الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل6%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 254494 / تحميل: 6667
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

لقد قاوم السحرة كلتا حربتي فرعون ، وأجابوه جواب رجل واحد : إنّنا نرجع إلى ربّنا إذن( قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ ) .

يعني إذا تحقق تهديدك الثّاني (وهو القتل) فمعناه أنّنا سننال الشهادة في سبيل الدفاع عن الحق ، وهذا لا يوجب ضررا علينا ، ولا ينقصنا شيئا ، بل يعدّ سعادة وفخرا عظيما لنا.

ثمّ إنّهم للردّ على تهمة فرعون ، ولإيضاح الحقيقة لجماهير المتفرجين على هذا المشهد ، واثبات براءتهم من أي ذنب ، قالوا : إنّ الإشكال الوحيد الذي تورده علينا هو أنّنا آمنا بآيات الله وقد جاءتنا( وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا ) .

يعني أنّنا لسنا مشاغبين ، ولا متآمرين ، ولا متواطئين ضدك ، وليس إيماننا بموسى يعني أنّنا نريد استلام أزمة الحكم ، ولا أن نخرج أهل هذه البلاد من ديارهم ، وأنت نفسك تعلم أننا لسنا بهذا الصدد ، بل نحن عند ما رأينا الحق وشاهدنا علائمه بوضوح أجبنا داعي الله ولبينا نداءه وآمنا به ، وهذا هو ذنبنا الوحيد في نظرك ليس غير.

وهكذا أظهروا لفرعون بالجملة الأولى أنّهم لا يخافون أي تهديد ، وأنّهم يستقبلون جميع الحوادث والتبعات حتى الشهادة بمنتهى الشهامة. وبالجملة الثّانية ردّوا بصراحة على الاتهامات التي وجهها فرعون إليهم.

إن جملة «تنقم» مشتقة من مادة «نقمة» على وزن «نعمة» وهي في الأصل تعني رفض شيء باللسان أو بالعمل والعقوبة. وعلى هذا فإنّ الآية أعلاه يمكن أن تكون بمعنى إنّ العمل الوحيد الذي تنكره علينا هو أنّنا آمنا ، أو يعني أنّ العقوبة التي تريد أن تعاقبنا بها إنما هو لأجل إيماننا.

ثمّ إنّهم أشاحوا بوجوههم عن فرعون وتوجهوا إلى الله سبحانه ، وطلبوا منه الصبر والاستقامة ، لأنّهم كانوا يعلمون أنّهم لا يستطيعون أن يقاوموا تلك

١٦١

العقوبات الثقيلة من دون نصره وتأييده وعونه ، لهذا قالوا :( رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ ) .

والملفت للنظر أنّهم بعبارة( أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً ) أظهروا أن الخطر المحدق بهم بلغ الدرجة القصوى ، فأعطنا يا ربّ أنت ـ أيضا ـ آخر درجات الصبر والاستقامة ، لأنّ «أفرغ» من مادة «الإفراغ» بمعنى صبّ السائل من وعاء حتى يفرغ.

الاستقامة الواعية :

يمكن أن يتملك الإنسان عجب شديد عند أوّل اطلاعة على قصّة السحرة في زمان موسىعليه‌السلام الذين صاروا من المؤمنين الصادقين ، هل يمكن أن يحدث مثل هذا الانقلاب والتحول العميق في الروح الإنسانية في مثل هذه المدّة القصيرة ، بحيث يقطع الشخص كل علاقاته مع الصف المخالف ، ويصير في صف الموافق ، ثمّ يدافع عن عقيدته الجديدة بإصرار وعناد عجيبين إلى درجة أنّه يتجاهل مكانته ومصالحه وحياته جميعا ، ويستقبل الشهادة بشجاعة منقطعة النظير ، وبوجه مستبشر؟

ولكن هذا الاستغراب يتبدد إذا التفتنا إلى هذه النقطة ، وهي أنّ هؤلاء ـ نظرا إلى سوابقهم الكثيرة في علم السحر ـ وقفوا جيدا على عظمة معجزة النّبي موسىعليه‌السلام وحقانيته ، وسلكوا هذا السبيل عن وعي كامل وهذا الوعي صار منشأ لعشق ملتهب سر بل كل وجودهم وكيانهم ، وهو عشق لا يعرف حدّا وسدّا ، وفوق جميع النوازع والرغبات البشرية.

إنّهم كانوا يعلمون جيدا أي طريق يسلكونه؟ ولماذا يجاهدون؟ ومن يكافحون؟ وأي مستقبل مشرق ينتظر هذا الجهاد العظيم؟

أجل ، إذا كان الإيمان مقرونا بالوعي الكامل فإنّه ينتهي إلى مثل هذا العشق

١٦٢

الملتهب الذي لا يكون هذا التفاني في سبيله مثار للعجب.

ولهذا نرى كيف أن السحرة قالوا بصراحة وشجاعة (كما في سورة طه الآية (٧٢) :( قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا ) .

وأخيرا ـ وكما جاء في الرّوايات وكتب التأريخ ـ استقام أولئك الجماعة من السحرة الذين آمنوا بموسى حتى نفّذ فرعون تهديداته ، ومثّل بأجسامهم تمثيلا مروعا ، وصلبهم على جذوع النخل على مقربة من نهر النيل. وهكذا كتبت أسماؤهم مع أحرار التاريخ بأحرف من نور ، وكانوا كما وصفهم المفسّر الكبير العلّامة الطبرسي : كانوا أوّل النهار كفارا سحرة ، وآخر النهار شهداء وبررة.

ولكن مع الالتفات إلى أنّ مثل هذا الانقلاب والتحول والاستقامة ليس ممكنا إلّا في ظلّ الإمدادات الإلهية ، ومن المسلّم أن كلّ من اختار سلوك طريق الحق ، شملته هذه العنايات الرّبانية ، والإمدادات الإلهية.

* * *

١٦٣

الآيات

( وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (١٢٧) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٢٩) )

التّفسير

في هذه الآيات يبيّن لنا القرآن الكريم مشهدا آخر من الحوار الذي دار بين فرعون وبين ملائه حول وضع موسىعليه‌السلام ، ويستفاد من القرائن الموجودة في نفس الآية أنّ محتوى هذه الآيات يرتبط بفترة ما بعد المواجهة بين موسى وبين السحرة.

تقول الآية في البداية :( وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ) .

١٦٤

يستفاد من هذا التعبير ـ جيدا ـ أنّ فرعون بعد هزيمته أمام موسىعليه‌السلام ترك موسى وبني إسرائيل أحرارا (طبعا الحرية النسبية) مدّة من الزمن ، ولم يترك بنو إسرائيل بدورهم هذه الفرصة من دون أن يشتغلوا بالدعوة والتبليغ لصالح دين موسىعليه‌السلام إلى درجة أن قوم فرعون قلقوا من انتشاره ونفوذ دعوتهم ، فحضروا عند فرعون وحرضوه على اتّخاذ موقف مشدد تجاه موسى وبني إسرائيل.

فهل فترة الحرية النسبية هذه كانت لأجل الخوف والرعب الذي أصاب فرعون بسبب ما رأى من معجزة موسىعليه‌السلام القوية ، أو للاختلاف الذي برز في شعب مصر (وحتى القبطيين منهم) حول موسى ودينه ، حيث أنّ جماعة رغبوا في دينه ، وكان فرعون شاهدا لهذه الحالة فلم يمكنه أن يتخذ في مثل هذه الأجواء والظروف موقفا متشددا من موسى ودينه.

كلا الاحتمالين قريبان إلى ذهن فرعون ، ويمكن أن يكون كلاهما معا قد تركا أثرا في نفسه وفكره.

وعلى كل حال فإنّ فرعون ـ بسبب تحذيرات أعوانه وحاشيته ـ صمم على اتّخاذ موقف متشدد من بني إسرائيل ، فقال لحاشيته في معرض الجواب على تحريضهم وتحذيرهم : سأقتل أبناءهم واستخدام نساءهم ونحن متفوقون عليهم على كل حال :( قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ ) .

وقد وقع كلام بين المفسّرين حول المراد من لفظة «آلهتك» والظاهر من الآية هو أنّ فرعون كانت له معبودات وأصنام ، وإن كان يفهم من الآية (٤) من سورة النازعات( أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى ) ومن الآية (٣٨) من سورة القصص( ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي ) إنّ فرعون كان أعظم إله لشعب مصر ، أو على الأقل كان فرعون يعتبر نفسه أعظم معبود لشعب مصر ولكن مع ذلك كان قد اختار آلهة لنفسه وكان يعبدها.

والنقطة الأخرى أن فرعون عمد هنا إلى مكافحة جذرية وعميقة ، وقرر

١٦٥

تحطيم قوة بنى إسرائيل تحطيما كاملا ، وذلك بالقضاء على المقاتلين ورجال الحرب بقتل أبناء بني إسرائيل واستئصالهم ، ويستبقي نساءهم وبناتهم لاسترقاقهن واستخدامهن ، وهذا هو نهج كل مستعمر قديم وجديد ، فهو يقضي على الرجال العالمين والقوى المؤثرة في المواجهة ، أو يقتل فيهم روح الرجولة والشهامة والغيرة والحمية بالوسائل المختلفة ، ويستبقي غير المؤثرين في هذا المجال.

على أنّه يحتمل ـ أيضا ـ أن فرعون كان يريد أن يبلغ هذا الكلام إلى مسامع بني إسرائيل ، فتتحطم معنوياتهم من جهتين : أوّلاهما من جهة قتل أبنائهم ورجال مستقبلهم ، والأخرى : من جهة وقوع نسائهم وأعراضهم في أيدي العدو.

وعلى كل حال أراد بعبارة( إِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ ) أن يزيل الخوف والقلق من قلوب حاشيته وأعوانه ، ويخبرهم بأنّه مسيطر على الأوضاع سيطرة كاملة.

سؤال :

وهنا يطرح سؤال ، وهو : لماذا لم يقرر فرعون قتل موسى ، وإنّما قرر ـ فقط ـ القضاء على أبناء بني إسرائيل؟

جواب :

يستفاد من آيات سورة المؤمن ـ جيدا ـ أنّ فرعون كان عازما في البداية على قتل موسى ، ولكن نصائح مؤمن آل فرعون المقترنة بالتهديد ، في أنّ قتل موسى يمكن أن يقترن بالخطر فيحتمل أن يكون مرسلا من الله حقيقة وواقعا ، وأن كل ما يقوله من العقوبات الإلهية يتحقق بمقتله ، أثرت في روح فرعون وفكره.

هذا مضافا إلى أنّ خبر انتصار موسى على السحرة انتشر في كل مكان ،

١٦٦

ووقع بسببه خلاف بين شعب مصر في مخالفة أو تأييد موسى. ولعل فرعون خاف إن هو اتّخذ من موسىعليه‌السلام موقفا حادا واجه ردّ فعل قوي من جانب الناس الذين تأثروا بهذه المسألة ، ولهذا انصرف عن فكرة قتل موسىعليه‌السلام .

والآية اللاحقة بيّنت ـ في الحقيقة ـ خطّة موسى التي اقترحها على بني إسرائيل لمواجهة تهديدات فرعون ، وشرح فيها شروط الغلبة على العدو ، وذكرهم بأنّهم إذا عملوا بثلاث مبادئ انتصروا على العدو حتما :

أوّلها : الاتكال على الله فقط( قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ ) .

والآخر : أن يثبتوا ولا يخافوا من تهديدات العدو :( وَاصْبِرُوا ) .

وللتأكيد على هذا المطلب ، ومن باب ذكر الدليل ، ذكّرهم بأنّ الأرض كلّها ملك الله ، وهو الحاكم عليها والمالك المطلق لها ، فهو يعطيها لمن يشاء( إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) .

وآخر هذه المبادئ هو أن يعتمدوا التقوى لأنّ العاقبة لمن اتّقى( وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) .

هذه المبادئ والشروط الثلاثة ـ أحدها في العقيدة (الاستعانة بالله) والثّاني في الأخلاق (الصبر والثبات) والأخير في العمل (التقوى) ـ ليست شرائط انتصار قوم بني إسرائيل وحدهم على العدو ، بل كل شعب أراد الغلبة على أعدائه لا بدّ له من تحقيق هذه البرامج الثلاثة فالأشخاص غير المؤمنين والجبناء الضعفاء الإرادة ، والشعوب الفاسقة الغارقة في الفساد ، إذا ما انتصرت فإنّ انتصارها يكون لا محالة مؤقتا غير باق.

والملفت للنظر أنّ هذه الشروط الثلاثة كل واحد منها متفرع على الآخر ، فالتقوى لا تتوفر من دون الثبات والصبر في مواجهة الشهوات ، وأمام بهارج العالم المادّي ، كما أنّ الصبر والثبات لا يكون لهما أي بقاء ودوام من دون الإيمان

١٦٧

بالله.

وفي آخر آية من الآيات الحاضرة يعكس القرآن الكريم شكايات بني إسرائيل وعتابهم من المشكلات التي ابتلوا بها بعد قيام موسىعليه‌السلام فيقول :( قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا ) فإذا متى يحصل الفرج؟!

وكأنّ بني إسرائيل مثل كثير منّا كانوا يتوقعون أن تصلح جميع الأمور بقيام موسىعليه‌السلام في ليلة واحدة أن يزول فرعون ويسقط ، ويهلك الجهاز الفرعوني برمته ، وتصبح مصر بجميع ثرواتها تحت تصرف بني إسرائيل ، ويتحقق كل ذلك عن طريق الإعجاز ، من دون أن يتحمل بنو إسرائيل أيّ عناء.

ولكن موسىعليهم‌السلام أفهمهم بأنّهم سينتصرون في المآل ، ولكن أمامهم طريقا طويلا ، وإنّ هذا الإنتصار ـ طبقا للسنة الإلهية ـ يتحقق في ظل الاستقامة والثبات والسعي والاجتهاد ، كما جاء ذلك في الآية الحاضرة( قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ ) .

وذكر كلمة «عسى» مثل كلمة «لعلّ» التي وردت في كثير من الآيات القرآنية إشارة ـ في الحقيقة ـ إلى أنّ لهذا التوفيق والإنتصار شرائط ، من دونها لا يصلون إليه ، (للوقوف على المزيد في هذا المجال راجع ما كتبناه في تفسير الآية ٨٤ من سورة النساء).

ثمّ يقول في ختام الآية : إنّ الله أعطاكم هذه النعمة ، وأعاد إليكم حريتكم المسلوبة كي ينظر كيف تتصرفون أنتم( فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ) ؟

يعني ستبدأ ـ بعد الإنتصار ـ مرحلة امتحانكم واختباركم ، اختبار شعب كان فاقدا لكل شيء ثمّ حصل على كل شيء في ضوء الهداية الإلهية.

إنّ هذا التعبير ـ هو ضمنا ـ إشعار بأنّكم سوف لا تخرجون من هذا الاختبار ـ في المستقبل ـ بنجاح ، وستفسدون وتظلمون كما فعل من كان قبلكم.

١٦٨

ونقرأ في رواية وردت في كتاب الكافي مروية عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «وجدنا في كتاب علي صلوات الله عليه : إنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ، أنا وأهل بيتي الذين أورثنا الله الأرض ونحن المتقون»(١) .

وهذه إشارة إلى أن الحكم المذكور في هذه الآية حكم شامل ، وقانون عام ، والأرض هي الآن ـ في الحقيقة ـ للمتقين.

* * *

__________________

(١) التّفسير نور الثقلين ، المجلد الثاني ، الصفحة ٥٦.

١٦٩

الآيتان

( وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣١) )

التّفسير

العقوبات التنبيهية :

لقد كان القانون الإلهي العام في دعوة الأنبياء ـ كما قلنا في تفسير الآية (٩٤) من نفس هذه السورة ـ هو أنّهم كلّما واجهوا معارضة كان الله تعالى يبتلي الأقوام المعاندين بأنواع المشاكل والبلايا ، حتى يحسّوا بالحاجة في ضمائرهم وأعماق نفوسهم ، وتستيقظ فيهم فطرة التوحيد المتكسّلة تحت حجاب الغفلة عند الرفاه والرخاء ، فيعودوا إلى الإحساس بضعفهم وعجزهم ، ويتوجهوا إلى المبدأ القادر مصدر جميع النعم.

وفي أوّل آية من الآيتين الحاضرتين إشارة إلى نفس هذا المطلب في قصّة فرعون ، إذ يقول تعالى :( وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ

١٧٠

لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) .

و «السنين» جمع «سنة» بمعنى العام ، ولكنّها إذا قرنت بلفظة «أخذ» أعطت معنى الابتلاء بالقحط والجدب ، وعلى هذا يكون معنى أخذته السنة هو : أصيب بالقحط والجدب ، ولعل علّة ذلك هي أن أعوام القحط والجدب قليلة بالقياس إلى أعوام الخصب والخير ، وعلى هذا إذا كان المراد من السنة السنين العادية لم يكن ذلك موضوعا جديدا ، ويتبيّن من ذلك أنّ المراد من السنين هي السنين الاستثنائية ، أي سنوات القحط وأعوام الجدب.

وكلمة «آل» كانت في الأصل «أهل» ثمّ قلبت فصارت هكذا ، والأهل بمعنى أقرباء الإنسان وخاصته ، سواء أقرباؤه أو زملاؤه ونظراؤه في المسلك والتفكير وأعوانه.

ومع أنّ القحط والجدب أصابا حاشية فرعون ومؤيديه أجمع ، ولكن الخطاب في الآية موجه إلى خصوص أقربائه وخاصته ، وهو إشارة إلى أن المهم هو أن يستيقظ هؤلاء ، لأنّ بيدهم أزمة الناس أن يضلوا الناس ، أو يهدونهم ، ولهذا توجه الخطاب إليهم فقط ، وإن كان البلاء قد أصاب الآخرين أيضا.

ويجب أن لا نستبعد هذه النقطة ، وهي أن الجدب كان يعدّ بلاء عظيما لمصر ، لأنّ مصر كانت بلدا زراعيا ، فكان الجدب مؤذيا لجميع الطبقات ، ولكن من المسلّم أنّ آل فرعون ـ وهم الأصحاب الأصليين للأراضي الزراعية وإنتاجها ـ كانوا أكثر تضررا بهذا البلاء.

ثمّ إنّه يعلم من الآية الحاضرة أنّ الجدب استمر عدّة سنوات ، لأنّ كلمة «سنين» صيغة جمع ، وخاصّة أنّه أضيف إليها عبارة( نَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ ) لأنّ الجدب المؤقت والعابر يمكن أن يترك شيئا من الأثر في الأشجار ولكن عند ما يكون الجدب طويلا فإنّه يبيد الأشجار أيضا. ويحتمل أيضا أنّه علاوة على الجدب فانّ الفواكه والثمار أصيبت بآفات قاتلة كذلك.

١٧١

وكأنّ جملة( لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) إشارة إلى هذه النقطة ، وهي : أنّ التوجه إلى حقيقة التوحيد موجودة من البداية في الروح الآدمية ، ولكنّه على أثر التربية غير الصحيحة أو بطر النعمة ينساها الإنسان ، وعند حلول البلايا والأزمات يتذكر ذلك مجددا ، ومادة «تذكر» تناسب هذا المعنى.

هذا والجدير بالانتباه أنّ جملة( لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ) جاءت في ذيل الآية (٩٤) وهي مقدمة أخرى ـ في الحقيقة ـ لأنّ الإنسان يتذكر أوّلا ، ثمّ يخضع ويسلّم ، أو يطلب من الله الصفح والمغفرة.

ولكن بدل أن يستوعب «آل فرعون» هذه الدروس الإلهية ، ويستيقظوا من غفلتهم وغفوتهم العميقة ، أساءوا استخدام هذا الظرف والحالة ، وفسّروها حسب مزاجهم ، فإذا كانت الأحوال مؤاتية ومطابقة لرغبتهم ، وكانوا يعيشون في راحة واستقرار قالوا : إنّ الوضع الحسن هو بسبب جدارتنا ، وصلاحنا( فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ ) .

ولكن عند ما تنزل بهم النوائب فإنّهم ينسبون ذلك إلى موسىعليه‌السلام وجماعته فورا ويقولون هذا من شومهم :( وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ ) .

و «يطّيروا» مشتقة من مادة «تطيّر» بمعنى التشاؤم ، وأصلها من الطير ، فقد كان العرب غالبا ما يتشاءمون بواسطة الطيور. وربّما تشاءموا بصوت الغراب ، أو بطيران الطير ، فإذا طار من ناحية اليسار اعتبروا ذلك علامة الشقاء والفشل ، وكلمة التطير تعني مطلق التشاؤم.

ولكن القرآن الكريم قال في معرض الردّ عليهم : اعلموا أنّ منشأ كل شؤم وبلاء أصابكم انّما هو من قبل الله ، وأنّ الله تعالى أراد أن تصيبكم نتيجة أعمالكم المشؤومة ، ولكن أكثرهم لا يعلمون( أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) .

والجدير بالتأمل أن هذا النمط من التفكير لم يكن خاصا بالفرعونيين ، بل

١٧٢

هو أمر نلاحظه بوضوح الآن بين الشعوب المصابة بالأنانية والضلال ، فهي ـ بغية قلب الحقائق ، وخداع ضميرها أو ضمائر الآخرين ـ كلما أصابها نجاح وتقدم اعتبرت ذلك ناشئا من جدارتها وكفاءتها ، وإن لم يكن في ذلك النجاح والتقدم أدنى شيء من تلك الكفاءة والجدارة ، وبالعكس إذا أصابها أي إخفاق وشقاء نسبت ذلك فورا إلى الأجانب وإلى أيادي العدو الخفيّة أو المكشوفة ، وإن كانوا هم بأنفسهم سبب ذلك الشقاء والإخفاق.

يقول القرآن الكريم : إنّ أعداء الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا يتوسلون بمثل هذا المنطق أيضا في مقابل رسول الله (كما نقرأ في الآية ٧٨ من سورة النساء).

وفي مكان آخر يقول : إنّ المنحرفين هم هكذا (كما في سورة فصلت الآية ٥٠) وهذا في الحقيقة هو أحد مظاهر الأنانية واللجاج البارز.(١)

التفاؤل والتشاؤم (الفأل والطيرة) :

مسألة التطيّر والتفاؤل والتشاؤم قد تكون منتشرة في مختلف المجتمعات البشرية ، فيتفاءلون بأمور وأشياء ويعتبرونها دليل النجاح ، ويتشاءمون بأمور وأشياء ويعتبرونها آية الهزيمة والفشل. في حين لا توجد أية علاقة منطقية بين النجاح والإخفاق وبين هذه الأمور ، وبخاصّة في مجال التشاؤم حيث كان له غالبا جانب خرافي غير معقول.

إنّ هذين الأمرين وإن لم يكن لهما أي أثر طبيعي إلّا أنّه يمكن أن يكون لهما أثر نفسي لا ينكر ، وإنّ التفاؤل غالبا يوجب الأمل والتحرك ، والتشاؤم يوجب اليأس والوهن والتراجع.

ولعله لأجل هذا لم ينه في الرّوايات والأحاديث الإسلامية عن التفاؤل ،

__________________

(١) ذكر «حسنة» محلاة بالألف واللام و «إذا» وذكر «سيئة» مع (إن) بصورة النكرة إشارة إلى النعم كانت تنزل عليهم بصورة متتابعة ، بينما كانت البلايا تنزل أحيانا.

١٧٣

بينما نهي عن التشاؤم بشدّة ، ففي حديث معروف مروي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «تفاءلوا بالخير تجدوه» وقد شوهد في أحوال النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الهداةعليهم‌السلام ـ أنفسهم ـ أنّهم ربّما تفاءلوا بأشياء ، مثلا عند ما كان المسلمون في «الحديبية» وقد منعهم الكفار من الدخول إلى مكّة جاءهم «سهيل بن عمرو» مندوب من قريش ، فلمّا علم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باسمه قال متفائلا باسمه : «قد سهل عليكم أمركم»(١) .

وقد أشار العالم المعروف «الدميري» وهو من كتّاب القرن الثامن الهجري ، في إحدى كتاباته إلى نفس هذا الموضوع ، وقال : إنّما أحب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الفأل لأنّ الإنسان إذا أمل فضل الله كان على خير ، وإن قطع رجاءه من الله كان على شر ، والطيرة فيها سوء ظن وتوقع للبلاء(٢) .

ولكن في مجال التشاؤم الذي يسمّيه العرب «التطير» و «الطيرة» ورد في الأحاديث الإسلامية ـ كما أسلفنا ـ ذم شديد ، كما أشير إليه في القرآن الكريم مرارا وتكرارا أيضا ، وشجب بشدّة(٣) .

ومن جملة ذلك ما روي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «الطيرة شرك»(٤) وذلك لأن من يعتقد بالطيرة كأنّه يشركها في مصير الإنسان.

وتشير بعض الأحاديث أنّه إذا كان للطيرة أثر سيء فهو الأثر النفسي ، قال الإمام الصادقعليه‌السلام : «الطيرة على ما تجعلها ، إن هونتها تهونت ، وإن شددتها تشدّدت ، وإن لم تجعلها شيئا لم تكن شيئا»(٥)

وورد أنّ طريقة مكافحة الطيرة تتمثل في عدم الاعتناء بها ، فقد روي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «ثلاث لا يسلّم منها أحد : الطيرة والحسد والظن. قيل : فما

__________________

(١) الميزان ، المجلد ١٩ ، الصحفة ٨٦.

(٢) سفينة البحار ، المجلد الثاني ، الصفحة ١٠٢.

(٣) مثل سورة «يس» الآية (١٩) ، وسورة النمل الآية (٤٧) ، والآية المطروحة على بساط البحث هنا.

(٤) الميزان في ذيل الآية المبحوثة هنا.

(٥) الميزان ، في ذيل الآية المبحوثة هنا.

١٧٤

نصنع؟ قال : إذا تطيرت فامض (أي لا تعتن بها) وإذا حسدت فلا تبغ (أي لا تعمل بوحي منه شيئا) وإذا ظننت فلا تحقق».

والعجيب أنّ مسألة الفأل والطيرة كانت ولا تزال موجودة حتى في البلاد الصناعية المتقدمة ، وفي أوساط من يسمّون بالمثقفين ، بل وحتى النوابغ المعروفين ، ومن جملتها : يعتبر المرور من تحت السلّم عند الغربيين ـ وسقوط المملحة ، وإهداء سكين ، أمورا يتشاءم بها بشدّة.

على أنّ وجود الفأل الجيد ـ كما قلنا ـ ليس مسألة مهمّة ، بل لها غالبا آثار حسنة طيبة ، ولكن يجب مكافحة عوامل التشاؤم وفكرة الطيرة ، ونبذها من الأذهان ، وأفضل وسيلة لمكافحتها هي تقوية روح التوكل ، والثقة بالله والاعتماد عليه كما أشير إلى ذلك في الأحاديث الإسلامية.

* * *

١٧٥

الآيتان

( وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (١٣٣) )

التّفسير

النّوائب المتنوعة :

في هاتين الآيتين أشير إلى مرحلة أخرى من الدروس المنبهة التي لقّنها الله لقوم فرعون ، فعند ما لم تنفع المرحلة الأولى ، يعني أخذهم بالجدب والسنين وما ترتب عليه من الأضرار المالية في إيقاظهم وتنبيههم ، جاء دور المرحلة الثّانية وتمثلت في عقوبات أشدّ ، فأنزل الله عليهم نوائب متتابعة مدمرة ، ولكنّهم ـ وللأسف ـ لم ينتبهوا مع ذلك.

وفي الآية الأولى من الآيات المبحوثة يقول القرآن الكريم من باب المقدمة لنزول النّوائب : إنّهم بقوا يلجّون في إنكار دعوة موسى ، وقالوا : مهما تأتنا من آية وتريد أن تسحرنا بها فإننا لن نؤمن بك :( وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها

١٧٦

فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ) .

إنّ التعبير بـ «الآية» لعلّه من باب الاستهزاء والسخرية ، لأنّ موسىعليه‌السلام وصف معاجزه بأنّها آيات الله ، ولكنّهم كانوا يفسرونها بالسحر.

إنّ لحن الآيات والقرائن يفيد أنّ الجهاز الإعلامي الفرعوني الذي كان ـ تبعا لذلك العصر ـ أقوى جهاز إعلامي ، وكان النظام الحاكم في مصر يستخدمه كامل الاستخدام إنّ هذا الجهاز الإعلامي قد عبّأ قواه في توكيد تهمة السحر في كل مكان ، وجعلها شعارا عاما ضد موسىعليه‌السلام ، لأنّه لم يكن هناك تهمة منها أنسب بالنسبة إلى معجزات موسىعليه‌السلام للحيلولة دون انتشار الدعوة الموسوية ونفوذها المتزايد في الأوساط المصرية.

ولكن حيث أن الله سبحانه لا يعاقب أمّة أو قوما من دون أن يتمّ عليهم الحجّة قال في الآية اللاحقة : نحن أنزلنا عليهم بلايا كثيرة ومتعددة لعلهم يتنبهون فقال أولا :( فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ ) .

وكلمة «الطوفان» مشتقّة من مادة «الطوف» على وزن «خوف» وتعني الشيء الذي يطوف ويدور ، ثمّ أطلقت هذه اللفظة على الحادثة التي تحيط بالإنسان ، ولكنّها أطلقت ـ في اللغة ـ على السيول والأمواج المدمرة التي تأتي على كل شيء في الأغلب ، وبالتالي تدمر البيوت ، وتقتلع الأشجار من جذورها.

ثمّ سلط الجراد على زروعهم وأشجارهم (والجراد).

وقد جاء في الأحاديث أن هجوم أسراب الجراد كان عظيما جدّا إلى درجة أنّها وقعت في أشجارهم وزروعهم أكلا وقضما وإتلافا ، حتى أنّها أفرغتها من جميع الغصون والأوراق ، وحتى أنّها أخذت تؤذي أبدانهم ، بحيث تعالت صيحاتهم واستغاثاتهم.

وكلّما كان يصيبهم بلاء كانوا يلجأون إلى موسىعليه‌السلام ويسألونه أن يطلب من الله أن يرفع عنهم ذلك البلاء ، فقد فعلوا هذا بعد الطوفان والجراد أيضا ، وقبل

١٧٧

موسىعليه‌السلام ، وارتفع عنهم البلاء ولكنّهم مع ذلك لم يكفّوا عن لجاجهم وتعنتهم.

وفي المرّة الثّالثة سلط عليهم القمل( وَالْقُمَّلَ ) .

وأمّا ما هو المراد من «القمل» فقد وقع فيه كلام بين المفسّرين ، ولكن الظاهر أنّه نوع من الآفات الزراعية التي تصيب الغلات ، وتفسدها وتتلفها.

وعند ما خفت أمواج هذا البلاء ، واستمرّوا في عنادهم سلط الله عليهم في المرحلة الرّابعة ، الضفادع ، فقد تزايد نسل الضفادع تزايدا شديدا حتى أنّه تحول إلى بلاء عظيم عكّر عليهم صفو حياتهم :( وَالضَّفادِعَ ) (١) .

ففي كل مكان كانت الضفادع الصغيرة والكبيرة تزاحمهم ، حتى في البيوت والغرف والموائد وأواني الطعام ، بحيث ضاقت عليهم الحياة بما رحبت ، ولكنّهم مع ذلك لم يخضعوا للحق ، ولم يسلّموا.

وفي هذا الوقت بالذات سلّط الله عليهم الدم.

قال البعض : إنّ داء الرعاف (وهو نزيف الدم من الأنف) شاع بينهم كداء عام ، وأصيب الجميع بذلك. ولكن أكثر الرّواة والمفسّرين ذهبوا إلى أن نهر النيل العظيم تغير وصار لونه كلون الدم ، بحيث صار تعافه الطباع ، ولم يعد قابلا للانتفاع.

وقال تعالى في ختام ذلك : إنّ هذه الآيات والمعاجز الباهرة ـ رغم أنّها أظهرت لهم حقانية موسى ـ ولكنّهم استكبروا عن قبول الحق وكانوا مجرمين.( آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ ) .

وفي بعض الرّوايات نقرأ أن كل واحدة من هذه البلايا كانت تقع في سنة واحدة ، يعني أنّه أصابهم الطوفان في سنة ، والجراد في سنة أخرى ، والآفات الزراعية في سنة ثالثة ، وهكذا. ولكن نقرأ في بعض الرّوايات أنّه كان يفصل بين كل بلاء وآخر شهر واحد لا أكثر وعلى أي حال ، لا شك أنّها كانت تقع بصورة

__________________

(١) الضّفادع جمع ضفدعة وقد جاء ذكر هذا البلاء في الآية بصورة الجمع ، ولكن البلايا السابقة جاءت في صورة المفرد. ولعل هذا يفيد أن الله سلّط عليهم أنواعا مختلفة من الضفادع.

١٧٨

منفصلة ، وفي فواصل زمنية مختلفة (كما يقول القرآن : مفصلات) كي تكون هناك فرصة للتفكر والتنبه واليقظة.

هذا والجدير بالانتباه أنّنا نقرأ في الرّوايات أن هذه البلايا كانت تصيب آل فرعون وقومه خاصّة ، وكان بنو إسرائيل في معزل عن ذلك ، ولا شك أنّ هذا نوع من الإعجاز ، ولكن يمكن أن نبرر قسما من ذلك بتبرير علمي معقول ، لأنّنا نعلم أنّ أجمل نقطة في بلد مثل مصر هي شاطئا النيل وضفتاه ، وكانت هذه الشواطئ والضفاف برمتها تحت تصرف الفرعونيين والقبطيين ومحل سكناهم ، فقصورهم الجميلة الشامخة ، ومزارعهم الخضراء وبساتينهم العامرة ، كانت في هذه الضفاف.

وبطبيعة الحال كان نصيب بني إسرائيل الذين كانوا عبيدا للفرعونيين والقبطيين هي النقاط النائية والصحاري البعيدة الشحيحة الماء.

ومن الطبيعي أنّ الطوفان عند ما يحدث يكون الأقرب إلى الخطر ضفتا النيل وشاطئاه ومن يسكنها ، وكذا عند ما كانت الضفادع تخرج من الماء ، وكذا انقلاب الماء إلى هيئة الدم كان يظهر في مياه الفرعونيين الذين كانوا يسكنون إلى جانب النيل دون بني إسرائيل ، وأمّا الجراد والآفات النباتية فقد كانت تتعرض لها المناطق الزراعية والبساتين الخضراء الوفيرة المحصول في الدرجة الأولى.

كل ما قيل في الآيات السابقة جاء في التوراة أيضا ، ولكن ثمّة فروق واضحة بين محتويات القرآن الكريم وما جاء في التوراة راجع سفر الخروج الفصل السابع إلى العاشر من التوراة).

* * *

١٧٩

الآيات

( وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٣٦) )

التّفسير

نقض العهد المتكرر :

في هذه الآيات نلاحظ رد فعل الفرعونيين في مقابل النوائب والبلايا المنبّهة الإلهيّة ، ويستفاد من مجموعها أنّهم عند ما كانوا يقعون في مخالب البلاء ينتبهون من غفوتهم بصورة مؤقتة شأنهم شأن جميع العصاة ، وكانوا يبحثون عن حيلة للتخلص منها ، ويطلبون من موسىعليه‌السلام أن يدعو لهم ، ويسأل الله في خلاصهم ، ولكن بمجرّد أن يزول عنهم طوفان البلاء وتهدأ أمواج الحوادث ، ينسون كل شيء ويعودون إلى سيرتهم الأولى.

وفي الآية الأولى نقرأ :( وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ

١٨٠

بِما عَهِدَ عِنْدَكَ ) .

إنّهم عند نزول البلاء يلجأون إلى موسى ويطلبون منه أن يدعو لرفع العذاب عنهم ، وأن يفي الله بما وعده له من استجابة دعائه :( بِما عَهِدَ عِنْدَكَ ) .

ثمّ يقولون : إذا دعوت فرفع عنّا البلاء فإنّنا نحلف لك بأن نؤمن بك ، ونرفع طوق العبودية عن بني إسرائيل :( لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ ) .

ولفظة «الرجز» استعملت في معاني كثيرة : البلايا الصعبة ، الطاعون ، الوثن والوثنية ، وسوسة الشيطان ، والثلج أو البرد الصلب.

ولكن جميع ذلك مصاديق مختلفة لمفهوم يشكّل الجذر الأصلي لتلك المعاني ، لأن أصل هذه اللفظة كما قال «الراغب» في «المفردات» هو الاضطراب.

وحسب ما قال «الطبرسي» في «مجمع البيان» مفهومه الأصلي هو الانحراف عن الحق.

وعلى هذا الأساس إطلاق لفظ «الرجز» على العقوبة والبلاء ، لأنّها تصيب الإنسان لانحرافه عن الحق ، وارتكاب الذنب ، وكذا يكون الرجز نوعا من الانحراف عن الحق ، والاضطراب في العقيدة ، ولهذا أيضا يطلق العرب هذا اللفظ على داء يصيب الإبل ، ويسبب اضطراب أرجلها حتى أنّها تلجأ للمشي بخطوات قصيرة ، أو تمشي تارة وتتوقف تارة أخرى ، فيقال لهذا الداء «الرجز» على وزن «المرض».

والسبب في إطلاق الرجز على الأشعار الحربيّة ، لأنّها ذات مقاطع قصيرة ومتقاربة.

وعلى كل حال ، فإنّ المقصود من «الرجز» في الآيات الحاضرة هو العقوبات المنبهة الخمسة التي أشير إليها في الآيات السابقة ، وإن احتمل بعض المفسّرين أن يكون إشارة إلى البلايا الأخرى التي أنزلها الله عليهم ولم يرد ذكرها

١٨١

في الآيات السابقة ، ومنها الطاعون أو الثلج والبرد القاتل ، الذي وردت الإشارة إليها في التوراة.

هذا ، وقد وقع كلام بين المفسّرين في المراد من عبارة( بِما عَهِدَ عِنْدَكَ ) وأنّه ما هو المقصود من ذلك العهد الإلهي الذي أعطاه سبحانه لموسى؟

إنّ ما هو الأقرب إلى النظر هو أن المقصود من ذلك الوعد الإلهي هو أن يستجيب دعاءه إذا دعاه ، ولكن يحتمل أيضا أن يكون المقصود هو عهد «النبوة» وتكون «الباء» باء القسم ، يعني نقسم عليك بحق مقام نبوتك إلّا ما دعوت الله ليرفع عنّا هذا البلاء.

وفي الآية اللاحقة يشير إلى نقضهم للعهد ويقول :( فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ ) (1) .

إنّ جملة( إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ ) إشارة إلى أنّ موسى حدّد لهم وقتا وعيّن أمدا ، فكان يقول لهم : في الوقت الفلاني سيرفع هذا البلاء عنكم ، حتى يتّضح لهم أنّ ارتفاع ذلك البلاء عنهم ليس أمرا اتفاقيا وصدقة ، بل هو بفضل دعائه وطلبه من الله تعالى.

إنّ جملة( إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ ) وبالنظر إلى أن «ينكثون» فعل مضارع يدلّ على الاستمرارية يفيد أنّه قد تكرر تعهدّهم لموسىعليه‌السلام ثمّ نقضهم للعهد ، حتى أصبح نقض العهد جزءا من برنامجهم وسلوكهم الدائم.

وآخر هذه الآيات تبيّن ـ من خلال جملتين قصيرتين ـ عاقبة كلّ هذا التعنت ، ونقض العهد ، فتقول بصورة مجملة( فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ ) .

ثمّ تشرح هذا الانتقام وتذكر تفصيله( فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ ) (2) .

__________________

(1) النكث على وزن مكث ، يعني فل الحبل المفتول ، ثمّ أطلق على نقض الميثاق والعهد.

(2) يستفاد من مصادر اللغة ، وكتب الأحاديث أن المراد من اليم هو «البحر» ، وهو يطلق على نهر النيل أيضا ، أمّا أن لفظة اليم

١٨٢

إنّهم لم يكونوا غافلين واقعا ، لأنّ موسىعليه‌السلام ذكّرهم مرارا وبالوسائل المختلفة المتعددة ونبههم ، بل أنّهم تصرّفوا عمليا كما يفعل الغافلون ، فلم يعتنوا بآيات الله أبدا.

ولا شك أن المقصود من الانتقام الإلهي ليس هو أنّ الله كان يقوم بردّ الفعل في مقابل أعمالهم ، كما يفعل الأشخاص الحاقدون الذين ينطلقون في ردود أفعالهم من مواقع الحقد والانتقام ، بل المقصود من الانتقام الإلهي هو أن الجماعة الفاسدة وغير القابلة للإصلاح لا يحق لها الحياة في نظام الخلق ، ولا بدّ أن تمحى من صفحة الوجود.

والانتقام في اللغة العربية ـ كما أسلفنا ـ يعني العقوبة والمجازاة ، لا ما هو شائع في عرف الناس اليوم.

* * *

__________________

هل هي عربية أو سريانية أو هيرغلوفية ، فقد وقع في ذلك كلام بين العلماء ، يقول صاحب تفسير المنار وهو أحد علماء مصر المعروفين والذي جمع وجوه اشتراك اللغات الهيروغلوفية والعربية وألف كتاب المعجم الكبير في هذا المجال نقل : أنه وجد بعد التحقيق أن لفظة اليم كانت في اللغة المصرية تعني البحر ، وعلى هذا الأساس حيث أن هذه القصة تتعلق بمصر لهذا استفاد القرآن من لغات المصريين في بيان هذه الحادثة.

١٨٣

الآية

( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (137) )

التّفسير

قوم فرعون والمصير المؤلم :

بعد هلاك قوم فرعون ، وتحطّم قدرتهم ، وزوال شوكتهم ، ورث بنو إسرائيل الذين طال رزوحهم في أغلال الأسر والعبودية أراضي الفراعنة الشاسعة والآية الحاضرة تشير إلى هذا الأمر( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها ) .

و «الإرث» كما أسلفنا يعني في اللغة المال الذي ينتقل من شخص إلى آخر من دون تجارة ومعاملة ، سواء كان المنتقل منه حيا أو ميّتا.

و «يستضعفون» مشتقّة من مادة «الاستضعاف» وتطابق كلمة «الاستعمار» التي تستعمل اليوم في عصرنا الحاضر ، ومفهومها هو أن يقوم جماعة بإضعاف

١٨٤

جماعة أخرى حتى يمكن للجماعة الأولى أن تستغل الجماعة الضعيفة في سبيل مآربها ومصالحها ، غاية ما هنالك أن هناك تفاوتا بين هذه اللفظة ولفظة الاستعمار ، وهو : أن الاستعمار ظاهره تعمير الأرض ، وباطنه الإبادة والتدمير ، ولكن الاستضعاف ظاهره وباطنه واحد.

والتعبير ب( كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ ) إشارة إلى الفرعونيين كانوا يستبقون بني إسرائيل في حالة ضعف دائمية : ضعف فكري ، وضعف أخلاقي ، وضعف اقتصادي ، ومن جميع الجهات وفي جميع النواحي.

والتعبير ب( مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا ) إشارة إلى الأراضي الواسعة العريضة التي كانت تحت تصرّف الفرعونيين ، لأنّ الأراضي الصغيرة ليس لها مشارق ومغارب مختلفة ، وبعبارة أخرى «ليس لها آفاق متعددة» ولكن الأراضي الواسعة جدا من الطبيعي أن يكون مشارق ومغارب بسبب كروية الأرض فيكون التعبير بمشارق الأرض ومغاربها كناية عن أراضي الفرعونيين الواسعة العريضة جدّا.

وجملة( بارَكْنا فِيها ) إشارة إلى الخصب العظيم الذي كانت تتمتع به هذه المنطقة ـ يعني مصر والشام ـ التي كانت تعدّ آنذاك ، وفي هذا الزمان أيضا ، من مناطق العالم الخصبة الكثيرة الخيرات. حتى أن بعض المفسّرين كتب : إن بلاد الفراعنة في ذلك العصر كانت واسعة جدّا بحيث كانت تشمل بلاد الشام أيضا.

وعلى هذا الأساس لم يكن المقصود من العبارة هو الحكومة على كل الكرة الأرضية ، لأنّ هذا يخالف التاريخ حتما. بل المقصود هو حكومة بني إسرائيل على كل أراضي الفراعنة وبلادهم.

ثمّ يقول :( وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا ) أي تحقق الوعد الإلهي لبني إسرائيل بانتصارهم على الفرعونيين ، بسبب صبرهم وثباتهم.

وهذا هو الوعد الذي أشير إليه في الآيات السابقة (الآية 128 و 129 من نفس هذه السورة).

١٨٥

صحيح أنّ هذه الآية تحدّثت عن بني إسرائيل ونتيجة ثباتهم في وجه الفرعونيين فقط ، إلّا أنّه يستفاد من الآيات القرآنية الأخرى أن هذا الموضوع لا يختص بقوم أو شعب خاص ، بل إن كان شعب مستضعف نهض وحاول تخليص نفسه من مخالب الأسر والاستعمار ، استعان في هذا السبيل بالثبات والاستقامة ، سوف ينتصر آخر المطاف ويحرر الأراضي التي احتلها الظلمة الجائرون.

ثمّ يضيف في آخر الآية : نحن الذين دمرنا قصور فرعون وقومه العظيمة ، وأبنيتهم الجميلة الشامخة ، وكذا بساتينهم ومزارعهم العظيمة( وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ ) .

و «صنع» كما يقول «الراغب» في «المفردات» يعني الأعمال الجميلة ، وقد وردت هذه اللفظة في الآية الحاضرة بمعنى الهندسة الجملية الرائعة التي كان يستخدمها الفرعونيين في أبنيتهم.

و «ما يعرشون» في الأصل تعني الأشجار والبساتين التي تنصب بواسطة العروش والسقف ، ولها جمال عظيم وروعة باهرة.

و «دمرنا» من مادة «التدمير» بمعنى الإهلاك والإبادة.

وهنا يطرح السؤال التالي وهو : كيف أبيدت هذه القصور والبساتين ، ولماذا؟ونقول في الجواب : لا يبعد أن ذلك حدث بسبب زلازل وطوفانات جديدة وأمّا الضرورة التي قضت بهذا الفعل فهي أن جميع الفرعونيين لم يغرقوا في النيل ، بل غرق فرعون وجماعة من خواصّه وعسكره الذين كانوا يلاحقون موسىعليه‌السلام ، ومن المسلّم أنّه لو بقيت تلك الثروات العظيمة ، والإمكانيات الاقتصادية الهائلة بيد من بقي من الفراعنة الذين كان عدد نفوسهم في شتى نواحي مصر كثيرا جدا لاستعادوا بها شوكتهم ، ولقدروا على تحطيم بني إسرائيل ، أو الحاق الأذى بهم على الأقل. أمّا الإمكانيات والوسائل فإن من شأنه أن يجردهم من أسباب الطغيان إلى الأبد.

* * *

١٨٦

الآيات

( وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (139) قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) )

التّفسير

الاقتراح على موسى بصنع الوثن :

في هذه الآيات إشارة إلى جانب حساس آخر من قصّة بني إسرائيل التي بدأت في أعقاب الإنتصار على الفرعونيين ، وذلك هو مسألة توجه بني إسرائيل إلى الوثنية التي بحثت بداياتها في هذه الآيات ، وجاءت نتيجتها النهائية بصورة مفصّلة في سورة طه من الآية (86) إلى (97) ، وبصورة مختصرة في الآية (148) فما بعد من هذه السورة.

١٨٧

وفي الحقيقة فإنّه مع انتهاء قصة فرعون بدأت مشكلة موسى الداخلية الكبرى ، يعني مشكلته مع جهلة بني إسرائيل ، والأشخاص المتعنتين والمعاندين. وكانت هذه المشكلة أشدّ على موسىعليه‌السلام وأثقل بمراتب كثيرة ـ كما سيتّضح من قضية مواجهته لفرعون والملأ وهذه هي خاصية المشاكل والمجابهات الداخلية.

في الآية الأولى :( وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ ) أي النيل العظيم.

ولكن في مسيرهم مرّوا على قوم يخضعون للأصنام( فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ ) .

و «عاكف» مشتقّة من مادة «العكوف» بمعنى التوجه إلى شيء وملازمته المقارنة لاحترامه وتبجيله.

فتأثّر الجهلة الغافلون بهذا المشهد بشدّة إلى درجة قالوا لموسى من دون إبطاء : يا موسى اتّخذ لنا معبودا على غرار معبودات هؤلاء( قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ ) .

فانزعج موسىعليه‌السلام من هذا الافتراح الأحمق بشدّة ، وقال لهم :( قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ) .

* * *

بحوث

وهنا لا بدّ من الانتباه إلى نقاط :

1 ـ الجهل منشأ الوثنية

يستفاد من هذه الآية بوضوح أنّ منشأ الوثنية هو جهل البشر بالله تعالى من جانب ، وعدم معرفته بذاته المقدسة وأنّه لا يتصور له شبيه أو نظير أو مثيل.

ومن جانب آخر جهل الإنسان بالعلل الأصلية لحوادث العالم الذي يتسبب

١٨٨

أحيانا في أن ينسب الحوادث إلى سلسلة من العلل الخرافية والخيالية ومنها الأصنام.

ومن جانب ثالث جهل الإنسان بما وراء الطبيعة ، وقصور فكره إلى درجة أنّه لا يرى ولا يؤمن إلّا بالقضايا الحسية.

إن هذه الجهالات تضافرت وتعاضدت ، وصارت على مدار التأريخ منشأ للوثنية وعبادة الأصنام ، وإلّا فكيف يمكن أن يأخذ إنسان واع فاهم عارف بالله وصفاته ، عارف بعلل الحوادث ، عارف بعالم الطبيعة وعالم بما بعد الطّبيعة. قطعة من الصخر منفصلة من الجبل مثلا ، فيستعمل قسما منها في بناء بيته ، أو صنع سلالم منزله ، ويتخذ قسما آخر معبودا يسجد أمامه ، ويسلّم مقدراته بيده.

والجدير بالذكر أنّنا نقرأ في كلام موسىعليه‌السلام في الآية الحاضرة كيف يقول لهم : أنتم غارقون في الجهل دائما ، (لأنّ تجهلون فعل مضارع ويدل غالبا على الاستمرارية) وبخاصّة أن متعلق الجهل لم يبيّن في الآية ، وهذا يدل على عمومية المجهول وشموليته.

والاغرب من كل ذلك أنّ بني إسرائيل بقولهم( اجْعَلْ لَنا إِلهاً ) أظهروا أن من الممكن أن يصير الشيء التافه ثمينا ـ بمجرّد اختيارهم وجعلهم ووضع اسم الصنم والمعبود عليه ـ وتوجب عبادته التقرب إلى الله ، وعدم عبادته البعد عنه تعالى ، وتكون عبادته منشأ للخير والبركة ، واحتقاره منشأ للضرر والخسارة ، وهذه هي نهاية الجهل والغفلة.

صحيح أنّ مقصود بني إسرائيل لم يكن إيجاد معبود يكون خالق العالم ، بل كان مقصودهم هو : اجعل لنا معبودا نتقرب بعبادته إلى الله ، ويكون مصدرا للخير والبركة ، ولكن هل يمكن أن يصير شيء فاقدا للروح والتأثير مصدرا للخيرات والتأثيرات بمجرّد تسمّيته معبودا وإلها؟ هل الدافع لذلك العمل شيء سوى

١٨٩

الجهل والخرافة ، والخيال الواهي والتصور الخاوي؟!(1)

2 ـ أرضية الوثنية عند بني إسرائيل

لا شك أنّه كانت لدى بني إسرائيل ـ قبل مشاهدة هذا الفريق من الوثنيين ـ أرضية فكرية مساعدة لهذا الموضوع ، بسبب معاشرتهم الدائمة للمصريين الوثنيين ، ولكن مشاهدة هذا المشهد الجديد كان بمثابة شرارة كشفت عن دفائن جبلّتهم ، وعلى كل حال فإنّ هذه القضية تكشف لنا أنّ الإنسان إلى أيّ مدى يتأثر بعامل البيئة ، فإنّ البيئة هي التي تستطيع أن تسوق الإنسان إلى الله ، كما أنّ البيئة هي التي تسوقه إلى الوثنية ، وأنّ البيئة يمكن أن تصير سببا لأنواع المفاسد والشقاء ، أو منشأ للصلاح والطهر. (وإن كان انتخاب الإنسان نفسه هو العامل النهائي) ولهذا اهتم الإسلام بإصلاح البيئة اهتماما بالغا.

3 ـ الكفرة بالنعم في بني إسرائيل

الموضوع الآخر الذي يستفاد من الآية بوضوح ، أنّه كان بين بني إسرائيل أشخاص كثيرون ممن يكفرون النعمة ولا يشكرونها ، فمع أنّهم رأوا كل تلك المعاجز التي أتي بها موسىعليه‌السلام ، ومع أنّهم تمتعوا بكل تلك المواهب الإلهية التي خصّهم الله بها ، فإنّه لم ينقص عن هلاك عدوهم فرعون ونجاتهم من الغرق برهة من الزمن حتى نسوا كل هذه الأمور دفعة واحدة ، وطلبوا من موسى أن يصنع لهم أصناما ليعبدوها!!

ونقرأ في نهج البلاغة أنّ أحد اليهود اعترض على المسلمين عند أمير المؤمنينعليه‌السلام قائلا : ما دفنتم نبيّكم حتى اختلفتم فيه. فردّ عليه الإمام صلوات الله

__________________

(1) مرّت أبحاث أخرى حول تاريخ الوثنية في تفسير الآية (258) سورة البقرة.

١٩٠

عليه قائلا : «إنّما اختلفنا عنه لا فيه ، ولكنّكم ما جفّت أرجلكم من البحر حتى قلتم لنبيّكم اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ، فقال إنّكم قوم تجهلون».

أي أنّنا اختلفنا في الأحاديث والأوامر التي وصلت إلينا عن نبيّنا ، لا أنّنا اختلفنا حول النّبي ونبوته ، (فكيف بألوهية الله) ولكنّكم ما إن خرجتم من مياه البحر إلّا واقترحتم على نبيّكم أن اجعل لنا آلهة كما للوثنيين آلهة ، وقال موسى : إنّكم قوم تجهلون.

وفي الآية اللاحقة نقرأ أنّ موسىعليه‌السلام ـ لتكميل حديثه لبني إسرائيل ـ قال : إنّ هذه الجماعة الوثنية التي ترونها سينتهي أمرها إلى الهلاك ، وإن عملهم هذا باطل لا أساس له( إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

فعمل هذه الجماعة باطل ، وجهودهم غير منتجة ، كما أن مصير مثل هؤلاء القوم وكل قوم وثنيين ومشركين هو الهلاك والدمار. (لأنّ «متبّر» مشتقّة من التبار أي الهلاك).

ثمّ تضيف الآية التوكيد : إنّ موسىعليه‌السلام ( قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ ) .

يعني إذا كان الدافع إلى عبادة الله هو حسّ الشكر ، فجميع النعم التي ترفلون فيها هي من الله ، وإذا كان الدافع للعبادة والعبودية كون هذه العبادة منشأ لأثر ما ، فإنّ ذلك أيضا يرتبط بالله سبحانه ، وعلى هذا الأساس مهما يكن الدافع ، فليس سوى الله القادر المنّان يصلح للعبادة ومستحقا لها.

وفي الآية اللاحقة يذكر القرآن الكريم إحدى النعم الإلهية الكبرى التي وهبها الله سبحانه لبني إسرائيل ، ليبعث بالالتفات إلى هذه النعمة الكبرى حسّ الشكر فيهم ، وليعلموا أن اللائق بالخضوع والعبادة هو الذات الإلهية المقدسة فحسب ، وليس هناك أي دليل يسوّغ لهم الخضوع أمام أصنام لا تضر ولا تنفع شيئا أبدا.

١٩١

يقول في البداية : تذكّروا يوم أنجيناكم من مخالب آل فرعون الذين كانوا يعذبونكم دائما( وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ ) .

و «يسومون» مشتقّة من مادة «سوم» وتعني في الأصل ـ كما قال «الراغب» في «المفردات» ـ الذهاب في طلب شيء ، كما يستفاد من القاموس تضمنه لمعنى الاستمرار والمضّي أيضا ، وعلى هذا يكون معنى( يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ ) أنّهم كانوا يعذبونكم بتعذيبات قاسية باستمرار.

ثمّ تمشيا مع أسلوب القرآن في بيان الأمور بتفصيل بعد إحمال شرح هذا العذاب المستمر ، وهو : قتل الأبناء ، واستبقاء النساء للخدمة والاسترقاق( يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ ، وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ ) .

وقد كان في هذا اختبار عظيم من الله لكم( وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ) .

وسياق الآية يكشف عن أن هذه العبارة قالها موسىعليه‌السلام عن الله لنبي إسرائيل عند ما رغبوا بعد عبورهم بحر النيل في الوثنية وعبادة الأصنام.

صحيح أنّ بعض المفسّرين احتمل أن يكون المخاطبون في هذه الآية هم يهود عصر الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّ التّفسير الأوّل يحتاج إلى تقدير شيء بأن يقال : إن الآية كانت في الأصل هكذا : قال موسى : قال ربّكم وهذا خلاف الظاهر.

ولكن مع الالتفات إلى أنّه لو كان المخاطبون في هذه الآية هم يهود عصر النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لانقطع ارتباط الآية بما يسبقها وما يلحقها بصورة كاملة ، وكانت هذه الآية كالجملة المعترضة ، يبدو للنظر أن التّفسير الأوّل أصح.

هذا ولا بدّ ـ ضمنا ـ من الالتفات إلى أن نظير هذه الآية مرّ في سورة البقرة الآية (49) مع فارق جدا بسيط ، ولمزيد التوضيح راجع تفسير الآية (49) من سورة البقرة.

* * *

١٩٢

الآية

( وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) )

التّفسير

الميعاد الكبير :

في هذا الآية إشارة إلى مشهد من مشاهد حياة بني إسرائيل ، ومشكلة موسىعليه‌السلام معهم ، وذلك هو قصّة ذهاب موسى إلى ميقات ربّه ، وتلقي أحكام التّوراة عن طريق الوحي وكلامه مع الله ، واصطحاب جماعة من كبار بني إسرائيل وشخصياتهم إلى الميقات لمشاهدة هذه الحادثة وإثبات أنّ الله لا يمكن أن يدرك بالأبصار ، والتي ذكرت بعد قصّة عبادة بني إسرائيل للعجل وانحرافهم عن مسير التوحيد ، وضجّة السامريّ العجيبة.

يقول تعالى أوّلا :( وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ) .

وكلمة «الميقات» مشتقّة من مادة «الوقت» بمعنى الموعد المضروب للقيام

١٩٣

بعمل ما ، ويطلق عادة على الزمان ، ولكنّه قد يطلق على المكان الذي يجب أن يتمّ العمل فيه ، مثل «ميقات الحج» يعني المكان الذي لا يجوز أن يجتازه أحد إلّا محرما.

ثمّ ذكرت الآية أنّ موسى استخلف هارون وأمره بالإصلاح في قومه ، وأن لا يتبع سبيل المفسدين :( وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) .

* * *

بحوث

وهنا عدّة نقاط ينبغي التوقف عندها والالتفات إليها :

1 ـ لماذا التفكيك بين الثلاثين والعشر؟

إنّ أوّل سؤال يطرح نفسه في مجال الآية الحاضرة ، هو : لماذا لم يبيّن مقدار الميقات بلفظ واحد هو الأربعين ، بل ذكر أنّه واعده ثلاثين ليلة ثمّ أتمّه بعشر ، في حين أنّه تعالى ذكر ذلك الموعد في لفظ واحد هو أربعين في الآية (151) من سورة البقرة.

ذكر المفسّرون تفسيرات عديدة لهذا التفكيك ، والذي يبدو أقرب إلى النظر وأكثر انسجاما مع أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام هو أنّه وإن كان الواقع هو أربعين يوما ، إلّا أنّه في الحقيقة وعد الله موسى في البداية ثلاثين يوما ثمّ مدّده عشرة أيّام أخرى ، اختبارا لبني إسرائيل كي يعرف المنافقون في صفوف بني إسرائيل.

فقد روي عن الإمام محمّد الباقرعليه‌السلام أنّه قال : إنّ موسىعليه‌السلام لما خرج وافدا إلى ربّه واعدهم ثلاثين يوما ، فلمّا زاده الله على الثلاثين عشرا قال قومه ، قد أخلفنا

١٩٤

موسى فصنعوا ما صنعوا (من عبادة العجل)(1) .

وأمّا أن هذه الأيّام الأربعين صادفت أيّام أي شهر من الشهور الإسلامية ، فيستفاد من بعض الرّوايات أنّها بدأت من أوّل شهر ذي القعدة وختمت باليوم العاشر من شهر ذي الحجة (عيد الأضحى). وقد جاء التعبير بلفظ أربعين ليلة في القرآن الكريم لا أربعين يوما ، فالظاهر أنّه لأجل أن مناجاة موسى لربّه كانت تتمّ غالبا في الليالي.

2 ـ كيف نصب موسىعليه‌السلام هارون قائدا وإماما؟

السؤال الثّاني الذي يطرح نفسه هنا ، هو : إنّ هارون كان نبيّا ، فكيف نصبه موسىعليه‌السلام خليفة له وإماما وقائد لبني إسرائيل؟

والجواب على هذا السؤال يتّضح بعد الالتفات إلى أنّ مقام النّبوة شيء ومقام الإمام شيء آخر ، ولقد كان هارون نبيّا ، ولكن لم يكن قد أنيط به مقام الإمامة العامّة لبني إسرائيل ، بل كان مقام الإمامة ومنصب القيادة العامّة خاصا بموسىعليه‌السلام ، ولكنّه عند ما قصد أن يفارق قومه إلى ميقات ربّه اختار هارون إماما وقائدا.

3 ـ لماذا طلب موسىعليه‌السلام من أخيه الإصلاح وعدم اتّباع المفسدين؟

السؤال الثّالث الذي يطرح نفسه هنا ، هو : لماذا قال موسىعليه‌السلام لأخيه : أصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ، مع أن هارون نبي معصوم من المستحيل أن يتبع طريق المفسدين وينهج نهجهم الفاسد؟

نقول في الجواب : إنّ هذا ـ في الحقيقة ـ نوع من التوكيد لإلفات نظر أخيه

__________________

(1) تفسير البرهان ، المجلد الثّاني ، الصفحة 33 ـ نور الثقلين ، المجلد الثّاني ، الصفحة 61.

١٩٥

إلى أهمية مكانته في بني إسرائيل. ولعله أراد بهذا الموضوع أن يوضح لبني إسرائيل ويفهمهم أن عليهم أن يمتثلوا لتعاليم هارون ونصائحه ومواعظه الحكيمة ، ولا يستثقلوا أوامره ونواهيه ، ولا يعتبروا تلك الأوامر والنواهي وكذلك قيادة هارون لهم دليلا على قصرهم وصغرهم بل يفعلون كما يفعل هارون حيث كان رغم منزلته البارزة ومقام نبوته تابعا ومطيعا لنصائح موسىعليه‌السلام .

4 ـ ميقات واحد أو مواقيت متعددة؟

السؤال الرّابع الذي يطرح نفسه هنا ، هو : هل ذهب موسى إلى ميقات ربّه مرّة واحدة ، وهي هذه الأربعون يوما ، وتلقى أحكام التوراة وشريعته السماوية عن طريق الوحي في هذه الأربعين يوما ، كما اصطحب معه جماعة من شخصيات بني إسرائيل معه كممثلين عن قومه ، ليشهدوا نزول أحكام التوراة عليه ، وليفهمهم أن الله لا يدرك بالأبصار أبدا ، في هذه الأربعين يوما نفسها؟

أم أنّه كانت له مع الله أربعينات متعددة ، أحدها لأخذ الأحكام ، وفي الأخرى اصطحب كبار قومه ، وله ـ احتمالا ـ أربعون ثالثة لمقاصد ومآرب أخرى غير هذه ، (كما يستفاد من سفر الخروج من التوراة الفعلية الفصل 19 إلى 24).

وهنا أيضا وقع كلام بين المفسّرين ، ولكن الذي يبدو أنّه أقرب إلى الذهن ـ بملاحظة الآية المبحوثة والآيات السابقة عليها واللاحقة لها ـ أن جميع هذه الأمور ترتبط بحادثة واحدة لا متعددة ، لأنّه بغض النظر عن أن عبارة الآية اللاحقة( وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا ) تناسب تماما وحدة هاتين القصّتين ، فإنّ الآية (145) من نفس هذه السورة تفيد ـ بجلاء ـ أن قصّة ألواح التوراة ، واستلام أحكام هذه الشريعة قد تمّت جميعها في نفس هذا السفر أيضا.

١٩٦

5 ـ حديث المنزلة

أشار كثير من المفسّرين الشيعة والسنة ـ في ذيل الآية المبحوثة ـ إلى حديث «المنزلة» المعروف ، بفارق واحد هو : أنّ الشيعة اعتبروا هذا الحديث من الأدلة الحيّة والصريحة على خلافة عليعليه‌السلام لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مباشرة وبلا فصل.

ولكي يتّضح هذا البحث ندرج هنا أوّلا أسانيد ونص هذا الحديث باختصار ، ثمّ نبحث في دلالته ، ثمّ نتكلم حول الحملات التي وجهها بعض المفسّرين إلى الشيعة.

أسانيد حديث المنزلة :

1 ـ روى جمع كبير من صحابة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حول غزوة تبوك : أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج إلى تبوك واستخلف عليا فقال : أتخلفني في الصبيان والنساء؟قال : «ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه ليس نبيّ بعدي».

وهذا النص ورد في أوثق الكتب الحديثية لدى أهل السنّة ، يعني صحيح البخاري وعن سعد بن أبي وقاص.(1)

وقد روى هذا الحديث ـ أيضا ـ في صحيح مسلم الذي يعدّ من المصادر الرئيسية عن أهل السنّة ، في باب «فضائل الصحابة» عن سعد أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعليعليه‌السلام : «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي»(2) .

في هذا الحديث الذي نقله صحيح مسلم أعلن عن الموضوع بصورة كليّة ، ولم يرد فيه ذكر عن غزوة تبوك.

وهكذا نقل حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا في سياق ذكر غزوة تبوك بعد ذكر الحديث بصورة كلّية ، بصورة مستقلة كما جاء في صحيح البخاري.

__________________

(1) صحيح البخاري ، الجزء السّادس ، الصفحة 3 ، طبعة دار إحياء التراث العربي.

(2) صحيح مسلم ، المجلد الرّابع ، الصفحة 187 ، طبعة دار إحياء التراث العربي.

١٩٧

وقد ورد عين هذا الموضوع في سنن ابن ماجه أيضا(1) .

وقد أضيف في سنن الترمذي مطلب آخر ، وهو أنّ معاوية قال لسعد ذات يوم : ما يمنعك أن تسبّ أبا تراب؟! قال : أمّا ما ذكرت ثلاثا قالهنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلن أسبّه ، لئن تكون لي واحدة منهن أحبّ إليّ من حمر النعم. ثمّ عدد الأمور الثلاثة فكان أحدها ما قاله رسول الله لعلي في تبوك وهوقوله : «أمّا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبوة بعدي»(2) .

وقد أشير إلى هذا الحديث في عشرة موارد من مسند أحمد بن حنبل ، تارة ذكرت فيه غزوة تبوك ، وتارة من دون ذكر غزوة تبوك بل بصورة كلّية(3) .

وقد روي في أحد هذه المواضع أنّه أتى ابن عباس ـ بينما هو جالس ـ تسعة رهط ، فقالوا : يا ابن عباس ، إمّا أن تقوم معنا ، وإمّا أن تخلونا هؤلاء ، فقال ابن عباس : بل أقوم معكم (إلى أن قال) وخرج بالناس (أي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) في غزوة تبوك ثمّ نقل كلام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليعليه‌السلام وأضاف : «إنّه لا ينبغي أن أذهب إلّا وأنت خليفتي»(4) .

وجاء نفس هذا الحديث في «خصائص النسائي»(5) وهكذا في مستدرك الحاكم(6) ، وفي تاريخ الخلفاء للسيوطي(7) وفي الصواعق المحرقة لابن حجر(8)

__________________

(1) المجلد الأوّل ، الصفحة 43 ، طبعة دار إحياء الكتب العربية.

(2) المجلد الخامس ، الصفحة 638 ، طبعة المكتبة الإسلامية لصاحبها الحاج رياض الشيخ.

(3) مسند أحمد بن حنبل ، المجلد الأول ، الصفحة 173 و 175 و 177 و 179 و 183 و 185 و 231 ، والمجلد السّادس ، الصفحة 369 و 438.

(4) مسند أحمد ، المجلد الأوّل ، الصفحة 231.

(5) خصائص النسائي ، ص 4 و 14.

(6) المجلد الثالث ، الصفحة 108 و 109.

(7) المجلد الأوّل ، الصفحة 65.

(8) الصفحة 177.

١٩٨

وسيرة ابن هشام(1) والسيرة الحلبية(2) وكتب كثيرة أخرى.

ونحن نعلم أن هذه الكتب من الكتب المعروفة ، والمصادر الأولى لأهل السنة.

والجدير بالذكر أن هذا الحديث لم يروه «سعد بن أبي وقاص» عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحده ، بل رواه ـ أيضا ـ مجموعة كبيرة من الصحابة الذين يتجاوز عددهم عشرين شخصا منهم : «جابر بن عبد الله» و «أبو سعيد الخدري» و «أسماء بنت عميس» و «ابن عباس» و «أم سلمة» و «عبد الله بن مسعود» و «أنس بن مالك» و «زيد بن أرقم» و «أبو أيوب» والأجدر بالذكر أنّ هذا الحديث رواه عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «معاوية بن أبي سفيان» و «عمر بن الخطاب» أيضا.

وينقل «محب الدين الطبري» في «ذخائر العقبى» أنّه جاء رجل إلى معاوية فسأله عن مسألة فقال : سل عنها علي بن أبي طالب فهو أعلم. قال : يا أمير المؤمنين (ويقصد به معاوية) جوابك فيها أحبّ إليّ من جواب عليّ.

قال : بئسما قلت ، لقد كرهت رجلا كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يغره بالعلم غرا ، وقد قال له : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي ، وكان عمر إذا أشكل عليه أخذ منه(3) .

وروى أبو بكر البغدادي في «تأريخ بغداد» بسنده عن عمر بن الخطّاب أنّه رأى رجلا يسبّ عليّاعليه‌السلام فقال : إنّي أظنّك منافقا ، سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «إنّما عليّ منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلّا أنّه لا نبي بعدي»(4) .

__________________

(1) السيرة النبوية ، المجلد الثّالث ، الصفحة 163 طبعة مصر.

(2) السيرة الحلبية ، المجلد الثّالث ، الصفحة 151 طبعة مصر.

(3) ذخائر العقبى ، الصفحة 79 ، طبعة مكتبة القدس ، الصواعق المحرقة ، ص 177 ، طبعة مكتبة القاهرة.

(4) تاريخ بغداد ، المجلد السابع ، الصفحة 452 طبعة السعادة.

١٩٩

حديث المنزلة في سبعة مواضع :

النقطة الأخرى ، إنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وخلافا لما يتصّوره البعض ـ لم يقل هذا البحث في عليعليه‌السلام في غروة تبوك فقط ، بل قال هذه العبارة في عدّة مواضع منها : 1 ـ في المؤاخاة الأولى : يعني في المرّة الأولى التي آخى فيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين المهاجرين واختار عليّاعليه‌السلام في هذه المؤاخاة لنفسه وقال : «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي»(1) .

2 ـ في يوم المؤاخاة الثّانية : وكانت في المدينة بعد الهجرة بخمسة أشهر ، حيث آخى بين المهاجرين والأنصار ، واصطفى لنفسه منهم عليّا واتخذه من دونهم أخاه ، وقال له : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي وأنت أخي ووارثي»(2) .

3 ـ أم سليم ـ التي كانت على جانب من الفضل والعقل ، وكانت تعدّ من أهل السوابق ، وهي من الدعاة إلى الإسلام ، واستشهد أبوها وأخوها بين يدي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفارقت زوجها لأنّه أبى أن يعتنق الإسلام ، وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يزورها في بيتها بين الحين والآخر ويسلّيها ـ تروي أم سليم هذه أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لها ذات يوم : «إنّ عليّا لحمه من لحمي ودمه من دمي ، وهو منّي بمنزلة هارون من موسى»(3) .

4 ـ قال ابن عباس : سمعت عمر بن الخطاب يقول : كفّوا عن ذكر علي بن أبي طالب فقد رأيت من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه خصالا لئن تكون لي واحدة منهن في آل الخطّاب أحبّ إلى ممّا طلعت عليه الشمس ، كنت أنا وأبو بكر وأبو عبيدة في نفر من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فانتهينا إلى باب أمّ سلمة وعلي

__________________

(1) كنز العمال ، الحديث 918 ، المجلد الخامس ، الصفحة 40 ، والمجلد السّادس ، الصفحة 390.

(2) منتخب كنز العمال ، (في حاشية مسند أحمد) ، المجلد الخامس ، من مسند أحمد ، الصفحة 31.

(3) كنز العمال ، المجلد السّادس ، الصفحة 164.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606