وهو يشهد بوجوده ، ولا مخترع إلاّ وهو يعرب عن توحيده.

وفي كلّ شيء له آية

تدلّ على أنّه واحــدُ

وقد يكون الظاهر بمعنى : العالي ، ومنه قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنت الظاهر فليس فوقك شيء.

وقد يكون بمعنى : الغالب ، ومنه قوله تعالى :( فأيّدنا الّذين آمنوا على عدوّهم فأصبحوا ظاهرين ) (133) .

والباطن : المتحجب عن إدراك الأبصار وتلوث الخواطر والأفكار ، وقد يكون بمعنى : البطون وهو الخبر ، وبطنت الأمر عرفت باطنه ، وبطانة الرجل : وليجته الذين يطلعهم على سرّه.

والمعنى : أنه عالم بسرائر القلوب والمطلع على ما بطن من الغيوب.

الضارّ النافع :

أي : يملك الضر والنفع ، فيضرّ من يشاء وينفع من يشاء.

وقال الشهيد : معناهما أنه تعالى خالق(134) ما يضرّ وينفع(135) .

المقسط :

هو العادل في حكمه الذي لا يجور ، والسقط بالكسر : العدل ، ومنه قوله

__________________

(133)الصف 61 : 14.

(134) في المصدر : أي خالق.

(135) القواعد والفوائد 2 : 173.

٥٨

تعالى :( قائماً بالقسط ) (136) وقوله :( ذلكم أقسط ) (137) أي : أعدل.

وأقسط : إذا عدل ، وقسط بغير ألف : إذ جار ، ومنه :( وأما القاسطون فكانوا لجهنّمّ حطباً ) (138) .

الجامع :

الذي يجمع الخلائق ليوم القيامة ، أو الجامع للمتباينات والمؤلف بين المتضادات ، أو الجامع لأوصاف الحمد والثناء ، ويقال : الجامع الذي قد جمع الفضائل وحوى المكارم والمآثر.

البرّ :

بفتح الباء ، وهو : العطوف على العباد ، الذي عمّ برّه جميع خلقه : ببرّه المحسن بتضعيف الثواب ، والمسيء بالعفو عن العقاب وبقبول التوبة. وقد يكون بمعنى الصادق ، ومنه : برّ في يمينه ، أي : صدق.

وبكسر الباء ، قال الهروي : هو الاتساع والأحسان والزيادة ، ومنه سمّيت البريّة لاتساعها ، وقوله :( لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا ممّا تحبّون ) (139) البر : الجنّة.

قال الجوهري : والبرّ بالكسر خلاف العقوق ، وبررت والدي بالكسر أي : اطعته ، ومن كسر باء البرّ في اسمه تعالى فقد وهم(140) .

قال الحريري(141) في كتابه درة الغواص : وقولهم برّ والدك وشمّ يدك

__________________

(136) آل عمران 3 : 18.

(137) البقرة 2 : 282.

(138) الجنّ 72 : 15.

(139) آل عمران 3 : 92.

(140) الصحاح 2 : 588 برر ، باختلاف.

(141) أبو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري ، قرأ الأدب على أبي القاسم الفضل بن

٥٩

وهمٌ ، والصواب فتح الباء والشين(142) ، لأنهما مفتوحان في قولك : يبرّ ويشمّ ، وعقد هذا الباب : أن حركة أول فعل الأمر من [ جنس ](143) حركة ثاني الفعل المضارع إذا كان متحركاً ، فتفتح الباء في قولك : برّ أباك ، لانفتاحها في قولك : يبرّ ، وتضمّ الميم في قولك : مدّ الحبل ، لانضمامها في قولك : يمدّ ، وتكسر الخاء في قولك : خف في العمل ، لانكسارها في قولك : يخف(144) (145) .

* * *

__________________

محمد القصباني ، له عدّة مصنّفات ، منها : درّة الغواص في أوهام الخواصّ ، وهو عبارة عن ذكر الأوهام التي وقعت لبعض الأعلام مع ذكر ما هو الصواب لها ، مات سنة ( 516 ه‍ ).

المنتظم 9 : 241 ، معجم الاُدباء 16 : 261 ، وفيات الأعيان 4 : 63 ، النجوم الزاهرة 5 : 225.

(142) في المصدر : « ويقولون للمأمور بالبرّ والشمّ : بِرّ والدك بكسر الباء ، وشُمّ يدك بضمّ الشين ، والصواب أن يفتحهما جميعاً ».

(143) زيادة من المصدر.

(144) درّة الغواصّ في أوهام الخواصّ : 22.

(145) في هامش (ر) : « قلت : الفعل المضاعف الذي ماضيه فعل ـ نحو : ردّ وشدّ وعفّ وكلّ ـ إن كان متعدياً مضارعه يأتي على يفعل بالضم نحو يرّد ويشدّ ، وإن كان غير متعدّ فمضارعه يأتي على يفعل بالكسر نحو يعفّ ويكلّ. وما جاء على فعل ـ سواء كان متعدياً أو غير متعدّ ، فالمتعدي نحو شممته وعضضته ، وغير المتعدي نحو ظللت وبللت ـ فالمضارع منها يفعل بالفتح ، نحو : يشمّ ويعضّ ويلجّ ويظلّ ويبلّ ، وربما قالوا يبل بالكسر ، جعلوه من قبيل حسب يحسب ، ولا يأتي من هذا فعل بالضم ، قال سيبويه : لأنهم يستثقلون فعل والتضعيف. وقد يشتبه فعل يفعل هنا ، ألا ترى أنك تقول : حرّ يومنا وحرّ المملوك ، فلفظهما سواء ، وتقول في مستقبل حرّ يومنا : يحر بالفتح حراراً. وتقول : قرّ بالمكان يقر بالكسر قراراً ، وإن عنيت به قرة العين عند السرور بالشيء قلت : قرّ به عيناً يَقرّ ـ بالفتح ـ قرّة. وأما الألفاظ المشتركة من يفعل بالضم ويفعل بالكسر ، فمنها : جدّ إن عنيت به القطع كان متعديا ، فتقول : جدّ الشيء يجدّه جداً فهو جادّ والأمر منه جدُ بالضم ، وإن عنيت به جدّ في الأمر إذا اجتهد كان لازماً ، فتقول : جدّ يجدّ بالكسر والأمر منه جد بالكسر. ومنها : فرّ إن عنيت به الكشف عن سنّ الدابة كان متعدياً ، فتقول : فرّ عن الدابة يفرّ بالضم فراً ، وفرّ عن الغلام إذا نظر إلى ما عنده من العلم وإن عنيت به الهرب والفرار كان لازماً ، فتقول : فرّ مني زيد يفرّ بالكسر فراراً. ومنها : صرّ إن عنيت به الشدّ كان متعدياً ، فتقول : صرّ الصرة يصرها بالضم صراً والصرة مصرور ، وإن عنيت به الصوت كان لازماً ، فتقول : صرّ الجندب أو الباب يصرّ صريراً والأمر صر بالكسر والنهي لا تصر ، ملخص من كتاب شرح الملوكي ، وكتاب عبد الواحد بن زكريا. منهرحمه‌الله ».

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

ومميت ، ولا تضارب مصالح ، ولا كذب ولا افتراء ، ولا اتهام ولا حسد ولا حقد ، ولا هم ولا غم ، بل الهدوء والطمأنينة والهناء؟

ولكن الآية تقول أيضا : إنّ هذه النعم لا تأتي بمجرّد الكلام ، بل هي تعطي لقاء العمل نعم العمل!

* * *

٤٦١

الآيتان

( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٢٨) وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩) )

التّفسير

تعود هاتان الآيتان إلى بيان مصير المجرمين الضالين والمضلين فتكملان ما بحث في السابق ، فتذكّران بيوم يقفون فيه وجها لوجه أمام الشياطين الذين كانوا يستلهمون منهم ، فيواجه التابعون والمتبوعون سؤالا لا جواب لديهم عليه ، ولا ينالون سوى التحسر والحزن ، إنّها تحذيرات للإنسان كيلا ينظر فقط إلى أيّامه المعدودات على الأرض ، بل عليه أن يفكر بالعاقبة.

تذكر الآية في البداية بذلك اليوم الذي يجتمع فيه الجن والإنس ، ثمّ يقال يا أيّها المضلون من الجن لقد أضللتم كثيرا من الناس :( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا

٤٦٢

مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ ) (١) .

«الجن» هنا هم الشياطين ، لأن كلمة الجن ـ كما سبق أن قلنا ـ تشمل كل كائن غير مرئي والآية (٥٠) من سورة الكهف تذكر عن رئيس الشياطين ، إبليس إنّه( كانَ مِنَ الْجِنِ ) .

الآيات السابقة التي تحدثت عن وسوسة الشياطين الهامسة( إِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ ) ، وكذلك الآية التّالية التي تحدثت عن سيطرة بعض الظالمين على الآخرين ، قد تكون إشارة إلى هذا الموضوع.

ويبدو أنّ الشياطين المضلين لا جواب لديهم على هذا السؤال ويطرقون صامتين ، غير أنّ أتباعهم من البشر يقولون : ربّنا ، هؤلاء استفادوا منّا كما إنّنا استفدنا منهم حتى جاء أجلنا :( وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا ) .

أي كان شياطيننا فرحين بسيطرتهم علينا وكنّا نتبعهم مستسلمين ، أمّا نحن فكنّا مستمتعين بمباهج الحياة ولذائذها غير متقيدين بشيء ولا ملتفتين إلى سرعة زوالها ، لما كان الشياطين يوسوسون به في آذاننا ويظهرونه في صور جميلة جذابة.

هنا تختلف آراء المفسّرين بشأن المقصود من كلمة «أجل» ، هل هي نهاية عمر الإنسان ، أم يوم القيامة؟ ولكن الظاهر أنّ المقصود نهاية العمر لأنّ «الأجل» كثيرا ما استعمل في القرآن بهذا المعنى.

غير أنّ الله يخاطب التابعين والمتبوعين الفاسدين والمفسدين جميعا :( قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ ) .

إنّ الجملة الاستثنائية( إِلَّا ما شاءَ اللهُ ) إمّا أن تكون إشارة إلى أن خلودهم في العذاب والعقاب ، وفي هذه الحالات لا يسلب القدرة من الله على تغيير

__________________

(١) «يوم» ظرف متعلق بجملة «يقول» المحذوفة فيكون أصل الجملة :( يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ ) .

٤٦٣

الحكم ، فهو قادر في أي وقت يشاء أن يغير ذلك ، وإن أبقاه خالدا لجمع منهم.

وإمّا أن تكون إشارة إلى الذين لا يستحقون الخلود في العذاب ، أو الجديرون بنيل العفو الإلهي ، فيجب استثناؤهم من الخلود في العذاب.

وفي الختام تقول الآية :( إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) ، فعقابه مبني على حساب دقيق ، وكذلك عفوه ، لأنّه عالم بمن يستحقهما.

الآية التّالية تشير إلى سنّة إلهية ثابتة بشأن هؤلاء الأشخاص ، وتقرر أنّ هؤلاء الطغاة والظالمين سيكون وضعهم في الآخرة كما كانوا عليه في الدنيا يجر بعضهم بعضا نحو التهلكة وسوء المصير والانحراف :( كَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) وكما ذكرنا في البحوث الخاصّة بالمعاد فان يوم القيامة مشهد ردود الفعل في صور مكبرة ، وما يوجد هناك انعكاس عن أعمالنا في هذه الدنيا.

جاء في تفسير علي بن إبراهيم القمي عن الإمامعليه‌السلام في معنى هذه الآية قال : «أي نولي كل من تولى أولياءهم فيكونون معهم يوم القيامة».

ومن الجدير بالملاحظة أنّ جميع هؤلاء قد وصفوا بالظلم في هذه الآية ، ولا شك أنّ الظلم بمعناه الواسع يشملهم جميعا ، فأي ظلم أكبر من أن يخرج الإنسان نفسه من ولاية الله ليداخل في ولاية المستكبرين ويتّبعهم فيكون في العالم الآخر تحت ولايتهم أيضا.

ثمّ إنّ هذا التعبير ، وكذلك تعبير( بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) يشيران إلى أنّ هذا المصير السيء إنّما هو بسبب أعمالهم ، وهذه سنة إلهية وقانون الخليقة القاضي بأنّ السائرين في الظلام لا بدّ أن يسقطوا في هوة التعاسة والشقاء.

* * *

٤٦٤

الآيات

( يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (١٣٠) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢) )

التّفسير

إتمام الحجة :

ورد وصف مصير الظالمين من أتباع الشياطين يوم القيامة في الآيات السابقة ولكيلا يظن أحد أنّهم في حالة من الغفلة ارتكبوا ما ارتكبوه من إثم ، تبيّن هذه الآيات أن تحذيرهم قد تمّ بما فيه الكفاية وتمّت عليهم الحجة ، لذلك يقال لهم يوم القيامة :( يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا ) .

«معشر» من العدد «عشرة» ، وبما أن العشرة تعتبر عددا كاملا ، فالمعشر هي

٤٦٥

الجماعة الكاملة التي تضم مختلف الطوائف والأصناف ، أمّا بشأن الرسل الذين بعثوا إلى الجن هل كانوا منهم ، أم من البشر؟ فهناك كلام بين المفسّرين ، ولكن الذي يستفاد من آيات سورة الجن يدل بجلاء على أنّ الإسلام والقرآن للجميع بما فيهم الجن ، وأنّ نبي الإسلام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الجميع ، ولكن هذا لا يمنع أن يكون لهم رسل وممثلون من جنسهم عهد إليهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدعوتهم إلى الإسلام (سيأتي شرح ذلك بالتفصيل ، وكذلك المعنى العلمي للجن في تفسير سورة الجن في الجزء ٢٩ من القرآن الكريم).

ولكن ينبغي أن نعلم أنّ «منكم» لا تعني أن أنبياء كل جنس يكونون من الجنس نفسه ، لأنّنا عند ما نقول : «نفر منكم ...» يمكن أن يكون هؤلاء من طائفة واحدة أو من عدّة طوائف.

ثمّ تقول الآية :( قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا ) لأنّ يوم القيامة ليس يوم الكتمان ، بل إنّ دلائل كل شيء تكون بادية للعيان ، وما من أحد يستطيع أن يخفي شيئا ، فالجميع يعترفون أمام هذا السؤال الإلهي قائلين : إنّنا نشهد ضد أنفسنا ونعترف أنّ الرسل قد جاؤونا وأبلغونا رسالاتك ولكنّنا خالفناها.

نعم لقد كانت أمامهم آيات ودلائل كثيرة من الله ، وكان يميزون الخطأ من الصواب ، إلّا أنّ الحياة الدنيا ببريقها ومظاهرها قد خدعتهم وأضلتهم :( وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا ) .

هذه الآية تدل بوضوح على أنّ العقبة الكبرى في طريق سعادة البشر هي الحبّ اللامحدود لعالم المادة والخضوع له بلا قيد ولا شرط ، ذلك الحبّ الذي كبل الإنسان بقيود الأسر ودفعه إلى ارتكاب كل ألوان الظلم والعدوان والإجحاف والأنانية والطغيان.

مرّة أخرى يؤكّد القرآن أنّهم شهدوا على أنفسهم بألسنتهم بأنّهم قد ساروا في طريق الكفر ووقفوا إلى جانب منكري الله :( وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا

٤٦٦

كافِرِينَ ) .

الآية التّالية تعيد المضمون السابق بصورة قانون عام وسنة ثابتة ، وهي : أنّ الله لا يأخذ الناس في المدن والمناطق المسكونة بظلمهم إذا كانوا غافلين ، إلّا بعد أن يرسل إليهم الرسل لينبهوهم إلى قبيح أعمالهم ، ويحذروهم من مغبة أفعالهم :( ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ ) .

قد تعني «بظلم» أنّ الله لا يعاقب أحدا بسبب ظلمه وهو غافل عنه ، وقبل أن يرسل الرسل ، وقد تكون بمعنى أنّ الله لا يظلم أحدا بأن يعاقبه عمّا فعل وهو غافل ، لأنّ معاقبتهم بهذه الصورة تعتبر ظلما ، والله أرفع من أن يظلم أحدا(١) .

وتذكر الآية الثالثة خلاصة ما ينتظر هؤلاء من مصير وتقرر أنّ لكل من هؤلاء ـ الأخيار والأشرار ، المطيعين والعصاة ، طالبي العدالة والظالمين ـ درجات ومراتب يوم القيامة تبعا لأعمالهم ، وإن ربك لا يغفل عن أعمالهم ، بل يعلمها جميعا ، ويجزي كلا بقدر ما يستحق :( وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ) .

هذه الآية تؤكّد مرّة أخرى الحقيقة القائلة بأنّ جميع «الدّرجات» و «الدّركات» التي يستحقها الإنسان إنّما هي وليدة أعماله ، لا غير.

* * *

__________________

(١) في الحالة الأولى فاعل «ظلم» هم الكافرون ، وفي الحالة الثانية يكون نفي الظلم عن الله تعالى.

٤٦٧

الآيات

( وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (١٣٤) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (١٣٥) )

التّفسير

الآية الأولى تستدل على ما سبق في الآيات التي مرّت بشأن عدم ظلم الله تعالى ، ويؤكّد أنّ الله لا حاجة له بشيء وهو عطوف ورحيم ، وعليه لا دافع له على أن يظلم أحدا أبدا ، لأن من يظلم لا بدّ أن يكون محتاجا ، أو أن يكون قاسي القلب فظا :( وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ ) كما أنّه لا حاجة له بطاعة البشر ، ولا يخشى من ذنوبهم ، بل إنّه قادر على إزالة كل جماعة بشرية ووضع آخرين مكانها كما فعل بمن سبق تلك الجماعة :( إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ) .

بناء على ذلك فهو غني لا حاجة به إلى شيء ، ورحيم ، وقادر على كل شيء ، فلا يمكن إذن أن نتصوره ظالما.

٤٦٨

وإذا أدركنا قدرته التي لا حدود لها يتّضح لنا أنّ ما وعده بشأن يوم القيامة والجزاء سوف يتحقق في موعده بدون أي تخلف :( إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ ) .

كما أنّكم لا تستطيعون أن تخرجوا عن نطاق حكمه ولا أن تهربوا من قبضته العادلة :( وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ) (١) .

ثمّ يؤمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يهددهم :( قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) .

هنا أيضا نلاحظ أنّ كلمة «الكفر» استعيض عنها بكلمة «ظلم» ، وهذا يعني أنّ الكفر وإنكار الله نوع من الظلم الصريح ، فهو ظلم بحق النفس ، وظلم بحق المجتمع ، ولما كان الظلم يناقض العدالة العامّة في عالم الوجود ، فهو محكوم بالإخفاق والهزيمة.

* * *

__________________

(١) «معجزين» من «أعجز» أي جعله عاجزا ، فالآية تقول : إنّكم لا تستطيعون أن تجعلوا الله عاجزا عن بعث الناس وتحقيق العدالة ، وبعبارة أخرى : أنتم لا تستطيعون مقاومة قدرة الله.

٤٦٩

الآية

( وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (١٣٦) )

التّفسير

لاقتلاع جذور الشرك وعبادة الأصنام من الأذهان يعود القرآن إلى ذكر العادات والتقاليد والعبادات الخرافية السائدة بين المشركين ، ويثبت في بيان واضح أنّها خرافية ولا أساس لها ، فقد كان كفّار مكّة وسائر المشركين يخصصون لله سهما من مزارعهم وأنعامهم ، كما كانوا يخصصون سهما منها لأصنامهم أيضا ، قائلين : هذا القسم يخص الله ، وهذا القسم يخص شركاءنا أي الأصنام :( وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا ) .

على الرغم من أنّ الآية تشير إلى نصيب الله فقط ، ولكن العبارات التّالية تدل على أنّهم كانوا يخصصون نصيبا للأصنام أيضا ، جاء في بعض الرّوايات : أنّهم كانوا يصرفون ما يخصصونه لله على الأطفال والضيوف ، والنصيب المخصص للأصنام من الزرع والأنعام كانوا يصرفونه على خدم الأصنام والقائمين على

٤٧٠

معابدها والأضاحي وعلى أنفسهم أيضا(١) .

سبب اعتبارهم الأصنام شركاءهم يعود إلى كونهم يرونها شريكة لهم في أموالهم وحياتهم.

وتعبير( مِمَّا ذَرَأَ ) أي ممّا خلق ، يشير إلى بطلان مزاعمهم ، إذ إنّ كل أموالهم وما يملكون هو ممّا خلق الله فكيف يجعلون نصيبا منه لله ونصيبا منه للأصنام؟!

ثمّ تشير الآية إلى واحد من أحكامهم العجيبة وهو الحكم بأنّ ما خصصوه لشركائهم لا يصل إلى الله ، ولكن ما خصصوه لله يصل إلى شركائهم( فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ) .

اختلف المفسّرون بشأن المقصود من هذه الآية ، ولكن آراءهم كلها تدور حول حقيقة واحدة ، هي أنّه إذا أصاب نصيب الله ضرر على أثر حادثة قالوا : هذا لا أهمية له لأنّ الله لا حاجة به إليه ، ولكن إذا أصاب الضرر نصيب أصنامهم عوضوا عنه من نصيب الله ، قائلين : إنّ الأصنام أشد حاجة إليه.

كما أنّهم إذا نفذ الماء المار بمزرعة الله إلى مزرعة الأصنام قالوا : لا مانع من ذلك ، فالله ليس محتاجا ، ولكن إذا حدث العكس منعوا الماء المتسرب إلى مزرعة الله ، قائلين : إنّ الأصنام أحوج!

وفي الختام تدين الآية هذه الخرافات فتقول :( ساءَ ما يَحْكُمُونَ ) .

إنّ قبح عملهم ـ فضلا عن قبح عبادة الأصنام ـ يتبيّن في الأمور التّالية.

١ ـ على الرغم من أنّ كل شيء هو من خلق الله ، وملك له دون منازع ، وأنّه هو الحاكم على كل الكائنات وهو مدبرها وحافظها فإنّهم إنّما كانوا يخصصون جانبا من ذلك كله لله ، وكأنّهم هم المالكون الأصليون ، وكأنّ حق التقسيم بيدهم ، (إنّ جملة( مِمَّا ذَرَأَ ) تشير إلى هذا كما قلنا).

٢ ـ لقد كانوا في هذا التقسيم يلزمون جانب الأصنام ويفضلون ما لها على ما

__________________

(١) تفسير المنار ، ج ٨ ، ص ١٢٢.

٤٧١

لله ، لذلك لم يكونوا يهتمون بما يصيب نصيب الله من ضرر ، ولكنّهم كانوا يجبرون كل ضرر يصيب نصيب الأصنام من نصيب الله ، فكان هذا تحيزا إلى جانب الأصنام ضد الله!

٣ ـ يتبيّن من بعض الرّوايات أنّهم كانوا يهتمون اهتماما كبيرا بحصة الأصنام ، فقد كان خدم الأصنام والقائمون على معابدها وكذلك المشركون يأكلون من حصة الأوثان ، بينما كانوا يخصصون حصة الله للأطفال وللضيوف ، وتدل القرائن على أنّ الأغنام السمينة والمحاصيل الزارعية الجيدة كانت من نصيب الأصنام ، أي لمصلحة السدنة الخاصّة.

كل هذا دل على أنّهم في هذا التقسيم لم يكونوا يعترفون لله حتى بمنزلة مساوية لمنزلة الأصنام.

فأي حكم أقبح وأدعى إلى العار من أن يعتبر إنسان قطعة من الحجر أو الخشب الذي لا قيمة له أرفع من خالق عالم الوجود ، هل هناك هبوط فكريّ أحط من هذا؟

* * *

٤٧٢

الآية

( وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١٣٧) )

التّفسير

يشير القرآن في هذه الآية إلى عمل قبيح آخر من أعمال عبدة الأصنام القبيحة وجرائمهم الشائنة ، ويذكر أنّه كما ظهر لهم أنّ تقسيمهم الحصص بين الله والأصنام عمل حسن بحيث إنه اعتبروا هذا العمل القبيح والخرافي ، بل والمضحك ، عملا محمودا ، كذلك زين الشركاء قتل الأبناء في أعين الكثيرين من المشركين بحيث إنّهم راحوا يعدون قتل الأولاد نوعا من «الفخر» و «العبادة» :( وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ ) .

«الشّركاء» هنا هم الأصنام ، فقد كانوا أحيانا يقدمون أبناءهم قرابين لها ، أو كانوا ينذرون أنّهم إذا وهبوا ابنا يذبحونه قربانا لأصنامهم ، كما جاء في تاريخ عبدة الأصنام القدامي وعليه فان نسبة «التزيين» للأصنام تعود إلى أن شدة تعلقهم بأصنامهم وحبهم لها كان يحدو بهم إلى ارتكاب هذه الجريمة النكراء واستنادا إلى هذا التّفسير ، فإنّ قتل الأولاد هذا لا علاقة له بوأد البنات أو قتل

٤٧٣

الأولاد خشية الإملاق.

يحتمل أيضا أن يكون المقصود بتزيين الأصنام هذه الجريمة ، هو أن القائمين على أمر الأصنام والمعابد هم الذين كانوا يحرضونهم على هذا العمل ويزينونه لهم ، باعتبارهم الألسنة الداعية باسم الأصنام ، فقد جاء في التّأريخ أنّ العرب كانوا إذا عزموا على السفر أو الأعمال المهمّة ، طلبوا الإذن من «هبل» كبير أصنامهم ، وذلك بأن يضربوا بالقداح ، أي بأسهم الميسر ، فقد كان هناك كيس معلق بجانب هبل فيه سهام كتب على مقابضها «افعل» أو «لا تفعل» ، فكانوا يخلطون السهام ثمّ يسحبون واحدا منها ، فما كتب عليه يكون هو الأمر الصادر من هبل ، وبهذه الطريقة كانوا يتصورون أنّهم يكتشفون آراء أصنامهم ، فلا يستبعد أنّهم في مسألة قتل أولادهم قرابين للأصنام كانوا يلجأون إلى أولياء المعابد ليأتوهم بما تأمر به الأصنام.

هنالك أيضا الاحتمال القائل بأن وأد البنات ـ الذي كان سائدا ، كما يقول التّأريخ بين قبائل بني تميم لرفع العار ـ كان أمرا صادرا عن الأصنام ، فقد جاء في التّأريخ أنّ «النعمان بن المنذر» هاجم بعض العرب وأسر نساءهم وفيهن ابنة «قيس بن عاصم» ثمّ أقرّ الصلح بينهم وعادت كل امرأة إلى عشيرتها ، عدا ابنة قيس التي فضلت البقاء عند العدو لعلها تتزوج أحد شبانهم ، فكان وقع هذا شديدا على قيس ، فاقسم بالأصنام انّه إذا رزق بابنة أخرى فانه سوف يئدها حية ، ثمّ لم يمض زمن طويل حتى أصبح هذا العمل الشائن سنّة بينهم ، وباسم الدفاع عن العرض راحوا يرتكبون أفظع جريمة بقتلهم أولادهم الأبرياء(١) .

وعليه ، فإنّ وأد البنات يمكن أن يكون مشمولا بمفهوم هذه الآية.

هنالك أيضا احتمال آخر في تفسير هذه الآية وان لم يتطرق إليه المفسّرون ،

__________________

(١) يتصور بعض أنّ كلمة «أولاد» في الآية لا تنسجم مع هذا التّفسير ، غير أنّ لهذه الكلمة معنى واسعا يشمل الأبناء والبنات ، وكما جاء في الآية (٢٢٣) من سورة البقرة :( وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ ) .

.

٤٧٤

وهو أنّ عرب الجاهلية كانوا على درجة من التقدير والاحترام لأصنامهم بحيث إنّهم كانوا يصرفون أموالهم الثمينة على تلك الأصنام وعلى خدامها المتنفذين الأثرياء ، ويبقون هم في فقر مدقع إلى الحد الذي كان يحملهم هذا الفقر والجوع على قتل بناتهم.

فهذا التعلق الشديد بالأصنام كان يزين لهم عملهم الشنيع ذاك.

ولكن التّفسير الأوّل ، أي التضحية بأولادهم قربانا للأصنام ، أقرب إلى نص الآية.

ثمّ يوضح القرآن أنّ نتيجة تلك الأفعال القبيحة هي أنّ الأصنام وخدامها ألقوا بالمشركين في مهاوي الهلاك ، وشككوهم في دين الله ، وحرموهم من الوصول إلى الدين الحق :( لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ) .

ومع ذلك كله ، فإنّ الله قادر على أن يوقفهم عند حدهم بالإكراه ، ولكن الإكراه خلاف سنة الله ، إنّ الله يريد أن يكون عباده أحرارا لكي يمهد أمامهم طريق التربية والتكامل ، وليس في الإكراه تربية ولا تكامل :( وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ ) .

وما دام هؤلاء منغمسين في أباطيلهم وخرافاتهم دون أن يدركوا شناعتها ، بل الأدهى من ذلك أنّهم ينسبونها أحيانا إلى الله ، إذن فاتركهم واتهاماتهم والتفت إلى تربية القلوب المستعدة :( فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ ) .

* * *

٤٧٥

الآيتان

( وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣٨) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٣٩) )

التّفسير

تشير هذه الآيات إلى بعض الأحكام الخرافية لعبدة الأوثان ، والتي تدل على قصر نظرتهم وضيق تفكيرهم ، وتكمل ما مر في الآيات السابقة.

تذكر في البداية أقوال المشركين بشأن من لهم الحق في نصيب الأصنام من زرع وأنعام ، وتبيّن أنّهم كانوا يرون أنّها محرمة إلّا على طائفة معينة :( وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ ) .

ومرادهم المتولّون أمور الأصنام والمعابد ، والمشركون كانوا يذهبون إلى أنّ لهؤلاء وحدهم الحق في نصيب الأصنام.

٤٧٦

يتّضح من هذا أنّ القسم الأوّل من الآية يشير إلى كيفية تصرفهم فيما يخصصونه للأصنام من الزرع والأنعام.

«الحجر» هو المنع ، ولعلها مأخوذة كما يقول الراغب الأصفهاني في «المفردات» من الحجر ، وهو أنّ يبنى حول المكان بالحجارة ليمنع عما وراءه ، وحجر إسماعيل سمي بذلك لأنّه مفصول عن سائر أقسام المسجد الحرام بجدار من حجر ، وعلى هذا الاعتبار يطلق على «العقل» اسم «الحجر» ، أحيانا ، لكونه يمنع المرء من ارتكاب الأعمال القبيحة ، وإذا ما وضع أحد تحت رعاية أحد وحمايته قيل : إنّه في حجره ، والمحجور هو الممنوع من التصرف في ماله(١) .

ثمّ تشير الآية إلى واحدة أخرى من خرافاتهم تقضى بمنع ركوب بعض الدواب :( وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها ) .

الظاهر أنّها هي الحيوانات التي مرّ ذكرها في تفسير الآية (١٠٣) من سورة المائدة ، وهي «السائبة» و «البحيرة» و «الحام» (انظر التفسير المذكور لمزيد من التوضيح).

ثمّ تشير إلى القسم الثّالث من الأحكام الباطلة فتقول :( وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا ) .

ولعلها إشارة إلى الحيوانات التي كانوا يذكرون أسماء أصنامهم عليها فقط عند ذبحها ، أو هي المطايا التي كانوا يحرمون ركوبها للذهاب إلى الحج ، كما جاء ذلك في تفسير«مجمع البيان» و «التّفسير الكبير» و «المنار» و «القرطبي» نقلا عن بعض المفسّرين ، وفي كلتا الحالتين كان الحكم خرافيا لا أساس له.

والأعجب من ذلك أنّهم لم يقنعوا بتلك الأحكام الفارغة ، بل راحوا ينسبون إلى الله كل ما يخطر لهم من كذب :( افْتِراءً عَلَيْهِ ) .

وفي ختام الآية ، وبعد ذكر تلك الأحكام المصطنعة ، تقول إنّ الله :( سَيَجْزِيهِمْ

__________________

(١) «حجر» في هذه الآية وصفية ، بمعنى محجور ، ويستوي فيها المذكر والمؤنث.

٤٧٧

بِما كانُوا يَفْتَرُونَ ) .

نعم ، إذا أراد الإنسان ـ بفكره الناقص القاصر ـ أن يضع القوانين والأحكام ، فلا شك أنّ كل طائفة سوف تضع من القوانين ما ينسجم وأهواءهم ومطامعهم ، فيحرمون على أنفسهم أنعم الله دون سبب ، أو يحللون على أنفسهم أفعالهم القبيحة ، وهذا هو سبب قولنا إنّ الله وحده هو الذي يسنّ القوانين لأنّه يعلم كل شيء ويعرف دقائق الأمور ، وهو سبحانه بمعزل عن الأهواء.

الآية التّالية تشير إلى حكم خرافي آخر بشأن لحوم الحيوانات ، يقضي بأنّ حمل هذه الأنعام يختص بالذكور ، وهو حرام على الزوجات ، أمّا إذا خرج ما في بطونها ميتا ، فكلهم شركاء فيه :( وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ ) .

ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ( هذِهِ الْأَنْعامِ ) هي الحيوانات التي ذكرناها من قبل.

يرى بعض المفسّرين أنّ عبارة( ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ ) تشمل لبن هذه الأنعام ، ولكن عبارة( وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً ) تبيّن أنّ المقصود هو الجنين الذي إذا ولد حيّا فهو للذكور ، وإنّ ولد ميتا ـ وهو ما لم يكن مرغوبا عندهم ـ فهم جميعا شركاء فيه بالتساوي.

هذا الحكم لا يقوم ـ أوّلا ـ على أي دليل ، وهو ـ ثانيا ـ قبيح وبشع فيما يتعلق بالجنين الميت ، لأنّ لحم الحيوان الميت يكون في الغالب فاسدا ومضرا ، ثمّ هو ـ ثالثا ـ نوع من التمييز بين الرجل والمرأة ، بجعل الطيب للرجال فقط ، وبجعل المرأة شريكة في الفاسد فقط.

ينهي القرآن هذا الحكم الجاهلي ، ويقرر أنّ الله سوف يعاقبهم على هذه الأوصاف ،( سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ ) .

«الوصف» هنا يشير إلى ما كانوا ينسبونه إلى الله ، كأنّ ينسبون إليه تحريم

٤٧٨

هذه اللحوم بالرغم من أنّ المقصود هو الصفة أو الحالة التي تستولي على المذنب على أثر تكرار ، الإثم وتجعله مستحقا للعقاب ، وختاما تقول :( إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) .

فهو عليم بأعمالهم وأقوالهم واتهاماتهم الكاذبة ، كما أنّه يعاقبهم وفق حساب وحكمة.

* * *

٤٧٩

الآية

( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٤٠) )

التّفسير

تعقيبا على الآيات السابقة التي تحدثت عن بعض الأحكام التافهة والتقاليد القبيحة في عصر الجاهلية الشائن ، كقتل الأبناء قربانا للأصنام ، ووأد البنات خشية العار ، وتحريم بعض نعم الله الحلال ، تدين هذه الآية كل تلك الأعمال بشدة ، في سبعة تعبيرات وفي جمل قصيرة نافذة توضح حالهم.

ففي البداية تقول :( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ ) ، فعملهم وصف هنا بأنّه خسران بالمنظار الإنساني والأخلاقي ، وبالمناظر العاطفي والاجتماعي ، والخسارة الكبرى هي الخسارة المعنوية في العالم الآخر. فهذه الآية تعتبر عملهم أوّلا «خسرانا» ثمّ «سفاهة» وخفة عقل ، ثمّ «جهلا» وكل صفة من هذه الصفات الثلاث كافية لإظهار قبح أعمالهم ، فأي عقل يجيز للأب أن يقتل أولاده بيده؟ أو ليس هذا من السفاهة وخفة العقل أن يفعل هذا ثمّ لا يخجل من فعلته ، بل يعتبرها نوعا من الفخر والعبادة؟ أي علم يجيز للإنسان أن يعتبر هذه الأعمال قانونا اجتماعيا؟

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611