الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل12%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 254764 / تحميل: 6686
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

الآيتان

( وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩٥) )

التّفسير

إذ لم تنفع المواعظ :

إنّ هذه الآيات ـ التي ذكرت بعد استعراض قصص مجموعة من الأنبياء العظام ، مثل نوح وهود وصالح ولوط وشعيب ، وقبل أن يعمد القرآن الكريم إلى استعراض قصّة موسى بن عمران ـ إشارة إلى عدّة أصول وقواعد عامّة تحكم في جميع القصص والحوادث ، وهي قواعد وأصول إذا فكّرنا فيها كشفت القناع عن حقائق قيمة ترتبط بحياتنا ـ جميعا ـ ارتباطا وثيقا.

في البداية يقول :( وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ) فالصعاب والمشاق والبلايا التي تصيب الأفراد إنّما يفعلها الله بهم عسى أن ينتبهوا ، ويتركوا طغيانهم ، ويرجعوا إلى الله ويتوبوا إليه.

١٢١

وذلك لأنّ الناس ما داموا في الرخاء والرفاه فهم في غفلة ولما يكون لديهم استعداد وقابلية لقبول الحق. أمّا عند ما يتورّطون في المحنة والبلاء ، يشرق نور فطرتهم وتوحيدهم ويتذكرون الله قهرا بلا اختيار ، وتستعد قلوبهم لقبول الحق.

ولكن هذه اليقظة والنهضة ليست عند الجميع على حدّ سواء ، فهي في كثير من الناس سريعة وعابرة وغير ثابتة ، وبمجرّد أن تزول المشكلات يعودون إلى غفلتهم وغفوتهم ، ولكن هذه المشكلات تعتبر بالنسبة إلى جماعة آخرين نقطة تحول في الحياة ، ويعودون إلى الحق إلى الأبد.

والأقوام الذين جرى الحديث ـ في الآيات السابقة ـ حولهم كانوا من النمط الأوّل.

ولهذا قال تعالى في الآية اللاحقة : عند ما لم تغيّر تلك الجماعات سلوكها ومسيرها تحت ضغط المشكلات والحوادث ، بل بقوا في الضلال ، رفعنا عنهم المشكلات وجعلنا مكانها النعم والرخاء فازدهرت حياتهم وكثر عددهم وزادت أموالهم( ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا ) .

و «عفوا» من مادة «عفو» التي تكون أحيانا بمعنى الكثرة ، وأحيانا بمعنى الترك والإعراض ، وتارة تكون بمعنى محو آثار الشيء. ولكن لا يبعد أن يكون أصل جميع تلك الأمور هو الترك ، غاية ما هنالك قد يترك شيء لحاله حتى يتجذر ، ويتوالد ويتناسل ويزداد ، وربّما يترك حتى يهلك وينهدم تدريجا وشيئا فشيئا. ولهذا جاء بمعنى الزيادة والهلاك معا.

وقد احتمل المفسّرون في الآية المبحوثة ثلاثة احتمالات أيضا :

الأوّل : أنّنا أعطيناهم إمكانيات حتى يزدادوا فيستعيدوا كل ما فقدوه ـ في فترة الشدّة والضراء ـ من الأفراد والأموال.

الآخر : أنّنا أعطيناهم نعما كثيرة جدا بحيث غرتهم ، فنسوا الله ، وتركوا شكره.

الثّالث : أنّنا أعطيناهم نعما كي يستطيعوا بها أن يزيلوا أثار فترة النكبة

١٢٢

ويمحوها.

إنّ هذه التفاسير وإن كانت متفاوتة من حيث المفهوم ، ولكنّها من حيث النتيجة متقاربة فيما بينها.

ثمّ أضاف : أنّهم عند زوال المشكلات بدل أن يلتفتوا إلى هذه الحقيقة وهي «النعمة» و «النقمة» بيد الله ، وأنّهم راجعون إلى الله ، يتذرعون ـ لخداع أنفسهم ـ بهذا المنطق ، وهو إذا تعرضنا للمصائب والبلايا ، فإنّ ذلك ليس بجديد ، فقد مس آباءنا الضراء والسراء ، وكانت لهم حالات رخاء وحالات بلاء ، فالحياة لها صعود ونزول ، والصعاب أمواج غير ثابتة وسريعة الزوال( وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ ) . فهي إذن قضية طبيعية ، ومسألة اعتيادية.

فيقول القرآن الكريم في الختام : إنّ الأمر عند ما بلغ إلى هذا الحد ، ولم يستفيدوا من عوامل التربية ـ أبدا ـ بل ازدادوا غرورا وعنجهيّة وتكبرا أهلكناهم فجأة ومن غير سابق إنذار ، لأنّ ذلك أشد إيلاما ونكالا لهم ، وعبرة لغيرهم :( فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) .

* * *

١٢٣

الآيات

( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (٩٩) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (١٠٠) )

التّفسير

التّقدم والعمران في ظل الإيمان والتقوى :

في الآيات الماضية وقع البحث فيما جرى لأقوام مثل قوم هود وصالح وشعيب ونوح ولوط على نحو الإجمال ، وإن كانت تلك الآيات كافية لبيان

١٢٤

النتائج المشحونة بالعبر في هذه القصص ، ولكن الآيات الحاضرة تبيّن النتائج بصورة أكثر وضوحا فتقول :( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ) ، أي لو أنّهم سلكوا سبيل الإيمان والتقوى ، بدل الطغيان والتمرد وتكذيب آيات الله والظلم والفساد ، لم يتخلصوا من غضب الله وعقوبته فسحب ، بل لفتحت عليهم أبواب السماء والأرض.

ولكن للأسف ـ تركوا الصراط المستقيم الذي هو طريق السعادة والرفاه والأمن ، وكذبوا الأنبياء ، وتجاهلوا برامجهم الإصلاحية ، فعاقبناهم بسبب أعمالهم( وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) .

* * *

بحوث

وهنا مواضيع ينبغي الوقوف عندها :

١ ـ بركات الأرض والسماء

لقد وقع حديث بين المفسّرين في ما هو المراد من «بركات» الأرض والسماء؟فقال البعض : إنّها المطر ، والنباتات التي تنبت من الأرض.

وفسّرها البعض بإجابة الدعاء ، وحل مشاكل الحياة.

ولكن هناك احتمال آخر ـ أيضا ـ هو أنّ المراد من البركات السماوية هي البركات المعنوية ، والمراد من البركات الأرضية هي البركات المادية.

ولكن مع ملاحظة الآيات السابقة يكون التّفسير الأوّل أنسب من الجميع ، لأنّه في الآيات السابقة التي شرحت

العقوبات الشديدة التي حلّت بالمجرمين والطغاة ، فأشارت تارة إلى نزول السيول من السماء وطغيان الينابيع والعيون من الأرض (مثل طوفان نوح) وأخرى إلى الصواعق والصيحات السماوية ، وثالثة إلى الزلازل الأرضية الرهيبة.

١٢٥

وفي الآية المطروحة هنا طرحت هذه الحقيقة على بسط البحث ، وهي : أنّ العقوبات ما هي إلّا لأفعالهم هم ، وإلّا فلو كان الإنسان طاهرا مؤمنا ، فإنّه بدل أن يحل العذاب السماوي أو الأرضي بساحته ، تتواتر عليه البركات الإلهية من السماء والأرض أجل ، إنّ الإنسان هو الذي يبدل البركات بالبلايا.

٢ ـ معنى «البركات»

«البركات» جمع «بركة» وهذه الكلمة ـ كما أسلفنا ـ تعني في الأصل «الثبات» والاستقرار ، ويطلق على كل نعمة وموهبة تبقى ولا تزول ، في مقابل الموجودات العارية عن البركة ، والسريعة الفناء والزوال ، والخالية عن الأثر.

والملفت للنظر أنّ فائدة التقوى والإيمان لا تقتصر على نزول البركات الإلهية ، بل هما سبب في أن يصرف الإنسان ما لديه في المصارف اللازمة الصحيحة.

ففي المثل نلاحظ اليوم أنّ قسما كبيرا من الطاقات الإنسانية ، والمصادر الاقتصادية تصرف في سبيل سباق التسلح وصنع الأسلحة المدمّرة. وبذلك تنعدم البركة فيها ، ولا تثمر سوى الدمار والخراب ، ولكن المجتمعات البشرية إذا تحلّت بالتقوى والإيمان ، فإنّ هذه المواهب الإلهية سيكون لها وضع آخر ، ومن الطبيعي أن تبقى آثارها وتخلد ، وتكون مصداقا لكلمة البركات.

٣ ـ ماذا يعني «الأخذ»؟

في الآية أعلاه استعملت كلمة «أخذ» في مفهوم المجازاة والعقوبة ، وهذا في الحقيقة لأجل أنّ الشخص الذي يراد عقوبته يؤخذ أوّلا في العادة ، ثمّ يوثق بوسائل خاصّة حتى لا تبقى له قدرة على الفرار ، ثمّ يعاقب.

١٢٦

٤ ـ المفهوم الواسع للآية

إنّ الآية الحاضرة وإن كانت ناظرة إلى وضع الأقوام الغابرة ، ولكنّه من المسلّم أن مفهومها مفهوم واسع وعام ودائم ، ولا تنحصر في شعب معين أو قوم خاص ، فإنّها سنة إلهية أن يبتلى غير المؤمنين ، والمتورطين في المعاصي والذنوب بأنواع مختلفة ومتنوعة من البلايا في هذه الدنيا ، فربّما ينزل عليهم البلاء السماوي والأرضي ، وربّما تشتعل نيران الحروب العالمية أو المحلية فتبتلغ أموالهم وتبيدها وربّما يفارقهم الأمن والاستقرار ، فتسحق المخاوف والهواجس بأظلافها أبدانهم ونفوسهم ، وحسب تعبير القرآن يكون كل ذلك بما كسبت أيديهم ورد فعل لأعمالهم.

إن فيض الله ليس محدودا ولا ممنوعا ، كما أنّ عقوباته لا تختص بقوم أو شعب.

لماذا تعيش الأمم الكافرة في الرخاء؟

من كل ما قلناه يتّضح الجواب على سؤال يدور كثيرا بين جماعة من الناس ، وهو : إذا كان الإيمان والتقوى يبعثان على نزول أنواع البركات الإلهية ، ويكون العكس موجبا لسلب البركات ، فلما ذا نشاهد الشعوب غير المؤمنة ترفل في الرخاء والرفاه ، في حين يعيش جماعة من أهل الإيمان بعسر ومشقّة؟

إنّ الإجابة على هذا السؤال تتّضح بملاحظة نقطتين :

١ ـ إنّ تصوّر أنّ الشعوب غير المؤمنة الفاقدة للتقوى ترفل في النعمة والرخاء وتغرق في السعادة هو تصور خاطئ ينبع من اشتباه أكبر ، وهو اعتبار الثروة دليلا على السعادة.

إنّ الناس يتصورون ـ عادة ـ أنّ كل شعب امتلك صناعة أكثر تقدما ، وثروة أكبر ، كان أسعد من غيره ، في حين لو تسنى لنا أن ننفذ إلى أعماق هذه

١٢٧

المجتمعات ونلاحظ الآلام الممضة التي تحطم روح هذه الشعوب وجسمها عن كثب ، فسوف نسلّم أن أكثر تلك الشعوب هي من أشقى سكان الأرض.

هذا بغض النظر عن أنّ هذا التقدم النسبيّ إنّما هو نتيجة استخدامهم لأصول ومبادئ مثل السعي والاجتهاد ، والنظم والشعور بالمسؤولية التي هي جزء من تعاليم الأنبياء ، ومن صلب توجيهاتهم.

في هذه الأيّام ـ التي نكتب فيها هذا القسم من التّفسير ـ نشرت الجرائد والصحف أنّه حدث في نيويورك ـ التي هي واحدة من أكبر نقاط العالم المادي ثروة وأكثرها تقدما ـ حادث جدّ عجيب على أثر انقطاع فجائي للتيار الكهربائي ، وذلك الحادث هو أنّ كثيرا من الناس هاجموا المحلات والمخازن وسرقوا كل ما فيها بحيث أن ثلاثة آلاف من المغيرين على المحلات اعتقلوا بواسطة البوليس.

إنّ من المسلّم أن عدد المغيرين ـ في الواقع ـ أكثر بأضعاف من هذا العدد ، وهذا العدد هم الذين لم يمكنهم الفرار والهرب والنجاة من قبضة البوليس ، كما أنّه من المسلّم أن المغيرين لم يكونوا سراقا محترفين هيّئوا أنفسهم من قبل لمثل هذه الإغارة العمومية ، لأنّ الحادثة المذكورة كانت حادثة فجائية.

من هذا نستنتج أنّه مع حالة انقطاع عابر للتيار الكهربائي يتحول عشرات الآلاف من سكان مدينة ثرية ومتقدمة ـ كما يشاءون تسميتها ـ إلى لصوص وسراق ، إن هذا لا يدل على الانحطاط الخلقي لدى شعب من الشعوب فحسب ، بل يدل على فقدان الأمن الاجتماعي الشديد أيضا.

والخبر الآخر الذي نقلته الصحف ، ويكمل ـ في الحقيقة ـ هذا الخبر ، وهو أن أحد الشخصيات المعروفة كان يقيم في تلك الأيّام في نيويورك ، في أحد الفنادق الشهيرة ذات العشرات من الطوابق ، قال : إنّ انقطاع التيار الكهربائي تسبب في أن يمسي التجول في معابر وصالات ذلك الفندق عملا بالغ الخطورة ، بحيث أنّ

١٢٨

مسئولي الفندق ما كانوا يسمحون لأحد بأن يغادر مكانه إلى غرفته منعا من أن يتعرض للمغيرين داخل صالات الفندق ، ولهذا نظموا المسافرين والنزلاء في جماعات مكونة من عشرة أو أكثر ، وتولى موظفون مسلحون إيصالهم إلى غرفهم تحت حراسة مشددة.

ثمّ يضيف ذلك الشخص المذكور : أنّه ما لم يعان من الجوع الشديد لم يجرأ على الخروج من غرفته.

ولكن انقطاع التيار الكهربائي هذا يقع في البلاد المتأخرة الشرقية كثيرا ، ولكن لا تحدث مثل هذه المشاكل ، وهذا يفيد أن سكان البلدان المتقدمة رغم كونهم يمتلكون ثروة عظيمة ، وصنائع عظيمة ، لا يملكون أدنى قدر من الأمن في بيئتهم.

هذا مضافا إلى أنّ شهود عيان يقولون : إنّ القتل والاغتيال في تلك البيئات كشرب الماء من حيث السهولة واليسر.

ونحن نعلم أنّنا أعطينا الدنيا كلها لأحد وكان يعيش في مثل هذه الظروف ، كان من أشقى أهل الأرض على أنّ مشكلة الأمن هي واحدة من مشكلاتهم ، وإلّا فهناك مفاسد اجتماعية أخرى كل واحد منها بدوره حالة مؤلمة جدا ومع الالتفات إلى هذه الحقائق فلا معنى لتوهّم أنّ الثروة سعادة.

٢ ـ أمّا ما يقال عن سبب تخلّف المجتمعات المتحلية بالإيمان والتقوى ، فإذا كان المقصود من الإيمان والتقوى هو مجرّد ادعاء الإسلام وادعاء أتباع مبادئ الأنبياء وتعاليمهم ، فالاعتراض وجيه. ولكننا لا نعتبر حقيقة الإيمان والتقوى إلّا نفوذهما في جميع أعمال الإنسان ، وجميع شؤون الحياة ، وهذا أمر لا يتحقق بمجرّد الادعاء والزعم.

إنّ من المؤسف جدّا أن نجد التعاليم الإسلامية ومبادئ الأنبياء متروكة أو شبه متروكة في كثير من المجتمعات الإسلامية ، فملامح هذه المجتمعات ليست

١٢٩

ملامح مجتمعات المسلمين الصادقين الحقيقيين.

لقد دعا الإسلام إلى الطهارة والاستقامة والأمانة والاجتهاد والجد ، فأين تلك الأمانة والاجتهاد؟

إنّ الإسلام يدعو إلى العلم والمعرفة واليقظة والوعي ، فأين ذلك العلم والوعي واليقظة؟! وإن الإسلام يدعو إلى الاتحاد والتضامن ووحدة الصفوف والتفاني ، فهل سادت هذه الأصول والمبادئ في المجتمعات الإسلامية الحاضرة بصورة كاملة ، ومع ذلك بقيت متخلّفة؟!

لهذا يجب أن نعترف بأنّ الإسلام شيء ، والمسلمون اليوم شيء آخر.

في الآيات اللاحقة والمزيد من التأكيد على عمومية هذا الحكم ، وأن القانون أعلاه ليس خاصا بالأقوام الغابرة بل يشمل الحاضر والمستقبل أيضا ـ يقول : هل أنّ المجرمين الذين يعيشون في نقاط مختلفة من الأرض يرون أنفسهم في أمن من أن تحل بهم العقوبات الإلهية ، فتنزل بهم صاعقة أو يصبهم زلزال في الليل وهم نائمون( أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ ) .

وهل هم في أمان من ذلك العذاب في النهار وهم غارقون في أنواع اللهو واللعب( أوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ ) .

يعني أنّهم في قبضة القدرة الإلهية في جميع الأحوال والأوقات ، ليلا ونهارا ، في اليقظة والنوم ، في ساعات الفرح والترح ، وبإشارة واحدة وأمر واحد يقضى عليهم جميعا ، ويطوي صفحة حياتهم نهائيا ، دون الحاجة الى مقدمات وأسباب قبلية ، أو لمرور الزمان لهذا العمل.

أجل في لحظة واحدة ، ومن دون أية مقدمات يمكن أن تحل أنواع المصائب والنوائب بهذا الإنسان الغافل.

والعجيب أنّ البشرية الحاضرة ، رغم كل ما أحرزته من تقدم ورقي في

١٣٠

الصنائع وفي التكنولوجيا ، ومع أنّها سخرت طاقات الكون والطبيعة المختلفة لخدمة نفسها ، فإنّها ضعيفة وعاجزة تجاه هذه الحوادث ، بنفس المقدار من العجز والضعف الذي كان عليه إنسان العصور السابقة. يعني أن الإنسان لم يتغير حاله تجاه الزلازل والصواعق وما شابهها ، حتى بالنسبة إلى إنسان ما قبل التاريخ.

وهذه علامة قوية على نهاية عجز الإنسان وشدة ضعفه رغم قدرته وقوته وهذه حقيقة يجب أن يجعلها الإنسان نصب عينيه دائما وأبدا.

وفي الآية اللاحقة يعود القرآن الكريم إلى ذكر وتأكيد هذه الحقيقة بشكل آخر فيقول : أفأمن المجرمون من المكر الإلهي ، في حين لا يأمن مكره إلّا الخاسرون( أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ ) .

و «المكر» ـ كما قلنا في ذيل الآية ٩٤ من سورة آل عمران ـ يعني في اللغة العربية كل حيلة ووسيلة لصرف الشخص عن الهدف الذي يمضي إليه ، سواء كان حقا أو باطلا ، وقد أخذ في مفهوم هذه اللغة نوع من التدرج والنفوذ التدريجي.

وعلى هذا فالمراد من المكر الإلهي ، هو أنّ الله تعالى يصرفهم بخططه القوية التي لا تقهر عن حياة الرفاه واللذة دون اختيارهم ويقطعها عليهم. وهذه إشارة إلى العقوبات الإلهية الفجائية والمهلكة.

جواب على سؤال :

إنّ الجملة التي وردت في ختام الآية الحاضرة تقول : لا يأمن أحد ـ إلّا الخاسرون ـ من المكر الإلهي والعقوبة الإلهية ، وهنا يطرح هذا السؤال ، وهو : هل تشمل هذه العبارة الأنبياء والأئمّة العظام والصالحين؟

لقد تصوّر البعض أنّهم خارجون من هذا الحكم ، وأنّ الآية تختص بالمجرمين. ولكن الظاهر أن هذا الحكم عام يشمل الجميع ، لأنّه حتى الأنبياء والأئمّة كانوا مراقبين لأعمالهم دائما كي لا تصدر منهم أدنى زلة أو عثرة ، لأنّنا

١٣١

نعلم أن مقام العصمة ليس مفهومه أن المعصية مستحيلة عليهم ، بل يعني أنّهم مصونون عن الإثمّ والمعصية بفعل إرادتهم وإيمانهم وحسن اختيارهم ، إلى جانب العنايات الربانية.

إنّهم كانوا يخافون من ترك الأولى ويتجنبونه ، ويخشون أن لا يتمكنوا من القيام بمسؤولياتهم الثقيلة. ولهذا نقرأ في الآية (١٥) من سورة الأنعام حول الرّسول الأعظم( قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) .

ولقد رويت في تفسير الآية الحاضرة ـ أيضا ـ أحاديث تؤيد ما قلناه : «صليت خلف أبي عبد الله (الصادق)عليه‌السلام ، فسمعته يقول : «اللهم لا تؤمني مكرك. ثمّ جهر فقال :( فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ ) .

ونقرأ في نهج البلاغة أيضا : «لا تأمنن على خير هذه الأمّة عذاب الله ، لقول الله سبحانه :( فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ ) (١) .

إنّ عدم الأمن من المكر الإلهي ـ في الحقيقة ـ يعني الخوف من المسؤوليات والخوف من التقصير فيها ، ومن المعلوم أن الخوف يجب أن يكون في قلوب المؤمنين دائما إلى جانب الأمل بالرحمة الإلهية بشكل متساو ، وأن التوازن بين هذين هو منشأ كلّ حركة ونشاط ، وهو الذي يعبّر عنه في الرّوايات بالخوف والرجاء.

وقد جاء التصريح في هذه الرّوايات بوجوب أن يكون المؤمنون دائما بين الخوف والرجاء ، ولكن المجرمين الخاسرين نسوا العقوبات الإلهية بحيث صاروا يرون أنفسهم في منتهى الأمن المكر الإلهي.

وفي الآية اللاحقة يقول القرآن الكريم ـ بهدف إيقاظ عقول الشعوب الغافية وإلفات نظرهم إلى العبر التي كانت في حياة الماضيين : ألا يتنبه الذين ورثوا

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الجملة ٣٧٧.

١٣٢

السيادة على الأرض ـ من الأقوام الماضية ـ إلى ما في حياة الماضيين وقصصهم من عبر ، فلو أنّنا أردنا أن نهلكهم بذنوبهم لفعلنا( أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ) .

ويمكننا أيضا أن نتركهم أحياء ونسلب منهم الشعور وحس التشخيص والتمييز بالمرّة بسبب توغّلهم في الذنوب ، بحيث لا يسمعون معها حقيقة ، ولا يقبلون نصيحة ، ويعيشون بقية حياتهم حيرى( وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ) .

أمّا كيف يسلب الله تعالى من هذا الفريق من المجرمين حس التمييز والتشخيص ، فيمكنك الوقوف على مزيد التوضيح في هذا المجال في تفسير الآية (٧) من سورة البقرة.

* * *

١٣٣

الآيتان

( تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (١٠١) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (١٠٢) )

التّفسير

في هاتين الآيتين ركّز القرآن الكريم على العبر المستفادة من بيان قصص الماضين ، والخطاب متوجه هنا إلى الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أن الهدف هو الجميع ، يقول القرآن الكريم أوّلا : هذه هي القرى والأقوام التي نقص عليك قصصهم :( تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها ) (١) .

ثمّ يقول : لم يكن إهلاكهم قبل إتمام الحجة عليهم ، بل لقد جاءهم الأنبياء أوّلا بالبراهين الجلية وبذلوا قصارى جهدهم في إيقاظهم وإرشادهم( وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ) .

ولكنّهم قاوموا الأنبياء وخالفوا دعوتهم ، وأصروا ولجّوا في عنادهم ، ولم

__________________

(١) «نقصّ» من مادة «قص» وقد مر شرحها في ذيل الآية ٧.

١٣٤

يكونوا على استعداد لأن يؤمنوا بما كذبوا به من قبل ، بل استمروا على تكذيبهم حتى مع مشاهدتهم البينات :( فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ ) .

من هذه الجملة يستفاد أنّ الأنبياء الإلهيين قاموا بدعوتهم وإرشادهم مرارا وتكرارا ، ولكن المشركين لجوا في عنادهم ، وبقوا متصلبين في مواقفهم المتعنتة الرافضة ، وأعرضوا عن قبول دعوة الأنبياء حتى بعد وضوح الكثير من الحقائق.

وفي العبارة اللاحقة يبيّن تعالى علّة هذا التعنت واللجاج :( كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ ) .

يعني أنّ الذين يسيرون في درب خاطئ ، ويستمرون في السير في ذلك الطريق ، ينتقش الانحراف والكفر على قلوبهم نتيجة تكرار العمل السيء.

ويتجذر الفساد في نفوسهم ، كما يثبت النقش على السكة (والطبع في اللغة نقش صورة على شيء كالسكة) وهذا في الحقيقة هو أثر العمل وخاصيته.

وقد نسب إلى الله هو تعالى مسبب الأسباب ، وهو منشأ تأثير كل مؤثر ، فهو يهب الفعل هذه الخاصية عند تكراره ، حيث يجعله «ملكة» في نفس الشخص.

ولكن من الواضح والبيّن أن مثل الضلال ليس له أي صفة جبرية وقهرية ، بل إنّ موجد الأسباب هو الإنسان وإن كان التأثير بأمر الله تعالى (فتأمل).

وفي الآية اللاحقة بيّن تعالى قسمين آخرين من نقاط الضعف الأخلاقي لدى هذه الجماعات ، والتي تسببت في ضلالها وهلاكها.

في البداية يقول : إنّهم كانوا لا يحترمون العهود والمواثيق بل ينقضونها( وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ ) .

وهذا العهد يمكن أن يكون إشارة إلى «العهد الفطري» الذي أخذه الله على جميع عباده بحكم الجبلة والفطرة ، لأنّه عند ما أعطاهم العقل والذكاء والقابلية ، كان مفهوم ذلك هو أخذ العهد الميثاق منهم بأن يفتحوا عيونهم وآذانهم ، ويروا الحقائق ويسمعوها ، وهذا هو ما أشارت إليه الآيات الأخيرة من هذه السورة (أي

١٣٥

الآية ١٧٣) وهو المعروف بـ «عالم الذّر» الذي سنشرحه بإذن الله في ذيل تلك الآيات.

كما أنّه يمكن أن يكون إشارة إلى العهد الذي كان الأنبياء الإلهيون يأخذونه من الناس ، وكان أكثر الناس يقبلونه ، ولكنّهم ينقضونه.

أو يكون إشارة إلى جميع المواثيق «الفطرية» و «التشريعية».

وعلى كل حال فإنّ روح نقض الميثاق كان من أسباب معارضة الأنبياء والإصرار على سلوك طريق الكفر والنفاق ، والابتلاء بعواقبها المشؤومة.

ثمّ يشير القرآن الكريم إلى عامل آخر إذ يقول :( وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ ) .

يعني أن روح التمرد والتجاوز على القانون ، والخروج عن نظام الخلقة والقوانين الإلهية ، كان عاملا آخر من عوامل استمرارهم على الكفر ، وإصرارهم على مخالفة الدعوة الإلهية.

ويجب الانتباه إلى أن الضمير في «أكثرهم» يرجع إلى جميع الأقوام والجماعات السالفة.

وما ورد في الآية من أن أكثرهم ينقضون العهد إنّما هو من باب رعاية حال الأقليات التي آمنت بالأنبياء السابقين ، وبقيت وفيّه لهم ، وهذه الجماعات المؤمنة وإن كانت قليلة وضئيلة العدد جدّا بحيث أنّها ما كانت تتجاوز أحيانا أسرة واحدة. ولكن روح الواقعية وتحري الحق المتجلّية في كل آيات القرآن أوجبت أن لا يتجاهل القرآن الكريم حق هذه الجماعات القليلة أو الأفراد المعدودين ، بل يراعيها فلا يصف جميع الأفراد في المجتمعات السالفة بالانحراف والضلال ونقض العهد والفسق.

وهذا موضوع جميل جدّا ، وجدير بالاهتمام ، وهو ما نشاهده ونلحظه في آيات القرآن كثيرا.

* * *

١٣٦

الآيات

( ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٤) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٠٥) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (١٠٧) )( وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨) )

التّفسير

المواجهة بين موسى وفرعون :

بعد ذكر قصص ثلة من الأنبياء العظام باختصار في الآيات السابقة بيّن تعالى في هذه الآيات والآيات الكثيرة اللاحقة قصّة موسى بن عمران ، وما جرى بينه وبين فرعون وملئه وعاقبة أمره.

وعلّة بيان هذه القصّة بصورة أكثر تفصيلا من قصص الأنبياء الآخرين في هذه السورة قد تكون لأجل أنّ اليهود أتباع موسى بن عمران كانوا أكثر من

١٣٧

غيرهم في بيئة نزول القرآن ، وكان إرشادهم إلى الإسلام أوجب(١) .

وثانيا : لأنّ قيام النّبي الأكرم كان أشبه بقيام موسى بن عمران من غيره من الأنبياء.

وعلى كل حال فإنّ هذه القصة الزاخرة بالعبر قد أشير إلى فصول أخرى منها أيضا في سور أخرى ، مثل : سورة البقرة ، طه ، الشعراء ، النمل ، القصص ، وسور أخرى ، ولو أنّنا درسنا آيات كل سورة على حدة ، ثمّ وضعناها جنبا إلى جنب لم نلحظ فيها جانب التكرار على خلاف ما يتصوره البعض ، بل ذكر من هذه الملحمة التاريخية في كل سورة ما يناسبها من البحث للاستشهاد به. وحيث أنّ مصر كانت أوسع ، وكان لشعبها حضارة أكثر تقدما من قوم نوح وهود وشعيب وما شابههم ، وكانت مقاومة الجهاز الفرعوني ـ بنفس النسبة ـ أكثر وأكبر ، ولهذا تمتع قيام موسى بن عمران بأهمية أكبر ، وحوى عبرا ونكات أكثر ، وقد ركّز القرآن الكريم على النقاط البارزة المختلفة من حياة موسى وبني إسرائيل بمناسبات مختلفة.

وعلى العموم يمكن حصر وتلخيص حياة هذا النّبي الإلهي العظيم في خمس دورات ومراحل :

١ ـ مرحلة الولادة ، وما جرى عليه من الحوادث حتى ترعرعه في البلاط الفرعون.

٢ ـ مرحلة فراره من مصر ، وحياته في أرض «مدين» في كنف النّبي شعيبعليه‌السلام .

٣ ـ مرحلة بعثته ، ثمّ المواجهات الكثيرة بينه وبين فرعون وجهازه.

٤ ـ مرحلة نجاته ونجاة بني إسرائيل من مخالب فرعون ، والحوادث التي

__________________

(١) صحيح أنّ هذه السورة نزلت في مكّة ، ولم تكن مكّة مركز تجمع اليهود ، ولكن من دون شك كان لحضور في المدينة وسائر نقاط الحجاز أثر واسع في المجتمع المكّي.

١٣٨

جرت عليه في الطريق ، وعند وروده إلى بيت المقدس.

٥ ـ مرحلة مشاكله مع بني إسرائيل.

ويجب الانتباه إلى أن القرآن الكريم تناول في كل سورة من سور قسما ـ أو عدّة أقسام ـ من هذه المراحل الخمس.

ومن تلك الآيات التي تناولت جوانب من قصّة موسىعليه‌السلام هذه الآيات ، وعشرات الآيات الأخر من هذه السورة ، وهي تشير إلى مراحل ما بعد بعثة موسى بن عمران بالنبوة. ولهذا فإنّنا نوكل الأبحاث المتعلقة بالمراحل السابقة على هذه المرحلة إلى حين تفسير الآيات المرتبطة بتلك الأقسام في السور الأخرى ، وبخاصّة سورة القصص.

في الآية الأولى من الآيات الحاضرة يقول تعالى :( ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ ) أي من بعد قوم نوح وهود وصالح.

ويجب الالتفات إلى أنّ «فرعون» اسم عام ، وهو يطلق على كل ملوك مصر ، كما يطلق على ملوك الروم «قيصر» وملوك فارس «كسرى».

ولفظة «الملأ» ـ كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق ـ تعني الأعيان والأشراف الذين يملأون ببريقهم وظواهرهم الباذخة العيون ، ولهم حضور ملفت للنظر في جميع ميادين المجتمع.

والسر في إرسال موسى في بداية الدعوة إلى فرعون وملأه هو أنّه علاوة على أنّ إحدى برامج موسى كان هو نجاة بني إسرائيل من براثن استعمار الفراعنة وتخليصهم من أرض مصر ـ وهذا لا يمكن أن يتم من دون الحوار مع فرعون ـ إنّما هو لأجل أن المفاسد الاجتماعية وانحراف البيئة لا تعالج بمجرّد الإصلاحات الفردية والموضعية فقط ، بل يجب أن يبدأ بإصلاح رؤوس المجتمع وقادته الذين يمسكون بأزمة السياسة والإقتصاد والثقافة ، حتى تتهيأ الأرضية لإصلاح البقية ، كما يقال عرفا : إنّ تصفية الماء يجب أن تكون من المنبع.

١٣٩

وهذا هو الدرس الذي يعطيه القرآن الكريم لجميع المسلمين ، لإصلاح المجتمعات الإسلامية.

ثمّ يقول تعالى :( فَظَلَمُوا بِها ) .

ونحن نعلم أنّ لفظ الظلم بالمعنى الواسع للكلمة هو : وضع الشيء في غير محلّة ، ولا شك في أن الآيات الإلهية توجب أن يسلّم الجميع لها ، وبقبولها يصلح الإنسان نفسه ومجتمعه ، ولكن فرعون وملأه بإنكارهم لهذه الآيات ظلموا هذه الآيات.

ثمّ يقول تعالى في ختام الآية :( فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ) .

وهذه العبارة إشارة إجمالية إلى هلاك فرعون وقومه الطغاة المتمردين ، الذي سيأتي شرحه فيما بعد.

وهذه الآية تشير إشارة مقتضبة إلى مجموع برنامج رسالة موسى ، وما وقع بينه وبين فرعون من المواجهة وعاقبة أمرهم.

أمّا الآيات اللاحقة فتسلّط الاضواء بصورة أكثر على هذا الموضوع.

فيقول أوّلا :( وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) .

وهذه هي أوّل مواجهة بين موسى وبين فرعون ، وهي صورة حية وعملية من الصراع بين «الحق» و «الباطل».

والطريف أنّ فرعون كأنّه كان ينادى لأوّل مرّة بـ «يا فرعون» وهو خطاب رغم كونه مقرونا برعاية الأدب ، خال عن أي نوع من أنواع التملق والتزلف وإظهار العبودية والخضوع ، لأنّ الآخرين كانوا يخاطبونه عادة بألفاظ فيها الكثير من التعظم مثل : يا مالكنا ، يا سيدنا ، يا ربنا ، وما شابه ذلك.

وتعبير موسى هذا ، كان يمثل بالنسبة إلى فرعون جرس إنذار وناقوس خطر. هذا مضافا إلى أن عبارة موسى( إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) كانت ـ في الحقيقة ـ نوعا من إعلان الحرب على جميع تشكيلات فرعون ، لأنّ هذا التعبير

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

الاجتماعيّة مِن التلون والخِداع وعدَم الوفاء التي سرعان ما يكشفهما محكّ الاختبار. وقد أوضح أمير المؤمنينعليه‌السلام واقع الأصدقاء وأبعاد صداقتهم فيما رواه أبو جعفر الباقرعليه‌السلام فقال: ( قام رجلٌ بالبصرة إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرنا عن الإخوان.

فقالعليه‌السلام : الإخوان صنفان: إخوان الثقة، وإخوان المكاشرة.

فأمّا إخوان الثقة: فهُم الكفّ والجناح، والأهل والمال، فإذا كنت مِن أخيك على حدِّ الثقة، فابذل له مالك، وبدنك، وصافِ مَن صافاه وعادِ مَن عاداه، واكتم سرّه وعيبه، واظهر منه الحسَن، واعلم أيها السائل، إنّهم أقلّ مِن الكبريت الأحمر.

وأمّا إخوان المكاشرة: فإنّك تصيب لذّتك منهم، فلا تقطعنّ ذلك منهم، ولا تطلبنّ ما وراء ذلك مِن ضَمِيرهم، وابذل لهم ما بذلوا لك مِن طلاقةَ الوجه، وحلاوةَ اللسان )(١).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( لا تكون الصداقة إلاّ بحدودها، فمَن كانت فيه هذه الحدود أو شيء منها فانسبه إلى الصداقة، ومَن لم يكن فيه شيءٌ منها، فلا تنسبه إلى شيءٍ مِن الصداقة: فأوّلها: أنّ تكون سريرته وعلانيَته لك واحدة، والثانية: أنْ يرى زَينك زينه وشَينك شينه، والثالثة: أنْ لا تغيّره عليك ولايةٌ ولا مال.

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٠٤ عن الكافي.

٤٤١

والرابعة: أنْ لا يمنعك شيئاً تناله مقدرته.

والخامسة: وهي تجمع هذه الخِصال أنْ لا يسلّمك عند النكَبات )(١).

وقال بعض الحكماء: المودّات ثلاث: مودّة في اللّه عزَّ وجل لغير رغبةٍ ولا رهبة، فهي التي لا يشوبها غدرٌ ولا خيانة.

ومودّةٌ مقارنة ومعاشرة، ومودّة رغبةٍ أو رهبة، وهي: شرّ المودّات، وأسرعها انتقاضاً.

وقال مهيار الديلمي:

ما أنا مِن صبغة أيّامكم

ولا الذي إنْ قلبوه انقلبا

ولا ابن وجهَين ألمّ حاضراً

مِن الصديق وألوم الغُيّبا

قلبي للإخوان شطّوا أو دنَوا

وللهوى ساعف دهر أو نبا

مِن عاذري مِن متلاشٍ كلّما

أذنَب يوماً وعذَرتُ أذنَبا

يضحك في وجهي ملء فمه

وإنْ أغب وذكِر اسمي قطّبا

يطير لي حمامةً فإنْ رأى

خصاصةً دبّ ورائي عقربا

ما أكثر الناس وما أقلّهم

وما أقلّ في القليل النُّجَبا

اختيار الصديق:

للصديق أثرٌ بالغ في حياة صديقه وتكييفه فكريّاً وأخلاقيّاً، لِما طُبِع

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٠٤ عن الكافي.

٤٤٢

عليه الإنسان مِن سرعة التأثّر والانفعال بالقُرَناء والأخلاّء، ما يحفّزه على محاكاتهم والاقتباس مِن طِباعهم ونَزَعاتهم.

مِن أجل ذلك كان التجاوب قويّاً بين الأصدقاء، وكانت صِفاتهم سريعةَ العدوى والانتقال، تنشر مفاهيم الخير والصلاح تارة، ومفاهيم الشرِّ والفساد أُخرى، تَبَعاً لخصائصهم وطَبائعهم الكريمة أو الذميمة، وإنْ كانت عدوى الرذائل أسرع انتقالاً وأكثر شيوعاً مِن عدوى الفضائل.

فالصديق الصالح: رائدُ خير، وداعية هدى، يهدي إلى الرشد والصلاح.

والصديق الفاسد: رائدُ شرٍّ، وداعيةُ ضلالٍ، يقود إلى الغيّ والفساد. وكم انحرف أشخاصٌ كانوا مثاليّين هدياً وسلوكاً، وضلّوا في متاهات الغواية والفساد، لتأثّرهم بالقُرَنَاء والأخلاّء المنحرفين.

وهذا ما يحتّم على كلّ عاقل أنْ يتحفّظ في اختيار الأصدقاء، ويصطفي منهم مَن تحلّى بالخُلق المرضي والسُّمعة الطيّبة والسلوك الحميد.

خِلال الصديق المثالي:

وأهم تلك الخِلال وألزمها فيه هي:

١ - أنْ يكون عاقلاً لبيباً مبرّءاً مِن الحُمق. فإنْ الأحمق ذميم العشرة مقيت الصحبة، مجحف بالصديق، وربّما أراد نفعه فأضره وأساء إليه لسوء تصرّفه وفرّط حماقته، كما وصفه أمير المؤمنينعليه‌السلام في حديثٍ له فقال: ( وأمّا الأحمق فإنّه لا يشير عليك بخير، ولا يُرجى لصرفِ السوء

٤٤٣

عنك ولو أجهد نفسه، وربّما أراد منفعتك فضرّك، فموته خيرٌ مِن حياته وسكوته خيرٌ من نطقه، وبعده خيرٌ من قُربه )(١).

٢ - إنّ يكون الصديق متحلياً بالإيمان والصلاح وحسن الخلق، فإن لم يتحلّ بذلك كان تافهاً مُنحرفاً يُوشك أنْ يغوي إخلاّءه بضلاله وانحرافه.

انظر كيف يصوّر القرآن ندم النادمين على مخادنة الغاوين والمضلّلين وأسفَهم ولوعتهم على ذلك:

( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً ) ( الفرقان: ٢٧ - ٢٩ ).

وعن الصادقعليه‌السلام عن آبائه قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : المرء على دين خليله، فلينظر أحدُكم مَن يُخالِل )(٢).

وعن أبي جعفرعليه‌السلام عن أبيه عن جدّهعليه‌السلام قال: ( قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : مجالسةُ الأشرار تُورث سُوء الظنِّ بالأخيار، ومجالسة الأخيار تلحق الأشرار بالأخيار، ومجالسة الإبرار للفُجّار تلحق الأبرار بالفُجّار، فمَن اشتبه عليكم أمرُه، ولم تعرفوا دينه، فانظروا إلى خُلطائه، فإنْ كانوا أهل دين اللّه، فهو على دين اللّه، وإنْ كانوا على

_____________________

(١) البحار. كتاب العشرة. ص ٥٦ عن الكافي.

(٢) البحار، كتاب العشرة. ص ٥٢ عن أمالي أبي علي ابن الشيخ الطوسي.

٤٤٤

غيرِ دين اللّه فلا حظّ له مِن دين اللّه ؛ إنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقول: مَن كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فلا يؤاخين كافراً، ولا يخالطن فاجراً، ومَن آخى كافراً، أو خالَط فاجراً كان كافراً فاجراً )(١).

وهكذا يحذَر أهل البيتعليهم‌السلام عن مخادنة أنماط مِن الرجال اتّسموا بأخلاقٍ ذميمة وسجايا هابطة باعثة على النفرة وسوء الخلّة.

وعن أبي عبد اللّه عن أبيهعليهما‌السلام قال: ( قال لي أبي عليّ بن الحسينعليه‌السلام : يا بني، انظر خمسة فلا تُصاحبهم، ولا تحادثهم، ولا ترافقهم، فقلت: يا أبه، مَن هُم ؟ عرّفنيهم.

قال: إيّاك ومصاحبة الكذّاب فإنّه بمنزلة السراب يُقرّب لك البعيد ويُبعّد لك القريب، وإيّاك ومصاحبة الفاسق فإنّه بايعك بأكلة أو أقلّ مِن ذلك، وإيّاك مِن مصاحبة البخيل فإنّه يخذلك في ماله أحوَج ما تكون إليه، وإيّاك ومصاحبة الأحمق فإنّه يُريد أنْ ينفعك فيضرّك، وإيّاك ومصاحبة القاطع لرحمه فإنّي وجدتّه ملعوناً في كتاب اللّه عزّ وجل في ثلاث مواضع )... الخبر(٢) .

_____________________

(١) البحار. كتاب العشرة. ص ٥٣ عن كتاب صفات الشيعة للصدوق.

(٢) الوافي ج ٣ ص ١٠٥ عن الكافي.

٤٤٥

وقال أبو العتاهية:

اصحب ذو العقل وأهل الدين

فالمرءُ منسوبٌ إلى القرين

وقال أبو نؤاس:

ولقد نهَزت مع الغواة بدَلوِهم

وأسَمَت سرْح اللهوِ حيثُ أساموا

وبلغتُ ما بلَغ امرؤٌ بشبابه

فإذا عصارة كلّ ذاكَ أثام

٣ - أنْ يكون بين الصديقين تجاوبٌ عاطفي ورغبةٌ متبادلة في الحبّ والمؤاخاة، فذلك أثبتُ للمودّة وأوثَق لعُرى الإخاء، فإنْ تلاشت في أحدهما نوازع الحبّ والخِلّة وهَت علاقة الصداقة وغدا المجفو منها الحريص على توثيقها عرضةً للنقد والازدراء.

قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( زُهدُك في راغبٍ فيك نُقصانُ عقلٍ (حظ) ورغبتُك في زاهدٍ فيك ذلُّ نفس )(١).

وقال الشهيد الأوّل رحمه الله:

غنينا بنا عن كلّ مَن لا يُريدنا

وإنْ كثُرت أوصافه ونُعوته

ومَن صدّ عنّا حسبُه الصدُّ والقلا

ومَن فاتنا يكفيه أنّا نفوته

وقال الطغرائي:

جامِل أخاك إذا استربت بودّه

وانظر به عقب الزمان العائدِ

فإنْ استمرّ به الفساد فخلِّهِ

فالعضوُ يُقطعُ للفسادِ الزائدِ

_____________________

(١) نهج البلاغة.

٤٤٦

مقاييس الحبّ

وقد تلتبس مظاهر الحبّ في الأخلاّء خاصّة والناس عامّة، وتخفى سماته وعلائمه، ويغدو المرء آنذاك في شكٍّ وارتياب مِن ودّهم أو قلاهم، وقد وضع أهلُ البيتعليهم‌السلام مقاييس نفسيّة تستكشف دخائل الحبِّ والبُغض في النفوس وتجلو أسرارها الخفيّة.

قال الراوي: سمِعت رجُلاً يسأل أبا عبد اللّهعليه‌السلام فقال:

الرجل يقول أودّك، فكيف أعلم أنّه يودّني ؟

فقالعليه‌السلام : ( امتحن قلبك، فإنْ كنت تودّه فإنّه يودّك )(١).

وقالعليه‌السلام في موطنٍ آخر: ( انظر قلبك، فإنْ أنكر صاحبك، فاعلم أنّه أحدث )(٢) يعني قد أحدَث ما يُوجب النفرة وضعف المودّة.

وعن أبي جعفرعليه‌السلام قال:

( لمّا احتضر أمير المؤمنينعليه‌السلام جمع بنيه، حسناً وحُسيناً وابن الحنفيّة والأصاغر فوصّاهم، وكان في آخر وصيّته: - يا بنيّ، عاشروا الناس عشرة، إنْ غبتم حنّوا إليكم، وإنْ فقدتم بكوا عليكم، يا بنيَّ، إنّ القُلوب جنودٌ مجنّدة تتلاحظ بالمودّة، وتتناجى بها، وكذلك هي في البغض،

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٠٦ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ١٠٦ عن الكافي.

٤٤٧

فإذا أحببتم الرجل مِن غير خيرٍ سبَقَ منه إليكم فارجوه، وإذا أبغضتم الرجل مِن غير سوءٍ سبَق منه إليكم فاحذروه )(١).

الصداقة بين المدّ والجزر:

اختلف العقلاء في أيّهما أرجح وأفضل، الإكثار مِن الأصدقاء أو الإقلال منهم.

ففضّل بعضهم الإكثار منهم والتوفّر عليهم، لما يؤمل فيهم مِن جمال المؤانسة وحُسن المؤازرة والتأييد.

ورجّح آخرون الإقلال منهم، لِما ينجم عن استكثارهم مِن ضروب المشاكل المؤديّة إلى التباغض والعِداء، كما قال ابن الرومي:

عدوّك مِن صديقِك مستفادٌ

فلا تستكثرنَّ مِن الصحاب

فإنّ الداء أكثر ما تراه

يكون مِن الطعام أو الشراب

والحقّ أنّ قِيَم الأصدقاء ليست منوطة بالقلّة أو الكثرة، وإنّما هي فيما يتحلّون به من صِفات النُّبل والإخلاص والوفاء، التي لا تجتمع إلاّ في المثاليّين منهم، وهُم فئةٌ قليلةٌ نادرةٌ تتألّق في دنيا الأصدقاء تألّق اللآليّ بين الحصا.

_____________________

(١) البحار كتاب العشرة ص ٤٦ عن أمالي الشيخ أبي عليّ ابن الشيخ الطوسي.

٤٤٨

وصديقٌ مخلصٌ وفيٌّ خيرٌ من ألفِ صديقٍ عديمِ الإخلاص والوفاء، كما قال الإسكندر: المُستكثر مِن الإخوان مِن غير اختيارٍ كالمستوفر مِن الحِجارةِ، والمقلّ مِن الإخوان المتخيّر لهم كالذي يتخيّر الجوهر.

حقوق الأصدقاء:

وبعد أنْ أوضح أهلُ البيتعليهم‌السلام فضل الأصدقاء الأوفياء، رسَموا لهم سياسةً وآداباً وقرّروا حقوق بعضهم على بعض، ليوثقوا أواصر الصداقة بين المؤمنين، ومِن ثمّ لتكون باعثاً على تعاطفهم وتساندهم. وإليك طرَفاً مِن تلك الحقوق:

١ - الرعاية الماديّة:

قد يقَع الصديق في أزمةٍ اقتصاديّة خانقة، ويُعاني مرارة الفاقة والحِرمان ويغدو بأمَسّ الحاجة إلى النجدة والرعاية الماديّة، فمَن حقه على أصدقائه النُّبلاء أنْ ينبروا لإسعافه، والتخفيف من أزمته بما تجود به أريحيّتهم وسخاؤهم، وذلك مِن ألزم حقوق الأصدقاء وأبرَز سمات النبل والوفاء فيهم، وقد مدح اللّه أقواما تحلّوا بالإيثار وحُسن المواساة فقال تعالى:( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ) ( الحشر: ٩ ).

وقال الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام لرجل من خاصّته:

٤٤٩

( يا عاصم، كيف انتم في التواصل والتواسي ؟)

قلتُ: على أفضل ما كان عليه أحد.

قالعليه‌السلام : ( أَ يأتي أحدُكم إلى دُكان أخيه أو منزله، عِند الضائقة، فيستخرج كيسه ويأخذ ما يحتاج إليه، فلا ينكر عليه ؟ ) قال: لا.

قالعليه‌السلام : ( فلستم على ما أحب في التواصل )(١).

وعن أبي إسماعيل قال: قلت لأبي جعفرعليه‌السلام : جُعلتُ فداك، إنّ الشيعة عندنا كثير، فقالعليه‌السلام :

( فهل يعطف الغنيُّ على الفقير؟ وهل يتَجاوز المُحسِن عن المُسيء ؟ ويتواسون ). فقلت: لا.

فقالعليه‌السلام : ( ليس هؤلاء شيعة، الشيعة مَن يفعل هذا )(٢).

وقال أبو تمّام:

أولى البريّة حقّاً أنْ تراعيه

عند السرور الذي آساك في الحُزن

إنّ الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا

مَن كان يألفَهم في المنزل الخشن

وقال الواقدي:

كان لي صديقان: أحدهما هاشمي، وكنّا كنفسٍ واحدة، فنالتني ضيقةٌ شديدة وحضَر العيد، فقالت امرأتي: أمّا نحن في أنفسنا فنصبر على البؤس والشدّة، وأمّا صبياننا هؤلاء فقد قطّعوا قلبي رحمةً لهم،

_____________________

(١) البحار كتاب العشرة ص ٤٦ عن كتاب قضاء الحقوق للصوري.

(٢) البحار كتاب العشرة ص ٧١ عن الكافي.

٤٥٠

لأنّهم يرَون صبيان الجيران وقد تزيّنوا في عيدهم، وأصلحوا ثيابهم، وهُم على هذه الحال مِن الثياب الرثّة ! فلو احتلت بشيءٍ تصرفه في كسوتهم! فكتبت إلى صديقي الهاشمي أسأله التوسعة عليّ، فوجّه إليّ كيساً مختوماً، ذكر إنّ فيه ألف درهم، فما استقرّ قراري حتّى كتب إلي الصديق الآخر يشكو مثل ما شكوت إلى صاحبي، فوجّهت إليه الكيس بحاله، وخرجت إلى المسجد فأقمت فيه ليلي مُستحياً مِن امرأتي.

فلمّا دخلت عليها استحسنت ما كان منّي، ولم تعنّفني عليه.

فبينما أنا كذلك إذ وافى صديقي الهاشمي ومعه الكيس كهيئته، فقال لي: أصدقني عمّا فعلته فيما وجهّت إليك ؟

فعرّفته الخبَر على وجهه، فقال: إنّك وجّهت إليّ وما أملك على الأرض إلاّ ما بعثت به إليك، وكتبتُ إلى صديقنا اسأله المواساة فوجّه إليّ بكيسي! فتواسينا الآلاف أثلاثاً !

ثمّ نمي الخبَر إلى المأمون فدعاني، فشرحت له الخبر، فأمر لنا بسبعة آلاف دينار، لكلِّ واحدٍ ألفا دينار وللمرأة ألف دينار!(١).

٢ - الرعاية الأدبيّة:

وهكذا تنتاب الصديق ضروب الشدائد والأرزاء ما تسبّب إرهاقه وبلبلة حياته، ويغدو آنذاك مفتقراً إلى النجدة والمساندة لإغاثته وتفريج كربه.

_____________________

(١) قصص العرب ج ١ ص ٢٩٠.

٤٥١

فحقيقٌ على أصدقائه الأوفياء أنْ يسارعوا إلى نصرته والذبِّ عنه، لساناً وجاهاً، لإنقاذه مِن أعاصير الشدائد والأزَمات، ومواساته في ظرفه الحالك.

هذا هو مقياس الحبّ الصادق والعلاّمة الفارقة بين الصديق المُخلص مِن المزيّف.

قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( لا يكون الصديق صديقاً، حتّى يحفظ أخاه في ثلاث: في نكبته، وغيبته، ووفاته )(١).

وقال الشريف الرضي:

يعرّفك الإخوانُ كلٌّ بنفسه

وخيرُ أخٍ مَن عرّفتك الشدائد

* * *

٣ - المداراة:

والأصدقاء مهما حسُنت أخلاقهم، وقويت علائق الودّ بينهم فإنّهم عرضة للخطأ والتقصير، لعدَم عصمتهم عن ذلك. فإذا ما بدرت مِن أحدهم هناةٌ وهفوةٌ في قولٍ أو فعلٍ، كخُلفِ وعد، أو كلمةٍ جارحة أو تخلّف عن مواساة في فرح أو حزن ونحو ذلك مِن صوَر التقصير.

فعلى الصديق إذا ما كان واثقاً بحبّهم وإخلاصهم، أنْ يتغاضى عن إساءتهم

_____________________

(١) نهج البلاغة.

٤٥٢

ويصفح عن زلَلهم حِرصاً على صداقتهم واستبقاءً لودّهم، إذ المُبالغة في نقدهم وملاحاتهم، باعثة على نفرتهم والحِرمان منهم.

ومَن ذا الذي ترضى سجاياه كلّها

كفى المرءُ نُبلاً أنْ تُعدّ معائبه

انظر كيف يوصي أمير المؤمنينعليه‌السلام ابنه الحسنعليه‌السلام بمداراة الصديق المُخلص والتسامح معه والحفاظ عليه:

( احمل نفسك مِن أخيك عند صرفه على الصلة، وعند صدوده على اللطف والمقاربة، وعند جموده على البذل، وعند تباعده على الدنو، وعند شدّته على اللين، وعند جرمه على العذر، حتّى كأنّك له عبد، وكأنّه ذو نعمةٍ عليك.

وإيّاك أنْ تضَع ذلك في غير موضعه أو تفعله بغير أهله، لا تتخذنّ عدوَّ صديقِك صديقاً فتعادي صديقك، وامحض أخاك النصيحة حسنةً كانت أو قبيحة، وتجرّع الغيظ ؛ فإنّي لم أرَ جرعةً أحلى منها عاقبةً ولا ألذُّ مغبّة، ولِن لِمَن غالَظك فإنّه يُوشك أنْ يلين لك، وخُذ على عدوّك بالفضل فإنّه أحلى الظَفَرين، وإنْ أردت قطيعة أخيك فاستبقِ له مِن نفسِك بقيّةً ترجع إليها إنْ بدا له ذلك يوماً ما، ومَن ظنَّ بك خيراً فصدّق ظنّه، ولا تضيّعنّ حقّ أخيك اتّكالاً على ما بينك وبينه ؛ فإنّه ليس لكَ بأخٍ مَن أضعت حقّه )(١).

وقال الإمام الحسنعليه‌السلام لبعض ولده:

( يا بُنَيّ، لا تؤاخِ أحداً حتّى تعرف موارده ومصادره، فإذا استبطنت

_____________________

(١) نهج البلاغة. في وصيّته لابنه الحسنعليه‌السلام .

٤٥٣

الخبرة، ورضيت العِشرة، فآخه على إقالة العثرة، والمواساة في العشرة )(١).

وقال أبو فراس الحمداني:

لم أُواخذك بالجفاء لأنّي

واثقٌ منك بالوداد الصريح

فجميل العدوّ غير جميل

وقبيح الصديق غير قبيح

وقال بشّار بن بُرد:

إذا كُنت في كلّ الأُمور معاتباً

صديقك لم تلقَ الذي لا تعاتبه

فعِش واحداً أو صِل أخاك فإنّه

مقارفُ ذنبٍ مرّة ومجانبه

إذا أنتَ لم تشرَب مِراراً على القذى

ظمِئت وأي الناس تصفو مشاربه

وقال أبو العلاء المعرّي:

مَن عاشَ غير مداج مَن يعاشره

أساء عِشرة أصحابٍ وأخدان

كم صاحبٍ يتمنّى لو نُعيتَ له

وإنْ تشكّيت راعاني وفدّاني

ومِن أروع صوَر مداراة الأصدقاء وأجملها وقْعاً في النفوس: الإغضاء عن إساءتهم والصفْح عن مسيئهم.

ولذلك مظاهرٌ وأساليبٌ رائعة:

١ - أنْ يتناسى الصديق الإساءة ويتجاهلها ثقةً بصديقه، وحسن ظنٍّ به، واعتزازاً بإخائه، وهذا ما يبعث المُسيء على إكبار صديقه وودّه والحِرص على صداقته.

٢ - أنْ يتقبل معذرة صديقه عند اعتذاره منه، دونما تشدّد أو تعنّت في قبولها، فذلك مِن سِمات كرم الأخلاق وطهارة الضمير والوجدان.

_____________________

(١) تُحف العقول.

٤٥٤

٣ - أنْ يستميل صديقه بالعتاب العاطفي الرقيق، استجلاباً لودّه، فترك العتاب قد يُشعر بإغفاله وعدم الاكتراث به، أو يُوهمه بحنق الصديق عليه وإضمار الكيد له.

ولكنّ العتاب لا يجدي نفعاً ولا يستميل الصديق، إلاّ إذا كان عاطفيّاً رقيقاً كاشفاً عن حبِّ العاتب ورغبته في استعطاف صديقه واستدامة ودّه، إذ العشرة فيه والإفراط منه يُحدّثان ردّ فعلٍ سيّئ يُضاعف نفار الصديق ويفصم عُرى الودِّ والإخاء.

لذلك حثّت الشريعة الإسلامية على الصفح والتسامح عن المسيء، وحسن مداراة الأصدقاء خاصّة، والناس عامّة.

قال تعالى:( وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ) ( آل عمران: ١٥٩ ).

وقال سُبحانه:( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) ( حم السجدة: ٣٤ - ٣٥ ).

وعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أمرني ربّي بمداراة الناس، كما أمَرني بأداء الفرائض )(١).

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( أعقَل الناس أشدُّهم مداراةً للناس )(٢).

_____________________

(١) الوافي. ج ٣ ص ٨٦ عن الكافي.

(٢) معاني الأخبار للصدوق.

٤٥٥

والجدير بالذكر أنّ مِن أقوى عوامل ازدهار الصداقة وتوثيق أواصر الحبّ والإخلاص بين الأصدقاء، هو أنْ يتفادى كلٌّ منهم جهده عن تصديق النمّامين والوشاة المُغرَمين بغرس بذور البغضاء والفرقة بين الأحباب وتفريق شملهم، وفصم عُرى الإخاء بينهم. وهؤلاء هُم شرار الخلْق كما وصَفَهم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله حيث قال: ( ألا أُنبئكم بشراركم ؟ ).

قالوا: بلى يا رسول اللّه. قال: ( المشّاؤون بالنميمة، المُفرّقون بين الأحبّة، الباغون للبراء المعايب )(١).

* * *

الاعتدال في حبّ الصديق والثقة به:

ومِن الحكمة أنْ يكون العاقل معتدلاً في محبّة الأصدقاء والثقة بهم والركون إليهم دون إسرافٍ أو مغالاة، فلا يصحّ الإفراط في الاطمئنان إليهم واطلاعهم على ما يخشى إفشاءه من إسراره وخفاياه.

فقد يرتدّ الصديق ويغدو عدوّاً لدوداً، فيكون آنذاك أشدّ خطَراً وأعظم ضرَراً مِن الخصوم والأعداء.

وقد حذّرت وصايا أهل البيتعليهم‌السلام وأقوال الحكماء والأدباء، نظماً ونثراً مِن ذلك:

قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أنْ

_____________________

(١) البحار كتاب العشرة ص ١٩١ عن الكافي.

٤٥٦

يكون بغيضك يوماً ما، وابغض بغيضك هوناً ما، عسى أنْ يكون حبيبك يوماً ما )(١).

وقال الصادقعليه‌السلام لبعض أصحابه:

( لا تُطلِع صديقك مِن سرِّك، إلاّ على ما لو اطّلع عليه عدوّك لم يضرّك فإنّ الصديق قد يكون عدوّك يوماً ما )(٢).

قال المعرّي:

خف مَن تودّ كما تخاف معادياً

وتمارَ فيمَن ليس فيه تمار

فالرزء يبعثه القريب وما درى

مضرٌّ بما تجنى يدا أنمار

وقال أبو العتاهية:

ليَخلُ امرؤٌ دون الثقات بنفسه

فما كلّ موثوق ناصح الحبّ

* * *

_____________________

(١) نهج البلاغة.

(٢) البحار، كتاب العشرة ص ٣٩ عن أمالي الصدوق.

٤٥٧

حقوق الجِوار

التآزر والتعاطف:

لقد جهد الإسلام في حثّ المسلمين وترغيبهم في التآزر والتعاطف، ليجعلهم أُمّةً مثاليّةً في اتّحادها وتعاضدها على تحقيق أهدافها، ودفع الأزَمَات والأخطار عنها.

ودأَبَ على غرْس تلك المفاهيم السامية في نُفوس المسلمين ؛ ليزدادوا قوّة ومنعة وتجاوباً في أحاسيس الودّ ومشاعر الإخاء.

( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ) ( الفتح: ٢٩ ).

( وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ) ( المائدة:٢ ).

وكان مِن ذلك تحريض المسلمين على حُسن الجِوار ورعاية الجار، ليُنشئ مِن المُتجاورين جماعةً متراصّة متعاطفة تتبادل اللطف والإحسان، وتتعاون على كسب المنافع ودرء المضار، ليستشعروا بذلك الدِّعة والرخاء والقوّة على معاناة المشاكل والأحداث.

ولقد أوصى القرآن الكريم برعاية الجار والإحسان إليه فقال:

( وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) ( النساء: ٣٦ ).

٤٥٨

والمُراد - بالجار ذي القربى - الجار القريب داراً أو نسَباً - والجار الجنب - هو البعيد جواراً أو نسباً.

وعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : كلّ أربعينَ داراً جيران مِن بين يدَيه ومِن خلفه، وعن يمينه وعن شماله )(١).

و - الصاحب بالجَنب - الرفيق في السفر، أو الزميل في التعليم، أو في الحرفة.

و - ابن السبيل - المُسافر أو الضيف.

- وما ملَكت أيمانكم - الأهل والخدَم.

وناهيك في حرمة الجار وضرورة رعايته قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فيه: ( ما زال جبرئيل يُوصيني بالجار، حتّى ظننتُ أنّه سيورّثه )(٢) .

وعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وآله ): حُسن الجوار يُعمّر الديار، ويُنسئ في الأعمار )(٣).

وقال الصادقعليه‌السلام ، ( ليس منّا مَن لم يُحسن مجاورةَ مَن جاوره )(٤).

وعن أبي جعفرعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ما آمن بي مَن بات شبعان وجارُه جائع، وما مِن أهل قريةٍ يبيت فيهم جائع ينظر اللّه إليهم يوم القيامة )(٥).

_____________________

(١) الوافي. ج ٣ ص ٩٧ عن الكافي.

(٢) الوافي. ج ٣ ص ٩٦ عن الفقيه.

(٣)، (٤)، (٥) الوافي ج ٣ ص ٩٦ عن الكافي.

٤٥٩

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إنّ يعقوب لمّا ذهب منه بنيامين نادى، يا ربّ أما ترحمني، أذهَبت عيني، وأذهَبت ابني. فأوحى اللّه تعالى إليه: لو أمتّهما لأحييتهما لك حتّى أجمع بينك وبينهما، ولكن تذكر الشاة التي ذبحتها، وشويتها وأكلت، وفلان إلى جانبك صائم لم تنله منها شيئاً )(١).

وفي روايةٍ أُخرى قال: ( وكان بعد ذلك يعقوب يُنادي مناديه كلّ غداة، مِن منزله على فرسخ، ألا مَن أراد الغداء فليأتِ إلى يعقوب. وإذا أمسى نادى: ألا مَن أراد العشاء فليأتِ إلي يعقوب )(٢).

حقوق الجار:

وخلاصتها أنْ يُساس الجار باللطف وحُسن المداراة، كابتدائه بالسلام وعيادته في المرض، وتهنئته في الأفراح، وتعزيته في المصائب، وعدَم التطلّع إلى حرمه، والإغضاء عن هفَواته، وكفّ الأذى عنه، وإعانته ماديّاً إذا كان معوزاً، وإعادة ما يستعيره مِن الأدوات المنزليّة، ونصحه إذا ما زاغ وانحرف عن الخطّ المستقيم.

ومِن طريف ما يُحكى في حُسن الجوار:

( إنّ رجُلاً كان جاراً لأبي دلف ببغداد، فأدركته حاجة، وركِبه دينٌ فادحٌ حتّى احتاج إلى بيع داره، فساوموه فيها، فسمّى لهم ألف

_____________________

(١) - (٢) الوافي ج ٣ ص ٩٦ عن الكافي.

٤٦٠

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606