الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 611

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 611 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 139350 / تحميل: 6843
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٤

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

الوديعة، وأخذت الرهينة، وأخلست الزهراء، فما أقبح الخضراء والغبراء يا رسول الله.

أمّا حزني فسرمد، وأما ليلي فمسهد، وهم لا يبرح من قلبي، أو يختار الله لي دارك التي أنت فيها مقيم، كمد وقيح، وهم مهيج، سرعان ما فرق بيننا، وإلى الله أشكو، وستنبئك ابنتك بتظافر أمتك على هظمها، فأحفها السؤال، واستخبرها الحال، فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد إلى بثه سبيلاً، وستقول ويحكم الله، وهو خير الحاكمين.

والسلام عليكما سلام مودع لا قال ولا سئم، فان انصرف فلا عن ملالة، وإن أقم فلا عن سوء ظن بما وعد الله الصابرين.

واهاً واهاً، والصبر أيمن وأجمل، ولو لا غلبة المستولين لجعلت المقام واللبث لزاماً معكوفاً، ولأعولت إعوال الثكلى على جليل الرزية.

فبعين الله تدفن ابنتك سرّاً، وتهضم حقها، ويمنع إرثها، ولم يتباعد العهد، ولم يخلق منك الذكر، وإلى الله - يا رسول الله - أحسن العزاء، صلى الله عليك و عليها‌السلام والرضوان (1) .

الظلمة يلاحقون فاطمة بعد الشهادة:

عن الصادق عليه‌السلام في حديث طويل:... فلمّا أصبح أبو بكر وعمر.. فلقيا رجلاً من قريش فقالا له: من أين أقبلت؟

قال: عزّيت علياً بفاطمة.

قالا: وقد ماتت؟

قال: نعم، ودفنت في جوف الليل...

__________________

(1) البحار 43 / 194.

٢٦١

ثم أقبلا إلى علي عليه‌السلام فلقياه فقالا له: والله ما تركت شيئاً من غوائلنا ومسائتنا، وما هذا إلّا من شيء في صدرك علينا.. هل هذا إلّا كما غسلت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله دوننا ولم تدخلنا معك؟؟؟!!! وكما علمت ابنك أن يصيح بأبي بكر أن: انزل عن منبر أبي....

فأجابهم أمير المؤمنين عليه‌السلام عن افتراءاتهم ثم قال: وأما فاطمة فهي المرأة التي استأذنت لكما عليها، فقد رأيتما ما كان من كلامها لكما، والله لقد أوصتني أن لا تحضرا جنازتها ولا الصلاة عليها، وما كنت الذي أخالف أمرها ووصيتها إليّ فيكما.

فقال عمر: دع عنك هذه الهمهمة، أنا أمضي إلى المقابر فأنبشها حتى أصلّي عليها.

فقال له علي عليه‌السلام : والله لو ذهبت تروم من ذلك شيئاً - وعلمت أنّك لا تصل إلى ذلك حتى يندر عنك الذي فيه عيناك - فاني كنت لا أعاملك إلّا بالسيف قبل أن تصل إلى شيء من ذلك.

فوقع بين علي عليه‌السلام وعمر كلام حتى تلاحيا واستبسل... (1) .

وفي عيون المعجزات:... ودفنها... وجدّد أربعين قبراً، فاستشكل على الناس قبرها، فأصبح الناس ولام بعضهم بعضاً، وقالوا إنّ نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله خلّف بنتاً ولم نحضر وفاتها والصلاة عليها ودفنها، ولا نعرف قبرها فنزورها.

فقال من تولّى الأمر: هاتوا من نساء المسلمين من تنبش هذه القبور حتى نجد فاطمة عليها‌السلام فنصلّي عليها ونزور قبرها، فبلغ ذلك أمير المؤمنين عليه‌السلام فخرج مغضباً قد احمرت عيناه، ودرّت أوداجه، وعليه القباء الأصفر الذي كان يلبسه في الكريهة، وهو يتوكأ على سيفه ذي الفقار حتى أتى البقيع، فسار الناس من أنذرهم وقال:

__________________

(1) البحار 43 / 205.

٢٦٢

هذا علي قد أقبل كما ترونه وهو يقسم بالله لئن حوّل من هذه القبور حجر ليضعن السيف في رقاب الآمرين.

فتلقاه الرجل ومن معه من أصحابه وقال له: مالك يا أبا الحسن، والله لننبشن قبرها ونصلّي عليها.

فأخذ علي بجوامع ثوبه ثم ضرب به الأرض وقال: يابن السوداء، أمّا حقّي فقد تركته مخافة ارتداد الناس عن دينهم، وأمّا قبر فاطمة فوالذي نفسي علي بيده لئن رمت أنت أو أصحابك شيئاً لأسقين الأرض من دمائكم، فان شئت فافعل يا ثاني.

وجاء الأول وقال له: يا با الحسن بحقّ رسول الله وبحقّ فاطمة إلّا خلّيت عنه فانا لسنا فاعلين شيئاً تكرهه، فخلى عنه وتفرّق الناس ولم يعودوا إلى ذلك (1) .

* * *

__________________

(1) دلائل الامامة: 47.

٢٦٣

أسماء بنت عميس

أسماء بنت عميس بن سعد بن الحارث بن تميم بن كعب بن مالك بن قحافة بن عامر بن معاوية بن زيد بن مالك بن نسر بن وهب الخثعمي، ولذا عرفت أسماء بالخثعمية.

وأمها هند بنت عوف بن زهير بن الحارث من كنانة.

وقد تزوجت هند مرتين:

الأول: هو الحارث بن حزن بن جبير الهلالي.

والثاني: عميس بن سعد.

وولدت منهما بنات كريمات زوجتهن من رجال كرام، وقال فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : هي أكرم عجوز جمعت على الأرض أصهاراً.

فبناتها:

ميمونة زوجة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وأم الفضل زوجة العباس.

وأسماء بنت عميس التي سنتحدث عنها.

وسلمى زوجة حمزة سيد الشهداء.

وسلمة زوجة عبد الله بن كعب الخثعمي.

٢٦٤

وقد وعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هؤلاء الأخوات بدخول الجنة كما روى المرحوم الصدوق - طاب ثراه - في العلل والمرحوم المجلسي في البحار عن أبي بصير عن أبي جعفر الأول عليه‌السلام قال: سمعته يقول:

رحم الله الأخوات من أهل الجنة، فسماهن: أسماء بنت عميس الخثعمية، وكانت تحت جعفر بن أبي طالب عليه‌السلام ، وسلمى بنت عميس الخثعمية، وكانت تحت حمزة، وخمس من بني هلال: ميمونة بنت الحارث، وكانت عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأم الفضل عند العباس، واسمها هند، والغميصاء (وقيل: القميصان) أم خالد بن الوليد، وكانت أنصارية لازمت أمير المؤمنين عليه‌السلام في صفين، وغزة، وكانت في ثقيف عند الحجاج بن غلاظ بن خالد بن حوز بن هلال المكنى بأبي عبد الله، سكن المدينة وبنا بها مسجداً (1) .

وفي الحديث مدح لهؤلاء الأخوات معاً، يعني أنهن جميعاً من أهل الجنة لا تخرج منهن واحدة.

أسماء عند جعفر:

هاجرت أسماء بنت عميس مع زوجها جعفر إلى الحبشة فراراً من مشركي مكة، وولدت هناك ثلاثة أولاد: عبد الله وعون ومحمد.

وكان عبد الله أشهر أولادها من جعفر، وكان من الأجواد الأربعة، ولد للنجاشي ولد أيام ولادة عبد الله فسماه باسمه تيمناً وتبركاً، وأمر أن يرضع ولده بلبن عبد الله بن جعفر.

تزوج عبد الله بن جعفر السيدة زينب بنت أمير المؤمنين، فولدت له ولدين استشهدا يوم الطف بين يدي الحسين الشهيد عليه‌السلام .

__________________

(1) البحار 22 / 195 ح 8 باب 2.

٢٦٥

بقيت أسماء في الحبشة مع جعفر وأبنائه إلى السنة السابعة للهجرة وقدم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في قلاع خيبر مع جماعة، فلما قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما أدري بأيهما أنا أسر بفتح خيبر أو بقدوم جعفر» (1) .

ثم نظر إلى جعفر وبكى وقال له: «ألا أمنحك؟ ألا أعطيك؟ ألا أحبوك؟! فقال: بلى يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فعلّمه الصلاة المعروفة باسم «صلاة جعفر»، وفضلها معروف، وهي مذكورة في كتب الأدعية والأخبار».

والعاقبة أنّ جعفر استشهد في البلقاء في أقصى أرض يثرب والحجاز على حدود الشام في جمادى الآخرة سنة ثمان للهجرة مع زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة، ووجد في جسده تسعون جراحة.

وأخبر جبرئيل النبي في المدينة بمقتل جعفر، فبكى صلى‌الله‌عليه‌وآله ودعى لذريته فقال: «اللهم إنّ جعفر قدم اليك فاخلفه في ذريته بأحسن ما خلفت أحداً من عبادك» (2) .

وبشّر أسماء بنت عميس أنّ الله أعطى جعفراً جناحين يطير بهما في الجنة، ثم أمر سلمى أن تصنع طعاماً شهياً من الشعير والزيت وتطعم أيتام جعفر، وكان يصحبهم معه أينما ذهب ثلاثة أيام يدور بهما على نسائه (3) .

وكان جعفر أشبه الناس برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خَلقاً وخُلقاً، وكان يكنى «أبو المساكين» لأنه كان يحبهم ويطعمهم (4) .

أسماء عند أبي بكر:

استشهد جعفر فأخلف على أسماء بنت عميس أبو بكر بن أبي قحافة، فولدت له

__________________

(1) البحار 21 / 25 ح 22 باب 22.

(2) البحار 21 / 56 ح 8.

(3) أنظر: البحار 21 / 55 ح 8 باب 24.

(4) البحار 22 / 275 ح 5.

٢٦٦

محمداً، ومحمد بن أبي بكر يعزّ له النظير في جلالة القدر ورفعة الشان وعلو المقام وصلابة الايمان والثبات والاستقامة على ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام حتى استشهد في مصر بايعاز من معاوية، فقتل قتلة شنيعة، فلما سمع أمير المؤمنين خبر شهادته قال: شهادته قصمت ظهري، ثم تكلّم كلاماً ترتعد له الفرائص وترتجف له القلوب (1) .

وكان أبو بكر قد خطب أسماء في الاسلام وعنده حبيبة بنت الحارث الأنصاري، فلما توفي أبو بكر أوصى إلى أسماء بنت عميس أن تغسله، كما رواه الطبرسي، فقبلت أسماء الوصية - ولا منص لها إلّا القبول (2) - وتحملت عناء التنفيذ.

وهذه الوصية إنّما تدلّ على طهارة أسماء وتقواها، وكمال إيمانها وتدينها: لأنه أوصى لها من دون المسلمين ومن دون بقية أزواجه، وكان له ثلاث زوجات غيرها هن: أسماء بنت عبد العزي، ولد منها عبد الله، وأسماء ذات النطاقين، وأم رومان بنت عامر بن عمير من بني كنانة، ولد منها عبد الرحمن وعائشة وحبيبة.

والعجيب أنّه في مدة خلافته القليلة - سنتين وثلاثة أشهر وأيام - كانت أسماء في بيته تغذي ابنها محمد محبة أمير المؤمنين وولايته على مرأى ومسمع من أبي بكر، فخرّجت من بيته من جُبلوا على محبة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فكأن أسماء كانت هي أشرف الأبوين لمحمد بن أبي بكر حيث ما فتأت توصيه دائماً بولاية آل طه وأهل بيت النبوة، فشبّ على ذلك، ولم يحد عنه بل بقي ثابتاً راسخاً.

ومن غرائب الوقائع وعجائب الدهر التي تكشف عن شهامة هذه المخدرة المكرمة وشدّة ولائها وصلابة إيمانها وشجاعتها أنها كانت في حبائل أبي بكر إلّا أنّها شهدت عليه، وردّت قوله في قصة فدك، ووقفت لتعلن على رؤوس الأشهاد

__________________

(1) أنظر: البحار 33 / 562 ح 722 باب 30.

(2) أنظر: تاريخ الطبرسي 3 / 421 أحداث سنة (13) قال: إنّ أسماء بنت عميس قالت: قال لي أبو بكر: غسليني قلت: لا أطيق ذلك قال: يعينك عبد الرحمن بن أبي بكر يصب الماء.

٢٦٧

كذب زوجها وتدليسه وغصبه لحق آل البيت عليهم‌السلام ، فشهدت خلافاً لهوى زوجها وهوى الآخرين، ولم تفزع من تهديداتهم، ولم تستسلم لقهرهم، وقالت لهم بشجاعة العارف بالله وبأهل بيته: «إنّكم ظلمة جائرون غصبتم حقّ من له الحق فأعيدوه إلى نصابه».

ولما أرادوا قتل أمير المؤمنين عليه‌السلام وأمروا خالد بن الوليد بتنفيذ ذلك في الصلاة بعثت جاريتها إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام وقالت له: ( إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ) (1) .

فقال أمير المؤمنين للجارية: قولي لها: «إنّ الله يحول بينهم وبين ما يريدون».

أو أنّه قال: «فمن يقتل الناكثين والقاسطين والمارقين، وإنّ الله بالغ أمره»؟!

فهدأ روعها وسكن قلبها وسلّمت لما قاله أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وبالفعل فقد ندم أبو بكر - وهو في الصلاة - على ما اتفق عليه مع خالد، وخاف من سيوف بني هاشم المسلولة ونفوسهم الأبية، وحال الله بينه وبين ما يريد، فقال قبل تسليم الصلاة: «أي خالد لا تفعل ما أمرتك» ثم سلم... إلى آخر الخبر (2) .

أسماء عند أمير المؤمنين عليه‌السلام :

فلمّا توفي أبو بكر انتقلت أسماء بكامل الخلوص والوفاء والصفاء الى حجرة سيد الأولياء، وسعدت بشرف الدخول في عداد زوجات سيد الأوصياء أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فأولدها يحيى وعون (3) .

ويكفي أسماء بنت عميس من الفضل أمور:

__________________

(1) سورة القصص: الآية 20.

(2) أنظر: البحار 28 / 305 ح 48 باب 4.

(3) أنظر: تذكرة الخواص: 57 الباب الثالث في ذكر أولاده عليه‌السلام .

٢٦٨

منها: أنّ النبي شهد لها بأنها من أهل الجنة.

منها: أدعية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لها ولذريتها.

ومنها: أنّها كانت ممن شهد لفاطمة الزهراء عليها‌السلام في قصد فدك (بالرغم من ظروفها الخاصة) فصارت في ذلك قرينة لأم أيمن، وصارت ممن لازم الحق في تلك الفتنة العمياء في قصة شهادتها لفاطمة عليها‌السلام .

ومنها: ما قاله عمر من محبتها لآل أبي طالب وأنها تشهد لبني هاشم (1) .

ومنها: الأخبار المروية في حقها عن الحضرة النبوية والعلوية والعصمة الكبرى لفاطمة الزهراء عليها‌السلام .

ومنها: أنّها شهدت وفاة فاطمة الزهراء عليها‌السلام ، وشاركت أمير المؤمنين عليه‌السلام في غسلها، ويا لها من مفخرة عظيمة.

ومنها: أنّها ممدوحة في كتب الشيعة والسنة، فقد مدحها العدو بالرغم من شدّة عناده، بل وثقوا ذريتها الكريمة وأثنوا عليهم وقالوا: «إنّهم خيار عباد الله» (2) .

ومنها: أنّها ولدت عبد الله بن جعفر زوج زينب الكبرى، وقد استشهد أولاده بين يدي الحسين عليه‌السلام ، فقدمت بذلك أسماء فداءً للحسين عليه‌السلام ، وولدت محمد بن أبي بكر، وكان كما قال أمير المؤمنين «محمد ابني من صلب أبي بكر» وراح شهيداً في سبيل الله دفاعاً عن ولاية أمير المؤمنين، وولدت عوناً من أمير المؤمنين وقد استشهد بين يدي الحسين عليه‌السلام في طف كربلاء.

فهنيئاً لها، والسلام عليها وعلى زوجها أمير المؤمنين وعلى أولادها المستشهدين.

* * *

__________________

(1) أنظر: العوالم 11 / 635 ح 27 باب 3.

(2) أنظر: الخصائص الفاطمية للكجوري ترجمة سيد علي أشرف 2 / 162 وما بعدها.

٢٦٩

أمامة بنت أبي العاص

أمامة بنت أبي العاص بن الربيع بن العزى بن عبد شمس بن عبد مناف، وأمه هند بنت خويلد أخت خديجة عليها‌السلام ، واسم أبو العاص «لقيط» أو «مقسم» بسكر الميم، أو «ياسر» (1) ، أسر يوم بدر ففدته زينب فأطلقه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وأمها زينب بنت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، تزوجها ابن خالتها أبو العاص فولدت له ولداً وبنتاً، أما الولد فقد مات صغيراً، وأما البنت فاسمها «أمامة» تزوجها أمير المؤمنين عليه‌السلام تنفيذاً لوصية فاطمة الزهراء عليها‌السلام بعد تسع ليال من وفاة السيدة المخدرة الكبرى - حسب رواية المعالم - (2) .

ولدت أمامة على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكان يحبها، وحملها في الصلاة، وكان إذا ركع أو سجد تركها وإذا قام حملها (3) .

وأهديت له هدية فيها قلادة فدعا أمامة فأعلقها في عنقها (4) .

__________________

(1) أنظر: أسد الغابة 6 / 196 ترجمة 6035.

(2) العوالم 11 / 1082 ح 14، الخصائص الفاطمية 1 / 456 ح 6.

(3) أسد الغابة 7 / 25 ترجمة 6717.

(4) المصدر نفسه.

٢٧٠

وكان على عينها غمص فمسحه بيده (1) الشريفة فعوفيت.

تزوجها أمير المؤمنين عليه‌السلام تنفيذاً لوصية السيدة الصديقة عليها‌السلام حيث قالت عليها‌السلام :.. أوصيك أولاً أن تتزوج بعدي بابنة أختي أمامة فانها تكون لولدي مثلي، فان الرجال لابد لهم من النساء (2) .

وفي مصباح الأنوار: قالت: بنت أختي وتحنن على ولدي (3) .

وهذا وسام عظيم قلدته سيدة النساء لأمامة حيث شهدت لها بالولاء والمحبة والتحنن على ابناء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ولما كبرت أمامة توجعت وجعاً شديداً حتى اعتقل لسانها، فكان الامامان الحسن والحسين عليهما‌السلام يسألانها وهي تجيبهما بالاشارة (4) .

قيل: إنّها ماتت سنة خمسين للهجرة (5) .

* * *

__________________

(1) الاصابة 4 / 236.

(2) البحار 43 / 192.

(3) البحار 43 / 217.

(4) أنظر: التهذيب 8 / 258 ح 936.

(5) البحار 21 / 183.

٢٧١

ليلى النهشلية

وهي ليلى بنت مسعود بن جابر بن مالك بن ربعي بن سلم بن جندل بن نهشل بن دارم بن حنظلة بن زيد مناة بن تميم (1) .

ولسلم يقول الشاعر:

تسود أقوام وليسوا بسادة

بل السيد الميمون سلم بن جندل

وأم ليلى بنت مسعود عميرة بنت قيس بن عاصم بن سنان بن خالد بن منقر سيد أهل الوبر ابن عبيد بن الحارث، وهو مقاعس.

وأمها عناق بنت عاصم بن سنان بن خالد بن منقر.

وأمها بنت أعبد بن أسعد بن منقر.

وأمها بنت سفيان بن خالد بن عبيد بن مقاعس بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم (2) .

في الغارات والبحار قال: لما نكح علي عليه‌السلام ليلى بنت مسعود النهشلية قالت:

__________________

(1) مناقب أمير المؤمنين عليه‌السلام للكوفي 2 / 48.

(2) مقاتل الطالبيين: 57.

٢٧٢

ما زلت أحبّ أن يكون بيني وبينه سبب منذ رأيته قام مقاماً من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (1) .

وقال: تزوج علي عليه‌السلام ليلى بنت مسعود النهشلية فضربت له في داره حجلة فجاء فهتكها وقال: حسب أهل علي ما هم فيه (2) .

وولدت له عبيد الله وأبا بكر (3) .

* * *

__________________

(1) الغارات 1 / 93، البحار 42 / 139.

(2) المصدر نفسه، شرح النهج 2 / 202.

(3) المناقب (للكوفي) 2 / 48.

٢٧٣

خولة الحنفية

وهي خولة بنت إياس بن جعفر جان الصفا الحنفية

ويقال: بل كانت أمة لبني حنيفة، سندية سوداء، ولم تكن من أنفسهم، وإنّما صالحهم خالد بن الوليد على الرقيق ولم يصالحهم على أنفسهم.

وقيل: إنّها كانت من سبي بني حنيفة، اشتراها علي واتخذها أم ولد، فولدت له محمداً (1) .

وفي الاصابة: رأها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في منزله فضحك ثم قال: يا علي أما إنّك تتزوجها من بعدي، وستلد لك غلاماً فسمه باسمي، وكنه بكنيتي وانحله (2) .

عن الكلبي، عن ميمون بن مصعب المكّي بمكّة قال: كنّا عند أبي العباس بن سابور المكّي فأجرينا حديث أهل الردّة، فذكرنا خولة الحنفيّة ونكاح أمير المؤمنين عليه‌السلام لها فقال: أخبرني عبد الله بن الخير الحسيني، قال: بلغني أنّ الباقر محمد بن علي عليهما‌السلام - قال -:

__________________

(1) الجوهرة في نسب الامام علي عليه‌السلام : 58.

(2) الاصابة 4 / 289 ترجمة 357.

٢٧٤

كان جالساً ذات يوم إذ جاءه رجلان، فقالا: يا أبا جعفر! ألست القائل أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام لم يرض بإمامة من تقدّمه؟

فقال: بلى.

فقالا له: هذه خولة الحنفيّة نكحها من سبيهم ولم يخالفهم على أمرهم مذ حياتهم؟!

فقال الباقر عليه‌السلام : من فيكم يأتيني بجابر بن عبد الله؟ - وكان محجوباً قد كفّ بصره -.

فحضر وسلّم على الباقر عليه‌السلام فردّ عليه وأجلسه إلى جانبه.

فقال له: يا جابر! عندي رجلان كرا أنّ أمير المؤمنين رضي بإمامة من تقدّم عليه، فاسألهما ما الحجّة في ذلك؟

فسألهما فذكرا له حديث خولة، فبكى جابر حتى اخضلّت لحيته بالدموع.

ثم قال: والله - يا مولاي - لقد خشيت أن أخرج من الدنيا وأن أُسأل عن هذه المسألة، والله إنّي كنت جالساً إلى جنب أبي بكر - وقد سبى بني حنيفة مع مالك بن نويرة من قبل خالد بن الوليد - وبينهم جارية مراهقة -.

فلمّا دخلت المسجد قالت: أيّها الناس! ما فعل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

قالوا: قُبض.

قالت: هل له بنية تقصد؟

قالوا: نعم هذه تربته وبنيته.

فنادت وقالت: السلام عليك يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أشهد أنّك تسمع صوتي وتقدر على ردّ جوابي، وإنّنا سبينا من بعدك، ونحن نشهد أن لا إله إلّا الله وأنّك محمّداً رسول الله...

٢٧٥

ثم جلست فوثب إليها رجلان من المهاجرين أحدهما طلحة والآخر الزبير وطرحا عليها ثوبيهما.

فقالت: ما بالكم - يا معاشر الأعراب - تغيبون حلائلكم وتهتكون حلائل غيركم؟

فقيل لها: لأنّكم قلتم لا نصلّي ولا نصوم ولا نزكّي؟

فقال لها الرجلان اللذان طرحاً ثوبيهما: إنّا لغالون في ثمنك.

فقالت: أقسمت بالله وبمحمّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّه لا يملكني ويأخذ رقبتي إلّا من يخبرني بما رأت أُمّي وهي حاملة بي؟ وأيّ شيء قالت لي عند ولادتي؟ وما العلّامة التي بيني وبينها؟ وإلّا بقرت بطني بيدي فيذهب ثمني ويطالب بدمي.

فقالوا لها: اذكري رؤياك حتى نعبرها لك.

فقالت: الذي يملكني هو أعلم بالرؤيا منّي؟

فأخذ طلحة والزبير ثوبيهما وجلسوا، فدخل أمير المؤمنين عليه‌السلام وقال: ما هذا الرجف في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟!

فقالوا: يا أمير المؤمنين امرأة حنفيّة حرّمت ثمنها على المسلمين وقالت: من أخبرني بالرؤيا التي رأت أُمّي وهي حاملة بي يملكني.

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : ما ادّعت باطلاً، أخبروها تملكوها.

فقالوا: يا أبا الحسن! ما منّا من يعلم، أما علمت أنّ ابن عمّك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد قبض وأخبار السماء قد انقطعت من بعده.

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : أخبرها بغير اعتراض منكم؟

قالوا: نعم.

فقال عليه‌السلام : يا حنفيّة! أخبرك وأملكك؟

فقالت: لعلّك الرجل الذي نصبه لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في صبيحة يوم الجمعة بغدير خم علماً للناس؟

٢٧٦

فقال: أنا ذلك الرجل.

قالت: من أجلك نهبنا، ومن نحوك أتينا، لأنّ رجالنا قالوا: لا نسلّم صدقات أموالنا ولا طاعة نفوسنا إلّا لمن نصبه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله فينا وفيكم علماً.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : إنّ أجركم غير ضائع، وإن الله يوفي كلّ نفس ما عملت من خبر.

ثم قال: يا حنفيّة! ألم تحمل بك اُمّك في زمان قحط قد منعت السماء قطرها، والأرضون نباتها، وغارت العيون والأنهار حتى أنّ البهائم كانت ترد المرعى فلا تجد شيئاً، وكانت اُمّك تقول لك: انّك حمل مشوم في زمان غير مبارك، فلمّا كان بعد تسعة أشهر رأت في منامها كأن قد وضعت بك، وأنّها تقول: إنّك حمل مشوم في زمان غير مبارك، وكأنّك تقولين: يا اُمّي لا تتطيّرن بي فإنّي حمل مبارك أنشأ منشأ مباركاً صالحاً، ويملكني سيّد، واُرزق منه ولداً يكون للحنفيّة عزّاً؟

فقالت: صدقت.

فقال عليه‌السلام : إنّه كذلك وبه أخبرني ابن عمّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

فقالت: ما العلامة التي بيني وبين اُمّي؟

فقال لها: لمّا وضعتك كتبت كلامك والرؤيا في لوح من نحاس وأودعته عتبة الباب، فلمّا كان بعد حولين عرضته عليك فأقررت به، فلمّا كان بعد ستّ سنين عرضته عليك فأقررت به، ثم جمعت بينك وبين اللوح وقالت لك: يا بنيّة إذا نزل بساحتكم سافكٌ لدمائكم، وناهب لأموالكم، وسابٍ لذراريكم، وسبيت فيمن سبي، فخذي اللوح معك واجتهدي أن لا يملكك من الجماعة إلّا من خبرك بالرؤيا وبما في هذا اللوح.

فقالت: صدقت... يا أمير المؤمنين عليه‌السلام .

ثم قالت: فأين هذا اللوح؟

٢٧٧

فقال: هو في عقيصتك.

فعند ذلك دفعت اللوح إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام .

ثم قالت: يا معاشر الناس! اشهدوا أنّي قد جعلت نفسي له عبدة، فقال عليه‌السلام : بل قولي زوجة، فقالت: اشهدوا أن قد زوّجت نفسي - كما أمرني - بعليّ عليه‌السلام . فقال عليه‌السلام : قد قلبتكِ زوجة، فماج الناس، فقال جابر: فملكها والله يا أبا جعفر بما ظهر من حجّته وثبت من بيّنته، فلعن الله من اتّضح له الحقّ ثم جحد حقّه وفضله، وجعل بينه وبين الحقّ ستراً (1) .

* * *

__________________

(1) البحار:

٢٧٨

الصهباء

وهي أم حبيبة بنت ربيعة بن بجير بن العبد بن علقمة بن الحارث بن عتبة بن سعد بن زهير بن جشم بن بكر بن جيب بن عمرو بن غنم بن تغلب بن وائل.

وكانت سبية أصابها خالد بن الوليد في خلافة أبي بكر حين أغار على بني تغلب بناحية عين تمر، ولدت له عمر ورقية (1) .

* * *

__________________

(1) الطبقات الكبرى 3 / 19، البحار 42 / 90.

٢٧٩

أم مسعود

أم مسعود (سعيد) بنت عروة بن مسعود بن معتب بن مالك الثقفي، وولدت له عليه‌السلام رملة وأم الحسن (1) .

* * *

__________________

(1) المصدر نفسه.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

الآية

( قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤) )

التّفسير

إنّ التأكيدات المتتابعة المتوالية والاستدلال المتنوع في هذه السورة في صعيد التوحيد ومكافحة الشرك تنبئ عن أهمية كبرى للموضوع.

وهذه الآية شجبت منطق المشركين من طريق آخر ، حيث قال سبحانه لنبيّه : قل لهم واسألهم : هل من الصحيح أن أطلب ربّا غير الله الواحد في حين أنّه هو المالك والمربّي ، وهو رب كل شيء وبيده أزمة جميع الكائنات ، وحكمه جار في جميع ذرّات الوجود بلا استثناء :( قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ) .

ثمّ إنّه يردّ على جماعة من المشركين المتحجرين ممن قالوا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اتّبعنا وعلينا وزرك إن كان خطأ ، قائلا :( وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها ، وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) فلا يعمل أحد إلّا لنفسه ، ولا يحمل أحد وزر أحد.

( ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) فمآلكم إليه وهو يخبركم عن جميع ما اختلفتم فيه.

٥٤١

بحثان

إنّ هاهنا نقطتين يجب أن نقف عندهما ونلتفت إليهما :

١ ـ ربّما حملنا وزر غيرنا

قد يتوهمّ أنّ الآية الحاضرة التي تبيّن أصلين من الأصول المنطقية المسلّمة لدى جميع الأديان والشرائع (أي مبدأ : لا يعمل أحد إلّا لنفسه ، ولا يعاقب أحد بذنب غيره) تتنافى مع الآيات القرآنية الأخرى ، كما لا توافق جملة من الرّوايات في هذه المجال ، لأنّ الله تعالى يقول في سورة النحل الآية ٢٥ :( لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ ، وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) .

فإذا لم يحمل أحد وزر أحد فكيف يحمل هؤلاء المضلّون وزر الضالّين أيضا.

كما أنّ الأحاديث المرتبطة بـ «السنّة الحسنة» و «السنّة السيئة» المروية بطرق الشيعة والسنّة. تتنافى مع مفهوم الآية الحاضرة كقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من سنّ سنّة حسنة كان له أجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سنّ سنّة سيئة كان عليه وزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء».

ولكن الإجابة على هذا السؤال واضحة ، فإنّ الآية المبحوثة هنا تقول : إنّه لا يحمل أحد وزر أحد من دون سبب ، ولكنّ الآيات والرّوايات المشار إليها سلفا تقول : إذا كان الإنسان مؤسّسا لعمل صالح أو سيءّ يعمل وفقه الآخرون ، أي كان له «التسبيب» والدلالة في قيام الآخرين بعمل معيّن ، وكانت له بالتالي دخالة في وقوعه ، فإنّه ـ ولا شك ـ يشترك معهم في نتائجه وعواقبه ، لأنّه يعتبر ـ في الحقيقة عمله وفعله ، فلا مناص من أن يتحمل تبعاته إنّ خيرا فخير ، وإن شرا فشرّ ، لأنّه هو الذي وضع بيده أساسه الذي قام عليه صرح العمل ، وارتفع بنيانه.

٥٤٢

٢ ـ هل أن أعمال الآخرين الصالحة تنفعنا؟

إنّ التوّهم الآخر الذي يمكن أن يخالج الأذهان حول هذه الآية هو : أنّ الآية تقول : إن عمل كل إنسان لا ينفع إلّا نفسه ، وعلى هذا فإن الأعمال الصالحة التي تهدى إلى الأموات ، بل وحتى الأحياء أحيانا ، لا يمكن أن تنفعهم ، في حين نقرأ في روايات كثيرة مروية عن طريق الشيعة والسنة عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة من أهل البيتعليهم‌السلام أن مثل هذه الأعمال قد تنفع الآخرين ، وإن هذا ينطبق على الجميع ، فلا ينحصر بعمل الولد لوالديه ، بل يشمل كل من يعمل عملا ويهدي ثوابه للآخرين.

هنا مضافا إلى أنّنا نعلم أن الثواب يرتبط بتأثير العمل الصالح المأتي به على روح الإنسان ودوره في تكامل الإنسان ورقيّه ، ولكنّ الذي لم يعمل عملا صالحا قط ، بل ولم يكن له أية دخالة في مقدماته كذلك ، فكيف يمكن أن ينشأ منه أثر روحي ومعنوي؟؟

ولقد واصل البعض طرح هذا الإشكال بصورة مسهبة ، ولم يكن الأفراد العاديون وحدهم هم الذين طرحوه ، بل تأثر به بعض المفسّرين والكتاب ، مثل كاتب «المنار» إلى درجة أنّهم تناسوا كثيرا من الأحاديث والرّوايات المسلّمة ، ولكن مع الالتفات إلى نقطتين يتضح الجواب على هذا الإشكال.

١ ـ صحيح أن عمل كل إنسان سبب لتكامله بالخصوص ، وأنّ نتائج الأعمال الصالحة وآثارها الواقعية عائدة إلى القائم بالعمل الصالح ، تماما كما تكون «الرّياضة» ، و «التّعليم والتّربية» من كل أحد سببا لتقوية جسم فاعلها وروحه ونفسه ، وتكاملهما.

ولكن عند ما يعمل أحد عملا صالحا لشخص آخر ، فإنّه إنّما يفعله حتما لأجل أن ذلك الشخص يمتلك امتيازا على غيره وصفة حسنة ، أو لأنّه كان مربيّا صالحا ، أو تلميذا صالحا ، أو صديقا طيبا أو جارا وفيا له ، أو كان عالما خدوما

٥٤٣

للمجتمع ، أو مؤمنا مخلصا ، أو يمتلك أدنى حد من الصلاح في حياته ، يوجب جلب أنظار الآخرين ، ويسبب في أن يعملوا أعمالا صالحة ويهدونها إليه.

وعلى هذا فذلك العمل ـ في الحقيقة ـ إنّما يكون نتيجة لذلك الامتياز ، ونتيجة للصفة الحسنة المذكورة ، وللنقطة المضيئة في شخصيته وحياته ، ولهذا يكون قيام الآخرين بالأعمال الصالحة له إنما هو أشعة من ضوء علمه الطيب أو نيتّه الصالحة ، ونتيجة لتلك الخصلة الحسنة التي يتّصف بها.

٢ ـ المثوبات التي يعطيها الله تعالى للأشخاص على نوعين : مثوبات تتناسب مع وضع تكاملهم الروحي وصلاحيتهم ، يعني أن أرواحهم ونفوسهم قد تسمو بسبب قيامهم بالأعمال الصالحة سموا كبيرا ، وترتقي في سلّم الكمال رقيا عظيما إلى درجة يصلحون للعيش في عوالم أعلى وأفضل ، ويرتفعون بما صنعوه على أجنحة العقيدة والعمل الصالح.

ولكن حيث أنّ أيّ عمل صالح هو إطاعة لأمر الله سبحانه ، ويستحق المطيع لإطاعته أجرا ومثوبة ، فإنّه يمكنه أن يهدي ذلك الثواب والأجر إلى غيره بإرادته ورغبته ، تماما ، مثل أستاذ متخصّص في شعبة مهمّة من العلوم يدرّس في جامعة من الجامعات ، فإنّه لا ريب في أنّه يصل بتدريسه إلى نتيجتين : فهو من جهة يصل ـ في ضوء تدريسه ـ إلى درجات علمية أكمل وأقوى ، وهو في نفس الوقت يحصل على أموال لقاء خدمته ، ولا ريب في أنّه لا يستطيع أن يهدي النتيجة الأولى لأحد لأنّها خاصّة به ، ولكنّه يمكنه أن يقدم (أو يهدي) النتيجة الثانية إلى من يرغب ويحب.

إنّ إهداء (ثواب) الأعمال الصالحة من جانب العاملين بها إلى الأموات ، بل وإلى الأحياء أحيانا ، إنّما هو من هذا النمط ومن هذا القبيل.

وبهذا يرتفع وينتفي أي إبهام يحوم حول هذه الأحاديث.

ولكن يجب أن نعلم بأنّ المثوبات التي تصل إلى الآخرين عن هذا الطريق لا

٥٤٤

يمكن أن تضمن سعادتهم ، بل تصيبهم منها آثار قليلة والأصل والأساس في نجاتهم إنّما هو إيمانهم وعملهم أنفسهم.

* * *

٥٤٥

الآية

( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥) )

التّفسير

في هذه الآية التي هي آخر الآيات من سورة الأنعام إشارة إلى أهمية مقام الإنسان ومكانته في عالم الوجود لتكميل الأبحاث الماضية في مجال تقوية دعائم التوحيد ، ومكافحة الشرك ، يعني أن يعرف الإنسان قيمة نفسه ، كأرقى وأفضل كائن في عالم الخلق ، ولا يسجد للخشب والحجر ، ولا يركع أمام الأصنام المختلفة الأخرى ، ولا يقع في أسرها ، بل يكون أميرا وحاكما عليها بدل أن يكون أسيرا ومحكوما لها.

لهذا قال تعالى في مطلع كلامه :( هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ ) (١) .

إن الإنسان الذي هو خليفة الله في أرضه ، والذي سخرت له كل منابع هذا

__________________

(١) «الخلائف» كما في المفردات للراغب ـ جمع خليفة «وخلفاء» جمع «خليف» وهما بمعني من يقوم مقام أحد بعده ، والتاء المضافة إلى الكلمة تفيد المبالغة ، وقال جمع آخر من أهل اللغة : الخلائف جمع خليف وخليفة.

٥٤٦

العالم وصدر الأمر بحكومته على جميع الموجودات من جانب الله تعالى ، لا يجوز أن يسمح لنفسه بالسقوط إلى درجة السجود للجمادات.

ثمّ أشار سبحانه إلى اختلاف المواهب والاستعدادات في المواهب البدنية والروحية لدى البشر ، والهدف من هذا الاختلاف والتفاوت ، فيقول :( وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ ) من المواهب المتنوعة والمتفاوتة ويختبركم بها.

ثمّ تشير في خاتمة الآية الحاضرة إلى حرية الإنسان في إختيار طريق السعادة وطريق الشقاء نتيجة هذه الاختبارات والابتلاءات ، إذ يقول :( إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) ، فإنّ ربّك سريع العقاب مع الذين يفشلون في هذا الاختبار ، وغفور رحيم للذين ينجحون فيه ويسعون لإصلاح أخطائهم.

التفاوت بين أفراد البشر ومبدأ العدالة :

لا شك أنّ بين أفراد البشر طائفة من الاختلافات والفوارق المصطنعة ، التي هي نتيجة المظالم التي يمارسها بعض أفراد البشر ضد الآخرين ، فهناك مثلا جماعة يمتلكون ثروات هائلة ، وجماعات أخرى تعاني من الفقر المدقع ، جماعة يعانون من الجهل والأمية بسبب عدم توفّر مستلزمات الدراسة ، وجماعة أخرى تبلغ المراتب العليا في الثقافة والعلم بسبب توفّر كلّ الوسائل اللازمة للتحصيل والدراسة.

جماعة يعانون من المرض والعلّة بسبب سوء التغذية وندرة الوسائل الصحيّة ، في حين يحظى أفراد معدودون بقدر كبير من السلامة والعافية ، بسبب توفر جميع الإمكانيات.

إنّ مثل هذه الفوارق والاختلافات : الثروة والفقر ، والعلم والجهل ، والسلامة المرض ، هي في الأغلب وليدة الاستعمار والاستثمار ، وهي مظاهر مختلفة

٥٤٧

للعبودية والمظالم الظاهرة والخفية.

إنّ من المسلّم أنه لا يمكن أن تعتبر هذه الأمور من فعل المشيئة الإلهية ، وليس من الصحيح مطلقا الدفاع عن مثل هذه الاختلافات غير المبرّرة أساسا.

ولكن في نفس الوقت لا يمكن إنكار أنّه حتى لو روعيت جميع أصول العدالة في المجتمع الإنساني ـ أيضا ـ فإنّه لا يتساوى الناس جميعا من حيث القابليات ومن حيث الفكر ، والذوق ، وفي الذكاء ، والسليقة وحتى من جهة التركيب البدنيّ.

ولكن هل وجود هذه الاختلافات والفوارق مخالف لمبدأ العدالة ، أو أنّه على العكس يكون هو العدل بمعناه الواقعي ، يعني أنّ مبدأ وضع كل شيء في محلّه يوجب أن يكون الأفراد غير متساوين.

إذا كان جميع الأفراد في المجتمع الإسلامي متساوين ومتشابهين في المواهب والقابليات كالقماش أو الأواني التي تخرج من مصنع واحد ، كان المجتمع الإنساني ـ حينئذ ـ مجتمعا ميتا ساكنا جامدا عاريا عن التحرك والتكامل.

انظروا إلى نبتة الورد ، فهناك جذور قوية متينة ، وسوق رقيقة ، ولكنّها متينة نوعا مّا ، وفروع ألطف ، ثمّ أوراق وأوراد بعضها ألطف من بعض ، وهذه المجموعة المتنوعة في تراكيبها والمختلفة في متانتها ولطافتها تشكل نبتة وردة جميلة تختلف فيها الخلايا بحسب اختلافها في وظائفها ، وتختلف فيها القابليات والاستعدادات بحسب اختلافها ووظائفها.

إن نفس هذا الموضوع يلحظ في العالم البشري ، فأفراد البشر يشكلون من حيث المجموع شجرة كبيرة واحدة يقوم كل فرد برسالة خاصّة في هذا الصرح العظيم ، وله بنيان مخصوص يتلاءم مع وظائفه.

ولهذا يقول القرآن الكريم : إنّ هذه الفوارق وهذا التفاوت وسيلة لاختباركم

٥٤٨

وامتحانكم ، لأن الاختبار والامتحان الإلهي ـ كما قلنا سابقا ـ يعني «التربية».

وبهذا يجاب على كل اعتراض وإشكال يورد في المقام على أثر الفهم الخاطئ لمفهوم الآية.

خلافة الإنسان في الأرض :

إنّ النقطة الأخرى الجديرة بالاهتمام ، هي أن القرآن الكريم وصف الإنسان مرارا بالخلافة ، وأنّه خليفة الله في أرضه ، أن هذا الوصف ، وهذا التعبير ضمن بيانه لمكانة الإنسان يبين هذه الحقيقة أيضا ، وهي : أن الله تبارك وتعالى هو المالك الأصلي والحقيقي للأموال والثروات والقابليات ، وجميع المواهب الإلهية الممنوحة للإنسان ، وما الإنسان ـ في الحقيقة ـ إلّا خليفة الله وكيل من جانبه ، ومأذون من قبله.

ومن البديهي أن الوكيل ـ مهما كان ـ فهو غير مستقل في تصرفاته ، بل يجب أن تخضع تصرفاته لإذن صاحبها الأصلي ، وتقع ضمن إجازته.

ومن هنا يتضح أن الإسلام ـ مثلا ـ يختلف عن النظام الشيوعي ، وكذا عن النظام الرأسمالي في مسألة المالكية ، لأنّ الفريق الأوّل يخصّص الملكية بالجماعة ، والفريق الثاني يخصصها بالفرد ، بينما يقول الإسلام : الملكية لا هي للفرد ولا هي للمجتمع ، بل هي في الحقيقة لله تعالى ، والناس وكلاء الله ، وخلفاؤه.

وبهذا الدليل نفسه يراقب الإسلام طريقة تصرّف الأفراد في الأموال كسبا وصرفا ، ويضع لكل ذلك قيودا وشروطا تجعل الاقتصاد الإسلامي نظاما متميّزا في مقابل الأنظمة الأخرى.

«ختام سورة الانعام»

٥٤٩
٥٥٠

سورة الأعراف

مكيّة

وعدد آياتها مائتان وستّ آيات

٥٥١
٥٥٢

سورة الأعراف

هذه السورة من السور المكية إلّا قوله تعالى :( وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ ) ـ إلى ـ( بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ) ، الذي نزل في المدينة.

عدد آيات هذه السورة (٢٠٦) آية أو (٢٠٥) كما عليه البعض.

لمحة سريعة عن محتويات هذه السّورة :

إن أكثر السور القرآنية (٨٠ إلى ٩٠ سورة) ـ كما نعلم ـ نزلت في مكّة ، ونظرا إلى الأوضاع التي كانت سائدة في المحيط المكّي ، وحالة المسلمين خلال ١٣ عاما ، وكذا بالإمعان في صفحات التّأريخ الإسلامي بعد الهجرة ، يتضح بجلاء أن هناك فرقا بين لحن السور المكية والسور المدنية.

ففي السّور المكية يدور الحديث ـ غالبا ـ حول المبدأ والمعاد ، وحول إثبات التوحيد ، ويوم القيامة ، ومكافحة الشرك والوثنية ، وتقوية مكانة الإنسان ودعم موقعه في عالم الخلق ، لأنّ الفترة المكّية كانت تشكل فترة بناء المسلمين من حيث العقيدة ، وتقوية أسس الإيمان كأسس وقواعد لـ «نهضة متجذرة».

ففي الفترة المكية كان على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يطهّر العقول والأذهان من جميع الأفكار الوثنية الخرافية ، ويغرس محلّها روح التوحيد ، والعبودية لله تعالى ، والإحساس بالمسؤولية لأفراد الطبقة المسحوقة والمحقّرة في اطار العهد الوثني بشخصيتهم الحضارية وهويتهم وكرامتهم الإنسانية ، وحقيقة موقعهم في نظام الوجود ، وعالم الخلق ، ليصنع ـ بالتالي ـ من ذلك الشعب الوضيع المشحون

٥٥٣

بالخرافة ، أمة ذات شخصية قوية ، وذات إرادة صلبة ، وإيمان فاعل ، وقد كان هذا البناء العقائدي القوي الذي تم على يد رسول الإسلام في هدي القرآن في مكّة ، هو السبب في تقدم الإسلام المطّرد في المدينة.

إن آيات السور المكية كذلك تتناسب جميعها مع هذا الهدف الخاص.

أمّا الفترة المدينة ، فقد كانت فترة تشكيل وتأسيس الحكومة الإسلامية ، فترة الجهاد في مقابل الأعداء ، فترة تأسيس وبناء مجتمع سليم على أساس القيم الإنسانية ، والعدالة الاجتماعية.

ولهذا تهتم السور المدنية في كثير من آياتها بتفاصيل القضايا الحقوقية ، والأخلاقية والاقتصادية ، والجزائية ، وغير ذلك من الحاجات الفردية والاجتماعية.

وإذا أراد المسلمون اليوم أن يستعيدوا عظمتهم الغابرة ، ومجدهم القديم ، وجب عليهم أن ينفّذوا هذا البرنامج بالذات ، وأن يطووا هاتين الفترتين بصورة كاملة ، فإنّه ما لم تتوطد الأسس العقائدية ، وما لم يتم بناؤها بشكل محكم لم تحظ اللّبنات الفوقية والبناء الحضاري للمجتمع بالمتانة والقوة اللازمة.

وعلى كل حال فحيث أن سورة الأعراف من السور المكية ، لذلك تجلّت فيها جميع خصائص السورة المكية ولهذا نرى : كيف أنّها أشارت في البدء إلى مسألة «المبدأ والمعاد».

ثمّ بهدف إحياء شخصية الإنسان شرحت ـ باهتمام وعناية كبيرة ـ قصّة خلق آدم.

ثمّ عدّدت ـ بعد ذلك ـ المواثيق التي أخذها الله تعالى من أبناء آدم في مسير الهداية والصلاح ، واحدا واحدا.

ثمّ للتدليل على هزيمة وخسران الجماعات التي تحيد عن سبيل التوحيد والعدالة والتقوى. وكذا للتدليل على نجاح المؤمنين الصادقين وانتصارهم ،

٥٥٤

ذكرت قصص كثير من الأقوام الغابرة والأنبياء السابقين مثل «نوح» و «لوط» و «شعيب» وختمت ذلك ببيان قصة بني إسرائيل ، وجهاد «موسى» ضدّ فرعون ، بصورة مفصّلة.

وفي آخر السورة عادت مرّة أخرى إلى مسألة المبدأ والمعاد ، بهذا تتناغم البداية والخاتمة.

أهمية هذه السّورة :

جاء في تفسير العياشي عن الإمام الصادق أنّه قال : «من قرأ سورة الأعراف في كل شهر كان يوم القيامة من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون فإن قرأها في كل جمعة كان ممن لا يحاسب يوم القيامة (وكذا قال : ) أمّا أن يكون فيها محكما فلا تدعوا قراءتها والقيام بها فإنّها تشهد يوم القيامة لمن قرأها»(١) .

إن ما يستفاد من الحديث الحاضر بوضوح هو أن هذه الرّوايات والأحاديث الواردة في فضل السور لا تعني أن مجرّد قراءتها تنطوي على كل تلك النتائج ، والثمرات الكبرى ، بل إنّ ما يعطي هذه القراءة القيمة النهائية هو الإيمان بمضامين السورة ، ثمّ العمل على طبقها.

ولهذا جاء في الرواية الحاضرة : قراءتها وتلاوتها والقيام بها. كما أنّنا نقرأ في هذه الرواية أنّهعليه‌السلام قال : «من قرأ هذه السورة كان يوم القيامة من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون».

وفي الحقيقة فإنّ هذه إشارة لطيفة إلى الآية (٣٥) من هذه السورة ، التي يقول فيها سبحانه :( فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) .

فهذه المنزلة ـ كما يلاحظ القارئ الكريم ـ مخصوصة بالذين اتقوا ، وسلكوا سبيل الصلاح ، هذا مضافا إلى أنّ القرآن الكريم كتاب «عقيدة» و «عمل»

__________________

(١) تفسير البرهان ، المجلد الثاني ، الصفحة ٢ ونور الثقلين ، المجلد الثاني ، الصفحة ٢.

٥٥٥

والقراءة والتلاوة تعتبران مقدمة لهذا الموضوع.

قال الراغب في كتاب «المفردات» في مادة : تلاوة : قوله :( يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ ) (١) ، إتباع القرآن بالعلم والعمل.

وهذا يعني أنّ للتلاوة مفهوما أعلى من مفهوم القراءة ، فهي مقرونة بنوع من التدبر والتفكر والعمل.

* * *

__________________

(١) البقرة ، ١٢١.

٥٥٦

الآيات

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ )

( المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٣) )

التّفسير

في مطلع هذه السّورة نواجه مرّة أخرى «الحروف المقطّعة» وهي هنا عبارة عن : الألف واللام والميم ، والصاد.

وقد سبقت منّا أبحاث مفصّلة عند تفسير هذه الحروف في مطلع سورة «البقرة» وكذا : «آل عمران».

وهنا نلفت النظر إلى تفسير آخر من التفاسير المطروحة في هذا الصعيد استكمالا للبحث وهو : أنّه يمكن أن يكون أحد الأهداف لهذه الحروف هو جلب انتباه المستمعين ، ودعوتهم إلى السكوت والإصغاء ، لأنّ وجود هذه الحروف في مطلع الكلام موضوع عجيب لم يسبق له مثيل في نظر العرب ، ومن شأنها أن تثير في العربي حبّ الاستطلاع ، وتدعوه إلى متابعة الكلام إلى نهايته.

ومن الاتفاق أنّ غالب السور المبدوءة بالحروف المقطّعة هي السور التي نزلت في مكّة ، ونحن نعلم أن المسلمين في مكّة كانوا أقليّة ، وكان أعداؤهم وخصومهم خصوما ألدّاء اشتد عنادهم إلى درجة أنّهم ما كانوا على استعداد

٥٥٧

حتى لاستماع كلام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل ربّما أثاروا ضجيجا ، ورفعوا الأصوات في وجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند قراءته للآيات القرآنية ليضيع في زحمتها وخضمّها نداؤهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو ما أشارت إليه بعض الآيات (مثل الآية ٢٦ سورة فصلت السجدة).

كما أننا نقرأ في بعض الرّوايات والأحاديث المروية عن أهل البيتعليهم‌السلام أنّ هذه الحروف رموز وإشارة إلى أسماء الله ، فـ «المص» في السورة المبحوثة مثلا إشارة إلى جملة : أنا الله المقتدر الصادق.

وبهذا الطريق يكون كل واحد من الحروف الأربعة صورة مختصرة عن أحد أسماء الله تعالى.

ثمّ إنّ موضوع إحلال الصياغات المختصرة محلّ الصياغات المفصّلة للكلمات كان أمرا رائجا من قديم الزمان ، وإن حصل مثل هذا في عصرنا أيضا بشكل أوسع ، حيث اختصرت الكثير من العبارات الطويلة ، وكذا أسامي المؤسسات أو الهيئات في كلمة قصيرة أو أحرف معدودة.

على أن ثمّة نقطة تستحق التنويه بها هنا ، وهي أنّ التفاسير والتحاليل المختلفة عن «الحروف المقطعّة» لا تتنافي ولا تتناقض فيما بينها ، ويمكن أن تكون جميع التفاسير بطونا مختلفة من بطون القرآن.

ثمّ يقول تعالى في الآية اللاحقة :( كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ ) .

و «الحرج» في اللغة يعني الشعور بالضيق وأي نوع من أنواع المعاناة ، والحرج في الأصل يعني مجتمع الشجر الملتفّ أوّلا ثمّ المنتشر ، وهو يطلق على كل نوع من أنواع الضيق.

إنّ العبارة الحاضرة تسلّي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتطمئن خاطره بأنّ هذه الآيات نازلة من جانب الله تعالى فيجب أن لا يشعرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأيّ ضيق وحرج ، لا من ناحية ثقل

٥٥٨

الرسالة الملقاة على عاتقه ، ولا من ناحية ردود فعل المعارضين والأعداء الألدّاء تجاه دعوته ، ولا من ناحية النتيجة المتوقعة من تبليغه ودعوته.

هذا ويمكن إدراك المشكلات التي كانت تعرقل حركة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إدراكا كاملا إذا عرفنا أن هذه السورة من السور المكّية ، ونحن وإن كنّا نعجز عن تصوّر جميع الجزئيات والتفاصيل المرتبطة بحياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصحبه في المحيط المكي ، وفي مطلع الدّعوة الإسلامية ، ولكن مع الالتفات إلى حقيقة أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان عليه أن يقوم بنهضة ثورية في جميع المجالات والأصعدة في تلك البيئة المتخلفة جدا وفي مدّة قصيرة ، يمكن أن نتصور على نحو الإجمال أبعاد وأنواع الصعاب التي كانت تنتظره.

وعلى هذا الأساس يكون من الطبيعي أن يعمد الله سبحانه إلى تسلية النّبي وتطمينه بأن لا يشعر بالضيق والحرج ، وأن يطمئنّ إلى نتيجة جهوده.

ثمّ يضيف تعالى في الجملة اللاحقة أن الهدف من نزول هذا الكتاب العزيز هو إنذار الناس وتحذيرهم من عواقب نواياهم وأعمالهم الشريرة ، وتذكير المؤمنين الصادقين ، إذا يقول :( لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ ) (١) .

هذا ومجيء قضية «الإنذار» في صورة الأمر العام الموجّه للجميع ، واختصاص«التذكير» بالمؤمنين خاصّة ، إنّما هو لأجل أنّ الدعوة إلى الحق ، ومكافحة الانحرافات يجب أن تتمّ بصورة عامّة وشاملة ، ولكن من الواضح أنّ المؤمنين هم وحدهم الذين ينتفعون بهذه الدعوة ، أولئك الذين تتوفر لديهم أرضيات مستعدّة لقبول الحق ، وقد أبعدوا عن أنفسهم روح العناد واللجاج وسلّموا أمام الحقائق.

__________________

(١) وعلى هذا الأساس فإن جملة «لتنذر» تتعلق بـ «أنزل» وليس بجملة «فلا يكن» ولعل جعل هذه الجملة (أي جملة لتنذر) بعد جملة «فلا يكن في صدرك حرج» لأجل أنّه يجب أوّلا إعداد النّبي في طريق الدعوة ، ثمّ اقتراح الهدف وهو الإنذار عليه (تأمل جيدا).

٥٥٩

وقد جاءت هذه العبارة بعينها في مطلع سورة البقرة إذا يقول تعالى :( ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) (وللمزيد من التوضيح راجع تفسير الآية ٢ من سورة الحمد).

ثمّ إنّه سبحانه يوجه خطابه إلى عامّة الناس يقول :( اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْرَبِّكُمْ ) وبهذا الطريق يكون قد بدأ الحديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومهمّته ورسالته ، وانتهى بوظيفة الناس وواجبهم تجاه الرسالة.

وللتأكيد يضيف سبحانه قائلا :( وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ) فلا تتبعوا غير أوامر الله ، ولا تختاروا وليا غير الله.

وحيث إنّ الخاضعين للحق والمذكرين قليلون ، لذا قال في ختام الآية :( قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ ) .

ومن هذه الآية يستفاد أنّ الإنسان يواجه طريقين (أو خيارين) إمّا القبول بولاية الله وقيادته ، وإمّا الدخول تحت ولاية الآخرين ، فإذا سلك الطريق الأوّل كان الله وليّه ، وأمّا إذا دخل تحت ولاية الآخرين فإن عليه ـ حينئذ ـ أن يخضع في كل يوم لواحد من الأرباب ، وأن يختار ربّا جديدا.

وكلمة «الأولياء» التي هي جميع «ولي» إشارة إلى هذا المعنى.

* * *

٥٦٠

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611